نام كتاب: إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام
نويسنده: كريم نجيب الاغر
موضوع: اعجاز علمى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالمعرفة
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1425 / 2005
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
عزيزي القارئ:إن ما ستطالعه في هذا الكتاب من مباحث و قواعد شرعية.كلّه مستمد من كتب أهل العلم الأثبات.و ربما خالفهم غيرهم من أهل العلم.و لا غضاضة في ذلك.فالاختلاف في الفروع هو شأن أهل العلم.
فلي أن أتبع من أثق به من أهل العلم،و لك أن تتبع من تثق به.المهم أن لا أسفه لك رأيا و أن لا تسفه لي رأيا.شريطة أن نرجح بالبرهان.و نقول بالدليل،كما قال عز و جل: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (البقرة:111).
و نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا و يرزقنا اتباعه.و يرينا الباطل باطلا و يرزقنا اجتنابه.
ربع هذا البحث للأعمال الخيرية الرجاء لمن له تعليق على البحث من القراء الكرام أن يبعثه على البريد الألكتروني على العنوان:
Kareemaghar @ hotmail.com المؤلف
ص: 6
بسم اللّه الرحمن الرحيم
تحيّة و ذكرى عطرة بمناسبة قراءتي للكتاب المبارك،و السّفر العظيم الذي ألفه الاستاذ/كريم بن نجيب الأغر و الذي كان بعنوان:اعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام و هو من أنفع ما كتب في بابه.
أيّها الباحث عن خلق البشر أيّها الناظر في سرّ القدر
أيّها السّائل عن نشأته كيف كانت ليس يذري ما الخبر
قد أتاك اليوم سفر كامل جمع النورين:شمسا و قمر
صاغ معنى الخلق للإنسان في دقّة تجلوه صفوا و كدر
فصّل الأمر و جلّى غيبه و كساه هذيه حتّى سفر
بيّن الإعجاز حتى صاغه من هدى الوحيين حقا و استقر
فاتخذه للمعاني سلّما و لفهم الوخي سمعا و بصر
و تدبّر ما به من حكم و تأمّل ما حواه من درر
و انظر الإعجاز في تكوينا و مبادئ الخلق انثى و ذكر
تجد الأسطر منه أنجما تصعق الباغي و تهدي من نظر
كلّ لفظ منه يجري كوثرا ينبت الإيمان:ينعا و ثمر
و يشعّ النّور من كلّ فم نطقته و هو نور مستطر
كتبته بمدى الدّهر يد لا تمسّ الشّيء إلا و ازدهر
ترجم السّنّة علما و هدى و كتاب اللّه آيا و سور
فهو مفتاح لها في بابه و هو في ذاك الكلام المعتبر
أشرقت أحرفه في صبحه فهي لا تنطق إلاّ بالعبر
فخرت بين ذويها أنها لكريم بن نجيب بن الأغر
أبو حزم عبد الرحمن بن محمد بن أسعد الحكمي الفيفيّ
ص: 7
«لقد عملت لثلاث سنوات خلت مع هيئة علم الأجنة التابعة لجامعة الملك عبد العزيز في جدّة،السعودية،كنت أساعدهم فيها على تفسير البيانات العديدة التي وردت في القرآن و السّنّة،المرتبطة بالتوالد الإنسانيّ و التطور ما قبل الولادة.
بداية،أدهشتني دقة النصوص التي دوّنت في القرن السابع الميلادي،و ذلك قبل تأسيس علم الأجنّة،و ذلك بالرغم من علمي المسبق بالتاريخ المشرق لعلماء المسلمين في القرن العاشر الميلادي،و مساهمات بعضهم في علم الطب،و لم أكن أعلم شيئا عن الحقائق و المعتقدات الدينية الواردة في القرآن و السنة.
و أعتقد أنه من المهم للطلبة المسلمين و لغيرهم فهم معاني النصوص القرآنية المتعلقة بعلم النمو الإنساني،و ذلك في ضوء العلم الحديث».
تورنتو،كندا،أيلول،1983 م.كيث.ل.مور (1).
ص: 8
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على من بعثه اللّه رحمة للخلق أجمعين.
و بعد:
فإني بفضل اللّه استودعت خلاصة جهدي في هذا الكتاب،و بذلت فيه غاية و سعي،حيث بحثت فيه عن إشارات لحقائق علمية في القرآن الكريم،و السنّة النبوية المطهرة،و قصدت في ذلك أن القرآن وحي من عند اللّه،أنزله على قلب نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم، و لم يتقوّله من عنده،و لم يخترعه من ذاته،و أن أعلن للملإ أن الإسلام و العلم أخوان توأمان لا يفترقان؛فحيث وجد الإسلام وجد العلم،و مهما تطور العلم و ترقّى فإنه كاشف دوما عن حقيقة القرآن،و مؤكّد أنه منزل من عند اللّه تعالى.و القرآن يحثّ كلّ طالب حقيقة أن يقرأه،و يتعمّق في معانيه و أبعاده،ليتوصل بذلك إلى إدراك إعجازه،و الإيمان بأنه ليس من وضع البشر،لأن ما يضعه البشر يختلف اختلافا بيّنا عمّا يكون من عند اللّه.
يقول اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].
كما يوجّه القرآن الناس ليفتحوا عقولهم و قلوبهم كي يصلوا إلى الهدى و ينظروا إليه نظرة تدبر موضوعية،فيكون دالا لهم على حقائق علمية كبرى.
يقول اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد:24].
و القرآن هو معجزة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخالدة،علما أن اللّه تعالى قد أيّد رسله بمعجزات تناسب ما برع فيه أهل عصرهم؛فمن معجزات موسى عليه السّلام إبطال سحر أهل زمانه،حيث عجزوا عن الإتيان ببعض ما أتى به من الحق،فآمن السحرة و خرّوا ساجدين؛و ذلك لأنهم فرّقوا بين الحق و الباطل،و بين العلم و الشعوذة.
يقول اللّه تعالى: وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنّا نَحْنُ الْغالِبِينَ(113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114) قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ
ص: 9
نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115) قالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ(119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ(120) قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)[الأعراف:113-122].
أما عيسى عليه السّلام فقد بعثه اللّه في زمن اشتهر فيه الطب،و تفاخر الناس به، فأكرمه اللّه تعالى بمعجزة من جنس ما تفاخروا به؛فأحيا من مات بإذن اللّه،و حرّك ما صوّر بإذن اللّه،و فعل ما دون ذلك مما يعجز عنه الطب في جميع الأزمنة لا في زمانه فحسب.
يقول اللّه تعالى: إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110].
فلم يؤمن برسالته إلا من فتح اللّه قلبه فعلم الحق،و أبصر الحقيقة.
و أما محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،الرسول الذي وصفه اللّه تعالى بالأمّي في قوله عزّ و جلّ:
اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ [الأعراف:157]،فقد بعثه اللّه تعالى كذلك في قوم أميّين لا يقرءون و لا يكتبون و لا يحسبون كما تعلمنا الآية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]،و أيّده بمعجزات حسّيّة متعددة في عصره مثل:معجزة انشقاق القمر،و معجزة نبع الماء من بين أصابعه بعد أن وضع يده في الإناء،و تكلّم الشاة التي سمّتها امرأة يهودية، و زيادة الطعام ببركته،و حنين الجذع إليه الذي يمسك به حين يخطب،و إبراء المرضى بلمسه...فآمن في عصره من آمن،ثم أبقى له تعالى معجزة مستمرة إلى قيام الساعة،أ لا و هي القرآن الكريم كتاب اللّه المعجز الذي:«...لا يشبع منه العلماء...و لا تنقضي عجائبه»[أخرجه الترمذي ح 76] (1)،و الذي أعجز الثقلين عنة.
ص: 10
الإتيان و لو بسورة من مثله،و مع كونه معجزا في بلاغته،فإنه حجة دامغة على أهل العلم التجريبي الذين وقفوا مشدوهين أمام الحقائق الباهرة التي دلّ عليها.
و معلوم أن القرآن قد حثّ على التعلم،فكانت أول كلمة نزلت من القرآن الكريم: اِقْرَأْ ،قال تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)[العلق:1-5].
و من هنا نفهم أهميّة البحث،فالبحث وسيلة لاكتشاف الحقائق،و طريق للتمرس في العلوم عموما،و بواسطته يرتقي الإنسان من الجهل إلى النور بإذن اللّه عزّ و جلّ.
و خير هذه العلوم هي التي تؤدي إلى التفكّر في آيات اللّه تعالى،فسبب خلق الإنسان هو التّعرّف على صفات اللّه تعالى،من عظمة و حكمة...كما جاء في الآية الكريمة: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
و العلوم التي تؤدي إلى هذا الطريق هي خير العلوم على الإطلاق،لأنها تخدم هذا الهدف السامي الذي وجد من أجله الإنسان؛فإحدى الطرق التي تؤدي إلى العبودية الكاملة لله تعالى هي التفكر في آيات اللّه عزّ و جلّ كما تشير إليه الآية الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
و إني أدعو كل مثقّف لينظر نظرة موضوعية إلى ما أشارت إليه النصوص من القرآن و السنة من حقائق علمية كبرى،فتكون لهم سبيل هداية،و منار علم في آن واحد.
كذلك فإني أحثّهم على إكمال الطريق في مجال البحث في النصوص المقدّسة لأن دلالاتها ستنكشف شيئا فشيئا و سيرتقي فهمها مع مرور الوقت فالله تعالى قال:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
و هذا الكتاب يتحدّث عن مسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام،و يظهر كيف أن المعطيات العلمية تتوافق مع المعطيات الدينية في هذا الشأن،و لا تعارضها،و يضع للقارئ تصوّرا جديدا لعملية تخلق سيدنا آدم عليه السّلام.
ص: 11
كذلك فهو يتناول موضوع تخلق الجنين بدءا من تخلق الحيوان المنوي و البويضة،و التقاءهما،و تطوّر هذه البويضة،كما أنه يصف سائر المراحل التي تمرّ بها البويضة المخصّبة،و المراحل التي يمر بها جسد الجنين في رحم المرأة الحامل، و يتحدّث بالتفصيل عن الأعراض التي تظهر عليه من الخارج و الداخل،و يصف لنا كيفية خروج الجنين من الجسد المستضيف:(الرّحم)،و يتحدّث عن مدّة المكوث في الرّحم،مع وصف دقيق له.
كذلك يتناول الكتاب موضوع الرضاعة بدءا من تخلق العناصر الأساسية للبن، و عملية خروجها من الثدي،و امتصاصها من الرضيع،و أثرها المورفولوجي في جسده،مع التركيز على إبراز الأحكام التي تؤدي إلى تحريم الطفل لأمه أو لأخته بالرضاعة.
و هناك بحث مهم في علم الوراثة يتحدّث عن الوحدة الأساسية الموجودة في جسم الإنسان التي تتسبّب في تخلق خلايا الجنين بإذن اللّه تعالى،و إعطائه الصفات التي سيكون عليها،و الأمراض التي قد تظهر على هذا الجنين:أ لا و هي الحمض النووي الرئيسي.كذلك هناك وصف لآثار الفساد الاجتماعي على صحة الأفراد من الناحية الوراثية.
السبب الباعث:
إن ما دفعني لتأليف هذا الكتاب هو اطلاعي اليسير على بعض الكتب الطبّية المتعلقة بتخلّق الجنين،حيث دعتني الحقائق العلمية الباهرة إلى متابعة التفكر و التأمل في مراحل تطور خلق الإنسان من بدايتها،ثمّ اطّلعت بعد ذلك على ما في القرآن الكريم و السّنة النبوية من إشارات حول هذا الموضوع،فتبين لي تطابق مذهل بين النصوص الشرعية،و الحقائق الطبية الحديثة.
عندها بدأت أبحث بجدّ و تعمّق في هذا المجال،و أدقّق في المطابقة،فازداد يقيني بالقرآن و السنة،فحمدت اللّه سبحانه و تعالى على تفضله على الخلق،بمنّة الدلالة على الحق،بكتاب مقروء،مطابق للكتاب الكوني المشهود.
فبدأت بكتابة مقال مقتضب،أروم فيه إثبات هذا الإعجاز،إلا أني لم أتمكن من إقناع من أحببت له التوفيق للهداية،و كان ذلك تقديرا من العزيز العليم،مما حدا بي إلى التوسع بدقة في هذا البحث ليكون بذلك أكثر وقعا في نفوس الناس.
ص: 12
فعكفت زمانا أطّلع على الكتب العلمية الطبية،و الكتب الدينية في هذا الموضوع،و قد تأملت كثيرا مما حوت هذه الكتب إلا أن نقاطا عدة استوقفتني في أثناء ذلك،و بقيت فترة غير وجيزة أتبيّنها من أهل الاختصاص في ذلك.
و قد كانت أوّل مطالعة لي في موضوع تخلّق الجنين كتاب(ولد طفل (A CHILD IS BORN و كان هذا في بريطانيا سنة 1992 م،ثم انتقلت بعدها إلى الكويت،فكتبت مقالا في هذا المجال-لم ينشر-سنة 1994 م،زرت بعدها هيئة الإعجاز العلمي للقرآن و السنة في مكة المكرمة و في جدّة،حيث التقيت فيها بالدكتور عبد الجواد الصاوي(الباحث الطبي بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة).فأهداني كتاب«علم الأجنة في ضوء القرآن و السنة»،فكان هذا الكتاب بمثابة الضوء الساطع في بحثي،فانكشفت لي به بعض الأمور الغامضة التي سبق أن توقفت عندها.
و بدأت بعدها بالتوسع و الكتابة و ذلك عند ما كنت في السعودية سنة 1996- 1997 م.
ثمّ في لبنان سنة 1998 م حيث قابلت بعض علماء الطب و الفقه؛و ذلك من أجل مناقشة بعض النقاط العالقة في ذهني للاطمئنان إلى أن المعلومات التي تضمّنها الكتاب علمية موضوعية،لا يعتريها شك،من الناحيتين:العلمية و الفقهية،حيث اتّضح لي ما أشكل،و تبين لي-من خلال المناقشة-بعض الإعجازات العلمية التي أحسب أن لا سابقة لها.
فجاء كتابي هذا مرتكزا على ثلاثة مقاصد:
أولا:مقابلة نصوص القرآن و السنة فيما بينها،و ذلك لاستنباط الكثير من الحقائق العلمية.
ثانيا:وضع منهجية علمية في طريقة البحث،و ذلك لإثبات إرادة الإعجاز في النص أو عدمه.
ثالثا:قصد إبراز موضوعات جديدة لم تناقش من قبل.
و قد أخذ البحث وقتا طويلا لكي يثمر عن نتائج جيّدة،لأني لم أكن على علم واسع في مجال علم تخلق الجنين،كذلك في العلوم الشرعية:من تفسير و حديث و فقه،فعكفت على التمرس فيها.
و العامل الآخر الذي أطال البحث هو البحث في الكم الهائل من الكتب الكونية
ص: 13
و الشرعية عن دلالات تربطها بعضها ببعض،و ملاحقة العلماء،و حثّهم على التفكّر في هذا المجال،و إثراء البحث من مخزونهم الفكري.
أضف إلى ذلك أنه يجب أن نتوخى الحذر في انتقاء معاني الكلمات،فموضع الزلل خطير في هذا المجال،فقد يأخذ بنا إلى تفسير الآيات القرآنية بتكلف و تحميلها ما لا تحتمل،و بما أن الموضوع خطير لأن إيمان المرء قد يترسّخ أو يتزعزع من جراء التفسير الذي يجده أمامه،فوجب التركيز الشديد و إمعان النظر في المعاني المتشابهة المتشابكة التي يتوجّب فكّها كثيرا من النظر و الرجوع إلى ذوي فنون متعدّدة من حديث،و أصول فقه،و لغة،و طب...حتى نتحرّى عن الحقيقة المجرّدة.
و الذي تطلّب جهدا كبيرا مني هو أني قد اعتنيت كثيرا بانتقاء الصور التي قد تعبّر عن الفكرة المقصود إيضاحها تعبيرا دقيقا،و إبرازها إبرازا أوضح من إبراز غيرها لها،حتى يقف القارئ الكريم على جلية الأمر فكرة و صورة.
خطة البحث:
و أما خطة البحث فهي كالآتي:
ارتكزت في البحث على القرآن الكريم،و كتب تفسير القرآن،و علوم القرآن، و كتب الأحاديث،و شروحاتها،و كتب مصطلح الحديث،و كتب الفقه،و أصوله، و المعاجم اللغوية،و الكتب العلمية،بغية أن أصل إلى نتيجة واضحة دقيقة في البحث.
و قد رتّبت عرض النصوص الشرعية خلال البحث حسبما يمليه السياق الزمني بمعنى أنّي رتّبت عرض هذه النصوص أو أجزاءها في البحث وفقا للجدول الزمني لتخلّق أعضاء الجنين،حتى يسهل على القارئ تتبّع الأحداث.و قد اعتنيت ابتداء بشرح معاني الكلمات الأساسية التي لها علاقة بالإعجاز،كما تناولتها المعاجم اللغوية المعتمدة؛كي يسهل على القارئ فهم معنى الآية القرآنية أو الحديث الشريف،و من ثمّ أتيت على ذكر التفاصيل العلمية و طابقت مفهوم الحديث على الحقيقة العلمية،و علّقت في كثير من الأحيان على نواحي الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و لم أغفل خلال البحث ذكر ما ورد في كتب تفسير القرآن الكريم،و شرح الأحاديث الشريفة لتبيان الأبعاد التي ترمي إليها الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة، فمؤلّفو هذه الكتب هم من العلماء الأثبات،الذين حصّلوا العلم الواسع في كلّ
ص: 14
العلوم الشرعية،و قد خاضوا في التفاصيل،و يعلمون جيدا جوانب النصوص الشرعية و أبعادها،و تأويلها.
و قد أخّرت بعض المباحث عن مكانها الزمني في قليل من الأحيان،حيث إن فهمها يتطلّب فهم ما يأتي بعدها من حقائق علمية.
و أما بالنسبة للموضوعات التي تناولتها:
1-ابتدأت بشرح نظري لمسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام إذ أنّ النشأة ابتدأت منه.
2-أتيت بعد ذلك على شرح تخلّق الجنين بالتفصيل حيث إن الجنين تولّد من آدم و حواء عليهما السلام.
3-وضعت بعده قسم الرضاعة بعد قسم تخلق الجنين،لأن الرضاعة هي بمثابة رعاية الخلق الذي نتج.
4-أعقبت ما سبق بمبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»حيث إن ظاهرتي تخلق الجنين،و الرضاعة ترتكزان عليه.
5-اختتمت الكتاب بمبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»و قسم«تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز»و قد وضعتهما في النهاية حتى لا يشعر القارئ غير المتخصّص بالملل،و هما بحثان مهمان لضبط الإعجاز العلمي،و معرفة الصحيح منه من الموهوم.
هذا و قد اعتنيت في بحثي هذا بما يلي:
1-جمع ما توصّل إليه العلماء المسلمون من إعجازات علمية متفرّقة في كتبهم ضمن مجموعة متجانسة مترابطة،متحقّق من صحّتها.
2-تصحيح بعض الأخطاء و المفاهيم المجانبة للصواب لدى بعض مفسّري القرآن الكريم،و الباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،في مجال تخلّق الجنين و الرضاعة،و علم الوراثة المنتشرة في المجتمع،و التي لا بد أن نصحّحها لكي يتقدّم و يرتقي العلم في هذا المجال.
3-التكلم عن جوانب إعجازية غير معلومة لبعض الآيات الكريمة، و الأحاديث الشريفة التي سبق أن اكتشف بعض جوانبها الإعجازية الأخرى،و التي ظلّت إلى يومنا هذا غير واضحة،و غير معروفة من قبل كثير من الباحثين و أفراد المجتمع الإسلامي و غير الإسلامي.
ص: 15
4-اكتشاف أحاديث و مفاهيم و إعجازات جديدة في كل من المجالات المذكورة آنفا،لكي يتجدّد نبع الآيات على مدى العصور،و لكي يتيقّن القرّاء الكرام أن هذا الدين لن يموت أبدا مهما تطوّر العلم،فالعلم الكوني و الدين الإسلامي ينبعان من مشكاة واحدة،و لذلك لا بد أن يلتقيا على مدى الدهور.
شكر و تقدير:
في عملي المتواضع هذا،الذي أرجو أن ينال القبول من اللّه عزّ و جلّ،ثم من خلقه،أحمد اللّه تعالى و أشكره بادئ ذي بدء على ما منّ به عليّ من علم في هذا المجال،فلو لا فضله عليّ و على خلقه لما تكامل هذا البحث،و من ثمّ أتقدم بالشكر إلى كل من الأحبة الذين أبدوا ملحوظاتهم على البحث،أو أسهموا معي بشكل أو آخر في إثراء البحث علميا حتى خرج بحثي على صورته هذه،فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«من صنع إليه معروف،فقال لفاعله:جزاك اللّه خيرا،فقد أبلغ في الثناء»[أخرجه الترمذي ح 93].
و أخصّ بالشكر كلا من:
الشيخ الدكتور باسم عيتاني على مراجعته الفقهية.
و الدكتورة:فدى قطّان،و الدكتور:محمد جناح الحسن على مراجعتهما الطبّية.
و الشيخ:محمد علي المصري على تخريجه معظم الأحاديث.
و الدكتور:بديع السيد اللحام على تنقيحه الأحاديث و تحريرها.
و الشيخ:عبد الرحمن بن محمد الحكمي الفيفي على مراجعته لدلالات و معاني النصوص الشرعية.
و صلى اللّه على سيد المرسلين و الحمد للّه رب العالمين بيروت،لبنان،في 8 أغسطس 2004 م،الموافق:22 جمادى الآخرة، 1425 ه.
ص: 16
من المهم أن نعرّف الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة بطريقة موجزة؛لكي يتسنّى للقارئ فهم الآلية التي عملنا من خلالها،و تقييم الإعجاز العلمي على أسس سليمة،و من أراد التفصيل فيمكنه قراءة مبحث«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها».
الإعجاز لغة هو إثبات العجز،و هو الفوت و السبق.
و الإعجاز هو الإعلام بعجز البشر عن معرفة حقائق مشار إليها.
و الإعجاز العلمي هو إشارة إلى حقائق علمية يعجز الناس في حينها عن معرفتها.
و في مصطلحنا،الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو:
مطابقة معان كثيرة و متوافرة،صريحة في دلالاتها،من الكتاب و السنة،لحقائق علمية،غير معلومة زمن التنزيل،و لا تدرك إلا بالتجربة أو وسائل مادية،لتثبت صدق الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه عزّ و جلّ.
و تفسير التعريف هو كما يلي:
-قولنا:(مطابقة):
التطابق في الإعجاز العلمي يكون بعرض صفات الحقيقة العلمية الثابتة على دلالة النص الشرعي القطعي،فإن وافقت صفات الحقيقة العلمية دلالة النص الشرعي طابقته.
-قولنا:(معان كثيرة و متوافرة):
كلمة«معان»جمع معنى،و المعنى-في هذا المقام-هو المفهوم من لفظ مستعمل،ورد في نصوص القرآن الكريم و الحديث الشريف،و عليه أن يطابق حقيقة علمية،و هذه المعاني عليها أن تكون كثيرة و متوافرة،حتى لا يحكم عليها بعض القرّاء بأنها أتت على سبيل الصدفة.
ص: 17
-قولنا:(معان...صريحة في دلالاتها):
المعنى-كما أسلفنا-هو المفهوم من لفظ مستعمل يأتي في جملة مركبة، و يعود لجذر محدد.
و قد يكون لهذا الجذر كثير من التفريعات،و بالتالي معان مختلفة في أحيان كثيرة.
و يجب عندها إيجاد ضابط للانتقاء من هذه المعاني:أ لا و هو معنى جذر الكلمة المعتبرة.
و المعتبر في معاني الفروع أن تكون لها صفة مشتركة على الأقل مع معنى جذر الكلمة الأم.
كذلك فمن الأهمية بمكان انسجام جميع معاني اللفظ الذي يشير إليه الباحث في مجال الإعجاز العلمي مع سياق النص الشرعي،و ثوابت الشريعة الإسلامية، و كذلك مع مفهوم العلم الكوني اليقيني.
و أما المصادر التي سنستقي منها التفسير للألفاظ التي وردت في نصوص الكتاب و السنة،فنلخصها كما يلي:
القرآن الكريم،و المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و المأثور عن الصحابة،و معاجم اللغة العربية،و المجاز.
-قولنا:(من الكتاب و السنّة):
و هي النصوص الشرعية التي تشير إلى الحقائق العلمية،و التي سوف نطابق عليها السنن الكونية و المقصود بها:
*القرآن الكريم:و هو كلام اللّه المعجز،المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،المكتوب في المصاحف،المنقول بالتواتر،المتعبّد بتلاوته.
*و السنّة:و هي ما صدر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية.
و أمّا الأسانيد التي رويت بها الأحاديث النبوية(أي:طريقة روايتها)فإنها تنقسم إلى:مقبولة،و مردودة.
فالمقبول هو ما ترجّح به صدق المخبر به.
و المردود:هو ما لم يترجّح به صدق المخبر به،و حكمه:أنه لا يحتج به و لا يعمل به إلا بشروط.
ص: 18
-قولنا:(لحقائق علمية):
معناه:أن تكون الظواهر العلمية التي يشير إليها الإعجاز العلمي،مطّردة، عامّة،معلومة،محددة،و حقيقية.
-قولنا:(غير معلومة):
معناه:أن يكون التحدّث عن حقيقة علمية غير معلومة،أو غيبيّة.
-قولنا:(زمن التنزيل):
معناه:أن تكون تلك الحقائق العلمية غير معلومة في عهد الرسالة،و أن تكون مجهولة قبله،و أن تكتشف بعد عهد التنزيل،حتى يتبيّن للناس أن ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن بمستطاع البشر معرفته لو لا معطيات العلم.
-قولنا:(و لا تدرك إلا بالتجربة أو وسائل مادية):
معناه:أن الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو كشف للحقائق العلمية الغيبية بدون وسائط،و التي ليس بمقدور البشر أن يأتوا بمثلها إلا بوسائل ماديّة.
-قولنا:(لتثبت صدق الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه عزّ و جلّ):
الغرض من الإعجاز العلمي هو أن يبرهن أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مرسل من عند اللّه عزّ و جلّ،و ليظهر و يثبت صدق مدده من عند اللّه تعالى.
ص: 19
قد ينشأ في بعض الأحيان اختلاف بين تفسير السلف لبعض الآيات و بين التفسير العلمي الذي أوردناه،أو أورده بعض العلماء في كتبهم المختلفة.
و قد يكون مرد هذا الاختلاف لعدة أمور،أهمها:أن وسائل البحث في أيامنا تختلف تماما عن أيامهم(و بالتالي فقد نصل إلى نتائج مختلفة عن نتائجهم)،و أن الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم معانيها واسعة متعددة كما يشير إليه الحديث الشريف:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13](و بالتالي فقد نستدل بمعان مختلفة عن المعاني التي استدلوا بها).
و قد شرحت ظاهرة تعددية الدلالات بالتفصيل في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»،تحت باب«معان...صريحة في دلالاتها»،فانظره هناك.
و لكن ما أضيفه هنا أن بعض المعاني،و بالتالي بعض المفاهيم،التي يشير إليها المفسّر قد تكون أصوب و أقوى بحجّتها من غيرها استئناسا بالحديث:«القرآن ذلول ذو وجوه،فاحملوه على أحسن وجوهه»[أخرجه الدارقطني ح 101]،و الأجدر أن نعتمدها (1).
و قد يرتبك القارئ في أي من الأقوال عليه أن يأخذ بها في حال الاختلاف:
أقول السلف،أم قول العلماء المتأخرين؟.
فمن جهة قال بعض:«قول الصحابة حجّة،و لا يجب أن نعارضهم»،و من جهة أخرى قال بعض:«و لكن العلم يقول كذا و كذا».
فإن حصل هذا الخلاف فعلينا عندئذ أن نتحرّى أمرين مهمين قبل أن نخوض في حديث ترجيحي قد يكون الخوض فيه غير مجد:
أولا:أن يكون الاختلاف في النصوص الشرعية للعلم قول فيها:أي:آيات (أو أحاديث)تتحدث عن ظواهر كونية.
ص: 20
ثانيا:أن نفرّق بين النظرية العلمية و الحقيقة العلمية المسلّم بها.
فإن لم يكن الخلاف في آيات تتحدث عن ظواهر كونية،فليس علينا أن نتقدم على الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم بدون دليل كما رأى بعض الفقهاء الأصوليين.
و إن كان الاختلاف في تفسير آيات كونية قائم بين نظرية كونية و قول السلف، فنتوقّف عندئذ ريثما تنجلي الحقيقة العلمية،لأن النظرية العلمية ليست مستقرة،و قد تكون خاطئة،و بالتالي نكون قد تعدّينا على قول السلف(في حال ظهور خطأ النظرية العلمية فيما بعد)بغير علم.
أما إن نشأ اختلاف بيّن في تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن ظواهر كونية بين علماء يعتمدون في تفسيرهم على حقائق علمية ثابتة و بين السلف،فنواجه عندئذ أحد الأمور الثلاثة:
1-إما أن كلا من الفريقين لديه تفسير مقبول،مع استحسان قول أحد الفريقين عملا بقاعدة النصوص الظنية عند الأصوليين و استئناسا بحديث فيه ضعف:
«القرآن ذلول ذو وجوه،فاحملوه على أحسن وجوهه»[أخرجه الدارقطني ح 101].
2-و إما أن يكون أحد الفريقين مخطئا.
3-و إما أن يكون كلا الفريقين مخطئا.
و الضابط في هذا المجال القواعد التي شرحناها في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»من قواعد بلاغية،و معان مصيبة،و أسانيد صحيحة...
فإن كان تفسير الفريقين لا يلتزم بالضوابط المتّبعة،أعدنا البحث على ضوئها في تفسير النص الشرعي الكوني،فإن ظهر أن تفسير أحد الفريقين خرج عن الصواب،أخذنا بقول الفريق المصيب،و إن كان تفسير كل من الفريقين يحتمل الضوابط،رجّحنا الأوجه من التفسيرين.
و الأدوات التي سوف تساعدنا على الترجيح هي كالآتي:
1-السياق:قد يكون أحد الفريقين فسّر النص الشرعي تفسيرا لم يراع فيه ما قبله أو ما بعده،و بالتالي فإن قوله يضعّف.قال البغوي و الكواشي و غيرهما:
«التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها و بعدها،تحتمله الآية،غير مخالف
ص: 21
للكتاب و السنة من طريق الاستنباط،غير محظور على العلماء بالتفسير» (1).فإذا كان كذلك حال التأويل،فإن التفسير أولى أن يراعى فيه ما ذكروه.
2-العلم:لقد أعطى الإسلام مكانة كبيرة للعلم،كما جاء في الآيتين: وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ [العنكبوت:43]،و هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، لذلك فأيّ من التفسيرين احتمل الحقائق العلمية أكثر،بمعنى أن أيّا منهما تلاءمت فيه صفات الموصوف(من حقائق كونية)مع المضمون الشرعي فذلك الذي نستحسنه.
3-العقل:لقد أثنى اللّه تعالى على عباده الذين يتأملون الحياة بغية التبصّر و التعبّد في كثير من الآيات،منها: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر:9]،و اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ [آل عمران:191]،و وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ [العنكبوت:43]،و بالتالي فإن الإسلام عظّم دور العقل،و خوّله أن يستحسن في سائر أمور الحياة،و من هذه الأمور:الأمور العلمية(كما في آية سورة آل عمران)، و الأمور الفقهية.فإن كان تفسير الآية المعتبرة يعارض العقل و لا يستسيغه ضعّفناه.
و مثال ذلك:قول بعض المفسرين من المتقدمين إن معنى ن [القلم:1]:الحوت الذي تقف الأرض عليه،و هذا مرفوض في أيّامنا،و لا يقبله العقل(حتى و لو افترضنا أنه منسجم مع السياق-و هو بعيد عن ذلك-)،و إنما أخذه المفسّر عن إسرائيليات-أي:ما روي عن أهل الكتاب-.
4-قرينة خارجية:قد يكون هناك في كثير من الأحيان شواهد أخرى من قرآن كريم و حديث شريف تساعد على إلقاء الضوء على الآية المختلف في تفسيرها،و قد يساعد هذا على ترجيح أحد الأقوال التي وردت في صددها.
قد يعترض بعض القرّاء قائلين:إن الكلام السابق مرفوض ابتداء،لأننا لا نسلّم و لا نقبل أن يخطّئ العلماء المتأخرون بعض الصحابة-رضوان اللّه تعالى عليهم-في تفسير بعض الآيات الكونية،فالصحابة هم خير القرون،و هم أعلم منّا في الدلالات اللغوية،و هم أعلم منّا في القرآن الكريم و الحديث الشريف لما شاهدوه من قرائن،و هم أقرب إلى نبع الحقيقة(أي:الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم)،و لقد بيّن لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم القرآن وفقا لما جاء في الآية: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]فهل يعقل مخالفتهم؟.).
ص: 22
فالجواب نعم،هم خير القرون أدبا و ورعا و إيمانا،و لكن قد لا تتكشف لهم بعض المعاني لآيات كونية،بالرغم من أنهم أفصح منّا لغة،و أقرب لمصدر بيان القرآن،و قد يخطئون للأسباب التالية:
1-أن الشرع سكت عن تبيان بعض الآيات الكونية،وفقا للآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]ليظهرها في المستقبل من خلال كتابه الكريم،فيتبيّن للناس أن رسالة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم حق.و هذا المستقبل غير محصور بجيل من الأجيال،أو بوقت من الأوقات،لأن لفظ الآية جاء مطلقا،و هذا يدل على أن هذا المستقبل يمتد إلى يوم القيامة.فإذا كان كذلك،و أظهر اللّه تعالى الحقائق الكونية للأجيال القادمة،فهذا يعني أنها خفيت على المتقدمين،و إلا لأظهروها مخافة الإثم.
2-من شروط المفسّر في علوم القرآن:أن يكون له علم بالعلوم المتعلقة بالآية المفسّرة،و إلا لأصبح تفسيره أقرب إلى الرأي.جاء في كتاب الإتقان:
«و منهم من قال:يجوز تفسيره[أي تفسير القرآن الكريم]لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسّر إليها...قال ابن أبي الدنيا:و علوم القرآن و ما يستنبط منه،بحر لا ساحل له،قال:فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر،لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها، فمن فسّر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه،و إذا فسّر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه...و قال ابن النقيب:جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:(أحدها)التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير...».و بما أن موضوع الآية المعتبرة في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة يتناول حادثة كونية،فعلى المفسّر أن يلمّ بالعلم الكوني المرتبط بها،و إلا لزاد احتمال الخطأ.و كما نعلم فإن وسائل البحث في أيّامنا تختلف عن أيام الصحابة- رضوان اللّه تعالى عليهم-و هي أدق،و بالتالي فإن كلامهم غير ملزم.
3-أجمع العلماء أن السلف غير معصومين،و أن العصمة للأنبياء صلوات اللّه تعالى و سلامه عليهم فقط،و بالتالي فهناك احتمال أن يخطئ السلف،و قد أكّد السلف و أئمّتهم هذه الحقيقة.في هذا ننقل بعض الأقوال:قال الإمام مالك:كلّ منّا يؤخذ من كلامه و يرد إلا صاحب هذا القبر[أي النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم] (1).4.
ص: 23
و جاء في«تحفة المريد،شرح جوهرة التوحيد»:«و العصمة-لغة-:مطلق الحفظ،و اصطلاحا:حفظ اللّه للمكلف من الذنب مع استحالة وقوعه،و لا يجوز لنا سؤال العصمة بهذا المعنى،كأن يقال:اللّهمّ إنّا نسألك العصمة...» (1).
4-لقد اختلف العلماء في قول الصحابي و فقهه:هل هو حجة ملزمة؟فإذا كان مذهب الصحابي في الفقه عامّة فيه خلاف،فكيف نحتج أن كلامه حجّة في بحث كوني ليس له إلمام به؟.قال الإمام الغزالي:«الأصل الثاني من الأصول الموهومة:قول الصحابي.و قد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا،و قوم إلى أنه حجة إن خالف القياس،و قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر و عمر خاصة لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«اقتدوا باللذين من بعدي»،و قوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا.و الكل باطل عندنا،فإن من يجوز عليه الغلط و السهو،و لم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله،فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟،و كيف تدّعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟،و كيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟،و كيف يختلف المعصومان؟،كيف و قد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر و عمر على من خالفهما بالاجتهاد» (2).
و في النهاية من المهم جدّا أن ننوه أنّنا لا ندعي فهما للقرآن أكثر من فهم خير القرون،قرن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لكننا نقول:إن الكشوف العلمية التي انكشفت في هذا القرن أمدّتنا بفهم يقيني مدعوم بالدليل،بخلاف الفهم الفطري الذي ساد في القرون الأولى؛فكلام الخالق سبحانه و تعالى عن أسرار خلقه في الآفاق و فى الأنفس غيب قبل أن يرينا اللّه حقائق تلك الأسرار بواسطة التقدم العلمي،و لا طريق لمعرفة كيفياتها و تفاصيلها قبل رؤيتها،و ذلك لأن العقول البشرية محدودة الإدراك و الزمان و المكان.
و لقد اختلف السلف و الخلف،رضوان اللّه عليهم،في شرح بعض آيات القرآن الكريم و الحديث الشريف التي تتحدث عن العلوم الكونية،فأصابوا في بعض الأحيان،و أخطئوا في البعض الآخر،و ذلك لأن الخطأ في التفسير قد نشأ من جراء اعتماد المفسرين على العلوم التي توفرت في بيئتهم و في عصرهم،فحاولوا تفسير آيات تشير إلى حقائق كونية جد غريبة بالنسبة لعصرهم،بما كانوا عليه من أفهام،1.
ص: 24
و من خلال معارف بدائية و غير صحيحة تيسّرت لديهم،و أما الإصابة في التفسير، فتعود لاعتماد هؤلاء على دلالات الألفاظ المعلومة لدى العرب المتمكنين في اللغة العربية آنذاك كما تؤكده الآية: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3].و قد وفّق هؤلاء كثيرا في شرحهم لمعنى الآيات القرآنية رغم احتجاب حقائقها الكونية،متحدين ما توصّل إليه باقي الشعوب من علم كوني،مع أن المفسّر الذي يصف الحقائق الكونية و هي محجوبة عن الرؤيا في عصره،على ضوء ما سمع من الوحي،يختلف عن المفسر الذي كشفت أمامه الحقائق الكونية و تفاصيلها، فجمع بين ما سمع من الوحي و بين ما شاهد في الواقع،فإذا ما حان وقت كشف الحقيقة الكونية،ظهر التوافق الجلي بين تفسيرهم و بين حقائق العلم الكوني، و ظهرت الأمور على حقيقتها،و ازداد الإعجاز تجليا و ظهورا.
و لذلك فنحن نعتبر كلام الصحابة في تفسير الآيات الكونية معلما للوصول إلى الحقيقة العلمية على سبيل الاستئناس لا الجزم.
و لنعط مثالا رائعا على تحدي العلماء المسلمين المفسّرين للقرآن الكريم، و الأحاديث الشريفة للعلماء الكونيين في عصرهم،بما فهموا من الأحاديث الشريفة خلاف ما أعلنه العلماء الكونيون آنذاك:فقد ردّ الإمام ابن القيّم و الإمام ابن حجر و غيرهما أقوال علماء التشريح في عصورهم،فقال ابن حجر:«و زعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلا في عقده،و أنه إنما يتكون من دم الحيض.و أحاديث الباب تبطل ذلك» (1).
و كتب اللّه التوفيق للمفسّرين فيما شرحوه من آيات و أحاديث متعلقة بأسرار الأرض و السماء،لأنهم اعتمدوا على نصوص الوحي المنزل ممن يعلم السرّ في الأرض و السماء،و على دلالات الألفاظ،و معاني الآيات.).
ص: 25
لا بد ابتداء من تعريف كلمة«جنين»،فمدار البحث عليها.و بداية فإن كلمة «جنين»تشير إلى الولد الذي يتخلق في البطن.جاء في القاموس المحيط:«الجنين:
الولد في البطن ج:أجنّة و أجنن» (1).
و في كلام العرب إذا اجتمعت الجيم و النون في كلمة،و تقدمت الجيم،أفادت الكلمة معنى الخفاء و الستر (2).و لذلك سمّي الولد الذي في البطن جنينا لأنه مستور عن الأعين.جاء في القاموس المحيط:«و كلّ مستور و جنّ في الرّحم يجنّ جنّا:
استتر،و أجنّته الحامل...و عليه جنّا و جنونا و أجنّه:ستره،و كلّ ما ستر عنك فقد جنّ عنك» (3).و بالتالي فإن هذه التسمية تعبّر عن مدى جهل العرب بحال الجنين الذي يتخلق في رحم المرأة.
و من المهم إلقاء نظرة على تاريخ علم الأجنّة و من ثمّ متابعة الكشوفات المتلاحقة في هذا المجال،كي ندرك حقيقة المراحل التي مرّ بها علم الأجنّة،و ما اكتنف هذا العلم من جهل و غموض عند سائر الشعوب-غير العربية-لندرك مدى حجم الصعوبة التي كانت تحول دون معرفة العلماء الكونيين عما كان يجري في الرحم،كما تشير إليه كلمة«جنين»عند العرب.
و لا يخفى عليك صعوبة الطريق الموصلة إلى حقيقة عالم الأرحام،و ما يجري فيه.و بالإجمال:
يمكننا تقسيم تاريخ علم الأجنّة إلى ثلاث مراحل أساسية:
ص: 26
المرحلة الأولى هي التي يمكن أن نسميها مرحلة تاريخ علم الأجنّة الوصفي، و هي تعود إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد،و تمتد حتى القرن التاسع عشر، و اقتصرت هذه الفترة على وصف الملحوظات الخاصة بظاهرة تطوّر الجنين، و إعطائها تفسيرات سطحية قائمة على التوهّم و التخيّل،مع تأثر كبير بالسحر.
و لا بأس من إلقاء نظرة عاجلة على نشاطات هذه المرحلة و تصوّراتها:
لقد وجد في مجال علم الأجنّة بعض السجلات المدوّنة من فترة السّلالات الفرعونية الرابعة و الخامسة و السادسة في مصر القديمة،و قد حمل ما لا يقل عن عشرة أشخاص متعاقبين اللقب الرسمي:فاتح مشيمة الملك، و اقتضت المراسيم فيما بعد أن تحمل رأية تمثّل مشيمة الملك أمام موكب الفراعنة.(انظر الصورة رقم:1).
و كانت تعزى إلى خواصّ المشيمة قوى سحرية خفية في اختلاط ظاهر بين العلم و السحر،و كانت للنساء رقى و تمائم يتلونها عند الحمل و الولادة، و لكي تضمن المرأة الحامل الحصول على ولادة سهلة و طبيعية،فقد كانت تستعين بتميمة تصوّر امرأة راقدة على سريرها في هدوء و راحة شديدتين،و إلى جوارها طفلها الذي وضعته في يسر و بلا معاناة،في تعلّق واضح على القوى السحرية و الخفية.
(1)-راية تمثل«المشيمة الملكية» لفرعون( Kleiss 1964 م).
و دام ذلك الاعتقاد حتى عهد اليونانيين القدماء،حيث كان لعلم المنطق اليوناني أثر في فهم علم الأجنّة.
و أقدم الوصفات المدوّنة للوقاية من الحمل،مدونة بالخط الهيري(لغة مصر القديمة قبل الهيروغليفية)على ورق البردى،و يعود تاريخها إلى ما بين 2000 و 1800 قبل الميلاد،و من العناصر الأساسية المكونة للوصفة روث التماسيح إلى جانب عناصر أخرى (1).
ص: 27
و كان المصريون القدماء يقدسون الحيوانات التي لا تضر و لا تنفع،في صورة معبودات نوعية يقدم كل منها خدمة معيّنة؛فكانت المعبودة«تاويريت»على هيئة أنثى فرس النهر،و ترمز إلى الخصب البشري،كما تحمي الحوامل من الوضع المتعسر.
و كان أيضا هناك«أبيس»،العجل المقدّس،و يشير إلى القوة الجسدية و التفوق في النسل.و كذلك«حقت»،المعبودة التي ترسم برأس ضفدعة،و كانت تساعد الحوامل في الولادة،و كان هناك أيضا«خنوم»،و يظهر في هيئة رجل له رأس كبش، و أمامه عجلة الفخار يشكل عليها الطفل قبل مولده،و كانت هناك«نيت»،و نسب إليها أنها إله التناسل،و أنها عظيمة الاهتمام بالحوامل،و كانت هناك أيضا«مسخنت» على هيئة سيدة يعلو رأسها نبات مائي،و كانت معبودة للولادة،مما يدلّ على دور الأوهام العظيم الذي كان يسيطر على عقول المصريين القدماء.
و كان المصريون القدماء يجهلون دور المني في تخلّق الجنين،و إن كانوا يعتقدون أن هناك علاقة ما بين العضو الذكري و المني و الحمل،و كان الرأي العلمي لديهم أن المني ينبع من الحبل الشوكي،و ربما يكون مرجع ذلك إلى الكهنة الذين كانوا يذبحون القرابين،و كانوا يعتقدون بأن قضيب الثور امتداد لعموده الفقري،و من هنا كان اهتمامهم بالعظمة الموجودة في آخر أربع أو خمس فقرات من العمود الفقري،عند العجز،باعتبار أنها المسئولة عن الحفاظ على مني الرجل.
و قد عرف المصريون القدماء على وجه التقريب مدة الحمل؛ففي إحدى البرديات الطبية«و ستكار»نجد«خوفو»يسأل الساحر(دجيدي DJEDI )متى ستتم ولادة(ريدجدت REDDJEDDET )فيجيبه قائلا:«سوف تولد في الخامس عشر من أول الشتاء،و تلك فترة تتراوح بين 275 و 294 يوما» (1).
و قد وجد أيضا في مجال طب الأجنّة الهندي(رسالة سنسكريتية SANSKRIT TREATISE )تعود إلى 1416 سنة قبل الميلاد.
هذه الرسالة تسمى(غربها أو بانيشاد GARBHA UPANISHAD )و تصف الأفكار القديمة المتعلقة بتطور الجنين.
و تشير هذه الرسالة إلى ما يلي:
من اتحاد الدم و المني يأتي الجنين إلى الوجود.6.
ص: 28
و بعد التزاوج الجنسي،في الوقت المؤاتي للحمل،يصبح[الجنين بما يسمى] (كلادا KALADA )(أي جنين في اليوم الأول من عمره).
و بعد مرور سبع ليال،يصبح[الجنين]بذرة.
و بعد مرور أسبوعين،يصبح[الجنين]كتلة مستديرة.
و بعد مرور شهر،يصبح[الجنين]كتلة متماسكة.
و بعد مرور شهرين،يتخلّق الرأس.
و بعد مرور ثلاثة أشهر،تظهر منطقة الأوصال.
و ظاهر أن هذا يتنافى تماما مع الحقيقة،و يدلّ على دور الخيال في فهم مراحل تطور الجنين.
أما اليونان القدماء،فهم أول من ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلهم لملحوظاتهم بالمنطق العقلي لا بالقوى السحرية الغامضة،و لكن مع هذا التقدم،لم ينسجم منطقهم مع الحقائق الثابتة،و ظلت التعليلات بعيدة عن الحقيقة،و ذلك لأن العقل لا يستطيع وحده الوقوف على الحقائق،و إلا فإن الظنون تجتاحه و يتحول منطقه مملوءا بالخرافات.
فكان أول من تكلم في هذا المجال(هيبوكراتس HIPPOCRATES OF GOS ) العالم اليوناني الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد،فقد كتب:«خذ عشرين بيضة أو أكثر ودع دجاجتين أو أكثر تحضنها،و بعد كل يوم من اليوم الذي حصل فيه التفقيس،خذ بيضة و اكسرها و تفحصها،فسوف ترى تماما ما قلناه لك إنه من الممكن مماثلة طبيعة الطير بطبيعة الإنسان».
ثم اشتهر العالم(أرسطو ARISTOTLE OF STAGIRA )(384-322 ق.م) بأبحاثه عن علم الأجنة حيث وصف تطور الصيصان و أجنة أخرى،فاعتبر بذلك مؤسس علم الأجنّة مع أن أفكاره كانت تدور حول تطور الجنين من الحيض بعد تنشيطه من قبل منّي الرجل (1).
و قد شجّع فكرتين:
الأولى:أن الجنين يتطور من مادة لا شكل لها واصفا إياها«بالبذرة المعدّة قليلة التكامل ذات نفس مغذّية و أعضاء جسدية».ف.
ص: 29
و الثانية:بأن الجنين يمر بمراحل،و ذلك بعد أن درس تطور بيض الدجاج، غير أنه لم يعط تفاصيل كافية عنها.
أما(جالن CLAUDIUS GALEN )فقد وضع في القرن الثاني بعد الميلاد كتابا تحدث فيه عن تطور و تغذية الأجنّة،و عن المشيمة التي تحيط بالجنين،و قد اقتصر بحثه على المراحل المتأخرة من تطور الجنين.
و من ثمّ لم تسجل في العصور الوسطى أبحاث تذكر سوى قلة نادرة جدا عن هذا الموضوع،إلا ما ورد في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة(و سوف نتكلم عنها بتفصيل-إن شاء اللّه-في هذا الكتاب فيما بعد).
و قد كتب العالم(قسطنطين CONSTANTINUS AFRICANUS OF SALERNO )(1020-1087 م)رسالة قصيرة سماها(طبيعة الإنسان DE HUMANA NATURA )وصف فيها مراحل تطور الجنين المتلاحقة.
و قد ربط تطورات الجنين المتلاحقة بالكواكب،و هنا يظهر كيف أن التعليلات التي تعتمد على الظن تؤدي إلى نشوء نظريات أقرب إلى الخرافات.
أما في عهد النهضة فقد نشر(ليوناردو دافانشي LEONARDO DA VINCI )في القرن الخامس عشر رسومات دقيقة عن مقاطع لأرحام حاملة مع أغشيتها و قد أدخل فيها النّسب القياسية الدالة على تطوّر نمو الجنين (1).(انظر الصورة رقم:2).
أما في القرن السادس عشر فقد أظهرت بعض الرسوم في كتب القبالة كيفية تطور الجنين من كتلة دموية و بذرة.(انظر الصورة رقم:3).
و هذا المفهوم الخاطئ كان قد قال به العالم أرسطو،و استمرّ ذلك على مر القرون.
أما في عام 1604 م فقد بيّنت أعمال(فابريسيوس HIERONYMUS FABRICIUS )رسما ممتازا لتطور جنين دجاجة.(انظر الصورة رقم:4).و قد اشتهر (ويليام هارفي WILLIAM HARVEY )-أحد تلاميذ فابريسيوس-في(بادوا PADUA )بدراسته في مجال دوران الدم و ملحوظاته لتطور الأجنّة.ف.
ص: 30
ص: 31
و في عام 1651 م نشر هارفي كتابا سماه(الجيل الحيواني DE GENERATIONE ANIMALIUM )،و قد ذكر فيه أن بذرة الرجل(أي المني)بعد أن تدخل الرحم تتحول إلى مادة شبيهة بالبيضة يتخلق منها الجنين،كما أنه درس أجنّة صيصان بواسطة عدسات و وضع بعض الملحوظات الجديدة عليها،و قد درس تطور الغزال و لكنه لم يستطع مراقبة المراحل الأولى لتخلق الجنين،و خلص إلى أن الأرحام تفرز الأجنّة(أي أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها) (1).
و في ذلك الوقت ظهر المجهر،و كان عبارة عن عدسة بدائية مكبرة و حامل قصير و لم يكن متطورا آنذاك.
و في عام 1672 م لاحظ(دو غراف DE GRAAF )حجرات صغيرة في رحم الأرنب،و استنتج في أبحاثه أن الرحم لا يفرز الأجنة و لكنها تأتي من أعضاء أخرى سماها(أوفاريز OVARIES )و بدون شك فقد كانت هذه الحجرات الصغيرة هي ما نطلق عليه الآن اسم(الكرات الجرثومية BLASTOCYTS ).
و في عام 1675 م درس(مارسيلّو مالبيجي MARCELLO MALPIGHI )-على ما اعتقد-بيض دجاجات غير ملحقة و اعتقد أنها تحتوي على أجنّة صغيرة (2)،كما نشر رسومات لجنين الدجاجة المتخلق يظهر الفلقات بوضوح تام.(انظر الصورة رقم:5).
(5)-المراحل الأولى من تخلق الدجاجة وفقا لكتاب ما لبيجي و كتابه:( De Formatione pulli in OVO ).ف.
ص: 32
و نعرف اليوم أن هذه الفلقات تحتوي على خلايا،تولّد الجزء الأكبر من الهيكل العظمي للجسم و عضلاته.
و هذا ما لم ينتبه إليه(أو لم يكتشفه)العلماء آنذاك و ذلك لأنهم كانوا يعتقدون -إلى هذا الوقت-أن التخلّق الإنساني ليس إلا زيادة في الحجم لصورة واحدة تتسع أبعادها بمرور وقت الحمل (1)،حيث كانت فكرة الخلق التام للإنسان من أول مراحله ما زالت مسيطرة على أذهان العلماء (2).
و نشرت في الوقت ذاته تقريبا مجموعة أخرى من الرسومات،تظهر تخلّق الجنين البشري و تعبّر كلها عن نفس الأفكار و عن رسم واحد،و لكن بمقاييس مختلفة.(انظر الصورة رقم:6).
و هذه الأفكار تعرف:بنظرية(الخلق الجاهز PREFORMATION THEORY ).
(6)-رسم قديم يظهر التخلق البشري و كان الاعتقاد السائد أن هذا الإنسان يتضخم مع مرور الوقت(1959 م NEEDHAM ).
و في عام 1677 م استعمل كل من(هام و لو فينهوك HAMM AND LEEUWENHOEK )مجهرا أكثر تطورا من الذي وضع من قبل و اكتشفا الحيوان المنوي و ظنا أنه يحتوي على إنسان صغير جدا (3).(انظر الصورة رقم:7).1.
ص: 33
(7)-استعمل العالم لوفينهوك المجهر في أواخر القرن السابع عشر فاكتشف الحيوان المنوي،و في الرسم منظر جانبي يوضح طريقة استخدام هذا المجهر،حيث كان الجسم يوضع أمام العدسة على الحامل القصير و يتم تعديل وضع الجسم أمام العدسة بواسطة اللولب،و في الصفحة القادمة رسومات للحيوان المنوي وفقا للعالم لوفينهوك.
و تظهر صورة الحيوان المنوي في الصور التي تلي(انظر الصورة رقم:8-9) و التي وضعت وفقا للعالم لو فينهوك عام 1701 م.و الرقمان 1 و 7 في الصورة رقم:9 يشيران إلى الحيوان المنوي البشري،أما البقية فتشير إلى الحيوان المنوي للأغنام.
و من أنصار نظرية الخلق الجاهز،نذكر العالم(سوامردام JAN SWAMMERDAM )(1637-1680 م)الذي اعتقد هو أيضا أن الإنسان موجود بصورة مصغرة في رأس الحيوان المنوي (1).
و قد ثار جدل كبير في هذه الفترة حول الملحوظات التي تمت أو تم تخيّلها، و لم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى تعرّف المراقبون على أشياء في الحيوان المنوي تعبّر عن روح الإبداع في ذلك العصر.
و الرسم الذي قدمه(هرتسوكر HARTSOEKER )للحيوان المنوي عام 1694 م (انظر إلى شكل القزم في الصورة رقم:10)يدل على أن المجهر يومئذ لم يكن كافيا لبيان تفاصيل تكوين الحيوان المنوي،فأكملت الصورة من خيال العلماء،و عبّروا مرة ثانية عن الفكرة السائدة عندهم،و هي أن الإنسان يكون مخلوقا خلقا تاما في الحيوان المنوي في صورة قزم (2).1.
ص: 34
ص: 35
و الرسم الذي وضعه(بوفون BUFFON )عام 1749 م(انظر الصورة رقم:11) للسائل المنوي البشري(انظر إلى الشكل في الجزء الأعلى)،و السائل المنوي للكلب (انظر إلى الشكل في الجزء الأسفل)،بما في ذلك بعض سائل من أنثى كلب لم تخصّب بعد،هو مثال ثان على أن الخيال كان يلعب دورا كبيرا في فهم عملية تخلق الجنين البشري.
(11)-التناسل وفقا للعالم بافون(1749 م Buffon ).
يمثل الشكل( A )المني البشري مخلوطا بماء المطر بغية عزل ما يحتويه من خيوط للسماح بانفصال الأجسام الصغيرة.
الشكل( B )المني نفسه بعد تركه فترة من الوقت ليصبح أكثر سيولة.
الشكل( C )مأخوذ عن ذكر كلب.
الشكل( D )من أنثى كلب لم تخصب بعد.
و في عام 1745 م عادت الأنظار لتتجه إلى البويضة على أنها تحمل الجنين بصورة مصغرة،و ذلك عند ما اكتشف العالم(بونيه CHARLES BONNET )أن بويضات الحشرات يمكنها التطور إلى أجنّة كاملة دون الحاجة مطلقا إلى الذكر، و تدعى هذه الطريقة:(الولادة بدون أب PARTHENOGENESIS ) (1).ف.
ص: 36
و في عام 1759 م رفض(وولف CASPAR FRIEDRICH WOLFF )الأفكار القائمة سابقا،و ذلك بعد أن لاحظ أن بعض أجزاء الجنين تتطور من«كريّات»(و هي أنسجة الجنين النامية)،فقد شاهد بيض دجاج غير مخصّب و لم يستطع رؤية الأجنة التي تكلم عنها ما لبيجي،و قدم أفكاره على أن ما نسميه اليوم بالبيضة المخصّبة تنفلق لتؤلف طبقات من الخلايا(و نسميها اليوم القرص الجنيني)التي يتخلق منها الجنين.
و قد أسّست أفكاره نظرية(الخلق الفوقي EPIGENESIS )القائلة بأن التطور ناتج عن نمو الخلايا و تمايزها.
و بينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يخلق خلقا تاما في بويضة الأنثى، كان فريق آخر يقول:إن الإنسان يخلق خلقا تاما في الحيوان المنوي.
و لم ينته الجدل بين الفريقين إلا قرابة عام 1775 م عند ما أثبت(سبالانزاني SPALLANZANI )أهمية كل من الحيوان المنوي،و البويضة في عملية التخلّق البشري بعد أن أظهرت تجاربه في التلقيح الصناعي أن الحيوان المنوي هو العامل المخصّب للبويضة.
لم تكتشف بويضة الثدييات إلا في أواخر القرن الثامن عشر،حيث بدأت المرحلة الثانية-عهد علم الأجنّة التجريبي-بكتابات(فون باير VON BAER ) (1827 م)و(شليدن و شوان SCHEILDEN AND SCHWAN )(1839 م)و(داروين CHARLES DARWIN )(1859 م)و آخرين.
و في عام 1817 م اكتشف(باندر HEINRICH CHRISTIAN PANDER )أن الجنين مؤلف من ثلاث طبقات.
أما فون باير(1827 م)فكان عملاقا في عصره في هذا المجال،فقد قفز بعلم الأجنّة من التجارب و المشاهدات إلى صياغة المفاهيم الجنينية لا العكس،و كانت تلك نقلة نوعية دقيقة جدا،حيث انتقل به تفكيره إلى أبعد من المفاهيم التي تعلّمها، فقد تابع تقاسم البويضة المخصّبة في أنبوب الرحم و الخلية الجرثومية في الرحم، و ساهم في فهم مصادر الأنسجة و الأعضاء من الطبقات التي تحدث عنها باندر و ما لبيجي.
و قد عمّم فون باير نظرية باندر و قال إن أجنّة جميع الحيوانات تحتوي على
ص: 37
ثلاث طبقات،كما أنه وضع مفهومين مهمين في مجال طب الأجنة:مفهوم مراحل تطور الجنين،و مفهوم سبق الصفات العامة للصفات الخاصة (1).
و في عام 1824 م تمكن العالمان(بريفوست و دوماس PREVOST AND DUMAS )من وصف(انشقاق البويضة CLEAVAGE )و لكنهما لم يتبينا مغزى ذلك الانشقاق (2).
و حصل تطور مهم في علم الأجنّة عند ما أعلن كل من شليدن و شوان(1839 م) أن جسم الإنسان مكون من خلايا،و هذا المفهوم أدى إلى إدراك أن الجنين تأتّى من خلية واحدة و هي:(البويضة المخصبة ZYGOTE ) (3).
و في عام 1865 م وضع العالم(غريغور مندل GREGOR MENDEL )أسس علم الوراثة غير أن علماء الطب لم يفهموا معاني هذه الأسس لسنين عديدة.
و في عام 1875 م تمكن(هيرتويج HERTWIG )من ملاحظة كيفية تلقيح الحيوان المنوي للبويضة،و أثبت بذلك أن كلا من الحيوان المنوي و البويضة يساهمان في تكوين البويضة الملقحة،و كان بذلك أول إنسان يشاهد عملية التلقيح هذه و يصفها (4).
كما تميزت المرحلة التاريخية الثانية بالبحث عن الآليات،و برز اسم(ويلهلم روكس WILHELM ROUX )في هذا المجال،و انتقلت الدراسة الجنينية من وصف الملحوظات إلى التدخل،و معالجة الكائنات الحيّة المتطورة (5).
و قد شغلت مسألة معرفة الآلية التي يحدث فيها التمايز بين الخلايا اهتمام الباحثين أمثال العالم(فليمينغ FLEMMING )(1878 م)الذي شاهد(الصبغيات CHROMOSOMES )و اقترح أن لها دورا في عملية الإخصاب.
و أمثال العالم(فان بندن VON BENEDEN )(1883 م)الذي وصف ظاهرة (الانقسام الاختزالي MEIOSIS )قائلا:إن الخلايا الناتجة عن عملية الانقسام لها عدد منخفض من الصبغيات.3.
ص: 38
و أمثال العالمين(ستن و بوفيري SUTTON BOVERI )(1902 م)حيث أعلن كل منهما على حدة أن الصبغيات تنقسم أثناء التخصيب و تخلّق الخلايا وفقا للأسس التي وضعها العالم مندل في علم الوراثة (1).
و أمثال العالم(مورجان THOMAS HUNT MORGAN )(1912 م)الذي وصف دور الجينات في الوراثة و أن هذه الجينات موجودة في مناطق محددة من الصبغيات (2).
و كان أول من حاول تحديد عدد الصبغيات هو(فون وينيوارتر VON WINIWARTER )عام 1912 م قائلا:إن عددها هو سبعة و أربعون،و من ثمّ أعلن كلّ من(تجيو و لوفان TJIO LEVAN )عام 1956 م أن عدد الصبغيات هو ستة و أربعون (3).
و في عام 1914 م رتّب(مول MOOL )مائتين و ستة و ستين جنينا بشريا في سلسلة من المراحل.
و من ثمّ رتب(ستريتر STREETER )عام 1942 م الجنين البشري في ثلاث و عشرين مرحلة،و أطلق عليها اسم«آفاق التطور».
و من ثمّ قدم(أورايلي OREILLY )عام 1973 م نظاما أكثر تفصيلا من الذي وضع من قبل لتصنيف الجنين البشري،و خاصة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من تكوينه (4).
و درس(هانس سبيمان HANS SPEMANN )(1841-1941 م)آليات التفاعل النسيجي كالذي يحدث خلال التطور الجنيني (5).
و بدأ(أوتو واربورغ OTTO HEINRICH WARBURG )(1883-1970 م) دراسات عن الآليات الكيميائية للتخلق (6).3.
ص: 39
و تمتد المرحلة الثالثة أو الحديثة من الأربعينات حتى يومنا هذا،و قد تأثرت هذه المرحلة تأثرا كبيرا بتطور الأجهزة مما أثر بقوة على مجرى البحوث.
و على سبيل المثال:فإن المجهر الألكتروني (1)،و آلات التصوير الأخرى، و قياس الشدة النسبية لأجزاء الطّيف،و الحاسوب،و مجموعة وسائل الكشف عن البروتينات،و الأحماض النووية،و الكربوهيدرات المعقدة،و عزلها و تحليلها،يمكن أن تعتبر كلها عوامل تجعل علماء(الأحياء البيولوجي النمائي DEVELOPMENTAL BIOLOGY )اليوم في وضع يسمح لهم بإجراء تجارب كانت تبدو قبل عقد من الزمن مجرد حلم خيالي.
فيمكننا اليوم مثلا أن نجري تحليلا دقيقا مفصلا لسطح الخلايا خلال تمايزها.
و يمكننا أيضا أن ندرس دور النواة،و السائل الهلامي للخلية(أي السيتوبلازم:
المادة الحية للخلية باستثناء النواة)،و المنابت خارج الخلية باستخدام تهجين الخلايا، و كذلك غرس النواة و غرس الجينات في الرحم،و غير ذلك من التقنيات.
و يمكننا أن ننظر أيضا إلى الأجنة بوضوح لم يمكن تصوره في زمن العالم مالبيجي.
و يمكننا أن ننظر داخل الأقسام لنفهم آليات التمايز الطبيعي و الشاذ بشكل أفضل.(انظر الصورة رقم:12).
ص: 40
ص: 41
سنلقي الضوء أولا على الحالة الثقافية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية ليتبيّن لنا مدى الفرق الشاسع بين المستوى العلمي السائد في هذه الجزيرة،و بين ما جاء على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من آيات علمية إعجازية،و حتى نتفهّم ما في آيات الإعجاز العلمي في القرآن و السنة من تحد و سبق علمي للأمم عامة،و للغرب خاصة.
لم يكن العرب حينها على مستوى عال من الثقافة العلمية،فغالبية العرب كانت تجهل الكتابة و يؤيد ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّا أمة أمية لا نكتب و لا نحسب»[أخرجه البخاري ح 7] (1).
إلا أن بعض العرب قد عرف الكتابة قبل الإسلام و كان منهم من يقرأ و يكتب بقلم المسند(قلم ظهر في اليمن)و بقلم النبط و بقلم بني أرم،و قد تعلم بعضهم اللغة العبرانية،و كان القليل منهم يلجأ إلى معابد و مدارس اليهود و النصارى لتعلم الكتابة و القراءة،و لكن السواد الأعظم منهم كان يجهل الكتابة و القراءة قبيل الإسلام،و لم يكن العرب يعنون بتعليم أطفالهم الكتابة و القراءة (2)،إنما كان الرجل منهم يشعر بالحاجة إلى ذلك فيتعلمها،و لذلك لم يستطيعوا النهوض إلى درجة عالية من العلم.
لقد تفاوتت درجة العلوم التي انتشرت في عصرهم،فقويت العلوم التي كانت لها صلة ببيئتهم مثل الشعر،و تحسس مخابئ الماء تحت طبقات الأرض و علم الأنواء(تعرّف أوقات نزول الغيث عن طريق حركة النجوم و منازلها)،و معرفة آثار الأقدام(القيافة)،و علم الأنساب(و ذلك ليحفظوا أنسابهم و لأمور أخرى كان
ص: 42
مجتمعهم البدوي بحاجة إليها)،و ضعفت العلوم الأخرى عندهم مثل الطب (1)، الذي كان مرتبطا بالسحر،و اقتصر على الوسائل البدائية مثل الكيّ و البتر و الفصد (الشق)و التداوي بالأعشاب و الحجامة،و انتشرت بعض العلوم التي ليس لها ركائز منطقية مثل دراسة الأجرام السماوية:التنجيم و الكهانة،لمعرفة الأمور الغيبية من حاضر و مستقبل.
أما علم الأرحام عند العرب-و هو الذي يعنينا في بحثنا هذا-فلم يكن أحسن حالا من سائر العلوم الأخرى،و كان قائما عندئذ على ما تعلّمه العرب من اليهود،كما يعلمنا الحديث الشريف:«عن ابن عباس،قال:إن ابن عمر-و اللّه يغفر له-أوهم،إنما كان هذا الحي من الأنصار-و هم أهل وثن-مع هذا الحي من يهود-و هم أهل كتاب-و كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم..»[أخرجه أبو داود ح 117].
فعلى سبيل المثال:اقتدى العرب باليهود في اعتزال المرأة إذا حاضت اعتزالا تاما،لا يؤاكلونها،و لا يجالسونها على فراش،و لا حتى يساكنونها،لأنهم كانوا يعتقدون أن السموم تغلب على بدن المرأة في فترة الحيض (2).كذلك كانوا يعتقدون أن الجنين يأتي أحول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها-أي:إذا جامع الرجل المرأة من الخلف و لكن في قبلها-،على ما كان يعتقده اليهود،مثلما جاء في الحديث:«حدثنا أبو نعيم،حدثنا سفيان،عن ابن المنكدر،قال:سمعت جابرا رضي اللّه عنه قال:كانت اليهود تقول:إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول،فنزلت:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [البقرة:223]»[أخرجه البخاري ح 15]،و قد اعتقد الأطباء العرب أيضا أن الجنين يعقد من دم الحيض (3).
و هكذا نفهم أن الظلام العلمي كان منتشرا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام،و لا سيما عند العرب.».
ص: 43
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمّيا لا يقرأ و لا يكتب،فقد نشأ في مجتمع كانت غالبيته من الأميين،و قد اقتصر علمه صلّى اللّه عليه و سلّم على المعرفة برعاية الغنم(و ذلك لمساعدة عمه أبي طالب)،و على بعض الأمور الحربية(لعموم الضرورة إلى معرفة ذلك)،و على بعض الأمور السياسية(كاشتراكه في حلف الفضول)،و على بعض أمور التحكيم (فقد حكّمه قومه في وضع الحجر الأسود في الكعبة و رضي بحكمه سائر القبائل).
و قد أتيح له السفر إلى اليمن أربع مرات في مهمات تجارية كان يقوم بها صلّى اللّه عليه و سلّم للاتجار بمال خديجة بنت خويلد رضي اللّه عنها،و مرة واحدة إلى مدينة بصرى في بلاد الشام (1)، و هي أبعد مكان رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في حياته (2)(و الأولى أن نقول:قبل النبوة) (3).
و من الشواهد على هذه المعرفة قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]و قوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16]و حادثة نزول الوحي(كما روتها لنا السيدة عائشة رضي اللّه عنها):«أول ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم،فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح،حتى جاءه الحق و هو في غار حراء،فجاءه الملك فقال:
اقرأ،قال:«ما أنا بقارئ»،قال:«فأخذني فغطّني(الغطّ هو العصر الشديد و الكبس) حتى بلغ مني الجهد،ثم أرسلني»،فقال:اقرأ،قلت:«ما أنا بقارئ،فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد،ثم أرسلني»،فقال:اقرأ،فقلت:«ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة،ثم أرسلني»،فقال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) [العلق:1-3][أخرجه البخاري ح 8] (4).
ص: 44
هذه الحادثة تشير إلى نقطتين بالغتي الأهمية:
*أولا:أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن غير متعلم فحسب (1)،بل كان أميا لا يعرف القراءة و الكتابة (2).
*ثانيا:أن اللّه سبحانه و تعالى أشار في ثاني آية أنزلت من القرآن الحكيم- أي:في بدء الوحي-أن الإنسان خلق من علقة تبيانا لمعجزة خلق الإنسان-و الله أعلم-،و هذه المعجزة اتخذت منحى خطيرا بعد ما أمر اللّه سبحانه و تعالى رجلا أمّيا صلّى اللّه عليه و سلّم أن يعلم أمة بأكملها حيث قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].].
ص: 45
لقد قرأنا في البحوث السابقة عن الثقافة التي كانت سائدة داخل شبه الجزيرة العربية و خارجها،فرأينا أن الظلام الدامس كان يسود كل أقطار العالم في المجال العلمي و خاصة في مجال علم الأجنّة في عصر النبوة،فالعرب في شبه الجزيرة العربية آنذاك كانوا أميين في غالبيتهم،و القلّة الباقية التي تعلمت القراءة و الكتابة لم تكن بارعة في العلوم الحيوية،أما الغرب خاصة و بقية العالم عامة بعد القرن الخامس قبل الميلاد،فكانوا أكثر معرفة،لأنهم استطاعوا أن يربطوا العلم بالمنطق و لكن هذا لم يفدهم شيئا،لأنهم أخطئوا في النظريات التي وضعوها و التي كانت لا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية،و لأن قلة الوسائل التقنية المتاحة لهم حجزتهم عن مراقبة الأمور عن كثب في الأرحام،و حالت دون معرفتهم لحقائق الأمور في علم الأجنّة.
و هكذا فإن التاريخ يشهد أنه لم يكن هناك أي تدوين مميّز شامل للتخلّق البشري كالتصنيف المرحلي،و علم المصطلحات،و الوصف لمجريات الأمور في الأرحام،كما أن التاريخ يشهد أنه لم يكن هناك أية وسيلة لمراقبة ما يجري في الأرحام في عصر النبوة.
فهل يعقل-و الحال هذه-أن يكشف الرسول الكريم-عليه الصلاة و السلام- حقائق علمية لم تكن موجودة آنذاك في العلوم البشرية لو لا وحي السماء؟.
لقد رأينا كيف أن الأمية و الجهل يولّدان مجرد خيالات بعيدة عن الدقة كما في حالة اليونانيين،بالرغم من أنهم كانوا أكثر الشعوب تطورا في مجالات العلوم،فأنّى للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم المقدرة على كشف حقائق علمية هي في أقصى الدرجات من الدقة إلا بإعجاز قاهر،من رب قادر،و قد عجز كثير من العلماء عن الإتيان بالقليل منها و لو بصورة مبسطة،حتى بعد أن اكتشفوا المجهر،و بعد أن انكبوا على مراقبة الأجنّة؟.
إلى غير ذلك،فتقديم وصف علمي لمراحل التخلّق البشري يتطلب الحصول على عدد كبير من الأجنّة البشرية في عمر معين و دراستها،و يصعب تماما حتى في يومنا هذا تجميع مثل هذه السلسلة،كما يحتاج إلى أجهزة متطورة جدا لم تكن متصوّرة في عصر النبوة في أي قطر من أقطار العالم(كالمجهر الألكتروني،و آلات التصوير الأخرى،و قياس الشدة النسبية لأجزاء الطيف،و الحاسوب،و مجموعة
ص: 46
وسائل الكشف عن البروتينات،و الأحماض النووية،و الكربوهيدرات المعقدة و غيرها)،و لو لا هذه البحوث لما توصل علم الأجنّة إلى ما هو عليه الآن.
و مما يزيد الأمور تعقيدا أيضا،أن الأجنّة التي كانت تخرج في حالات الإجهاض في المراحل الأولى من تخلّق الجنين على هيئة سقط مبكر،كانت تخرج في كمية من الدماء،و قد تمزقت إلى أجزاء دقيقة و لم تكن لتعطي مظهرا يمكن دراسته.
إضافة إلى ذلك فإن الأجيال التي عاصرت الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن بإمكانها أن تعلم أن هذه الدماء تحمل سقطا من جنين،لأن معرفة حدوث الحمل في الأسابيع الأولى لم تكن متحقّقة حتى عهد قريب.
و لو افترضنا أنه أتيح للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هذا كله،فالجنين في المراحل الأولى من تخلّقه و خصوصا في مرحلة عجب الذّنب(التي سنتكلم عنها فيما بعد-انظر مبحث «الذّنب»-)لا يبلغ حجم أجزائه أكثر من 05,5 ملم،و تلك الأجزاء موجودة ليس داخل الرحم ذي الظلمة الدامسة فحسب،بل داخل بطانة الرحم و الوصول إلى تلك الأمكنة متعذر،لأن عنق الرحم-كما نعلم-لا يسمح في الحالات العادية-عند معظم النساء-لأكثر من الإصبع الصغير من أن يدخل فيه،و هو مسدود(بكتلة مخاطية MUCUS PLUG )في فترة الحمل(انظر الصورة رقم:13)،و الفجوة التي تحدثها النطفة عند الدخول داخل بطانة الرحم تنغلق بسدادة نسيجية.
(13)-تسد مدخل الرحم كتلة من المخاط مما يجعل مراقبة الأجنة أمرا صعبا للغاية
ص: 47
إنه لمن الغريب جدا،بل من المستحيل أن يصف الرسول-عليه الصلاة و السلام-أحوال و مظهر الجنين في الرحم و خصوصا في الأسابيع الأولى،و هي تتغير باستمرار خلال أوقات وجيزة جدا،و إنه لمن الغريب أيضا أن يضع برنامجا زمنيا دقيقا للغاية كما سنرى،لا يقبله أي عقل بشري في ذلك الوقت نظرا لغرابته و لخروجه عن المألوف،أو ليس هذا كله دليلا على أنه نبي يوحى إليه من اللّه تعالى؟.فمن يتخيل أن يتخلّق الجسم الأساسي للجنين خلال أربعين يوما،و الحال أن الجنين يمكث في بطن أمه تسعة أشهر؟،و من يتخيل أن الجنين يشبه المادة الممضوغة التي تلوكها الأسنان؟.
لقد أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ببعض أسس علم الوراثة بإذن من رب العالمين قبل 1400 سنة من اكتشافها من قبل العلماء؛فلقد أوضح صلّى اللّه عليه و سلّم أن بنية الإنسان تتقدر حين خلقه عند ما يلقّح الحيوان المنويّ البويضة،و أن عملية التقدير تستوجب انصهار محتوى النطفتين بعضهما ببعض،و انتشار صبغيات الحيوان المنوي بين صبغيات البويضة،و أن عملية نمو الجنين تعتمد على الشيفرة الجينية الموجودة داخل البويضة المخصّبة.إن التحدث عن هذه الأمور الغيبية يعتبر أقوى من التحدث عن التغيرات التي تطرأ على الجنين،و ذلك لأن الأمور أدق في هذا المجال،فضلا عن أنها الأسس التي تتحكم بمصير الجنين في المستقبل الخفي.
حقا إنه لكشف مدهش،إن هذا الكشف-إن لم يكن وحيا من اللّه تعالى- فإنه يحتاج إلى كثير من الوقت و العديد من الاختصاصيين المتمرّسين ليفهموا تلك الأحداث،و إلى تقنيات متطوّرة للغاية؛و هذا الوقت و تلك التقنيات لم تكن متوفرة للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأنه كان مشغولا بالدعوة و تنظيم الأمة الإسلامية على أحسن حال، إضافة إلى أنه لم يمارس في حياته نشاطا علميا قط في هذا المجال كما سجّل التاريخ (فهو عليه الصلاة و السلام اشتغل برعاية الغنم،ثم بالتجارة قبل البعثة،و من ثمّ تفرّغ لأعباء الدعوة).و كان أمّيا كما أخبر بذلك القرآن،و كما يظهر لنا من خلال رواية حادثة بدء الوحي.
و في المقاطع اللاحقة سنقارن-إن شاء اللّه-بين ما بيّنه اللّه عزّ و جلّ على لسان رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم،و بين الاعتقادات السائدة في عصره في مختلف مراحل تخلق الجنين(و التي قلبها رأسا على عقب).هذا من جهة،و من جهة أخرى بين ما اكتشفه
ص: 48
مجموعة من العلماء بعد قرون عديدة بواسطة آلات ذات تقنية (1)عالية(كان أولها في القرن السابع عشر،و آخرها في القرن العشرين)لندرك مدى إعجاز الكشف الرباني على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و حتى نزداد يقينا أنه وحي من عند اللّه عزّ و جلّ.ا.
ص: 49
إن من قرأ و تأمّل في تاريخ دعوة الأنبياء-عليهم الصلاة و السلام-للناس لاحظ أن دعوتهم كانت حافلة بالتحدي،فعامة الناس لا يؤمنون بالرسل إلا إذا رأوا منهم آيات أو معجزات تدل على صدق نبوتهم.
فعلى سبيل المثال:لم يؤمن السحرة بنبوة سيدنا موسى عليه السّلام إلا عند ما رأوا العصا تتحول إلى حية،و إلا حينما عاينوا يده تشع نورا...و كذلك قوم سيدنا صالح عليه السّلام لم يؤمنوا إلا عند رؤيتهم الناقة العملاقة تخرج من الحجر...و قوم سيدنا عيسى عليه السّلام إلا عند معاينتهم له يحيي الموتى بإذن اللّه،و يشفي الأكمه و الأبرص بإذن اللّه...إلخ ما ورد من القصص العديدة المروية في القرآن الكريم، و العهد القديم و العهد الجديد،و كتب الرواية و كتب التاريخ البشري.
و عند ما بعث الرسول-صلوات اللّه و سلامه عليه-تحداه قومه كالعادة، و طالبوه بأن يأتي بالمعجزات و بالآيات التي تدل على اصطفائه صلّى اللّه عليه و سلّم من قبل اللّه عزّ و جل كما حكى عنهم القرآن الكريم: وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه:133]،أو كقوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولاً(93) [الإسراء:90-93]فقبل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هذا التحدي بإذن من رب العالمين، و تحققت المعجزات و تنوعت على يده؛فكان منها:المعجزات الإخبارية كحادثة وصفه لبيت المقدس و هو صلّى اللّه عليه و سلّم في مكة و ذلك في حادثة الإسراء و المعراج،و حادثة الإخبار بأن الأرضة أكلت الصحيفة التي تعاهد فيها كفار مكة على مقاطعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بني هاشم،و استثنائها لأسماء اللّه تعالى التي كتبت عليها.
و من المعجزات أيضا معجزات حسّيّة كنبع الماء من أصابع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و كإعادته عين مقاتل إلى مكانها بعد أن اقتلعت،و ككسر كدية عظيمة-أي صخرة صلبة من الأرض لا تعمل فيها الفأس-عجز الصحابة عن كسرها،بثلاث ضربات حتى عادت كالكثيب-أي كالرمل المتجمع-،و كالبركة في الطعام حتى إن الطعام
ص: 50
الذي دعا إليه جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و هو طعام يكفي لرجلين فقط،كفى ألفا من الصحابة،و بقي بقيّة منه..إلخ.
و لما كان الرسل قبل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم يبعثون إلى أقوامهم خاصة،و لأزمنة محدودة فقد أيدهم اللّه ببيّنات حسية كما رأينا،و تستمر هذه البينات الحسية محتفظة بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول،حتى إذا تطاول الزمن و تقادم و تكدّر نبع الرسالة الصافي،اختفت قوة الإقناع الحسية،و بعث اللّه رسولا آخر بالشريعة التي يرضاها و بمعجزة جديدة و ببينة مشاهدة.و لما ختم اللّه النبوة بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم ضمن له حفظ دينه،و ذلك بأن أيّده بمعجزات معنوية تنكشف في المستقبل،لكي يؤمن بها المتأخرون من الأمم،فتبقى البينة الكبرى بين أيدي الناس قائمة إلى قيام الساعة (1).
قال اللّه تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51) [العنكبوت:50-51]،فهذه الآيات تعلمنا أن اللّه تعالى أجاب طلب قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لآيات يؤمنون من خلالها بأن القرآن الكريم هو خير دليل على صدقه صلّى اللّه عليه و سلّم،بما فيه من معجزات معنوية.
و قوة هذه البينة هي أنها تدحض ادعاءات من افترى،و ادعى كذبا أن سيدنا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم استفاد من العلوم المتوافرة في عصره لتأليف القرآن.
فبإظهار الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم معلومات لم تكن معروفة في عصره،و هي من اختصاص علم اللّه تعالى،تنقطع الحجة بأن الرسول-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قد استفاد و تعلم من الأمم التي عاصرها،و بهذا لا يستطيع أحد أن ينفي أن معلوماته مستقاة من خالق الإنسان،و هذه الآيات التي فيها الإخبار بما لم يكن معروفا في زمنه هي من علم اللّه،و ستبقى منار هدى،و سبيل معرفة بأن القرآن هو كلام اللّه لكل إنسان في كل زمان و مكان.].
ص: 51
قال تعالى: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً [النساء:166].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (1):«أنزله بعلمه،أي:فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات و الهدى و الفرقان،و ما يحبه اللّه و يرضاه و ما يكرهه و يأباه،و ما فيه من العلم بالغيوب من الماضي و المستقبل».
و هكذا يسطع نور الوحي المنزل على سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بيّنا،بما نزل فيه من علم إلهي يدركه الناس في كل زمان و مكان متجددا على مر العصور،و لم يتأتّ ذلك لسائر النبيين-عليهم السلام-،و لذلك قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر،و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ،فأرجو أنّي أكثرهم تابعا يوم القيامة»[أخرجه البخاري ح 10].
و في القرآن توجد إشارات كثيرة إلى كشوفات علمية سيرفع عنها اللثام في المستقبل،و سوف تبقى ظاهرة متجددة إلى قيام الساعة،و هذه الأنباء موجودة في القرآن،و لكن حقائقها و كيفياتها لا تتجلى إلا بعد حين،قال اللّه تعالى: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ(87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88) [ص:87-88].
قال الفرّاء-من علماء اللغة-في تفسير الحين:إنه«بعد الموت و قبله..
أي في المستأنف» (2).
و ذهب السّدّي الكبير-من التابعين-إلى هذا المعنى (3).
و قال ابن جرير الطبري في تفسيره:«إن اللّه أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحدّ...و لا حدّ عند العرب للحين» (4).
و شاء اللّه أن يجعل لكل نبأ زمنا خاصا يتحقق فيه هذا النبأ،فإذا تجلى الحدث ماثلا للعيان أشرقت تلك المعاني التي تدلّ عليها الحروف و الألفاظ في القرآن،و في هذا الباب قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67].
و يبقى النبأ الإلهي محيطا بكل الصور التي يتجدد ظهورها عبر القرون،قال ابن).
ص: 52
جرير الطبري في تفسيره:«لكل خبر مستقر،يعني قرارا يستقرّ عنده و نهاية ينتهي إليه فيتبين حقّه و صدقه من كذبه و باطله» (1).
و قال الطبري أيضا:«يقول:و سوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به» (2).
و قال ابن كثير في تفسيره:«أي لكل خبر وقوع،و لو بعد حين،كما قال تعالى: وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88]و قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد:38]» (3).
و إلى هذا ذهب كثير من المفسرين (4).
و من هذا الباب أيضا قوله تعالى: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [النمل:93].
قال أبو حيان في البحر المحيط:« سَيُرِيكُمْ آياتِهِ :تهديد لأعدائه بما يريهم اللّه من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها و الإقرار أنها آيات اللّه» (5).
و إشارة أخرى من اللّه عزّ و جلّ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37].
قال القرطبي في تفسيره للآية (6):«و المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من المعجزات و ما جعله له» (7).].
ص: 53
و من المعجزات التي تتحدث عن المستقبل على سبيل المثال،ما قاله صلّى اللّه عليه و سلّم عما سيحل بأمته في آخر الزمان في الحديث:«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.قيل:أو من قلة نحن يومئذ يا رسول اللّه؟قال:بل إنكم يومئذ كثيرون و لكنكم كغثاء السيل،و لينزعن اللّه من قلوب عدوكم المهابة،و ليقذفن في قلوبكم الوهن،قيل:و ما الوهن يا رسول اللّه؟قال:حب الدنيا و كراهية الموت» [أخرجه أبو داود ح 11].
و من الأمثلة المستقبلية أيضا،ما جاء في القرآن عن كشف أسرار طبيعة الإنسان، و الذي سيكشفه العلم في المستقبل مصداقا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
و السين في قوله تعالى سَنُرِيهِمْ للاستقبال،و هي قرينة تدلّ على أن الفعل المضارع للاستقبال.
و الأفق:ما ظهر من نواحي الفلك و أطراف الأرض،و آفاق السماء:نواحيها (1).
قال الشوكاني عند تفسيره الآية:«سنريهم دلالات صدق القرآن،و علامة كونه من عند اللّه في الآفاق-أي في النواحي-و في أنفسهم».. (2).
و لقد وردت في القرآن الكريم-في عدة مواضع-آيات تؤكد على أن اللّه يعلم ما يجري في الأرحام،مثل:
*قال العليم الحكيم: وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ... [فاطر:
11].
*قال عزّ و جلّ: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان:34].
قال سبحانه و تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ... [آل عمران:6].
*قال علاّم الغيوب: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى... [الرعد:8].).
ص: 54
قال جلّ ذكره: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [النجم:32].
و تعدد إيراد هذه الآيات قد يكون للدلالة على مدى صعوبة كشف الأحداث المنوطة بتخلق الجنين في رحم الأم،و على مدى إعجازه،و لم تقتصر الآيات على التشديد على هذا الأمر بل تعدته لتعلن أن اللّه أعلم من الناس أنفسهم بتخلقهم، فلما ذا هذا التأكيد؟:وحدهم علماء الأجنة يستطيعون الإجابة على هذا السؤال؛ و ذلك لأن الرحم غير بارز،بل هو واقع في وسط الجسم،و من الصعب معرفة ما يجري فيه في مراحل تخلق الجنين الأولى إلا بواسطة المجاهر الإلكترونية التي لم تكن موجودة في عصر النبوة.فالجنين الذي يدور الكلام عليه لا يبلغ طوله أكثر من 1 ملم في مراحله الأولى و 13 ملم بعد تخلّقه و لا مجال لرؤية تفاصيله في الرحم إلا بواسطة تلك المجاهر المتطورة.
إن المعجزات الإخبارية الغيبية أقوى من المعجزات الحسية بالنسبة لعصرنا، ذلك لأن الإنسان يفتقد السيطرة على الأمور غير المرئية،و لا مجال لديه للاطلاع عليها أصلا،و لذلك كان حقا على ابن آدم أن يؤمن إذا أبلغ بها.
ص: 55
*قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كل شيء خلق من ماء»[أخرجه أحمد ح 12].
*قال اللّه عزّ و جلّ: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ... [الحج:5].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض...»[أخرجه الترمذي ح 64].
*قال اللّه علام الغيوب: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7].
*قال العليم الحكيم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12].
*قال الخالق سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].
*قال الواحد الأحد: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26].
*قال اللّه البارئ المصور: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14].
*قال اللّه العليم الحكيم: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17].
و قبل الخوض في موضوع«تخلّق الجنين في الرحم»،نود إلقاء نظرة على مسألة بداية الخلق:فمن هذه النقطة ابتدأ خلق الإنسان،و من هذا الباب خرج الإنسان إلى الوجود،و كان بالتالي أول الأسباب لإيجاد الأجنّة في الأرحام،و من هذه النقطة نستطيع النظر عن كثب إلى المادة التي خلقنا منها لكي يصبح الموضوع متكاملا،واضحا،مترابطا فيما بينه.
من الأمور التي لا مجال للنقاش فيها:مسألة خلق سيدنا آدم عليه السّلام،فلم يشاهد أحد ذلك و لا يستطيع أحد أن يزعم أن هناك آلة خاصة أو منهجية محددة تخلّق منها الإنسان الأول،و ذلك لأن هذا العلم و الخلق من اختصاص اللّه سبحانه و تعالى و من دلائل قدرته،فهو القائل: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].و لكن ما نستطيع أن نتعرف عليه هو المادة التي خلق منها سيدنا آدم عليه السّلام؛صفاتها،و مستلزماتها لكي تصبح مادة حيّة-أي مادة مكوّنة من خلايا-مهيّئة لتقبّل الروح بإذن من رب العالمين وفق السنن الكونية التي وضعها اللّه عزّ و جلّ.
ص: 56
و لا بد من ركيزة لهذه المعرفة،و هذه الركيزة لا بد من أن تتلقّى من رب العالمين؛فهو الخالق،و هو الأعلم بالمخلوقات التي خلقها،فهو القائل: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
هذه الركيزة هي آيات اللّه سبحانه و تعالى في كتابه الكريم و التي ذكرناها سابقا.
من هذه الآيات تتوضح لنا عدة أمور:
أولا:أن من عناصر المادة التي خلق منها سيدنا آدم عليه السّلام:الماء،كما في قول اللّه سبحانه و تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] و كما في قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كل شيء خلق من ماء»[أخرجه أحمد ح 12].
ثانيا:أن العنصر الثاني الذي كوّنت منه هذه المادة هو:التراب كما في قول اللّه سبحانه و تعالى: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ... [الحج:5]و في قول الرسول-عليه الصلاة و السلام-:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض...» [أخرجه الترمذي ح 64].
فإذا اجتمع التراب و الماء أصبحا طينا،و هذا ما أكده اللّه تعالى في قوله:
وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ... [السجدة:7]و كان هذا الطين رخوا لزجا،كما قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].قال الطبري:«و إنما وصفه باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء» (1).
و من صفات هذا الطين أنه أسود،أو أن صفاته تتغير إلى أن يصبح الطين مائلا إلى السواد،كما في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]،جاء في تاج العروس:«حمأ:الحمأة بفتح فسكون:الطين الأسود المتغيّر» (2)،و قال القرطبي:«(الحمأ):الطين الأسود...و(المسنون):المتغيّر» (3).».
ص: 57
و من صفات هذا الطين أيضا أنه منتن.عن ابن عباس و مجاهد:أن الحمأ المسنون هو المنتن (1).
جاء في لسان العرب:«و المسنون:المنتن» (2).
و من صفات هذه المادة أنها ليّنة بحيث نستطيع أن نصقلها صقلا،و أن نلمسها بسهولة لكي نصوّرها.
جاء في لسان العرب:«المسنون:المصقول من سننته بالمسنّ سنّا،إذا مرّرته على المسن،...و المسنون المصور و قد سننته أسنّه إذا صوّرته،المسنون المملس...و سنّ عليه الماء صبه و قيل أرسله إرسالا ليّنا،...و السنّ الصب في سهولة» (3).
و الآن بعد أن سردنا عناصر هذه المادة و صفاتها،نأتي إلى الحديث عن شروط عملية التكوين هذه التي وضعها سبحانه و تعالى.
نستخلص أول شرط من الآية الكريمة التالية: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14]،أي خلق أباكم آدم من طين يابس يسمع له صلصلة،أي:
صوت (4).
فإذا كان التراب معجونا بالماء كما أسلفنا القول فكيف يذكر الآن أنه يابس؟.
الجواب هو أن هذا الطين تعرض للحرارة حتى جف،و الدليل على ذلك قوله تعالى:
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ ،فالفخار يستلزم حرارة عالية ليصبح على ما هو عليه (5).».
ص: 58
أما الشرط الثاني فيتجلى لنا من الآية: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:
17] (1)،قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:«و أنشأكم من الأرض كما يخرج النبات» (2):أي أنبتكم من الأرض بالطريقة التي اتّبعت لإنبات النبات،و بالتالي فإن الطريقة المرموز إليها هي عملية(التمثيل الضوئي PHOTOSYNTHESIS )و اللّه تعالى أعلم،و ذلك أن النبات يعتمد خلال نموّه على عملية التمثيل الضوئي بحيث يحول بواسطتها مادة(ثاني أوكسيد الكربون 2CO )و مادة الماء إلى(مواد عضوية ORGANIC COMPOUNDS )(كمادة النشاء STARCH )و مادة الأوكسيجين من خلال مادة لونها أخضر(في الغالب)تسمى(كلوروبلاست CHLOROPLAST )موجودة داخل خلايا نسيج النبات الأخضر مستعينا بالطاقة الشمسية التي يلتقطها لاقط للضوء لونه أخضر هو الآخر يسمى(الكلوروفيل CHLOROPHYLL )موجود بدوره داخل مادة الكلوروبلاست (3).و الحاصل أن الكلوروفيل يلتقط الطاقة الشمسية و يستعملها لكسر ذرات الماء في النبات إلى أوكسيجين و هايدروجين،فأما الأوكسيجين فيطلقه النبات في الهواء و أما الهايدروجين فيستعمل لتحويل ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء إلى نشاء و سكر نباتي (4).و بالتالي فإن الكلوروفيل يعتبر المولّد للطاقة، و السبب الأول لحصول عملية التمثيل الضوئي و لإيجاد المواد العضوية،ى.
ص: 59
و الكلوروبلاست السبب الثاني و العملي لتصنيع البروتين النباتي،و كلاهما أخضر(ما عدا عددا قليلا من أنواع الكلوروبلاست).و الدليل على أن الآية وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17]تشير إلى عملية التمثيل الضوئي هي الآية: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً [الأنعام:99].فهذه الآية تتكلم عن نمو النبات على وجه عام،و قد أشارت إلى المادة الخضراء(من خلال إيراد كلمة«خضرا»)التي يتخلق منها النبات.و الهاء التي جاءت في الجملة: خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ تعود لكلمة«خضرا»و ذلك أن الضمير في اللغة العربية يعود لأقرب مذكور له (1)،و وظيفة كلمة«من»التي جاءت في اللفظ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ هي ابتداء الغاية (2)،و بالتالي فإن معنى الآية على النحو التالي: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً (نخرج بدءا من هذا الخضر حبا متراكبا...)،و كما رأينا سالفا فإن المواد العضوية تتخلق بدءا من المواد الخضراء:الكلوروفيل و الكلوروبلاست من خلال عملية التمثيل الضوئي، (و بالتالي فإن عملية الإنبات التي وردت في الآية رقم 17 من سورة نوح ترتكز على عملية التمثيل الضوئي التي تحصل في«المادة الخضراء»التي ذكرتها آية رقم 99 من سورة الأنعام)كما أثبته العلم الحديث و كما أشارت إليه الآيات القرآنية.و الإشارة إلى هذه المادة هو إعجاز بحد ذاته،لأن هذه المادة الخضراء غير مرئية،حيث إن حجمها يتراوح بين أربعة إلى ستة ميكرون طولا(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر)،و واحد إلى اثنين ميكرون عرضا،و لم يكتشفها العلماء إلا في القرن التاسع عشر على يد العالمين(هيوغوفون موهل HUGO VON MOHL )و(جوليوس فان ساش JULIUS VON SACHS ).أي بعد حوالي ألف و مائة سنة تقريبا!!!.
نستنتج إذا أن تكوين و خلق سيدنا آدم عليه السّلام استلزم التالي:
1-الماء.
2-التراب.».
ص: 60
3-كون الطين رخوا لزجا في بادئ الأمر.
4-كون الطين قريبا إلى السواد.
5-كون الطين منتنا.
6-خضوع الطين للحرارة العالية.
7-كون الطين ليّنا صالحا للصقل،و للتصوير.
8-عملية(التمثيل الضوئي)في عملية تخلّق المادة الحيّة أو الخلايا.
قبل بدء البحث في الشروط التي استخلصناها من الآيات و الأحاديث الشريفة التي أسلفنا ذكرها نود أن نلفت نظر القارئ إلى أن الإنسان يتغذى و يتكون من خلاصات الطعام،و الطعام إما أن يكون من مصدر نباتي أو من مصدر حيواني، و المصدر الحيواني يتغذى و يتكوّن على المصدر النباتي،و النبات ينبت من الأرض، و بالتالي فإن سلالته من طين.
لنر الآن ما ذا يقول العلم الحيوي في صدد الشروط التي ذكرناها سابقا:
يفيد العالم في(علم التبيؤ ECOLOGY SCIENCE )(و هو علم الأحياء الذي يدرس العلاقات بين الكائنات الحية و بيئتها)(دايفد أتامبورو DAVID ATTENBOROUGH ):«إنه مما لا شك فيه أن أساس تركيبات البروتينات مثل (الحامض الأميني AMINO ACID )و(الحامض النووي NUCLEIC ACID ) و السكريات و غيرها قد تكونت في البحار في بادئ التاريخ» (1)معتمدا على بعض التجارب المخبرية التي أجريت عام 1950 م.و هذا ما يؤكد أن كل شيء حي خلق من الماء مصداقا لقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]و ذلك لأن تلك الذرات(أي الحامض الأميني و غيره)هي أساس تركيبات الكائنات الحيّة.
و يفيد عالم التبيؤ دايفد أتامبورو أيضا أن أبسط صور للكائنات الحية مثل البكتيريا،و(الطحالب الزرقاء و الخضراء BLUE-GREEN ALGAE )،و(البروتوزوا PROTOZOA )الآحادية الخلية تعيش في الماء و تحتاج لعملية(التمثيل الضوئي)لكي تبقى على قيد الحياة.(انظر الصورتين رقم:14-15)،و هذا ما يؤكد أن الخلايا أو المادة الحيّة تعتمد على العملية التي تمتاز بها النباتات خلال تكاثرها،و هكذا نفهم لما ذا قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17].2.
ص: 61
ص: 62
و بما أنه كان من المتعذر علينا مشاهدة حادثة خلق أبينا آدم عليه السّلام،فالطريقة الوحيدة التي تتيح لنا أن نتحقق عمليا من النقاط التي أوردناها أعلاه هي إيجاد وسط اصطناعي مخبري يخضع للشروط التي أسلفنا ذكرها،أو النظر إلى وسط طبيعي يمتاز بهذه الشروط لنرى مدى تشابه حصيلة اجتماع تلك المستلزمات بالشروط المرموز إليها في القرآن الكريم.
و بما أنه من المتعذر علينا في عصرنا هذا صناعة خلايا معقدة في وسط مخبري يتصف بالشروط التي أتينا على ذكرها،فقد اخترنا النظر عن كثب إلى وسط طبيعي يتصف إلى حد ما بالشروط التي ذكرناها آنفا،من غير أن نحدد أو نجزم بالمكان الذي خلق فيه الإنسان الأول.
يشير العالم دايفد أتامبورو (1)إلى منطقة تقع في الولايات المتحدة تسمى:
منطقة(يالوستون YELLOWSTONE )في ولاية(وايومينغ WYOMMING )،يقول:
إن هناك الكثير من البكتيريا التي تتولد في هذه المنطقة البركانية ذات الصخور المائعة -أي الطين-(انظر الصورة رقم:16)،و من هنا نفهم لما ذا قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].
و يتفجر من هذه الصخور الماء مصداقا لقول اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]،و هذه المياه ذات حرارة عالية لأنها تنبع وسط أرض بركانية، مما يطابق المعطيات القرآنية في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14]،و من هذه الصخور تفوح رائحة البيض المعفن الناتجة من رائحة الهيدروجين الكبريتي(الذي يتولد من تفاعل الكبريت المعدني مع المياه الجوفية) و التي تعتمد عليه تلك الكائنات الحية في غذائها و تكاثرها،و هذه الصخور ليّنة بحيث إن لها القابلية على أن تنصقل و تملّس«فأكثر أنواع الكبريتيد ليّنة» (2)،و تلك الصفات تحدّث عنها القرآن في الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:
26]،أي من طين منتن كما فسره ابن عباس رضي اللّه عنهما و مجاهد رحمه اللّه،و هذا الطين له القابلية على أن ينصقل بسهولة كما جاء في لسان العرب:«المسنون:المصقول...
المسنون:المملّس...و سنّ عليه الماء:صبه،و قيل:أرسله إرسالا ليّنا،و السن:).
ص: 63
(16)-تتوالد البكتيريا في منطقة(يالوستون Yellowstone )في أمريكا و هي منطقة بركانية ذات حرارة عالية.
الصب في سهولة» (1).و هذه الصخور تميل إلى السواد لأنها من مشتقات الكبريت المعدني مما يفسر قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ... [الحجر:
26]،أي من الطين المتغير إلى السواد،«فالكبريتية يأتي في عدة ألوان حسب صفائه من الشوائب،و لكن الصفرة و السواد المعدني و السخامي(أي القاتم)يغلب عليه» (2).).
ص: 64
يقول الدكتور محمد علي البار (1):«و يقول العلم الحديث إن نشأة الحياة كانت من الطين الآسن..طين المستنقعات التي تتصاعد منه الغازات الكريهة الرائحة..
و هي غاز(الميثان METHANE )و(غاز كبريتور الهيدروجين H2S )و غاز النشادر (الأمونيا AMMONIA )و ترى صورة ضخمة في قاعة المتحف الطبيعي بلندن تصور كيف تجمعت هذه الغازات المنتنة من الحمأ المسنون لتكوّن الأحماض الأمينية ثم كيف تطورت هذه لتكوّن البروتينات و أهمها الحامض النووي الذي به سر الحياة».
و من هذه النقاط نرى توافق المعطيات العلمية مع المعطيات الدينية على النقاط السبع المنطوية في الآيات القرآنية أ لا و هي:الماء،التراب،أن يكون الطين مائعا، أن يكون التراب قريبا إلى السواد،أن يكون التراب منتنا،أن يخضع التراب للحرارة العالية،و أن تستعمل عملية التمثيل الضوئي في عملية تكاثر الخلايا.7.
ص: 65
*قال عزّ و جلّ: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً(13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً(14) [نوح:13-14].
*قال العليم الحكيم: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ...
[الزمر:6].
إن التخلق الإنساني معقد للغاية؛و ذلك لأن تركيبة الإنسان البيولوجية و صورته تختلف و تتغير مع مرور الوقت،لذلك إذا أراد الإنسان أن يفهم تطور الجنين في رحم أمه،فإن أفضل طريقة لذلك هو أن يقسم تطور الجنين إلى عدة مراحل محددة بأوقات زمنية،و لها مميزات خاصة تدل على ما يطرأ عليها من تغييرات على الجنين.
و الطّور لغة:هو الحال أو الهيئة (1).
و من هذا التفسير نفهم أن الآية السابقة تعني: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً (-أي عظمة و جلالا-و قد خلقكم على هيئات).
و بما أن لفظ طور أتى في صيغة الجمع فقد دلّ ذلك على أن الهيئات مختلفة.
يؤكد هذا المفهوم الآية الثانية في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ... [الزمر:6]،فعبارة«خلقا من بعد خلق»تنص على أن خلقا جديدا يضاف إلى خلق آخر قد تم من قبل،أو بعبارة أخرى إلى طور جديد قد حدث.
و لمزيد من التفسير نورد ما جاء في تفسير الألوسي:«و صيغة المضارع للدلالة على التدرج و التجدد،و قوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ مصدر مؤكد إن تعلق من بعد بالفعل،و إلا فغير مؤكد،أي:يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا،من بعد عظام مكسوة لحما،من بعد عظام عارية،من بعد مضغة غير مخلقة،من بعد علقة، من بعد نطفة،فقوله سبحانه: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين..» (2).
و بالفعل سوف يتيقن القارئ عبر قراءته للكتاب أن الجنين يمر بمراحل مختلفة.
ص: 66
و لقد فهم بعض فقهاء الصحابة رضوان اللّه عليهم المفسرين للقرآن معنى هذه الآيات:جاء في تفسير القرطبي تفسيرا لكلمة«أطوارا» (1):«قال ابن عباس:أطوارا يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة»و هو يشير بذلك-كما سنراه لا حقا-إلى مراحل تخلق الجنين التي وردت في الآية الكريمة: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14].
و ورد في تفسير القرطبي تعليقا على عبارة خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ (2):«قال قتادة و السدي:نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما».
و تجدر الإشارة هنا إلى أن أول من اكتشف أن تطور الجنين يمر في مراحل هو (أرسطو ARISTOTLE )في القرن الرابع ق.م،من خلال أبحاثه على الدجاج.غير أن هذه الأبحاث لم تكن هامة لسببين:
الأول:أنه لم يعط تفاصيل عنها.
و الثاني:أن المراحل الابتدائية للدجاج لا تنطبق على المراحل الأولى للتخلق البشري.و ظل بعدها العلم المختص بتقسيم تخلق الجنين إلى أطوار ضعيفة للغاية حتى القرن العشرين.و في أواسط القرن السابع عشر اكتشف المجهر،و قد أدى هذا التطور إلى اكتشاف الحيوان المنوي،و اعتقد العلماء في ذلك الحين أن كل حيوان منوي يحمل كائنا بشريا في داخله،(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»).و في عام 1675 م ظن العالم مالبيجي-الذي يعتبر أبا لعلم الأجنّة الحديث-أن بيضة الدجاج غير المخصّبة تتضمن شكلا مصغرا لدجاجة،على إثر دراسته لبيضة دجاجة غير ملقحة.
إن الصورة التي كانت سائدة لدى سائر العلماء هي أن الحيوان المنوي أو البويضة يحمل كائنا بشريا دقيق الحجم و أن التخلق الإنساني ليس إلا زيادة في الحجم لصورة واحدة تتسع أبعادها مع مرور الوقت(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث:
«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»)،غافلين عن أن تخلق الجنين يمر بمراحل مختلفة،و لم ينته الجدل بين العلماء إلا عام 1775 م عند ما أثبت(اسبالانزاني SPALLANZANI )أهمية كل من الحيوان و البويضة في عملية التخلق.).
ص: 67
و كانت هذه الحادثة انطلاقة جديدة لمفاهيم تخلق الأغشية الجنينية التي وضع أسسها(فون باير VON BAER )عام 1827 م مشيرا إلى مراحل تطور الجنين،بيد أن أول محاولة لوصف مراحل تخلق الجنين ظهرت عام 1914 م على يد(مول MOOL ) و من ثمّ ابتدأ وصف المراحل الجنينية يتطور على أيدي العلماء إلى يومنا هذا أمثال (ستريتر STREETER )و(أورايلي OREILLY )و غيرهما.و يرمز علماء الأجنّة اليوم إلى مراحل تخلّق الجنين بواسطة أرقام عديدة تجعل تصنيف المراحل معقدا للغاية.
لقد ذكر القرآن الكريم و السنّة المطهرة منذ أربعة عشر قرنا الحقيقة العلمية و هي أن التخلق البشري يتم على مراحل،و لم تكن هذه الحقيقة معروفة للعلماء غير المسلمين حتى منتصف القرن التاسع عشر،و بذلك يكون سيد البشرية،معلم الخلائق-عليه الصلاة و السلام-السبّاق في هذا المجال بما أوحى اللّه إليه.
و سنتناول في هذا الكتاب كل مرحلة على حدة في مقاطع وضعناها وفق ترتيب حصولها.
ص: 68
لقد وضع العلماء في بداية محاولاتهم لوصف تخلق الجنين حرفا أبجديا لوصف كل مرحلة من المراحل التي يمر بها الجنين،ثم غيّرت الحروف إلى أرقام، إلا أن هذه الحروف و الأرقام لم تحمل مفهوما وصفيا مميزا لمرحلة دون أخرى.
و من ثم حاول العلماء وضع تسميات مناسبة لكل مرحلة،غير أنهم ما زالوا يجدون صعوبة في اختيار تسميات مناسبة لوصف الملامح الأساسية لكل مرحلة.
و التسميات المستعملة حاليا لوصف هذه المراحل لا تبرز الصفات المميزة للجنين في كل مرحلة،و قد يستعمل الترقيم التعددي لذلك،دون إشارة إلى أي وصف.
من هذا المنطلق ينبغي استعمال مصطلحات متطورة أكثر من التي استعملت من قبل العلماء تبرز صفات الجنين،و يجب أن يكون هناك توافق تامّ بين التسمية و بين طبيعة التطور و الأحوال التي يمر بها الجنين في هذه المرحلة،و لكي نتجنب الالتباس بين مرحلة و أخرى يجب أن يكون المصطلح واصفا للمظهر،و أن يعكس العمليات التي تحدث في كل طور و أن يحدد بداية و نهاية واضحة لكل مرحلة.
لذلك كانت المصطلحات الواردة في القرآن و السنة تتميز بالبساطة و الشمولية، كما أنها تتصف بالإيجاز و كثافة المعلومات التي تلقيها على المستمع،إضافة إلى انسجامها مع علم الأجنّة الحالي،و هي مع ذلك معبرة عن التغيرات الداخلية التي تطرأ على الجنين،و عن الأوصاف الخارجية معا.
أما البساطة فهي مشار إليها في الآية التالية: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:
17]،و التيسير هو جعل المعنى بسيطا قريبا إلى أذهان مختلف طبقات الناس.
و أما الشمولية و غزارة المعلومات مع الإيجاز و كثرة المعاني في التعبير فقد أشار إليها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13]،و جوامع الكلم هو جمع أكثر من معنى في كلمة واحدة.
ورد في«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (1):«و جوامع الكلم:القرآن فإنه
ص: 69
تقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة،و كذلك يقع في الأحاديث النبوية الكثير من ذلك».
و جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«أعطيت جوامع الكلم)و في الرواية الأخرى(بعثت بجوامع الكلم)قال الهروي:يعني به القرآن،جمع اللّه تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة،و كلامه صلّى اللّه عليه و سلّم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني».
و كذلك قيل في شرح سنن النسائي للسيوطي و السندي (2).
و ورد في عون المعبود شرح سنن أبي داود (3):«(يستحب الجوامع من الدعاء):أي الجامعة لخير الدنيا و الآخرة،و هي ما كان لفظه قليلا،و معناه كثيرا».
و أفضل ما يقال في هذا المجال-بعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-:اللفظ قائم، و المعاني مختلفة،تدور حوله.
نستنتج من التعليقات التي وردت في كتب شروح الحديث و التي سردناها آنفا أن كلام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يحتوي على الكثير و العديد من المعاني،و هذه القاعدة تطبّق أيضا على كلام اللّه تعالى.و هذا المنهج يفتح الباب على مصراعيه لوصف مراحل تطور الجنين و إلقاء الضوء على التغيرات و العمليات التي تطرأ عليه من عدة أوجه بعبارات وجيزة،و هكذا فإن المنهجية في وصف الأطوار الجنينية تقتضي البحث عن معاني كلام اللّه تعالى،و كلام رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم في الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة، و تخريج الأوجه الخفية منها بشرط أن لا تتعارض فيما بينها،و أن تكون منضبطة ضمن قواعد اللغة العربية،و أن تتفق مع العلم الديني و الدنيوي.
و نحن نقترح-خدمة للإنسانية جمعاء على وجه العموم،و للطب على وجه الخصوص-«قرأنة»المصطلحات التي تشير إلى مختلف المراحل الجنينية لأن كلمات القرآن الكريم،و الحديث الشريف شاملة و أيسر من التي وضعها علماء الأجنّة (و انظر في آخر الكتاب جدول«قرأنة مصطلحات المراحل الجنينية»).).
ص: 70
لكي لا يلتبس الموضوع على القارئ نريد في البداية أن نوضح ما يلي قبل الاستفاضة في الشرح:
للرجل نوعان من السوائل من حيث آلية الإفراز من العضو التناسلي:
أولها:سائل شفاف يسيل من العضو التناسلي للرجل،و ليس له علاقة في تكوين الجنين،و مهمته تنظيف القناة البولية عند الرجل قبل خروج سائل ثان (المذكور فيما يلي)،و هذا السائل يخرج عند شهوة الرجل.
ثانيها:سائل متدفق يخرج من العضو التناسلي للرجل،و قدر هذا السائل حوالي ثلاثة و نصف من المللتر و هذا السائل يحتوي على الحيوانات المنوية التي هي سبب لتخلق الجنين لأنها تلقح بويضة المرأة،و هذا السائل يخرج عند اشتداد شهوة الرجل.
و للمرأة نوعان من السوائل من حيث آلية الإفراز من العضو التناسلي:
أولها:سائل لزج يسيل و لا يتدفق و هو ماء المهبل...و ليس له علاقة في تكوين الجنين،و مهمته المساعدة في الإيلاج-أي في إدخال إحليل الرجل في مهبل المرأة-،و في ترطيب المهبل و تنظيفه من الجراثيم و الميكروبات،و هذا السائل يخرج عند شهوة المرأة.
ثانيها:سائل متدفق يخرج من المبيض مع كل بويضة،و قدّر هذا السائل عشرة إلى خمسة عشر مليليتر،و هذا السائل يحتوي على البويضة التي هي سبب لتخلق الجنين لأنها تجتمع مع الحيوان المنوي،و هو يخرج مرّة كل شهر.
المني:ورد في لسان العرب (1):«مني:المنى بالياء:القدر».
و جاء أيضا في نفس الكتاب:«(قال)أبو بكر:تمنّيت الشيء أي قدّرته و أحببت أن يصير إليّ،من المنى و هو القدر...».
ص: 71
و جاء أيضا:«يقال منى الرجل و أمنى من المنيّ بمعنى،و استمنى أي استدعى خروج المني» (1).
إذا فأصل كلمة مني هو القدر،و المني سمّي منيّا لأن الإنسان يقدّر نزوله، و يتمنّى حصول الشهوة بنزوله.
و من الجدير بالذكر أن لفظ«منيّ»لفظ خاص،لأنه وضع للسائل الذي يخرج بشهوة الإنسان.
و اللفظ الخاص هو اللفظ الموضوع وضعا واحدا لكثير محصور،أو لواحد سواء أ كان شخصيا،أم نوعيا،أم جنسيا (2).
و بالتالي فدلالته على معناه دلالة قطعية،و هذا يعني أن لفظ«مني»يدل فقط على المعنى الذي أوردناه سابقا و لا يصرف عن معناه الذي وضع له إلى غيره إلا بدليل يدل على ذلك.
و هكذا فإن لفظ«مني»لا يصح أن نصرفه إلا للسائل الذي يخرج من خلال شهوة الإنسان.
الماء:الماء هو-كما جاء في القرآن الكريم-السائل الذي يتخلق منه الجنين كما في الآية: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
و من الجدير بالذكر أن لفظ«ماء»من أسماء الأجناس التي تدل على ماهية الشيء،و هو بالتالي من ألفاظ العموم.
و اللفظ العام هو اللفظ الدال على كثيرين،المستغرق لما يصلح له،بحسب وضع واحد،دفعة واحدة من غير حصر (3).0.
ص: 72
و هذا يعني أن اسم الجنس إذا عرّف بأل التعريف،فيشمل و يتناول ما وضع له من أفراد مفهومه.
و هكذا فإن لفظ«الماء»قد يطلق على أي نوع من السوائل،سواء أ كانت تسبّب التخلق أم لا،و هو بذلك قد يدل على المني أو على أي سائل آخر في الرحم.
سائل المبيض:هو السائل الذي يخرج من المبيض و الذي يحتوي على البويضة و يتخلق منه الجنين،و لذلك يسمى ماء على وجه التحديد في مجال علم الأجنة وفقا لما جاء في القرآن.
إن السائل الذي يخرج من المبيض لا يخرج عند شهوة المرأة،و لكن يخرج في أوقات محددة في الشهر،و لذلك فلا يصح أن يسمى منيّا،للدليل الذي سقناه سابقا في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني».
و هكذا،فإن هذا السائل يسمى ماء فقط.
سائل المهبل:هو السائل الذي يخرج من المهبل تقدّر المرأة نزوله،و تتمنى حصول الشهوة بنزوله،و لذلك يسمى منيا وفقا للمعنى اللغوي الذي أوردناه سابقا.
إن السائل الذي يخرج من المهبل لا يتخلق منه الجنين،غير أنه في نهاية الأمر سائل من السوائل،و بالتالي فقد يشار إليه بالماء على اللفظ العام،كما أشرنا إليه سابقا في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني».
و هكذا،فإن هذا السائل يسمى منيّا على اللفظ الخاص،و ماء على اللفظ العام.
سائل الرجل:هو السائل الذي يخرج من إحليل الرجل يحتوي على الحيوانات المنوية و يتخلق منه الجنين،و بالتالي يسمى ماء على وجه التحديد في مجال علم الأجنة وفقا لما جاء في القرآن.
إن السائل الذي يخرج من إحليل الرجل يقدّر الرجل نزوله،و يتمنى حصول الشهوة بنزوله،و لذلك يسمى منيا على وجه التحديد وفقا للمعنى اللغوي الذي أوردناه سابقا.
ص: 73
و هكذا فإن هذا السائل يسمى منيا و ماء على وجه التحديد في الوقت نفسه.
أما الماء الذي يسيل من إحليل الرجل عند شهوته قبل خروج المني،و الذي لا يحتوي على الحيوانات المنوية،فليس له أثر يذكر على عملية تخلق الجنين،و لذلك لن نتحدث عنه في هذا البحث،و نظرا لدقة الألفاظ،سمّته الشريعة الإسلامية المذي للتفريق بينه و بين المني للحديث:عن عليّ رضي اللّه عنه أنّه قال:استحييت أن أسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن المذي من أجل فاطمة فأمرت المقداد فسأله فقال:«منه الوضوء» [أخرجه مسلم ح 102].
و في كلمة مختصرة:فإن سائل المهبل يسمّى منيّا فقط،و سائل المبيض يسمّى ماء فقط،و سائل الرجل الذي يخرج عند الجماع يسمّى منيّا أو ماء،و سائل الرجل الذي يخرج عند الشهوة قبل القذف يسمّى مذيا فقط.
الآيات و الأحاديث التي جاءت في هذا المجال هي:
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
*قال اللّه تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172].
*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].
*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].
*عن أم سلمة رضي اللّه عنها:جاءت أمّ سليم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه إن اللّه لا يستحيي من الحق،فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»فغطت أم سلمة-تعني وجهها-و قالت:أو تحتلم المرأة؟فقال:«تربت يمينك فبم يشبهها ولدها؟»[أخرجه البخاري ح 14].
*عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم...قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].
ص: 74
من خلال الآيات الحكيمة و الأحاديث الشريفة السابقة الذكر يمكن أن نستنتج ثمانية نقاط:
*النقطة الأولى:أن للمرأة منيّا كما أن للرجل منيّا.
*النقطة الثانية:أن لمنيّ الرجل و منيّ المرأة دورا في إتمام تسهيل عملية إذكار أو إيناث الجنين.
*النقطة الثالثة:أن كلاّ من ماء الرجل و ماء المرأة يشارك في تخلق و إذكار أو إيناث الجنين.
*النقطة الرابعة:أن لماء المرأة و لماء الرجل دورا في شبه الجنين بأمه أو بأبيه.
*النقطة الخامسة:أن هذا الماء متدفق-أي يخرج بقوة و بسرعة مع ضغط-.
*النقطة السادسة:أن هذا الماء ليس متدفقا فحسب بل هو دافق-أي يملك قوة دفع ذاتية-.
*النقطة السابعة:أن مكونات هذا الماء تخرج من الظّهر و تحديدا من مكان موجود ما بين الصلب و الترائب.
*النقطة الثامنة:أن ماء المرأة أصفر.
*الحديث الأول:عن أمّ سلمة جاءت أمّ سليم رضي اللّه عنهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه إن اللّه لا يستحيي من الحق،فهل على المرأة من غسل إذا هي احتملت؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»،فغطّت أم سلمة-تعني وجهها- و قالت:أو تحتلم المرأة؟فقال:«تربت يمينك فبم يشبهها ولدها»[أخرجه البخاري ح 14].
*الحديث الثاني:عن أمّ سليم رضي اللّه عنها قالت:إنها مجاورة أمّ سلمة رضي اللّه عنها زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فكانت تدخل عليها،فدخل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:يا رسول اللّه أ رأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أ تغتسل؟فقالت أم سلمة:تربت يداك يا أم سليم فضحت النساء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:إن اللّه لا يستحيي من الحق و إنا أن نسأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عما أشكل علينا خير من أن نكون منه على
ص: 75
عمياء،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأم سلمة:«بل أنت تربت يداك،نعم يا أم سليم عليها الغسل إذا وجدت الماء»،فقالت أم سلمة:يا رسول اللّه،و هل للمرأة ماء؟!،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنى يشبهها ولدها؟هن شقائق الرجال»[أخرجه أحمد ح 77].
يؤكد الحديث الأول أن المرأة تحتلم.
و الاحتلام في نظر الصحابيات-رضي اللّه عنهن-هو ورود الشهوة خلال النوم،و الدليل على ذلك أن أم سليم قالت-على سبيل الإيضاح-بخصوص موضوع الاحتلام،في الحديث الثاني:«إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام»[أخرجه أحمد ح 77].
و يصاحب الاحتلام في أغلب الأحيان،خروج ماء عند المرأة(غير مخاطية عنق الرّحم).
هذا الماء في نظر الشرع الإسلامي هو المني.
جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري (1):«قوله:إذا رأت الماء:أي المني بعد الاستيقاظ...».
و كما أشرنا إليه في نص«التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني»الذي أوردناه سابقا (2)،فلفظ الماء هو لفظ عام،و قد يشير إلى أيّ سائل يفرزه الرحم،فلا يوجد بذلك تعارض بين دلالة لفظ الماء الظاهر في الحديث و بين تفسير العلماء على أنه المني.
إن معرفة الصحابيات بالاحتلام لا يعني أنهن يعلمن أن للمرأة منيّا يخرج عند الاحتلام؛فأم سلمة رضي اللّه عنها كانت على شك من أمرها لأنها قالت:«يا رسول اللّه، و هل للمرأة ماء؟!»[أخرجه أحمد ح 77].
هذه الحادثة تدل على قلّة المعرفة التي كانت سائدة في أوساط الجزيرة العربية في هذا الجانب العلمي-«مجال الإفرازات المهبليّة»-،كما أنه إشارة إلى كون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم معلّما لأمته في مجال علم الأرحام،مصداقا للحديث الشريف:«إنما بعثت معلّما»[أخرجه ابن ماجة ح 78].
فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و أكّد أن المرأة تفرز منيا قياسا على ما يفرز ولدها من مني،بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنى يشبهها ولدها،هن شقائق الرجال»[أخرجه أحمد ح 77].6.
ص: 76
فشبه المرأة بولدها هو أنها تفرز ماء كما يفرز ولدها ماء لأنها من نفس الجنس.
جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي عن معنى«الشقائق» (1):«قال ابن الأثير:أي نظائرهم و أمثالهم،كأنهن شققن منهم،و لأن حواء خلقت من آدم عليه السّلام».
و جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري (2):(و قد روى أحمد من حديث أم سليم رضي اللّه عنها في هذه القصة أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت:«يا رسول اللّه و هل للمرأة ماء؟!،فقال:هن شقائق الرجال»،و روى عبد الرزاق الصّنعاني في هذه القصة«إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل»،و روى أحمد من حديث خولة بنت حكيم رضي اللّه عنها في نحو هذه القصة:«ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل).
و نود الإشارة هنا إلى أن خروج المني عند الاحتلام غير واضح للمرأة،و ذلك لأن هناك سوائل أخرى تخرج من رحم المرأة،و لا سيما ما يسمّى بالطّهر(و المخاط عند وقت الإباضة)،غير أن ما يميّز المني هو كثرته(و تركيبته الكيميائية)،و لذلك قال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»[أخرجه البخاري ح 14]،فلا بد أن يخرج هذا السائل بكثرة ليكون بيّنا و تراه المرأة بعد سيلانه.
ورد في شرح سنن ابن ماجة للسّندي (3):«أثبت أنها يمكن أن تحتلم،إذ خروجه ممكن إذا كثر و أفاض».
و هذه نظرة دقيقة للأمور بفتح من اللّه عزّ و جلّ على رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم.
و هكذا أكّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن للمرأة منيا.
و قد ثبت علميا،أن الطّهر يختلف عن المني بشيئين:أولا بكميته،و ثانيا بنسب التركيز في عناصر السوائل التي تؤلّفه.
فخلال الجماع يفرز حائط المهبل(الغشاء المخاطيّ TRANSUDATE )، و يحتقن عنق الرحم بالأوردة،و يخرج من الغدد-خصوصا(غدد سكن).
ص: 77
SKENE GLANDS )و(غدد بارثولين BARTHOLIN GLANDS ) (1)-إفرازات بكمية كبيرة،و بذلك فإن مني المرأة مكوّن من عدة سوائل على غرار مني الرجل المكون-هو أيضا-من عدة سوائل و لا سيما إفراز(البربخ EPIDIDYMIS )،و(الحويصلة المنوية SEMINAL VESICLE )،و(غدد البروستاتا-الموثة- PROSTATE GLANDS )، و غدد صغيرة تقع حول مجرى البول تدعى(غدد كوبر COWPER GLANDS ).
التمييز بين ماء المبيض و المني عند المرأة:
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا مني المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].
إن هذا الحديث يحتاج فهمه إلى دقة علمية و لغوية لكي يفسّر على الوجه الصحيح؛فالاكتشافات العلمية و المفردات التي ينتقيها الرسول-عليه الصلاة و السلام-ثم صياغة الحديث،هي التي تضع الأسس الواجب انتهاجها عند البحث عن الحقيقة.
و كما أسلفنا القول فإن للمرأة نوعين من السوائل من حيث آلية الإفراز:
-سائل يتدفق من المبيض و يحتوي على البويضة،و هو السبب في تخلّق الجنين.
-و سائل تفرزه المرأة عند الجماع و عند الشهوة،و هذا السائل ليس له دور في تخلّق الجنين.
و تختلف وظيفة هذين السائلين،و ذلك تبعا لاختلاف خصائص كل منهما، و اختلاف تركيبتهما الكيميائية.
و لذلك،فقد فرّق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بين هذين السائلين،في حديثه الشريف المتعلق بعملية إذكار أو إيناث الجنين.
و التفريق يحصل من خلال صياغة الحديث،و انتفاء المفردات الملائمة لكل سائل.
و التفريق بين السائلين يتمّ من خلال استعمال كلمتين مختلفتين(ماء)و(مني)ن.
ص: 78
لهما دلالات مختلفة في حديث واحد،حيث تعود كلمة(ماء)لسائل المبيض، و تعود كلمة(مني)لسائل عنق الرّحم (1).
و التفريق يتمّ من خلال ذكر عمليتي اختلاط متعاقبتين(علا)و(أذكرا)أو(آنثا) لسائلين مختلفين(مني)و(ماء)،و ذلك إن أحسنا فهم الحديث على أنه لا يشير إلى عملية اختلاط واحدة لسائل واحد(على عكس ما فهمه الكثير من العلماء)،و إن أصبنا في إعادة ألف التثنية لكلمة(اجتمعا)و ألفي التثنية لكلمتي(أذكرا)و(آنثا) للفاعلين المناسبين،فكثير من العلماء لم يفرّقوا بين كلمة(ماء)و كلمة(مني)، و اعتبروهما سائلا واحدا،و بالتالي فهموا أن ماء الرجل و ماء المرأة(أو مني الرجل و مني المراة-حيث لا فرق عندهم بين الكلمتين-)يختلطان،فيعلو الواحد الآخر،فينتج عن ذلك إذكار أو إيناث الجنين.
و هذا خطأ لعدّة أسباب:أن ماء المرأة مختلف عن مني المرأة،و لا يختلط ماء المرأة بماء الرجل في بادئ الأمر،و إنما يختلط في البداية مني المرأة بمني الرجل، و من ثمّ يختلط ماء الرجل(بالمعنى الخاص)بماء المرأة،فينتج عن ذلك إذكار أو إيناث الجنين.
و تفصيل ذلك فقهيا و علميا:
بداية سوف نتحدث عن ألف التثنية لفعل«اجتمعا»الذي ورد في الحديث الذي أسلفنا ذكره.
إن ألف التثنية هذه قد تعود إلى الرجل و المرأة كما قد تعود لماء الرجل و ماء المرأة و قد ورد ذكر كل منهما في الحديث.
إن الماء الذي يخرج من المبيض يتبعثر في(التجويف البطني PERITONEAL CAVITY )،و ما يصل منه إلى(قناة فالوب FALLOPIAN TUBE )يختلط بالسائل الذي يغطيها،و بالسوائل الأخرى التي تفرزها غدد رحمية موجودة في الرحم مثل (لبن الرحم UTERINE MILK ) (2)،و بالتالي ما يخرج من عنق المهبل،في حال خرج منه،تخف خصائصه و تضعف قبل أن تتفاعل مع مني الرجل و بذلك لا يكون هذا السائل مميّزا عن غيره من السوائل،و هذا يعني أنه بعيد عن ماء الرجل الذي يقع في مهبل المرأة،فلا مجال إذا للاختلاط مباشرة به فور جماع الرجل لامرأته.5.
ص: 79
و من هذا الشرح نفهم أن ألف التثنية لفعل«اجتمعا»تعود للرجل و المرأة و ليس لماء الرجل و لماء المرأة و ذلك لأن ماء المبيض و ماء الرجل لا يجتمعان في بادئ الأمر.
هذا المفهوم يؤيده الحديث التالي الذي سنأتي على تفسيره في مبحث«اختلاط عروق النطفة»و هو«إذا أراد اللّه تعالى أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة...» [رواه الطبراني ح 21]،ففي هذا الحديث يظهر جليّا أن فعل«جامع»يعود للرجل و المرأة فقط لأنه لا يوجد ذكر لأي من السوائل فيما قبل،و الحديث يفسّر بعضه بعضا.
أما الماء الثاني الذي يفرز من قبل المرأة عند الجماع فهذا يفرز من(عنق الرحم CERVIX )و من غدد أخرى مثل:(غدد بارثولين)و(غدد سكن)و هو يختلط (أو يجتمع)بماء الرجل في المهبل فور الجماع كما جاء في الحديث الشريف أعلاه:
«...فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة...»[أخرجه مسلم ح 9].
لذا نجد أنفسنا أمام نوعين من السوائل يتحدث عنهما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،أحدهما يختلط بعضه ببعض أولا بأول،عند الجماع،و يسمى«منيا»،و الثاني لا يختلط بعضه ببعض في بادئ الأمر،فور الجماع،و يسمى ماء.
أما ألف التثنية لفعلي(أذكرا)و(آنثا)فتعود لماء الرجل و ماء المرأة(كما سنراه في تفسير النقطة الثالثة)،حيث يشتركان معا في إذكار أو إيناث الجنين،و بالتالي فإن الحديث ينص أن هناك جماع الرجل للمرأة،و من ثمّ علو مني الرجل لمني المرأة(أو العكس)،و من ثمّ إذكار أو إيناث الجنين من جراء اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
و يظهر بالتالي فكّ الإشكال سابقا من أن ألف التثنية في(اجتمعا)تعود للرجل و المرأة بذاتهما،و ألف التثنية في(أذكرا،آنثا)تعود إلى مائهما (1).س-
ص: 80
ص: 81
و مما يجدر ذكره هنا أن المني عند المرأة يطلق عليه اسم الماء،و ذلك لأنه في نهاية الأمر سائل من السوائل كما أوضحنا سابقا،أما ماء البويضة فلا يسمى منيا، و ذلك لأنه لا يخرج عند الشهوة،و لكن يخرج في وقت محدد من كل شهر(و هو اليوم الذي يأتي قبل أربعة عشر يوما من أول يوم للحيض المقبل)و لذلك ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث أم سلمة الماء و إن كان الحديث يدور على المني أصلا (1)، و امتنع في حديث الإذكار أو الإيناث عن ذكر كلمة الماء فقط بل استعمل في صياغة الحديث كلمتي(الماء)و(المني).
إذكار أو إيناث الجنين):
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].
إن الفعل الرئيسي في الحديث النبوي الذي يشرح عملية الإذكار أو الإيناث هو فعل«علا».
و هذا الفعل له عدة معان،منها:
ص: 82
1-غلب.جاء في تاج العروس (1):«علوت الرجل:غلبته».هذا المعنى ورد في القرآن الكريم في آيتين:الأولى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، الثانية: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
2-أن يأتي شيء فوق شيء و يعلوه.جاء في تاج العروس (2)أيضا:
«(و علاه)...(صعده)جبلا كان أو دابة».و جاء في الحديث:عن أبي موسى الأشعري قال:أخذ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عقبة-أو قال في ثنيّة-(و هو المرتفع من الأرض)،قال:
فلما علا عليها رجل،نادى فرفع صوته:لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر،قال:و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على بغلته،قال:«فإنكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا»[أخرجه البخاري ح 16].
و سوف نتطرق إلى المعنى الأول لفعل علا(غلب)في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»و ذلك خلال حديثنا عن شبه الولد لأمه أو لأبيه.
أما المعنى المرموز إليه في الحديث المذكور آنفا فهو أن يأتي شيء فوق شيء و يعلوه،و تفصيل ذلك:
-من المعلوم أن الإفراز المهبلي للمرأة يمتاز بخاصية الحموضة،و تأتي هذه الخاصية نتيجة لوجود(حامض اللاكتيك LACTIC ACID )الذي يخرج من الخلايا المهبلية الغنية بمادة(الجليكوجين GLYCOGEN ).
هذه الحموضة هامة و ذلك لحماية المرأة من غزو البكتيريا لها،غير أن هذه الحموضة تضعف و تقتل كثيرا من الحيوانات المنوية الحاملة للذكورة Y ،و ذلك لصغر حجمها مقارنة بالحيوانات المنوية الحاملة للأنوثة X التي تستطيع مقاومة هذه الحموضة.
و لكن ما ينقذ الموقف الحرج بالنسبة للحيوانات الذكرية هو مني المرأة،فهذا الأخير له خاصية قلوية،و هو يعدّل من الحموضة في المهبل عند ما تفرزه المرأة،فإذا صبّ الرجل ماءه في فرج المرأة قبل أن تستثار جنسيا فإن ماءه يلتقي بالوسط الحامضي للفرج،و بذلك تموت أعداد كثيرة من الحيوانات المنوية الحاملة للذكورة Y و تعطب،و يضعف بذلك احتمال أن يفوز بالسباق إلى البويضة الحيوان المنوي الذكري.).
ص: 83
في هذه الحالة يظهر مني الرجل قبل مني المرأة،لأن الرجل قد صب ماءه قبل أن تستثار المرأة جنسيا،و من ثمّ يأتي مني المرأة و يعلوه-أي يأتي فوقه-.
أما في الحالة المعاكسة،أي في حالة إثارة المرأة و إفرازها لمنيها قبل أن يقذف الرجل ماءه فإن منيها في هذه الحالة يكون موجودا قبل مني الرجل،و بما أن له خاصية قلوية فإنه يلطف من حموضة المهبل،و من ثم يأتي مني الرجل فوق مني المرأة و يعلوه،و تنجو بذلك الحيوانات المنوية الذكرية من الهلاك،و بما أن الحيوانات المنوية الذكرية أصغر حجما من الحيوانات المنوية الأنثوية،فهي بالتالي أسرع منها و تستطيع أن تصل إلى البويضة بسرعة أكبر،و بذلك يزيد احتمال أن يأتي الولد ذكرا (1).
و هكذا نفهم أبعاد الحديث«فإذا علا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منّي المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].
و إذكار أو إيناث الجنين):
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].
*قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه» [أخرجه مسلم ح 9].
إن ضمير التثنية المثبت في الفعلين«أذكرا»و«آنثا»في الحديث السابق يعود للماءين؛ماء المبيض و ماء الرجل،و ليس لمنيّ المرأة و منيّ الرجل كما يعتقده بعض الناس،و ذلك لأن كلاّ من ماء المبيض و ماء الرجل يشارك في تخلّق الجنين؛فنصف (المورّثات GENES )لدى المخلوق الجديد تأتي من ماء الرجل،و النصف الآخر يأتي من ماء المرأة و بذلك يشاركان كلاهما في عملية التخلّق و عملية الإذكار أو الإيناث.
ص: 84
إن نطفة الرجل(أي الحيوان المنوي)-كما سنشرحه في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»-هي التي تحمل الصبغيات X أو Y و نطفة المرأة تحمل الصبغية X فقط،فإذا اجتمع الحيوان المنوي الحامل للصبغية Y مع نطفة المرأة الحاملة للصبغية X أصبح الجنين ذكرا بإذن اللّه و إذا اجتمع الحيوان المنوي الحامل للصبغية X مع نطفة المرأة الحاملة للصبغية X أصبح الجنين أنثى بإذن اللّه.
و هكذا يعود ضمير التثنية في الفعلين«أذكرا»و«آنثا»للماءين مجتمعين؛ماء الرجل و ماء المرأة؛لأن إذكار أو إيناث الجنين يحتاج لكليهما معا.و من هذا المنطلق نفهم لما ذا خصّ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بالذكر نوعين من السوائل في الحديث؛الماء و المني؛ و ذلك لأن الماء(أي ماء الرجل و ماء المرأة)هو أساس لتخلّق الجنين،و المنيّ(منيّ الرجل و منيّ المرأة)هو الذي يسهل عملية الإذكار و الإيناث.
و قد أشار القرآن إلى أن ماء المرأة و ماء الرجل يشتركان في تخلّق الجنين في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى... [الحجرات:13].
جاء في القرطبي (1):«بيّن اللّه تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر و الأنثى،و كذلك في أول سورة النساء...و الصحيح أن الخلق يكون من ماء الرجل و المرأة لهذه الآية فإنها نص لا يحتمل التأويل».
كذلك أشار اللّه عزّ و جلّ في أول سورة النساء إلى هذا الأمر في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً... [النساء:1].
ورد في تفسير ابن كثير (2):«و ذرأ منهما أي:من آدم و حواء رجالا كثيرا و نساء».
فالخلق كان من الذكر و الأنثى و ليس من واحد دون الآخر،و البثّ كان من آدم و حواء-أي:من ذكر و أنثى-،و الفقهاء أقروا أن هذا الخلق إنما هو من ماء الرجل و ماء المرأة.
و الآية خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ تعني ماء الرجل و ماء المرأة على حدّ سواء،لأن لفظ«ماء»جاء هنا على إطلاقه،و هذا ما أكده القرطبي في تفسيره للآية قائلا (3):
«و أراد ماءين:ماء الرجل و ماء المرأة،لأن الإنسان مخلوق منهما»،فتلك الآية لم).
ص: 85
تفرق بين ماء الرجل و ماء المرأة،كما أن كلا الماءين يتدفق،و كلاهما يخرج من بين الصلب و الترائب،كما سنرى في النصوص المقبلة.
إن الاعتقاد السائد قبل عهد الرسالة،أي قبل التوضيح بالآيات القرآنية و الحديث،هو أن الجنين يتخلق من اتحاد المني مع دم الحيض،و هذا ما كتبه (أرسطو)في القرن الرابع قبل الميلاد،و كان يعتبر أفضل المراجع العلمية آنذاك.
و هذا الاعتقاد(بأن دم الحيض و ليس مني المرأة هو سبب وجود الطفل)ظل مسيطرا لمدة طويلة إلى أن أتى الإسلام بتعاليمه الحكيمة،و لم يكتف الإسلام بنسف فكرة تخلّق الإنسان من دم الحيض،بل أمر بعدم إتيان النساء في فترة الحيض: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
و منعا للجدل و لتثبيت الحقائق المنصوصة في الآية الكريمة(التي لم يحدد اللّه سبحانه و تعالى فيها أن الماء هو منيّ الرجل فقط)،حدّد الرسول الكريم-عليه الصلاة و السلام-أن الماء هو للمرأة كما هو للرجل في حديث الإذكار أو الإيناث الذي أوردناه سابقا.
بابيه):
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].
لقد رأينا في المقطع السابق أن كلاّ من ماء المبيض و ماء الرجل يشارك في تخلّق الجنين،و ذلك لمشاركة الحيوان المنوي و البويضة في تلك العملية.فإذا كان كذلك،فهذا يعني أن الجنين سيتخلّق وفق ما تحمله تلك الأعضاء من خصائص، و بالتالي فهذه مسئولة عن إعطائه شكلا يشبه شكل الأم أو الأب،و سنفصّل هذا الأمر أكثر-إن شاء اللّه-في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»، فانظره هناك وفقك اللّه.
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
كما هو ظاهر في الآية القرآنية فإن الماء الذي يخلق منه الجنين يدفق-أي يخرج بقوة و بسرعة مع ضغط-.
ص: 86
و لسنا بحاجة هنا إلى توضيح استمناء الرجل و تدفق مائه فذلك ظاهر،و لكن تجدر الإشارة إلى ما يحصل عند المرأة،و ذلك أن سلالة المرأة(أي البويضة)-كما يفسره الدكتور عدنان الشريف،جزاه اللّه خيرا (1)-التي ستنضج في أحد مبيضيها، تسبح داخل(جريب FOLLICLE ).و هذا الجريب يحتوي سائلا يتزايد ضغطه إلى درجة من الضغط تساوي 15 مليمترا زئبقيا تنفجر عندها حويصلة البويضة و قشرة المبيض في أضعف نقطة منهما،فتقذف بالسلالة و الخلايا الحامية لها و المحيطة بها مع قليل من ماء الحويصلة إلى تلافيف بوق أنبوب الرحم المعروف بقناة فالوب (انظر الصورة رقم:17)،و لو لا هذا الضغط لما استطاعت البويضة أن تقفز من المبيض إلى(التجويف البطني PERITONEAL CAVITY )،لتلتقطها من ثمّ(أهداب بوق فالوب FIMBRIAE OF FALLOPIAN TUBE ).
إن الضغط الذي يصاحب انتقال البويضة و السرعة التي تحتاجها حتى تستطيع الانتقال من المبيض إلى بوق فالوب لهو الدليل على أن ماء المرأة هو ماء دافق كما هو ماء الرجل وفقا لصياغة الآية الكريمة السابقة الذكر التي جاءت على الإطلاق لتشمل الماءين:ماء الرجل،و ماء المرأة.
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(2) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7]
لقد اختلف العلماء كثيرا في تفسير كلمة(دافق)التي وردت في الآية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) [الطارق:6]،فمنهم من اعتبر أن كلمة(دافق)اسم فاعل،و لكن أسندها إلى المجاز،و منهم من أوّل كلمة الدفق بالدفع،و أخذها على حقيقتها، و اعتبر أن الدفع ناتج من فاعل و مفعول به،و منهم من أوّل دافق بمعنى مفعول، و منهم من صرف الدفق إلى النسب،و منهم من قال:إن كلمة(دافق)اسم فاعل، و انظر لهذا الغرض قول تفسير ابن عاشور (3)،و تفسير الألوسي (4)،و تفسير الشوكاني (5)،و تفسير ابن القيم (5)في هذا الموضوع.
ص: 87
ص: 88
و من الطبيعي أن يكون هذا الخلاف في معنى هذه الصيغة موجودا على أشدّه عند المتقدمين،فإن حقائق مبادئ الخلق كانت غير متوفّرة لهم،و هي التي كشفت لنا المعنى الحقيقي لهذه الصيغة،و جعلتنا نتلمس مواطن الإعجاز في هذه النقطة.
و لا بد أن نلقي نظرة على أبعاد هذه الصيغة من الناحية البلاغية،قبل أن نستعرض المعطيات العلمية في هذا الخصوص،لكي نوفّق بينهما على أتمّ وجه، و تتكشّف لنا الأسرار الإعجازية في استعمال هذه الصيغة.
و التحقيق في هذه الصيغة ما نقلته من تعليقات الشيخ عبد الرحمن الحكمي على كتاب البصائر و الذخائر لأبي حيان التوحيدي،قال:«اشتقاق صيغة[فاعل]من فعلها،ينبغي أن يكون في الصيغة معنى الفعل،أي:يكون الفعل قائما بالصيغة،فإذا قلنا:آكل،فمعنى ذلك أن الأكل-و هو مصدر أو معنى الفعل-يكون قائما بالصيغة التي هي اسم الفاعل الذي قام بالأكل،هذا هو الأصل و الأكثر في اللغة العربية بالنسبة لهذا الاشتقاق و هذه الصيغة.
و لكن قد ترد هذه الصيغة في كلام العرب،و يلحظ المتلقي أن الفعل ليس قائما فيها،بل قائم بغيرها،و إنما جاء على صورتها لكون صاحبها له صلة فعلية مؤثّرة من قريب أو بعيد فيها،و ذلك نحو قولهم:«لابن-تامر»،عن صاحب اللبن و صاحب التمر،فاللبن لم يقم بالرجل الذي هو صاحب الصيغة،إنما قام بالدابة التي ربّاها الرجل و اعتنى بها حتى صارت لابنة،و كذلك التمر،لم يونع في الرجل المقصود بصيغة[فاعل]في«تامر»،و إنما أينع في النخل التي اعتنى بها الرجل و ثمّرها حتى صارت متمرة.
و فيما تقدّم تظهر في هذه الصيغة،بهذا المعنى،مراعاة فاعلين حقيقيين لفعل واحد،و إن كان أحدهما مظهرا للفعل أو محلا له،و لكن لم يهمل في هذه الصيغة بهذا المعنى لقوّة سببه،و شدّة تأثيره،فاللابن بهذا المعنى جمعت هذين الفاعلين:
1-الرجل الذي قصد بها مع أن اللبن لم يظهر فيه،و لكن اعتبر سببه،و اعتدّ بتأثيره،حتى أخرج على أنه فاعل،فأعطي صورة الفاعل.
2-الدابة التي ألبنت و ظهر فيها اللبن،و هي الفاعل الحقيقي.
و قد عبّر كثير من النحويين عن مثل هذا المعنى في هذه الصيغة بأنه يحمل معنى[ذو]،و المراد من لابن مثلا:ذو لبن.
و قد ذكر الإمام الرازي-رحمه الله-وجود مثل هذا اللون في اللغة،و جوّزه في مبحث تام في كتابه«المحصول»(ج /1ص 248-250).قال:«و مما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق:أن المفهوم من الاسم المشتق
ص: 89
ليس إلا أنه«ذو»ذلك المشتق منه،و لفظ«ذو»لا يقتضي الحلول».و قد طوّل الإمام ابن الحاجب-رحمه الله-هذه المسألة في«مختصر المنتهى»،و انظره بشرح العضد-رحمه الله-(ج /1ص 181-182).
و ذكر الإمام ابن الوزير-رحمه الله-أن هذه المسألة لغوية ليس فيها نظر و لا قياس(أي أنها سماعية)،و أن العرب قد يشتقّون مما ليس بقائم بالفاعل صيغة (فاعل)،انظر كتابه«العواصم و القواصم»(ج /4ص 366).
...و سبب ذلك أن المقصود بهذه الصيغة-التامر(أو اللابن)-كان سببا مؤثّرا،و عاملا قويا،في الإيناع حتى صار في درجة قوّة الفاعل،و أصبح لصيقه و ضميمه،حتى كأنه هو،و لذلك ظهر في صورته،و تجلّى في مظهره،فأتى على صيغته،و ليس في الأصل،و من هنا يتبيّن صدق هذه الصيغة،و صحة ورودها،و دقّة معناها فيما جاءت له»انتهى كلامه.
أما إذا أردنا أن نقابل الكلام السالف ذكره على موضوع الدفق المنصوص سابقا في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،فنقول:
إنه إذا حقّ على كلمة(دافق)أن تكون اسم فاعل،فهذا يعني أن فعل الدفق قائم بها،أي بمعنى آخر أن صفة تكوين الماء:الاندفاق،حيث يوجد فيه قوّة ذاتية للدفق كسبب لصيق به،و كصفة ثابتة فيه لا تنفك عنه،قائمة به.أما إذا حقّ أن تنطبق صيغة النسب على(دافق)،فهذا يعني أن السبب الرئيس للدفق ليس قائما بالماء،و لم يحل فيه،و لكن حلّ بغيره،غير أن السبب الرئيس متصل مع سبب ثانوي قائم بالماء لكي تحقّ صفة النسب على فعل دفق الماء.
و سنستعرض المعطيات العلمية و نرى مدى صحة آخر تفسيرين.
و قد أثبت العلم في العصر الحديث أن للحيوانات المنوية قطعا مصفوفة واحدة تلو الأخرى تسمى:(ميتوكوندريا MITOCHONDRIA )موجودة قبل رأس الحيوان المنوي،و تحتوي على مادة(أدينوزين تريفوسفات ADENOSINE TRIPHOSPHATE:ATP )-المادة المهمة لتزويد الحيوان المنوي بالطاقة الدافعة إلى الأمام لعدة ساعات (1)-(انظر إلى الصورة رقم:18 حيث تظهر قطع«الميتوكوندريا»)، كما أن الغطاء النسيجي لقطع الميتوكوندريا يدفع ذيل الحيوان المنوي إلى الحركة (2). .
ص: 90
(18)-نرى في الصورة قطع«الميتوكوندريا»خلف رأس الحيوان المنوي، و هذه تعطي للحيوان المنوي الطاقة لكي يتحرك،و بالتالي فهو و المني الذي يرافقه دافقان، كما تشير إليه الآية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق:6]
بالإضافة إلى أن ماء الرجل يحتوي على مادة(البرستاجلاندين PROSTAGLANDINS )التي تحدث تقلصات في الرحم تساعد على نقل الحيوانات المنوية إلى موقع الإخصاب،و بالتالي فإن مصدر النطف-ماء الرجل-هو الذي يسبّب دفع الحيوان المنوي إلى الأمام.
كذلك فإن(الحويصلات المنوية SEMINAL VESICLES )تفرز مادة(الفركتوز FRUCTOSE )التي تصبح أحد أعضاء المني،و هذه المادة تعطي الطاقة للحيوانات المنوية لكي تتابع سيرها (1).
و هكذا يتبيّن لنا أن هناك سببين ينشآن من نفس الفاعل و يؤديان إلى إحداث الفعل به،كصفة لا تنفك عنه،و هما مادة الميتوكوندريا و الفروكتوز،و أن هناك سببا آخر ينشأ من نفس الفاعل بإذن الله،و لكن لا يتجلّى به مباشرة،بل برد فعل عكسي من خلال عضو آخر يدفع الفاعل إلى فعله،كما في حالة مادة البرستاجلاندين، فيعود الدفق بذلك إلى النسب في هذه الحالة. .
ص: 91
و يكون مجمل حركة الماء ناتجا من سببين على صيغة فاعل،و من سبب على صيغة نسب.
أما بالنسبة للبويضة فإن عملية إباضتها معقّدة للغاية،و دفقها غير واضح و لا جلي،غير أن العلماء استطاعوا أن يكتشفوا كمّا مهما من المعلومات عنها،و إذا أردنا تحليل دلالات كلمة دافق،لنرى كيف تنطبق على عملية الإباضة،و انتقال البويضة من المبيض إلى قناة فالوب،فلا بد أن نراجع بالتفصيل عملية الإباضة،و نتوقّف عند كل مرحلة من مراحلها.
و يخبرنا الدكتور آلان أندرز عن مراحل عملية الإباضة قائلا (1):
1-(تنشق البذرة التي تتكون في سطح المبيض في أضعف منطقة لها RUPTURE OF THE STIGMA )،فيخرج الماء الحويصلي بسرعة،مع(حبيبات الخلايا GRANULOSA CELL )،و ذلك من جراء الضغط المتولّد من الماء الحويصلي (2)حيث يبلغ 20 ملم زئبقيّا،و هو و إن كان معتدلا،و لكن يلعب دورا مهما (3).
2-و من ثم يتبع ذلك خروج البويضة مع(كم الخلايا التي ترافقها CUMULUS CELLS )بسرعة أقل[من الماء الذي سبقها].
3-و تتقلّص بعض العضلات داخل الحويصلة باعجة إياها،و دافعة لها، فتساعدها على الخروج مع بقية الماء الحويصلي.
و تقلّص العضلات المراد هي عضلات الأغشية الخارجية التي تحيط بالحويصلة (تكا إكسترنا THECA EXTERNA )،و التي يعود تقلّصها لمادة(البرستاجلاندين PROSTAGLANDINS ) (4)الموجودة في الماء الحويصلي (5)،و لانخفاض ضغط الماء .
ص: 92
الحويصلي الذي يدفع عضلات الغشاء الخارجي للحويصلة للتقلص بطريقة منتظمة و متقطّعة (1).
4-و تتمايل أهداب بوق فالوب حول المبيض...مساعدة شعيرات بوق فالوب[التي تتمايل هي أيضا]لالتقاط البويضة و إدخالها مع الخلايا المحيطة بها إلى داخل البوق.
أضف إلى ذلك أن دفق البويضة يعود أيضا لإشارات كيميائية تأتي مع الماء الحويصلي،و تجعل عضلات قناة فالوب تنقبض،و تولّد ضغطا سلبيا،مما يساعد شعيرات بوق فالوب على التقاط البويضة (2).
و بعد ذلك تنتقل البويضة ببطء في قناة فالوب إلى الرحم من جراء دفع الشعيرات التي تبطّن القناة لها (3).
و بذلك تكون الحركة الإجمالية للماء مزيجا من السرعة و البطء،و الضغط الداخلي المعتدل،و الشفط الخارجي.
و هكذا فإن دفق الماء الحويصلي مع البويضة يعود لماء البويضة نفسه فقط(كما في حالة ضغط الماء)(كاسم فاعل)،و لماء البويضة بالتعاون مع مسبّب آخر لا يظهر فيه فعل الدفق،بل يحث عليه(كما في حالة انقباض عضلات قناة فالوب من جراء الإشارات الكيميائية التي تأتي مع الماء الحويصلي،و لانقباضات العضلة التي تحيط بالجريب بفعل مادة البرستاجلاندين الموجودة في الماء الحويصلي،و بفعل انخفاض ضغطه)(فيعود الدفق بذلك إلى النسب)،كما أنه يعود لعوامل خارجية مستقلّة (شعيرات بوق فالوب)غير أن هذه الشعيرات أنتجت أثرا فاعلا أدّى إلى حركة الماء بدفق حتى صار في صورة الفاعل،و ليس هو هنا في الحقيقة بفاعل،و هذا كلّه لا يخرج عن معنى النسب في هذه الصيغة.
و من هذا الكلام نفهم أن مجمل الدفق يعود للنسب أو للفاعل نفسه في5.
ص: 93
الغالب،و هو يظهر كذلك بالرغم من أن هناك عوامل خارجية تضاف إلى العوامل الفاعلة و النسبية،و لا يعبّر عن هذه الصفات-أو الأسباب-إلا صيغة«الدافق» بالمعنيين المتقدّمين فقط لا غير،فيا سبحان اللّه!.
و في النهاية نودّ تلخيص ما سبق:
1-يتبيّن لنا في المبحث السابق،أن صعوبة الصيغة،و عدم تجلّي الحقائق العلمية في ذلك للمتقدمين أدى إلى خلاف كبير في عدم فهم هذه الصيغة على معناها الدقيق.
2-صيغة(فاعل)تأتي في اللغة العربية لفاعل الفعل الذي اشتق منه،و هذا هو الأكثر.
و لكن قد تأتي لغير ذلك،لمناسبة بين الفاعل الحقيقي و بين الكلمة التي اشتقت له مثل(لابن)،و كلا هذين المعنيين لهذه الصيغة حقيقة لغوية،و سماع عن العرب،و ليس بمجاز.
و(دافق)جمعت هذين المعنيين معا،و كانت هذه الصيغة هي المناسبة تماما للإحاطة بتفاصيل صفات ذلك الماء و ملابساته.
3-قد ظهر ذلك كما تقدّم مفصلا،و يمكن تلخيصه فيما يأتي:
I -ماء الرجل:
أ-تعطي مادة الفركتوز و مادة الميتوكوندريا الطاقة للحيوان المنوي على السير ذاتيا،و في كلا هاتين الحالتين يتجلّى المعنى الأكثر لصيغة(الفاعل)،حيث إنه هو الفاعل الحقيقي المستقل.
ب-تحثّ مادة البرستاجلاندين الموجودة في الماء الرّحم على الانقباض مما يؤثّر عكسيا على الحيوانات المنوية في السير،فيحل سبب الدفق الرئيس في غير الفاعل،و لكن يظهر الفعل في الفاعل،و يكون للفاعل نسبة في إحداث السبب الرئيس،فيتجلّى معنى النسبية في الصيغة[فاعل].
II -ماء المرأة:
أ-يدفق ماؤها من جراء ضغطه المتولّد في الحويصلة،فيقع بذلك سبب الفعل على الفاعل نفسه،و يتجلّى معنى(اسم الفاعل)في هذا المقام.
ب-يدفق ماؤها من جراء المواد الموجودة فيه،و التي تحث أعضاء أخرى- مثل عضلات غشاء الحويصلة،و عضلات قناة فالوب-على دفعه إلى الأمام،فيصير
ص: 94
الماء مظهرا للفعل،حتى كأن فيه سبب الفعل الرئيس،فيحق أن يذكر الفعل على صيغة النسب في هذا المقام.
ت-يدفق ماؤها من جراء عوامل مستقلة،مثل تمايل شعيرات بوق فالوب، التي تحدث ضغطا سلبيا،فتجذب ماء الحويصلة إلى داخل البوق،فيظهر دافقا و كأنه هو الذي دفق بنفسه،و بذلك حقّ هنا المعنى الثاني لصيغة الفاعل،و هو النسبة.
و يظهر مما تقدّم من اللطائف أن صيغة(دافق)استوعبت كل من هذه الحالات الست.
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
لفظ اَلتَّرائِبِ اسم صفة،لا اسم ذات،و يدل بأصل اشتقاقه على التماثل و التناظر،فكلمة«الترائب»جمع تريبة و هي مشتقة من ترب،أي من التراب و التراب هو الأرض،جاء في لسان العرب:«ترب:...(قال)اللّيث:التّرب و التّراب واحد، إلا أنهم إذا أنّثوا قالوا التربة،يقال أرض طيبة التربة أي خلقة ترابها...»،و تستعمل الكلمة لوصف أن شيئا ما تستوي حاله مع التراب،جاء في لسان العرب:
«...و رجل ترب،لازق بالتراب من الحاجة،ليس بينه و بين الأرض شيء،و في حديث أنس رضي اللّه عنه،لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سبّابا و لا فحّاشا،كان يقول لأحدنا عند المعاتبة:ترب جبينه،قيل:أراد به دعاء له بكثرة السجود...»،و بالتالي فهي تعني على وجه العموم الاستواء بين شيء و شيء آخر،جاء في لسان العرب:
«...و الترب اللدّة و السن:يقال هذه ترب هذه أي لدتها،و قيل ترب الرجل أي الذي ولد معه...»،و يقيّد دلالة اللفظ السياق الذي يأتي فيه،و القرائن التي تستنبط من النص،و القرائن الخارجية من حديث شريف و علم ثابت...فعلى سبيل المثال:
يشير السياق و الأحاديث النبوية الشريفة أن كلمة«ترب»في الآيات: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ(52) [ص:52]،و إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً(35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً(36) عُرُباً أَتْراباً(37) [الواقعة:35-37]،و وَ كَواعِبَ أَتْراباً(33) [النبأ:33]تشير إلى التماثل في الحسن و الجمال و البهاء و فيض الأنوثة و نضارة الشباب في تصوير حال الزوجات في الجنة.
و نظرا لطبيعة هذه الكلمة فقد تفسّر على أكثر من وجه،و لذلك اختلف المفسّرون بشكل واسع حول دلالة اللفظ في النص القرآني المعتبر،جاء في لسان
ص: 95
العرب (1):«و الترائب:موضع القلادة من الصدر،و قيل:ما بين الترقوة إلى الثندوة، و قيل:الترائب عظام الصدر،و قيل:ما ولي الترقوتين،و قيل ما بين الثديين و الترقوتين...و قيل:الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر و أربع من يسرته...»، و إذا اعتبرنا قاعدة أن دلالة اللفظ يقيّدها السياق و القرائن التي تأتي فيه،فهمنا أن قرائن النص في هذا المقام-مقام الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة-تعتمد مباشرة على المعطيات العلمية التي تثبت هذه الصفة طبقا للحقيقة الموجودة في جسم الإنسان،فيصدق بذلك أن يصرف إلى الأضلاع التي تكوّن عظام الصدر-كما سنرى فيما بعد-،و لفظ اَلصُّلْبِ بالمثل،اسم صفة،لا اسم ذات،يدل بأصل اشتقاقه على قائم متين،يصلب عليه الشيء و يشد محمولا عليه،فيصدق على العمود الفقري الذي يحمل معظم بدن الإنسان القائم،غير أن المفسّرين لم يختلفوا حوله، و ذلك لأن الأعضاء النظيرة في الجسم كثيرة كما رأينا،أما الأعضاء المتينة التي تحمل أعضاء أخرى فهي جد قليلة في الجسم،و هو كما جاء في لسان العرب (2):
«و الصّلب:عظم من لدن الكاهل إلى العجب...».
و تحدثنا الآيتان التاليتان خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) أن الماء يخرج من مكان ما واقع ما بين الصلب و الترائب (3)و ذلك لكل من المرأة].
ص: 96
و الرجل،لأن لفظ«ماء»يخص كليهما،و هو لفظ عام غير مقيّد بأحد الجنسين، و ليس كما أشار إليه بعض المفسّرين أنه من صلب الرجل و من ترائب المرأة.
قال الألوسي:«و ظاهر الآية أن أحد طرفي البينية(التوسط):الصلب،و الآخر الترائب...فكان الصلب و الترائب لشخص واحد فلا تغفل...قال الحسن،و روي عن قتادة أيضا:أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل و المرأة، و ترائب كل منهما...» (1).9.
ص: 97
و نلاحظ أيضا أن اللّه سبحانه و تعالى قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ و لم يقل ...يخرج من الصلب و الترائب،لما ذا؟:
ذلك لأن الماء يخرج من موضع ما قريب من التقاء الصلب و الترائب و ليس من الموضعين نفسيهما،هذا الاستنتاج ليس خطأ أو غريبا عن القرآن الكريم لأن هذا الأسلوب وصف في موضع آخر من القرآن الكريم تخلّق اللبن عند الحديث عن مصدره في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ [النحل:66].و قد أوضحنا في باب تخلّق اللبن في مبحث«الرضاعة»الآتي لاحقا أن اللبن يستخلص من الفرث و من ثمّ من الدم،و ليس هو الدم و الفرث نفسيهما (1).
كلنا يعلم أن ماء الرجل إنما يتكون في الخصية و ملحقاتها،و أن ماء المرأة يتكون في المبيض،فكيف يخرج الماء إذا من مكان بعيد عن تلك الأعضاء(أي من بين الصلب و الترائب)؟
الحقيقة أن الآية تتحدث عن أصل الماء و ليس عن الماء نفسه و ذلك لإظهار الإعجاز في معرفة خفايا تخلّق الماء.
إن أصل الماء هو الماء الذي يغذّي المبيض و الخصية،و بالتالي يكون أساسا لهذا الماء.
يقول الدكتور محمد علي البار في حديثه عن تحديد موقع مصدر«أصل الماء»:«إن الخصية و المبيض إنما يتكوّنان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين و ترائبه...و تتكون الخصية و المبيض في هذه المنطقة بالضبط أي:بين الصلب و الترائب.ثم تنزل الخصية تدريجيا حتى تصل إلى كيس الصّفن(خارج الجسم)في أواخر الشهر السابع من الحمل..و بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة و لا ينزل أسفل من ذلك.(انظر الصورة رقم:19).
و مع هذا فإن تغذية الخصية و المبيض بالدماء و الأعصاب و اللّمف تبقى من حيث أصلها..أي من بين الصلب و الترائب.فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر(الأورطي البطني)من بين الصلب و الترائب،كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة..يصب الوريد الأيسر في الوريد الكلوي الأيسر بينما يصب وريد الخصية الأيمن في الوريد الأجوف السفلي..و كذلك أوردة المبيض و شريانها يصبان في نفس المنطقة أي بين الصلب و الترائب..كما أن الأعصاب المغذية».
ص: 98
للخصية أو للمبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب و الترائب..و كذلك الأوعية اللمفاوية تصب في نفس المنطقة أي بين الصلب و الترائب...فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب و الترائب،كما أن منشأها و مبدأها من بين الصلب و الترائب» (1).(انظر الصورة رقم:20).
فالخصية أو المبيض قد بدأ تكوينهما إذا من مكان يجاور الكلى(من جسم (ولف WOLFF )و قناته الذي نشأ بدوره على جانب من جانبي العمود الفقري)،أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا و مقابل أسفل الضلوع،لذلك ظل مصدر تغذيتهما حيث كان،أي:بين الصلب و الترائب.
و مما يعزّز هذا المعنى قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172].تشير هذه الآية إلى أن الشامختين التناسليتين،اللتين تمثلان أصل الإنسان بما تحتويان على خلايا جنسية،ابتدأ تخلّقهما على الجدار الخلفي للبطن من الظهر.(انظر الصورة رقم:21).و للعلم فإن الظهر ليس محصورا بالصلب كما يعتقده عامة الناس و لكن يشمل كلاّ من الصلب و الترائب و الأعضاء الموجودة على الجهة الخلفية للإنسان،و ذلك واضح في المفهوم القرآني و الدليل على ذلك قوله تعالى: وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما... [الأنعام:146]،أي ما احتوت ظهورهما (2)،و بذلك تندرج الشامختان التناسليتان في محتوى الظهر لدى الجنين،و يكون أصل الذرية من الظهر.
إنه بحق إعجاز علمي،فمن يتصوّر أن المبيضين و الخصيتين ينحدران من مكان ما يقع ما بين الصلب و الترائب؟!،و من يتصوّر أنّ تغذيتهما باللمف و الأعصاب و الأوردة تنبع من نفس المكان؟!،مع أن المبيضين و الخصيتين موجودان في أسفل البطن،و مع أن ماءهما يخرج من الأعضاء التناسلية بعيدا عن الصلب و الترائب كما يشاهده عامة الناس،لا شك أن ذلك غير متصوّر في عصر خلا من الوسائل و التقنيات العلمية،و لكن إثباته في ذاك لا يدل إلا على شيء واحد،أ لا و هو الوحي الإلهي الرباني؟!!.).
ص: 99
ص: 100
ص: 101
و من الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى أنه قد جاء ذكر الأصلاب في ثلاثة نصوص شرعية هي الآية الكريمة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:23]،و الحديث الشريف:«عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها قالت:دعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى جنازة صبيّ من الأنصار،فقلت:يا رسول اللّه طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنّة لم يعمل السّوء و لم يدركه،قال:أو غير ذلك يا عائشة! إنّ اللّه خلق للجنّة أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم،و خلق للنّار أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم».[أخرجه مسلم ح 109] (1)،و الحديث الشريف:«قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا» [أخرجه البخاري ح 110].
و ظاهر النصوص الثلاثة يشير إلى أن الإنسان كان موجودا في عالم الذر في الصلب،و بالتالي فهذا الظاهر يتعارض مع الحقيقة العلمية التي سبق و أشرنا إليها».
ص: 102
و هي:أن الإنسان انبثق من الشامختين التناسليتين اللتين تقعان قرب الصلب و الترائب، و ليس من نفس الصلب و الترائب،كما أشار إليه النص القرآني الكريم: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
و في الحقيقة ليس هناك تعارض لعدّة أسباب،أهمها:هو أن آية سورة النساء، و الحديث رقم 109،و الحديث رقم 110 جاءوا على ذكر الأصلاب من باب المجاز المرسل للدلالة على أن الإنسان انحدر من مكان يجاور الصلب،و ذلك لكثرة تداول و شيوع هذه الكلمة عند العرب.
فالعرب تستعمل هذا النوع من المجاز،و قد جاء ذكره في كتب اللغة العربية، قال الكردي في«نظرات في البيان» (1):«إذا كان الشيء مجاورا لآخر في مكانه يكون بينهما اتصال،يعدّ في العرف مجاورة.من ذلك قولك:شربت من الراوية.الراوية:
ما يستقي عليه من بعير و غيره،و المزادة:سقاء الماء الذي يوضع عليها.و الراوية مستعملة في المزادة،و العلاقة مجاورة المزادة للراوية،و القرينة كلمة:شربت».
و عند الأصوليين إذا وقع تعارض ظاهر بين نصّين شرعيين،فعلينا التأليف بينهما قبل أن نحكم عليهما بالتعارض،و هو الحال هنا.
فهناك الكثير من الأحاديث تتكلّم عن أمور لها صلة بظواهر كونية لم تكن تعرف لدى العرب وقت التنزيل،و التكلم عن هذه الأمور جاء لتبيين مواضيع شتّى كالتشريع...أو إظهار حكمة ما،و لم يسق أساسا لتبيين الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و الاستطراد في الكلام لتبيين الأمور العلمية الغيبية التي تتفرّع من المواضيع الأساسية يجعل فهم المواضيع الأساسية معقّدا على السامعين.لذلك فالاختصار في الكلام في هذا الموضع و استعمال المجاز فيه،المألوف للمجتمع العربي آنذاك، يسهّل استيعاب الكلام،و في الوقت نفسه يفتح المجال لاكتشاف الحقيقة العلمية في المستقبل،و هذا الأسلوب يدلّ على دقّة عالية،و حكمة متناهية،في التعبير عن المعاني التي يصل إليها الكل بطرق مختلفة،حيث إن استعمال المجاز هنا لا يعارض معتقدات هذه الشعوب(لأنه بالظاهر يوافق معتقداتهم بأن الإنسان ينسل من الصلب)،و لا الحقيقة العلمية(لأنه يستخدم المجاز الذي يتيح فهم أن انسلال).
ص: 103
الإنسان هو من مكان يجاور الصلب)في آن واحد،فجاء التأليف بينهما بأسلوب سهل،ليّن،سائغ للسامعين.
و لا يعتبر هذا الأسلوب تضليلا للسامعين عن الحقيقة العلمية،لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بيّن الحقيقة العلمية في مكان آخر،فقد جاء ذكرها في نص سورة الطارق بأسلوب يدعونا للتفكّر و اكتشاف الحقيقة العلمية،و هو أسلوب إيضاح، و تبيين،و تفصيل لمبدأ نشأة الإنسان كما يشير إليه سياق النص القرآني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) [الطارق:5]،أما في آية سورة النساء و الحديث رقم 109، و الحديث رقم 110 فقد جاء ذكر كلمة«الأصلاب»بطريقة موجزة،و هكذا فإن النصوص الشرعية الثلاثة مجملة،و آية سورة الطارق مبيّنة،و علينا أن نردّ المجمل إلى المبيّن كما يقرّره علم«أصول الفقه»،و بالتالي فلا نستطيع أن نقول إن النصوص الشرعية الثلاثة تتعارض مع نص سورة الطارق.كذلك فإن نص سورة الطارق سيق لغرض تبيين نشأة الإنسان،و النصوص الشرعية الثلاثة لتبيين أمور أخرى،و قد استعمل فيها كلمة«الأصلاب»تبعا في ذكر أمر آخر،و علينا أن نردّ الأمر العرضي إلى الأمر الأساسي،أضف إلى ذلك أن المجاز استعمل في النصوص الشرعية الثلاثة،و الحقيقة العلمية في نص سورة الطارق،و علينا أن نردّ المجاز إلى الحقيقة قبل أن نجزم أن هناك تعارضا.
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر...»[أخرجه مسلم ح 9]
إن الماء الذي يتدفق من مبيض المرأة(أي السائل الحويصلي)و الذي يحتوي على البويضة،أصفر اللون،و الحديث السابق يشير إلى هذا الماء؛و الدليل على ذلك هو أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أشار في حديث آخر (1)إلى لون النطفة الذّكرية و الأنثوية،و بما أن النطفة هي القطرة من الماء،فبالتالي إن لونها يتبع لون الماء الذي يحويها.(انظر الصورة رقم:22).و بعد خروج البويضة من الحويصلة يتحول ما تبقى من تلك الحويصلة إلى ما يعرف(بالجسم الأصفر CORPUS LUTEUM ) (2).
ص: 104
(22)-نرى هنا النطفة داخل بوق فالوب و هي صفراء اللون وفقا للحديث «ماء المرأة أصفر»[أخرجه مسلم ح 9]
هذا الأمر لم يستطع أحد تأكيده في عهد رسول اللّه-عليه و على آله الصلاة و السلام-لأن المجهر لم يكن موجودا في ذلك العصر ليكشف عما يجري داخل الرحم،بيد أن هذا الأخير اكتشف عام 1677 م على يدي هام و هوك ليوين.
ص: 105
*قال العليم الحكيم: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37].
*قال العليم الحكيم: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«ما من كل الماء يكون الولد..» [أخرجه مسلم ح 17].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فمن أيّهما علا أو سبق يكون الشّبه منه»[أخرجه مسلم ح 67].
*عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له».[ذكره ابن هشام ح 69].
نفهم من الآيتين الكريمتين السابقتين أن الإنسان خلق من جزء من المني و ليس من المني كله،لأن الإنسان خلق من نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ (1).فالنطفة ليست المني كله و لكنها جزء من المني،و يكون معنى الآية:أ لم يك الإنسان قطرة من مني يمنى؟.
ص: 106
ص: 107
ص: 108
إلى ذلك فالنطفة في اللغة العربية هي القليل من الماء الذي يعدل القطرة.
جاء في لسان العرب (1):«النطفة:و النطفة القليل من الماء...و النطف:القطر و نطف الحب و الكوز و غيرهما ينطف و ينطف نطفا و نطوفا و نطافا و نطفانا:قطر».
و قد وردت عدة أحاديث للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و روايات للصحابة رضى اللّه عنهم تحمل هذا المفهوم منها:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر بين رجلين ينطف رأسه ماء...»[أخرجه مسلم ح 18]،و منها:«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»،فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه.
[أخرجه أحمد ح 19].هذا هو مفهوم الصحابة رضي اللّه عنهم للنطفة.
هذا و قد أوضح الرسول الكريم-عليه أزكى الصلوات و أطيب التحيات-أن مصدر الإنسان إنما هو من جزء من الماء بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من كل الماء يكون الولد، و إذا أراد اللّه خلق شيء لم يمنعه شيء»[أخرجه مسلم ح 17]،فمنطوق الحديث أنّه ليس من كل الماء يكون الولد،و مفهومه بل من جزء يسير منه،و بهذا تكون النطفة-أي القطرة من الماء-السبب في خلق الإنسان.
و هكذا نفهم لما ذا أطلق الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم لفظ«نطفة»على كل من بويضة المرأة و البويضة المخصبة،بل و حتى على الحيوانات المنوية التي تنتقل هي أيضا من المهبل إلى قناة فالوب حتى تلقح بويضة المرأة.(انظر الصورتين رقم:23-24).).
ص: 109
ص: 110
*سأل يهودي الرسول الكريم-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قائلا:يا محمد ممّ خلق الإنسان؟،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20].
بعد أن عرّفنا-من خلال ما تقدم-أن للمرأة ماء كما أن للرجل ماء،لا بد أن نشير إلى أن إثبات وجود ماء للمرأة لا يلزم منه إثبات وجود بويضة داخل هذا الماء.
و إن كانت الفرضية قد تقود إلى مثل هذا الفهم،فإن ثمة فرضيّات كثيرة أخرى تقود إلى خلاف هذا،فقد ذهب العالم(مارسيلو مالبيجي MARCELLO MALPIGHI )1675 م إلى أن الحيوان يكون في ماء الرجل و يتغذى من ماء المرأة.
إذا فالمعرفة الدقيقة لهذا المعنى لا بد أن تكون قائمة على أسس أكثر ثباتا من الفرض و التخمين.
و قد أثبت الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:
*أن للمرأة نطفة كما أن للرجل نطفة.
*أن نطفة المرأة تلعب دورا أساسيا كنطفة الرجل في خلق الإنسان،و الحال أن اكتشاف حويصلة البويضة لم يتم إلا في القرن السابع عشر على يد العالم دوغراف،و لذلك تسمى:(فوليكول دوغراف FOLLICULE DE GRAAF ).
و بذلك يكون الرسول-عليه الصلاة و السلام-قد نسخ مزاعم الطبيب مالبيجي التي أطلقها في سنة 1675 م من أن البويضة تحمل الجنين بصورة مصغرة، و أن السائل لا وظيفة له إلا تنشيط البويضة،و اعتقاد(هام و لو فينهوك HAMM AND LEEUWENHOEK )أن الجنين موجود بصورة مصغرة جدا في الحيوان المنوي،و أن لا وظيفة للبويضة إلا في تغذيته و تنشيطه،و ذلك عند ما أكد صلّى اللّه عليه و سلّم أن لكل من نطفة الرجل و نطفة المرأة حظا في عملية تخلّق الجنين،و كان بذلك صلّى اللّه عليه و سلّم قد أشار إلى هذه الحقيقة العلمية قبل أن يكتشفها العالم(سبلانزاني SPALLANZANI )(1729- 1799 م)أيضا.
هذا ما يتعلق بكلمة نطفة،أما بالنسبة لكلمة سلالة،فنشير إلى أن كلمة سلالة قد وردت في الآية الكريمة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]إلى جانب كلمة«ماء».
ص: 111
هذه السلالة تستخرج من الماء تحديدا و ليس بالضرورة من المني،و بالتالي فإن السلالة تأتي من الرجل أو من المرأة و ليس من الرجل فقط،و ذلك لأن الماء هو سبب تخلّق الجنين كما أشرنا إليه في مبحث«الماء و المني»و هو بالتالي يحمل نطف المرأة أو نطف الرجل،أما المني فهو يحتوي على نطفة الرجل فقط و لا يحتوي على نطفة المرأة(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).
و الماء المهين هو الماء القليل في اللغة العربية.
جاء في لسان العرب (1):«مهين:قال أبو إسحاق:هو فعيل من المهانة و هي القلة...و قوله عزّ و جلّ:خلق من ماء مهين،أي من ماء قليل ضعيف».
كلنا يعلم أن مني الرجل قليل و ذلك لأنه ظاهر للعيان؛فعلى سبيل المثال:
فإن متوسط ما يتدفق من المني عند استمناء الرجل يبلغ حوالي ثلاثة و نصف من المليليتر،و يوجد في هذا الحيّز من المكان حوالي ثلاثة مائة و خمسين مليون حيوان منوي؛أي أن لكل مائة مليون نطفة-تبلغ من الطول ستة في المائة من المليمتر- ملم مكعب واحد لتتحرك فيه،و هذا مكان صغير نسبيا.
أما بالنسبة للبويضة فإن قطرها يبلغ 13,0 ميليمتر عند خروجها من الجريب (2)و يبلغ حجم السائل الذي يقذف معها حوالي 10 إلى 15 مليلتر (3)،و هو أيضا رقم صغير نسبيا.
إذا معرفة أن ماء الرجل قليل كما أسلفنا القول ليس من الإعجاز،أما معرفة أن ماء المرأة قليل فهو أمر غير طبيعي؛فالسائل الذي يحتوي على البويضة غير ظاهر و لا سبيل للنظر إليه إلا بواسطة آلات متقدمة كانت غير موجودة في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.و هذا السائل يخرج من المبيض و يتبعثر في(تجويف البطن PERITONEAL CAVITY )،و ما يصل منه إلى قناة فالوب يختلط بالماء الموجود فيها و بالسوائل الأخرى التي تفرزها غدد رحمية موجودة في الرحم مثل(لبن الرحم UTERINE MILK ) (4)،و بالتالي ما يخرج من الرحم،في حال خرج منه،لا يكون مميّزا عن غيره من السوائل،و هكذا فلا سبيل لمعرفة مقداره.5.
ص: 112
و لنتكلم الآن عن معنى كلمة«سلالة»،فهذه الكلمة مشتقة من كلمة«سلّ»، و كلمة«سلّ»لها عدة معان منها:
1-الماء القليل.
2-السمكة الطويلة.
3-انتزاع الشيء و إخراجه في رفق (1).
4-الخروج من الزحام.
5-الخروج من مضيق.
6-السير السريع و السباق.
قال ابن فارس:«سل:السين و اللام أصل واحد،و هو مدّ الشيء في رفق و خفاء...و مما حمل عليه:السلسلة:سميت بذلك لأنها ممتدة في اتصال،و من ذلك:تسلسل الماء في الحلق إذا جرى...» (2).
ورد في لسان العرب (3):«سلل:السّل:انتزاع الشيء و إخراجه في رفق،سلّه يسلّه سلاّ و استلّه فانسلّ و سللته أسلّه سلاّ...و السلالة ما انسلّ من الشيء...و الانسلال:المضي و الخروج من مضيق أو زحام...قال ابن بري:قوله سال السليل بهم أي ساروا سيرا سريعا...و سلّة الفرس:دفعته من بين الخيل، و فرس شديد السلة:و هي دفعته في سباقه».
جاء في تاج العروس عن السلالة (4):«و أيضا السمكة الطويلة».
و نقول:إن العرب سمّت السمكة الطويلة بالسلالة لأنها ممتدّة باتصال،و أنّ انتزاع الشيء من الشيء الآخر هو امتداد له،لذلك أطلق العرب اسم السلالة على ما استخرج من الشيء،كذلك الخروج من الزحام هو امتداد للجماعة التي تشكل الزحام،و الخروج من المضيق هو اختفاء عن الأنظار من خلال الولوج في هذا المضيق و الخروج من ناحيته الأخرى،و السير يشكّل حلقة متّصلة من الخطوات،).
ص: 113
و السرعة في السير تضفي الخفاء على الشيء لأنه يقطع مسافة معيّنة في مدّة قصيرة فيغيب عن الأنظار...
و مما يجب التنويه به هنا هو أن حرف«من»له عدة وظائف في اللغة،فهو قد يأتي لابتداء الغاية في الأماكن و الأزمنة،أو للتبعيض،أو للجنس.
جاء في لسان العرب (1):«من:...و من بالكسر حرف خافض لابتداء الغاية في الأماكن،و ذلك قولك من مكان كذا و كذا إلى مكان كذا و كذا،و خرجت من بغداد إلى الكوفة،و تكون أيضا للتبعيض،تقول:هذا من الثوب و هذا الدّرهم من الدراهم و هذا منهم،كأنك قلت بعضه أو بعضهم،و تكون للجنس كقوله تعالى:
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النساء:4]،فإن قيل:كيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله و إنما قال منه؟،فالجواب في ذلك أن«من»هنا للجنس،كما قال تعالى:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج:30]و لم نؤمر باجتناب بعض الأوثان...».
فإن اعتبرنا حرف«من»لابتداء الغاية في الأماكن،فإنه ينطبق على السلالة معنى الخروج من مضيق،أو من الزحام،أو الخروج برفق،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من شيء ينسلّ برفق أو من مضيق أو من زحام إلى مكان كذا و كذا.و إن اعتبرنا حرف«من»للجنس انطبق على السلالة معنى السير السريع و السباق،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من ماء قليل يسير بسرعة.
و إن اعتبرنا حرف«من»للتبعيض انطبق على السلالة معنى السمكة الطويلة،و كان المعنى على هذا النحو:ثم جعل نسله من بعض المني يشبه السمكة الطويلة.
كلمة سلالة تشير إلى البويضة و إلى الحيوان المنوي لأنها تعني القليل من الماء،و ذلك حسب ما يشير إليه وزن الكلمة،جاء في تفسير زاد المسير (2):« وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]:قال الزجاج:و السلالة فعالة،و هي القليل مما ينسل،و كل مبنيّ على فعالة يراد به القليل،من ذلك:الفضالة،و النّخالة،و القلامة».
في هذه الحالة تكون وظيفة«من»للتبعيض و يكون المعنى على النحو التالي:
ثم جعل نسله من ماء قليل(أي من نطفة)ينسل من ماء قليل أيضا(و هو الماء الدافق).
ص: 114
و بالفعل فإن حجم الحيوان المنوي 1/100 من الملم،و حجم البويضة عند ما تنسل من الجريب 13,0 ملم،و هي أرقام صغيرة نسبيا.
و نفهم من هذا الكلام أن الذي أوحى القرآن لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أراد أن يشير الجذر«سلّ»إلى معنى الشيء القليل،فتكلّم به على وزن«فعالة»ليرينا أنه يعلم أن الحيوانات المنوية و البويضة التي تنسل من الماء صغيرة الحجم.
توجد الحيوانات المنوية في المني، و المني هو السائل الذي يتدفق من العضو التناسلي للرجل،و بالتالي فإن الحيوانات المنوية توجد في وسط مائي كما توجد الأسماك في مياه البحار و الأنهار.
إلى ذلك فإن الحيوان المنوي مؤلف من ثلاثة أجزاء:رأس،و قطعة متوسطة، و ذيل.يسبح و يتنقّل الحيوان المنوي في هذا السائل بواسطة ذيله الذي يدفع به إلى الأمام،و هكذا فإن الحيوان المنوي يشبه السمكة من حيث الحركة.
يتخذ رأس الحيوان المنوي شكلا كمّثريا-أي مثل شكل الإجاصة-و هو ضخم بالنسبة للقطعة المتوسطة و الذيل مما يجعله يشبه السمكة ذات الرأس الكبير من حيث الشكل.
و هكذا نرى تشابه الحيوان المنوي بالسمكة من حيث المحيط و الحركة و المظهر.
إنّ الحيوان المنوي طويل جدا بالنسبة لعرضه؛يبلغ طول الحيوان المنوي ستة في المائة من المليمتر و يحتل رأسه الضخم خمسة ميكرونات فقط(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر) (1)،أما باقي أجزاء الحيوان المنوي-القطعة المتوسطة و الذيل-فهي تتخذ شكلا مستطيلا طويلا و تحتل معظم طول النطفة؛ و بالتالي فإن الحيوان المنوي يظهر للرائي ليس كسمكة فحسب بل كسمكة طويلة كما تنص عليه كلمة«سلالة»التي وردت في القرآن الكريم.(انظر الصورة رقم:25).
بعد تدفق المني من عضو الرجل في مهبل المرأة تبدأ الحيوانات المنوية رحلتها إلى البويضة فتسبح في بادئ الأمر في مني الرجل و من ثمّ تصعد إلى قناة عنق الرحم سابحة في منيّ الرجل.
ص: 115
(25)-نرى في الصورة الحيوان المنوي يتحرك في الرحم و كأنه سمكة طويلة تسبح في قاع البحر وفقا لمعنى كلمة«سلالة»
و تجدر الإشارة هنا إلى أن(عنق الرحم CERVIX )يمتلئ في هذه الفترة بمادة مخاطية و لكن تصبح طبيعتها أكثر لزاجة فتسهّل عبور الحيوانات المنوية إلى الرحم و تمدها بالأوكسيجين.كما أن جدار الرحم يمد الحيوانات المنوية بالطاقة لمواصلة سيرها إلى هدفها مما يساعدها على الانسلال برفق من المني إلى الرحم فقناة فالوب تماما كما تعنيه كلمة«سلالة».
أما بالنسبة للبويضة فإن حركة(أهداب بوق فالوب FIMBRIAE )تسهّل انسلالها؛فهذه تكون قد تلقّت من الجريب موادّ كيميائية ترشدها إلى المكان الذي ستنفجر منه الحويصلة،و بذلك تتخذ مواقع لها تمكّنها من التقاط البويضة بحيث لا تضيع في جوف البطن،كما أن جريب البويضة يفرز مادة تجعل أهداب بوق فالوب
ص: 116
تسحب ماء البويضة إلى داخل البوق،إلى ذلك فإن حركة شعيرات قناة فالوب و تقلّص عضلات قناة الرحم يحدثان ضغطا سلبيا مما يساعد على التقاط البويضة و المحافظة عليها.و الأهم من ذلك كله هو أن البويضة تحاط بكمية كبيرة من الغذاء تخوّلها مواصلة نشاطها،و لو لا هذا التسهيل لواجهت النطف-سواء أ كانت الحيوانات المنوية أو البويضة-الموت المحتّم.
و هكذا يتبيّن لنا كيف أن التعبير بكلمة«سلالة»متوافق تماما لما توصّل إليه العلم من أن هناك عوامل تسهّل رحلة الحيوانات المنوية من محيطها الأول إلى محيطها الثاني،و أن هناك عوامل أخرى تسهّل انسلال البويضة من المبيض إلى مكان تلقيحها.
كما أسلفنا القول:فإن حجم ما يتدفق من المني عند استمناء الرجل يبلغ حوالي ثلاثة و نصف من المليليتر،و يوجد في هذا الحيّز من المكان حوالي ثلاث مائة و خمسون مليون حيوان منوي!!!و بذلك فإن المني مزدحم بتلك النطف.
إلى ذلك تجتمع الحيوانات المنوية في مرحلة أولى حول عنق الرحم الذي لا يسمح بمروره إلا للقليل منها فتتزاحم الحيوانات المنوية لتعبره و من ثمّ تخرج منه بدفعات قليلة و تصعد إلى قناة فالوب فينقص عددها إلى حوالي خمسمائة حيوان و لا يلقح البويضة إلا نطفة واحدة.(انظر الصورة رقم:26).
و هكذا يخرج هذا الحيوان المنوي من وسط هذا الزحام ليلقح البويضة التي تنتظره.
أما بالنسبة للبويضة فإن المبيض يحتوي على أربع مائة ألف بويضة أولية عند بلوغ الأنثى،و بشكل دوري-يتكرر مرة كل شهر-يتم انتخاب واحدة منها لتنزل إلى قناة فالوب و حتى يلقحها الحيوان المنوي.و هكذا تخرج البويضة من ازدحام المبيض بالبويضات لكي تحقق المعنى الدقيق لكلمة«سلالة»التي وردت في القرآن الكريم.
مفهوم الخروج من الزحام يستوجب أن يكون هناك زحام،و الزحام بدوره يستوجب كثرة الأفراد و إلا لما حصل هناك زحام،و انتقاء كلمة«سلالة»يدل على أنّ من جعل تلك الكلمة في مكانها ذلك يعلم تمام العلم أن هناك كثرة من الحيوانات المنوية و البويضات و أنه يحصل ازدحام من جراء ذلك.
تحدثنا أعلاه أن الحيوانات المنوية تزدحم عند فتحة عنق الرحم و من ثمّ تحاول عبور هذا العنق.
ص: 117
و عنق الرحم هو الواصل بين المهبل و الرحم-و هو جزء لا يتجزّأ من الرحم-.
و هذا العنق له فوهتان تنفتح الظاهرة منهما على جوف المهبل أما الباطنة فتنفتح على جوف الرحم.
إن منطقة الفوهة الباطنة تسمى(المضيق-أو البرزخ- UTERINE ISTHMUS ).
و مسافة هذا المضيق هي اثنان إلى خمسة ملم (1).
و تحت تأثير(الأستروجين ESTROGEN ) (2)يمتلئ عنق الرحم بالمادة المخاطية و لكن تصبح طبيعتها أكثر لزاجة مما يسمح للحيوانات المنوية بالعبور عبر قنيوات ضيّقة تتخلل المخاط.(انظر الصورة رقم:27-28).
إن عرض القنيوات الضيقة يعادل عرض شعرة الرأس (3).
و هكذا يتجلى لنا كيف أن الحيوانات المنوية تعبر عنق الرحم-الذي يشكل مضيقا بصورة عامة-،عبر قنيوات ضيقة-التي تشكّل كل واحدة منها مضيقا بصورة خاصة-لتدخل إلى الرحم.
أما بالنسبة للبويضة؛فإن عملية الانسلال من مضيق تحصل لها بعد أن تلقح، فهذه النطفة بعد أن تهاجر من(الثلث الوحشي لقناة فالوب AMPULLA OF THE UTERINE TUBE )،تواجه عند دخولها الرحم،مضيقا لا يسمح-لصغر قطره- للبويضة بعبوره لو لا اتساعه في ذلك الحين.فهذا المضيق لا يزيد قطره عن 7,0 ملم في الأيام العادية و 1 ملم عند خروج النطفة منه.
و نورد في هذا المضمار ما قاله الدكتور لارس هامبرغر (4):«إن أضيق مكان من قناة فالوب يتسع و من ثمّ تخرج البويضة الملقحة عبر الممر المحدود إلى الرحم».
ذكر كلمة«سلالة»في القرآن الكريم يدل على أن من جعلها في مكانها يعلم تمام العلم شكل رحم المرأة و هو يبدأ بمضيق عند قناة عنق الرحم و عند مدخل قناة فالوب و ذلك لما تعنيه كلمة«سلالة»من:الخروج من مضيق.9.
ص: 118
ص: 119
تصل المسافة التي يقطعها الحيوان المنوي إلى حوالي خمسة عشر إلى ثمانية عشر سنتيمترا،و تستغرق رحلة الحيوانات المنوية من فتحة عنق الرحم إلى قناة فالوب في العادة عدة ساعات و لكن بعض الحيوانات المنوية تصل إلى أنابيب الرحم بعد ثلاثين دقيقة!!!.
و بالتالي فإن سرعة الحيوان المنوي قد تصل إلى 3 ملمتر في الدقيقة و هو بذلك يقطع مسافة تعادل طوله خمسين مرة في الدقيقة الواحدة.
أما بالنسبة للبويضة؛فهي أكبر و أثقل بكثير من الحيوانات المنوية،و بالتالي فهي أبطأ من النطف الذكرية و لا مجال للمقارنة بينهما.و بما أن السرعة معيار نسبي فسنحلل سرعتها من زاوية أخرى:
إن رحلة البويضة من المبيض إلى بوق قناة فالوب تستغرق من خمس عشرة إلى عشرين ثانية!!!و من المبيض إلى الثلث الوحشي من قناة فالوب تستغرق خمسا و عشرين دقيقة.و بعد أن تلقح البويضة تستغرق رحلتها من الثلث الوحشي لقناة فالوب إلى الرحم من ثلاثة إلى أربعة أيام.و بالتالي فإن مرحلة السلالة،أي مرحلة انسلال البويضة من المبيض إلى حين تلقيها من الحيوانات المنوية هي أسرع بكثير من مرحلة هجرتها من قناة فالوب إلى داخل الرحم؛فهي تقطع ثلث المسافة المقدرة لها في خمس و عشرين دقيقة خلال فترة السلالة مقارنة بالمرحلة التي تليها حيث تقطع ثلثي المسافة بثلاثة إلى أربعة أيام.و تعزى سرعة البويضة في مرحلة السلالة إلى الضغط المتولد في جريب المبيض-خمسة عشر مليمترا زئبقيا-و الذي يدفع بها إلى الأمام و إلى حركة أهداب بوق قناة فالوب و التي تسحب بدورها البويضة إلى داخل البوق،كما أن حركة الشعيرات و انقباض عضلات قناة الرحم تساعد على إحداث ضغط سلبي يتم به سحب البويضة إلى الداخل.
و هكذا يتجلى لنا الإعجاز العلمي في استعمال كلمة«سلالة»:و هو السير السريع للحيوانات المنوية و البويضة لمصيرها المقدّر إلا و هو التلقيح.
باختصار شديد:فإن النطفة تسمّى سلالة،لأنها جزء صغير من السائل الذي يحتويه«ماء التخلق»(أي المني)،و شكل هذا الجزء شكل سمكة طويلة،و هو يخرج برفق من«ماء التخلق»بواسطة السباحة،و يزدحم عند مضيق هو مضيق عنق الرحم، فيخرج من الزحام و من المضيق و يسير بسرعة بغية التلقيح.
ص: 120
*عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له»[ذكره ابن هشام ح 69].
ما سبق هو الوصف الظاهري الخارجي للنطفة.فما الوصف الداخلي لها؟ يحدثنا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن تلك الصفات قائلا إن نطفة الرجل غليظة و نطفة المرأة رقيقة.
جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«قال العلماء:مني الرجل في حال الصحة أبيض ثخين...» (2).
و جاء في لسان العرب (3):«ثخن:ثخن الشيء ثخونة و ثخانة و ثخنا،فهو ثخين:كثف...».
و ورد في لسان العرب (4):«رقق:الرقيق نقيض الغليظ و الثخين...».
إذا المني كثيف و ماء المرأة على العكس من ذلك.
و الكثافة معيار نسبي،و لكي نستطيع أن نصف شيئا بالكثافة،فلا بد أن نقارنه مع شيء آخر لذلك سوف نقارن النطفتين:
إن نطفة الرجل مؤلفة من ثلاثة أجزاء:الرأس،و الجزء المتوسط،و الذيل.إن أهم مكون في هذه النطفة هو الرأس نظرا لأنه يحمل أهم مادة أ لا و هي المادة الوراثية.إن المادة الوراثية في رأس هذه النطفة مركّزة بصفة عالية-أي إنها شديدة الكثافة و غليظة-؛يقول الدكتور كيث مور (5):«إن الكروماتين(المادة الموجودة في رأس الحيوان المنوي)شديد الكثافة».أما المادة الوراثية الموجودة في البويضة فهي قليلة الكثافة إذا قارنّاها مع نظيرتها الموجودة في رأس الحيوان المنوي؛الدليل على ذلك هو أن رأس الحيوان المنوي ينتفخ جدا فيما بعد ليصبح بنفس حجم نواة
ص: 121
البويضة.و هذا يعني أن المادة الوراثية في البويضة تأخذ حيزا من المكان أكبر من ذلك الذي تأخذه المادة الوراثية في رأس الحيوان المنوي،و بذلك تكون أقل كثافة منها(انظر إلى الصورة التالية حيث يظهر كيف ينتفخ رأس الحيوان المنوي).و هكذا نرى أن نطفة المرأة أرق من نظيرتها لدى الرجل و إن كانت أكبر منها و أثقل،و ذلك لأن محتواها هو أقل كثافة من محتوى نطفة الرجل فيتحقق قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة»[ذكره ابن هشام ح 69].(انظر الصورة رقم:29).و على العموم فإن نطفة المرأة يحيط بها غلاف يسمى(التاج المشعّ CORONA RADIATA )شبيه بالمادة الجيلاتينية (1)و هي محاطة بسائل شبيه بمادة الجيلاتين يسمى:(السائل الحويصلي FOLICULLAR FLUID ) (2)مما يضفي عليها مظهر الرقة الذي تكلم عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.(انظر الصورة رقم:29).
و هكذا يتبين لنا الإعجاز في دقة المعاني المستعملة و الحقائق العلمية التي تنطوي عليها الآيات التي نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منذ أكثر من 1400 سنة،على أن لا ننسى أن العالم بأسره كان يأخذ بمعلومات خاطئة حتى عام 1677 م،و شهادة ذلك أن الطبيب البريطاني هارفي كتب في عام 1651 م أن الجنين يفرزه الرحم،إلى أن أتى العالمان هام و هوك ليوين و اكتشفا أنه يوجد في الماء المتدفق من عضو الرجل حيوان منوي،كل ذلك يؤكد شهادة اللّه عز و جل لذاته أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].6.
ص: 122
ص: 123
*قال العليم الحكيم: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1].
*و قال العليم الحكيم: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98].
جاء في لسان العرب:«المستودع:المكان الذي تجعل فيه الوديعة،يقال استودعته وديعة إذا استحفظته إياها» (1).
و من هذا الكلام نفهم أن المستودع هو المكان الذي تحفظ فيه الوديعة لفترة من الوقت ريثما تؤخذ منه في المستقبل.
ترى ما هي الوديعة؟.
الآية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً تجيب على السؤال:
فهذه الآية تشير إلى أن الإنسان كان نطفة لفترة من الوقت قبل أن يخلقها اللّه إنسانا.
و كلمة«هل»تأتي بمعنى«قد»و لها وظيفة التقدير و التقريب،جاء في تفسير الكشاف (2):«هل بمعنى«قد»في الاستفهام خاصة،و الأصل:أهل،بدليل قوله:
أهل رأونا بسفع القاع ذي الأكم،فالمعنى:أ قد أتى؟على التقدير و التقريب جميعا، أي:أتى على الإنسان قبل زمان قريب» (3).
و الآية تصف حالة الجنس البشري على العموم،جاء في تفسير القرطبي (4):
«و قد قيل«الإنسان»في قوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ عنى به الجنس من ذرية آدم» (5).
ص: 124
و الحين يشير إلى فترة زمنية غير محدودة،جاء في تفسير الألوسي (1):
«و الحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير و القليل و الدهر:الزمان الممتد غير المحدود...».
و بالتالي فالآية تعني:لقد مرّ على كل إنسان فترة زمنية قريبة لم يكن فيها شيئا مذكورا.
و لما ذكر في الآية لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ،نسأل:هل كان الإنسان شيئا قبل أن يصبح على الصورة التي هو عليها؟
و الجواب-و باللّه التوفيق-هو:أن الإنسان كان نطفة قبل أن يخلقه اللّه تعالى كما تعلمنا الآية: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37- 38].
جاء في تفسير القرطبي (2):«و حكى محمد بن الجهم عن الفرّاء:«لم يكن شيئا»،قال:كان شيئا و لم يكن مذكورا».
و جاء في تفسير الكشاف (3):«أي كان شيئا منسيا غير مذكور،نطفة في الأصلاب» (4).
فالإنسان كان شيئا-أي نطفة-،و لكن لم يكن مذكورا،لأن النطفة هي شيء صغير جدا،لا تذكر لصغر حجمها،و لقلّة قدرها عند الناس.
جاء في تفسير ابن كثير (5):«يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته و ضعفه».
و جاء في تفسير القرطبي أيضا (6):«أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة».).
ص: 125
و هذا المعنى تشهد له الآية: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:
8]فهي تشير إلى أن سلالة الإنسان-أي النطفة-شيء مهين،أي حقير،ضعيف، قليل.
جاء في لسان العرب (1):«مهن:قال أبو إسحاق:هو فعيل من المهانة و هي القلة،...و قوله عزّ و جلّ:خلق من ماء مهين،أي من ماء قليل ضعيف».
كذلك فإن سياق النص القرآني لسورة الإنسان المذكور أعلاه،يشير إلى أن الإنسان كان نطفة لفترة من الوقت قبل أن يصبح إنسانا،لأن الآية التي تلي الآية المذكورة،و هي: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]،تذكر أيضا أن الإنسان خلق من نطفة.فالنص القرآني يتكلم على العموم عن النطف،و بالتالي علينا أن نفسر الآية حسب ما يمليه السياق.
فإذا أيقنّا بأن الإنسان كان لفترة من الوقت نطفة قبل أن يتخلق،فهمنا عند ذلك أنه وضع وديعة تحفظ في مكان ما،لحين من الدهر،قبل أن يخلقها اللّه تعالى إنسانا،و هذا لا يكون إلا في المستودع قبل أن يخرج.
فإذا جمعنا معنى الآيتين السابقتين: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]و وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98]،يصبح المعنى هكذا:لقد مرّ على كل إنسان فترة من الوقت قريبة كان شيئا لا يذكر لحقارته و مهانته محفوظا في مستودع قبل أن يخلقه اللّه تعالى إنسانا (2).ّن
ص: 126
و من السياق نفسه نستنتج أن اللّه تعالى يخلق النطف قبل أن يحين موعد خروجها و تلقيحها بقليل(أو بكثير)،و إلا لما حفظت في مستودع.
جاء في تفسير الألوسي (1):...و المعنى هنا:قد أتى،أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا،أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد،و المراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه،بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا،و لا يعرف بعنوان الإنسانية،و هو مادته البعيدة أعني العناصر، أو المتوسطة و هي الأغذية،أو القريبة و هي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة».
و نود الإشارة هنا إلى أن تلك المفاهيم المنطوية في الآيات الكريمة التي أشرنا إليها في مبحثنا هذا،ليس من السهل أن يعلمها أحد و لو كان متمرّسا في مجال «تخلّق الجنين»،فإذا كان هناك نطف فهذا لا يستلزم أنها تخلّقت قبل أن تخرج من الجسد بكثير،و إذا كان هناك نطف فهذا لا يستلزم أيضا أن تحفظ بمستودع لها (2).
فهناك احتمال كبير أن يستطرد العالم في اتجاه مختلف عن الذي أشار إليه المولى عزّ و جلّ؛فعلى سبيل المثال قد يظن العالم أن النطف قد تتخلق عند خروج المني من جسم الإنسان.
و الإشارة إلى وجود مستودع لهذه النطف هي بحد ذاتها عجيبة،لأن هذاب.
ص: 127
المستودع غير ظاهر،فهو مختبئ داخل الجسم،و علينا أن نشرّح الجسم لنكتشف وجوده.
و لمعرفة موقع هذا المستودع يجب أن نتابع خط سير تخلق النطفة،و نفهم المسار الذي تتخذه لكي تخرج من الجسم.و هكذا نستطيع التوقف عند المحطة حيث تجثو هذه النطف قبل الخروج،و أن نقول إنه المستودع الذي تتكلم عنه الآية الكريمة.
و أما مواقع هذه المستودعات فهي كالتالي:
1-عند الرجل:تتكون خصية الرجل بمختصر مبسّط من حبال تسمى «قنيوات منوية»موجودة داخل فصوص،و عند مرحلة بلوغ الذكر تتخلّق الحيوانات المنوية من الطبقات التي تبطن تلك القنيوات (1).و بعد أن تتخلق تذهب إلى(البربخ EPIDIDYMIS )الواقع على أعلى الخصية حيث تستودع هناك إلى أن يحين وقت الخروج.و هكذا فإن الخصية هي مستودع النطف على وجه العموم،و البربخ هو المستودع على وجه الخصوص الذي تنص عليه الآية الكريمة السابقة (2).(انظر الصورة رقم:30).
2-عند المرأة:يوجد في مبيض الجنين الأنثى في الأسبوع الخامس من تخلّق الجنين حوالي خمسة ملايين نطفة،و لكن في فترة نمو المرأة يضمر أكثر هذه النطف و يموت،حتى إذا بلغت الأنثى عشر سنوات يكون تعداد النطف قد أصبح 000,400 نطفة تقريبا يتمّ انتخاب 400 إلى 500 منها للإخصاب.
هذه البويضات تكون داخل ما يسمى حويصلات،و هذه الحويصلات تكون داخل مبيض.و تظل هذه البويضات في هذه الحويصلات إلى حين نضوجها،ثم تخرج منها ليلتقطها البوق داخل رحم المرأة.
و هكذا يتبيّن لنا أن مستودع نطف الأنثى الذي تتكلم عنه الآية الكريمة السابقة هو المبيض على وجه العموم،و هو الجريب داخل المبيض المسمى بالحويصلة (3)على وجه الخصوص.(انظر الصورة رقم:31).0.
ص: 128
ص: 129
ص: 130
و يفهم من كلامنا أن اختيار كلمة«مستودع»يشير إلى إعجاز علمي يتجلى في معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن النطف تتخلّق قبل أن تخرج بكثير،و أنها توضع في مخابئ تحفظها من التلف مع السائل المنوي(أو الماء الدافق)إلى أن يحين وقت خروجها (1).
و تعليقا على تسمية«المستودع»،نشير إلى أن هذه التسمية جامعة؛فهي تشير على حدّ سواء إلى الخصية أو إلى المبيض،كما أنها تشير إلى أن النطف تحفظ في مكان آمن لفترة من الوقت لا يستهان بها،و أن هذه النطف تخرج من هذا المكان في-.
ص: 131
نهاية المطاف،أما تسمية(المبيض OVARY )و تسمية(الخصية TESTICLE )فهاتان تشيران فقط إلى أن تلك الأعضاء تحتوي على النطف،فسبحان من علّم الإنسان البيان!قال عزّ و جلّ: اَلرَّحْمنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ(4) [الرحمن:1-4].
ص: 132
*قال اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].
*سأل يهودي الرسول الكريم-عليه أفضل الصلاة و التسليم-قائلا:يا محمد ممّ خلق الإنسان؟،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20].
إن اللّه سبحانه و تعالى لم يترك الأمر بدون توضيح تام باهر للعقول؛و ذلك لكي يتبين للناس عامة و للعلماء خاصة أنه الحق،أي أنه دليل واضح على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو من كلام اللّه تعالى الذي أوحاه إلى عبده خاتم الرسل و الأنبياء سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و جعله المعجزة الخالدة الدالة على صدقه و على أن هذا الدين الذي بعث به هو الحق.
و لذا نرى أن القرآن الكريم أشار إلى أن خلق الإنسان كان من نطفة أمشاج.
و قد رأينا في المبحث السابق ما يشير إليه معنى النطفة(القطرة)،و مما يضاف إلى التفسير الأول هو أن النطفة المذكورة هي«قطرة مختلطة»(أمشاج)،أي قطرة تتشكل من خلط أجزاء متفرقة تختلط فيما بينها-و هي نطفة الرجل و نطفة المرأة- (1).
جاء في مختار الصحاح (2):«م ش ج:مشجت بينهما مشجا:خلطت، و الشيء مشيج،و الجمع أمشاج».
و جاء في تفسير القرطبي عن كلمة الأمشاج (3):«أخلاط...و يقال مشجت هذا بهذا أي خلطته...و قال الفرّاء:أمشاج:أخلاط ماء الرجل و المرأة».
ص: 133
و جاء في الدر المنثور للسيوطي (1):(أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله«من نطفة أمشاج»«قال من ماء الرجل و ماء المرأة حين يختلطان»).
و بالفعل فإن الحيوان المنوي يندفع نحو البويضة و يرتطم بجدارها و يشق لنفسه طريقا داخل هذا الجدار و من ثمّ يلج إلى داخل النطفة الأنثوية.(انظر الصورة رقم:32).
و مما يثبت ما قلناه أن نبيّ اللّه،صلّى اللّه عليه و سلّم،أشار إلى أن كلاّ من الحيوان المنوي و البويضة يساهم في تخليق جسم واحد(أي الجنين)عند ما قال«من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]و هذا يقتضي اتحادهما.
(32)-نرى في الصورة كيف أن الحيوانات المنوية تحفر لنفسها ممرا لتدخل البويضة و تختلط بها فتصبح هي و البويضة«نطفة أمشاج»كما وصفها اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2].).
ص: 134
و بذلك تصبح النطفتان نطفة واحدة،و يؤيد هذا المفهوم صياغة الآية الكريمة التي وصفت حادثة الاختلاط: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ،فكلمة«نطفة» اسم مفرد،و أما كلمة«أمشاج»فهي صفة في صيغة الجمع،و قواعد اللغة تجعل الصفة تابعة للموصوف في الإفراد و التثنية و الجمع،و بالتالي فإن كلمة«أمشاج»هي صفة جمع تصف كلمة«نطفة»المفردة،قال القرطبي:«و قال أهل المعاني:الأمشاج ما جمع و هو في معنى الواحد لأنه نعت للنطفة كما يقال:برمة أعشار و ثوب أخلاق» (1).).
ص: 135
*قال اللّه تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].
*قال اللّه عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
*قال سبحانه و تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)[عبس:17-19].
*عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21].
رأينا في مبحث«نطفة الأمشاج»أن النطفة الذكرية تلج إلى داخل النطفة الأنثوية.
فيا ترى هل تختلط النطف بكل أجزائها أم هناك أجزاء منها تختلط فيما بينها؟.
إن كلمة«أمشاج»تعبّر عن حالة عامة أ لا و هي حالة الاختلاط.هذه الحالة تحصل على نطاق واسع من خلال دخول نطفة الرجل نطفة المرأة و على نطاق ضيّق من خلال انصهار نواة النطفتين.
و لقد أشار المولى عزّ و جلّ إلى عملية الانصهار بقوله تعالى: فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً .
إن المعنى الشائع لكلمتي نسب و صهر لدى عامة الناس هو معنى القرابة(سواء أ كانت بالتوالد أم بالتزاوج)،أما المعنى الجلي الذي يظهر من خلال الآية السابقة فإنه أعم من ذلك و يشمل معنى آخر له صلة بالتخلّق الإنساني.
ف«صهرا»:مصدر من صهر،و يعني الاندماج.و الدليل على ذلك:ما قاله القرطبي في شرحه للآية:«و اشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته» (1).
ص: 136
استعمال هذه الصفة هنا-صفة الانصهار-إلى جانب كلمة ماء له مدلوله الخاص،فهو يشير إلى عملية انصهار تحصل للماء أي للنطف لتؤلف نطفة لها صفات جديدة.
الماء المذكور هنا هو النطفة(قطرة الماء)التي جاء تعريفها في الحديث«ما من كلّ الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17]و كما أشار إليه القرطبي في تفسيره للآية وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً... عند ما أعاد صياغتها مستبدلا كلمة ماء بكلمة نطفة«أي خلق من النطفة إنسانا...» (1).
الهاء التابعة لفعل«فجعله»في هذه الآية ضمير قد يعود لإحدى الكلمتين:
«الماء»أو«بشرا»و الدليل على ذلك ما جاء في تفسير القرطبي (2):«فجعله:جعل الإنسان نسبا و صهرا.و قيل:من الماء...» (3)(4).
في كلتا الحالتين ينطبق المعنى بدقة مصداقا لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم» [أخرجه البخاري ح 13].فإذا أرجع الضمير لأول كلمة،أي إذا أرجعت الهاء إلى الماء فقد تعني:فجعل الماء(ماء الرجل و ماء المرأة أو نطفهما كما جاء في تفسيرر.
ص: 137
القرطبي)صهرا،أي ينصهر بعضه مع بعض،و إذا أرجع الضمير إلى كلمة«بشر»فقد تعني فجعل البشر يتصاهرون فيما بينهم (1).ن-
ص: 138
ص: 139
كيف تتم عملية الانصهار؟.
و الحاصل أن نواة نطفة الرجل و نواة نطفة المرأة تقتربان من بعضهما بعد أن يلج الحيوان المنوي في البويضة،و عند التقاء النواتين يتفكك غشاؤهما النووي و تنصهر النواتان.
يقول الدكتور لارس هامبرغر في هذا المضمار:«إن النواتين(نواة البويضة و نواة الحيوان المنوي)تجذبان بقوة فيما بينهما و بعد قليل تنصهر» (1).
و مما يعزز معنى الانصهار قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19]،هذه الآية تشير إلى البداية الإنسانية.فباختلاط الحيوان المنوي بالبويضة يتحقق خلق إنسان جديد لأن جميع الخطوات التالية ترتكز على هذه الخطوة و تنبثق منها،فهذه الخطوة الأولى لوجود مخلوق جديد.
يتبع دخول الحيوان المنوي في البويضة انصهار نواة النطفتين،و في هذه العملية تتحدد الصفات التي ستظهر في الجنين في المستقبل،كما أنه يتقدر فيها جنس الجنين،لذلك قال تعالى: فَقَدَّرَهُ بعد ما قال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ :فالخلق أولا،و التقدير ثانيا.
تجدر الإشارة هنا إلى أن وضع حرف«الفاء»بين الفعلين«خلقه»و«قدره»هو للإشارة إلى سرعة العملية(فهذه العملية تستغرق أقل من 30 ساعة).
إن حرف«الفاء»يفيد الترتيب مع التعقيب كما سنرى في المراحل الآتية(انظر إلى مبحث«الأسلوب القرآني في استخدام حرفي«ثم»و«الفاء»في آيات علم الأجنّة») و ذلك للدلالة على سرعة العمليات التي ستحصل بعكس حرف العطف«ثم».6.
ص: 140
و هكذا تنصهر النواتان فيما بينهما لتؤلّفا ما يسمى باللغة العلمية:(البويضة المخصّبة ZYGOTE ).
و هنا يظهر الإعجاز،إذ ليس ثمة كلمة أدق و أوجز من تلك التي وردت في كلام اللّه سبحانه و تعالى لتبيان حقيقة الانصهار.
أما بالنسبة لمعنى كلمة«نسب»التي وردت في الآية المذكورة أعلاه فإن الحديث الذي سنورده إن شاء اللّه و الذي سنعلق عليه في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»سيلقي الضوء على الوجه الثاني لمعنى النسب و الحديث هو:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم» [رواه الطبراني ح 63]،فانظره هناك.
لننظر الآن إلى الحديث الذي رواه مالك بن الحويرث و إلى رواية زيد بن أسلم رضي اللّه عنهما لنرى تفاصيل هذا الانصهار:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » [أخرجه الطبراني ح 21].
سبحان اللّه!إن صياغة هذا الحديث بسيطة جدا و لكنها في غاية الإعجاز.فهو يحمل في طياته أكثر من إعجاز إخباري و لا يستنبط أسراره إلا الراسخون في العلم الديني و الدنيوي.و سوف نتعرض لكل من هذه الإعجازات في مواضعها المناسبة من النصوص المتعلقة بها-إن شاء اللّه تعالى-.
الماء المذكور هنا هو النطفة في المفهوم النبوي،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من كلّ الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17]و كما جاء في تعريف النطفة(قطرة من ماء).
يعلم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تمام العلم أن النطفة لا تطير(حسب مفهومنا العامي) (1)،.-
ص: 141
و أنها تسبح بدلا من أن تطير(كما تعني كلمة سلالة:راجع مبحث«نطفة»)،و أن وظيفة النطفة الذكرية هي تلقيح النطفة الأنثوية:فهو الذي أكد أن الماء يختلط بدلا من أن يطير(وفقا لما جاء في الحديث الشريف:«يا يهودي من كلّ يخلق من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]أو كما أوحى اللّه سبحانه و تعالى على لسانه إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ... [الإنسان:2]،لذا وجب تفسير الحديث على الوجه الصحيح.
و لا بد إذا أردنا أن نصيب في التفسير،أن نلاحظ النقاط التالية:
1-أن الطيران حاصل في العروق(و هذا مستحيل علميا حسب مفهومنا العامي للطيران)،لأن العروق-أي العروق التي يجري فيها الدم-منتشرة في جسم الإنسان.و إذا أخذنا الحديث الشريف بالمعنى العامي أي بمعنى الطيران،فهذا يعني أن النطفة تجري في كافة أعضاء الإنسان و هذا أمر يرفضه العلم.
2-أن الحديث يتكلم عن التخلق كما يشير إليه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة...»[أخرجه الطبراني ح 21].و عملية التخلق هذه تستوجب اختلاط النطف،و مفهوم الطيران وجب عليه من هذا المنطلق أن يكون ضمن هذا الإطار، بحيث يتوافق مع السياق،و هذا يستوجب معنى الانتشار كما سنراه.
3-لو جاء معنى العروق بالمعنى المتعارف عليه في أيامنا هذه(أي عروق الدم)لأصبح المعنى عبثيا مستحيلا و ذلك لأن إحضار العروق من سيدنا آدم عليه السّلام متعذر.
4-أن العرق الذي ذكر في الحديث الشريف هو(الصبغيات CHROMOSOMES )في المصطلح العلمي،و الدليل على ذلك:
*ورود كلمة عرق في عدّة أحاديث بمعنى الصبغيات كما في«تزوّجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس»[ذكره السخاوي ح 71]،و«هذا لعله يكون نزعه عرق له...»[أخرجه مسلم ح 65](انظر إلى مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة» و مبحث«الانحراف التخلّقي و مضاعفاته كما يراه القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة»).).
ص: 142
إذا أردنا أن نعيد معنى كلمة«العرق»للجنين فإن إحضار العرق حسب مفهومنا العامي مستحيل و ذلك لأن الجنين في مراحله الأولى كتلة خلايا و ليس هناك أيّ عرق دم فيه.و إذا أردنا أن نعيد كلمة«العرق»إلى المرأة فإن إحضار عروق المرأة مستحيل أيضا لأن تلك العروق تبقى في محلها.
أما عن معنى كلمة«عصب»فسنتعرض له في مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»،فانظره هناك.
إن المفهوم النبوي للتخلّق و لحركة النطفة(حركة التخصيب FERTILIZATION )،بالإضافة إلى النقاط المذكورة أعلاه يرسم لنا الإطار الذي يجب أن نفكر فيه للوصول إلى التفسير الصحيح و الحقيقة.
إن المعنى الذي ينطبق على فعل«طار»في هذه الحالة هو انتشر،و يستعمل للدلالة على شدة الانتشار و سرعته(انظر حاشية«الملحق»المرفق في آخر الكتاب).
و الدليل على ذلك هو ما قاله ابن فارس:«طير:الطاء و الياء و الراء،أصل واحد يدل على خفّة الشيء في الهواء،ثم يستعار ذلك في غيره و في كلّ سرعة...يقال لكل من خف:قد طار» (1).
فإذا خفّ الشيء في الهواء،أخذه الهواء في كلّ ناحية،و تفرّق.
قال ابن فارس:«و يقال من هذا:تطاير الشيء:تفرّق،و استطار الفجر:
انتشر،و كذلك كل منتشر» (2).
و ورد في لسان العرب (3):«و التطاير و الاستطارة:التفرق.و استطار الغبار إذا انتشر في الهواء.و غبار طيّار و مستطير:منتشر....
و في حديث بني قريظة:و هان على سراة بني لؤيّ حريق،بالبويرة،مستطير أي منتشر متفرّق كأنه طار في نواحيها».
لذلك فإن كلمة«طار»في الحديث هي من قبيل الاستعارة (4).).
ص: 143
قال اللّه تعالى في القرآن الكريم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7].
جاء في ابن كثير تعليقا على هذه الآية (1):«و يتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء حساب يوم المعاد و هو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عامّ على الناس إلا من رحم اللّه...قال قتادة:استطار-و اللّه-شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات و الأرض...».
و لقد ورد معنى الانتشار في التعليق على الحديث الذي رواه مالك بن الحويرث في كتاب«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (2):«و كل ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشبه في اليوم السابع و أن فيه يبتدئ الجمع بعد الانتشار».
و كما أسلفنا القول فإن النطفة الذكرية(أي الحيوان المنوي)تدخل في النطفة الأنثوية و من ثمّ يقترب رأسها المحتوي على كتلة الصبغيات(أو العروق)من نواة النطفة الأنثوية(البويضة)التي تحتوي على كتلة عروق مماثلة فتطير و تنتشر عروق هذا الحيوان المنوي بين عروق البويضة (3).
يقول الدكتور كيث مور (4):«إن صبغيات الأم و صبغيات الأب تختلط في (الطور الاستوائي METAPHASE )(لأول عملية انقسام ميتوزية FIRST MITOTIC DIVISION )للبويضة المخصبة».
فإذا أردنا أن يستقر معنى الحديث«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها» [أخرجه الطبراني ح 21]على ضوء المعطيات العلمية التي ذكرناها سابقا وجب علينا أن2.
ص: 144
نعيد الضمير في كلمة«منها»إلى بويضة المرأة (1)،فإذا فعلنا ذلك تكشّفت لنا إعجازات علمية عديدة هي التالية:
1-إن النطفة الذكرية أصغر من النطفة الأنثوية و إلا لما طارت في...(أي انتشرت في...).فالانتشار في مكان ما يستوجب من المنتشر أن يكون أصغر من مكان الانتشار،و هذا يعني أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلم تمام العلم أن الحيوان المنوي أصغر من البويضة.(انظر الصورة رقم:34 في الصفحات التالية).
2-إن الحيوان المنوي يدخل البويضة لأنه ينتشر فيها.
و مما يؤكد استدلالنا هو صياغة الحديث الشريف حيث ورد:«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21].
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أدرج ماء الرجل بأكمله و عروق المرأة فقط في عملية الانتشار.
و من المعلوم أن عملية الانتشار تستوجب إدراج عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة فقط في عملية الانتشار.
فلو أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قال:طارت عروق ماء الرجل في عروق ماء المرأة لاستثنى بذلك ذيل الحيوان المنوي من دخول البويضة و لقيّد عملية الدخول بعروق نطفة الرجل فقط،و لكن الواقع يشير إلى أن الحيوان المنوي يدخل بأكمله البويضة (باستثناء غشائه الذي يلصق بغشاء البويضة أثناء الدخول)،و لذلك كان لا بد من أن يتكلّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الماء بأكمله و ليس عن العروق فقط.(انظر الصورة رقم:34 في الصفحات التالية).
غير أن إدراج الماء بأكمله في عملية الانتشار لا يستوجب أن ينتشر الذيل أيضا؛فالذيل يتحلل فور دخول الحيوان المنوي البويضة (2)،و تبقى العروق لعملية0.
ص: 145
الانتشار فقط،و تصبح العروق الممثّل الوحيد للماء،و لذلك أطلق اللفظ الذي يشير إلى الكل(أي إلى الماء)في صياغة الحديث الشريف و أريد به الجزء(أي عروق النطفة).
(انظر الصورة رقم:35).
و هذا الأسلوب معروف في اللغة العربية و يندرج في باب المجاز المرسل؛ مثال على ذلك قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ [البقرة:19]،فالمقصود من الآية أن أطراف الأصابع تجعل في الآذان و ليس الأصابع كلها (1).
و الدلالة على أن عملية الاختلاط تقتصر على عروق الرجل فقط دون الذيل (و على عروق المرأة أيضا)حسب المعطيات الشرعية هو الحديث الذي سيلي تفسيره في المباحث اللاحقة و هو«إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها...»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]حيث إنه أتى على ذكر العروق فقط لعملية تسبق عملية الانتشار بدقائق معدودة،و هذه العروق هي عروق الرجل و المرأة فقط كما سنراه لاحقا.
و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن الحيوان المنوي يدخل بأكمله البويضة و أن ذيله لا ينتشر فيها،و بذلك يكون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تكلم عن دخول الحيوان المنوي البويضة قبل العالم(هيرتويج HERTWIG )الذي تمكن من ملاحظة كيف يلقّح الحيوان المنوي البويضة عام(1875 م)أي بعد 1200 سنة تقريبا!!!.
3-إن النطفة الأنثوية تحتوي على عروق و إلا لما ذكر الرسول-عليه الصلاة و السلام-أن الماء يطير(أي ينتشر)في عروق المرأة-أي في العروق التي تفرزها المرأة أ لا و هي عروق نطفتها-.و هذا يشير إلى معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن النطفة تحتوي على صبغيات.فلو أن العروق لم تكن موجودة في بويضة المرأة-حسب المفهوم الإسلامي-فلما ذا تفرز المرأة نطفة تعطي الجنين صفات،إن كان العرق غير موجود فيها و هو المسئول عن إعطاء الصفات؟،و لهذا تشهد الأحاديث التالية:
«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»[أخرجه مسلم ح 65]،«و انظر في أيّ نصاب تضع ولدك فإن العرق دسّاس»[ذكره العجلوني ح 71]،«الناس معادن و العرق دساس»[ذكره ابن الجوزي ح 71]،«تزوّجوا في الحجر الصالح فإن العرق دسّاس»[ذكره السخاوي ح 71]، «نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيّهما غلبت صاحبتها فالشبه له» [ذكره ابن هشام ح 69] (2).».
ص: 146
كذلك فهم بعض فقهاء الصحابة رضي اللّه عنهم ما أشرنا إليه؛فلقد أشار الصحابي الجليل عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه إلى أن النطفة تحتوي على عروق،كما في الروايتين التاليتين:
-جاء في الدر المنثور:أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عبد اللّه بن مسعود قال:إذا جئناكم بحديث أتيناكم بتصديقه من كتاب اللّه إن النطفة تكون في الرحم أربعين ثم تكون علقة أربعين ثم تكون مضغة أربعين،فإذا أراد اللّه أن يخلق الخلق نزل الملك فيقول له:اكتب،فيقول:ما ذا أكتب؟فيقول:اكتب شقيا أو سعيدا، ذكرا أو أنثى،و ما رزقه،و أثره و أجله،فيوحي اللّه بما يشاء و يكتب الملك،ثم قرأ عبد اللّه: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ثم قال عبد اللّه:أمشاجها عروقها.
-و ورد فيه أيضا (1):أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله أمشاج،قال:العروق.
قال ابن رجب الحنبلي (2)-بعد أن أورد الآية إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ -قال:«و فسّر طائفة من السّلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها» (3).
و الخلاصة:قوله:إن النطفة لها أمشاج،و هذه الأمشاج هي العروق(أي الصبغيات)،هو دلالة على أن في النطفة صبغيات.
و هكذا فإن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تحدث عن دور الصبغيات في عملية الإخصاب قبل العالم(فليمينغ FLEMMING )(1878 م).
4-إن النطفة الأنثوية(أي البويضة)لا تحتوي على عروق فحسب،بل على مكوّنات أخرى و ذلك لأن ماء الرجل يطير في عروق من نطفة المرأة لا في النطفة بأكملها؛فالانتشار ثابت بين أعضاء محددة من البويضة(أي الصبغيات)كما تشير إليه كلمة«منها».
و بالفعل فإلى جانب العروق التي توجد في نواة النطفة هناك(الهلام الخليوي CYTOPLASM )الذي يحيط بالنواة و الذي يحتوي على(مولدات الطاقة MITOCHONDRIA )في النطفة و مصانع تصنيع البروتينات(الريبوسومات].
ص: 147
(33)نرى في الرسم مقطعا للخلية(و بالتالي البويضة)حيث يتبين لنا أنها تتألف من أعضاء كثيرة غير الصبغيات كما أشرنا إليه في النقطة رقم 4 لتفسير الحديث «طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21].
RIBOSOMES )و(جهاز جولجي GOLGI APPARATUS )المختص بتخزين عمليات البناء في الخلية،و عناصر أخرى.(انظر الصورة رقم:33).
و هذا ما أكده زيد بن أسلم حيث قال في تفسيره للآية: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ :الأمشاج العروق التي في النطفة (1).
فلقد حدد أن العروق موجودة داخل النطفة و بالتالي حدد أن العروق لا تؤلّف كل النطفة بل هناك أعضاء أخرى.
و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن الصبغيات لا تكوّن كلّ البويضة.
5-إن الأجزاء التي اختلطت هي عروق موجودة في النطفة و ليس سواها، و ذلك لأن الماء يطير في(أي ينتشر بين)عروق و أعصاب نطفة المرأة(أي صبغياتها) و لم ينتشر في أعضاء أخرى.).
ص: 148
و هذا تلميح واضح إلى أن العناصر الأخرى لا تشارك في عملية الاختلاط.
(انظر الصورة رقم:38).
و قد أقرّ الصحابي عبد اللّه بن مسعود و التابعي زيد بن أسلم رضي اللّه عنهما هذا المفهوم في قولهما:«أمشاجها عروقها»و«الأمشاج العروق التي في النطفة»؛أي أن الأجزاء التي تختلط هي العروق المتواجدة داخل النطفة.و مما يقوّي هذا التفسير هو أنه إذا اختلط شيئان نقول عنهما:«مشيج»في الغالب و ليس«أمشاج»،ذلك أن كلمة «أمشاج»تشير إلى أن عدة أشياء اختلطت فيما بينها؛أ لا و هي العروق،جاء في لسان العرب (1):«مشج:المشج و المشج و المشج و المشيج:كل لونين اختلطا...
و قيل:هو كل شيئين مختلطين،و الجمع أمشاج».و جاء في مختار الصحاح (2):«م ش ج:مشجت بينهما مشجا:خلطت،و الشيء مشيج،و الجمع أمشاج» (3).ة.
ص: 149
و هذا يفيد أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم بوحي ربّاني أن هناك عناصر أخرى لا تختلط مع عروق الحيوان المنوي.
6-إن عروق نطفة الرجل تقترب من عروق نطفة المرأة (1)،فالانتشار بين عروق المرأة يستوجب الاقتراب منها،و إلا لما استطاعت العروق الاختلاط.(انظر الصورتين رقم:37-38).
و مما يثبت صحة كلامنا هذا،هو قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54]،فهذه الآية-كما سبق و تكلمنا-تشير إلى انصهار نواتي الماءين،و الانصهار يتوقف على الاقتراب.و نفهم من هذا الحديث أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن نواتي الحيوان المنوي و البويضة تنجذب إحداهما إلى الأخرى.
7-إن عملية التقدير المذكورة في الآية: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ تكون من خلال مشج(أي اختلاط)العروق فيما بينها،و ذلك يوافق ما جاء في الآية: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً... من أن النسب يعقب الخلق و ذلك بانصهار النواتين،كما أنه يوافق المعنى الذي أتى في الحديث:«إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و المفيد بأن إحضار الشبه يكون عند ما يحين الخلق و ذلك بسبب العروق.
8-إن رأس الحيوان المنوي يتسع و يتضخم،فالانتشار يقضي تمدّد و تبعثر أعضاء المادة المنتشرة.و الحيوان المنوي في بادئ الأمر يكون غليظا كثيفا بالنسبة لنطفة المرأة(فعروقه أكثر تراصا و تراكما من عروق المرأة)كما يشير إليه الحديث النبوي الشريف«نطفة الرجل بيضاء غليظة...»[ذكره ابن هشام ح 69]و من ثم تضطرب عروقه و تتسع(أي تتحرك و تتمدد)كما يعنيه الحديث«إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22] (2)(انظر الصورة رقم:36)،و من ثمّ تنتشر و تختلط عروق النطفتين وفق الحديث«طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21](انظر الصورة رقم:39)،بعكس حالة البويضة،فهي في بادئ الأمر رقيقة،قليلة الكثافة بالنسبة للحيوان المنوي كما وصفها الحديث«نطفة المرأة صفراء رقيقة...»[ذكره ابن هشام ح 69]،غير أن تلك العروق تستكمل امتدادها فور دخول الحيوان المنوي لأن الحديث شمل كلّ العروق في عملية الاضطراب كما أتى في لفظ«اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و لم يشر إلى بعضها دون البعض الآخر.».
ص: 150
ص: 151
ص: 152
ص: 153
و نود الإشارة هنا إلى أن:
-عملية الانتشار تتصف باختلاط أجزاء متفرقة.
-و أن الأجزاء المتفرقة هي عروق.
-و أن هذه العروق هي عروق موجودة في النطفة.
بما أن ذلك كله متحقق،فنفهم عندها أن إطلاق تسمية«نطفة الأمشاج»على البويضة المخصبة يعني«نطفة العروق المختلطة».و هكذا يتجلى لنا الإعجاز البلاغي للقرآن لأنه اختصر عدة معان في كلمتين فقط.
و في النهاية نود التعليق على التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على البويضة المخصبة و نقارنها بالمصطلحات التي وضعها الأطباء لنرى أيهما مناسب أكثر من حيث الدلالة:
أطلق العلماء على البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي اسم(البويضة المخصبة FERTILIZED OVUM )،و على البويضة المخصبة بعد أن تتحد فيها نواتا الحيوان المنوي و البويضة اسم:(الخلية الموحدة ZYGOTE )،و بالتالي فإن تسمية«البويضة المخصبة»تشير إلى تلقيح الحيوان المنوي للبويضة،كما أنها تشير إلى أن شكل البويضة مستدير نسبيا،و هذه التسمية غير مناسبة بتاتا؛ذلك أنها توحي إلى القارئ أن بويضة المرأة هي الأصل،و أن الحيوان المنوي لا يلعب إلا دورا هامشيا،أي دورا محفزا في تكوين الجنين.أما بالنسبة لتسمية الخلية الموحدة فهي لا تعكس ما يجري داخل البويضة المخصبة،و لا تشير إلى شكل البويضة...إلخ.
أما تسمية«نطفة أمشاج»فهي تشير إلى الشكل الخارجي للبويضة المخصبة، و تدل على حجمها،و تعكس العمليات التي تجري داخلها،ناهيك عن أنها تشير إلى حركة البويضة المخصبة؛فالنطفة تعني،كما أشرنا إليه في مبحث«النطفة»،القطرة من الماء،و بالتالي فإن هذه التسمية تشير إلى أن البويضة المخصبة صغيرة كقطرة الماء،و أنها مستديرة نسبيا كقطرة الماء،و أنها تنساب على سطح ما يسمى«بقناة فالوب»خلال هجرتها من المبيض إلى الرحم كما تنساب القطرة من الماء على السطح المائل.
و وصفها بأنها«أمشاج»يشير إلى أنها مكونة من أعضاء كثيرة(الصبغيات)، و يعكس العمليات الداخلية التي تجري داخل البويضة من اختلاط الصبغيات فيما بينها، ناهيك أنه يعطي للحيوان المنوي نفس الأهمية التي يعطيها لبويضة المرأة،في إشارة إلى شراكة متساوية للذكر و الأنثى في تكوين الجنين.فتأمل أيها القارئ الكريم!!!.
ص: 154
*عن عبد اللّه بن بريدة:أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود، فأخذ بيد امرأته،فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق،لقد تزوّجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقت!...إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له» [أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
*عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...
العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
هذه المرحلة تبدأ زمنيا قبل مرحلة«اختلاط عروق النطفة»و تنتهي عندها، و لكن وضعناها بعدها لكي تتضح الأمور للقارئ،و لأن مبحث«اضطراب عروق النطفة»مرتبط بمبحث«اختلاط عروق النطفة».
إن الحديث الذي رواه عبد اللّه بن بريدة رضي اللّه عنه جاء في توضيح ما حصل لامرأة ولدت غلاما أسود لا يشبه أحدا من أبويه،فشكّ زوجها في عفّتها و لكن برّأها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من شكّ زوجها.
العرق في الحديث هنا و في سائر الأحاديث الشريفة التي ذكرناها في هذا الكتاب يعني الصبغيات في المصطلح العلمي (1).
يكشف لنا الحديث الشريف الذي رواه عبد اللّه بن بريدة النقاب عن حادثة «اضطراب».هذا الاضطراب يحصل للعروق كلها و ذلك«إذا كان حين الولد»[أخرجه الديلمي ح 23]أي إذا حان وقت خلق الجنين.
نقطة الصفر في ولادة الجنين تحصل عند دخول الحيوان المنوي البويضة أي عند مشج و اختلاط النطفتين و ذلك لأن أجزاءه المتفرقة تتوحّد تحت جسم واحد.
و ما روي عن ابن عباس:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق»
ص: 155
[أخرجه الديلمي ح 23]يوافق هذ المعنى؛فالنطفة التي يخلق منها الولد تشير إلى البويضة المخصبة و ذلك لأن النطف التي لم تخصّب لا تؤدي إلى تخلّق الولد.
لكل من النطفتين-النطفة الذكرية و النطفة الأنثوية-عروق أي صبغيات (1).
هذه العروق تضطرب أي تتحرك لحظة دخول الحيوان المنوي البويضة.
جاء في لسان العرب (2):«و تضرّب الشيء و اضطرب:تحرك و ماج، و الاضطراب:تضرّب».
و جاء أيضا (3):«رعد...و الارتعاد الاضطراب،و في حديث زيد بن أسود:
فجيء بهما ترعد فرائصهما أي:ترجف و تضطرب من الخوف»[أخرجه الترمذي ح 24]..
كل من العروق-عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة-ترتجف وفقا لما جاء«اضطربت العروق كلها»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و«ترعد لها...العروق كلها»[أخرجه الديلمي ح 23].
و نود الإشارة هنا إلى أن عملية الاضطراب و الارتجاف هي عملية ذات طابع ارتدادي،أي أن أعضاء هذه العملية تتحرك و من ثمّ تعود أدراجها.و بالتالي فإن عملية الاضطراب ليست مجرد عملية تحرك،كما أن أعضاء عملية الارتجاف تتحرك تحركا محدودا فهي تموج و تتحرك قليلا في مكانها و لا تتحرك كثيرا كالانتقال من مكان إلى آخر.
كيف تتم عملية الاضطراب؟.
بعد أن يدخل الحيوان المنوي البويضة تنقسم العروق الموجودة داخل نواة البويضة إلى جزءين محدثة(الانقسام الميوزي الثاني SECOND MEIOTIC DIVISION ) (4)حيث ينزوي قسم من العروق في أحد جوانب البويضة بينما يواجه القسم الثاني عروق الحيوان المنوي التي دخلت البويضة.
و من ثمّ تمتد عروق نواة البويضة داخل النواة من خلال عملية تسمى:عملية (تخفف التكثف DECONDENSATION ) (5).7.
ص: 156
إلى ذلك،فإن رأس الحيوان المنوي الذي يحتوي هو أيضا على صبغيات(أي عروق)بشكل متراص و متراكم يتضخم رأسه و تتسع و تمتد عروقه بداخله (1).
يعقب ذلك تضاعف صبغيات كل من النواتين (2).
و تتقارب النواتان.
و عند التقاء النواتين يتفكك غشاؤهما النووي كما رأينا في مبحث«اختلاط عروق النطفة»و تنصهر النواتان.
يعقب ذلك تكثّف صبغيات كل من النواتين (3).
خلال عملية التكثف تغلظ الصبغيات و يقصر طولها (4).
إن عملية امتداد العروق و انقباضها على نفسها ما هي إلا عملية تموّج أي عملية تحرّك ارتدادي تماما كما تعنيه كلمة«اضطراب».
إلى ذلك فإن تحرك العروق في عملية الامتداد و الانقباض محدودة جدا؛ فالامتداد و الانقباض له مقدار لا تستطيع العروق أن تزيد عليه في الامتداد و لا أن تنقص منه في الانقباض.
و هكذا ترتجف العروق لتحقق معنى الاضطراب و الارتعاد الذي ورد في الأحاديث الشريفة.
و من الجدير بالذكر هنا أن عملية الاضطراب تأتي زمنيا بعد عملية التخلق(أي بعد عملية التخصيب)و قبل(أو عند)عملية تقدير شبه الجنين،و ذلك لأن العروق تستعد لعملية التقدير بسؤال اللّه عزّ و جلّ أن يجعل الشبه لها.
الاستعداد لعملية التقدير يكون بامتداد العروق-و اللّه أعلم-(و ذلك ليتاح لها أن تضاعف صبغياتها فتكون مؤهلة لعملية التقدير)،و بانقباض العروق على نفسها [(و ذلك لكي يتاح لمادة(الدي أن آي DNA ) (5)التي يبلغ طولها حوالي مترين أن تعبّا داخل نواة خلية واحدة لا يزيد قطرها عن ستة ميكرون (6)(و الميكرون هو واحد على الألف من المليمتر)].3.
ص: 157
إن المتتبّع و المستقرئ للنصوص القرآنية و الحديثية يدرك مدى عظمة الإعجاز الإسلامي في الإخبار عن الأمور العلمية في مجال«تخلّق الجنين».فالآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة توضح لنا الصورة التي تكون عليها العروق و المسار الذي تتبعه، و هو على النحو التالي:
-كثافة الحيوان المنوي بالنسبة للبويضة-دخول الحيوان المنوي البويضة -تمدد الحيوان المنوي-اقتراب نواتي النطفتين-انصهار نواتي النطفتين-اختلاط العروق-إحضار الشبه.
التكلم عن أشياء موجودة داخل مكان مغلق و مظلم(أي داخل الرحم)يلفت النظر...
و التكلم عن أشياء صغيرة جدا(أي عن البويضة و الحيوان المنوي)موجودة داخل ذلك المكان يسترعي الانتباه...
و التكلم عن عمليات لتلك الأشياء الصغيرة(كاختلاط النطفتين)إعجاز إخباري مبين...
و التكلم عن أعضاء متخفّية داخل تلك الأجزاء الصغيرة(أي عن العروق)يزيد من قوة الإعجاز...
و التكلم عن تحرك تلك الأعضاء الصغيرة المتخفية أمر مدهش...!
و أما تحديد طبيعة التحرك لأعضاء تلك الأشياء الصغيرة المتخفية فهو أمر يبهر العقول...! إلى ذلك فإن توقيت التحرك المحدود للأعضاء الصغيرة المتخفية بدقة متناهية أمر لا يصدقه عقل إلا إذا كان:
1-وحيا ربانيا،
2-أو كشوفا علمية لمجمع علمي منعقد لسنين مستمرة،و مزود بتقنيات عالية.
و الاحتمال الثاني تكشّف في عصرنا هذا،و الاحتمال الأول قد أشير إليه قبل 1400 سنة في ظل من الأمية مسيطر،فاعتبروا يا أولي الأبصار!!!.
و انظر لهذا الغرض تعليقنا في الملحق المرفق في آخر هذا الكتاب.
ص: 158
*قال العليم الحكيم: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].
*قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].
*قال اللّه عزّ و جلّ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
نود في البداية التعليق على الآية: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].
ورد في لسان العرب (1):«و الحبة من الشيء:القطعة منه».
و جاء في تفسير ابن كثير (2):«...و قد عبّروا عن هذا و هذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى،فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة و عكسه...».
و جاء في القرطبي (3):«يخرج البشر الحي من النطفة الميتة،و النطفة الميتة من البشر الحي...و في صحيح مسلم عن عليّ رضي اللّه عنه:و الذي فلق الحبة و برأ النّسمة إنه لعهد النبي الأمّي صلّى اللّه عليه و سلّم...»[أخرجه الترمذي ح 25].
و جاء نفس الكلام في مراجع عديدة (4).
ص: 159
إذا أخذنا بمجموع التفاسير المذكورة السابقة أصبحت الآية تعني:إن اللّه فالق القطع الصغيرة من جسم الإنسان و نواتها(و هي الحبّ أي النطف) (1)يخرج البشر الحي من النطفة الميتة،و مخرج النطفة الميتة من البشر الحي.
هنا الدهشة تمتلك من يتدبر الآيات القرآنية:
إن الآية: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95]تعبّر عن سمة كونية عامة يمتاز بها عالم النبات و الحيوان و الإنسان،فالفلق سمة عامة لكلّ خلاياهم(الجنسية أو الجسدية)كما يشير إليه العلم الكوني،و كما تدل عليه صياغة الآية الكريمة،فاللفظ: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى جاء على إطلاقه و لا يقيّد سمة الفلق لجنس من الأجناس.
إن البويضة بعد تخصيبها من الحيوان المنوي تنفلق-أي تنقسم-إلى جزءين مصداقا لقول اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ... ،هذا الانفلاق يحصل أيضا لنواة البويضة كما جاء في الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى .
و التفصيل كالآتي:
لقد رأينا في مبحث«اضطراب عروق النطفة»أن صبغيات النطفة المخصبة تمتد و من ثمّ تتضاعف صبغياتها و من ثمّ تنقبض على نفسها.و يعقب ذلك أن تصطفّ العروق و هي مؤلّفة من زوج من الحبال تسمى:(كروماتيد CHROMATIDS )بشكل منتظم عند خط استواء النطفة،و يتصل كل زوج من حبال الكروماتيد بقسيمة مركزية تسمى:(سنترومر CENTROMERE ).
إلى ذلك يتألف القسم المركزي للنطفة من زوج يسمى:(سنتريول CENTRIOLES )يتباعدان بحيث يتجه كل سنتريول في اتجاه أحد قطبي النطفة.
و خلال اصطفاف العروق عند خط استواء النطفة تمتد خيوط شعاعية من (قسيمات النطفة المركزية CENTRIOLES )إلى كل(القسيمات المركزية للصبغيات CENTROMERES )و تؤلف ما يسمى بخيوط المغزل.
و يعقب ذلك أن ينقسم كل(سنترومر CENTROMERE )إلى اثنين بحيث تنفصل الحبال الشقيقة(الكروماتيد)إلى حبال مستقلة.
و من ثمّ تنكمش خيوط المغزل نحو قطبي النطفة فتنجذب الحبال المنفصلة».
ص: 160
معها بحيث يجتمع في النهاية عند كل قطب من النطفة عدد متساو من الحبال، و بذلك تنفصل نواة النطفة إلى نواتين مستقلتين.
و يعقب ذلك أن ينقسم(الهلام الخلوي للبويضة CYTOPLASM )إلى جزءين مستقلين (1)يحتوي كل منها على نواة،و بذلك تنفلق النطفة إلى خليتين محدثة ما يسمى باللغة العلمية:(الانفلاق الفتيلي MITOTIC DIVISION )،و يتحقق الانفلاق للنطفة على وجه عام و لنواتها على وجه خاص كما أشارت إليه الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى... .(انظر الصورة رقم:40).
إلى ذلك فإن عملية الانفلاق التي تحدّثنا عنها و التي تحدث للنطفة و لنواتها هي التي سوف تؤدي إلى خلق شيء حي،كما جاء في الآية الكريمة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ،و هذا المعنى يؤيده تفسير ابن كثير و القرطبي(يخرج البشر الحي من النطفة الميتة)كما ذكرناه في بداية هذا البحث.فلو لا هذه العملية لما نشأ فيما بعد(كما سنراه في مبحث«جمع خلايا الجنين»)كتلة الخلايا التي ستؤلف الجنين.
و بذلك فإن الوحي السماوي قد سبق العالمين(بريفوست و دوماس PREVOST AND DUMAS )(1824 م)إلى وصف ظاهرة(انشقاق البويضة CLEAVAGE )، و العالم(و ولف WOLFF )(1759 م)إلى أن الكرويات تنفلق لتؤلف طبقات من الخلايا يتخلق منها الجنين،و العالم(فون بندن VON BENEDEN )(1883 م)الذي وصف ظاهرة الانقسام الاختزالي(أي انقسام نواة البويضة).
و تعليقا على الآيتين: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] و سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]نورد ما يلي:
إذا تأملنا تطور النطفة يمكننا تسجيل هذه النقاط:
*إن نطفة الرجل-و خلال هجرتها من الجهة الظاهرة من الخصية إلى الجهة الباطنة-تنفلق إلى جزءين،و كل جزء من هذين الجزءين ينفلق إلى جزءين آخرين.
*إن خلايا نطفة المرأة قبيل تلقيحها من قبل الحيوان المنوي،تنقسم إلى جزءين بعد أن تسقط من المبيض داخل قناة فالوب.و الحاصل أن نصف خلايا النطفة تنزوي في جسم صغير معلّق بالنطفة يسمى:(الجسم القطبي POLAR BODY )، و يبقى النصف الثاني في النطفة.(انظر الصورة رقم:41).
ص: 161
ص: 162
ص: 163
بعد أن ينصهر النصف الثاني من نواة نطفة المرأة مع رأس الحيوان المنوي، يبدأ انفلاق(نطفة الأمشاج ZYGOTE ):فالنطفة الحاصلة تنفلق إلى جزءين،و هذان الجزآن ينقسم كل واحد منهما إلى جزءين آخرين،و يتم هذا الانفلاق في كل من الأجزاء اللاحقة،فتسمى النطفة عند ما تصبح مكونة من ثمانية خلايا باللغة العلمية (بالتوتة MORULA )و من ثمّ(بالكرة الجرثومية BLASTOCYT ).(انظر الصورتين رقم:43-44)
ص: 164
ص: 165
عند ما تدخل نطفة الأمشاج في الرحم،تنقسم الخلايا الناتجة من الانفلاق إلى جزءين:أحدهما سوف يؤدي إلى تخلّق الجنين(و يسمى كتلة الخلايا الداخلية)،و الثاني سوف يؤدي إلى تخلّق(المشيمة PLACENTA )(و يسمى كتلة الخلايا الخارجية).
(انظر الصورة رقم:45).
فالنقاط الخمس التي ذكرناها أعلاه تؤكّد إخبار اللّه-سبحانه و تعالى-قبل أربعة عشر قرنا بأنه يفلق النواة إلى جزءين.و هذا التصريح تؤكده الآية الكريمة الثانية: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].على أن الآية الأخيرة عامة في معناها أكثر و تشمل و تظهر حقائق أكثر؛فكل شيء مكوّن من زوجين سواء انفلق أم لم ينفلق:
*فالإنسان مؤلّف من رجل و امرأة.
*و النطفة من نطفة ذكرية(حيوان منوي)و نطفة أنثوية(بويضة).
*و نطفة الرجل تنقسم إلى جزءين،و نطفة المرأة تنقسم إلى جزءين و نطفة الأمشاج تنقسم إلى جزءين و كل جزء منها ينقسم إلى جزءين،و مجموعة السلالات التي تؤلف النطفة بعد أن تقع في رحم المرأة تنقسم إلى جزءين.
*و نواة الخلية العادية سواء عند المرأة أو عند الرجل مؤلفة من ثلاثة و عشرين زوجا من الكروموزومات(أي الصبغيات:و هي التي تحدد فيما بعد شكل الإنسان) و كل اثنتين من هذه الصبغيات متعلقة بعضها ببعض.(انظر الصورة رقم:46).
ص: 166
يحتوى الصبغ على حلزون(الحمض النووي الرئيسي D N A ،هذا الحلزون مزدوج التركيب أي أنه مؤلف من سلسلتين من الحبيبات.(انظر الصورة رقم:47).
ص: 167
و كل من السلسلتين مصنوع من مجموعة من الجزئيات،و كل مجموعة من السلسلة الأولى تتحد مع مجموعة أخرى من السلسلة الثانية على شكل زوج:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].لاحظوا التعبير الدقيق: اَلْأَزْواجَ و وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ :لقد جاء هذان التعبيران للدلالة على أن الأزواج موجودة في جسم الإنسان،و أضاف عليها: وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ للتلميح إلى أن الكثير من الأزواج لم تكتشف بعد:ذلك أن المعاصرين للرسول-عليه الصلاة و السلام-لم يكتشفوا تلك الأزواج التي توصّل إليها العلم الآن،و لا ندري ما ذا سيكتشف العلم مستقبلا.ناهيك عن أن الآيتين: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... و سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ... لم تحصرا الأزواج في الإنسان فقط، و هذا ما برهنه العلم أيضا فالحيوان من زوجين،و النبات و(نطفها POLLEN )أزواج ...إلخ.
*كما أن هذه السلاسل تتكون من أربع قواعد نيتروجينية و هي:
(آدنين،غوانين،سايتوزين،و ثايمين، ADENINE,GUANINE,CYTOSINE, THYMINE )و هذه القواعد جاءت أزواجا.فالآدنين دائما يتزاوج مع الثائمين، و الغوانين دائما يتزاوج مع السايتوزين.
و لا يمكن أبدا أن يتزاوج الآدنين مع الغوانين،و لا الغوانين مع الثائمين،و لا السايتوزين مع الآدنين،و لا الثائمين مع السايتوزين.
*كما أن كل واحد من هذه القواعد الأربعة يتصل بأحد(السكريات الناقصة الأوكسيجين- DEOXY RIBOSE )،و هذا السكر يتصل بجزئي من الفوسفات ليكون أيضا زوجا،لا يبتعد عنه،و لا ينفصل منه (1).
و الرسم(صورة رقم:48)على اليسار يوضح هذا الكلام.
ف.
ص: 168
*قال-صلى اللّه عليه و على آله و سلم-:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا...»[رواه الطبري ح 32].
هذا الحديث يخبرنا بأن النطفة تقع في الرحم،و قد يعتقد البعض أن الإشارة الظاهرة من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا تحتوي إعجاز إخباريا و لكنه اعتقاد مجانب للصواب،فوقوع النطفة في الرحم كما جاء في الحديث الشريف«إذا وقعت النطفة في الرحم...»[رواه الطبري ح 32]يدل على إعجاز علمي لأن وقوع النطفة-يحصل خلال دقائق معدودة-أو ثوان معدودة على وجه أصح-و حجم الكرة الجرثومية (أو نطفة الأمشاج)لا يبلغ حينها أكثر من 7,0 ملم.(انظر الصورة رقم:49).
إن وقوع النطفة في الرحم ظاهرة يصعب التنبؤ بها إلا إذا وجد شخص يترقّب الأحداث داخل الرحم بواسطة مجاهر إلكترونية.
أيضا قد يظنّ عالم الأجنة أن النطفة تتدحرج بدلا من أن تقع في الرحم،أو أنّ الرحم يفرزها(أي أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها) حيث تبقى على سطحه و تتخلّق بدلا من أن تهاجر من مكان آخر إلى الرحم،لذلك كان حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمثابة إعجاز إخباري.
ص: 169
ص: 170
*قال اللّه تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].
لقد رأينا في النص السابق أن النطفة تقع في الرحم،ترى ما صفة هذا الرحم؟ و كيف سيستقبلها؟إن النص التالي سوف يجيب على هذه الأسئلة.
هذه الآية تتضمن وصفا لعلاقتين:علاقة الرحم بالجنين و علاقة الرحم بجسم الأم.
فقد قال اللّه سبحانه و تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ و لم يقل ثم جعلناه في مكان،لما ذا؟لأن كلمة قرار لا تشير إلى مجرد مكان فحسب و لكن تشير إلى أكثر من ذلك:فهي تعني أن الرحم بمثابة مكان آمن لاستقرار الجنين (1)و راحته،فهو بمثابة مكان سكن للنطفة،جاء في لسان العرب (2):«قرر:و القرار و القرارة من الأرض:المطمئن المستقر».
و ليس مطمئنا فحسب،و لكن في غاية الاطمئنان،جاء في تفسير الألوسي (3):
« فِي قَرارٍ أي مستقر و هو في الأصل مصدر من قرّ يقرّ قرارا بمعنى ثبت ثبوتا، و أطلق على ذلك مبالغة».
و مكين في اللغة العربية بمعنى ثابت،راسخ في مكانه.جاء في لسان العرب:
«مكن...المكنة إنما هي بمعنى التّمكّن مثل الطّلبة بمعنى التّطلّب و التّبعة بمعنى التّتبّع.يقال:إنّ فلانا لذو مكنة من السلطان،فسمي موضع الطير مكنة لتمكّنه فيه؛ و تمكّن كمكن...» (4).
ص: 171
و الدليل من القرآن أن كلمة مكين معناها:ثابت،متمكن بقوة هو معنى الآية فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]
و مكين على وزن فعيل،و هذه الصيغة للمبالغة كخليق من خلق،جاء في تهذيب اللغة:«و قال الليث:و امرأة خليقة ذات جسم و خلق...و قال غيره يقال:
رجل خليق إذا تم خلقه» (1).
و من الكلام السابق نفهم أن مكين في هذا المقام يعني:في غاية التمكّن، و الرساخة و الثبوت.
و الثبوت هو للنطفة في الرّحم.
جاء في تفسير الألوسي (2):« مَكِينٌ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان و هو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر» (3).
و هذا يعني أن النطفة متمكنة و ثابتة بقوّة في الرحم.
كما نعلم جميعا أنّ من طبيعة الجسم أن يطرد أيّ جسم خارجي،و لكن ما يحصل هو أن الرحم يتهيّأ لاستقبال النطفة من جراء الهورمونات التي يفرزها المبيض.كما أن النطفة تحوي موادّ تؤثر على جهاز المناعة عند المرأة فتضعفه، و بذلك يصبح الرحم بمثابة قرار لها (4).(انظر الصورة رقم:50).
إلى ذلك فإن من وظائف الرحم أن يمكّن الجنين من مواصلة نموّه،فالرحم يستطيع أن يكبر آلاف المرات(من 2-3 سم 3 إلى 5000 سم 3 أي بازدياد مقداره حوالي 2500 ضعف)و هو بذلك يتكيف مع حجم الجنين في مختلف مراحله، و نتيجة هرمون البروجسترون (5)تكون تقلّصاته متئدة وقورة بحيث لا تؤذي الجنين.
(انظر الصورة رقم:51).
و أيّ مكان أكثر سكونا من هذا المكان؟.).
ص: 172
ص: 173
ص: 174
فالآية تفيد بأن النطفة-أي نطفة الأمشاج التي انقسمت إلى عدة خلايا و التي تسمّى باللغة العلمية:(الكرة الجرثومية BLASTOCYST )-تستقر في مكان راسخ.جاء في تفسير السمرقندي (1)عند قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]:«يعني في مكان حريز حصين»و في تفسير أبي السعود (2):« فِي قَرارٍ أي مستقر و هو الرحم».
و جاء أيضا في تفسير الألوسي (3):«و جوّز أن يقال:إن الرحم نفسها متمكنة، و معنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمجّ ما فيها».فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة و هو وجه وجيه.
إذا تأملنا الصورة التشريحية لهذه المنطقة يتبين لنا مدى صدق هذه الحقيقة من خلال ملحوظات عدة:
1-يمكن اعتبار الرحم من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تماما طولا و عرضا و عمقا.و هكذا يصعب الوصول إليه و يعتبر محميا بما فيه الكفاية.(انظر الصورة رقم:52).
2-يحيط بالرحم تصفيح عظمي من جميع الجهات.و تجدر الإشارة هنا إلى أن حوض المرأة أوسع و أقصر من حوض الرجل،و بذلك يكون له دور أكمل في الدفاع عن الجنين.(انظر الصورة رقم:53).
3-يثبّت الرحم كثير من الأربطة و العضلات و هي على نوعين:أربطة كاذبة، و أربطة حقيقية.
و الأربطة الكاذبة سميت كذلك لأنها مكوّنة من انعطافات بروتينية،و ليس لها صفاقات و لا عضلات،غير أنها تساهم مساهمة فعّالة في حفظ الرحم في محله، و هذه الأربطة هي(انظر الصورة رقم:54):
*الرباط الرحمي العريض:المكوّن من انعطاف بريتوني بالحوض،و يتصل بجسم الرحم من الأمام و الجزء الأكبر من السطح الخلفي للرحم.
*الرباط المبيضي الرحمي:الذي يربط بين المبيض و الرحم و يثبّت كلاّ منهما بالآخر.
*الرباط الرحمي المثاني:الذي يثبّت الرحم بالمثانة من الأمام.
ص: 175
ص: 176
*الرباط الرحمي المستقيمي:الذي يثبّت الرحم من الخلف بالمستقيم.
و الأربطة الحقيقية مكوّنة من صفاقات و عضلات،و هذه الأربطة هي:
*الرباط الرحمي المبروم:الذي يتصل من جهة بقرن الرحم من كل جانب، و من جهة ثانية بحبل الزهرة الواقع على عظم العانة،و يثبّت الرحم من الجهة الأمامية (1).
*الرباط الرحمي العجزي:الذي يثبّت الرحم بعظام العجز من الخلف.
*الرباط الحامل للمبيض و الرباط المبيضي:اللذان يثبّتان الرحم من جانبيه الأيمن و الأيسر.0.
ص: 177
ص: 178
الرباط العاني الرحمي المثاني:الذي يثبّت الرحم و المثانة و عظم العانة من الأمام.
*الرباط الوحشي لعنق الرحم:الذي يثبّت الرحم من جانبيه الأيمن و الأيسر.
4-إن هناك توازنا ثابتا بين الضغوطات المتولدة نتيجة عضلات الحجاب الحاجز و عضلات جدار البطن التي تدفع بالرحم إلى الأسفل و بين تقلّص عضلات العجّان التي تدفع بالرحم إلى الأعلى.
5-إن الرحم هو عضو عضلي أجوف ذو جدار ثخين و متين،سمكه سنتيمتران و نصف،مكوّن من ثلاث طبقات،أولها من الخارج:(الطبقة البروتينية PERIMETRIUM )التي تغطي الرحم،و ثانيها:(الطبقة العضلية MYOMETRIUM )، و ثالثها:(الطبقة المخاطية ENDOMETRIUM )و هي الغشاء المبطن للرحم.(انظر الصورة رقم:55).
و هكذا نفهم أبعاد كلمة«قرار مكين»التي تشير إلى كثير من الصفات الغيبية الدقيقة للرحم و للنطفة على وجه سواء.و يتبيّن لنا الإعجاز العلمي الكامن وراء استعمال هذه الكلمة.
ص: 179
*قال العليم الحكيم: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة»[أخرجه أبو داود ح 26].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق، لتقعد أيام أقرائها،ثم لتغتسل،ثم لتستثفر بثوب،و لتصلّ»[أخرجه أحمد ح 27].
*قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
*قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«مري فاطمة بنت أبي حبيش فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها ثم تغتسل و تحتشي و تستثفر و تنظّف ثم تطهّر عند كل صلاة و تصلي،فإنما ذلك ركضة من الشيطان،أو عرق انقطع،أو داء عرض لها»[أخرجه أحمد ح 31].
الكلمتان الأساسيتان في الآية: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ هي:«تغيض»و«تزداد».
ليس من الصعب فهم كلمة«تزداد»،فهي الزيادة في الحجم أو الوزن أو ما شابه ذلك.
أما بالنسبة لكلمة«تغيض»فنورد ما جاء في لسان العرب (1):«غيض:غاض الماء يغيض غيضا و مغيضا و مغاضا،و انغاض:نقص أو غار فذهب.و في الصّحاح:
قلّ فنضب.و في حديث سطيح:و غاضت بحيرة ساوة أي غار ماؤها و ذهب.و في حديث خزيمة في ذكر السنة:و غاضت لها الدّرة أي نقص اللّبن.و في حديث عائشة تصف أباها،رضي اللّه عنهما:و غاض نبع الرّدة أي أذهب ما نبع منها و ظهر...».
و جاء في المعجم الوسيط (2):«غاض الماء غيضا و مغاضا:قلّ و نقص.أو غار فذهب.أو قل و نضب.أو نزل في الأرض و غاب فيها».
ص: 180
و جاء في مفردات ألفاظ القرآن (1):«و الغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه».
و جاء في معجم البلدان (2):«الغيض:بالفتح و السكون،يقال:غاض الماء يغيض غيضا،إذا نقص و غار في أرض أو غيرها».
إذا فعل«غاض»قد يعني:
-نقص من.
-دخل في(أي غار في).
جاء في تفسير القرطبي بخصوص هذه الآية (3):«الغيض:ما تنقصه الأرحام من الدم و الزيادة ما تزداد منه.و قيل:الغيض و الزيادة يرجعان إلى الولد».
و من الجدير هنا أن ننوّه إلى أن الزيادة و النقصان لا يقتصران على الدم فقط لأن لفظ الآية وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8]جاء على إطلاقه و بالتالي فقد يشمل أشياء أخرى في الرّحم مثل:ازدياد حجم و أعداد الغدد الرّحمية و نقصانها أو ما شابه ذلك.
فإذا كان الغيض يشير إلى ما يحدث للأرحام نفسها انطبق عليها المعنى الأول «نقص من»و أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تنقص الأرحام من دم و ما تزداد منه.
و إذا كان الغيض يشير إلى ما يحدث للحمل انطبق عليها المعنى الثاني«دخل في»(أو غار في)،و أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما يغور في الأرحام من حمل و ما يزداد منه.
و في هذا النص سوف نتحدث عن المعنى الأول،أما المعنى الثاني فسنتناوله في مبحث«غيض النطفة في الرحم».
تحدثنا في المبحث السابق-مبحث«القرار المكين»-أن الرحم يتهيأ لاستقبال النطفة،و لكننا لم نحدد كيف تستقر فيه،و ما هي العمليات التي تحصل للرحم فتخوّله أن يحتويها بدلا من أن يطردها كما هو الحال مع أيّ جسم خارجي.).
ص: 181
و بعد:فإن دورة الرحم تتكوّن من ثلاث مراحل أساسية:و هي مرحلة النمو، و مرحلة الإفراز،و مرحلة الغيض.
تؤلف مرحلتا النمو و الإفراز مرحلة الازدياد،و فيها يتهيّأ الرحم لاستقبال النطفة.
تبدأ(الدورة الحيضية MENSTRUAL CYCLE )عند ما تصنّع(خلايا عصبية مفرزة NEUROSECRETORY CELLS )(الهرمون المطلق للجونادوتروبين GONADOTROPIN-RELEASING HORMONE )في(الهيبوتالاموس HYPHOTALAMUS )(أي ما تحت المهاد،و هو جزء من المخ)،و هذا بدوره ينبه(الغدة النخامية PITUITARY GLAND )(التي تقع عند قاعدة المخ)لتفرز(الهرمون المحفز للحويصلات المبيضية FOLLICLE STIMULATING HORMONE:F.S.H )الذي يحفّز نمو الحويصلات البويضية في المبيض،بالإضافة إلى إنتاج هورمون الإستروجين من المبيض،و ينتقل الإستروجين في الدم حتى يصل إلى الرحم و يسبّب زيادة في حجم بطانة الرحم.فينمو غشاء الرحم من نصف مليمتر إلى خمسة مليمترات و تنمو الأوعية الدموية نموا كبيرا حتى تصير لولبية الشكل من فرط طولها و يزداد عدد الغدد الرحمية و تصبح على شكل أنابيب طويلة.(انظر الصورة رقم:56).
و مستويات الإستروجين المتزايدة تجعل الغدة النخامية تنتج سيلا من(هورمون اللوتنة LUTEINIZING HORMONE:L.H )،و ارتفاع مستويات هورمون اللوتنة تسبّب انطلاق بويضة ناضجة من إحدى الحويصلات المبيضية الموجودة في المبيض،و الحويصلة التي صارت فارغة الآن تنتج المزيد من الإستروجين،بالإضافة إلى البروجسترون،و كلاهما يعمل على بناء بطانة الرحم كاستعداد لاستقبال البويضة المخصبة فيما بعد.فينمو الغشاء المبطن للرحم من خمسة مليمترات إلى ثمانية مليمترات،و تكثر الغدد الرحمية كثرة بالغة،و يمتلئ تجويفها بالإفرازات كما تنمو الشرايين المغذّية للرحم.(انظر الصورة رقم:56).
و هكذا يتبين لنا إعجاز الآية في تصوير نموّ الرحم.
فمرحلة الازدياد هي مرحلة نمو الرحم لأنه يزداد فيها الرحم حجما و تزداد أعداد الأوعية و الغدد و أحجامها خلال هذه الفترة.
و التهيؤ لاستقبال النطفة يكون بازدياد ثخانة الرحم و بازدياد مخزونه من الجليكوجين و المخاطين الذي يوفر بدوره الغذاء للنطفة.
ص: 182
كل هذا يكون قبل الحمل،فإذا حملت المرأة ازداد الرحم نموا،و اندرج ذلك تحت مرحلة الازدياد مرة أخرى.
و إذا لم يحدث إخصاب للبويضة،فحمل،فإن الحويصلة الفارغة تتوقف عن صنع الإستروجين و البروجسترون.و عند ما تنخفض مستويات هذه الهرمونات جدا إلى الحد الذي لا تتمكن عنده من المحافظة على بطانة الرحم المتثخّنة فإن الحيض يحدث و تبدأ مرحلة الغيض.
و الحيض هو دم يسيل من رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة.
فالحاصل أن أوعية بطانة الرحم تنقبض،فيقل جريان الدم،و تتسع الشرايين من جراء ذلك،و من ثمّ(تنقبض الشرايين و تتسع بشكل متكرر RYTHMIC VASOCONSTRICTION AND DILATATION )،و يزداد ضيق الشرايين،فينقص دوران الدم و(ينحسر عن الرحم ENDOMETRIAL ISCHEMIA AND STASIS )، و(تموت الأنسجة في بطانة الرحم NECROSIS IN THE SUPERFICIAL TISSUES )، مما يعطي(للرّحم مظهرا مائلا للبياض ENDOMETRIAL BLANCHING )،و تتشقق فيما بعد الشرايين،و ينفذ الدم في بطانة الرحم مؤلفة(جزرا مغلقة VENOUS LACUNAE )،و يتفتّت و يسقط غشاء الرحم،و يسيل الدم منه (1).
و من جراء سيلان الدم ينقص وزن الرحم و يغيض.
و هكذا يكون الحيض وسيلة لغيض الأرحام الذي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.
فإذا حملت المرأة و أتى وقت الطلق و وضعت المرأة مولودها،فإن الرحم ينقبض و يعود إلى ما كان عليه و يدخل مرحلة الغيض التي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.
فإذا حملت المرأة و أتى وقت الطلق و وضعت المرأة مولودها،فإن الرحم ينقبض و يعود إلى ما كان عليه و يدخل مرحلة الغيض التي تكلمت عنه الآية التي سبق ذكرها.
و قد أوضح الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم وقت الغيض و الازدياد في الحديث«فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه ثم اغتسلي،فإذا رأيت أنك قد طهرت و استنقأت فصلّي أربعا و عشرين ليلة أو ثلاثا و عشرين ليلة و أيامها...»[أخرجه الترمذي ح 89]،ففي الحديث هناك حيض و نقاء،و الحيض علامة على الغيض-كما رأينا سابقا-، و النقاء علامة على الازدياد.و بالتالي فإن الحديث يشير إلى أن فترة الغيض المتوسطة لدى النساء أقصاها سبعة أيام،و فترة الازدياد ثلاثة و عشرون يوما.
ص: 183
ص: 184
و اللفظ الدال على أن هذه الفترة هي الفترة المتوسطة لدى النساء على العموم:
«فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه»،أي كما أقرّه اللّه تعالى في علمه للنساء عامة.
و فترة الحيض المتوسطة لدى النساء هي خمسة أيام،و قد تزيد أو تنقص يومين (مع العلم أن فترة الحيض الطبيعية لدى النساء قد تزيد أو تنقص أكثر من ذلك،كما تشير إليه المعطيات العلمية،و كما هو معروف لدى الفقهاء المسلمين.غير أن الفترة التي تزيد أو تنقص عن الحد المذكور آنفا لا تعتبر متوسطة).
جاء في كتاب«علم التوليد و علم الأرحام»:«إن الفترة العادية للجريان[جريان الدم]هي خمسة[أيام]مع زيادة أو نقصان يومين» (1).
و بالتالي فإن فترة الحيض المتوسطة القصوى هي:5+2 7 أيام،و فترة الحيض المتوسطة الدنيا هي 5-2 3 أيام.
و بما أن الصحابية التي كانت تستفتي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كانت تعاني من حيضة قوية قائلة:«يا رسول اللّه إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها؟»[أخرجه الترمذي ح 89]،فلزم اختيار الفترة المتوسطة القصوى لكي تحتاط المرأة من النجاسة و تتأكد من نقائها.
و أما وقت الدورة الشهرية المتوسطة حسبما جاء في الحديث فهو:
6+24 30 يوما،أو 7+23 30 يوما.
و من المعلوم في الطب النسائي أن متوسط الدورة الشهرية (2)لدى النساء هي ثمانية و عشرون يوما،مع فترة متوسطة للحيض قدرها خمسة أيام،فإذا اعتبرنا الفترة الاعتيادية القصوى للحيض-سبعة أيام(أي بازدياد مقداره يومين)-أصبحت فترة الدورة الشهرية المتوسطة القصوى 28+2 30 يوما.
جاء في كتاب«خلق الإنسان بين الطب و القرآن»:«و تعتبر الدورة الشهرية بما فيها الحيض و الطهر 28 يوما قد تزيد أو تنقص يوما أو يومين» (3).4.
ص: 185
و بالتالي فإن العلم يوافق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تماما في هذا المجال.
و بعد:فنفهم من الشرح السابق و من أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عدة أمور:
إذا نظرنا إلى الحديثين«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]و«إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم»[أخرجه البخاري ح 28]استنتجنا أن العروق الموجودة في جسم الإنسان تحتوي على الدم و تكوّن مجاري لها.
و هذا ما يؤكده الحديث حيث قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العرق»[ذكره السيوطي ح 94].
و الرحم يحتوي على عروق كما يشير إليه الحديث الشريف-بطريقة غير مباشرة-«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]،فالمكان الذي يتكلم عنه صلّى اللّه عليه و سلّم هو الرحم،بدليل أن الموضوع هو عن الحيض،و لقد عزا نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم النزيف الحاصل في الرحم إلى العروق،و هذا يعني أن الرحم يحتوي على العروق.
و للمقابلة فلقد رأينا في المقاطع السابقة أن الرحم يمتلئ بالعروق في مرحلتي النمو و الإفراز.
و بما أن العروق تكوّن مجاري للدم،فهذا يعني أن أيّ نزيف للرحم يحصل من جرّاء تشقق لتلك العروق،و هذا ما يؤكده الحديث التالي«فإنما ذلك...عرق انقطع»[أخرجه أحمد ح 31].
و بما أن الحيض يتألف من الدم وفقا لما جاء في الحديث الشريف«إذا كان دم الحيض فإنه أسود...»[أخرجه أبو داود ح 26]،فبالتالي تشقّق العروق و خروج الدم منها يحصل خلال الحيض،و هذا يكون في الحالة الطبيعية في مرحلة الغيض،أما باقى المراحل فهي مراحل ازدياد كما ألمحت إليه الآية الكريمة: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8].
و للمقابلة فلقد رأينا أن العروق تتشقّق في مرحلة الغيض و يحصل نزيف داخلي في بطانة الرحم و من ثمّ يسيل الدم من الرحم حاملا معه أغشية بطانة الرحم.
و خروج الدم يكون أيضا في حالة الاستحاضة،و الاستحاضة:سيلان الدم من الرحم في الأوقات غير الاعتيادية.
فالحديث«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27]جاء في
ص: 186
معرض الجواب عن استفسار حول مشكلة استحاضة صحابية (1)بشكل شبه متواصل لفترات طويلة من الزمن كما جاء في الرواية:«قالت عائشة:فكانت تغتسل لكل صلاة و تصلي،و كانت تغتسل أحيانا في مركن في حجرة أختها زينب و هي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء»[أخرجه النّسائي ح 29].
و بعد أن تمر مرحلة الحيض يتهدم البناء السطحي لبطانة الرحم و يتخثّر الدم و يتوقف.
و في حالة الصحابية التي كانت تنزف لفترات طويلة،فإن العرق هو السبب المباشر في النزيف كما يشير إليه الحديث«إنما هو عرق»[أخرجه أحمد ح 27]، و بالتالي فإن الدم يخرج مباشرة من العروق إلى خارج سطح الرحم لعدم وجود الطبقة المبطنة بعد انهيارها (2)و لعدم تخثّر بعض العروق.
و الواقع فإن توقف النزيف في الرحم له عدة أسباب من أهمها:انقباض العروق لفترات طويلة،و انهيار الأنسجة،و توقف الدم عن الجريان و إفراز هرمون الاستروجين الذي يؤدي إلى تخثّر الدم (3).
و بالتالي فإن التخثّر يلعب دورا مهمّا في توقّف نزيف الدم،فإذا لم يتغلّب هذا العامل على نزيف بعض العروق ظلّ الرحم يسيل دما.و هذا ما أشار إليه قول الصحابة في الحديث الشريف:«أن امرأة مستحاضة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قيل لها إنه عرق عاند»[أخرجه النّسائي ح 30]أي عرق لم ينسد رغم وجود عامل التخثر و ظل يعاند التخثر و ينزف دما.
و الاستحاضة لا تعزى فقط إلى تشقق الشرايين في الرحم و لعدم انسدادها، و إنما لأمراض شتّى،و هذا ما أكده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله:«فإنما هو داء عرض» [أخرجه أحمد ح 31].و نذكر هنا للمقابلة بعض الأمراض التي تسبب استحاضة المرأة:0.
ص: 187
-فمن ذلك الأمراض التي يسببها الخلل الهرموني؛مثل:(انخفاض نسبة هرمون الأستروجين و البروجسترون؛ ESTROGEN WITHDRAWAL BLEEDING PROGESTERONE WITHDRAWAL BLEEDING,ESTROGEN BREAKTHROUGH BLEEDING PROGESTETONE BREAKTHROUGH BLEEDING ).
-و منها أمراض السرطانات،مثل:سرطان الرحم،أو سرطان عنق الرحم،أو المبيض،و بعضها يعزى لأسباب أخرى مثل:وجود تليّف في جدار الرحم...إلخ
و هكذا يتبين لنا مفهوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-و اللّه أعلم-لسائر العمليات التي يخضع لها الرحم و تتجلّى لنا المعاني الدقيقة التي تحتويها أحاديثه الشريفة.
و من كلامنا السابق يفهم أن الدم يخرج من العروق في كلتا الحالتين:
الاستحاضة،و الحيض.و بالتالي فإن دم الحيض(عند خروجه من العروق)و دم الاستحاضة لا يختلفان.
و ما يجعل دم الحيض يختلف عن دم الاستحاضة هو أن دم الحيض يحتوي زيادة على دم العروق على:ماء،و(أيونات IONS )،و ذرات(الأمينو أسيد AMINO ACID )التي أضيفت في مرحلة الازدياد (1).كما أنه يحتوي على أنسجة بطانة الرحم التي قد تشققت في مرحلة الغيض.
و هذا الاختلاف نص عليه الحديث الشريف بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس ذلك بالحيض إنما هو عرق...»[أخرجه أحمد ح 27].و بالتالي فإن لدم الحيض مميزات خاصة تجعله مختلفا عن الدم العادي.هذه المميزات يفسرها لنا الدكتور ج.س.جورنجر (2)؛فأبحاثه المعملية أثبتت أن هناك فرقا بين نسب التركيز في المكوّنات الخاصة بكل نوع من أنواع الدم،و على سبيل المثال:دم الحيض لا يحتوي على البروتين المسمى(بالفيبرينوجين FIBRINOGENE )لأنه يتحلل بسرعة، و يمكن قياس المواد المتحللة بكثرة في دم الحيض و التي هي شبه منعدمة في الدم العرقي،كما أن المواد المسماة(بالهيموغلوبين HEMOGLOBIN )و(الألبومين ALBUMIN )تنقص في دم الحيض إذا ما قارنّاها بالدم العادي.و هناك أيضا فرق واضح بين نسب(الصوديوم SODIUM )و(النحاس COPPER )،أما مستوى (البروستاغلاندين PROSTAGLANDIN )فهو عال جدا في دم الحيض.
و هكذا تتحقق نبوءة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن دم الحيض يختلف عن الدم العادي.م.
ص: 188
أما بالنسبة لصفات هذا الدم فإن الحديث:«إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف،فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة»[أخرجه أبو داود ح 26]يلقي الضوء عليها.
جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود (1):«[يعرف]:فيه احتمالان:
الأول:إنه على صيغة المجهول من المعرفة؛قال ابن رسلان:أي تعرفه النساء،قال الطّيبي:أي تعرفه النساء باعتبار لونه و ثخانته.و الثاني:أنه على صيغة المعروف من الأعراف أي له عرف و رائحة».
و لم يكتف الرسول-صلوات اللّه و سلامه عليه-بأن يشير إلى أن دم الحيض يختلف عن الدم العادي بل أوضح صفة هذا الدم أيضا،و ذكر أنه أسود و أن له رائحة و أنه يعرف.فما ذا يقول العلم؟.
إن لدم الحيض رائحة.لسنا بحاجة إلى أن نتوسع في هذا الباب فكل النساء تعرف أن دم الحيض له رائحة و هذه الرائحة حادّة متميزة.
إن دم الحيض معروف أيضا.فالعلماء يعرفون دم الحيض من خلال مميزاته التي سبق و ذكرناها،أما النساء فهن يعرفنه من خلال مدته و مقداره.يقول الدكتور دوغادلبيرد في هذا الصدد:«و ما بين البلوغ و سنّ اليأس تكون العادة في أغلب النساء منتظمة..و هنّ يعرفن موعد حيضهن و مدّته و مقداره..فإذا اختلف عرفته بسرعة..
و تستطيع معرفة ذلك أغلب النساء دون صعوبة».
أما بالنسبة لسواد دم الحيض فلنستمع إلى الدكتور دوغادلبيرد (2)و هو يبدي رأيه في هذا الموضوع:«إن لون دم الحيض هو أسود...أما الدم الأحمر المشرق فإنه دم غير طبيعي...و دم الحيض لا يتجلط (3).و يمكن إبقاؤه سنين طويلة على تلك الحالة دون أن يتجلّط...فإذا ظهر دم يتجلط أثناء الحيض فإن الحائض سرعان ما تعرف ذلك،و يعتبر غير طبيعي».
و السبب في عدم تجلّط الدم في الرحم هو أن الرحم يفرز أنزيمات تحلل مادة الفايبرينوجين التي تسبب تخثّر الدم و تدعى:(مذيب الفيبرين PLASMIN ).و لذلك لا يتجلط دم الحيض و لو بقي سنين طوالا.ا.
ص: 189
و لم يقتصر الأمر في الإسلام على وصف الدورة الرّحمية و صفات دم الحيض، بل تعداه إلى وصف علاقة الزمان و المكان بدم الحيض،و أثره على العلاقة الزوجية.
و لا بد أن نلقي نظرة على معتقدات الشعوب عن المحيض حتى يتبين لنا مدى الجهل العلمي الذي كان سائدا عبر التاريخ،و لكي ندرك مدى الإعجاز العلمي الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
معتقدات قدماء المصريين:لقد عزا المصريون القدماء منذ ما يقرب من سبعة آلاف سنة،حدوث الحيض إلى قوى شريرة تصيب المرأة،تجعل كل جسدها خبثا و دنسا وقت الحيض،و من ثم قام طبيبهم الكاهن باستنبات مجموعة من بذور البقل، سقاها بماء مخلوط بدماء الحيض،و مجموعة أخرى سقاها بالماء العذب،و لما تأخر نمو المجموعة الأولى ثم ذبلت،و ماتت،خلص إلى وجود السم في دماء الحيض، و رسخ لديه ذلك الاعتقاد،و بما أن تلك السموم قد خرجت من بدنها،فهذا يعني أن جميع جسدها خبث و سمّ،و من ثمّ كان المصريون يعتزلون المرأة الحائض تماما إلى حد نبذها وقت الحيض.
معتقدات اليهود:و المعروف عن اليهود أنهم يتشددون في مسائل الحيض، و الدم بصفة عامة،و لا يفرقون في نظرتهم و لا في أحكامهم بين الحيض و الاستحاضة،و ذلك حسب ما ورد في العهد القديم (1)،فالحائض عندهم تعزل تماما خلال فترة الدم-و هي فترة سبعة أيام-و خلال هذه الفترة كلها،يتجنبون ملامساتها و الجلوس معها على فراش،و حتى ملامسة فراشها (2)،و إن ضاجعها رجل بحيث يصير طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام و كل مضجع يضجع عليه يكون نجسا (3)، و عند ما ينقطع منها السيلان تغتسل،و في اليوم الثامن تقدّم للحاخام أمام الرب،في خيمة الاجتماع يمامتين،أو فرخي حمام،واحدة منهما ذبيحة خطية،و الأخرى محرقة،و يكفّر عنها الكاهن سيلان نجاستها أمام الرب (4).
معتقدات المجوس:و كذلك اعتقد المجوس.
ص: 190
معتقدات النصارى:لم يرد في الإنجيل ذكر عن الحيض،من قريب أو من بعيد،و بالتالي فإن النصارى لا يعيرون هذا الأمر أهمية،و يجامعون نساءهم غير عابئين بهذه الظاهرة.
معتقدات العرب قبل الإسلام:أما العرب في عهد الجاهلية،فقد كان اعتقادهم المتوارث عن هذا الأمر،لا يختلف في كثير أو قليل،عن اعتقاد المجوس و اليهود و معاصريهم؛فكانوا يعتزلون المرأة إذا حاضت اعتزالا تاما،لا يؤاكلونها،و لا يجالسونها على فراش،و لا حتى يساكنونها.جاء في تفسير القرطبي (1):«و سبب السؤال فيما قال قتادة و غيره:أن العرب في المدينة و ما والاها كانوا قد استنّوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض و مساكنتها،فنزلت هذه الآية».تلك العقيدة لم تكن ثمرة العقل،و لا كانت نتاجا للفكر،بقدر ما كانت تراثا متواترا خلّفه الخيال و رسخ في الوجدان على مرّ السنين.و كانت المرأة تتصف عندهم إذا حاضت بعدة أوصاف:فالمرأة الحائض حسب اعتقادهم هي«عارك»،و«فارك»،و«كابر»، و«دارس»،و«طامث»،و«ضاحك»،و«حائض».قال ابن العربي كما جاء في تفسير القرطبي (2):«...و لها ثمانية أسماء:الأول:حائض،الثاني:عارك،الثالث:
فارك،الرابع:طامس،الخامس:دارس،السادس:كابر،السابع:ضاحك، الثامن:طامث».و لأغلب هذه التسميات (3)-فيما خلا لفظ«الحائض»-دلالات».
ص: 191
في اللسان العربي غير صحيحة من الناحية العلمية،إذ يستدل منها أنهم كانوا يعتقدون أن هذا الأمر الذي يعتري المرأة مرة كل شهر،و بصفة دورية،هو بمثابة«فرك»لمواد ضارة و سامة في بدنها«طمست»عليه و ألمّت به فغطّته،و لو أنها بقيت فيه لأضرت به و أهلكته،و هي امرأة«ضاحك»أي منفرجة الأنسجة،متفتحة المسام،كي تتخلص من تلك السموم،و هي«عارك»و«دارس»،و فيهما معنى المغالبة لهذه المواد،و هي أيضا«كابر»،لأنها تكبر هذا الأمر لما فيه من خلاصها من السموم و الإضرار،و هي كذلك«طامث»و الطمث من الدنس و المسّ و الفساد (1).
تلك كانت نظرة العرب في جاهليتهم لهذا الأمر،و ذلك كان اعتقادهم،و لقد كان اعتقادهم ذلك راسخا في نفوسهم،مستقرا في وجدانهم،شبيها بنهج اليهود و المجوس،و ربما اقتبسوه من المجوس و اليهود.
معتقدات علماء الغرب:و لم يختلف اعتقاد أبو قراط و جالينوس (2)و من تبعهما،ممن مارسوا صناعة الطب في القرون الوسطى عن المعتقدات الأخرى الخاطئة في أن المرأة تحمل سموما في دم الحيض.
و قد تلمّس كثير من العلماء،أمثال(جوتيه GAUTIER ) (3)و(بورسيه BOURCET ) (4)عام 1900 م سموم الزرنيخ و اليود،و هي من أشد السموم فتكا،في إفرازات جسم الحائض،من عرق و لعاب و ما إلى ذلك.
و قد أعلن(ماخت MACHT ) (5)عام 1943 م أنه وجد في لعاب و عرق الحائض، و كذلك في دورتها الدموية،مواد سامة،توقف نموّ النبات المستزرع،كما أعلن أن ملامسة الحائض للخضراوات و الزهور تتسبّب في عطبها و ذبولها،و تحول دون حفظها.
و قد أعلن(جورج فان سميث .SMITH.G.V )و(أوليف واتكسن سميث1.
ص: 192
SMITH.O.W. )في العقد الخامس من القرن العشرين(1940-1950 م) (1)أن حيوانات الاختبار،تتوفّى من جرّاء حقنها بكميات ضئيلة من دماء الحيض،بعد تخفيفها بالماء المقطّر،و قد أطلقوا عليها اسم السموم الحيضية.
لكن(رينولدز REYNOLDS ) (2)،لم يستطع أن يداري ارتيابه عام 1947 م فيما خلص إليه فان و أوليف سميث من نتائج،حيث أعلن عن عدم اقتناعه بأن حدثا وظيفيا كالحيض،يناط به أو يرتبط بوجود سموم،و هو ما ينافي الفطرة التي جبل عليها الإنسان،و قد حذا حذوه الكثير من العلماء آنذاك.
و قد عقد مؤتمر طبي في مدينة نيويورك عام 1949 م،شارك في أعماله مائة و سبعة عشر طبيبا من أساطين الطب و أساتذته في العالم آنذاك،و قد ناقش المؤتمرون في ذلك المؤتمر موضوع الحيض،و أنه يحوي سموما فتاكة.
أما المؤلفان الإنجليزيان(كرتس و هوفمان CURTS.E and HOFFMAN ) (3)، فقد أعلنا عام 1950 م أن الاعتقاد الراسخ في خطورة المباشرة في المحيض تملي عدم ممارسته. .
ص: 193
و قد عزا(برنارد زوندك ZONDEK.B ) (1)عام 1953 م وفاة الحيوانات خلال تجارب فان و أوليف سميث إلى احتمال وجود جراثيم في دماء الحيض،و ليس لوجود سموم فيها.
على أن الغالبية العظمى من مؤلفي كتب أمراض النساء من الأوروبيين و الأميركيين يوردون في كتبهم ما أورده المؤلف الإنجليزي(جافكوت JEFFCOATE ) (2)عام 1967 م في كتابه«أسس أمراض النساء»،و الذي يعتبر المرجع الأول لجميع المشتغلين بصناعة الطب في هذا الفرع.حيث اعتبر أن الغسل المهبلي بعد الحيض،أو في أي وقت آخر يشكل بصفة عامة خطورة بالغة،لأنه يزيل معه الوسائل الوقائية الطبيعية،و أن الزوجين يستطيعان ممارسة المباشرة الجنسية في المحيض في حال كانا خاليين من الأمراض،و لا خوف على أيّ منهما من أي ضرر،غير أنه لا يستحب الجماع زمن الحيض لوجود الدم فقط،و ينصح بالغسل المهبلي،و يوضع حاجز يحجب سيل الدم مؤقتا.
كلمة«حيض»تعني سيل،جاء في لسان العرب (3):«حيض:...و قال المبرّد:سمي الحيض حيضا من قولهم حاض السيل إذا فاض...(و قال)الأزهري:يقال:حاض السيل و فاض إذا سال يحيض و يفيض...».و الدم الذي يخرج من رحم المرأة خلال دورتها الشهرية سمي حيضا لأنه يسيل من فرجها و يفيض.
و سيلان الدم من رحم المرأة ظاهرة طبيعية كما نفهم من الحديث التالي:(عن عائشة رضي اللّه عنها أنها تقول:خرجنا لا نرى إلا الحج فلما كنا بسرف،حضت،فدخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا أبكي،قال:«ما لك؟أنفست؟»،قلت:نعم،قال:«إن هذا أمر كتبه اللّه على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت»)[أخرجه البخاري ح 82]».فالحيض أمر كتبه اللّه تعالى على بنات آدم،أي أن اللّه تعالى جبلهن عليه،و ليس سببه قوى سحرية كما اعتقده قدماء المصريين.
و نفهم من قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ الذي ورد في الآية الكريمة وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ
ص: 194
حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]نفهم أنه يتعين على الرجال اعتزال النساء اللاتي يسيل الدم من فروجهن و عدم الاقتراب منهن،و هذا الاعتزال هو اعتزال مجامعتهن و ليس عدم الاقتراب منهن كليا كما بيّنته السنة النبوية الشريفة،فلقد وردت أحاديث كثيرة،يعتدّ بها،تشير إلى أن الرجل يستطيع أن يمارس الجنس مع امرأته من دون أن يجامعها،كما في الحديث:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح»[أخرجه مسلم ح 80] -من باب الجواز-.و في الحديث:«عن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:ما يحل لي من امرأتي و هي حائض؟قال:«لك ما فوق الإزار» [أخرجه أبو داود ح 81]»-من باب الإباحة-.
و كلمة«المحيض»التي جاءت في الآية الكريمة مصدر من حاض،على وزن كلمة«المجيء»و«المبيت»و«المغيب»و تطلق على مكان الحيض،بالإضافة إلى الدم،جاء في لسان العرب (1):«حيض:الحيض:...و المحيض يكون اسما و يكون مصدرا...قال عزّ و جلّ: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ،قيل إن المحيض في هذه الآية المأتي من المرأة،لأنه موضع الحيض، فكأنه قال:اعتزلوا النساء في موضع الحيض و لا تجامعوهن في ذلك المكان...».
و هكذا فإن الآية تحرم مباشرة النساء في مكان الفرج فقط.
و نفهم من التفسير السابق أن الإسلام يخالف اليهود و العرب و المجوس و المصريين في اعتزال النساء؛فهو لا يأمر باعتزال النساء كليا و لكن باعتزال جماعهن زمن المحيض،و لا يرى مجامعتهن مجامعة كليّة كما يرى النصارى،فهو بهذا دين وسط وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].
كذلك يخالف الإسلام اليهود بأنه يسمح للرجال بإتيان نسائهم فور انقطاع دم الحيض شرط أن يغسلن فروجهن بالماء (2)،فقوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ... ،يشير فيما يشير (3)إلى انقطاع دم الحيض كما جاء في حديث للسيدة عائشة رضي اللّه عنها:«و كن نساء يبعثن إلى عائشة بالدّرجة فيها الكرسف،فيه الصفرة،فتقول:لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء،تريد بذلك الطهر من الحيضة»[أخرجه البخاري ح 83]،و قوله).
ص: 195
تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ... يشير إلى شرط غسل الفرج بالماء للمجامعة،كما روي عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها:«عن عائشة أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم كيف أغتسل من المحيض؟،قال:«خذي فرصة ممسّكة فتوضّئي ثلاثا»،أو قال توضئي بها،ثم إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم استحيا فأعرض بوجهه،فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم»[أخرجه البخاري ح 84].و كما نعلم فإن الوضوء هو الغسل بالماء،و ما يريد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هو أن تزيل الدم من فرجها بالغسل كما جاء في رواية أخرى«عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن غسلها من المحيض،فأمرها كيف تغتسل،قال:«خذي فرصة من مسك فتطهري بها»،قالت:كيف أتطهر؟قال:«تطهّري بها»،قالت كيف؟قال:«سبحان اللّه تطهري»،فاجتذبتها إليّ،فقلت:تتبعي بها أثر الدم»[أخرجه البخاري ح 85].
و قد جاء في هذا الصدد،في تفسير ابن كثير (1):«و قد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء...و قال ابن عباس: حَتّى يَطْهُرْنَ... ؛أي من الدم، فَإِذا تَطَهَّرْنَ... ؛أي بالماء،و كذا قال مجاهد و عكرمة،و الحسن و مقاتل و ابن حيان و الليث بن سعد و غيرهم».و جاء في تفسير القرطبي (2):«فإذا تطهّرن،يعني بالماء،و إليه ذهب مالك و جمهور العلماء،و أن الطّهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم،هو تطهّرها بالماء كطهر الجنب» (3)..-
ص: 196
ص: 197
و من الجدير بالذكر أن الإسلام يخالف النصارى لأنه ينهى عن مجامعة النساء وقت المحيض،بينما هم يحلّونه.
و لم يحرم الإسلام مباشرة النساء لوجود الدم في موضع الإتيان فقط،بل لورود زمن الحيض.فكلمة«المحيض»التي جاءت في الآية وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً... [البقرة:222]لا تشير إلى سيلان الدم و إلى موضع النكاح فحسب، بل إلى ورود زمن الحيض أيضا.جاء في لسان العرب (1):«حيض:...و قيل المحايض جمع المحيض و هو مصدر حاض،فلما سمّي به جمعه،و يقع المحيض على المصدر و الزمان و الدم».
و من التفسير السابق نفهم أن الآية تعني:اعتزلوا موضع جماع النساء،لوجود الدم،خلال الفترة المعلومة للحيض.
و للدلالة على أهمية عامل زمن المحيض،و أنه يعتدّ به،جوّزت الشريعة الإسلامية مجامعة الرجل لامرأته حال كونها مستحاضة.و المستحاضة هي المرأة التي يسيل الدم من فرجها لمرض ما على غير عادة،في غير وقت الحيض و النفاس.فإن لم تستطع أن تميّز بين دم الحيض و دم الاستحاضة فإنها تمتنع عن زوجها في الفترة التي يغلب على ظنها أنها فترة المحيض،بينما تحل نفسها له في الفترة المتبقية و تعتبرها استحاضة.و إحلال فرجها لزوجها يصح لأنه لم يرد دليل بتحريم جماعها).
ص: 198
خلال فترة الاستحاضة،و ذلك عند جمهور العلماء.قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:«تغتسل و تصلي و لو ساعة،و يأتيها زوجها إذا صلت،الصلاة أعظم»[أخرجه البخاري ح 86].
يعني إذا جاز لها أن تصلي و دمها جار،جاز جماعها،لأن الصلاة أعظم من المواقعة في شروط الجواز.و«عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة و كان زوجها يجامعها»[أخرجه أبو داود ح 87].و قد جاء في أكثر من حديث ما يدل على أن عامل الوقت مهم.فعن(أم سلمة رضي اللّه عنها قالت:سألت امرأة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قالت:إني أستحاض فلا أطهر،أ فأدع الصلاة؟،قال:«لا،و لكن دعي قدر الأيام و الليالي التي كنت تحيضين-قال أبو بكر في حديثه:و قدرهن من الشهر-ثم اغتسلي و استثفري بثوب و صلي»)[أخرجه ابن ماجة ح 88].و عن(حمنة بنت جحش،قالت:كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة،فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أستفتيه و أخبره،فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش،فقلت:يا رسول اللّه إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها؟،قد منعتني الصيام و الصلاة،قال:«أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم».قالت:هو أكثر من ذلك.قال:«فتلجّمي».قالت:هو أكثر من ذلك.قال:
«فاتخذي ثوبا».قالت:هو أكثر من ذلك،إنما أثجّ ثجا.فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت أعلم».فقال:«إنما هي ركضة من الشيطان،فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه ثم اغتسلي،فإذا رأيت أنك قد طهرت و استنقأت فصلّي أربعا و عشرين ليلة أو ثلاثا و عشرين ليلة و أيامها،و صومي و صلّي،فإن ذلك يجزئك،و كذلك فافعلي كما تحيض النساء، و كما يطهرن لميقات حيضهن و طهرهن،فإن قويت على أن تؤخري الظهر و تعجّلي العصر ثم تغتسلين حين تطهرين،و تصلين الظهر و العصر جميعا،ثم تؤخرين المغرب و تعجّلين العشاء ثم تغتسلين،و تجمعين بين الصلاتين فافعلي،و تغتسلين مع الصبح و تصلين و كذلك فافعلي،و صومي إن قويت على ذلك»،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هو أعجب الأمرين إلي»)[أخرجه الترمذي ح 89].و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم اللّه»،يعني اعتبري نفسك في المحيض خلال فترة ستة أو سبعة أيام،كما علمك اللّه تعالى،و اللّه أعلم (1)..-
ص: 199
و للمستحاضة حكم الطاهرات،فتصلي و تصوم و تعتكف و تقرأ القرآن و تمس المصحف و تحمله و تفعل كل العبادات و هذا مجمع عليه من جمهور العلماء.
و الإسلام يخالف اليهود بأنه يفرق بين دم الحيض و دم الاستحاضة،بينما نجد أن نظرة التحريم في اليهودية قائمة على أساس وجود الدم و لا تفرق بين الحيض و الاستحاضة.فالسلوك اليهودي تعبّدي فقط،بينما نجد أن السلوك الإسلامي يعتمد على الأساس العلمي إلى جانب الشق التعبّدي،فتحريم نكاح النساء في الإسلام قد وضع للضرر الذي قد ينشأ،و لذلك قدّم اللّه تعالى العلة على الحكم في قوله تعالى:
قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ... .
و قد هيمن الظلام الدامس على العالم الغربي إلى أن تقدم الطب و العلم.و قد اعتقد العلماء أن دم الحيض يحمل سموما و أن هذا السم منتشر في جسد المرأة من لعاب و عرق...إلخ و ظل هذا الاعتقاد سائدا بأوجه مختلفة إلى العقد الخامس من القرن التاسع عشر و اللّه أعلم.و من ثمّ اختلف العلماء إلى أقسام شتى،فبينما أبدى علماء كثيرون شكهم من النظرة المعاصرة،ظل علماء آخرون يقيمون الندوات و الدراسات التي تؤيد النظرة القديمة،و سلك علماء آخرون مسلكا جديدا و هو أن مكان الجماع آمن،و ذهبوا إلى حد التحذير من أن غسل الفرج يشكل مخاطر جدية!!!،و الإسلام قد أشار إلى الحقيقة منذ زمن بعيد:و هو أن دم الحيض ليس في طبيعته ساما،غير أن ظروف الوقت و الزمان تجعل منه ضارا لأسباب علمية سنلقي عليها الضوء في النص التالي.).
ص: 200
و من الجدير بالذكر أن الأذى الذي قد ينشأ لا يقتصر على المرأة فقط،فاللفظ قُلْ هُوَ أَذىً... على إطلاقه،و هذا يعني أن الضرر قد يلحق بالمرأة و الرجل على حد سواء.
قام طبيب مسلم يدعى محمد عبد اللطيف سعد (1)عام 1976 م بدراسة تغيرات مجهريات المهبل و درجة التأيّن الحمضي خلال دورة الحيض؛ فتم انتفاء خمسين من السيدات الخاليات من الأمراض الباطنية و النسائية لتكون مادة للدراسة.
و ترددت النساء فرادى على العيادة في أربع زيارات؛قبل الحيض و أثناءه و بعده،ثم في منتصف الدورة الشهرية.
و عند كل زيارة أخذت من كل واحدة منهن مسحة من أسفل المهبل،و أعلاه، و خزعة من البطانة الرحمية،ثم عينة من البول،و قيست درجة التأين الحمضي للمهبل.
و ثم فحص العينات بعد زرعها في مزارع مختلفة،و عمل التحليلات المتباينة لبيان جميع أنواع المجهريات في أسفل و أعلى المهبل،و في البول،و درست علاقة ذلك بوقت الدورة الشهرية،و درجة التأين الحمضي في المهبل،و كذلك في البول.
و تبين عند الفحص أن هناك وجود دورة لمجهريات المهبل ليست منفصلة عن دورة هرمونات المبيض،فوجود الجراثيم الضارة من ناحية،و(عصويات دودرلين DODERLEIN BACILLI )من ناحية أخرى،يسيران في خطين متضادين.فعند ما يكثر الواحد يقل الآخر؛ففي خلال فترة الحيض وجدت الجراثيم الضارة بأعداد رهيبة في حين اختفت عصويات دودرلين تماما.
كذلك تبين أنه أثناء فترة الحيض،وجدت الجراثيم الضارة في أسفل المهبل في حين بدا الجزء العلوي منه خاليا منها تماما.
أضف إلى ذلك،أن هناك أنواعا أخرى من الجراثيم الضارة وجدت أثناء فترة الحيض،بخلاف تلك الموجودة أصلا،و هذه هي جراثيم مجرى البول و الشرج.
ص: 201
و تبين أيضا أن هناك جرثومة واحدة غير ضارة بطبيعتها،اكتسبت خاصية الضرر وقت الحيض و في بعض الحالات.
كذلك ازدهر طفيل الترايكومونس وقت الحيض،و تكاثر إلى أربعة أضعاف ما كان عليه.و من العجب أنه بدلا من أن يبقى في أسفل المهبل،مكانه الأثير،فإنه تسلق إلى الجيوب المهبلية في أعلى المهبل.
و وضح من هذه الدراسة أن عصويات دودرلين،توجد بصفة طبيعية في المهبل،و هي تعتبر الحارس عليه ضد الجراثيم الضارة؛ذلك أن المهبل حرم من الوسائل الدفاعية الأخرى ضد الجراثيم،إذ تبطّن جدره الداخلية طبقة كثة من النسيج الطلائي الذي لا يحتوي على خلايا إفرازية و لا على أهداب تطرد الجراثيم من القنوات الهضمية و البولية و التنفسية.كذلك حرم المهبل من ميزة الانقباضات و التقلصات التموّجية كما هو الحال في الأمعاء.
و بالتالي فإن عصويات الدودرلين تعتبر وسيلة الدفاع الوحيدة للمهبل ضد الجراثيم الضارة؛فهي تخلص المهبل من الجراثيم الضارة و تطردها إلى الخارج و تمنع دخولها إلى الرحم،و من ثمّ إلى القنوات،و بالتالي إلى فراغ البطن الداخلي، و تلك العصويات تعيش على السكر المخزن في خلايا جدر المهبل.و هذه الخلايا تقع تحت تأثير هرمونات المبيض من ناحيتين:
الناحية الأولى:هي نسبة تخزين و تركيز السكر بها؛حيث وجد أن أعلى نسبة تركيز للسكر داخل تلك الخلايا تكون في منتصف الدورة الشهرية،و تقل تدريجا مع انخفاض نسبة هرمونات المبيض،حتى تتلاشى تماما قبل الحيض بساعات و أثناءه.
الناحية الثانية:هي انفصال هذه الخلايا من جدر المهبل؛حيث تنفصل هذه الخلايا كجزء من عملية التجديد الدائم،و قد وجد أن أعلى نسبة لانفصال هذه الخلايا تحدث في منتصف الدورة الشهرية،و من ثم تقل تدريجيا حتى تصل إلى الدرجة الدنيا قبل الحيض بساعات،و من ثم أثناءه.
و على ذلك،فإن أعلى نسبة لتركيز السكر في المهبل تحدث في منتصف الدورة،و أقل نسبة تحدث قبل الحيض مباشرة،حتى أنها تكون معدومة أثناء الحيض،و بالتالي فإن عصويات دودرلين تصل إلى قمة تكاثرها و نشاطها في منتصف الدورة،حيث وصل معدلها في تلك الدراسة إلى مم 3،و من ثمّ تقل و تضعف قبل الحيض مباشرة،و عند حدوث الحيض و نزول الدم،فإن درجة التأيّن الحمضي للمهبل تتغير من الحامضية إلى القلوية،فتموت تلك العصويات،و يأخذها
ص: 202
تيار الدم معه إلى خارج المهبل.و قد وجد أن العصويات توجد في أسفل المهبل فقط،و أن أعدادها لا تزيد على 1.0 مم 3 في الأيام الأولى للحيض،أما في الأيام التالية،فقد وجد أن المهبل يكون خاليا منها تماما،ذلك لأن تيار الدم قد جرفها إلى الخارج بعد موتها.
و في هذا الوقت بالذات،أي في وقت الحيض،تكون الفرص كلها سانحة و الظروف كلها مهيأة لنمو و تكاثر و نشاط الجراثيم الضارة،و ذلك لأن عصويات دودرلين تحول السكر إلى حمض اللبنيك،الذي يقتل الجراثيم الضارة،و لأن وجود تلك العصويات يكبل نمو الجراثيم الضارة،و يقف دون نشاطها،و يحول دون تكاثرها،بطريقة ما زال يكتنفها شيء من الغموض.
و في غياب تلك العصويات،و تبدل درجة التأيّن الحمضي إلى القلوية،تجد الجراثيم في الدم المرتع الخصب للنمو و التكاثر،ليس هذا فحسب،و إنما تنضم إليها جراثيم الشرج و مجرى البول،و ليس أشد غدرا من جرثومة ضارة.
و قد وجد أن هذه الجراثيم الضارة تزداد في أعدادها و أنواعها وقت الحيض، حيث يصل عددها إلى مم 3،و ليس من سبيل يمنع دخولها إلى جدار الرحم المتهتك في هذا الوقت الحرج،أو نفاذها إلى داخل فراغ البطن،أو اقتحامها للأنسجة الرخوة و البالغة الطراوة،سوى شيء واحد؛ذلك هو تيار الدم المضاد الآتي من الأعلى إلى الأسفل.
و أما بعد انقطاع الحيض،فقد وضح من نتائج الدراسة أن الوسائل الدفاعية الطبيعية غير موجودة بتاتا في هذه الفترة،ليس هذا فحسب،بل إن مقومات وجودها أيضا من السكر و(درجة التأيّن الحمضي PH )غير متوافرة،هذا فضلا عن وجود أعداد رهيبة من الجراثيم الضارة في أسفل المهبل،حيث توقف سيل الدم عنها، و بالتالي توقف جرفها إلى الخارج.
ليس من الحكمة إذن في شيء،و لا من المنطق،في كثير أو قليل،معاندة الطبيعة باقتحام حاجز الدفاع الوحيد و الباقي للمحيض،أ لا و هو عصويات دودرلين، و ذلك بالإيلاج حيث إن القضيب يحمل معه جراثيم ضارة من قبل الرجل،غير الجراثيم التي تتكاثر لدى المرأة في هذا الوقت،و أنسجة المهبل ضعيفة.و مما يزيد الأمور تعقيدا هو أن جدار الرحم الذي يكون مكونا من عدة طبقات من الخلايا يضعف أثناء الحيض و يصبح جداره رقيقا و مكونا من طبقة رقيقة من الخلايا بدلا من
ص: 203
الطبقات العديدة التي نراها في أوقات الطهر.و بالتالي فإن استعداد الرحم لمقاومة الميكروبات الغازية تقل نتيجة لذلك.
و من الجدير بالذكر هنا أن الرحم يتقرّح عند ما يقذف غشاءه المبطن أثناء الحيض،و لذلك،فإن فرص انتقال الميكروبات تزيد.
و لا يقتصر الأذى على ما ذكرناه من نمو الميكروبات في المهبل،مما يسبب التهاب الرحم و المهبل الذي كثيرا ما تطول فترة التهابهما و يصعب علاجهما،و لكن يتعداه إلى أشياء أخرى.فقد تمتد الالتهابات إلى قناتي الرحم فتسدّهما،أو تؤثر على شعيراتهما الداخلية التي لها دور كبير في دفع البويضة من المبيض إلى الرحم، و ذلك يؤدي إلى العقم أو إلى الحمل خارج الرحم.
و قد يمتد الالتهاب إلى قناة مجرى البول،فالمثانة،فالحالبين،فالكلى.
و لا يقتصر الأذى على الحائض في وطئها،و إنما ينتقل الأذى إلى الرجل الذي يطؤها أيضا،فقد وجد أيضا أن طفيل الترايكومونس في وقت الحيض يتضاعف إلى أربعة أضعاف،و هذا الطفيل وجد في أعلى المهبل أثناء الحيض متحينا فرصته و مترقبا صيده.و من المعروف أنه يسبب التهابات في الجهاز البولي و التناسلي للذكر.
و من المعروف أيضا أن انتقاله إليه لا يكون إلا عن طريق المباشرة الزوجية،و احتمال الإصابة به قائم في ذلك الوقت إذا ما حدثت المباشرة.
و تنتقل الميكروبات السبحية و العنقودية من قناة مجرى البول إلى البروستاتا و المثانة.و التهاب البروستاتا سرعان ما تطول فترته لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة و التي نادرا ما يصلها الدواء بكمية كافية لقتل الميكروبات المختفية في تلافيفها.فإذا ما طالت فترة التهاب البروستاتا،فإن الميكروبات سرعان ما تغزو بقية الجهاز البولي و التناسلي فتنتقل إلى الحالبين و منه إلى الكلى.
و قد ينتقل الميكروب من البروستاتا إلى الحويصلات المنوية فالحبل المنوي فالبربخ فالخصيتين،و قد يتسبب ذلك بإحداث عقم نتيجة انسداد قناة المنيّ أو التهاب الخصيتين.كما أن الآلام المبرّحة التي يعانيها المريض في العقم تفوق ما قد ينتج عن ذلك الالتهاب (1).
إن عدم وجود الجراثيم في أعلى المهبل،هو الدليل القاطع على أن دم الحيض لا يحمل سموما،و كما وضح من الدراسة فإن عاملي الوقت و المكان تجعلف.
ص: 204
من الدم مؤذيا كما نص عليه القرآن الكريم و السنة الشريفة.و الطريقة المثلى للتعامل مع هذا الوضع هي انتظار انقطاع الدم،أي انتظار الطّهر،و من ثمّ التطهّر بالماء.و قد وضح سابقا أن ذلك يزيل الجراثيم الضارة في الوقت الذي لا يوجد فيه تيار سائل جار لغسلها طبيعيا،و يهيئ أيضا الظروف الطبيعية لوجود عصويات دودرلين مرة أخرى.
و هكذا يتبين لنا الإعجاز العلمي في انتفاء كلمة«المحيض»من بين المفردات الأخرى و كيف أن التعاليم الإسلامية هي الطريقة المثلى،لخلاص البشرية من همومها و ظلامها.
و ختاما يمكننا أن نلخّص مجموع النقاط التي تتضمّنها الآيات الكريمة و الأحاديث الشريفة،حتى يتضح لنا حجم الإعجاز العلمي في ذلك:
1-ازدياد مكونات الرحم.
2-غيض الرحم من جراء الحيض.
3-احتواء الرحم على عروق.
4-خروج الدم من العروق في حالة الحيض فقط،و ليس من سواها خلال الدورة الرّحمية(ما عدا حالة الاستحاضة-و هي حالة مرضية-).
5-خروج الدم من خلال تشققات في العروق.
6-اختلاف دم الحيض و دم الاستحاضة(عند خروجهما من المهبل،و ليس عند خروجهما من العروق).
7-سواد دم الحيض.
8-رائحة دم الحيض المتميزة.
9-معرفة دم الحيض(من قبل النساء و الأطباء من خلال مقداره،و مكوّناته ...إلخ).
10-علاقة الزمان و المكان بالأذى الذي قد يتخلّق في المحيض.
11-التصرف المثالي للزوجين لتجنب الأذى المتولد في المحيض.
و مجدّدا تتوالى النبوءات على لسان هذا النبي الأمّي صلّى اللّه عليه و سلّم لترفع راية العلم و لتعزّز معرفة الأطباء.
ص: 205
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلقة مجّتها الأرحام دما، و إن قال:مخلقة،قال:يا رب:فما صفة هذه النطفة؟».[رواه الطبري ح 32].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفّه،فقال:أي ربّ:مخلّقة أم غير مخلّقة؟فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة و قذفتها الأرحام دما»[أخرجه ابن أبي حاتم ح 33].
يعرف الإجهاض أو السقط في الطب بأنه خروج محتويات الحمل قبل مرور 20 أسبوعا تحسب من آخر حيضة حاضتها المرأة.
قبل أن نسترسل في تفسير الحديثين نفيد بأنهما يختصان بنطفة الأمشاج إذ إن النطفة غير الملقحة غير قابلة للتخليق:فلا معنى لأن يرسل اللّه سبحانه و تعالى ملكا ليسأله هل ستتخلق النطفة أو لا.
انتهينا في المقطع السابق إلى أن البويضة الملقحة ترحل من فم الأنبوب إلى داخل الرحم حيث تقع هناك:ترى ما ذا يحصل آنذاك؟.
فالواقع أن هناك احتمالا كبيرا بأن تجهض المرأة بويضتها بعد أن تقع على سطحها.فهنا لك 45% من الحالات تجهض الأم فيها نطفة الأمشاج-التي انقسمت عدّة مرات و أصبحت تسمى باللغة العلمية:(الكرة الجرثومية BLASTOCYT )-في الأسبوع الأول من الحمل بعد أن تقع على سطحها و ذلك لأسباب عدة،منها:كما يؤكده لنا الدكتور لارس هامبرغر (1)قائلا:«إن هناك كثرة من المورثات غير سليمة (في البويضة)أو أنّ هناك مورثات أكثر أو أقل من اللازم»(و ذلك من جراء دخول أكثر من حيوان منوي إلى البويضة)«و بما أن كثيرا من المادة الوراثية قد دخلت البويضة فبالتالي يتم التطور بطريقة غير سليمة.
هذا واحد من أسباب الإجهاض المبكر.
ص: 206
هناك سبب آخر للإجهاض المبكر و هو أمر ليس بالخصوص غير اعتيادي، و هو(وجود)خطأ في التركيبة الوراثية للحيوان المنوي».
كذلك فإن نقصا في إفراز هرمون(البروجسترون PROGESTERONE )و هرمون (الأستروجين ESTROGEN )من قبل(جريب البويضة الذي قذف بالبويضة فيما قبل CORPUS LUTEUM )هو أحد أسباب الإجهاض التلقائي (1).
إن هذه الظاهرة-ظاهرة الإجهاض للنطفة-التي تحدث عنها الرسول الكريم -عليه الصلاة و السلام-بإعجاز لم تعرف في الأوساط العلمية إلا في الآونة الأخيرة،فالصعوبات من التحقق من أنّ المرأة حامل في الفترات الأولى من الحمل حالت دون معرفة العلماء أمر الإجهاض المبكّر و ذلك لأن الرحم يقذف البويضة بعد تلقيحها أو بعد انغرازها فيه مباشرة(أي في فترة«الحرث»التي تلي)...و يكون ذلك في موعد الحيض فلا تفطن المرأة إلى أنها حملت أصلا...و قد تتأخر حيضتها بضعة أيام ثم تأتي العادة الشهرية فتظن المرأة أن حيضتها قد تأخرت لأيام فقط و لا تفطن إلى وجود حمل (2)فمن حالات الإجهاض ال 45% التي أسلفنا ذكرها، 30% لا تفطن فيها المرأة إلى أنها حامل و 15% تعلم بحملها.0.
ص: 207
*قال العليم الحكيم: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].
*قال اللّه عزّ و جلّ: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) [المرسلات:20-21].
*قال اللّه تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [الزمر:6].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:
مخلّقة قال:يا ربّ:فما صفة هذه النطفة؟».[رواه الطبري ح 32].
*عن عبد اللّه بن بريدة:أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود، فأخذ بيد امرأته،فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق،لقد تزوّجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقت،...إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له» [أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
*عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...
العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
لقد بيّنا في مبحث«مستودع النطف»أن مستودع النطف عند الرجل هو البربخ الواقع أعلى الخصية،و هو عند المرأة المبيض.
إن تبيان مكان المستودع إعجاز بحد ذاته و خاصة إن كان يخص الأنثى:
فتضاريس مستودع الرجل ظاهرة للعيان و إن كان هذا المستودع واقعا تحت البشرة، أما بالنسبة للمرأة فالرحم منغلق على نفسه،داخل الجسد و تضاريسه غير ظاهرة.
و إذا افتقدنا الوسائل العلمية التي تتيح لنا معرفة دقائق الأمور فمن الطبيعي أن نظن أن النطفة تأتي من الرحم نفسه أو أن الرحم يفرزها(أي:أن بطانة الرحم تلفظها بعد أن كانت موجودة كاملة في داخلها،و بذلك يكون الرحم هو المستودع الذي تتكلم عنه الآية)-هذا إن علمنا أن هناك نطفة تفرزها المرأة-ذلك أن الرحم يظهر
ص: 208
للعيان مغلقا،و لا سبيل إلى أن يفقه أحد كيف يمكن للنطفة أن تأتي من خارجه إلا إذا تفحص عالم بواسطة مجهر تركيب الرحم،فعلى سبيل المثال:ظن العالم (هارفي HARVEY )1651 م أن الرحم يفرز الجنين و ذلك لعدم تمكنه من مشاهدة تطور الجنين في المراحل الأولى من تخلقه.
نتوقف هنا عند الآية: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) [المرسلات:20-21].فهي تشير إلى أن الماء المهين،أي المني يجعل،أي يوضع،في القرار المكين،أي الرحم،إذ فعل«جعل»يأتي بمعنى«وضع».جاء في لسان العرب:«جعل:جعل الشيء يجعله جعلا و مجعلا و اجتعله،وضعه...» (1).و ما يوضع في الرحم هو الماء بعد أن يلقح،و الدليل على ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى قال في سورة المؤمنون: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ .و هذه الآية تخص النطفة المخصبة لأن سياق الآيات التي تأتي من بعدها تتكلم عن التخلق البشري،فلو أن النطفة لم تخصب،لم تؤد إلى تخلق الإنسان،و لما تكلم اللّه تعالى في الآيات اللاحقة في سورة المؤمنون عن تخلق العلقة من النطفة كما جاء في قوله عزّ و جلّ:
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:13-14] (2).
و لقد أكّد المولى عزّ و جلّ في موضع آخر من القرآن الكريم أن النطفة التي يتخلق منها الجنين هي النطفة المخصبة في قوله سبحانه و تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ .
و كما أسلفنا القول فإن الآية رقم 13 من سورة المؤمنون تشير إلى أن النطفة المخصبة تدخل الرحم الموصوف بالقرار المكين باستعمال لفظ(ثم جعلناه...في قرار...)،فلو أن النطفة كانت في القرار لم تكن لتجعل فيه،و هذا يدل على أن النطفة المخصبة تأتي من خارج الرحم.و الحديث رقم 32 يؤكد هذا بواسطة مصطلح آخر إلا و هو:«إذا وقعت النطفة في الرحم...»[رواه الطبري ح 32].فلو أن النطفة كانت في الرحم لما وقعت فيه.و هذا يدل على معجزة معرفة الرسول-عليه الصلاة و السلام-بتركيب الرحم،حيث إن الرحم متصل بقناة فالوب التي تتلقى البويضة من المبيض-مستودع النطفة-،فالوقوع في الرحم يلزم الخروج من مكان ثان؛أ لا و هو«قناة فالوب».».
ص: 209
و تقيد هذه الرواية أيضا بأن الرسول-عليه الصلاة و السلام-يعلم تمام العلم بأن مكان تخصيب البويضة-و بالتالي بداية الخلق-هو خارج الرحم،و داخل القناة التي تعرف اليوم بقناة فالوب،لأن الآية و الحديث يعنيان البويضة المخصبة.فالنطفة عند ما تقع في الرحم تكون ملقحة،أي جاهزة لأن تتخلق،و إلا لما سأل الملك اللّه سبحانه و تعالى هل يريد أن يخلق البويضة أم لا،وفقا لما جاء في الحديث رقم 32 و الذي علقنا عليه في مبحث«الإجهاض المبكّر».
و الحديث«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق كلّها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23]،أوضح دلالة من الحديث رقم 32 في أن مكان التخصيب يقع خارج الرّحم،حيث إنه يشير إلى أن النطفة التي يخلق منها الولد(أي النطفة المخصبة)إذا خرجت(أي إذا خرجت من مكان ما يقع خارج الرّحم و هو قناة فالوب)وقعت في الرّحم.
إلى ذلك فإن القرآن الكريم يشير بطريقة غير مباشرة إلى أن الخلق يبدأ من خارج الرحم من خلال قول اللّه تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ... [الزمر:6].
فلو كان الخلق في الأرحام فقط لقال اللّه-سبحانه و تعالى-نخلقكم في أرحام أمهاتكم و اللّه تعالى أعلم.و هذه إشارة إلى أن بدء الخلق الذي يتلخص باجتماع الحيوان المنوي مع البويضة و بانصهاره معها يبدأ في مكان ما خارج الرحم أ لا و هو قناة فالوب.
و هذه الحقائق التي أشار إليها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم بحق إعجاز علمي،لأن قطر البويضة الملقحة حين تدخل الرحم لا يزيد عن 7,0 ملم،و هذا لا يبيح حتى لعالم بيولوجي متمرس أن يفقه من أين تأتي البويضة إلا إذا زوّد بمجهر إلكتروني،و إذا أمضى وقته في البحث عن المكان الذي تدخل منه النطفة-هذا إن خطر على باله أن هناك مدخلا للنطفة من خارج الرحم إلى داخله-لأن الرحم يظهر للعين المجردة مغلقا تماما من كل الجهات،و ذلك لصغر مدخل النطفة من قناة فالوب إلى الرحم، حيث إنه لا يزيد قطره عن 7,0 ملم في الأيام العادية،و لا عن 1 ملم عند خروج النطفة منه.فالحاصل أن هذا المدخل يتسع لكي تتمكن النطفة الملقحة من عبوره.
نشير هنا إلى أنّ حدود الرحم لا تشمل قناة فالوب،و ذلك لأن قناة فالوب هي دار ممر و ليست بدار مقر.و الواقع أن النطفة بعد أن تخرج من مستودعها تقع في قناة فالوب و تهاجر منه إلى الرحم الذي وصفته الآية الكريمة بدار مقرّ في قوله تعالى:
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ .
ص: 210
إضافة إلى ذلك فإنّ فعل«جعل»يأتي بمعنى«خلق»،جاء في لسان العرب (1):
«جعل:...و جعل خلق...و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] أي خلقنا».فإذا أبدلنا فعل جعل بفعل خلق أصبح معنى الآية:ثم خلقناه نطفة في قرار مكين،و بالتالي فإن الآية السابقة تشير إلى أن الإنسان يخلق ابتداء نطفة و يوضع -و هو يتخلّق-في الرّحم،فالخلق لم يتوقف منذ أن ابتدأ في قناة فالوب(كما أشرنا إليه سابقا في مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»)عند تخصيب الحيوان المنوي للبويضة إلى أن يصبح فيما بعد علقة في الرّحم(أي في القرار المكين).
و من المهم أن ننوّه إلى أنّ اختيار فعل«جعل»له دلالته،فلو صغنا الآية بفعل «وضع»أو فعل«خلق»لما استطعنا أن نجمع بين المعاني المختلفة و أن نوصل إلى القارئ المعنى المزدوج،و هذا من الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم الذي جاء على لسان الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم حيث قال:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13].
و من المعجزات الإخبارية أيضا:إشارة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بطريقة غير مباشرة إلى أن مخرج قناة فالوب الذي يتصل بالرحم يقع عند هاوية و إلا لما وقعت النطفة في الرحم بل لدخلته.
و بعد هذا كله،نستنتج من الحديثين:«...إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها...»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]و«إذا وقعت النطفة في الرحم...» [رواه الطبري ح 32]أن عملية اضطراب العروق و بالتالي عملية التقدير تقع خارج الرحم،لأن في الحديث رقم 22 إشارة إلى أن عملية الاضطراب تقع«إذا كان حين الولد»أي عند تخصيب البويضة،و التخصيب كما أشرنا إليه سابقا في هذا البحث يقع خارج الرحم في قناة فالوب وفقا للحديث رقم 32«إذا وقعت النطفة في الرحم...».
و الحديث رقم 23 يشير إلى نفس الحقائق التي تحدّث عنها الحديثان رقم 22 و 32 مجتمعين من اضطراب العروق خارج الرّحم و لكن بلفظ أكثر وضوحا:
-فالنطفة التي يخلق منها الولد:[دلالة على أن عملية التخصيب قد حصلت].).
ص: 211
-ترعد لها العروق كلها:[دلالة على أن عملية اضطراب العروق،و بالتالي عملية التقدير حصلت بعد أن تمت عملية التخصيب].
-إذا خرجت:[دلالة على أن خروج البويضة من مكان ما يقع خارج الرحم (قناة فالوب)حصل بعد أن تمت عملية التخصيب و عملية التقدير و عملية الاضطراب].
-وقعت في الرّحم:[دلالة على أن وقوع البويضة المخصبة حصل بعد أن تمت العمليات التالية:التخصيب و التقدير و الاضطراب و الخروج من مكان التخصيب].
و من التعليق السابق نرتب مجموع المعلومات عن الرحم و عن العمليات التي تحصل خارج الرحم كالتالي:
1-مكان مستودع النطف يقع خارج الرحم.
2-عملية تلقيح البويضة تقع خارج الرحم.
3-عملية اضطراب العروق تقع خارج الرحم.
4-عملية التقدير تقع خارج الرحم.
5-مدخل قناة الرحم الذي يتصل بالرحم يقع عند هاوية.
ص: 212
*قال سبحانه و تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:
مخلّقة قال:فما صفة هذه النطفة؟»[رواه الطبري ح 32].
*قال عزّ و جلّ: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98].
هذه المرحلة تقع زمنيا قبل مرحلة«نطفة الأمشاج»و لكن وضعناها بعد مبحث «الإجهاض المبكر»و مبحث«مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب»لكي يستطيع القارئ أن يؤلف صورة إجمالية عن الأحداث التي تقع في بطن المرأة الحامل قبل استقرار النطفة في الرحم،فيستنتج من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الدلائل التي تشير إلى هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم.
نفهم من الآيات الكريمة: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) أن الماء المذكور يدفق،و بالتالي فهذا الماء ينتقل من مكان إلى آخر.
هذا الماء الذي يدفق يحتوي على البويضة غير المخصّبة و ذلك:
1-لأن مكونات الماء الدافق مستقاة مباشرة من الأوردة التي تتفرع من المنطقة الواقعة بين الصلب و الترائب (1)،و أما النطفة المخصبة فهي تتكون من الحيوان المنوي و البويضة (2).
2-لأن البويضة المخصبة التي أشار إليها الملك بقوله:«مخلّقة أو غير مخلّقة»في الحديث«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة
ص: 213
أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما»[رواه الطبري ح 32]تقع (1)و لا تدفق.
و كما أشرنا إليه سابقا فالبويضة تخرج من المستودع الذي تتكلم عنه الآية الكريمة: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ و تصب في قناة فالوب (2).
و دفق الماء مهم و ذلك لكي تستطيع النطفة أن تقفز من المبيض إلى قناة فالوب بدون أن تضيع داخل جسم المرأة.
و بعد أن تدفق البويضة من المستودع إلى قناة فالوب تخف سرعتها و تجري ببطء (3)و يلقحها الحيوان المنوي عملا بالآية الكريمة: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]،و بالحديث الشريف:يا محمد:ممّ خلق الإنسان؟قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]،و من ثمّ تعاود النطفة رحلتها إلى الرحم.
فالبويضة في بادئ الأمر تدفق،أي:أنها تخرج بقوة و بسرعة مع ضغط من المستودع إلى قناة فالوب،و من ثمّ تخرج من قناة فالوب و تقع في الرحم كما جاء في الحديث الشريف:«إذا وقعت النطفة في الرحم»[رواه الطبري ح 32].
فالوقوع في الرحم يستلزم الخروج من مكان آخر؛أ لا و هو قناة فالوب،و هذا هو ما يشير إليه الحديث:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
و لقد أضاف اللّه-سبحانه و تعالى-الشدة في وصف خروج الماء(من المبيض)،أما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فلم يستعمل الوصف الشديد عند ما حدّثنا عن خروج النطفة(من قناة فالوب)و وقوعها في الرحم،و هذا يعني أن سرعة البويضة تخف حسب المعطيات القرآنية و الحديثية.».
ص: 214
و قد ورد في أكثر من حديث أن النطفة تقع في الرحم بدون الإشارة إلى أي شدّة في وقوع النطفة في الرحم و ذلك للتأكيد على نفي الشدة أثناء وقوعها و اللّه تعالى أعلم.
و هذه الأحاديث هي:
1-«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجتها الأرحام دما،و إن قال:مخلّقة قال:يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟..»[رواه الطبري ح 32].
2-عن حذيفة بن أسيد رضي اللّه عنه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأذنيّ هاتين يقول:
«إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصوّر...»[أخرجه مسلم ح 48].
3-عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...
العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم».[أخرجه الديلمي ح 23].
فإذا خفت سرعة البويضة لزم منها أن تمكث في موقع الإخصاب مدة من الزمن لا يستهان بها.و مما يدعّم هذا المفهوم لفظ«إذا»الذي ورد في الحديث الشريف:«إذا وقعت النطفة في الرحم»[رواه الطبري ح 32]،و«إذا:اسم يدل على زمان مستقبل» (1)،و هذا يشير إلى ثلاثة احتمالات:
1-أن النطفة غير المخصبة تمكث في المستودع حقبة من الزمن،فيستلزم استعمال اسم«إذا»في صياغة الحديث الشريف للدلالة على مكوث الهيكل الأساسي للنطفة المخصبة خارج الرحم(أي في المبيض-أو المستودع...)زمنا طويلا، و هذا يوافق المعنى الذي تشير إليه كلمة«مستودع»أن النطف تمكث في هذا المكان فترة طويلة (2).
2-أن النطفة المخصبة(أو النطفة التي سوف تتخلق)تمكث مدة من الزمن غير يسيرة في موقع الإخصاب،فيستوجب استعمال اسم«إذا»في صياغة الحديث الشريف للإشارة إلى بقاء النطفة خارج الرحم فترة طويلة.و مما يدلّ على أن البويضة المخصبة تمكث في موقع الإخصاب زمنا طويلا هو استعمال حرف العطف«ثم»».
ص: 215
الذي يفيد الترتيب و التراخي (1)في النص القرآني: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) [المؤمنون:12-13].ففي هذا النص نرى أن اللّه تعالى ذكر ابتداء مرحلة السلالة،و هو بذلك استثنى مرحلة مكوث النطفة غير المخصبة في مستودعها لأنه تكلم عن السلالة(أي النطفة التي انسلت-أي خرجت -من مستودعها)،و من ثمّ فصل بين مرحلة السلالة و مرحلة نطفة الأمشاج في القرار المكين-أي في الرّحم-،بحرف العطف«ثم»،مما يشير إلى أن النطفة غير المخصبة تحتاج إلى زمان غير يسير لتخصّب و من ثمّ لتنتقل من موقع الإخصاب إلى الرّحم.
3-أن النطفة تمكث في المستودع مدة طويلة،كذلك في موقع الإخصاب مما يدعو إلى استعمال اسم«إذا»في الحديث الشريف لنفس السبب الذي ذكرناه آنفا.
و من كلامنا السابق نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أثبت الحركة الديناميكية للنطفة؛فهي تدفق(في موقع التخصيب)،و من ثمّ تقع في الرحم،و من ثمّ تستقر و تغيض في الرحم (2)،و بالتالي أثبت هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم.و مفهوم تحرك النطفة بعيد عن متناول الأذهان؛فلو اتضح للعالم أن هناك نطفة يتخلق منها الجنين فهذا لا يلزم أن تنتقل من مكان إلى آخر،و هذا يدل على إعجاز معرفة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للأمور غير المرئية في مجال علم الأرحام في زمانه.
و الواقع أن النطفة تمكث في قناة فالوب حوالي ثلاثة إلى أربعة أيام تنفلق على التوالي كما تشير إليه المعطيات العلمية (3).
إلى ذلك فإن الدفق يستوجب أن يكون المكان الذي يدفق فيه الماء طويلا و إلا لما سال فيه.و مثال على ذلك:جريان مياه العين،فلو لا طول مجرى العين لما تدفقت و سالت المياه فيه.
و مما قلناه نستنتج أن موقع الإخصاب(أي قناة فالوب)طويل بالنسبة إلى البويضة بحيث يستطيع ماء المستودع أن يدفق فيه و بالتالي أن تسير النطفة فيه.و كما».
ص: 216
نعلم يبلغ طول قناة فالوب خمسة عشر سنتيمترا،و أما قطر البويضة فيبلغ 055,0 ملم (1)عند خروجها من المبيض،و 7,0 ملم عند خروجها من قناة فالوب.
إن اختيار الألفاظ(مستودع-دفق-نطفة مخلّقة أم غير مخلّقة-وقوع- رحم)و اختلاف دلالاتها لشدة الحركة أو رخائها(دفق-وقوع)يحدد لنا الصورة الإجمالية التي ترتبط بالنطفة خلال وجودها خارج الرحم؛فهناك مكان تخصيب(كما تشير إليه عبارتا نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2]و مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5]و له مدخلان:أحدهما يطلّ على المبيض(أي على المستودع)و الثاني على الرحم،و عبر كل من المدخلين هناك حركة انتقالية للنطفة(دفق-وقوع)مما يشير إلى أن النطفة في حركة انتقالية مستمرة و إن اختلفت ديناميكية تلك النطفة(كما تشير إليه دلالات كلمات«دافق»و«خرجت»و«وقعت»).
و تفصيلا:
يتزايد ضغط الجريب الذي يحتوي على البويضة إلى درجة من الضغط تساوي 15 ميليمترا زئبقيا تنفجر عندها حويصلة البويضة و قشرة المبيض في أضعف نقطة منهما،فتقذف بالبويضة و الخلايا الحامية لها و المحيطة بها و قليل من ماء الحويصلة إلى(تلافيف بوق أنبوب الرحم FIMBRIAE OF FALLOPIAN TUBE )و من ثمّ إلى (قمع قناة فالوب INFUNDIBULUM OF FALLOPIAN TUBE )...إلخ فيتدفق الماء من جراء الضغط المتولد.كذلك مما يحفز الماء على التدفق هو أن جريب البويضة يفرز مادة تجعل أهداب بوق فالوب تسحب ماء البويضة إلى داخل البوق إلى جانب تقلص عضلات قناة الرحم الذي يحدث هو أيضا ضغطا سلبيا تجاه قناة فالوب،و من ثمّ تخف سرعة البويضة.و لكن ما يساعدها على مواصلة مسيرها هو أنه يوجد في قناة فالوب غابة من الشعيرات الصغيرة تموج موجا،تدفع بالبويضة إلى الأمام (2).(انظر الصورة رقم:57).إضافة إلى ذلك تتجمّع الحيوانات المنوية التي نجت من الوسط الحامضي للمرأة و من سائر المعوقات حول البويضة،و يكون عددها حينئذ حوالي الخمسمائة.هذه الحيوانات تحاول-جاهدة-دخول البويضة، فتتسابق فيما بينها و تتزاحم حول حائط البويضة،فترتطم به لكي تشق لنفسها طريقا داخل الجدار،و من ثمّ ينفذ واحد فقط إلى داخل البويضة.5.
ص: 217
و من الجدير بالذكر أن ارتطام الحيوانات بجدار البويضة يؤدي إلى دوران النطفة (1)،فتدور النطفة حول نفسها خلال سيرها في قناة فالوب إلى الرحم 2،ر-
ص: 218
و كذلك تدور الحيوانات المنوية حول محور النطفة متبعة حركة دائرية من جراء دوران النطفة (1).(انظر الصورة رقم:58).و عند ما تصل البويضة المخصبة إلى نهاية قناة فالوب من جهة الرحم تنسل عبر مضيق يتوسع تلقائيا ليسمح لها أن تعبره،و بعد أن تعبر البويضة المضيق تقع داخل الرحم.
و من شرحنا السابق فإن الصورة الإجمالية لمكان التخصيب و لما).
ص: 219
يحصل (1)للنطفة خارج الرحم،التي نستطيع أن نجمعها من الدلائل المستقاة من الآيات و الأحاديث،و التي تشير إليها المعطيات العلمية،هي على الوجه التالي:
1-انتقال النطفة غير المخصبة بسرعة من مكان تحفظ فيه النطف(أي من المستودع)إلى مكان طويل(بالنسبة إلى حجم البويضة)هو موضع التخصيب(أي إلى قناة فالوب).
2-تباطؤ سرعة البويضة.
3-تخصيب البويضة.
4-هجرة البويضة إلى عنق قناة الرحم(الذي يتصف بالضيق (2)كما تشير إليه كلمة«سلالة» (3).
5-مكوث النطفة المخصبة حقبة من الزمن في موضع التخصيب.
6-خروجها من مكان التخصيب إلى مكان آخر(كما تشير إليه عملية الوقوع).
7-وقوعها في الرحم.
و هذا يشير إلى إعجاز معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بوحي من اللّه تعالى إلى دقائق تركيبة الجهاز التناسلي للمرأة،و إلى أحداث تخصيب البويضة،و رحلتها عبر قناة فالوب كما أشرنا إليه سابقا.
و قبل أن ننهي هذا المبحث نود الإشارة إلى أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم أن هناك العديد من الحيوانات المنوية،و أن واحدا منها فقط يلقّح البويضة في نهاية المطاف.و الدليل على ذلك قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يا يهودي من كلّ يخلق:من نطفة الرجل و نطفة المرأة»[أخرجه أحمد ح 20]و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة فأيهما غلبت فالشبه له»[ذكره ابن هشام ح 69].فكل منهما يشير إلى أن نطفة واحدة لا غير تشارك في تلقيح البويضة مما يعني إحدى الفرضيتين:إما أن هناك نطفة واحدة في منيّ الرجل تلقّح البويضة،و إما أن هناك العديد من النطف في منيّ الرجل،غير أن واحدة منها فقط تنتخب لتلقيح البويضة.و الفاصل في هذا الأمر».
ص: 220
نصوص أخرى من القرآن و السنّة توضّح هذا الأمر.فإذا أخذنا بمعنى السلالة التي وردت في الآية ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]-الخروج من الزحام (1)(كما رأينا في مبحث«النطفة»)-،فهمنا أن الآية تشير إلى أن هناك العديد من النطف،و إلا لما خرج الحيوان المنوي من الزحام(و بالتالي فإن الفريضة الثانية هي الصحيحة).و بما أن نطفة واحدة فقط تشارك في تخلّق البويضة المخصّبة فهذا يعني أن حيوانا منويا واحدا-فقط لا غير-يفوز في هذا السباق،و يهرب من سائر المعوّقات،و ينسل من العدد الهائل للحيوانات المنوية ليلقّح البويضة،تماما كما تشير إليه النصوص الشرعية التي أنزلت من عند من يعلم السرّ في السماء و الأرض: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:6].0.
ص: 221
*قال جلّ و علا: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ... [البقرة:223].
*قال عزّ و جلّ: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ... [البقرة:228].
جاء في لسان العرب (1):«(قال)الأزهري:الحرث قذفك الحب في الأرض لازدراع...».
و في صحيح مسلم بشرح النووي (2)في تفسير الآية عن صفة الرحم:«أي موضع الزرع من المرأة و هو قبلها...».
إذا عملية الحرث المذكورة في نص القرآن الكريم تشير إلى زرع الحبة أي النطفة في قبل المرأة أي رحمها(لمزيد من التعليق على أن كلمة الحبّ تشير إلى النطفة راجع مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»).
هذه العملية تحصل في اليوم السادس.
إن النطفة إذا وقعت في الرحم،إما أن يتقبلها الرحم أو يرفضها.فإذا رفضها حصل حيض و غاض الرحم من جرّاء فقدان دمائه،و إذا لم يرفضها علقت بظاهر بطانته و ابتدأ طور جديد يعرف بطور الحرث.
تبدأ عملية الانغراس للنطفة في بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة في التربة بواسطة خلايا تخرج منها تتعلق من خلالها في ظاهر جدار الرحم.
فالحاصل أن الخلايا التي تأتّت من الانقسامات المتوالية(كما رأينا في مبحث «انفلاق النطفة»)تتمايز في بادئ الأمر إلى كتلتين من الخلايا:(كتلة خلايا خارجية OUTER CELL MASS OR THROPHOBLAST )و(كتلة خلايا داخلية INNER CELL MASS ).(انظر الصورة رقم:59).
ص: 222
ص: 223
و من ثم تتمايز كتلة الخلايا الخارجية إلى طبقتين:(كتلة مخلاوية آكلة تواجه ظاهر بطانة الرحم SYNCYTIOTROPHOBLAST )و(كتلة مخلاوية موجودة تحت الأولى CYTOTROPHOBLAST ).
هذه الخلايا الآكلة تخرج من النطفة أو(الكرة الجرثومية BLASTOCYT ) و تتعلق بظاهر بطانة الرحم عند القطب الجنيني[أي عند مجموعة الخلايا التي ستؤلف الجنين و التي تسمى:(كتلة الخلايا الداخلية INNER CELL MASS )]،و من ثم تخترق هذه الأرومة السخدية ظاهر بطانة الرحم و تبدأ في الانتشار في بطانته و يكون هذا(الانغراس IMPLANTATION )انغراسا جزئيا و هو يشبه كثيرا في معناه معنى كلمة الحرث.(انظر الصورة رقم:60).
هناك حدث يجب أن لا ننساه و هو:أنه خلال عملية الحفر يحصل في بعض الحالات نزيف دموي من جراء خروج الدم من الشرايين التي تنقطع حول مكان الحرث.و قد تظن المرأة أن الحيضة قد أتتها،و لكن الواقع أن هذه الظاهرة تأكيد لحملها.و بما أن هذا الأمر(أي نزيف الدم)قد يحصل في بعض الحالات،و قد تشك المرأة من جرائه بأنها حامل أزال اللّه سبحانه و تعالى هذا الشك بأن أمرها بأن تنتظر ثلاث حيضات بعد طلاق زوجها لها بقوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ... [البقرة:228].
و سنتطرق لهذا الموضوع مرة أخرى عند كلامنا عن نهاية الأسبوع الثامن(أي بعد مرحلة تخلق اللّحم)لتوضيح بقية إعجاز الآيات،لأن هذه الآيات تغطي مرحلة تمتد إلى ما بعد مرحلة عملية الحرث.
ص: 224
ص: 225
*قال العليم الحكيم: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ [الرعد:8].
*عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه:لا يعلم ما في غد إلا اللّه،و لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه،و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللّه،و لا تدري نفس بأي أرض تموت،و لا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللّه»[أخرجه البخاري ح 34].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى:
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]؟قال:شكّلك»[أخرجه الطبراني ح 63].
عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[رواه الطبراني ح 21].
إن الآية: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8]أتت بعد الآية: وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد:7]،و كأنها استجابة للكفار بأن يظهر لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم آية تبرهن على صدق رسالته،فجاء الإخبار مباشرة عن إعجاز علمي خفي،يتحدّث عن ظاهرة غيض النطفة في ظاهر بطانة الرحم.
تمتد هذه المرحلة ما بين اليوم السابع و اليوم الرابع عشر.
كما رأينا في مبحث«ازدياد الأرحام و غيضها»فإنّ فعل غاض قد يعني:
1-نقص من.
2-دخل في.
فعل غاض بمعنى غار ذكر في سورة هود وفقا للآية: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ... [هود:44].
ص: 226
فإذا انطبق هذا المعنى على فعل غاض أصبحت الآية تعني:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تبلغ الأرحام من حمل و ما تزداد منه.
هذا المفهوم لفعل غاض يشير إلى أن شيئا ما يدخل و يغور في الرحم،و هذا ما يحدث بالفعل،فالنطفة بعد أن تقع على سطح الرحم و تتعلق به(كما رأينا في مرحلة الحرث)،يزداد انغرازها عمقا داخل باطن الرحم إلى أن تنغمد فيه كليا (1)في اليومين الحادي و الثاني عشر،و من ثم نرى انغلاق مكان دخول الكرة الجرثومية إلى باطن الرحم بالسدادة النسيجية.(انظر الصورة رقم:61).
و تعرف هذه العملية بعملية الانغراس الخلالي.
يتساءل الناس لما ذا يصرح الرسول-عليه الصلاة و السلام-بأنه«لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه»[أخرجه البخاري ح 34]و قد توصّل العلماء في عصرنا هذا إلى معرفة ما يحدث في الأرحام؟،الجواب:أن هؤلاء الناس غفلوا عن أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم استعمل كلمة«تغيض».هذه الكلمة تدل على حدوث الانطمار أو الانغراس في سطح الأرحام.فالحاصل أن معرفة الناس ستقتصر على معرفة تفاصيل مراحل تخلق الجنين ما بعد مرحلة الغيض لا قبلها،و إلا لم يكن اللّه ليعلن أن الناس سيكتشفون ما سيحدث في الأرحام وفقا للآية التي ذكرناها آنفا في مبحث«التحدي»: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53].و هذا يعني أن علمهم سيكون محدودا وفقا لما حدده الحديث الذي أوردناه سابقا.0.
ص: 227
مرحلة الغيض تأتي بعد مرحلة تلقيح النطفة و انقسامها و مرحلة الحرث، و بالتالي فإن الناس لن يعلموا تفاصيل تلقيح النطفة و إلى ما ذا سيؤدي.فلو علم العلماء مواصفات النطفة الملقحة بعد التلقيح لعلموا ما ذا يدخل في بطانة الرحم.أما ما يجري من عمليات لتخصيب النطفة خارج الرحم،لإجراء التجارب عليها و معرفة تكوينها،فهذه العمليات لا تندرج تحت القاعدة التي أرساها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(أ لا و هي قاعدة الانطمار و الاختفاء عن الأنظار)ذلك لأنهم كسروا هذه القاعدة بإخراج النطفة من مكانها،فمتى أخرجوها استحضروها،و متى استحضروها،فهي حاضرة لا غيب فيها.و كذلك،و للسبب نفسه،لا تندرج النطفة التي تلقّح داخل الرحم تحت عملية الغيض و تلك التي تستخرج من الرحم لإجراء التجارب عليها و إعادتها ثانية إلى الرحم.
إن النطفة الملقحة التي انقسمت إلى عدة خلايا و التي تغور في الرحم لا يزيد حجمها حينئذ(أي في اليوم الثامن)عن 7,0 ملم.هذه النطفة تفقد شكلها تدريجيا و تخرج عن كونها نطفة عند انغرازها في بطانة الرّحم.فالحاصل أن مجموعة الخلايا التي تتألف منها و التي نجمت عن الانشطارات و الانقسامات المتوالية التي حدثت بداخلها تتمايز في بادئ الأمر إلى مجموعتين:كتلة خلايا داخلية،و كتلة خلايا خارجية،حيث إن كتلة الخلايا الخارجية تحيط بكتلة الخلايا الداخلية من كل جانب،و هي بذلك ما زالت تحتفظ بمظهر القطرة.و لكن ما تلبث أن تتحد كتلة الخلايا الخارجية ببطانة الرّحم و تفقد النطفة عندئذ هيكلها الخارجي بالكامل،فتخرج عن كونها نطفة،و تبقى الكتلة الداخلية هي الجزء الأساسي الذي سيتألف منه الجنين.و إذا علمنا أن كتلة الخلايا الداخلية هي مجموعة هائلة من الخلايا(يقدر عددها بألفين في اليوم الثاني عشر)توجد في حيّز من المكان لا يزيد طوله في آخر يوم من مرحلة الغيض (1)عن 8,0 ملم (2)داخل بطانة الرحم،فكيف نتصور أن يكتشف ما بداخلها إذا لم تستخرج من الرحم؟ (3).ج-
ص: 228
من الأمثلة التي تدل على أن مراحل النطفة قبل أن تغور في الرحم هي أسرار إلهية الأمر التالي:تنقسم النطفة الأنثوية كما أسلفنا القول إلى عدة خلايا بعد أن تلقح من قبل الحيوان المنوي،هذه الخلايا تكون متشابهة تماما إلى أن يصبح عددها ثماني خلايا،أي إلى أن تصبح البويضة الملقحة في مرحلة ما يسمى(بالتوتة MORULA )،و من ثم تتمايز الخلايا شيئا فشيئا و تستمر بالانفلاق إلى أن يقارب عددها الخمسين،عندئذ تنقسم مجموعة الخلايا(و هي مستمرة بالانفلاق)إلى جزءين:واحد سوف يؤدي إلى تخلق الجنين(و يسمى:كتلة الخلايا الداخلية)،و الثاني إلى تخلق(المشيمة PLACENTA ) (و يسمى:كتلة الخلايا الخارجية).و من ثم تتمايز كتلة الخلايا الداخلية(التي ستؤلف الجنين فيما بعد)إلى ثلاث طبقات من الخلايا:أ-الطبقة الخارجية و تدعى:
الأكتودرم،ب-الطبقة المتوسطة و تدعى:الميزودرم،ج-الطبقة الداخلية و تدعى:الأنتودرم.أما كيف تعلم كل خلية إلى أي فريق تنضم إلى كتلة الخلايا الداخلية أم إلى كتلة الخلايا الخارجية؟إلى طبقة الأكتودرم أم إلى طبقة الميز و درم أم إلى طبقة الأنتودرم؟و أي عضو ستساهم في تخليقه؟،فهذا الأمر ما زال مبهما إلى الآن.يقول الدكتور لارس هامبرغر شاهدا على هذه المسائل:«إن هذا هو أحد أسرار الحياة الذي ما زال يحيّرنا،و هو محط أبحاث علمية واسعة» (1)(2).ص-
ص: 229
ص: 230
ص: 231
ص: 232
غيض النطفة في الرحم يرافقه انتشار واسع(للخلايا الآكلة SYNCYTIOTROPHOBLAST )(للكتلة الخارجية THROPHOBLAST )في ظاهر بطانة الرحم،مما يساعدها على الاستقرار فيه:فهي من جهة محاطة من كل الجهات بجدار الرحم،و من جهة أخرى تداخلت خلاياها بالأوعية الدموية التابعة لهذا الرحم.لذلك كانت مرحلة الغيض مرحلة استقرار للنطفة.و قد أشير إلى هذا الاستقرار في الحديث الشريف:«إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضرها اللّه تعالى كل نسب بينها و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 63].(انظر الصورة رقم:62).
خلال هذه المرحلة تتميز مجموعة(الكتلة الداخلية INNER CELL MASS )إلى طبقتين:(طبقة خلايا داخلية،و طبقة خلايا خارجية HYPOBLAST EPIBLAST ).
كما أن الأرومة الغازية تتصل في هذه الفترة بأوعية بطانة الرحم.
أما عن معنى الازدياد الوارد في الآية اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ... [الرعد:8]،و الذي يأتي بعد مرحلة الغيض،فهو الزيادة الواضحة في حجم النطفة بعد أن تغيض في بطانة الرحم،و الزيادة في حجم و وزن الجنين بعد ما تتحول النطفة إلى أنبوب عصبي(فعلقة،فمضغة...إلخ)كما سنرى في النصوص التي ستأتي في المباحث اللاحقة.
و حديث«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 63]يتكلم عن النطفة المخصبة،لأن النطفة غير المخصبة لا سبيل لها أن تتخلق(حيث إن عدد أعضائها غير مكتمل لعدم تخصيبها من قبلف.
ص: 233
الحيوان المنوي)،و لا أن تستقر في الرّحم(حيث أن الاستقرار يتطلب تخلّق كتلة مخلاوية آكلة تمكّن النطفة من التعلّق بظاهر بطانة الرحم)،و لا أن يحضر اللّه لها نسبها(كما سنراه في طور«الذنب»).
فإذا قارنّا بين الحديثين:الحديث السابق رقم 63،و الحديث«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم»[أخرجه الطبراني ح 21]استنتجنا أن الحديث الثاني يتحدث هو أيضا عن النطفة المخصبة،
ص: 234
و ذلك أن كلا الحديثين يتكلم عن نفس العملية-عملية الإحضار-و قد ورد في الحديث الأول لفظ النطفة.
كذلك فإن الحديث الثاني تدور وقائعه في مرحلة الاستقرار؛و ذلك أن كلاّ من الحديثين يتكلم عن نفس العملية-عملية الإحضار-و قد جاء ذكر الاستقرار في الحديث الأول.
و جمعا بين التفاسير السابقة نفهم أن وقائع كل من الحديثين:رقم 63،و رقم 21،تدور حول استقرار النطفة المخصبة في الرّحم.
و استقرار النطفة المخصبة يحدث عند-أو قبل بقليل من-عملية الإحضار وفقا للحديث الأول«إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه...»لأن معنى الحديث هو كالتالي:عند ما يحين استقرار النطفة يحضرها اللّه...،و عملية جمع الجنين أيضا تحدث مباشرة قبل عملية الإحضار حسبما جاء في الحديث الثاني«فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثمّ أحضر له كل عرق»،و بالتالي فإن عملية الاستقرار تحصل في نفس الفترة الزمنية التي تحصل فيها عملية الجمع(و سوف نتحدث عن عملية الجمع في مبحث«جمع خلايا الجنين»).و بما أن عملية الجمع تبدأ بعد اليوم السابع فهذا يعني أن عملية الاستقرار تبدأ هي أيضا في حوالي اليوم السابع من خلال غيض النطفة في الرّحم حسب المعطيات الشرعية،و كما أقره العلم تماما.
و إنه لمن الإعجاز حقا أن يبيّن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بدقة وقت استقرار النطفة في الرحم (1)!نظرا إلى المدة الطويلة التي يستغرقها الحمل(تسعة أشهر)،و نظرا لكثرةض.
ص: 235
الأحداث المختلفة التي تتلاحق في هذه الفترة.و إنه لمن المدهش أن يشير إلى أنه ابتداء من هذا التاريخ تحدث عمليتان في نفس الوقت:«استقرار النطفة»،و«جمع الجنين»!و هذا يدلّ على أن علمه محيط بكل جوانب و تفاصيل الأحداث التي تحصل للنطفة سواء أ كانت تفاصيل خارجية(كاستقرار النطفة)،أو داخلية(كجمع الجنين)، و أنه يعلم تماما التاريخ الذي تحصل فيه هذه الأحداث،و هذا لا يكون إلا بمدد من الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة من علم في السموات أو في الأرض تأكيدا لما جاء في الآية: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
ص: 236
بعد أن اطلعنا على معظم الآيات و الأحاديث التي تتكلم عن النطف،لا بد من مراجعة مجمل المعلومات التي وردت في هذا المضمار لكي نتيقّن أنه من المستحيل أن يتكلم القرآن الكريم و الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن هذه الكمية من المعلومات الدقيقة بطريق الصدقة،و لا يمكن إلا أن تكون وحيا من الذي خلق الإنسان،و أنار رحلة الإنجاب.
إن مجموع الصفات و المعلومات التي نصت عليها الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة هي:
1-تخلق النطف في مرحلة مبكرة جدا.
2-اختزان البويضة في مستودع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«مستودع النطف»).
3-صغر حجم البويضة كالقطرة من الماء الذاتية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
4-تدفق ماء البويضة و قوة الدفع الذاتية لها.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء»).
5-انتزاع البويضة من الجريب و إخراجها منه في رفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
6-المظهر الرقيق و قلة الكثافة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
7-اللون الأصفر.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).
8-الإخصاب.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).
9-السير السريع أو الدفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
10-الخروج من الزحام.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
11-البويضة أكبر من الحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).
ص: 237
12-احتواء البويضة على صبغيات.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
13-تقدير النطفة لبنية الإنسان.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
1-تخلق النطف في مرحلة مبكرة جدا.
2-اختزان الحيوان المنوي في مستودع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «مستودع النطف»).
4-تدفق المني و قوة الدفع الذاتية للحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).
5-انتزاع الحيوان المنوي من المني،و إخراجه منه في رفق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
6-شدة كثافة الحيوان المنوي.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
7-اللون الأبيض للمني(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الماء و المني»).
8-مظهر و وظيفة السمكة الطويلة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «النطفة»).
9-الخروج من زحام و كثرة عدد الحيوانات المنوية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
10-عبور مضيق الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
11-السير السريع.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«النطفة»).
12-وظيفة التلقيح.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).
13-احتواء الحيوان المنوي على صبغيات.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اختلاط عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
14-تقدير النطفة لبنية الإنسان.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
ص: 238
15-الحيوان المنوي أصغر من البويضة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).
16-سبب إذكار و إيناث الجنين.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
1-خلق البويضة الملقحة من النطفة الأنثوية و الذكرية.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«نطفة الأمشاج»).
2-تلقيح البويضة خارج مكان الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب»).
3-اضطراب صبغيات النطفة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اضطراب عروق النطفة»).
4-تداخل صبغيات البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «اختلاط عروق النطفة»).
5-إحضار الشبه و النسب من البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اضطراب عروق النطفة»و مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).
6-انفلاق البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»و مبحث«جمع خلايا الجنين»).
7-خاصية الانسياب.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«اختلاط عروق النطفة»).
8-خروج البويضة الملقحة من مضيق.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «النطفة»).
9-وقوع البويضة الملقحة في الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «وقوع النطفة في الرحم»).
10-استضافة البويضة الملقحة،و حماية نموّها.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«القرار المكين»).
11-انغراس البويضة الملقحة في الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «الحرث»).
ص: 239
12-إجهاض البويضة الملقحة.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث«الإجهاض المبكر»).
13-غيض البويضة الملقحة في الرحم.(لمزيد من التفاصيل راجع مبحث «غيض النطفة في الرحم»).
من المدهش حقا أن تحتوي الآيات الكريمة،و الأحاديث الشريفة على معان كثيرة تصف لنا نطف المرأة و الرجل بشكل دقيق و كأننا ننظر إليها!!!.إن هذه الآيات لا بد أن تكون أنزلت من لدن رب العالمين،و لا يمكن أن يكون المخبر بها و هو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلا نبيا صادقا يوحى إليه من اللّه تعالى.
ص: 240
*عن مالك بن الحويرث أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]»[رواه الطبراني ح 21].
*قال صلى اللّه عليه و آله و سلم:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ؟قال:شكّلك»[أخرجه الطبراني ح 63].
تقع فترة جمع خلايا الجنين في فترة مرحلة الغيض،و لكننا وضعنا شرحها في نص منفصل نظرا لأهمية الحدث و قوة الإعجاز.
تحدثنا في النص السابق عن المرحلة التي يتكلم عنها هذا الحديث،و بيّنا أنها مرحلة غيض النطفة في ظاهر بطانة الرحم،و بيّنا أيضا أن عملية الاستقرار التي ترافق هذه المرحلة تخص نطفة الأمشاج أو ما يسمى(بالكرة الجرثومية BLASTOCYT ).
و كما ينص الحديث رقم 21 هناك عملية جمع تحصل خلال هذه المرحلة.
جاء في مقاييس اللغة:«جمع:الجيم و الميم و العين أصل واحد،يدلّ على تضامّ الشّيء» (1).
فإذا كانت النطفة هي المعنية-كما نلاحظ من خلال الحديث رقم 63-و قد أتت في صيغة المفرد،فكيف يحصل لها عملية جمع إذا؟و الحاصل أن عملية الجمع تستوجب عدة أفراد ليحصل فعل الانضمام.
فالحاصل أن هذه النطفة-نطفة الأمشاج-انقسمت إلى عدة أجزاء من جراء الانفلاقات التي توالت عليها(كما رأينا سابقا في مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»)و أصبحت في نهاية الأمر-عند وقوعها و استقرارها في الرحم-كتلة من الخلايا:كتلة خلايا خارجية،و كتلة خلايا داخلية.(انظر الصورة رقم:63).
ص: 241
تلك الكتل تكون متصلة بعضها ببعض عند قطب من الأقطاب يسمى:القطب الجنيني(انظر الصورة رقم:64)و لكن ما تلبث أن تتمايز،فتنفصل كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في الجزء الوسط منها،و ينشأ فيما بينها فراغ يسمى (بالفراغ الأمنيوني AMNIOTIC CAVITY )(انظر الصورة رقم:65)،بيد أن أطراف تلك الكتل تظل متصلة بعضها مع بعض.(انظر الصورة رقم:66).عندئذ يطرأ على الخلايا الداخلية تغيّرات تؤدي إلى تشكلها على هيئة قرص مسطح دائري يسمى:
(القرص الجنيني EMBRIONIC DISC )،حيث إن هذا القرص يظل متصلا بالخلايا الخارجية عند أطرافه،و من ثم تنفصل تلك الأطراف عن كتلة الخلايا الخارجية فتنضم خلايا الجنين بعضها على بعض ضمن هذا القرص المحدد في اليوم الثالث عشر،و من ثم يبدو مستقلا تماما في اليوم الرابع عشر.(انظر الصورة رقم:67).
و هكذا يبتدئ جمع الجنين في اليوم السابع كما يشير إليه الحديث الشريف:
«...فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى...»[رواه الطبراني ح 21]،و ينتهي في اليوم الثالث إلى الرابع عشر.
ص: 242
ص: 243
ص: 244
قبل أن ننتقل إلى النص الآتي نود الإشارة إلى الإعجاز العلمي المستتر في هذا الحديث،و مضمونه:أن عملية الجمع تستوجب أن تكون أفراد العملية هذه متفرقة وفقا لما جاء في الحديث«...فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه...»،و هذا يشير بالتالي إلى الانفلاقات التي تحصل للنطفة قبل هذه المرحلة،و إلا لما حصل جمع للخلايا!!!.
و هكذا يكون الحديث إشارة إلى أن جسم الإنسان تكون من الخلايا.و هذا مفهوم في بالغ الأهمية،يعتبر من أساس العلم الحيوي الحديث،و قد اكتشفه العالمان شيلدن و شوان عام 1839 م كما سبق أن ذكرنا في مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»،أي بعد حوالي ألف و مائتي سنة تقريبا!!!.
ص: 245
بعد أن عرفنا أن النطف تأتي من الرجل و المرأة على حدّ سواء،و أنها تنصهر فتؤلف ما يسمى بنطفة الأمشاج،ننتقل إلى مراحل تخلّق الجنين في الرحم.
نشير هنا إلى أن اللّه سبحانه و تعالى وصف لنا تلك المراحل بآية-آية رقم 14 من سورة المؤمنون-و قد احتاج العلم لمدة 2400 سنة ليكتشفها(ابتداء من عهد اليونانيين-عهد استعمال المنطق-)إلى عهد قريب،و سنتناول كل مرحلة على حدها،مؤيدة بكلام اللّه-سبحانه و تعالى-المتعلق بهذه المرحلة و بأحاديث أخرى.
قال اللّه العليم الحكيم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ(14) [المؤمنون:12-14].
و قبل أن ننتقل إلى مرحلة«العلقة»-التي تلي مرحلة«غيض النطفة و استقرارها» السابقة-نود أن نشير إلى أننا استكملنا التعليق على المراحل التي سبقت مرحلة «العلقة»و التي وردت في الآية التي سبق ذكرها،و سنستعرضها الآن بشكل سريع حرصا منّا على أن لا نترك أي جزء من المقطع القرآني غير واضح أو مبهم.
*قال سبحانه و تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12].
راجع مبحث«بدء الخلق»للتعليق.
ما يضاف إلى التفسير السابق هو أن النطفة تتخلّق في جسم الإنسان،و بما أن أصل الإنسان من طين بالتالي فإن النطفة طينية الأصل.
*قال العليم الحكيم: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].
راجع مبحث«القرار المكين»للتعليق على هذه الآية.
ما يشار إليه هنا هو أن النطفة المعنية في هذه الآية هي نطفة الأمشاج التي سبق أن تحدثنا عنها في مبحث«نطفة الأمشاج».
و أن المراحل التي تأتي بعد مرحلة«نطفة الأمشاج»هي التالية:انفلاق النطفة، وقوع النطفة في الرحم،الحرث،غيض النطفة في الرحم و استقرارها،جمع خلايا الجنين.
ص: 246
*قال رسول اللّه-عليه أزكى الصلوات و أطيب التحيات-:«كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب،منه خلق و فيه يركّب»[أخرجه مسلم ح 35].
*و قال رسول اللّه-صلوات اللّه و سلامه عليه-:«يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه.قيل:و ما هو يا رسول اللّه؟قال:مثل حبّة الخردل منه تنبتون»[أخرجه أحمد ح 36].
*و قال رسول اللّه-عليه أفضل الصلاة و التسليم-:«ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا و هو عجب الذنب،و منه يركب الخلق يوم القيامة»[أخرجه البخاري ح 37].
*عن مالك بن الحويرث أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[أخرجه الطبراني ح 21].
هذه الفترة تمتد من اليوم الخامس عشر إلى اليوم التاسع عشر.
هذا الطور هو جزء من مرحلة العلقة لأن الجنين يتعلق في هذه الفترة بجدار الرحم بواسطة ساق،و لكن وضعناه في نص منفصل نظرا للتطورات المهمة التي يتميز بها.
انتهينا في مبحث«جمع خلايا الجنين»إلى القول بأن خلايا الجنين تجمع ضمن قرص جنيني محدد وفقا لما جاء في الحديث النبوي الشريف:«...فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى...»،أما الآن فسوف نتابع شرح الحديث و نفسر ما تبقى منه و هو:«ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[أخرجه الطبراني ح 21].
فإذا جمع الجنين أحضره اللّه تعالى.
عند ما تحضر شيئا ما فلا بد أن يكون غائبا.و هذا يعني أن الجنين كان قبل هذا الوقت في عالم الغيب.
ص: 247
كيف يكون هذا الإحضار؟و من أين؟.
العرق في المصطلح النبوي الشريف هو:الصبغيات في المصطلح العلمي كما أسلفنا ذكره،في مبحث«نطفة الأمشاج».(انظر أيضا مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»).و هذا يعني أن مصدر و منبع الإحضار هو المورثات.و كما نعلم فإن الصبغيات تحتوي على الشيفرة الجينية التي تقدر الجنين بإذن اللّه تعالى.و على هذا يكون الإحضار من العرق هو الترجمة لهذه الشيفرة من العالم الغيبي الجيني إلى العالم العملي حيث تطبق خطة العمل على الأرض و يبتدئ العمل بها من خلال تركيب الإنسان فعليا.و من الجدير بالذكر أن كل الصبغيات تشارك في عملية التركيب وفقا للفظ الحديث:«ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم ثم قرأ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[أخرجه الطبراني ح 21].
و كما تعني كلمة«عرق»(انظر مبحث«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»)،و كما يشير إليه الحديث السابق ذكره فإن الصبغيات هي مصدر للتخلّق بإذن اللّه.
فكتلة الخلايا الداخلية التي جمعت ضمن قرص جنيني تتميز خلاياها ابتداء من اليوم الخامس عشر إلى ثلاثة أنواع من الخلايا،و تسمى هذه العملية:(بداية تكوّن و تشكّل الجنين:غاستروليشون GASTRULATION ).
هذه الخلايا هي الخلايا التي سوف تنقسم فتتكاثر و تهاجر لتؤلف جميع أعضاء الجنين.
و هذه بداية تركيب الإنسان.لذلك ذكر الرسول-عليه الصلاة و السلام-الآية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]في كلامه عن عملية الإحضار.و فعلا فإن شكل القرص يبدأ بالتغير ابتداء من هذا الوقت فصاعدا و يتشكل ليأخذ في نهاية الأمر صورة جنين إنساني متميز.و اللافت للنظر أن علماء طب الأجنة يعتبرون عملية الغاستروليشون بداية تكوّن و تشكّل الجسد (1)موافقين ما ردّده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن المولى عزّ و جلّ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ .
و من الجدير بالذكر أن كلا الطرفين؛رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و علماء طب الأجنة، يتفقان على أن عملية الغاستروليشون هي بداية تخصص خلايا الجسد.ففي هذه العملية تتميّز خلايا الجنين إلى ثلاث طبقات (2)و كما سنفصله فيما بعد-إن شاء اللّه-،4.
ص: 248
و تستحضر خطة العمل من عالم الشيفرة الموجودة في العروق إلى عالم التركيب من خلال بناء خلايا تعكس محتوى هذه الشيفرة.
و نبدأ بحثنا الآن لرواية خلق الإنسان من عجب الذنب و التي تحمل في طيّاتها معان عجيبة؛فنشير إلى معنى«عجب الذنب»و إلى الحقائق العلمية التي تكشفها هذه الأحاديث الشريفة.
عجب الذنب له عدة معان منها:
1-أصل الذنب.
2-العظم الذي في أسفل الذنب.
3-ما استدق من الذنب.
جاء في لسان العرب (1):«عجب...و العجب من كل دابة...و قيل هو أصل الذنب كله...العجب بالسكون:العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز...
و العجباء أيضا:التي دقّ أعلى مؤخّرها».
و يشهد لتلك المعاني الحديث:«مرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ببعير قد وسم في وجهه فقال:«لو أن أهل هذا البعير عزلوا النار عن هذه الدابة»فقلت:لأسمنّ في أبعد مكان من وجهها،قال:فوسمت في عجب الذّنب».[أخرجه أبو يعلى ح 91].
فأبعد نقطة عن وجه البعير هو مؤخرة ذنب البعير،حيث وسمه صاحبه.
إلى ذلك فإن الحديثين النبويين الشريفين التاليين يؤكدان المعاني التي أشرنا إليها أعلاه.هذان الحديثان هما:
*قال رسول اللّه-عليه أزكى الصلوات و أطيب التحيات-:«يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه.قيل:و ما هو يا رسول اللّه؟قال:مثل حبة الخردل منه تنبتون»[أخرجه أحمد ح 36].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا،و هو عجب الذنب،و منه يركب الخلق يوم القيامة»[أخرجه البخاري ح 37].
هذان الحديثان يكشفان لنا الآتي:
أولا:أن الإنسان له ذنب.(انظر إلى كلمة«ذنبه»في الحديث رقم 36).).
ص: 249
ثانيا:أن الإنسان خلق من هذا الذنب.(انظر إلى عبارة«منه يركب»في الحديث رقم 37)،و هذا يتوافق مع معنى عجب الذنب-أصل الذنب-.
ثالثا:أن موضع تخلق الجنين موجود في مؤخرة هذا الذنب.(انظر إلى عبارة «عجب ذنبه»في الحديث رقم 36).و هذا أيضا يتوافق مع معنى عجب الذنب- العظم الذي بأسفل الصلب-.
رابعا:أن هذا الموضع عظم.(انظر إلى عبارة«إلا عظما واحدا»في الحديث رقم 37).
خامسا:أن مؤخرة هذا الذنب صغيرة جدا.(انظر إلى عبارة«حبة الخردل»في الحديث رقم 36).و هذا أيضا يتوافق مع معنى عجب الذنب-ما استدق من الذنب-.
سادسا:إن أول ما يخلق في الإنسان هو مؤخّرة هذا الذنب،و بعد ذلك يتكون الإنسان منه،و جميع أعضائه و أنسجته.(انظر إلى عبارة«منه خلق»في الحديث رقم 35).
و تفصيلا:
تتمايز في اليوم السابع طبقة من خلايا(الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية INNER CELL MASS )مواجهة(لتجويف الكرة الجرثومية BLASTOCYT CAVITY ) عن الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية،و تسمى:(الهايبوبلاست HYPOBLAST ) (1).
و بعد هذا الحدث مباشرة يظهر تجويف يفصل الكتلة الداخلية عن الكتلة الخارجية للكرة الجرثومية في الوسط.عندئذ تطرأ تغيّرات على الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية،فتصبح عبارة عن قرص جنيني مؤلّف من طبقتين:
-طبقة خارجية:تسمى:(طبقة الإبيبلاست EPIBLAST )مواجهة للتجويف الذي يفصل الكتلة الداخلية عن الكتلة الخارجية للكرة الجرثومية.
-طبقة داخلية:تسمى:(طبقة الهايبوبلاست HYPOBLAST )مواجهة لتجويف الكرة الجرثومية.
و في بداية الأسبوع الثالث(أي في اليوم الخامس أو السادس عشر)يظهر الشريط الأولي كثخانة من الخلايا المنجلية(أو الهلالية)في مؤخرة الطبقة الخارجية2.
ص: 250
للقرص الجنيني،و تسمى عندئذ:(منطقة كولر KOLLER'S SICKLE ) (1)،و هي بمثابة الجسم البدائي للشريط الأولي(«عجب الذنب»كما سنأتي على ذكره لاحقا).
و تستطيل هذه المنطقة من جراء تكاثر و هجرة خلايا الطبقة الخارجية للقرص الجنيني إليها،فتؤلّف خطا مستقيما،جانباه اليمين و اليسار مدبّبان في وسط الطبقة الخارجية للقرص الجنيني،و يسمى هذا الخط:(الشريط الأولي PRIMITIVE STREAK )،و تكون نهايته مدبّبة أيضا،و تسمى:(العقدة الأولية PRIMITIVE NODE ).
و أثناء استطالة الشريط الأولى ينشأ فيه ميزاب مستطيل يسمى:(الميزاب الأولي PRIMITIVE GROOVE )من جراء دخول خلايا الشريط الأولي إلى داخل القرص الجنيني،و ينتهي هذا الميزاب بفجوة تطل على الداخل تسمى:(الفجوة الأولية PRIMITIVE PIT )تقع داخل العقدة الأولية.
فيتكون بذلك الشريط الأولي(«عجب الذنب»كما سنأتي على ذكره لاحقا)في (الجزء الخارجي المؤخري للقرص الجنيني CAUDAL END OF EMBRIONIC DISK ).
و عند ما يظهر الشريط الأولي يصبح من الممكن معرفة المحور الأمامي الخلفي للجنين،و نهايته الأمامية و الخلفية،و سطحه البطني و الظهري،و يمينه من يساره.
و تبدأ بعد نشأة الشريط الأولي بوقت قصير هجرة الخلايا من الخارج إلى الداخل (2)، و يتمايز القرص الجنيني إلى طبقات ثلاثة ستؤلّف جميع أعضاء الجنين.
و هكذا فإن تمايز الشريط الأولي يسبق تمايز القرص الجنيني إلى جنين،و في إيجاده لطبقات الجنين الثلاثة،أي بمعنى آخر يسبق تخلّق«عجب الذنب»تخلّق الجنين كما أشرنا إليه في النقطة السادسة السالفة الذكر.6.
ص: 251
و من جراء هجرة هذه الخلايا إلى الداخل تنمو طبقة ثالثة هي الطبقة المتوسطة تدعى:(طبقة الميزودرم MESODERM )التي سرعان ما تؤدي إلى نشوء(الطبقة الداخلية ENDODERM ) (1)(أو معظمها)(للكتلة الداخلية INNER CELL MASS ) (2).
بحيث تحل محل(طبقة الهايبوبلاست HYPOBLAST )السالفة الذكر من خلال(عملية إزاحة DISPLACEMENT ).(انظر الصورتين رقم:68-69).
ص: 252
و تهاجر الخلايا من الخارج إلى الداخل عبر الفجوة الأولية،و من ثم إلى عمق الطبقة المتوسطة من خلال ما يسمى(بالعمليات الظهرية NOTOCHORDAL PROCESSES )،فينشأ نفق يمتد طولا في الطبقة المتوسطة يسمى:(النفق الظهري NOTOCHORDAL CANAL )،فتطاول الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية على أثرها، و يكبر حجمها بحيث تأخذ شكلا كمثريا-أي شكلا إجاصيا-.و بعد عمليات اندماج و انطواء يتحول هذا النفق إلى ما يسمى(بالحبل الظهري NOTOCHORD )، الذي سيعطي فيما بعد الصلب.(انظر الصورة رقم:70).
ص: 253
و باختصار شديد فإن الشريط الأولي هو المصدر الأساسي لتطاول الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية و لإيجاد طبقاتها الثلاث (1)و لتميّز خلاياها. -
ص: 254
ص: 255
ص: 256
و بما أن«الطبقات الثلاث لهذه الخلايا-طبقة الأكتودرم (1)،طبقة الميزودرم، و طبقة الأندودرم-تؤدي إلى تخلق جميع الأغشية و أعضاء الجنين» (2)فإن الشريط الأولي يكون بذلك السبب لتخلّق الجنين،و لذلك اعتبرته لجنة(وارنك WARNOCK )في البرلمان البريطاني بداية الحياة الإنسانية،و منعت بالتالي إجراء التجارب و تنمية الأجنة في المختبرات بعد اليوم الرابع عشر،أي:قبيل ظهوره.
يقول الدكتور كيث مور بهذا الصدد:«إن القسم الأكبر من نمو و استطالة الكرة الجرثومية هو من جراء هجرة الخلايا من خلال الشريط الأولي» (3)،و بما أن الشريط الأولي يقع في الجزء المؤخّري من الكرة الجرثومية يكون بذلك هذا الجزء-أي الجزء المؤخري-أساسا لتخلق الإنسان.
السؤال الذي نطرحه الآن هو:هل هذا الجزء المؤخري الذي تخلق منه الإنسان هو ذنب أم لا؟.
إن الصورة التي تلي(انظر الصورة رقم:72)و التي تمثل تطور الجنين تجيب عن تساؤلاتنا،فهذه الأخيرة تظهر لنا كيف أن الجزء المؤخّري ينطوي ليؤلف ذنبا.5.
ص: 257
ص: 258
أما الصورة التي تليها فهي صورة طبيعية لهذا الذنب.(انظر الصورة رقم:
73).
أخيرا بقي علينا أن نحدد الموضع من هذا الذنب الذي تخلق منه الجنين:يقول لنا الدكتور كيث مور عن هذا الموضوع (1):«إن الشريط الأولي سرعان ما يتقلص حجما و يصبح عضوا لا يذكر في المنطقة العجزية(أي في مؤخرة الحبل الظهري)».
و كثير من المراجع الطبيّة تقول إن الشريط الأولي يختفي.و بما أن الشريط الأولي- كما رأينا-هو السبب لتخلّق الإنسان فإن مؤخرة الحبل الظهري تكون بذلك الجزء المؤخري من الذنب الذي كنا نبحث عنه و الذي يتخلق منه الإنسان.
إضافة إلى تقلص عجب الذنب فإن الذنب نفسه يتقلص بدوره في الأسبوع السابع أو الثامن.و عن عملية التقلص هذه يقول لنا الدكتور لارس هامبرغر (2):
«و لكن يبقى لنا عدة فقرات ذنب مقلصة حتى بعد ولادتنا».
و المنطقة العجزية هي منطقة عظمية.و بما أن الشريط الأولي جزء من المنطقة العجزية فبالتالي هو عظم كما يشير إليه الحديث الشريف«ليس من الإنسان شيء إلا8.
ص: 259
يبلى إلا عظما واحدا و هو عجب الذنب،و منه يركب الخلق يوم القيامة»[أخرجه البخاري ح 37].
أما بالنسبة إلى جزء الحديث:«ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا...عجب الذنب...»[أخرجه البخاري ح 37]فهو يشير إلى أن جميع جسم الإنسان يتحلّل إلاّ عجب الذنب،أي باستثناء الشريط الأولى الذي تكلمنا عنه،فهو يقاوم جميع عوامل التحلّل إلى يوم القيامة ليعاد تركيب الإنسان منه.و لا عجب:أ ليس اللّه تعالى أعلم بما تأكل الأرض منّا؟،يقول اللّه تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق:4].جاء في تفسير ابن كثير:«أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك،و لا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان و أين ذهبت و إلى أين صارت»،«و عندنا كتاب حفيظ»أي حافظ لذلك،فالعلم شامل و الكتاب أيضا فيه كل الأشياء مضبوطة.
قال العوفي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ :أي ما تأكل من لحومهم و أبشارهم و عظامهم و أشعارهم.كذا قال مجاهد و قتادة و الضحاك و غيرهم...» (1).
فإذا كان اللّه سبحانه و تعالى يعلم ما تأكل الأرض منّا،فهو يعلم أيضا ما لا تأكل الأرض منّا.
و لقد قام العالم الألماني(سبيمان)عام 1931 م بسحق(المنظم الأولي PRIMARY ORGANIZER:DORSAL LIP )و زرعه في جنين،فلم يؤثر السحق عليه،حيث نما الشريط الأولي مرة أخرى،و كوّن صفيحة عصبية رغم سحقه،و لم تتأثر خلاياه بالسحق.
و في عام 1933 م قام هذا العالم-و علماء آخرون-بغلي المنظم الأولي، و زرعه بعد غليه،فشاهدوا أن عملية(الحثّ INDUCTION )لدى المنظّم الأولي ما زالت تعمل بعد غليه،و لم تتأثر خلاياه بالغليان(و لمزيد من التفاصيل فليراجع كتاب علم الأجنة الإنساني،ص 197).
و أخيرا في رمضان 1424 ه-قام د.عثمان جيلان علي معجمي من جامعة الإيمان في صنعاء-اليمن-بالتعاون مع الشيخ عبد المجيد الزنداني-رئيس جامعة الإيمان-بتجربة على العصعص في منزل الشيخ عبد المجيد الزنداني في صنعاء تحت تصوير تلفزيوني،حيث قام بأخذ إحدى فقرتين لخمسة عصاعص للأغنام،).
ص: 260
و قام بإحراقها بمسدس غاز فوق أحجار و لمدة عشر دقائق،و تأكد من إحراقها التام بحيث أصبحت حمراء،و بعد ذلك سوداء متفحمة،فوضع القطع في علب معقمة و أعطاها لأشهر مختبر في صنعاء(مختبر العولقي)،و قام الدكتور صالح العولقي -أستاذ علم الأنسجة و الأمراض في جامعة صنعاء-بفحصها نسيجيا،و كانت النتيجة مبهرة؛حيث وجد خلايا عظمة العصعص لم تتأثر،و ما زالت حيّة و كأنها لم تحرق(فقط احترقت العضلات و الأنسجة الدهنية و خلايا نخاع العظم المصنعة للدم، أما خلايا عظمة العصعص فلم تتأثر)!!!فجزى اللّه هذا الأخ الكريم خير الجزاء على سعيه وراء الحقيقة،و إثباتها من مصادر مختلفة،و من خلال إجراء تجربة علمية رصينة،غير أن رأي المؤلف في هذا الموضوع أن هذه المجموعة من الأدلة جيّدة و لا بأس بها،و لكنها ليست قاطعة لأنها محدودة في كميّتها و نوعيّتها و نتائجها،و لا بد من مزيد من التدقيق و الأبحاث و الاختبارات المضبوطة لكي نجزم من الناحية العلمية بهذا الأمر،سواء أكتب اللّه تعالى لنا القطع في هذه المسألة أم لا.فهو يضرب لنا الأمثال لكي تستوعبها الأذهان البشرية كما في قوله تعالى: وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:25].
و لمزيد من المعلومات فليراجع البحث الذي قدّمه د.عثمان جيلان علي معجمي في المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن و السنة،22-24 مارس 2004،دبي الإمارات العربية المتحدة.
و تعليقا على جزء الحديث:«عجب الذنب،و منه يركب الخلق يوم القيامة» [أخرجه البخاري ح 37]نقول:إن كثيرا من الناس يستبعدون إعادة تركيب جسم الإنسان بعد ما يتحلّل و يتفكك يوم القيامة،لذلك أنزل اللّه تعالى الآية: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3) [ق:
2-3]بيد أن اللّه تعالى أكّد في محكم آياته أن إعادة الخلق أهون عليه من الخلق الأول حسبما جاء في الآية: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27].ورد في تفسير ابن كثير:
«قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس:يعني أيسر عليه،و قال مجاهد:الإعادة أهون عليه من البداءة،و البداءة عليه هينة،و كذا قال عكرمة و غيره.و روى البخاري:حدثنا أبو اليمان،أخبرنا شعيب،أخبرنا أبو الزناد،عن الأعرج،عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يقول اللّه تعالى:كذبني ابن آدم و لم يكن له ذلك،و شتمني و لم يكن له ذلك،فأما تكذيبه إياي فقوله:لن يعيدني كما بدأني،و ليس أول الخلق
ص: 261
بأهون علي من إعادته،و أما شتمه إياي فقوله:اتخذ اللّه ولدا،و أنا الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد»[أخرجه البخاري ح 106]]» (1).
و مع العلم أن اللّه تعالى على كلّ شيء قدير،فسوف نحاول أن نوضّح للقارئ أن إعادة الخلق ممكنة علميّا،فاللّه تعالى يضرب لنا الأمثال في الحياة الدنيا كما في قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ [الرعد:17].و لذلك نستطيع أن نقرّب لذهن القارئ أن إعادة الخلق ممكنة علميا على سبيل الاستئناس لا الجزم،و ذلك أن معايير يوم القيامة تختلف عن معايير الحياة الدنيا،و بالتالي لا مجال للقطع في البراهين.
-أولا:أثبت العلم الكوني في هذا العصر أن من الشريط الأولي-أي من عجب الذنب-تخرج(الخلايا الجذعية الأم STEM CELLS ).و الخلايا الأم هي خلايا(متعددة الفعالية PLURIPOTENT )،أي أنها تستطيع أن تكوّن جميع أنواع الخلايا الموجودة داخل الجسم ما عدا خلايا المشيمة و الأنسجة الدعامية الأخرى، فمن هذه الخلايا تنشأ خلايا(الطبقات الرئيسية الثلاثة:الخارجية و الوسطى و الداخلية ECTODERM,MESODERM,ENDODERM )التي يتخلق منها الإنسان.و عند ما يضمر الشريط الأولي و يصبح عضوا لا يذكر في(المنطقة العجزية SACROCOCCYGEAL REGION )يبقي على بقايا للخلايا الأم في هذه المنطقة.
و الدليل على ذلك هو أنه في بعض الحالات يحدث للقليل من الأجنة ورم في المنطقة العجزية(العصعصية)يسمى:(الورم المتعدد الأنسجة( TERATOMA )الذي يحتوي على أنسجة مختلفة(عضلات،جلد،غضروف،عظم،و أحيانا أسنان) بالرغم من أنه ينشأ في منطقة عظمية لدى الجنين(أسفل الحوض)،و هذا بخلاف الأورام التي تنشأ في أي نسيج آخر،فهذه تنشأ من خلايا هذا النسيج،و تحمل نفس الطابع.فعلى سبيل المثال:يتكون في العضلات ورم عضلي،و في العظام ورم عظمي،و في الغدد الليمفاوية ورم الغدد الليمفاوية.
و ليس ذلك فقط،فإن الورم الذي ينشأ يوجد فيه خلايا منحدرة من الطبقات الثلاثة التي تؤلّف الجنين (2):الأكتودرم و الميزودرم و الأندودرم،و بالتالي فإن هذا الورم يشبه الجنين من حيث أنه يحتوي على الطبقات الخلوية الثلاثة.
و في حالات كثيرة يشاهد عضو كامل يبرز من هذا الورم،مثل يد بأظافرها8.
ص: 262
و أصابعها،أو رجل بقدمها و أصابعها و أظافرها،و هذا الورم يكون جنينا ممسوخا، و ذلك لأن الشريط الأولي أدى إلى تخلّق الطبقات الجنينية الثلاثة،التي أدت بدورها إلى بروز بعض الأعضاء كالقدم و اليد،و بقيت الأعضاء الباقية قابعة داخل الورم بصور مختلفة،بحيث لو فتح جرّاح الورم بعد استئصاله فسيجد الأعضاء الباقية:مثل الأسنان و الأمعاء و العظام و الشعر و الغدد...(انظر الصورة رقم:74).
جاء في كتاب«ملخص ممارسة الجراحة» (1):«من الأنواع غير المعتادة[من الأورام]الورم العجزي العصعصي،و الذي من الممكن أن نعتبره جنينا داخل جنين».
و بما أن عجب الذنب لا يبلى و أنه يحتوي على البعض من الخلايا الجذعية الأم،فبالتالي يعتبر الحافظ للمادة التي لها القابلية-بإذن اللّه-أن تكوّن إنسانا.2.
ص: 263
-ثانيا:أظهر علم الوراثة أن(الخلايا الجسدية SOMATIC CELLS )تحتوي على الخطة الجينية التي يتركب منها الإنسان (1)،و إذا علمنا أن عجب الذنب يحفظ هذه الخلايا من الزوال فهمنا أنه بمثابة الصندوق الأسود للطائرات الذي يحفظ الخطة الجينية للإنسان من الفناء.
و نفهم أن خلايا الذنب تقاوم الزوال إذا أدركنا أن:«منطقة العصعص هي مكان استقرار العقدة الأولية،و هي مجموعة من الخلايا ذات المقدرة الشاملة الكلية،و التي تحتفظ بمقدرتها الكلية أطول من أي خلايا في الجسم،و هي بذلك تحفظ البدأة البشرية أو الجنس البشري» (2).
-ثالثا:أثبت علم الوراثة في تجارب الاستنساخ أن البويضة التي تنتزع منها نواتها،و يبدل مكانها نواة خلية جسدية تستجيب للانقسام،فالتكاثر بواسطة تيار كهربائي.أي أنها تستجيب للانقسام تحت تأثير أسباب خارجية(بغض النظر عن طبيعتها) (3).
و من هنا نفهم منطقيا و علميا أنه من الممكن أن يتخلق الإنسان من عجب الذنب على سبيل الاستئناس للأسباب الثلاثة السالفة الذكر،و هي مرّة أخرى:
1-أن الخلايا التي في عجب الذنب محفوظة إلى يوم القيامة و لها القابلية على خلق جميع أنواع خلايا الجسم الإنساني،و بالتالي جسد إنساني كامل آنذاك.
2-أن الخطة الجينية التي توجّه الخلايا على التخلّق نحو الجنس الإنساني و التي تعطي لكل إنسان صفاته الفردية محفوظة إلى يوم القيامة و متوفّرة آنذاك.
3-أن الخلايا تستجيب للمحفّزات الخارجية،بحيث لو حدث برق يوم القيامة على سبيل المثال(أو أي محفّز آخر)يحتوي على تيّار كهربائي محدد(أو أي شيء آخر ينشّط الخلايا على التقاسم)لتكاثرت.
إن عجب الذنب يصبح كالبذرة في التراب بعد تحلّل الجسد.و حتى لو كان في قاع البحر،أو تحت طبقة أرضية ضخمة،أو تحت أي ظرف و مكان يخرجه اللّه تعالى إلى الطبقة الخارجية من الأرض بعد زلزال يحدثه عزّ و جلّ وفقا للآية: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها(1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها(2) [الزلزلة:1-2].».
ص: 264
إن خلايا هذا العجب التي فيها الخريطة الهندسية الخاصة بكل إنسان،و التي لها القابلية بإذن اللّه تعالى لخلق جميع أنواع خلايا الجسد الإنساني تقاوم العوامل الخارجية،كالبذرة في التراب التي تحفظ الخريطة الجينية للنبات من الاندثار و التي تؤدي إلى نشوء نبات جديد إذا أصابها الماء وفقا للآية: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]،لذا ينزل اللّه تعالى مطرا يوم القيامة يكون بمثابة محفّز و مغذ للخلايا التي في عجب الذّنب حتى تتكاثر (1)كما جاء في الحديث الشريف:«ثمّ ينزل اللّه من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقل»[أخرجه البخاري ح 37]،فتخرج جميع خلايا الإنسان الحيّة من عجب الذنب الميّت (2)مصداقا للآية: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم:19]،فينبت الإنسان و ينمو نموا نباتيا و ذلك كما في قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17]،فيتخلق الناس من الأرض بعد أن يكونوا قد مكثوا فيها إلى يوم البعث للنص القرآني: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه:55] (3).فإذا نبتت الأجساد أطلقت الأرواح،فجاءت و سكنت في هذه الأجساد و ذلك كما قال اللّه-جلّ و علا-: وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير:7].و يقول الكافر يوم ذاك: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].
و لما ذا يا ترى ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المطر لإحياء«عجب الذنب»و لم يذكر غيره؟ لا بد أن يكون من مسوّغ علمي لذكره-و إن جهلناه إلى الآن-،و سنحاول في النص التالي طرح نظرية علمية قد تكون أصوب من غيرها تلقي الضوء على هذا الجانب.
فالآية: وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11]و الحديث الشريف:«ثمّ ينزل اللّه من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقل»[أخرجه البخاري ح 37]يصرّحان أن عملية إعادة الحياة للإنسان يوم القيامة تتّبع نفس الطريقة التي تتّبع لإعادة الحياة لبذور النبات من خلال ذكر كلمة: كَذلِكَ تُخْرَجُونَ و كلمة:«فينبتون كما ينبت البقل»،أي بمعنى آخر:إن العمليات].
ص: 265
الكيميائية و البيولوجية التي تتّبع لإعادة الحياة«لعجب الذنب»هي نفسها التي تتّبع لإعادة الحياة لبذور النبات.و بما أن(الحمض النووي الرئيسي D.N.A )يشكّل أغلب المادة في تلك الأعضاء الصغيرة،و أهمها،و هو القاسم المشترك بين الصنفين،فهذا يعني أن التفاعلات التي تجري في تلك الأعضاء الصغيرة تخصّه،و هي نفسها في الغالب أينما وجدت.أضف إلى ذلك أن كلا من النصين الشرعيين ذكر«الماء»،مما يعني أن تلك العمليات تستمد أعضاء تفاعلها من الماء،فهل هناك من تفسير علمي للظروف التي اعتبرها الشرع ضرورية لنشأة الإنسان مرة أخرى،و هي توفر الماء «لعجب الذنب»؟.
من الكلام الذي سبق نفهم أن الموضوع يدور حول إعادة الفعالية«لعجب الذنب»،بحيث تعود الحركة لحمضه النووي الرئيسي الموجود في التربة،و ذلك بأمر إلهي.
و باختصار شديد إن الحمض النووي الرئيسي يحتوي على ذرات عديدة،و من بين هذه الذرات توجد ذرات معيّنة هي التي تساعد على تواصل الحياة و إدامتها، و هي ذرات(وصلة الهيدروجين HYDROGEN BONDS )،و ذرات الهيدروجين هذه تشكل باستمرار ارتباطات و اتحادات جديدة بين القواعد النايتروجينية الأربعة للصبغيات:(آدنين،غوانين،سايتوزين،و ثايمين, ADENINE,GUANINE, CYTOSINE,THYMINE )،فتساعد بذلك على نقل الحياة و إدامتها عند انقسام (حبلي الحمض النووي الرئيسي D.N.A DOUBLE STRANDS )،و إنتاجها لحبلين جديدين خلال عملية تكاثر الخلايا و اتحاد الحبال الجديدة مع الحبال القديمة، و ذرات الهيدروجين هذه لا يمكن أن تقوم بالتبادل إلا مع ذرات الهيدروجين التي تظهر عند تأيّن الماء و تحلّله إلى ذرات الأوكسيجين و الهيدروجين.
و جاء في موسوعة الإعجاز العلمي أن هذه القاعدة تسري على الأحياء جميعا بدون استثناء.فإذا بقي أي حي من الأحياء دون ماء فإنه يحتفظ بالحمض النووي الرئيسي و بشيفراته الرئيسية،و لكن هذه الجزيئات و هذه الشيفرات تكون بشكل متجرّد و متصلّب،فلا تستطيع أن تنمو و لا تستطيع أن تتحرّك.
فإذا توفر الماء،و أعطى الماء ذرات الهيدروجين عند تأيّنه،بدأت الشيفرة الحيّة بالحركة (1).ف.
ص: 266
و يلاحظ سريان هذا القانون على الجراثيم خاصة بكل سهولة.أما في الأحياء النامية و المعقّدة التركيب،فإن فقدان الماء لمدّة طويلة يسبّب ضمورا في الأنسجة و خرابا فيها.لذا فإن توفّر الماء بعد ذلك لا يمكّن عودة الحياة إلى تلك الأعضاء، فيستمر موتها.أما بالنسبة«لعجب الذنب»فالأمر مختلف،حيث إن«عجب الذنب» يحتفظ«بالخلايا الجذعية الأم»سليمة لوقت جدّ طويل،فإذا هطل عليه المطر عاد النشاط إليه بإحياء الروابط الهيدروجينية التي تمكّنه من الانقسام،و التكاثر،و تركيب جسد الإنسان،و كل ذلك بقدرة و إذن اللّه،و يحتاج الموضوع إلى مزيد من التدقيق و البحث.
و إذا كان الإنسان يتحدّث أنه بإمكانه أن يستنسخ إنسانا يوما ما،أ يعجز اللّه تعالى عن إعادة الخلق،و هو فوق الجميع؟،سبحانه و تعالى عمّا يصفون.
و من الشرح السابق تتضح لنا هذه الحقائق العلمية الباهرة و التي لم يكن ليعرفها رجل أميّ نشأ في بيئة أمية-صلوات اللّه و سلامه عليه-إلا بوحي من الذي وضع أسس تخلق الجنين من عجب ذنبه،فسبحان من أحاط علمه بكل شيء و إليه ترجع الأمور!!!.
و في النهاية نشير إلى أنه من جراء انطمار النطفة داخل بطانة الرحم،و اتحاد كتلتها الداخلية ببطانة الرّحم،و نمو الكتلة الداخلية و الحبل الظهري في اليوم الخامس عشر إلى السادس عشر،تخرج النطفة بشكلها و تركيبها عن كونها نطفة،و تصبح كتلتها الداخلية هي الجزء الرئيسي الذي سيتألف منه الجنين.هذه الكتلة تكتسب شكلا مستطيلا،و تلتصق بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة(تصبح فيما بعد الحبل السري)،مهيئة نفسها لأن تصبح علقة(أي شيء يعلق)كما تنص عليه الآية التي سنأتي على شرحها في النص المقبل-إن شاء اللّه-.
و رغم أن عملية تخلق و تقلص الذّنب هذه تقع خارج نطاق مرحلة تشكّل الذنب فقد وضعنا شرحها هنا لكي تتضح الأمور للقارئ.
ص: 267
*قال العليم الحكيم: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8].
*قال رسول اللّه-عليه أزكى الصلوات و أطيب التحيات-:«كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب،منه خلق و فيه يركب»[أخرجه مسلم ح 35].
*عن مالك بن الحويرث أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[أخرجه الطبراني ح 21].
لقد تحدثنا في مبحث«ازدياد الأرحام و غيضها»أن الغيض و الازدياد قد يعود للأرحام أو للحمل،فإذا عادا للحمل انطبق المعنى الثاني لفعل«غاض»؛«دخل في»،و أصبح معنى الآية على هذا النحو:اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تبلع الأرحام من حمل و ما تزداد منه.
و بعد:تتكلم الآية: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ(8) [الرعد:8]عن الحمل على وجه العموم؛فاللّه سبحانه و تعالى: يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى... ،و من ثمّ تصف لنا الآية الصورة التي يمرّ بها الحمل و هو في الرحم،فهي صورة ديناميكية؛يكون الحمل فيها في مرحلة غيض في بادئ أمره،حيث ينغرس الجنين في بطانة الرحم و يختفي كليا،و من ثمّ يصبح في مرحلة ازدياد.
و مرحلة الازدياد هذه تتحقق عند ما يزداد الجنين حجما،و وزنا،و مادة.و هذا الازدياد يبدأ عند ما تنتهي مرحلة جمع خلايا الجنين،و عند ما يبدأ تطبيق خطة البناء على الواقع،كما يحدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قائلا:(...ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ).و كلمة«ركبك»لها دلالتها في هذا الوقت حيث إنها تشير إلى أن عملية تركيب جسد الجنين قد بدأ،و هذه زيادة مادية.
و الحاصل أن(عجب الذنب PRIMITIVE STREAK )ينشط في هذه المرحلة، كما يشير إليه الحديث«كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب،منه خلق و فيه
ص: 268
يركب»[أخرجه مسلم ح 35]بحيث تهاجر الخلايا من الطبقة الخارجية للقرص الجنيني إلى داخله و تتكاثر،و يكون ذلك في مرحلة«العلقة»كما سنراه في المباحث الآتية بعد،فتنشأ(طبقة الخلايا الوسطى LATERAL MESODERM )،و يتطاول القرص الجنيني.و من ثمّ تبدأ أعضاء الجنين بالتخلق و الظهور و لو على صورة براعم، و لذلك أورد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث الشريف:«كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب،منه خلق و فيه يركب»لفظ«خلق»،و لذلك جاء في الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً(14) [المؤمنون:12-14]فعل«خلقنا»في مرحلة العلقة،بعد فعل«جعلنا»في مرحلة النطفة.
فهذه المرحلة-مع مرحلة«المضغة»-معروفة في طب الأجنة بأنها مرحلة(تخلق الأعضاء ORGANOGENESIS )،و من ثمّ يليهما مرحلة النشأة حيث يزداد الجنين وزنا زيادة ملحوظة و تتراكم فيه المواد الدهنية بكثرة إلى أن يخرج من رحم أمه.و هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:
14].و وجه الإعجاز لا يتمثل بالإشارة إلى أن هناك مرحلة ازدياد،فكلنا يعلم أن رحم المرأة الحامل يزداد يوما بعد يوم و ذلك ظاهر للعيان،و لكن الإعجاز يتمثل بتحديد أن مرحلة الازدياد تأتي مباشرة بعد مرحلة غيض النطفة في الرحم،و هذا من أنباء الغيب في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لأن الجنين يكون داخل بطانة الرحم و لا يزيد حجمه عند انتهاء مرحلة الغيض عن 8,0 ملم،فاعتبروا يا أولي الأبصار!!!.
ص: 269
*قال العليم الحكيم: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً... [المؤمنون:14].
تمتد هذه المرحلة من اليوم الرابع عشر إلى اليوم الرابع و العشرين (1).
ليس هناك لفظ أنسب من لفظ العلقة لوصف هذه المرحلة و هذا يعدّ إعجازا من إعجازات القرآن الكريم،فالمعاني التي تحويها كلمة علقة تنطبق كلها بإعجاز على مظهر الجنين و وظيفته و ما يطرأ عليه من تغييرات خلال هذه المرحلة.
هل هذا الذي نتكلم عنه صحيح؟ لنتابع معا معاني كلمة«علقة»و نرى مدى صحة هذا الادعاء من خلال استعراض الحقائق العلمية و ملاحظة مطابقتها على تلك المعاني.
و قد ورد عدة معان لكلمة«علقة»في اللغة العربية منها:
1-لفظ«علقة»مشتق من علق و هو الالتصاق و التعلق بشيء.
2-العلقة هي دودة تعيش في البرك و تتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها.
ص: 270
3-العلق:هو الدم الغليظ الجامد (1).
4-كلمة العلقة:تستعمل أيضا للإشارة إلى الدم الرطب (2).
5-كلمة علقة تشير إلى الحمرة الشديدة (3).
جاء في لسان العرب (4):«علق:علق بالشيء علقا و علقه:نشب فيه.قيل هو الدم الجامد الغليظ،و قيل الجامد قبل أن ييبس،و قيل هو ما اشتدت حمرته...
و العلقة دودة تعيش في الماء تمتص الدم».
تحدثنا في مبحث«جمع خلايا الجنين»عن أن كتلة الخلايا التي تتولد من انقسامات النطفة تتمايز إلى كتلتين:
(كتلة خلايا داخلية INNER CELL MASS )ستؤلف الجنين،و(كتلة خلايا خارجية TROPHOBLAST )ستؤلف المشيمة.تلك الكتل تكون متصلة بعضها ببعض عند قطب من الأقطاب يسمى:(القطب الجنيني EMBRYONIC POLE )بينما يفصل بينها من سائر الجهات ما عدا القطب الجنيني فراغ ممتلئ بسائل يدعى:(كيس المح الأولي EXOCOELOMIC CAVITY OR PRIMITIVE YOLK SAC ).
و لكن تلك الكتل ما تلبث أن تتمايز،فتنفصل كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في الجزء الوسط منها عند القطب الجنيني لتؤلف قرصا مسطحا دائريا يسمى:(القرص الجنيني EMBRIONIC DISC )،و ينشأ بين هذا القرص و كتلة الخلايا الخارجية من جراء هذا الانفصال فراغ يسمى:(الفراغ الأمنيوني AMNIOTIC CAVITY ).فيفصل عندئذ الفراغ الأمنيوني القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من جهة القطب الجنيني،بينما يفصل كيس المح الأولي القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من الجهة المعاكسة،و يظل القرص الجنيني متصلا بكتلة الخلايا الخارجية عند أطرافه(انظر الصورة رقم:75)،و يتولد في نفس الوقت(طبقة رخوة من النسيج من خلايا كيس المح EXTRAEMBRIONIC SOMATIC
ص: 271
MESODERM )،سرعان ما تحيط بالفراغ الأمنيوني و بكيس المح و بالقرص الجنيني عند أطرافه(انظر الصورة رقم:76)،و من ثمّ ينشأ في هذا النسيج عدة فراغات تتحد فيما بينها فتؤلف(فراغا كبيرا ممتلئا بسائل EXTRAEMBRIONIC COELOM )يحيط بكيس المح و القرص و الفراغ الأمنيوني(انظر الصورة رقم:77)،فيفصل الفراغ عندئذ القرص الجنيني من كل الجهات عن الكتلة الخارجية إلا في موضع واحد حيث يظل القرص متصلا بالطبقة الخارجية التي تصبح جزءا من الرحم بواسطة (الطبقة الرخوة من النسيج EXTRAEMBRIONIC SOMATIC MESODERM ) (1)(انظر الصورة رقم:78).هذه الطبقة تكون بمثابة ساق للقرص الجنيني تسمى:
(المعلاق CONNECTING STALK )و تصبح فيما بعد الحبل السري للجنين(انظر الصور رقم:79-80-81).و هكذا نرى كيف أن الجنين يتعلق بالرحم بواسطة ساق ليصبح كما تشير إليه الآية«علقة».7.
ص: 272
ص: 273
ص: 274
ص: 275
ص: 276
ص: 277
بعد أن تتمايز النطفة إلى كتلتين،كتلة داخلية و كتلة خارجية،تتحد الكتلة الخارجية ببطانة الرّحم و تخرج النطفة عن شكلها و طبيعتها،و تتهيأ لأخذ شكل جديد:هو شكل القرص الجنيني.هذا القرص يتخذ تدريجيا شكل علقة.
و الحاصل أن(الحبل الظهري NOTHOCORD )ينمو في الأسبوع الثالث فيستطيل الجنين و يتخذ نسبيا شكلا كمثريا،و في نفس الوقت تنمو(الطبقة المتوسطة MESODERM )فيتصلب الجنين،و يتضخم جزء(الطبقة الخارجية للجنين الممتد على جانبي محور الجنين NEURAL PLATE )بينما ينخفض الجزء المحوري ابتداء من اليوم الثامن عشر،فيظهر خط طولي في وسط الجنين،و من ثمّ تلتحم أطراف الطبقة الخارجية الواقعة على جانبي المحور في اليومين الثاني و الثالث و العشرين مكونة (ميزابا عصبيا NEURAL GROOVE ) (1)،و تتمايز(الطبقة المتوسطة التي تلامس هذا الميزاب PARAXIAL MESODERM )ابتداء من اليوم الواحد و العشرين،أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة،فتظهر بعض الشقوق فيها على أثر ذلك،و تنقسم إلى قطاعات مكوّنة على جانبي الميزاب العصبي بعض ما يسمى(بالفلقات البدنية SOMITES )،فنجد في نهاية الأمر أن الجنين قد اتخذ شكلا مستطيلا نسبيا و أن رأسه قد تضخم،و وسطه قد نحف،و ظهر خط طولي في وسطه،و بدأ شكله يتثلم قليلا مع اعوجاج صغير في شكله الكلي حتى إن مظهره الخارجي أصبح يشبه مظهر العلقة أي الدودة.(انظر الصورة رقم:82).
جاء في تفسير ابن كثير (2)في تفسير الآية:«فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة».
في هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة إذ تتغذي من دماء الكائنات الأخرى و يحاط الجنين بمائع مخاطي(السائل الأمنيوسي) تماما مثلما تحاط الدودة بالماء.(انظر الصورة رقم:83).
و هكذا يتشابه الجنين مع دودة العلقة من حيث المحيط و الوظيفة.
ص: 278
ص: 279
ص: 280
نفيد في هذا المضمار أنه يتخلق في هذه الفترة لدى الجنين قلب بدائي مملوء بالدماء و مجموعة أوردة دموية ضيقة على شكل جزر مغلقة تجعل الدم جامدا غير متحرك.(انظر الصورة رقم:84).
قد تكلمنا آنفا أن الدم يكون جامدا غير متحرك و هذا من حيث المظهر الخارجي،أما في الحقيقة فهو دم سائل(أي رطب)و لا يبدأ هذا الدم بالدوران حتى اليوم الثاني و العشرين(أي حين يصبح القلب البدائي قادرا على الضخ).(انظر الصورة رقم:84).
من جراء كثرة الأوردة يظهر الجنين شديد الحمرة.(انظر الصورة رقم:84).
و هكذا نرى أن المعاني الخمسة تنطبق بشكل رائع على وصف الجنين في هذه المرحلة مظهرة روائع الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
و في مجمل القول فإن اسم«العلقة»يعتبر وصفا دقيقا متكاملا لهذا الطور، فهذا الاسم يشتمل على وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة:لونها،شكلها، وظيفتها،محيطها،كما يشتمل على الأحداث الداخلية كتكوّن الدماء و الأوعية مقفلة،و هذا من إعجاز القرآن الكريم.
و من الجدير بالذكر في هذا المقام أنه لا يلزم أن يكون معنى الدم الجامد أو الرطب ينطبق بدقائقه على الجنين حتى يسمى هذا الأخير بالعلقة،فيكفي أن يغلب على الجنين الدم،و تظهر عليه أعراض الدم حتى يسمى:علقة،و هذا ما أشار إليه الألوسي (1)في قوله:« ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي دما جامدا و ذلك بإفاضة أعراض الدم عليها فتصيّرها دما بحسب الوصف»،و الطبري في كتابه جامع البيان في تفسير القرآن عند قوله تعالى: وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح:14] (2):«حدثني يونس،قال:
أخبرنا ابن وهب،قال:قال ابن زيد،في قوله:و قد خلقكم أطوارا قال:...ثم يغلب الدم على النطفة،فتكون علقة».
ص: 281
ص: 282
*قال عزّ و جلّ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6].
تتحدث الآية أعلاه عن موضوعين أساسيين هنا:الظلمات و التخلقات المتتالية.
الآية خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ تشير إلى أن الجنين يمر في أطوار كما تحدثنا في مبحث«تعريف الأطوار»،و لكن ما يضاف إلى هذا التفسير الآن هو أن هذه الأطوار يجب أن يكون لها طابع خاص أ لا و هو:التخلق.فالطور هو الهيئة التي تظهر على الجنين و التي تتميز ببعض التغيرات التي تحصل فيها.و هذه التغيرات قد تكون تخلقات و قد تكون أشياء أخرى:كزيادة وزن الجنين أو عملية تميّز للخلايا...
إلخ.و لكن ذكر الأطوار في هذه الآية بصيغة التخلق(بقول اللّه تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ بدلا من طور بعد طور)يشير إلى أن الظلمات المذكورة هي ضرورية لهذه التخلقات.
ترى ما هذه الظلمات؟و ما خصائصها؟و لما ذا ذكرت هنا؟.
لا بد أن نستأنس بآيات أخرى وردت في القرآن الكريم تتحدث عن الظلمات لكي تتضح لنا الصورة كليا.
قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
إذا تأملنا الآية أعلاه نستنتج أن هذه الظلمات يجب أن تكون واحدة فوق الأخرى(كما في لفظ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ )،بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الظلمات لا تنفي إمكانية وجود ضوء و ذلك لأن اللّه تعالى قال: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها و لم يقل إذا أخرج يده لم يرها.
إلى ذلك فإن آية سورة الزمر تحدد عدد الظلمات بثلاث ظلمات.
هذه الظلمات ما هي إلا أغطية تحيط بالجنين في أطواره التكوينية.فالغطاء بمثابة حجاب و الحجاب يؤدي إلى ظلمة،و ثلاثة أغطية تؤدي إلى ثلاث ظلمات.
ص: 283
تفصيلا:يبدأ الخلق عند ما تدخل النطفة الذكرية(الحيوان المنوي)النطفة الأنثوية(البويضة)،و كما رأينا،فإن خلايا تلك النطفة-نطفة الأمشاج-تنشطر إلى العديد من الخلايا،هذه الخلايا موجودة داخل غشاء يحيطها من كل الجهات(أ لا و هو غشاء البويضة)،و هذه البويضة موجودة داخل قناة ترتبط بالرحم-قناة فالوب-،و هذه القناة موجودة داخل البطن.(انظر الصورة رقم:85).و هكذا نرى أن هناك ثلاث ظلمات تحيط بالخلق:ظلمة البطن،و ظلمة القناة(قناة فالوب)، و ظلمة غشاء البويضة.
و من ثم تقع البويضة في الرحم،و أثناء وقوعها تتخلى البويضة عن هذا الغشاء و تدخل بطانة الرحم لتستبدل به فيما بعد الغشاء المشيمي.و هنا تتطابق المعطيات العلمية مرة أخرى مع المعطيات القرآنية و تصبح الظلمات الثلاث:ظلمة البطن، و ظلمة غشاء الرحم،و ظلمة الغشاء المشيمي.و تلك الظلمات كلها بعضها فوق بعض.(انظر الصورة رقم:86).
هذا على نطاق واسع،أما إذا أردنا أن ننظر بدقة أكثر،فسنرى أنّ الغشاء المشيمي مؤلف من ثلاث طبقات بعضها فوق بعض هي من الخارج إلى الداخل:
أ-(الغشاء الساقط DECIDUA ).
ب-(الغشاء الكوريوني CHORION ).
ج-(الغشاء الأمنيوسي AMNION ).
كما أن الرحم و قناته مؤلفان من ثلاث طبقات هي من الخارج إلى الداخل:
أولاها طبقة البريتون التي تغطي جسم الرحم،و ثانيها الطبقة العضلية للرحم،و ثالثها الطبقة المخاطية؛و هي الغشاء المبطن للرحم.(انظر الصورة رقم:86).
نشير هنا إلى أن اللّه سبحانه و تعالى قال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ،و لم يقل يخلقكم في أرحام أمهاتكم،دلالة على أن الظلمات غير محصورة في الرحم فقط،و لكن هي في الرحم و خارجه.
أما عن أهمية الظلمة للجنين:فإن الظلمة ضرورية لتخلق الجنين و ذلك لأن الضوء عامة يؤذيه.
فقد يتسبب الضوء في إتلاف شبكية العين قبل اكتمال نموها،كما أن الضوء قد يؤذي خلايا الجنين و قد يكون فتّاكا بالنسبة إلى البويضة.
ص: 284
ص: 285
ص: 286
فقد أظهرت الأبحاث (1)أن الضوء الفوق البنفسجي(32 إلى 400 نم)و أن الأشعة الكثيفة و القريبة من(الطول الموجي WAVELENGTH )القريب إلى الأحمر (أكبر من 750 نم)تؤذي الجنين.
كما أن الضوء الهالوجيني(المستعمل عادة)أيضا يؤذي البويضة (2).».
ص: 287
إن الضوء الوحيد الذي لا يؤذي الجنين هو الضوء الأخضر(ذات الطول الموجي ما بين 575-525 نم).
و كما نعلم فإن تخلق الجنين يعتمد على استنساخ الخلايا،فإذا تأذّت الخلايا الأولى تولدت الخلايا المنسوخة مع الأذى الذي لحق بالأولى.
نود الإشارة إلى أنه بما أن الضوء يؤذي الخلايا،فإذا خف استنساخ الخلايا المعطوبة من جراء الضوء(و التي ستؤلف الجنين)خف الضرر الذي يتولد من تأثير الضوء و اللّه تعالى أعلم.و هذا يعني أنه كلما تقدم الجنين في السن و تخطى مرحلة (تخلق الأعضاء ORGANOGENESIS )خفّ تأثير الضوء على الجنين.أضف إلى ذلك أن نشوء الجلد و تغطيته للجسم و الحجاب الذي يفرضه يخفف من أذى الضوء للجنين و هكذا يتجلى لنا لما ذا ربط اللّه تعالى الأطوار ذات الطابع التخلقي بالظلمة.
و كما أشرنا إليه في مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»فإن أول من نشر رسومات دقيقة عن الأغشية المحيطة بالجنين هو العالم(ليوناردو دافانشي LEONARDO DA VINCI )في القرن الخامس عشر الميلادي،أي بعد حوالي 1000 سنة من نزول القرآن الكريم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم!!!.فمن أوحى إلى رسول اللّه -عليه الصلاة و السلام-هذا الوصف الدقيق للأغشية التي تحيط بالجنين؟!،و من أوحى إليه أن الظلمة مهمّة جدّا لتخلّق الجنين؟!الجواب:اللّه رب العالمين.
ص: 288
*قال العليم الحكيم: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً... [المؤمنون:14].
*قال العليم الحكيم: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ...
[الحج:5].
*عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو الصادق المصدوق:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»[أخرجه مسلم ح 43].
*من دعاء الرسول الكريم-عليه و على آله أفضل الصلاة و التسليم-في سجوده:«سجد وجهي للذي فطره و صوّره و شقّ سمعه و بصره»[أخرجه مسلم ح 38].
تمتد مرحلة المضغة من اليوم الخامس و العشرين إلى اليوم الأربعين.
و معنى الشيء الصغير نستطيع أن نستنبطه من وزن الكلمة.جاء في تفسير زاد المسير (1):«و المضغة:لحمة صغيرة،قال ابن قتيبة:و سميت بذلك،لأنه بقدر ما يمضغ،كما قيل:غرفة لقدر ما يغرف».
رأينا في مرحلة العلقة بأن الجنين أصبح يشبه العلقة في مظهره من جراء تطاوله،و تثلمه،و ظهور بعض الفلقات فيه،و خط طولي في وسطه،و لكن سرعان ما يفقد هذا المظهر بعد أن ينحني رأسه و ذيله اتجاه بطنه في اليومين الرابع و الخامس و العشرين،و بعد أن ينطوي جانبا الجنين على نفسيهما،فيفقد الجنين مظهر العلقة.
و مما يساهم في ذلك أيضا،هو أن(الساق الموصلة CONNECTING STALK )التي كانت تميز الجنين على أنه علقة تتحول إلى حبل سري (2)؛فهذه الساق التي كانت تلتصق بالجنين و كيس المح عند ذيل الجنين،ما تلبث أن تهاجر و تلتحق بالمعي الأوسط الذي تخلق من جهة بطن الجنين،فتنتفي صورة الساق الموصلة، و يفقد الجنين بذلك آخر عامل يربطه بصورة«العلقة».و تفصيلا:من جراء انطواء جانبي الجنين على نفسيهما ما بين اليوم الثاني و العشرين إلى السادس و العشرين، ينزوي جزء من(كيس المح YOLK SAC )إلى داخل الجنين مؤلّفا(المعي الأوسط MIDGUT )،و في نفس الوقت تلتحق الساق الموصلة بالمعي الأوسط عند انحناء ذيل الجنين،و ما يلبث ما تبقى من كيس المح أن يلتحم بالساق الموصلة،و يلتف حولهما (غشاء السلي AMNION )مكونا ما يعرف بالحبل السري.
و بعد:تتكاثر الفلقات التي ذكرناها في مرحلة العلقة حتى يبلغ عددها في نهاية الأمر اثنتين إلى أربع و أربعين فلقة،يظهر بينها فراغات و أخاديد،و تكون بذلك أبرز علامات هذه الفترة.و تظهر أولى هذه الكتل من جهة الرأس،ثم يتوالى ظهورها تباعا من الرأس إلى مؤخرة الجنين وفق جدول زمني دقيق للغاية،حتى إنه يمكن معرفة عمر الجنين بمعرفة عدد الكتل البدنية كالتالي:
ص: 290
العمر بالأيام\عدد الكتل البدنية
20-21\1-3
22-23\4-12
24-25\13-20
26-27\21-29
28-30\30-35
31-35\36-42(أو 44)
أضف إلى ذلك،يظهر في الوقت نفسه،تحت قمة الرأس مباشرة،شقوق و ميازيب في طبقة الأكتودرم الخارجية،يقابلها نتوءات مماثلة من طبقة الأندودرم الداخلية،هذه الشقوق تؤلف(الأقواس البلعومية PHARYNGEAL ARCHES )لدى الإنسان،و تظهر للعيان و كأنها خمس فلقات بينها أخاديد (1).
و من جراء انحناءات الذيل و الرأس اتجاه البطن،و بروز مقدمة الرأس،و تكاثر الانتفاخات و الانحناءات التي تصاحب ظهور الكتل البدنية(انظر الصورة رقم:
87)،و وجود الأقواس البلعومية (انظر الصورة رقم:88)يكسب الجنين مظهر قطعة ممزقة لا شكل لها شبيهة بالمادة التي لاكتها الأسنان.جاء في تفسير ابن كثير (2)بصدد هذه الآية:«و هي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها و لا تخطيط»،أي لا شكل لها و لا تخطيط يدل على أنه جنين إنساني.).
ص: 291
و قال الألوسي (1):«قطعة لحم بقدر ما يمضغ،لا استبانة و لا تمايز فيها»،أي لا تمايز للملامح الإنسانية،و لا استبانة فيها لأي عضو من أعضاء الجسم الإنساني.
و ليست(الكتل البدنية SOMITES )وحدها السبب في تسمية هذه المرحلة بالمضغة،فهناك تفاصيل أخرى،و إن كانت دقيقة،تجعل تسمية المضغة ملائمة للجنين.فبالإضافة إلى الكتل الخارجية الظاهرة للعين،هناك أيضا كتل داخلية تعرف باسم:(القطع البدنية METAMERES )،يتكون بداخلها(أنابيب بدائية للكلى PRONEPHROS )،تظهر مع ظهور الكتل البدنية في جهة الرأس و العنق،و تمتد إلى (مؤخرة الجنين CAUDAL PORTION )،في خط مواز للكتل الخارجية(انظر الصورة رقم:89)،و كأن هذه الكتل تولدت تحت وطأة مضغ الأسنان للجهة الخارجية، فأصبح لدينا إلى جانب آثار الطبع الخارجية آثار طبع داخلية مرادفة لها،هذه الكتل، إلى جانب التفاصيل الأخرى التي ذكرناها سابقا،تجعل وصف المضغة دقيقا كل الدقة،بارعا كل البراعة في وصف تلك المرحلة (2).3.
ص: 292
و من الجدير بالذكر أن وصف اللّه-سبحانه و تعالى-للجنين بأنه مضغة في هذه الفترة يشير إلى أن الجنين في بالغ الطراوة.فالقطعة التي يلوكها الفم طريّة، و خصوصا بعد مضغها.و إذا ألقينا نظرة إلى المادة التي يتألف منها الجنين في فترة المضغة،نرى أنها مؤلفة من أنسجة تسمى:(أنسجة ميزانكيمية MESENCHYMAL TISSUES )،و هي كما يصفها لنا العلماء«أنسجة منتظمة برخاوة» (1)،و هذه الطراوة مهمة حتى ينطوي الجنين على نفسه في مختلف النواحي،كما رأينا سابقا في هذا المبحث،و هذا يشير إلى معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أن هذه الفترة تتطلب رخاوة لدى أنسجة الجنين حتى يستطيع أن يتشكل،و خصوصا أن النّصين القرآنيين: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37-38]و ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:13-14]يشيران إلى أن الجنين يستقيم في المرحلة التي تلي مرحلة المضغة من جراء تصلبه(مما يدل على أنه كان رخوا قبل ذلك) (2).».
ص: 293
يكون طول الجنين حوالي 1 سم في نهاية هذه المرحلة،و هو حجم صغير جدا كما يشير إليه معنى كلمة«مضغة».(انظر الصورة رقم:90).
Actual size 11.0 m m
و من الجدير بالذكر أن وزن كلمة«مضغة»يشير إلى شيء صغير كما يشير إليه وزن كلمة«سلالة»(التي تحدثنا عنها في مبحث«النطفة»)،غير أن وزن كلمة «مضغة»يقصد شيئا أكبر في حجمه مما يقصده وزن كلمة«سلالة».«فغرفة»من المياه التي هي على وزن كلمة«مضغة»أكبر من«النخالة»و«النشارة»التي هي على وزن«سلالة»،و بالفعل فإن حجم السلالة-سواء أ كانت السلالة الأنثوية أم السلالة الذكرية (1)-أصغر بكثير من المضغة.
و من العوارض التي تظهر عند الجنين في هذه الفترة و التي تجعل تسمية «المضغة»تنطبق عليه:
1-تبدو فلقات الجنين و كأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها-و ذلك للتغير السريع في شكل الجنين-و لكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة.فالجنين يتغير شكله الكلي،و لكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى...
و كما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث فيها تغضن و انتفاخات و تثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تماما.
2-تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة،و يشبه ذلك تغير وضع و شكل المادة حينما تلوكها الأسنان،فيدور الجنين و يتقلب في جوف الرحم كما تدور القطعة الممضوغة في جوف الفم.
ص: 294
و نشير هنا إلى أن معنى كلمة المضغة:صغار الأمور،بالإضافة إلى معنى كلمة النطفة:القطرة،و ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن عجب الذنب هو مثل«حبة الخردل»،يدل قطعا على أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم أن مجريات الأمور من تخلق الجنين و ما لحقه من انتشار العروق و انفلاق النطفة،و جمع الخلايا،و تخلق العلقة،و تخلق المضغة تتخذ حيزا من المكان لا يزيد حجمه عن واحد سنتيمتر في نهاية الأسبوع السادس من وقت التخصيب(أي في الأيام الأربعين الأولى من تخلق الجنين كما يشير إليه الحديث الشريف:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك...»[أخرجه مسلم ح 43])،و أنه صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم أن الجنين يكبر حجمه قليلا و إن ظل صغيرا كما يشير إليه اختلاف وزن كلمة«سلالة»و وزن كلمة«مضغة»،و هذا مما يزيد الإعجاز دقة!!!.
كما أشرنا إليه في مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»،فإن أول من تخيّل أن جسم الجنين له مظهر الفلقات هو العالم مارسيلو مالبيجي عام 1672 م عند ما نشر رسومات لجنين دجاجة تظهر الفلقات بوضوح تام،بيد أن القرآن الكريم أشار إلى ذلك قبل حوالي 1000 سنة.فمن أوحى إلى رسول اللّه-عليه الصلاة و السلام-هذا الوصف الدقيق الذي يشير إلى شكل المضغة؟!،و من أوحى إليه أيضا أن مظهر الجنين يتغير باستمرار كما يتغير مظهر المادة التي تلوكها الأسنان علما بأن هذه الظاهرة لم تكتشف و لم تصور إلا في القرن العشرين؟!.الجواب:اللّه رب العالمين.
هذا على صعيد الشكل الخارجي للجنين،فما ذا على الصعيد الداخلي؟.
إن الآيات التاليات: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37-38]و ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:13-14]تلقي الأضواء على هذا الأمر.فإذا قابلنا بين هذه الآيات لاحظنا النتائج التالية:
ص: 295
فمرحلة المضغة هي مرحلة تخلّق.قال ابن عاشور:«...و إذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق...» (1).
و الخلق في اللغة العربية يعني أن يحدث اللّه شيئا لم يكن موجودا من قبل، جاء في لسان العرب (2):«خلق:...(قال)ابن سيده:خلق اللّه الشيء يخلقه خلقا أحدثه بعد أن لم يكن...»،و تبعا لما سقناه فإن مرحلة المضغة تشهد ظهور أعضاء جديدة لم تكن موجودة من قبل،و الآية: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... [الحج:5]تصف تلك الأعضاء.ففي هذه الآية صفتان لازمتان للمضغة؛التخلق و عدم التخلق (3)،.-
ص: 296
ص: 297
قال ابن عاشور:«قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صفة مُضْغَةٍ ،و ذلك تطور من تطورات المضغة...و إذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق،تعيّن أن كلا الوصفين لازمان للمضغة» (1)،و هذه الصفات صفات خلق،و إذا أردنا أن نفهم معنى هذه الآية فلا بدّ لنا أن نشير إلى المعنى الثاني لكلمة«مخلّقة».جاء في لسان العرب (2):«خلق:...و رجل خليق بيّن الخلق تامّ الخلق معتدل»،و ورد في تفسير القرطبي:«قال ابن الأعرابي:مخلّقة قد بدأ خلقها و غير مخلّقة التي لم تصوّر بعد».
إذا كلمة«خلق»تأتي بمعنيين:الأول بمعنى إحداث الشيء من العدم،و الثاني بمعنى إتمام خلق الشيء(و بالتالي بإتمام صورة الشيء).
و هذا يعني أن المضغة المخلّقة و غير المخلّقة تعني مضغة تخلقت جزئيا، و لكن لم يكتمل تخلقها أو صورتها بعد.
فالمضغة تظهر للعيان كما قلنا على شكل فلقات،و لا تتمايز الفلقات في البداية،و لكنها سرعان ما تتمايز إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة،و بعض هذه الأعضاء تتكون في مرحلة المضغة،و البعض الآخر في مراحل لاحقة.
أما الأعضاء التي تتكون في هذه المرحلة فهي تظهر على شكل براعم و هي غير مكتملة بعد:فعلى سبيل المثال:يوجد القلب و الدماغ البدائي و الكبد،و لكن لا يكتمل نموها أثناء هذه الفترة،كما تظهر بداية الأيدي و الأرجل في الأسبوع الثالث أو الرابع،و تتطور تلك إلى أن تظهر و كأنها مبتورة،و من ثمّ تظهر الأصابع على شكل إشعاعات في الكف في نهاية مرحلة المضغة،إلى ذلك فإن الهيكل البدائي للعينين(الكأس البصري الناشئ من الحويصلة العينية)و الأذنين(الأذن الداخلية الناشئة من الحويصلة الأذنية)يتكوّن قبل نهاية الأسبوع السادس،و لكنّ كلا من العينين و الأذنين لا يتشكّل إلاّ لاحقا،فتلك الأعضاء تكون في صورة أولية من مراحل تخلقها و هي لا تعمل و لا تشبه أعضاء الإنسان في مرحلة المضغة.(انظر الصورة رقم:91).).
ص: 298
ص: 299
أما بالنسبة إلى الأعضاء التناسلية،فإن الجزء الأولي لها يتخلق،بيد أن الأعضاء نفسها في صورة أولية من مراحل تطورها.
هذا بالنسبة للأعضاء التي تكونت،أما بالنسبة للأعضاء التي لم تتكون فتتمايز خلاياها و إن لم تتشكل بعد.
يقول الدكتور كيث مور في هذا المجال واصفا حال العضلات (1):(إن طلائع العضلات كانت موجودة مع مكونات العظام و الأنسجة الأخرى في هيكل جماعي بدائي.كل هذا يتخلق خلال الأيام الأربعين الأولى و هي موجودة في فترة المضغة.
و لكن مكونات العضلات البدائية في هذه الفترة لا تكون قد تميزت إلى عضلات«نهائية»).
و قد فهم علماؤنا هذه الحقائق العلمية من خلال دلالات الألفاظ التي جاءت في الآيات القرآنية.قال ابن كثير (2):«قطعة من لحم لا شكل فيها و لا تخطيط،ثم يشرع في التشكيل و التخطيط؛فيصور منها رأس و يدان و صدر و بطن و فخذان و رجلان و سائر الأعضاء...».
و قال الألوسي (3):«و المشهور المتبادر أن المخلّقة المستبينة الخلق،أي:
مضغة مستبينة الخلق مصورة،و مضغة لم يستبن خلقها و صورتها بعد،و المراد تفصيل حال المضغة و كونها أوّلا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا».
و نود الإشارة إلى أن كل الأعضاء التي ذكرناها سابقا تبقى إلى نهاية مرحلة «المضغة»على صورة براعم،فيحتفظ الجنين عندئذ بالشكل الخارجي المشابه لمادة ممضوغة،و إن ظهرت فيه أعضاء جديدة،و ذلك لعدم وجود تخطيط واضح له، فيصدق عندئذ وصفه بأنه مخلّق و غير مخلّق.
و هكذا نفهم كيف أن الصفتين«مخلّقة»و«غير المخلّقة»لازمتان للمضغة، و كيف أنها تصف حالة أعضاء الجنين.
و من الجدير بالذكر أن تسمية هذه المرحلة بالمضغة المخلّقة و غير المخلّقة هي إعجاز علمي رائع.فإلى جانب أنها تشير إلى أن المضغة تخلقت جزئيا بصورة غير تامة،فإنها توحي إلينا أن المضغة تتطور تدريجيا،فالأعضاء تتخلق و لكن تحتاج إلى وقت أكثر ليكتمل تخلقها،فهي على مرحلة من التدرج في النمو.).
ص: 300
أضف إلى ذلك،فإن ذكر كلمة«مضغة»إلى جانب كلمة«مخلّقة»في الآية ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... [الحج:5]،يشير إلى حدوث أشياء في النمو كانت هي السبب في تغير الشكل الخارجي للجنين،فنمو الكتل البدنية سبّب تغيرات في شكل الجنين.
و قبل أن نختتم حديثنا عن المضغة،نسوق دليلا آخر على أن المراد من النصوص الشرعية التي ذكرناها آنفا،هو تخلق جميع أعضاء الجنين قبل نهاية فترة المضغة،أي:في الأيام الأربعين الأولى من تخصيب البويضة.
إن الحديث:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»[أخرجه مسلم ح 43]يشير إلى حادثة«جمع الخلق».
و الجمع كما مرّ معنا في مبحث«جمع خلايا الجنين»،يشير إلى تضام الشيء بعضه إلى بعض.جاء في مقاييس اللغة:«جمع:الجيم و الميم و العين أصل واحد، يدلّ على تضامّ الشّيء» (1).
و حرف الهاء لفعل«جمعه»،الذي ورد في الحديث:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ »[أخرجه الطبراني ح 21]،يعود للماء.و الجنين في هذه المرحلة ما يزال يشار إليه بالماء لأنه لم يتخلّق بعد،و هذا يعني أن الجنين يجمع بعد اليوم السابع.
و كما نعلم،فإن خلايا الجنين و خلايا المشيمة تؤلّف قبل هذا الوقت مجموعة واحدة،و من ثمّ ما تلبث أن تنفصل مجموعة الخلايا التي ستؤلف الجنين،عن مجموعة الخلايا التي ستؤلف المشيمة،و تجتمع ضمن قرص جنيني،فتنضم بعضها إلى بعض،و هذا هو«جمع الجنين».
و أما هنا فالذي يجمع هو«خلق أحدكم»،أي«خلق الجنين»،و ليس الجنين نفسه،و«خلق الجنين»هو سائر أعضاء الجنين التي ستتخلق كما تشير إليه الآيات:
أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37-38]،و ...فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ...
[الحج:5].).
ص: 301
و من الجدير بالذكر أن لفظ«خلق»هو لفظ عام وضع وضعا واحدا،و هو دال على كثيرين،يستغرق كل ما خلق اللّه (1)،و الدليل على ذلك ما ورد في كتاب اللّه:
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(10) هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)[لقمان:10-11]،فلفظ«خلق» شمل كل المخلوقات التي خلقها اللّه عزّ و جلّ من سماوات و أرض و دواب و نباتات،غير أن كلمة«هذا»قصرت العام إلى ما ذكرته الآية.قال ابن كثير (2)في تفسيره للآية:
«أي هذا الذي ذكره تعالى من خلق السموات و الأرض و ما بينهما صادر عن فعل اللّه و خلقه و تقديره...».و قياسا على الآية،فإن كلمة«خلق»التي جاءت في الحديث «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»[أخرجه مسلم ح 43]،تشمل كل ما خلقه اللّه تعالى مقرونا بالجنين،فهي تدل على جميع الأعضاء التي سوف تتخلق لدى الجنين.
و فعل«جمع»يعني:جمع الشيء عن تفرقة (3)،جاء في مختار الصحاح:باب الجيم:«ج م ع:جمع الشيء المتفرق فاجتمع» (4).و قال ابن حجر (5):«و المراد بالجمع ضم[الشيء]بعضه إلى بعض بعد الانتشار».
و من الحديث الذي سبق و من معنى كلمة«جمع»نفهم أن«جمع خلق الجنين» يشير إلى أن أعضاء الجنين في مراحلها الأولى كانت مفرّقة،و بالفعل،فبعد مرحلة «جمع خلايا الجنين»تشهد خلايا القرص الجنيني تكاثرا هائلا و سريعا في اتجاهات متفرقة كما رأينا في مبحث«الذّنب»،و من ثمّ تجتمع و تتمايز تلك الخلايا خلال فترة «العلقة»،و من ثمّ تهاجر و تجتمع ضمن أعضاء مختلفة في فترة«المضغة»و ما بعدها (6).
فكما أن الحديث:«...فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى...»يشير إلى».
ص: 302
زمن«جمع الجنين»-سبعة أيام و ما فوقها-،فإن الحديث:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»يشير إلى زمن«جمع أعضاء الجنين»-أربعين يوما و ما قبلها-.
و من الجدير بالذكر أن لفظ«يجمع»دليل آخر،يضاف إلى الدليل الأول- لفظ«جمعه»-،على أن خلايا الجنين تنفلق،و ليس هذا فحسب،بل هو دليل على أن الانفلاق الذي ابتدأ قبل فترة«جمع الجنين»،يستمر بعدها،لتعود خلايا الجنين لتنتظم وفق أعضاء محددة.
و كما رأينا سابقا فإن قالب الجنين يصب في مرحلة المضغة:فالأعضاء توجد و تتركب في هذه الفترة و إن لم يكتمل نموها بعد،مما حمل العلماء الكونيين أن يسمّوا تلك المرحلة بمرحلة(تكوين-أو خلق-الأعضاء ORGANOGENESIS ) و هذا موافق لما أعلنه رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن أحدكم يجمع خلقه...»منذ أربعة عشر قرنا،فاعتبروا يا أولي الأبصار!!!.
و تؤكد الأحاديث النبوية الشريفة مرّة أخرى على أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أوتي جوامع الكلم[أخرجه البخاري ح 13]؛ذلك أن تسمية هذه الفترة«بمرحلة جمع الخلق»أفضل من تسمية هذه الفترة«بمرحلة تكوين الأعضاء»؛حيث إن كلام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا المقام يشير ليس فقط إلى تكوين الأعضاء،بل إلى العملية التي يتم فيها تكوين الأعضاء من خلال جمع الخلايا.
إذا ما قارنا بين التسميتين:«مضغة مخلّقة و غير مخلّقة»و«تكوين الأعضاء»، نجد أيضا أن التسمية القرآنية تتفوق على تسمية العلماء لهذه المرحلة تفوقا كبيرا:
فالتسمية العلمية لا تشير سوى إلى العمليات الداخلية و الخارجية للجنين،حيث إن «تكوين الأعضاء»يشير إلى تخلّق أعضاء للجنين مع ما يصحبه من تشكل خارجي، أما التسمية القرآنية فهي تشير إلى حجم الجنين(صغير)،و مادته(أنسجة طرية)، و مظهره الخارجي(شكل قطعة لحم ممضوغة)،كما أنها تشير إلى تخلّق الأعضاء على صورة براعم أولية(مخلّقة و غير مخلّقة)على شيء من التدرج(حيث إن التخلّق يلي عدم التخلّق).
فسبحان من يبين لنا الآيات على ألسنة الناس و لو بعد حين!أ ليس هو القائل:
يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ... [الحج:5]؟.
ص: 303
من المشاهد التي تبهر العقول:تخلّق السمع و البصر،فهما ينشآن بطريقة غير مألوفة للبشر،و لا يمكن لأحد أن يتصور نشأتهما إلا إذا شاهدهما.
و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدعو و يقول في سجوده:«سجد وجهي للذي فطره و صوّره و شقّ سمعه و بصره»[أخرجه مسلم ح 38]فكان ذلك بمثابة إعجاز إخباري.
فهناك ثلاث عمليات أساسية في تاريخ تخلّق الأعين و الآذان:
*عملية تخلّق من خلال انفصال عضو عن عضو آخر و استخراجه منه.
*عملية تخلّق من خلال ظهور أخدود.
*عملية انفطار و انشقاق أغشية.
الفعل الجامع لتلك الأنواع المختلفة من التخلّق هو فعل«شقّ».
و المعنى الأول هو:أخذ الشيء من الشيء الآخر.
ورد في لسان العرب (1):«و اشتقاق الشيء بنيانه من المرتجل،و اشتقاق الكلام الأخذ فيه يمينا و شمالا،و اشتقاق الحرف من الحرف أخذه منه».
و يؤيد هذا المعنى الحديث التالي:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:قال اللّه-تبارك و تعالى-:أنا اللّه و أنا الرحمن،خلقت الرّحم و شققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته و من قطعها قطعته»[أخرجه الترمذي ح 39].جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (2):«(و شققت):أي أخرجت و أخذت اسما،(لها):أي للرحم،(من اسمي):أي الرحمن».
و جاء أيضا في تفسير القرطبي (3)للآية: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1]«أن سيدنا عليا-كرم اللّه وجهه-قال:تشق عن المجرة»،أي تنفصل عنها بعد أن كانتا جزءا واحدا.
و هذا المعنى الأول لفعل«شق».
أما المعنى الثاني فهو:الصدع.
ص: 304
قال ابن فارس:«شق:الشين و القاف أصل واحد صحيح،يدل على انصداع في الشيء» (1).
جاء في لسان العرب (2):«الشق مصدر قولك شققت العود شقا،و الشّق الصّدع البائن،و قيل:غير البائن،و قيل:هو الصدع عامة».
و ورد أيضا في تفسير القرطبي (3)للآية: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ [البروج:4] الأخدود هو:«الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق».
أما المعنى الثالث فهو:تمزيق الأغشية.
قال ابن فارس:«و قد انشق عصا القوم بعد التئامها:إذا تفرق أمرهم،ثم يقال لنصف الشيء:الشيء» (4).
جاء في لسان العرب:«مزق:شقّ الثياب و نحوها.مزقه يمزقه مزقا و مزّقه فانمزق تمزيقا و تمزّق:خرقه» (5).
و يؤيد هذا المعنى الحديث التالي:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس منا من شق الجيوب و ضرب الخدود و دعا بدعوة الجاهلية»[أخرجه الترمذي ح 40].جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6):«الجيوب جمع جيب بالجيم الموحدة و هو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس،و المراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره»أي تمزيق القماش.
و الذي يحدث في مجال تخلق الأذنين و العينين و ينطبق على تلك المعاني فهو كالتالي:
في مجال تخلق العينين:
يظهر أخدود صغير في بادئ الأمر يسمى:(الفجوة البصرية OPTIC SULCUS ) في الجزء الأمامي لكل من(طرفي الأنبوب العصبي NEURAL FOLDS )في اليوم الثاني و العشرين(أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة و بداية مرحلة المضغة).).
ص: 305
و من ثمّ يتّحد طرفا الأنبوب العصبي و يؤلفان(المخ الأمامي FOREBRAIN ) للجنين.في هذه الأثناء يتضخم الأخدودان الموجودان داخل هذين الطرفين و يؤلف كل منهما(ساقا بصرية مجوفة OPTIC STALK )تقترب كل منهما من سطح الجلد على جانبي مخ الجنين و من ثمّ تأخذ شكل حويصلة الإبصار على سطح الجلد، و حينئذ يتحدّب طرف هذه الساق المجوفة إلى الداخل فيتحول شكلها الحويصلي إلى تجويف يشبه تجويف الكوب يسمى:(الكأس البصرية OPTIC CUP ) (1).
في الوقت نفسه يتبع تحدّب طرف الساق إلى الداخل انطواء الجلد على نفسه ليؤلف(عدسة العين LENS VESICLE )التي تظل ملتصقة(بالجلد SURFACE ECTODERM )و من ثمّ تنفصل و تشتق تلك الفقاعة(العدسة)الناشئة من الجلد عنه و تغور داخل تجويف الكأس البصري.(انظر الصورة رقم:92).
بالإضافة إلى ذلك فإن طبقة من الميزودرم تغطي هذه العدسة و تسمى:
(المحفظة العدسية الوعائية PUPILLARY MENBRANE ).هذه المحفظة تنفطر و تشق مكونة فرجة تعرف باسم حدقة العين أو«البؤبؤ» (2).(انظر الصورة رقم:93).
كما أن الجفون التي تلتصق في الأسبوع العاشر تنفتق و تتشقق في الأسبوع السادس و العشرين.
في مجال تخلّق الأذنين:
الأذن مؤلفة من ثلاثة أجزاء:
-الأذن الداخلية.
-الأذن الوسطى.
-الأذن الخارجية.2.
ص: 306
ص: 307
الأذن الداخلية تتخلق بنفس الطريقة التي تتكون فيها عدسة العين،و لكن من (الجهة الخلفية للمخ HINDBRAIN )،فيظهر أخدود صغير يسمى:(الفجوة السمعية OTIC PIT )في(الطبقة الخارجية الأكتودرم ECTODERM )،و من ثمّ تنثني هذه الطبقة على نفسها و تشتق فقاعة من الجلد عنها و تهاجر إلى الداخل مؤلفة(الحويصلة السمعية OTIC VESICLE ).هذه الحويصلة تتطور لتؤلف فيما بعد ما يعرف(بالدهليز الغشائي MEMBRANOUS LABYRINTH )و(الدهليز العظمي BONY LABYRINTH ).(انظر الصورة رقم:94).
ص: 308
أما عظام الأذن الوسطى فهي تنشق و تنبثق من(غضروف القوس الأول FIRST ARCH CARTILAGE ) (1)(الذي يؤلف فيما بعد عظام الحنك)و(غضروف القوس الثاني SECOND ARCH CARTILAGE )،و تتكوّن بطريقة معقّدة.(انظر الصورة رقم:95).
أما الأذن الخارجية فتنشأ من جراء تكاثر خلايا طبقة الأكتودرم إلى الجهة الداخلية.فهذه الكتلة تؤلف طبقة صلبة تسمى:سدّادة الصماغ،و من ثمّ تتفتّت هذه السدّادة لتؤلف تجويفا شبيها بالشق يسمى:(قناة السمع الخارجية EXTERNAL ACCOUSTIC MEATUS ) (2).(انظر الصورة رقم:96).
و هكذا نرى كيف تنطبق معاني فعل شقّ على عمليات تخلق العين و الأذن:
فتارة تنطبق من خلال ظهور أخدود،و تارة من خلال شق عضو عن عضو آخر، و تارة من خلال تمزّق أغشية و فتقها ليتحقق في النهاية الإعجاز الغيبي للرسول الكريم -صلوات اللّه و سلامه عليه-.6.
ص: 309
ص: 310
ص: 311
*قال سبحانه و تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5].
جاء في مختار الصحاح:«و القرار في المكان الاستقرار فيه تقول:قررت بالمكان بالكسر،أقرّ قرارا،و قررت أيضا بالفتح،أقرّ قرارا...و أقرّه في مكانه فاستقرّ» (1).
و ورد في لسان العرب:«قرر...و صار الأمر إلى قراره و مستقرّه:تناهى و ثبت و أقرّت الناقة:ثبت حملها» (2).
إذن فمعنى وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ هو:و نثبت في الأرحام ما نشاء.
و نجد في قوله تعالى وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ... إعجازا علميا واضحا و هو أن اللّه سبحانه و تعالى ذكر مرحلة الإقرار بعد ذكر طور المضغة،مما يعني أن الإقرار يبدأ من نهاية فترة المضغة.
و قد يعترض بعض القرّاء على أن وظيفة الحرف«و»التي جاءت مع فعل«نقرّ» هي للعطف و ليست للترتيب (3)،و بالتالي فذكر الإقرار هنا لا يعني بالضرورة أن الإقرار يأتي بعد طور المضغة،و لكن ما يلاحظ هنا أن اللّه تعالى ذكر الإقرار بعد ذكر أطوار النطفة و العلقة و المضغة،و قبل ذكر مراحل الطفولة و الشيخوخة.و بالتالي وضع الإقرار في هذا المكان من الآية و ليس في سواه يدل على أن الإقرار يبدأ من هاهنا.
ص: 312
كذلك عدم ذكر ما تبقى من الأطوار الجنينية بعد طور المضغة(على عكس ما جاء في الآية: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14]هو دليل آخر على أن المقصود هو إظهار أن نهاية مآل الأطوار الجنينية السابقة هو الإقرار (بدءا من هذه النقطة فصاعدا)لأن تعديد الأطوار الجنينية انتهى عنده.
و مما يؤكد هذا الكلام هو أن اللّه تعالى ذكر في الآية رقم 5 من سورة الحج أنه يقرّ الحمل إلى أجل مسمى،و الأجل المسمى هو:القدر المعلوم الذي جاء في النص القرآني: أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ(21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)[المرسلات:20-22]،و هو الوقت الذي قدّره اللّه تعالى لنهاية الحمل- تسعة أشهر-،و بالتالي فهو يشمل ما تبقى من المراحل الجنينية.
و قد علّق اللّه سبحانه و تعالى الإقرار بمشيئته فمن شاء أن يثبّته في الرحم ثبته و أقرّه،و من لم يشأ أن يثبته لم يثبت.
و من المعلوم أن فترة المضغة تبدأ في الأسبوع الرابع من الحمل و تنتهي في الأسبوع السادس،أي بعد حوالي أربعين يوما من وقت إخصاب البويضة.
و هكذا نستنتج أن فترة تثبيت الحمل تبدأ من الأسبوع السادس فصاعدا.
و قد تبيّن أن العلم الحديث في هذا المجال قد وافق الآية الكريمة،و قد أوضح الدكتور ت-ف-ن-برسو أن النطفة خلال تخلّقها تمر بفترة تسمى:فترة(تخلّق الأعضاء ORGANOGENESIS )،و في هذه الفترة يكون الجنين حساسا للغاية لأن أي شيء يطرأ على الجنين قد يؤدي إلى تشوهات خلقية قد تكون مميتة للجنين،و نسبة الخطر هذه تكون في أعلى درجاتها خلال فترة تخلق العلقة إلى مضغة.فالعضو- كما قال-أكثر عرضة للتلف في وقت خروجه في فترة تخلق الأعضاء (1).فإذا مرت هذه الفترة-فترة جمع الخلق و هي أربعون يوما-فهناك استقرار بالغالب،و النسبة العالية للسقط يكون قد تم تجاوزها و قد قدرت هذه النسبة ب 2,3% في نهاية فترة المضغة،أي بعد حوالي أربعين يوما من الحمل (2).9.
ص: 313
و تفصيل ما قلناه:
علم(التيراتولوجي TERATOLOGY )يهتم بدراسة التشوهات و الأسباب التي تؤدي إلى هذه التشوهات،و هو بالتالي يرصد الفترات الخطيرة التي يمر بها الجنين.
و(التيراتوجن TERATOGEN )هو العامل الذي يسبب التشوهات الجنينية أو يزيد احتمال حدوث التشوهات في الخلقة على العموم.
و الخطر يكمن هنا من حساسية الجنين لهذه العوامل المؤذية التي قد تتلفه أو قد تؤدي إلى إسقاطه.
نود الإشارة إلى أن العوامل التيراتوجينية تنقسم إلى فئتين:
أ-فئة العوامل المؤذية الناشئة من البيئة.
ب-فئة العوامل المؤذية الناشئة من الاختلال الجيني.
و بحثنا يتعلق بالفئة الثانية،لأن الأولى قد تأتي في أي وقت من الأوقات و لا يملك الجنين المقدرة على ردّها.
إن حساسية الجنين لهذه العوامل تكون قليلة جدا في أول أسبوعين من التخلق (أي في فترة النطفة)،و لكن إذا تأثرت النطفة بهذه العوامل فهي تؤدي إلى إسقاطها في معظم الأوقات و نادرا ما تؤدي إلى تشوهات.
أما في فترة المضغة،فالحساسية تكون بأوجها و تأثير العوامل التيراتوجينية عالية جدا.فهذه الحساسية مرتبطة بمعدل انقسامات خلايا الأعضاء التي تتكوّن.
و لهذا فإن فترة المضغة-و هي فترة تخلق الأعضاء-فترة حرجة جدا،و قد يتعرض الجنين فيها لتشوهات خطيرة في كثير من الأوقات أو للإسقاط.
و أما في فترة التسوية (1)(و هي الفترة التي تلي فترة تخلق المضغة)،فحساسيته تظل عالية و غالبا ما تؤدي العوامل التيراتوجينية إلى تشوهات خطيرة لدى الجنين و في قليل من الأحوال إلى إسقاطه.
من الملاحظ أن السقط مرتبط في الغالب بكثرة بالاختلال الجيني،و قد قدّر (بوي 1975 BOUET )نسبة السقط من جراء الاختلال الجيني ب-61% بينما قدّرها(كار و جدعون 1977 CARR GEDEON )ب50%.
فالاختلال الجيني الشديد لا يسمح للجنين أن يتخلق و يعيق نموه،لذلك يحدث السقط في مرحلة المضغة و ليس في سواها.».
ص: 314
و من اللافت للنظر أن الاختلال الجيني كان معروفا لدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقد ذكر في دعاء له و هو يستعيذ باللّه من الأمراض و الأوجاع.
و هذا الدعاء هو:«بسم اللّه الكبير،أعوذ باللّه العظيم،من شر كل عرق نعّار، و من شرّ حر النار»[أخرجه الترمذي ح 70].
و«العرق»في المصطلح النبوي الشريف هو:الصبغي في المصطلح العلمي الجديد.
و كلمة«نعر»لها عدّة معان في اللغة العربية منها:
-الأذى.جاء في لسان العرب (1):«و نعر الفرس و الحمار ينعر نعرا،فهو نعر دخلت النعرة في أنفه».«و قال الأحمر:النعرة ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها».
-المخالفة.جاء في لسان العرب (2):«و النعار أيضا:العاصي».«نعر الرجل:خالف و أبى».
و هذا يعني أن الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم كان يستعيذ باللّه من الأمراض التي سببها الاختلال الجيني (3).
و بالرغم أن موضوع الحديث لا يتناول الاختلال الجيني لدى الجنين،إلاّ أنه يشير إلى أن هذه الظاهرة لم تكن غريبة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛فإذا كان الاختلال الجيني معلوما لدى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فهذا يشير إلى معرفته صلّى اللّه عليه و سلّم عن النشاط الخليوي و الصبغوي العام سواء أ كان للجنين أم للبالغ.
و من الشرح السابق نفهم ما ترمي إليه الآية:فلفظ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ...
يشير إلى إرادة الخالق سبحانه و تعالى في التمكين و الاستقرار للمضغة كما أنه يلمح إلى أن الفترة التي سبقت هي فترة هشّة،غير متينة بالنسبة لتخلق الأعضاء،و إلا فما فائدة الإقرار؟.».
ص: 315
*قال سبحانه و تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى (38) [القيامة:37-38].
*قال عزّ و جلّ: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:13-14].
*قال العليم الحكيم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1) اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى(2) [الأعلى:1-2].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...» [أخرجه مسلم ح 43].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا، فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45].
هذه المرحلة تضم تصوير الأذنين و العينين،و خلق العظام،و كسو العظام باللحم،و نفخ الروح.
جذر سوى (1):السين و الواو و الياء أصل يدل على استقامة و اعتدال بين شيئين.
و له عدة معان في اللغة العربية منها:
1-هو أن يكون الشيء مستقيما(و الدليل على ذلك الآية القرآنية التاليّة:
أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22]-سويّا:
أي مستقيما-).
ص: 316
2-هو أن يكون الشيء مستويا بدون ارتفاع و انخفاض(كما نستخلصه من الحديث التالي:«في الرجل يسوّي التراب حيث يسجد،قال صلّى اللّه عليه و سلّم:إن كنت فاعلا فواحدة»[أخرجه البخاري ح 41]).
3-هو أن يجعل الشيء سويا،أي على ما اقتضته الحكمة (1)،بمعنى جعله على تمام و كمال الصورة الإنسانية (2)(و الدليل على ذلك الآيتان التاليتان: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم:17]و قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً [الكهف:37]- سوّاك رجلا:أي جعلك رجلا-).
و قد حدد النص الشريف«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»[أخرجه مسلم ح 43]بأن مرحلة التخلق تنتهي في أربعين يوما،و من ثمّ تبدأ مرحلة جديدة و هي مرحلة التسوية لقوله تعالى: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى [القيامة:38].
كيف يمكن لنا أن نستنتج أن مرحلة التسوية بدأت بعد أربعين يوما؟.
الجواب:كل النصوص القرآنية و الحديثية و الأدلة العلمية تتفق بعضها مع بعض،و هي تدل على أن مرحلة التخلّق انتهت و بدأت مرحلة التسوية.فالحديث المذكور آنفا ينص على أن مرحلة التخلّق تنتهي بعد أربعين يوما،و المعطيات العلمية تدل على أن مرحلة المضغة التي تتخلّق فيها معظم أجهزة الجنين تنتهي في الأسبوع السادس،أي بعد فترة اثنتين و أربعين ليلة،كما أننا إذا قابلنا بين النصين القرآنيين:
أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37-38]و ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:13-14]نلاحظ النتائج التالية:ل.
ص: 317
فمرحلة الخلق هي مرحلة المضغة لأن جميع الأعضاء تتخلق فيها،و هذا ما أشار إليه مفسّر القرآن الكريم العلامة أبو السعود (1)قائلا: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي:بقدرة اللّه تعالى لقوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقَ أي:فقدر بأن جعلها مضغة مخلّقة».
و مرحلة التسوية تتضمن مرحلتي خلق المضغة عظاما و كسو العظام لحما،لأن تلك الظواهر هي من باب تصوير الخلق،أو بمعنى آخر تقويم الأعضاء،و هي لا تخلو من تخلّق،و لكن هذا التخلّق ليس تخلّق أعضاء من بدايتها بقدر ما هو تكميل خلق،فهو نوع من الخلق المحدّد(انظر الحاشية رقم(2،ص 325-329)في مبحث«التسوية/خلق العظام»)،فالأذنان و العينان يبتدأ تخلقها في الأسبوع الرابع (2)، في فترة تكوين الأعضاء،و لكن لا تتصور إلاّ في الأسبوع الثامن(أي في نهاية فترة التسوية).5.
ص: 318
و الدليل على ذلك هو قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها،و خلق سمعها و جلدها و لحمها و عظامها» [أخرجه مسلم ح 45]،فهذه المرحلة هي مرحلة تصوير الجنين،فنرى تصور العين و الأذن في الأسبوع الثامن و قد ابتدأ تخلقها في اليوم الثاني و العشرين (1).يقول عالم الأجنة لارس هامبرغر:«تتخذ الأذن الخارجية شكلا لها مع بداية الأسبوع الثامن...» (2).
و تنتهي مرحلة التسوية عند بداية مرحلة التعديل وفق الآية: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:6-8].و يكون ذلك في نهاية الأسبوع الثامن تقريبا (3).
أما تفاصيل معاني فعل«سوّى»فهي كالتالي:
-المعنى الأول:و هو أن يكون الشيء مستقيما:استعمال فعل«سوّى»في الآية الكريمة له دلالة خاصة هنا؛لأنه كان يدل على أن الجنين كان غير مستقيم أي مقوسا في المرحلة السابقة و من ثم استقام في هذه المرحلة و هذا إعجاز إخباري.
و هذه المرحلة تحتوي ظاهرتي تخلق العظام و الكساء باللحم.و مع تخلق العظام يشتد الجسم ليستقيم و يتخلى عن شكله المنحني(على شكل حرف C بالإنكليزية الذي كان اتخذه خلال فترة المضغة).(انظر الصورة رقم:97).
قال أبو السعود (4):« عِظاماً [المؤمنون:14]بأن صلبناها و جعلناها عمودا للبدن...»،و قال الألوسي (5):«و ذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة؛و كذا المضغة و العظام متحدان في الحقيقة،و إنما الاختلاف بنحو الرخاوة و الصلابة».).
ص: 319
-المعنى الثاني:و هو أن يكون الشيء مستويا دون ارتفاع و انخفاض:في هذه المرحلة تختفي الانخفاضات و الانتفاخات بتصلب الأعضاء و بالكساء باللحم، فيصبح سطح الجنين أكثر استواء.
-المعنى الثالث:و هو أن يجعل الشيء سويّا أي على ما اقتضته الحكمة:في نهاية مرحلة التسوية(أي في نهاية الأسبوع الثامن)يصبح الجنين كتلة بشرية متكاملة.
يقول الدكتور لارس هامبرغر:«بعد ثمانية أسابيع يكون حجم الجنين أربعة سنتيميترات و لكن داخل جسمه الصغير كل الأعضاء في مكانها،و كل شيء واجب وجوده في إنسان مكتمل النمو قد تخلّق» (1).1.
ص: 320
في هذه المرحلة يختفي ذنب الجنين و ترتسم الأذن الخارجية من جراء تكامل لفات قوقعة الأذن،و تتكون الأذن الداخلية،و ترتسم العينان بظهور الجفون في الوجه (انظر الصورة رقم:98)و تظهر أصابع اليدين و الرجلين بشكل واضح و يرتسم الأنف (1).فتقترب صورة الجنين من الصورة الإنسانية و تسوى(أو تجعل)في هيئتها النهائية من جراء تميز أعضائه،و يكتمل بذلك المعنى الثالث لفعل سوى الذي ورد في الآية القرآنية التي أشرنا إليها،و لفعل صور الذي أشار إليه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في حديثه الشريف.(انظر الصورة رقم:99).
و هكذا فإن مرحلة التسوية تتسم بسمة خاصة أ لا و هي إعطاء الجنين صورة إنسانية.
و الجدير بالذكر أن التسوية هي حالة لعوارض خارجية تظهر للجسم(استقامة، تهيئة أعضاء،...)،أما تخلّق العظام و الكساء باللحم فهي عمليات داخلية تجري في الجسم تؤدي إلى بروز الظواهر الخارجية للتسوية.
ف.
ص: 321
ص: 322
و قد تقسم مرحلة التسوية إلى قسمين رئيسيين متواليين:
1-طور خلق العظام
2-طور الكساء باللحم.
*قال تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً... [المؤمنون:14].
*عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها:«إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين و ثلاثمائة مفصل،فمن كبّر اللّه،و حمد اللّه،و هلل اللّه،و سبّح اللّه،و استغفر و عزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس،و أمر بمعروف أو نهى عن منكر،عدد تلك الستين و الثلاثمائة السلامى،يمشي يومئذ و قد زحزح نفسه عن النار»[أخرجه مسلم ح 42].
يكون طور«خلق العظام»في الأسبوع السابع،أي في المرحلة الأولى من مرحلة التسوية.
من الأمور المهمة التي يجب ذكرها:هو أن العظام لا تتطور في آن واحد، و أن العظام لا تتكون على نحو موحد في الجسم كله.فالأنسجة العظيمة تظهر بالتعاقب،و تنتقل في أطوار،و لا ينتهي نموها إلاّ في مرحلة متأخرة جدا،و لذلك لا يمكننا الجزم بأن العظام-حسب مفهومنا العامي-تظهر كاملة و هي في هيئتها النهائية في الأسبوع السابع،و لكن ما يحصل هو أن أنموذجا غضروفيا لهذه العظام يتخلّق تدريجيا في الجسم كله ابتداء من الأسبوع السادس،و ينتشر على هيئة هيكل عظمي في الجنين في الأسبوع السابع،و يكوّن بذلك العظم الأولي للجنين.
و بهذا ينتقل شكل الجنين من مرحلة المضغة التي لا تحمل في أنسجتها عظاما إلى مرحلة يغلب عليها شكل الهيكل العظمي المميز للإنسان في الأسبوع السابع،أي في المرحلة المشار إليها في القرآن الكريم و الحديث الشريف.
و تفصيلا:
لقد رأينا في مرحلة المضغة أن(الطبقة النسيجية الوسطى التي تلامس الميزاب العصبي PARAXIAL MESODERM )تتمايز،و تجتمع تباعا ضمن(كتل بدنية SOMITES )ابتداء من اليوم العشرين.تلك الكتل هي عبارة عن نسيج رخو يسمى:
ص: 323
(النسيج الميزانكيمي MESENCHYME ) (1).و من ثمّ يتفكك تدريجيا(القسمان البطني و الأوسط لتلك الكتل VENTRAL MEDIAL WALLS )،و تصبح خلاياهما(متعددة الأشكال POLYMOPHOUS )،و يغيّر ان أمكنتهما في بداية الأسبوع الخامس (2)، و يطوقان(الحبل الظهري NOTOCHORD )و(الميزاب العصبي NEURAL GROOVE )، و يشار عندئذ إلى تلك الأقسام بما يسمى:(القسم الهيكلي الصلب SCLEROTOME ).
و يتكثف النسيج الميزانكيمي خلال الأسبوع الخامس مسجلا مواقع العظم الأولي،و تصبح خلاياه مدورة،و تنشأ فيه(مراكز تغضرف CHONDRIFICATION CENTERS )،و من ثمّ تفرز تلك المراكز حولها منبتا عضويا (3)في الأسبوع السادس، فيتخلق تدريجيا أنموذج غضروفي لعظم العامود الفقري.(انظر الصورة رقم:100).
8.
ص: 324
و العظام مشتقة من عظم،و كلمة«عظم»تشير في اللغة العربية إلى ما هو قوي و شديد.قال ابن فارس:«العين و الظاء و الميم أصل واحد يدل على كبر و قوّة، فالعظم مصدر الشيء العظيم،و عظمة الذراع مستغلظها...و من الباب:العظم معروف،و سمي بذلك لقوته و شدته» (1).
و الشدّة نسبية،فإذا قارنا نسيج المضغة الميزانكيمي مع الغضروف،استنتجنا أن الغضروف أشد من النسيج الميزانكيمي،و ذلك لأنه في نهاية المطاف نسيج متكثّف،و التكثّف أشد و أغلظ و أثقل من النسيج الميزانكيمي الليّن،و هو أصلب منه،و بالتالي فالغضروف من الناحية اللغوية نوع من العظام.و هكذا فإن الحقائق العلمية تتّفق مع معاني و دلالات النص القرآني: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [المؤمنون:14]بأن هيكلا صلبا يتولّد في المرحلة التي تقع بعد مرحلة المضغة داخل النسيج اللين الذي يتألف منه الجنين.
و قد يتساءل البعض أن العظام لم يكتمل تطوّرها بعد،و لم تظهر في صورتها النهائية،فهل لنا أن نقول إن العظام ظهرت قبل اللحم كما تشير إليه الآية: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:14]،و الحال أن تمامها يتأخّر إلى ما بعد طور العظام؟و ذلك أن نموذجا غضروفيا يتكوّن،و من ثمّ يتخلّق اللحم،و أثناء كسو اللحم،و بعده،يتعظّم النموذج الغضروفي تدريجيّا،نقول-و بالله التوفيق-:
إن ذكر خلق المضغة عظاما جاء مقرونا بفاء«الترتيب و التعقيب»،و هذه الفاء توجّه الأنظار إلى ابتداء الخلق و ليس إلى صيرورته،فهي تقارن بين الطور الذي تتكلم عنه بالنسبة للطور الذي قبله،و بالتالي فإن خلق الغضروف هو بمثابة خلق عظام بالنسبة لطور المضغة،لا بالنسبة إلى الأطوار المتأخرة،حيث يكتمل تخلّق العظام.انظر تعليقنا في الحاشية عن تأخّر تمام خلق العظام.
يقول الرضي عن وظيفة الفاء التي جاءت في الآية رقم 14 من سورة المؤمنون:« فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:14]،نظرا إلى ابتداء كلّ طور» (2).ة-
ص: 325
.-
ص: 326
ص: 327
ص: 328
ص: 329
و نرى من التفسير السابق أن العامود الفقري ينشأ من الفلقات التي تضفي على الجنين مظهر المضغة،و تحديدا من قسم معين من تلك الفلقات و ليس من كل المضغة.و لذا نرى أن الألوسي رحمه اللّه قال موضحا أبعاد النص القرآني (1):« فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ :أي غالبها و معظمها أو كلّها، عِظاماً [المؤمنون:14]:صغارا و عظاما حسبما تقتضيه الحكمة و ذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة» (2).
و بما أن الجنين يخلق من عجب الذنب،أي:من الجزء المؤخري للعامود الفقري فمن الطبيعي أن نفهم أن العظم الذي يتخلق هو عظم العامود الفقري حسبما تمليه حقائق النصوص الشرعية.و قد فهم ابن عباس رضي اللّه عنهما هذه الحقيقة بنظرته الثاقبة بأن العظم الذي يتخلق هو عظم الصلب أي عظم العامود الفقري.جاء في تفسير القرآن العظيم (3): فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [المؤمنون:14]قال ابن عباس:و هو عظم).
ص: 330
الصلب.و في الصحيح من حديث أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق و منه يركب» [أخرجه مسلم ح 35]).
و من الجدير بالذكر أن اللّه تعالى قال: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً و لم يقل:
و خلقنا في المضغة عظاما،مما يشير إلى دقة الإعجاز العلمي في الإخبار أن الفلقات البدنية التي تظهر على شكل مادة ممضوغة تتحول إلى عظام.
و في الوقت الذي تتكثف فيه الخلايا الميزانكيمية حول العامود الفقري،تنشأ الأضلاع الصدرية منها فتكوّن القفص الصدري (1).أما عظام الرجلين و اليدين فتنشأ من النسيج الأوسط الوحشي(أي البعيد عن المحور) (2)،و يكتمل تغضرفها في نهاية الأسبوع السادس (3).
و هكذا يتخلق شيئا فشيئا أنموذج غضروفي للهيكل العظمي،و تكتمل صورته في نهاية الأسبوع السادس و بداية الأسبوع السابع،بينما تضمحل في نفس الوقت صورة الكتل البدنية،فتطغى سمة العظام على سمة المادة الممضوغة في تمام أربعين يوما،و يحق عندئذ أن نسمي ما كان مضغة عظاما،و يتحقق بذلك قول اللّه تعالى:
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً... .و هذا مطابق لما يرويه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن أن نهاية فترة المضغة تكون في أربعين يوما كما جاء في حديثه الشريف:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثم يكون في ذلك مضغة مثل...»[أخرجه مسلم ح 43]،و عن أن صورة العظام تظهر و تتضح بعد اثنين و أربعين يوما لحديثه الشريف صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45].و تبقى هذه صورة العظام ملازمة للجنين إلى أن تطغى صورة اللحم عليه بعد حوالي أسبوع.
هذا و قد فهم العلامة الألوسي (4)حقيقة أن تصيير المضغة عظاما يحصل تدريجيا بما أوتي من علم في اللغة العربية،و بما يتوافق مع مضمون النص القرآني قائلا:«و هذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا و بالعكس،).
ص: 331
و حقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة و إفاضة صورة أخرى عليها،و هو من باب الكون و الفساد،و لا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص،و استعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد،و لا يزال الأول ينقص و الثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة».
غير أن حجم خلايا الأنموذج الغضروفي يكبر (1)،و تتكلس مادة الأنموذج، و تموت خلاياه،و في الوقت نفسه تتمركز طبقة رقيقة من العظام تحت النسيج الذي يحيط بالغضروف،و تشكل قلادة عظيمة حول ساق الأنموذج الغضروفي.
و يعقب ذلك انتشار(العناصر الوعائية VASCULAR CONNECTIVE TISSUE ) من النسيج المجاور في الغضروف،و تجتمع بعض هذه الخلايا المنتشرة على شكل (جذعة عظيمة OSTEOBLAST )،و تحيط نفسها بمنبت عضوي عظمي حديث الإفراز،و بذلك تتكوّن في مرحلة متأخرة الخلايا العظمية للعظم النهائي بعد أن كان من الغضروف (2).(انظر الصورة رقم:101).
و بعد أن تحدثنا عن ظهور العظام،نتناول هنا قضية أخرى هي في الإعجاز أقوى من التي تحدثنا عنها من قبل و ذلك لأنها تتضمن دقة أكثر من الإعجاز الإخباري السابق ذكره.
ترى ما عدد العظام التي ستتخلق عند الجنين؟.
ص: 332
إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجيبنا عن هذا السؤال في حديثه التالي:«إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين و ثلاثمائة مفصل...»[أخرجه مسلم ح 42].
في الحديث المذكور إشارة إلى أن لدى الجنين 360 مفصلا أو عظما،و لكن إذا نظرنا إلى العظام لدى الإنسان البالغ رأينا أن لديه 206 عظمات،باستثناء العظمات الوترية في كل إبهام و في كل إصبع من الأصابع الكبيرة(و مع إضافة هذه العظام يصبح العدد 216 عظمة).
فلما ذا هذا الاختلاف؟.نلحظ أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تكلم عن عدد العظام بصيغة الماضي بقوله«خلق الإنسان»،و هذا يدل على أنه في بادئ الأمر،عند ما خلق الإنسان(أي عند ما كان جنينا)،تكوّن لديه 360 مفصلا.فما ذا يقول العلم؟لنر هذا عن كثب من الناحية العلمية:
«إن لكل عظم من عظام الأطراف بما فيها السلاميات الطرفية منطقة مركزية يتم تعظمها بعد تحوّل النسيج الغضروفي بها إلى عظم أثناء تطور الجنين...،و أيضا تنتهي أطراف كل عظمة بنسيج غضروفي قابل للتعظم فيما بعد،أي بعد أن يولد الجنين ولديه توقعات بالنمو الطولي..!
ص: 333
و سوف نسمي هذه الأنسجة الغضروفية على أطراف العظام مراكز التعظم الثانوية،و يبلغ عددها عند ظهور العظام 144 مركزا،و يتم تعظّم هذه المراكز وفق نظام صارم محدد يتمشّى زمنيا مع متطلبات النمو حتى سن العشرين،و عند ما تتعظم هذه المراكز العظمية تتحول إلى نسيج عظمي و تلتحم مع بقية العظم المتاخم لها لتصبح عظما واحدا حتى تتحول كل عظام الجسم التي يخلق عليها الجنين و التي تبلغ 360 عظمة إلى 206 عظمات(بعد تعظم كل ما فيها من مراكز التعظم الثانوية)عند اكتمال النمو في سن العشرين...
يمكننا حصر عظام الجسم بعد تمام النمو في(206)عظمات هي كما يلي:
28 الرأس،7 فقرات عنقية،12 فقرة ظهرية،5 فقرات قطنية،5 فقرات عجزية،4 عصعص،24 ضلعا،3 قص،2 لوحي الكتف،2 ترقوة،2 عضد،4 زند و كعبرة،16 رسغا،10 كف اليدين،28 السلاميات،6 الحوض،2 الفخذ،4 قصبة و شظية بالساق،14 عظاما صغيرة بالقدم،28 السلاميات.و مع إضافة العظمات الوترية بكل إبهام 2(*2)و إصبع كبير 3(*2)،يكون لدينا مجموع 10 (2*2+3*2 10)عظمات وترية،فإذا أضفنا عدد عظام الجسم مع العظام الوترية مع المراكز التعظمية الأولية التي خلق عليها الجنين يكون مجموع عظام الجسم:
206+10+144 360 عظمة.
أما عن مفاصل الجسم فنحددها كما يلي:
147 العمود الفقري(25 غضاريف بين الفقرات+72 بين الضلوع و الفقرات+ 50 بين الفقرات عن طريق اللقيمات الجانبية).
24 الصدر(2 عظمة القص+18 بين القص و الضلوع+2 بين الترقوة و لوحي الكتف+2 بين لوحي الكتف و الصدر).
43 الطرف العلوي(*2)(مفصل كتف+3 كوع+4 رسغ+35 عظام اليد).
44 الطرف السفلي(*2)(مفصل فخذ+3 ركبة+3 كاحل+37 عظام القدم).
13 الحوض(2 عظام الورك+4 فقرات العصعص+6 عظميات الحق+ الارتفاق العاني).
2 الفك.
ص: 334
فيكون المجموع الكلي 146+24+43*2+44*2+13+2 360 مفصلا» (1).
إن تحديد عدد العظام هو إعجاز بحد ذاته،و ذلك لأنه لو أطلقنا العنان لخيالنا لكان هناك احتمال صغير جدا لذكر العدد الصحيح للمفاصل.فهنالك مئات بل الآلاف من الأرقام المحتملة.
إضافة إلى ذلك،فإن معرفة عدد العظام لدى الجنين أصعب من معرفة عدد العظام لدى الإنسان البالغ،و ذلك لأن تعداد عظام صغيرة في جسم صغير أصعب من تعداد عظام كبيرة في جسم كبير،كما أن عملية التعداد تستلزم الحصول على عدد من الأجنة،و تشريحها،و استعمال آلات خاصة لفصل اللحم عن العظم،و هذا لم يكن متوفرا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.فالجزيرة العربية كانت ترزح تحت وطأة الجهل العلمي و خاصة في مجال تخلق الجنين في الرحم.
و الإعجاز الأبلغ هو تحديد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم للفترة الزمنية،و هي الفترة الجنينية التي فيها عدد المفاصل.و لو تغير الرقم إلى أكثر أو أقل من العدد الذي ذكره النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لتبين عدم إعجازه و العكس هو الثابت.
قال تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً... [المؤمنون:14].
يتحقق طور«الكساء باللحم»في الأسبوع الثامن،أي في المرحلة الثانية من مرحلة التسوية.
نفهم من الآية الكريمة أن اللحم يكسو العظام،و هذا يعني:
-أن اللحم يعلو العظام.
-أن اللحم يتخلق بعد تخلق العظام (2).
ص: 335
و هل تشير المعطيات العلمية إلى تلك الحقائق؟،لنر ذلك عن كثب:
فور تفكك القسمين البطني و الأوسط للكتل البدنية ينشأ من القسم المتبقي للكتل البدنية،أي من القسم(الظهري الجانبي DORSOLATERAL )للخلايا الميزانكيمية،طبقة جديدة من الخلايا تتميز بنوى سوداء و بلون شاحب،تلك الخلايا تؤلف ما يسمى(بالقسم الهيكلي العضلي MYOTOME ) (1)فمن هذه الخلايا ستنشأ غالبية عضلات الجسم،مثل:عضلات العامود الفقري و عضلات البطن و عضلات الرجلين و اليدين و عضلات الرأس ما عدا عضلات(قزحية العين IRIS ) (2).و هكذا يتوافق القرآن و المعطيات العلمية في أن اللحم ينشأ من القسم الأعلى للكتل البدنية، بينما ينشأ العظم من القسمين البطني و الأوسط-أي من القسم الأسفل-للكتل البدنية،و يتحقق مبدئيا البند الأول للإعجاز العلمي الذي تشير إليه الآية الكريمة فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً... [المؤمنون:14].(انظر الصورة رقم:102-103).
6.
ص: 336
ص: 337
فإذا اعتبرنا وظيفة حرف«الفاء»في قوله تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً...
«التفصيل بعد الإجمال»فهمنا أن مرحلة الكساء باللحم هي تفصيل لمرحلة خلق العظام التي سبقتها.و«التفصيل بعد الإجمال»يقتضي أن هناك خلقا مجملا حصل، أي أن خلقا عاما لمختلف أعضاء الجنين حصل بما فيها العظام و اللحم،غير أنه غلب على صورة المرحلة المجملة صورة العظام فأطلق عليها هذه التسمية،و من ثمّ تلاها خلق آخر لا ينفي استمرار الخلق الأول بكل أعضائه كما أشرنا إليه في الحاشية رقم(2،ص 325-329)من مبحث«التسوية/خلق العظام»و لكن يبرز خلقا أدق في نطاقه،و مخصّصا في فعله،مفصّلا للطور الذي سبقه،تأخّر في ظهوره و غلبة سمته عن الخلق الذي غلب في المرحلة المجملة،وفق وظيفة«الترتيب و التعقيب»التي يتّسم بها حرف«الفاء»أيضا في هذا الموضع،و هذا الخلق هو ظهور اللحم و كسوته العظام.فإذا اتضح لنا هذا،فهمنا أن ذرات العظام و اللحم تخلّقت في وقت واحد في مرحلة المضغة،و لكن سبق ظهور العظم ظهور اللحم،و بالتالي فإن اللحم و العظم كانا يؤلفان المضغة.و هذا ما فهمه مفسّرا القرآن الكريم العلامة أبو السعود و العلامة الألوسي،حيث إنهما أشارا إلى أن اللحم نشأ من قسم معين من الفلقات التي تضفي مظهر المضغة على الجنين،بينما نشأت العظام من القسم الآخر،عند ما قالا:« لَحْماً من بقية المضغة أو ممّا أنبتنا عليها بقدرتنا» (1)،و«ذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها،و يبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها» (2).(انظر الصورة رقم:102 السالفة).
و تنفصل خلايا القسم الهيكلي العضلي بعضها عن بعض،و تهاجر إلى أمكنتها النهائية،و تنقسم إلى جزءين:(ظهري EPIMERE )،و(بطني HYPOMERE )،و هكذا يتحقق مبدئيا من خلال هذه الحادثة البند الثاني أن اللحم يتخلق بعد تخلق العظام، و ذلك أنه بالرغم من وجود طلائع جذوع العضلات بالقرب من طلائع العظام ضمن الكتل البدنية،فإن هجرة طلائع اللحم تبدأ بعد هجرة طلائع العظام،و هذا يعني أن طور اللحم يأتي زمنيا بعد طور العظام.).
ص: 338
و تتطاول أجسام تلك الخلايا و نواتها،و تدعى آنذاك:(الخلايا العضلية MYOBLAST )،و تندمج تلك الخلايا بعضها ببعض،و تكوّن مركبات متعددة النويات تتخذ شكل(أنابيب عضلية MYOTUBES )،و يستمر النمو باندماج كل من الخلايا العضلية و الأنابيب العضلية (1)،و في الأسبوع السابع تبدأ كتل اللحم و العضلات بالظهور (2).
و يظهر ترتيب الألياف العضلية غير منتظم في البداية و لكنها تنتظم تدريجيا في حزم من الألياف العضلية التي يتصف بها التنظيم النسيجي لعضلات الهيكل العظمي.
هذه الألياف تتصل بدورها في وقت آخر بغشاء العظام التي تكونت في هذا الموضع،مؤلفة حول هذه العظام النسيج العضلي الذي يكسو تلك العظام (3).
و هكذا يتحقق البند الأول بكامله أن اللحم يكسو-أي يعلو و يغطي- العضلات،و يتحقق البند الثاني بكامله أن اللحم يتخلق بعد تخلق العظام و ذلك أن التميز على شكل روابط عضلية هيكلية تكسو العظام يحدث بعد عملية التغضرف في نهايات العظام و السيقان.(انظر صورة رقم:104).
2.
ص: 339
و في نهاية الأسبوع الثامن،أي في المرحلة التي تأتي بعد مرحلة العظام، يمكن ملاحظة تميز واضح لعضلات الجذع و الأطراف و الرأس،و يغلب على الجنين وقتئذ مظهر العضلات،بعد أن كان يغلب عليه مظهر العظام،و صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حيث يشير-في الحديث الشريف:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا،فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثم قال:يا ربّ:
أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45]-إلى أن صورة اللحم تظهر بعد أربعين يوما،و لا سيما بعد فترة العظام وفقا لقوله عزّ و جلّ: ...فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً... .
و في هذا يقول الألوسي (1):« ...فَكَسَوْنَا الْعِظامَ... المعهودة لَحْماً أي جعلناه ساترا لكل منها كاللباس».
و بعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك.
هذه الحقيقة(حقيقة كسو اللحم للعظام)لم تكن لتعرف لو لا تطور الآلات الحديثة التي أتاحت للاختصاصيين مراقبة هذه الأحداث(في النصف الثاني من القرن العشرين)،بيد أنها أعلنت منذ حوالي 1400 سنة على لسان نبيّ أميّ-صلوات اللّه و سلامه عليه-.
فأنى جاء بهذه المعلومات الدقيقة!!!؟.
و في الختام نشير إلى الحقيقة التي أشار إليها الألوسي (2)و التي يتضمنها النص القرآني الذي يصف تخلق الجنين،و هي أن الصور المختلفة-المضغة و العلقة و اللحم و العظام-تنبع كلها من جسم واحد،حسبما تمليه التغيرات الداخلية في جسم الجنين،و ليست مجرد إضافات خارجية تنصب على جسم الجنين فتضفي عليه تلك المظاهر المختلفة:«و كذا المضغة و العظام متحدان في الحقيقة.و إنما الاختلاف بنحو الرخاوة و الصلابة،و أن العلقة و المضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض.و الظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية».).
ص: 340
*قال سبحانه و تعالى: ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ [السجدة:9].
*قال عزّ و جلّ: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:37-39].
*قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح،و يؤمر بأربع كلمات...»[أخرجه مسلم ح 43].
*قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون علقة مثل ذلك،ثم يكون مضغة مثل ذلك،ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع كلمات و يقال له:اكتب عمله و رزقه و أجله و شقي أو سعيد،ثم ينفخ فيه الروح»[أخرجه البخاري ح 46].
البحث عن حقيقة الروح أمر في غاية الغموض،و النظر العلمي يحتّم عدم الدخول في تفاصيل ماهية الروح لأن المفردات الأولية و المعطيات الأساسية غير متوفرة للباحث.
لذا يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
أما معرفة وقت نفخ الروح في الجنين فمن الممكن معرفته من خلال النصوص الشرعية.
فنجد أن نفخ الروح يكون في مرحلة التسوية،أما قبلها فلا يكون هناك نفخ و ذلك لأن اللّه تعالى عطف نفخ الروح على التسوية في قوله تعالى: ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9].و أما الإذكار أو الإيناث فإنه يكون بعد التسوية،أي بعد نفخ الروح و ذلك أن اللّه تعالى ذكر إذكار أو إيناث الجنين بعد ذكر التسوية و قرنه بحرف«ف»الذي يفيد الترتيب و التعقيب (1)في الآية: فَخَلَقَ فَسَوّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى... [القيامة:39].
ص: 341
و نستطيع أن نجمع الآيتين السابقتين و نفهم من خلال الجمع أن نفخ الروح يحصل قبل الإذكار أو الإيناث فيكون معنى الآية:خلقه فسواه و نفخ فيه من روحه فجعل منه الزوجين الذكر و الأنثى.
فيتبيّن أن توقيت نفخ الروح ممتد من بداية التسوية إلى بداية مرحلة الإذكار أو الإيناث.
و إذا أخذنا بالاعتبار وظيفة حرف العطف«ثم»-الترتيب و التراخي-،و حرف العطف«ف»-الترتيب و التعقيب-،نفهم أنه قد يكون هناك تراخ في إرسال الملك و في نفخ الروح بعد انتهاء طور المضغة دون تحديد يوم معين،كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون علقة مثل ذلك،ثم يكون مضغة مثل ذلك،ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع كلمات و يقال له:اكتب عمله و رزقه و أجله و شقيّ أو سعيد،ثم ينفخ فيه الروح»[أخرجه البخاري ح 46]،و قد يكون هناك تراخ في إرسال الملك دون أن يكون هناك تراخ في نفخ الروح كما جاء في الحديث الّذي رواه مسلم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات...»[أخرجه مسلم ح 43].
و هذا يعني أن الحد الأدنى الممكن لنفخ الروح أربعون يوما،لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح...»،و قد يكون في أي يوم بعده.
أما الحد الأقصى الممكن فهو نهاية الأسبوع الثامن (1)،و ذلك لانتهاء مرحلة التسوية في نهاية الأسبوع الثامن.
أما حكم إسقاط الجنين فيؤخذ بالأدنى عند الضرورة(انظر مبحث«اجتهاد غير مصيب»).».
ص: 342
*عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه،عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:«و كل اللّه بالرحم ملكا فيقول:أيّ ربّ:نطفة؟أيّ ربّ:علقة؟أيّ ربّ:مضغة؟فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال:أيّ ربّ:أذكر أم أنثى؟أ شقي أم سعيد؟فما الرزق؟فما الأجل؟فيكتب كذلك في بطن أمه».[أخرجه البخاري ح 98].
لقد تحدثنا فيما قبل عن فترة(الإجهاض المبكّر SPONTANEOUS ABORPTION )،و بينا أن الرحم في هذه الفترة قد يرفض النطفة عند وقوعها في الرحم،و من ثمّ تحدثنا عن فترة«الإقرار»و بينّا أن الفترة التي تلي فترة المضغة هي فترة يثبت فيها الحمل في الغالب.و أما الآن فسنتحدث عن فترة«إتمام الخلق»التي تشير إلى أن الفترة الحرجة لتخلق الجنين قد انتهت،و ابتدأت مرحلة لإنهاء و إتمام و إحكام الخلق،بمعنى آخر؛فإن المرحلة التالية لا يحدث فيها ما يعيق النمو و التخلق بإذن اللّه.
فتخلّق النطفة لتصبح جنينا مقرون بوقوعها في الرحم كما يشير إليه الحديث الشريف:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا،فقال:يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟».[أخرجه الطبري ح 32]،و إقرار الجنين في الرحم مقرون بانتهاء تخلّق المضغة كما تشير إليه الآية الكريمة: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج:5]،و قضاء الخلق-أي إتمامه-مقرون بتميز الشكل الخارجي للأعضاء الجنسية للجنين (1)كما يشير إليه الحديث الشريف:«فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها، قال:أي ربّ:أذكر أم أنثى؟...»[أخرجه البخاري ح 98].
و كلمة«يقضي»التي وردت في الجملة«...فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقه...»تعني«يتمّ»،و هي بالتالي لا تشير إلى ابتداء الخلق بل إلى إتمامه للوصول
ص: 343
به إلى درجة الكمال بالنسبة لما قبله (1)،و ذلك لأن التخلق قد بدأ فيما قبل و خصوصا في فترة المضغة كما تحدثنا الآية: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ... مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [الحج:5] (2).
جاء في لسان العرب (3):«قضي:القضاء:...و قال الأزهري:القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء و تمامه.و كل من أحكم عمله أو أتمّ أو ختم...الليث في قوله: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14]:أي أتممنا عليه الموت.و قضى فلان صلاته أي فرغ منها.و قضى عبرته أي أخرج كل ما في رأسه.
و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام:8]،قال أبو إسحاق:
فمعنى قضي الأمر أتم إهلاكهم.قال:و قضى في اللغة على ضروب كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء و تمامه...».
و يشهد لهذا المعنى ما جاء في عمدة القاري (4):(قوله:«فإذا أراد أن يقضي»).
ص: 344
أي:فإذا أراد اللّه أن يقضي،أي:أن يتم خلقه)،و الرواية التي نقلها الطيالسي في مسنده (1):«إن اللّه عزّ و جلّ يوكل بالرحم ملكا فيقول:يا رب:نطفة،يا رب:علقة،يا رب:مضغة،فإذا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يتم خلقها قال:يا رب:ذكرا أم أنثى؟شقي أم سعيد؟فيكتب ذلك في بطن أمه».
و«إذا،اسم يدل على زمان مستقبل» (2)،فإذا أخذنا بعين الاعتبار معنى كلمة «يقضي»و وظيفة«إذا»أصبح معنى الحديث الشريف:فعند ما يحين وقت إتمام خلق الجنين يبدأ تميز الشكل الجنسي الخارجي للجنين بإذن اللّه.
و من الجدير بالذكر أن«قضاء الخلق»ذكر بعد ذكر طور المضغة في الحديث السابق،و قد يحمل ذلك البعض إلى الاعتقاد إلى أن قضاء الخلق عليه أن يحدث مباشرة بعد طور المضغة،و هذا ينافي الترتيب الذي نشير إليه:«المضغة،الإقرار، التسوية،قضاء الخلق».و لكن ما نشير إليه هو أنه لا يلزم من مرحلة«قضاء الخلق» أن تأتي بعد طور«المضغة»مباشرة إذا ذكرت بعدها بدون أن نفصل بينهما بمرحلة.
و هذا الأسلوب أسلوب إيجاز رائع متبع في أكثر من حديث من الأحاديث الشريفة يوجه فيه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم انتباه القارئ إلى الحدث البارز،و حسبك أن نشير إلى الحديث التالي:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45].فالنطفة في الحقيقة لا تبقى نطفة اثنتين و أربعين ليلة،و حدث التصوير لا يقع بعد مرحلة النطفة،غير أن الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم امتنع عن ذكر أحداث ما بعد مرحلة النطفة و استعاض عن ذلك بذكر مرحلة الأصل-مرحلة النطفة-حتى يوجّه انتباه السامع إلى حدث التصوير الذي يحصل للأذن و العين (3)...إلخ.و كذلك الحدث.-
ص: 345
البارز في الحديث«...إذا أراد اللّه أن يقضي خلقها...»[أخرجه البخاري ح 98]هو قضاء الخلق و الغاية هي التركيز عليه،و اللّه تعالى أعلم.
و ما جاء في عمدة القاري (1)،يوضح ذلك:«و قوله في حديث أنس:«و إذا أراد اللّه أن يقضي خلقا،قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟»لا يخالف ما قدمناه،و لا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة،بل هو ابتداء كلام و إخبار عن حالة أخرى».
و هكذا فإن عملية إتمام الخلق تتحقق مع تحقق مرحلة تميز الشكل الخارجي للأعضاء الجنسية للجنين.
و لقد رأينا في مبحث«الإقرار»أن حساسية الجنين للعوامل التيراتوجينية أو المؤذية تكون عالية جدا في فترة المضغة مما يؤدي إلى إحداث تشوهات خطيرة لدى الجنين في كثير من الأوقات أو لإسقاطه.).
ص: 346
أما في فترة التسوية (1)(و هي الفترة التي تلي فترة تخلق المضغة)،فحساسيته تظل عالية و غالبا ما تؤدي العوامل التيراتوجينية إلى تشوهات خطيرة لدى الجنين و في قليل من الأحوال إلى إسقاطه.
أما فيما بعد،أي في فترة النشأة (2)-و هي الفترة التي تلي مرحلة التسوية، و التي فيها يميّز جنس الجنين الخارجي أذكر أم أنثى-فحساسيته تخف و تأثير العوامل أيضا،و عند ابتداء تميز الشكل الخارجي للأعضاء الجنسية للجنين (3)،لا يبقى عضو يذكر حساس للعوامل الموذية إلا الجهاز العصبي،و بالتالي فليس هناك في الغالب ما يعيق نمو الجنين و يؤدي إلى إحداث تشوهات خطيرة لديه أو لإسقاطه.
و كما نرى من الجدول التالي(انظر الصورة رقم:105)فإن فترة التشوهات الرئيسية تنتهي في حوالي بداية الأسبوع التاسع،أي بعد نهاية مرحلة التسوية بأيام قليلة و بداية مرحلة النشأة.و كما نعلم فإن تميز الشكل الخارجي للأعضاء التناسلية الخارجية للجنين يبدأ بعد انتهاء مرحلة التسوية بأيام قليلة (4)وفقا لقوله تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:37-39]،و هذا يعني أنه مع ابتداء مرحلة الإذكار أو الإيناث الخارجية للجنين هناك احتمال ضئيل لحدوث تشوهات خطيرة،و إذا ما حلّت العوامل المؤذية فإنها تؤدي إلى خلل وظيفي أو إلى تشوهات خلقية ضعيفة،غير أن هذه الأخيرة لا تعيق النمو و لا تحول دون إتمام تخلق الجنين كما يشير إليه الحديث الشريف:«...فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها،قال:أي رب:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه البخاري ح 98].
فسبحان من يعلم خفايا التخلق أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]!.».
ص: 347
ص: 348
*قال الحليم الكريم: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14].
*قال سبحانه و تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:37-38].
*قال عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:6-8].
*قال العليم الحكيم: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].
*قال العليم الحكيم: وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ... [لقمان:14].
*قال رسول اللّه-صلى اللّه عليه و على آله و سلم-:«إذا أراد اللّه أن يخلق نسمة قال ملك الأرحام معرضا:أي ربّ:أذكر أم أنثى؟،فيقضي اللّه،فيقول:أيّ ربّ:أ شقي أم سعيد؟فيقضي اللّه أمره،ثم يكتب بين عينيه،حتى النكبة ينكبها» [أخرجه أبو يعلى ح 44].
*قال صلى اللّه عليه و على آله و سلم:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك ثم يقول:يا ربّ:
أجله؟فيقول ربك ما شاء و يكتب الملك ثم يقول:يا ربّ:رزقه؟فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد و لا ينقص»[أخرجه مسلم ح 45].
هذه المرحلة تأتي بعد مرحلة التسوية لأنها تأتي بعد مرحلة كساء العظم باللحم و قد سميناها مرحلة النشأة لأن اللّه تبارك و تعالى قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ...
[المؤمنون:14].
ص: 349
كلمة«نشأة»مشتقة من فعل«نشأ»و لها عدة معان منها:
1-بدأ،مثل أنشأ اللّه الخلق أي ابتدأ خلقهم (1).
2-نما،مثل نشأ الصبي:أي شبّ و نما (2).
3-ارتفع و ربا،مثل نشأ السحاب:ارتفع (3).
هذه المعاني تعبر عن حقيقة واقع الجنين في هذه المرحلة و تصف بشكل مكثف التطورات و التغييرات الخارجية و الداخلية و العمليات الهامة التي تطرأ على الجنين أ لا و هي-باختصار شديد-:بداية عمل الأعضاء،نمو الجنين و ارتفاع قامته.
فالمعنى الأول لكلمة نشأ:«بدأ»يصف لنا بداية عمل الأعضاء و الأجهزة المختلفة و بداية حركة الجنين(فالجنين يبدأ بالتحرك في نهاية الأسبوع الثامن أو بداية الأسبوع التاسع) (4)و حيث نجد أن الكلية قد بدأت في تكوين البول،و بدأ الكبد في تكوين خلايا الدم الحمراء(في بداية مرحلة النشأة)و من ثمّ تبدأ الطحال في الأسبوع الثاني عشر في تكوينها (5)،و ما إلى ذلك...
و أما معنى«نما»فإنه يبيّن النمو السريع للجنين على وجه العموم،و التطور الشامل لأعضاء و أجهزة جسمه التي تحصل خلال هذه الفترة على وجه الخصوص.
فعلى سبيل المثال:يصبح وزن الجنين 3400 غرام في نهاية الحمل بعد أن كان 8 غرامات في الأسبوع التاسع من الحمل(أي بازدياد مدهش مقداره 400 ضعف)، كذلك فإن سائر أعضاء الجنين تنمو؛فنرى أن الجهاز التناسلي للجنين يتميّز ذكرا أو أنثى،و تبرز الأذنان الخارجيتان من الرأس،و تتّضح الرقبة،و يتطوّر الطرفان السفليان بصورة جيّدة...إلخ(انظر الصورة رقم:106).
ص: 350
و أما معنى«ارتفع،ربا»،فإنه يصف تلك الزيادة الواضحة و السريعة جدا في طول الجنين و التي تبدأ من الأسبوع التاسع فصاعدا.
فبالأمس كان حملا صغيرا-أي في مرحلة النطفة و العلقة و المضغة و مرحلة خلق العظام و مرحلة كسو العظام لحما-،و الآن أصبح هذا الحمل ينمو و يرتفع و يربو،و هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ [الأعراف:189]،و هذا ما أوضحه العلامة ابن كثير في كتابه تفسير القرآن العظيم (1): «حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً و ذلك أول الحمل لا تجد
ص: 351
المرأة له ألما،إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة».غير أنه من الصواب أن نضيف إلى المراحل المذكورة سابقا مرحلتي«خلق المضغة عظاما»،و كسو العظام لحما لأنها تأتي أيضا قبل مرحلة«النشأة»التي بتحققها ينتقل الحمل من الحمل الخفيف إلى الحمل الثقيل (1).
و بالفعل فإن(طول الجنين CR )يكون في الأسبوع التاسع 50 ملم،و من ثمّ يزداد إلى أكثر من سبعة أضعافه ليصل في نهاية الحمل إلى 360 ملم (2).(انظر الصورة رقم:107).
لقد وضع القرآن الكريم حدّا فاصلا بين مرحلة التخلق التي سبقت و هي في قوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:14]و المرحلة المقبلة-مرحلة النشأة-بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ... [المؤمنون:14].
و نتساءل لما ذا قال اللّه تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14]؟.
الجواب:إن الآية الكريمة عند ما ذكرت: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14] دلّت على وجود مرحلة جديدة للجنين بصفات مميزة و مختلفة عن المراحل السابقة.9.
ص: 352
و ذلك لعدة أسباب:
أولا:يصعب تمييز الجنين عن أجنة كثير من الحيوانات الأخرى في المراحل التي سبقت،مع كونه مميّزا بوضوح في مظهره،و من جراء عملية التصوير التي يجريها له الملك يتميز الجنين عن أجنة الحيوانات و يتضح مظهره الآدمي.(انظر صورة رقم:108).
ثانيا:إن الجنين في هذه الفترة يصبح حيويا بعد ما كان كتلة جامدة فيما قبل.
ففي هذه المرحلة تبدأ أعضاء الجنين الداخلية بالعمل(كما أسلفنا ذكره في تعليقنا على المعنى الأول لكلمة نشأ-بدأ-)و يبدأ هو بالحركة الذاتية.
ثالثا:إن هذه المرحلة تتميز بظاهرة جديدة،أ لا و هي:ظاهرة نمو الأعضاء و تهيئتها للقيام بوظائفها،بعد أن كانت قد تخلقت في المرحلة السابقة.(راجع المعنى الثاني لكلمة نشأ-نما-).فالمرحلة المقبلة هي مرحلة نمو،بينما كانت المرحلة السابقة مرحلة تخليق،و هي بذلك تختلف عن بعضها.
ص: 353
كل هذه التغييرات تجعل من(الحميل EMBRYO )(جنينا FETUS )كما يشير إليه العلماء اليوم(و إن أشرنا إلى الحميل بالجنين في الفترات السابقة،و ذلك لشيوع كلمة الجنين).
هذا الانتقال في انتقاء المصطلحات ما هو إلا نهج ثان للتعبير عن الخلق الآخر الذي أشار إليه العليم الخبير بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14].
تأتي مرحلة النشأة بعد طوري خلق المضغة عظاما و كسو العظام لحما لقوله تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ...
[المؤمنون:14].و كما أسلفنا القول فإن مرحلة التسوية تشمل طوري خلق المضغة عظاما و كسو العظام لحما،لذا فإن مرحلة النشأة تأتي بعد مرحلة التسوية.
و القرآن الكريم يعقب بعد مرحلة التسوية بمرحلة التعديل(تعديل الجنين)، لقوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:
7-8]،و بالتالي فإن مرحلة التعديل تأتي ضمن مرحلة النشأة.
و من جهة أخرى تأتي عملية الإذكار أو الإيناث بعد عملية التسوية لقوله تعالى:
أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:37-39].و كما أشرنا إليه سابقا فإن مرحلة التعديل تأتي بعد مرحلة التسوية،لذا فإن مرحلة التعديل و بالتالي مرحلة النشأة تتضمن عملية الإذكار أو الإيناث.
ص: 354
و الهاء التي وردت في كلمة«منه»قد ترجع إلى الإنسان،فكأن الآية تعني:
فخلق فسوى فجعل من الإنسان الذكر و الأنثى.
جاء في الجامع لأحكام القرآن (1):«ثم قال: فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان».
و فعل«جعل»الذي ذكر في قوله تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:37-39]،يأتي بمعنى «خلق»،جاء في لسان العرب (2):«جعل:و جعل خلق...و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]أي خلقنا».فإذا أبدلنا فعل«جعل» بفعل«خلق»في الآية: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة:39]أصبح معنى الآية:
فخلق منه الزوجين الذكر و الأنثى،و بالتالي فإن الآية السابقة تشير إلى أن الأعضاء التناسلية للجنين تتخلّق بعد مرحلة التسوية،و سوف نوضح كيف يتم تخلق الأعضاء التناسلية للجنين.
كذلك فإن فعل«جعل»يأتي بمعنى«صيّر»،أي أصبح في المستقبل،و هذا يعني أن نتائج عملية إذكار أو إيناث الجنين تأتي بعد مضي حين من الزمان على مرحلة التسوية،فيصبح الجنين بعدها ذكرا أو أنثى.و بالفعل فإن عملية التميز الجنسي الخارجية للجنين تحتاج لوقت يقدر بثلاثة أسابيع بعد انتهاء مرحلة التسوية، أي منذ ابتداء مرحلة النشأة،حتى تثمر و تنضج عن نتائج جلية.
جاء في لسان العرب (3)في شرح كلمة«جعل»:«جعل:...و جعله صيّره...و جعل الطين خزفا و القبيح حسنا:صيره إياه...و يقال جعلته أحذق الناس بعمله،أي صيرته...».
و ورد في لسان العرب (4)في شرح كلمة«صير»:«صير:صار الأمر إلى كذا...و في كلام عميلة الفزاري لعمه و هو ابن عنقاء الفزاري:ما الذي أصارك إلى ما أرى يا عمّ؟قال:بخلك بمالك...و صيرته أنا كذا أي جعلته.و المصير الموضع الذي تصير إليه المياه،و صير الأمر:منتهاه و مصيره و عاقبته و ما يصير إليه،و صيّور الشيء:آخره و منتهاه،و ما يؤول إليه كصيره و منتهاه».).
ص: 355
و من المهم أن ننوّه إلى أن اختيار فعل«جعل»له دلالته:فلو صغنا الآية بفعل «صار»أو فعل«خلق»لما استطعنا أن نجمع بين المعاني المختلفة،و أن نوصل إلى القارئ المعنى المزدوج،و هذا من الإعجاز البياني للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم حيث قال:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13].
و تشمل مرحلة النشأة مرحلة تخلق الجلد،و ذلك لأن القرآن الكريم سكت عن ذكر تخلق الجلد بعد ذكر كسو العظام باللحم في الآية: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14]،مع أن الحديث الشريف:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45]ذكر تخلق الجلد،و هذا دليل على أن تخلق الجلد يتأخر عن تخلق اللحم،ذلك لأنه لو كان تخلق الجلد يقع زمنيّا بين المراحل السابقة التي ذكرت في الآية السالفة الذكر لذكر،و اللّه أعلم.
و ورود كلمة«ثم»في سؤال الملك عن الإذكار أو الإيناث بعد ذكر تخلّق الجلد و سائر الأعضاء هي للإشارة إلى أنّ تميز الشكل الخارجي للأعضاء الجنسية للجنين يأتي بعد ابتداء تخلّق الجلد،و بالفعل يبدأ تميز الجلد في الأسبوع السابع و إن لم يظهر جليّا،و من ثمّ يبدأ تميز الشكل الخارجي للأعضاء الجنسية في نهاية الأسبوع التاسع،أي في مرحلة متقدمة لتخلّق الجلد.
و بينما يتم إجراء العمليات اللازمة لإذكار أو إيناث الجنين يتم تخلق الهيكل الرئيسي للجلد،فيسبق تميز الجلد التميز الجنسي كما جاء في الحديث الشريف:
«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45].
و هكذا فإن ترتيب تخلق الأعضاء في مرحلة التسوية و مرحلة النشأة يصبح وفق ما جاء في القرآن الكريم و السنة الشريفة:تخلق العظام-تخلق اللحم-تخلق الجلد -التميز الجنسي،و عليه فإن ترتيب عمليات مرحلة التسوية و مرحلة التعديل تظهر كما في الجدول التالي:
ص: 356
هذا و تنقسم مرحلة النشأة إلى مرحلتين:مرحلة القابلية للحياة،و مرحلة الحضانة الرحمية.
و تتضمن مرحلة القابلية للحياة عدة أمور منها:مرحلة التعديل(و هي مرحلة التقوّم و التوازن و التميز الجنسي)و نمو الحجم،و هي أقل مدة الحمل.
أما مرحلة الحضانة فتتميز بنمو حجم الجنين و إعداده للحياة خارج بطن الأم.
هي الجزء الأول من مرحلة النشأة و تمتد من الأسبوع التاسع إلى الأسبوع الرابع و العشرين.
تبدأ هذه المرحلة في الأسبوع التاسع و تنتهي بانتهاء مرحلة النشأة.
التسوية هي عملية أقوى بفعلها من التعديل،لذا سبقت التسوية التعديل،و من الطبيعي أنه بعد أن تتخلق الأعضاء الأساسية للجنين،تجرى عليه تعديلات لإتمام
ص: 357
صورته النهائية.فالتسوية هي إعطاء الجنين صورة إنسانية (1).و أما التعديل فهو إعطاء الجنين صورته الشخصية.
لذلك نجد أن الآية الكريمة ذكرت بعد التعديل تركيب الإنسان في صورته النهائية اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:7-8].
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]جاءت لبيان التعديل المذكور في القرآن.
و في اللغة العربية إذا جاءت جملة بعد جملة أخرى و لم يفصل بينهما بحرف عطف،فالأخيرة قد تعني البيان على سبيل التفسير أو الوصف أو التأكيد أو غير ذلك (2).
و هذا مندرج في علوم البلاغة؛ضمن علم المعاني،في مبحث«الوصل و الفصل»،و سقوط«الواو»هو الفصل،و محله في هذه الآية أن جملة فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]فصلت عن جملة فَعَدَلَكَ ،و سقطت الواو،لأن الثانية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]واقعة من الأولى موقع البدل أو عطف البيان، إذ هي بيان للأولى فَعَدَلَكَ ،فبينهما كمال اتصال،لأن الثانية بينت الأولى، و أفادت في إيضاحها،و من هنا سقطت الواو (3).
و بما أن كلمة«صورة»تعني:هيئة أو شكل (4)،و فعل«صوّر»:كوّن له صورة و شكلا (5)،و قد ورد هذا المعنى كبيان لفعل«عدلك»،فذلك يعني أن فعل عدّل يعني:أعطاه الشكل و الهيئة.
و هكذا فإن تعديل الجنين يكون بإجراء تعديلات أو تغييرات طفيفة عليه تعطيه اللمسة الأخيرة؛لتقويم أعضائه التي كانت قد تخلقت من قبل.».
ص: 358
و نجد في مرحلة التعديل أن الأذنين ترتفعان من أسفل الرأس على الجانبين إلى المكان الطبيعي،و يهبط الأنف من مستوى العينين إلى مكانه الطبيعي،و ينفصل الأنف عن الفم،فتظهر الشفة العليا للفم واضحة،و تتحرك العينان إلى مقدمة الوجه، كما أن الأمعاء تدخل إلى تجويف البطن بعد أن كانت في الحبل السري،و تظهر أظافر اليدين البدائية،و تظهر مراكز التعظم في غالب العظام...إلخ.و هكذا ينطبق المعنى الثاني لكلمة«عدل»على هذه المرحلة أ لا و هو ترسيم الشكل من خلال إجراء تعديلات بسيطة على الجنين.(انظر الصورة رقم:109).
ص: 359
و كلمة العدل تعني التقوّم و التناسب و التوازن بين الأشياء (1).
و هكذا فإن مرحلة التعديل هي حالة تقويميّة و توازنيّة للأعضاء بحيث يكون كل عضو متناسقا مع بقيّة الأعضاء.
و تغدو عملية التعديل مشاهدة بدقة بعد مرحلة التسوية التي تكون الأعضاء فيها غير متناسقة،فيكون حجم الرأس كبيرا بالنسبة إلى حجم الجسد.
ففي مرحلة التعديل تتغير مقاييس الجسم بحيث يصبح الطرفان السفليان أكثر طولا مقارنة بالجسم،و يتباطأ نمو الرأس (2)،فتتوازن أحجام الرأس و الأطراف(انظر الصورة رقم:110)،و تصبح مقاييسه متناسقة بحسب الصورة الآدمية (3)،و بذلك يتحقق معنى التوازن و التناسب الذي تشير إليه كلمة«عدل».
ص: 360
و نجد في مرحلة التعديل أن الجلد يتخلق،و تفصيله:أننا رأينا في مبحث اللحم السابق أن(طبقة العضلات MYOTOME )تنفصل عن القسم(الظهري الجانبي DORSOLATERAL )للكتل البدنية المسمى(بالقسم الجلدي اللحمي DERMOMYOTOME )،و بعد أن تنفصل طبقة العضلات عن القسم الظهري الجانبي يتفكك القسم المتبقي المعروف(بالقسم الجلدي DERMATOME )و ينتشر تحت (طبقة الخلايا الخارجية التي تغطي الجنين SURFACE ECTODERM )و يؤلف مع (الطبقة النسيجية الوسطى LATERAL MESODERM )الطبقة الميزانكيمية الباطنية للجلد،و هكذا تتأسس(طلائع الجلد الخارجية و الباطنية SURFACE ECTODERM AND MESODERM )بعد أن تتألف طبقة اللحم كما تحدثنا آنفا في هذا المبحث، و كما تشير إليه النصوص القرآنية و الحديثية.
و خلال الأسبوع السابع،أي بعد الأيام الاثنين و الأربعين الأولى التي ذكرها الحديث الشريف:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصورها، و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟» [أخرجه مسلم ح 45]،تفرز(الطبقة الخارجية SURFACE ECTODERM )(طبقة مسطحة من الخلايا PERIDERM )و تبدأ حينئذ عملية تخلق و تصور الجلد،و يتوالى إفراز خلايا الطبقة الخارجية،و تظهر ما بين اليوم الأربعين و اليوم الخمسين (1)،أي في الأسبوع السابع إلى الثامن،(الخلايا الملونة MELANOCYTES )في الطبقة الخارجية.و في الأسبوع العاشر تتشكل(أقواس في الطبقة الخارجية للجلد EPIDERMAL RIDGES ) (2).و في الأسبوع الحادي عشر-أي قبل أسبوع من انتهاء تميز الجنين تميزا جنسيا واضحا-تتخلق طبقة كثة من الخلايا الخارجية (3)تسمى:
(طبقة الخلايا المتوسطة INTERMEDIATE LAYER )بينما تفرز في نفس الوقت (الخلايا الميزانكيمية MESENCHYMAL CELLS )للطبقة الباطنية(نسيج مطاطي COLLAGENOUS AND ELASTIC CONNECTIVE TISSUE FIBERS ) (4).(انظر الصورة رقم:111).
ص: 361
و مع تخلق الطبقة الكثة للجلد الخارجي التي تجعل للجلد هيكلا خارجيا، و مع ظهور الخلايا الملونة و الأقواس الجلدية للطبقة الخارجية التي تعطي للجنين خواصّ شخصية مميزة (1)،و مع تخلق الخلايا المطاطية التي تضفي على الطبقة الداخلية للنسيج الميزانكيمي هيئة الجلد؛نستطيع أن نجزم أن الهيكل الرئيسي للجلد قد تخلق،مع أن تخلقه و تصوره لا ينتهي بصورة تامة إلا في حوالي الأسبوع العشرين.ي.
ص: 362
و نجد أن التميز الجنسي الظاهري يدخل في مرحلة التعديل،فالأعضاء التناسلية الخارجية تكون متماثلة إلى نهاية الأسبوع التاسع مع أن الغدتين التناسليتين للجنين قد بدأتا في التميز داخل بطن الجنين ابتداء من الأسبوع السابع تحت تأثير الصبغي(ص Y )،و من ثمّ يبدأ التميز البطيء التدريجي للذكورة أو الأنوثة الخارجية إلى أن يتحقق نهائيا في الأسبوع الثاني عشر،و ذلك بعد أن تكتمل الصورة الآدمية للجنين و يتخلق العظم و اللحم،و يتكون الجلد.(انظر الصورة رقم:112).
و تفصيل ذلك أن البدايات الأولية للأعضاء التناسلية الخارجية تكون متشابهة في بادئ الأمر بين الذكور و الإناث،و تبدأ بالتطور قبل اليوم الثاني و الأربعين في الأسبوع الرابع،إلا أن الحديبية التناسلية و الانتفاخ الشفري العجزي،و الطيات البولية التناسلية المنشئة للخواص الجنسية المميزة،لا تظهر إلا في الأسبوع التاسع و من ثمّ يبدأ التميز البطيء.(انظر الصورة رقم:113).
و الدليل الإضافي على أن تميز الشكل الخارجي للأعضاء التناسلية للجنين يأتي زمنيا بعد تميز الجلد هو:أن الأعضاء التناسلية الخارجية تتكون من نتوءات في الجلد.
و بذلك تتحقق المعجزة العلمية التي قالها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في حديثه حيث يستأذن الملك ربّه سبحانه و تعالى في جعل الجنين ذكرا أو أنثى:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك»[أخرجه مسلم ح 45].
و هكذا تثبت نبوة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من خلال النص القرآني: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة:39]لأن عملية التميز الجنسي تحصل بعد عملية التسوية.
و الجدير بالذكر أن مرحلة التعديل تغدو ظاهرة بوضوح في بداية المرحلة لهيمنة عمليات توازن الأعضاء و عملية الإذكار أو الإيناث و من ثمّ تخف تدريجيا و لا سيما بعد الأسبوع الثاني عشر،و لكن عمليات التعديل تظل تتلاحق بوتيرة أخف من السابق.
ص: 363
ص: 364
ص: 365
قد يتساءل القارئ:لما ذا يأتي الملك ليميّز جنس الجنين و قد تقدر جنسه في فترة إخصاب البويضة وفقا للآية: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19]؟:فالجواب أن هناك احتمالا أن تتطور الأعضاء التناسلية الخارجية للجنين في وضع مغاير لوضع جنس الجنين الوراثي الذي قدّر في مرحلة النطفة،فقد يتحدد جنس الجنين الوراثي أنه ذكر،و تتطور أعضاؤه التناسلية الخارجية كأنثى،و قد يتحدد جنس الجنين الوراثي أنه أنثى،و تتطور أعضاؤه التناسلية الخارجية كذكر،و هذا الحديث يلقي الضوء على هذه الظاهرة،و هي أن(جنس الجنين الوراثي GENETIC SEX )قد يختلف عن (جنس الجنين التشريحي PHENOTYPIC SEX ).
و هناك عدة أسباب علمية لهذا الانحراف،و سنورد أهمها للقارئ الكريم،حتى يتبين له مدى الإعجاز العلمي الذي يشير إليه الحديث الشريف.
و الحاصل أن التاريخ الجنسي للإنسان يتبع ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى:هي المرحلة الخلوية،حيث تحدد صفات الخلايا الجنسية؛هل هي ذكرية أم أنثوية؟تبعا لطبيعة الحيوان المنوي الذي سيخصّب البويضة؛هل هو حامل لإشارة الذكورة Y ،أم حامل لإشارة الأنوثة X ؟فإذا كان حاملا لإشارة الذكورة Y أصبحت الخلايا الجنسية خلايا جنسية ذكرية،و إذا كان حاملا لإشارة الأنوثة X أصبحت الخلايا الجنسية خلايا جنسية أنثوية (1).
-المرحلة الثانية:و تتبع المرحلة الأولى مرحلة التمايز الجنسي للأعضاء الداخلية.
ففي البداية تتماثل أجنة الجنسين،و يكون الجنين واحد الهيئة في الجنسين بمرحلة تعرف(بمرحلة عدم التمايز INDIFFERENT STAGE )،و توجد في الجنين أعضاء أوّلية،بهيئة قناتين في كل جانب من تجويف البطن في مقدمة كتلة الظهر، ينشأ منها الأعضاء الجنسية للنوعين.ففي حال كان الجنين يحمل خلايا جنسية ذكرية تتطور أعضاء جنسية داخلية ذكرية تحت تأثير(مورّث GENE )(ذات صفات سائدة DOMINANT )يقبع على طرف الذراع القصير للصبغية الجنسية المميزة للذكورة Y في منطقة تسمى:(منطقة تحديد الجنس SEX DETERMINING REGION OF Y CHROMOSONE:SRY )،و يحتوي على توجيهات وراثية تحدّد ذكورة الأعضاء».
ص: 366
التناسلية الداخلية؛فتتكون عندئذ من(قناة ولف WOLFFIAN DUCT )الأعضاء الجنسية الداخلية في الذكور،و تشمل:(الحويصلات المنوية SEMINAL VESICLES )و(البربخ EPIDIDYMIS )و(الوعاء الناقل VAS DEFERENCE )، و(الخصية TESTIS )،و إذا كانت الخلايا الجنسية أنثوية تتكون من(قناة مولر MULLERIAN DUCT )الأعضاء الجنسية الداخلية في الإناث،و تشمل:الرحم و قناتيه و عنقه و منطقة أعلى المهبل.(انظر الصورة رقم:114).
و لا تتمايز الأعضاء الجنسية الداخلية إلا في الأسبوع السابع.
ص: 367
-المرحلة الثالثة:و هي مرحلة تمايز الأعضاء التناسلية الخارجية إلى أعضاء تناسلية أنثوية أو أعضاء تناسلية ذكرية(كما أسلفنا تفصيله).
و يبدأ هذا التمايز في نهاية الأسبوع التاسع و ينتهي في الأسبوع الثاني عشر.
و الحديث رقم 45 يتناول هذه المرحلة.
و لعلّ ورود حرف العطف«ف»في النص القرآني: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:38-39]الذي يشير إلى الترتيب مع التعقيب، و التفصيل بعد الإجمال،يشير إلى أن تمايز الأعضاء التناسلية قد ابتدأ قبل هذه المرحلة،و هو الآن في طور التفصيل (1)،أي أن التمايز الجنسي قد ابتدأ في المرحلة الثانية كتطور تحضيري خفي،لم تظهر تفصيلاته للناظر،و ها هو الآن يظهر بالتفصيل،و بهذا الأسلوب جمع الحديث رقم 45 الكلام عن المرحلتين:الثانية و الثالثة،و لكنه أعطى كثيرا من التفاصيل عن المرحلة الثالثة.
و في الثدييات على وجه العموم،و عند الإنسان على وجه الخصوص إذا لم تنشأ خصية و تفرز هرمونات الذكورة(كهرمون التستسترون TESTOSTERONE ) و(هرمون أندروستنديون ANDROSTENEDIONE )و(الهورمون المثبط لقناة مولر ANTI-MULLERIAN HORMONE:AMH )،تتكون أعضاء تناسلية خارجية أنثوية (تلقائيا DEFAULT PATHWAY )،و تضمر قناة ولف،و ينتج المبيض(هورمون الأنوثة:الأستروجين ESTROGEN )،مهمته تكميل تطور قناة مولر،و الخصائص الأنثوية الثانوية؛كنضوج الثدي عند البلوغ.
و ليس ذلك السبب الوحيد لكي تتطور أعضاء تناسلية خارجية أنثوية،بل هناك أسباب أخرى تحول دون تمايز الأعضاء التناسلية الخارجية إلى أعضاء تناسلية ذكرية، مثل عدم تفاعل هرمون الذكورة(التستسترون TESTOSTERONE )جيّدا في الجسم، فيتخلّق لدى الجنين الذكر وراثيا أعضاء تناسلية أنثوية.
و من تلك الأسباب:عدم تأثر الأعضاء التناسلية للجنين لوجود هرمون الذكورة و لديها مناعة لمفعوله؛و قد يكون ذلك لعيب في(نظام الجنين الاستقبالي للهرمون».
ص: 368
ANDROGEN RECEPTOR MECHANISM ) (1)الذي لا يسمح بالتعرف على الهرمون الذكري و التفاعل معه حتى تسير الأعضاء التناسلية إلى شكل الذكورة،و قد يكون ذلك عائدا لنقص في إنزيم(ريدوكتاز 5 5 REDUCTASE )اللازم لتحويل هرمون (التستسترون TESTOSTERONE )إلى مادة(دي هايدرو تستسترون- DY-HYDRO- TESTOSTERONE )،المادة الأساسية لتحويل الأعضاء التناسلية الخارجية من الأنوثة إلى الذكورة.
و من تلك الأسباب أيضا نقص هرمون التستسترون لدى الجنين الذكر وراثيا، و ذلك لأن الأعضاء التناسلية للجنين غير قادرة على إنتاج هرمون التستسترون،لعدم تجاوب الخصية لدى الجنين مع هرمون(أل أتش LH )اللازم لوظيفة الخصية الحيوي لتمكينها من إنتاج هرمون التستسترون الذكري،فتسير الأعضاء التناسلية في خطها المرسوم عند عدم وجود التستسترون،و لذا تتجه إلى تكوين أعضاء تناسلية أنثوية خارجية كالمهبل،رغم وجود الخصية مختبئة في الشفرين أو في(القناة الأربية INGUINAL CANAL ).
و قد ينقص الجنين الذكر وراثيا هرمون (2)(الأم آي أس MULLERIAN INHIBITING SUBSTANCE:MIS )الذي يقمع تطور(الأنابيب التي سينشأ منها الرحم PARAMESONEPHRIC DUCTS )مما يؤدي إلى جنين يحمل علامات الذكورة خارجيا بالإضافة إلى رحم و قنوات فالوب.
كما أن هناك احتمالا أن يحصل العكس،أي أن يكون الجنين أنثى وراثيا، حاملا صبغيات(س س XX )،و لكن تتخلق لديه أعضاء ذكرية،و ذلك لأن(الغدة الكظرية SUPRARENAL GLAND )(فوق الكلية)تفرز في بعض الحالات هرمون الذكورة،فتتراكم لديه،و يتجه خط سير الأعضاء نحو الذكورة،و ينمو البظر نموا كبيرا لدرجة أنه يصبح يشبه القضيب،و يلتحم الشفران الكبيران مما يجعلهما يشبهان كيس الصفن-أي الكيس الذي يحتوي الخصيتين (3)-،و يحتفظ الجنين مع هذا بالرحم و المبيض.(انظر الصورة رقم:115).ف.
ص: 369
ص: 370
سؤال الملك في ذلك الوقت بالذات عن الإذكار و الإيناث مع العلم بأن تقدير جنس الجنين قد حصل في وقت الإخصاب،يدل على معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بما يجري في جسم الجنين من تأثير الهرمون على التخلق الخارجي للأعضاء.و هذا بحد ذاته معجزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،لأن مفهوم ظاهرة التوازن الهرموني لم يكن ليعرف إلا بعد اكتشاف التأثير الهرموني المخالف عما يجري لما قدرته الصبغيات-بإذن اللّه-.
و هذا لم يعرف أبدا في العصور الغابرة إلا في الآونة الأخيرة(في القرن العشرين)، و ذلك بعد اكتشاف تقدير جنس الجنين من قبل الصبغيات و بعد اكتشاف دور الهرمونات في تكوين الأعضاء التناسلية الخارجية.
ص: 371
و الموضوع المهم الذي يجب أن يؤخذ بنظرة جديّة و له علاقة جد وثيقة بتخلق الجنين في رحم الأم،هو موضوع«العدّة»لأن تاريخه الزمني يقع ضمن فترة القابلية للحياة.
و قد ذكر القرآن الكريم عدّة المرأة في موضوعات متعددة،نتناول ثلاث آيات لهذا الغرض.
أما الآيات القرآنية الثلاث فهي:
* وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً...
[البقرة:228].
* وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً...
[البقرة:234].
* وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ... [الطلاق:4].
جاء في لسان العرب (1):«القرء:الوقت،...و الأصل في القرء الوقت المعلوم و لذلك وقع على الضدّين/أي على الحيض و على الطهر/».
نفهم من التفسير الذي ذكرناه آنفا أن«القرء»كلمة تشير إلى وقت محدد؛ و لذلك فقد تطلق على الحيض،و قد تطلق على الطهر.
«قال الشافعي رحمه اللّه:القرء اسم للوقت،فلما كان الحيض يجيء لوقت،و الطهر يجيء لوقت جاز أن يكون الأقراء حيضا أو أطهارا» (2).
و الفاصل في هذا الأمر هو في رأينا،سياق النص الشرعي؛فهو خير دليل على المعنى المشار إليه.
و الغرض من فرض العدّة على المرأة هو براءة الرحم،و اللّه أعلم...لأن اللّه تعالى قال: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [البقرة:228].
و الذي يدلّ على براءة الرحم هو الحيض لا الطهر.
ص: 372
فالمرأة إذا مرّ عليها ثلاثة أطهار لم يدل ذلك على أنها حامل أو لا،لأن الطهر يأتي على المرأة الحامل و غير الحامل،أما إذا جاءتها ثلاث حيضات فذلك يدلّ قطعا على أنها غير حامل،لأن الحيض لا يحصل خلال الحمل.
و هكذا فإن الحيض هو الأساس في الحكم على براءة الرحم.
و مما يدعّم مقولتنا هو الآية: وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
فهذه الآية جعلت مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض،فدلّ ذلك مرّة أخرى على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض.
و لكن اللافت للنظر هنا هو تحديد عدد القروء على أنّه ثلاث من أجل تبرئة الرحم.
فما الإعجاز في ذلك التشريع؟.
حاصل الكلام هو أنه من الممكن أن تحمل المرأة و أن تحيض مرة أولى(أي أن يسيل من رحمها دم لا أن تحيض بمعنى أن يسقط غشاء الرّحم بأكمله)ثم تحيض مرة ثانية،و لكن لا تستطيع أن تحيض مرة ثالثة،و بعدم وجود الحيض في المرة الثالثة يثبت الحمل بيقين.فالحيضتان(الأولى و الثانية)ليستا بدليل قاطع على أن المرأة غير حامل.
قبل أن نورد تفسير الدكتور جولي سمبسون لهذه الظاهرة نفيد أن الرحم في الأسبوع الثاني تزداد دمويته بشكل ملحوظ،و بالتالي فإن الرحم عرضة لأن ينزف نتيجة لزيادة الدورة الدموية عند أي مداخلات خارجية.أما ما يحصل عند المرأة مما يسبب حيضتها الأولى و الثانية،فيفسره لنا الدكتور جولي سمبسون (1)قائلا:
1-عن فترة الجنين في فترة العلقة:«لكي يحاط الجنين(بالأغشية)فمن البديهي أنه يجب على الجنين أن يحفر لنفسه مكانا في رحم الأم...و هذه الظاهرة تحدث في الحالة المثالية...بعد ستة أو سبعة أيام من يوم(الجماع)...و هذا (الحدث)قد يكون واحدا من التفاسير للنزيف في الفترة المبكرة للحمل».فالحاصل أن العروق الدموية تنقطع عند«قضمها»من الخلايا الآكلة للكرة الجرثومية و يحدث نزيف حاد حول مكان الحفر.م.
ص: 373
2-عن الجنين في الأسبوع الثامن:«يفرز هرمون(البروجسترون PROGESTERONE )(الذي يحافظ على الحمل)من المبيض خلال فترة الحمل إلى الأسبوع السابع(أو الأسبوع الثامن)...و من ثم يفرز من الغشاء المشيمي.
و في الوقت الذي ينتقل هذا الإفراز الهرموني من المبيض إلى الغشاء المشيمي من الممكن أن يحصل انخفاض في معدلات هرمون البروجسترون،بالتالي فإن تفسيرا ثانيا...لهذا النزيف خلال فترة الحمل...هو انتقال الإفراز الهرموني من (المبيض)إلى الغشاء المشيمي الذي يحصل خلال فترة الأشهر الثلاث».
و مما ذكرناه يتبين لنا أن هناك أسبابا علمية لكي تتربص المطلقة مدة ثلاث حيضات،ذلك أن خروج الدم من رحم المعتدّة في هذه الفترة لا يعني أبدا أنها غير حامل،بيد أن توقّفه في نهايتها يدل على العكس(أي أنها حامل).و هكذا عند ما يتيقن زوج هذه المرأة من حملها فمن الممكن أن يراجع نفسه و يسترجعها بغية عدم تدمير عائلة ناشئة،أو لكي ينعم الطفل الآتي برعاية الأمومة و الأبوة في آن واحد، و إلى ذلك تشير الآية: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة:228].
أما الآية الثانية فتحدد عدة المرأة التي توفي عنها زوجها أنها أربعة أشهر و عشرة أيام و ذلك للتأكد من براءة الرحم.
فالحكمة في عدّة المتوفّى عنها زوجها هو أن الأم الحامل في نهاية الأسبوع التاسع عشر تحس بحركات الجنين الإرادية،و أما قبل ذلك فحركات الجنين محدودة لا تشعر الأم بها و لا تحس بأن الجنين حي (1).ل-
ص: 374
و إذا مرّت الأشهر الأربعة و عشرة الأيام،و لم تشعر المرأة بحركة الجنين، تتيقّن ساعتئذ بأن الجنين مات في أحشائها (1)،فتباشر في إزالته بالطرق الطبية.
و إذا شعرت الأم بالحركة،فعدّتها وضع حملها لقوله تعالى: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
و في بعض الحالات قد يطرأ على المرأة حمل كاذب لسبب ما،و هذا معروف في مجال الطب (2)،فإن لم تشعر المرأة بحركة الجنين عند انتهاء العدّة و هي أربعة أشهر و عشرة أيام تتيقّن أن حالتها غير طبيعية،فتسارع إلى الطبيب للكشف عن وضعها،فيظهر من خلال الوسائل الطبية بأنها غير حامل،فيثبت بذلك براءة رحمها بانتهاء عدة الوفاة.
و إن لم تذهب إلى الطبيب بزعمها أنها حامل فتعتدّ المدة العادية و قدرها تسعة أشهر،و هنا يتبيّن لها أنها غير حامل بيقين (3).ن-
ص: 375
ص: 376
ص: 377
و مدّة عدّة الوفاة قدرها أربعة أشهر و عشرة أيام كما تعلمنا الآية: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً... [البقرة:234].
و المدة التي ذكرها القرآن تنبئ عن إعجاز معرفي لمراحل تخلق الجنين،فهي تحدد أقل مدة تحس فيها المرأة بالغالب بحركات جنينها،فكيف لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يذكر هذه المدة الدقيقة و لا يستطيع أحد في زمانه أن يأتي بمدة كلية عامة لكل نساء العالمين؟!.
و بهذا يكون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد سبق أهل زمانه و أهل الاختصاص في عصرنا، و هذا يدل دلالة واضحة على أن الذي أعطاه هذا العلم ليس فكرا بشريا و إنما هو وحي إلهي.
و الأدلّ من ذلك على نبوّته و رسالته:هو تحديد المدة برقم معيّن و هو أربعة أشهر و عشرة أيام،لأننا نستطيع أن ننقض نبوته و رسالته من خلال هذه المدّة إن كانت خطأ.».
ص: 378
و إمكان النقض ليس في هذه المسألة فقط،بل هنالك مسائل أخرى أدق منها، مثل مسألة تخلق أعضاء الجنين في أربعين يوما (1).
و انظر أيها القارئ الكريم إلى ما توصل إليه العلم اليوم من خلال الأبحاث الدقيقة التي تعتمد على الاستقراء و التتبع و كشف الحقائق:
فالعلماء حدودا مدة الحمل ب 38 أسبوعا من بداية وقت تخصيب البويضة إلى الولادة،أي 266 يوما (2).
و عيّنوا(متوسّط MEAN )مدة مرحلة إحساس الأم بحركة جنينها إلى وقت الولادة ب 147 يوما مع احتمال(انحراف قياسي STANDARD DEVIATION )15 يوما (3).
فمتوسط مدة المرحلة التي بين تخصيب البويضة و إحساس الأم بحركة الجنين تحسب باختزال متوسّط مدة مرحلة إحساس الأم بحركة الجنين إلى وقت الولادة (و هي 147 يوما)من مدة الحمل(و هي 266 يوما)،فيصبح متوسّط المدة التي بين التخصيب و إحساس الأم بحركة الجنين 119 يوما.و بما أن النساء يتفاوتن من ناحية الإحساس بحركة الجنين لعدة أسباب فهناك احتمالات بأن تحس المرأة بحركة الجنين قبل أو بعد هذه المدة،و كلّما تباعدت الفترة عن الوقت المتوسط قلّت الاحتمالات بإحساس المرأة بجنينها،و كلّما اقتربت الفترة من الوقت المتوسط زاد هذا الاحتمال.
و هكذا فإنّ احتمال إحساس المرأة بحركات الجنين يتبع(نظاما حسابيا للتوزيع NORMAL DISTRIBUTION )،مع(متوسط MEAN )مقداره 119 يوما من بداية تخصيب البويضة،و(انحراف قياسي STANDARD DEVIATION )مقداره 15 يوما.
أما القرآن فيحدّد عدة الوفاة بأربعة أشهر و عشرة أيام،و أربعة أشهر توازي 118 يوما و نصف يوم(6,29*4 4,118) (4)،و هي نفس المدة تقريبا لمتوسط الوقت لإحساس المرأة بجنينها من وقت إخصاب البويضة و هو 119 يوما!!!.ا.
ص: 379
و هذا التحديد لعدة المرأة(4 أشهر و 10 أيام)قد أطلقه القرآن الكريم احتياطا، تمديدا لمدة براءة الرحم و للتيقن من الحمل على وجه التأكيد،و بذلك فهو يعتبر أقل عدد لأغلب الحالات التي تحس بها المرأة بجنينها.
و هذه الحقيقة أشير إليها في البحر المحيط (1):«...و زاد اللّه العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين،أو مراعاة لنقص الشهور و كمالها،أو استظهارا لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين».و جاء في تفسير الألوسي (2):«و زيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادئ فلا يحس بها».
و أقل عدد نستطيع أن نعتمده للإشارة إلى أغلب الحالات التي تشعر المرأة بجنينها هو 75%،فهذا العدد يمثل ثلاثة أرباع الحالات التي يمكن أن تحدث،و هو ليس بقريب من العدد المتوسط لإحساس المرأة بجنينها-50%-بحيث لا نعتبره العدد الغالب.
فإذا اعتبرنا أن الأيام العشرة هي انحراف عن المتوسط و هو 119 يوما،أصبح احتمال إحساس المرأة بجنينها 75%!!!حسب النظام الذي ذكرناه آنفا(أي حسب النظام التوزيعي ذي متوسط مقداره 119 يوما،و انحراف قياسي مقداره 15 يوما) (3).-
ص: 380
ص: 381
ص: 382
ص: 383
ص: 384
(3) -جاء في الآية: وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ... [الكهف:17].و لغرض الانسجام،راعى الشرع المقام،و ضرب آخر الكلام بأوله، و عطفه عليه،و هو أسلوب متّبع في غير موضع من القرآن الكريم(انظر الحاشية(رقم 1،ص 106- 109)من مبحث«النطفة»).
و أما الموضع الثاني الذي جاء فيه أسلوب التقسيم المعهود فتفصيله كالآتي:
الآية المعتبرة هي: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ [العنكبوت:14].
نلاحظ في هذه الآية أن اللّه تعالى لم يقل تسعمائة و خمسين سنة،كما نعتاد أن نعد،و لكن قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً ،فأظهر بهذه الكلمات فترتين:إحداهما أساسية(ألف سنة)،و الأخرى فرعية:و هي خمسون عاما،و دعّم هذا التمييز بذكر كلمتين مختلفتين:(سنة،عام)لهما دلالات مختلفة،تشير إلى حقبتين مختلفتين في محتواهما.
فكلتا الكلمتين تشير إلى الحول في اللغة العربية(أي إلى السنة في المفهوم العامي)،و لكن لهما دلالات إضافية غير دلالة الحول،فكلمة(سنة)تشير في اللغة العربية في كثير من الأحيان إلى فترة صعبة تمرّ على الإنسان،و كلمة(عام)تشير إلى فترة رخاء تمرّ على الإنسان.
جاء في لسان العرب(باب سنت):«أسنتوا،فهم مسنتون:أصابتهم سنة و قحط و أجدبوا...و في الحديث:و كان القوم مسنتين،أي مجدبين،أصابتهم السنة،و هي القحط و الجدب،أسنت فهو مسنت،إذا أجدب».
أما عن الدليل القرآني أن المراد من الكلمتين(سنة و عام)هو(الشدّة و الرخاء)،فلقد قال اللّه تعالى في سورة يوسف،على لسان يوسف عليه السّلام،عن الحقبة الزمنية العصيبة التي أتت على أهل مصر بما فيها من قلّة المئونة: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ(47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ(48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)[يوسف:47-49].فأسند الشدّة للسنين الآتية لما سيأتي على القوم من قلّة المئونة،و أسند الرخاء للعام الآتي لما سيكثر فيه من الخصب.
كذلك تكرّرت هذه الدلالات في سورة الأعراف،و هي: وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]،حيث قرن فيها اللّه تعالى السنين بنقص الثمرات.
أما عن دليل السنّة،فقد جاء حديث جليّ الدلالة على أن السنة في المفهوم النبوي هي الحول الذي قلّت خيراته،و هو:أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ليست السّنة بأن لا تمطروا،و لكن السّنة أن تمطروا و تمطروا،و لا تنبت الأرض شيئا»[أخرجه مسلم ح 114].
و عودة إلى آية رقم 14 من سورة العنكبوت،استنتج بعض العلماء من الألفاظ المذكورة،و من الصيغة التي نحن بصدد تفصيلها الآن أن هناك فترتين عاشهما نوح عليه السّلام:إحداهما تسعمائة و خمسون سنة، و هي فترة إيذاء و تحدّي للنبي نوح عليه السّلام لبعثته فيها،و أخرى عاشها برخاء و طمأنينة بعد البعثة،و قد اختلفوا في مقدارها.
جاء في تفسير روح البيان للبروسوي في صدد تفسير الآية المعتبرة:«[إلا خمسين عاما]،العام-
ص: 385
و حسب الجداول الحسابية التي وضعها العلماء (1)،و هو نفس العدد الذي اعتمدناه و الذي يمثل أقل عدد لحدوث أغلب حالات إحساس المرأة بجنينها،و هو بذلك يطابق المعطيات الحسابية العلمية بدقة بالغة.
و من هنا نجد أن القرآن الكريم قد سبق علماء الأجنة في اكتشاف هذه المدة قبل 14 قرنا.
و للعلم أن القرآن ليس كتابا طبيا و لكن دستورا للعقيدة و العبادة و تعامل بني الإنسان و علاقاتهم مع بعضهم،و هو إذ يسوق بعض الأمور العلمية فإنما يسوقها لإبراز التوافق و التوأمة بين القانون الطبي و النظام التشريعي،و للاعتبار و ازدياد اليقين و الإيمان،و ليظهر بأن واضع هذا القانون و ذاك النظام هو الإله الواحد الخالق البارئ الذي يعلم الظاهر و الباطن.
و هنا نصل إلى تحقيق مهم هو:أن العلم التجريبي بما وصل إليه من تطور هو الكفيل بإثبات حقية القرآن و صحة دين الإسلام،و هذه دعوة مفتوحة إلى كل غافل و شارد و كل متعلم و مثقف ليقف على هذا الأمر،و يتحقق بموضوعية حتى يصل إلى الحقيقة.
إلى هنا تنتهي الفترة الأولى من النشأة بعد مضي ستة أشهر على الحمل و تسمى بفترة القابلية للحياة؛لما ذا؟لأن أقل مدّة للحمل هي ستة أشهر و تفصيلها ما يلي:
*قال جلّ و علا: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]
*قال اللّه تعالى: وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان:14]
ص: 386
نستنتج من خلال الآيتين أن أقل مدة الحمل هو ستة أشهر،و ذلك أن الآية الأولى تنصّ على أن الحمل و الفصال(أي الفطام)يستغرقان ثلاثين شهرا،و الآية الثانية تنص على أن الفصال في عامين،أي أربع و عشرون شهرا،فإذا اختزلنا فترة الفصال من فترة الحمل و الفصال،تكون فترة الحمل ستّة أشهر و هي أقلّها،لأن الحمل عادة يستغرق تسعة أشهر.و هذا ما استنبطه علي و ابن عباس رضي اللّه عنهما و روي:
«أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحدّ،فقال له علي رضي اللّه عنه:ليس ذلك عليها،قال اللّه تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ،و قال تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة:233]،فالرضاع أربعة و عشرون شهرا و الحمل ستة أشهر،فرجع عثمان عن قوله و لم يحدّها» (1).
و العلم الحديث يثبت هذا الاستنباط الدقيق عن علي و ابن عباس-رضوان اللّه عليهما-فالأطفال الذين يولدون بعد ستة أشهر و قبل استكمال تسعة أشهر، يوضعون في(الحاضنات الاصطناعية COUVEUSE )تحت العناية المشدّدة حتى يتمكنوا من العيش،إذ قبل مدة ستة أشهر لا يمكنهم الحياة.
و يفسر لنا الدكتور شارل رو (2)هذه الحقيقة قائلا:«إنّ الجنين في بطن أمه يعيش في محيط مائي و يستخرج الأوكسيجين من هذا المحيط (3)،و لكي يستطيع الحياة خارج بطن أمه يلزم عليه أن يتنفس الهواء بدلا من استخراجه من محيطه المائي،و ذلك يعتمد على نضج رئتيه،و نضج المراكز العصبية الموجودة في النخاع الشوكي التي تتحكم بها.أما نضج الرئتين فلا يتم إلا بعد مضي ثمانية أشهر و لكنها تستطيع أن تبدأ التنفس قبل ذلك بكثير،ذلك أن نضجها يعتمد على عنصرين أساسيين،و هما:
أ-(النخاريب ALVEOLA )(و هي أكياس صغيرة موجودة في الرئتين يتم عبرها التبادل الغازي)
ب-(الأوعية الشعرية VASCULAR CAPILLARIES )(و هي تحمل الدم الذي ينقل الغازات).ي.
ص: 387
إن خلق النخاريب يبدأ في الشهر السادس من الحمل و ينتهي في نهاية الحمل، و من الممكن أن يمتد بعد هذه الفترة إلى السنة الأولى(أي بعد ولادته).
أما الأوعية الشعرية فترتبط بالنخاريب ارتباطا حميما خلال الشهر السادس.
و بهذا يكون الجنين قادرا نظريا على الحياة خارج الرحم(إذ أنه يستطيع التنفس و ذلك لأن العناصر الأساسية للتنفس قد تخلقت).لذا يجب اعتبار الشهر السادس أقل مدة الحمل التي نتوقع من بعدها أن يعيش المولود الجديد.
إن العنصر الأساسي للتنفس هو إفراز مادة(السور فاكتنت SURFACTANT )من قبل النخاريب.هذه المادة الدهنية تمكن النخاريب من التمدد بشكل ثابت و تمنعها من التحطم خلال الزفير».(انظر الصورة رقم:116).
و«إفراز مادة السور فاكتنت يبدأ[تحديدا]من الأسبوع العشرين و لكن كمياتها قليلة جدا في الأطفال الذين يولدون قبل الموعد المحدد،و لا تبلغ معدّلا مقبولا إلا في الفترة المتأخرة من المرحلة الجنينية...فالعنصر الأهم الذي يخوّل الأطفال الذين يولدون في فترة مبكرة من الحمل ليس هو وجود(أكياس طرفية رقيقة في النهايات الرئوية THIN TERMINAL SACS )أو(أغشية النخاريب البدائية PRIMORDIAL ALVEOLAR EPITHELIUM )بقدر ما هو تطور مقبول للأوعية
ص: 388
الرئوية و وجود كمية كافية من مادة السور فاكتنت» (1)،و بالتالي«فإن الأجنة التي تولد فيما بين أربعة و عشرين و ستة و عشرين أسبوعا من عملية التخصيب[و قبل الموعد المحدد]تستطيع أن تعيش إذا اختصّت برعاية فائقة» (2).
غير أن هناك احتمالا أن تموت الأجنة التي تولد ما بين 22 إلى 25 أسبوعا في الطفولة المبكرة،لأن جهازهم التنفسي غير ناضج (3)،أما الأجنة التي تولد بعد هذه الفترة فكثيرا ما تعيش لأن جهازها التنفسي يستطيع أن يتنفس الهواء.
و كما نعلم فإن الشهر القمري يتألف من 6,29 يوما،و ستة أشهر قمرية تعادل (6*6,29 )6,177 يوما،أو(6/7,177 )25 أسبوعا و يومين(إلى ثلاثة).
و هكذا فإن الفترة التي حددها القرآن الكريم هي الفترة العملية العلمية الدنيا (25 أسبوعا زائد+ WEEKS 25)التي يعيش من خلالها الأطفال الذين يولدون قبل الموعد المحدد (4)..-
ص: 389
(4) -و للعلم فإن فترة السبعة و العشرين أسبوعا من أول يوم للدورة هي الفترة التي أشارت إليها النصوص القرآنية(ستة أشهر قمرية أو حوالي خمسة و عشرين أسبوعا)،و هي مؤلفة من فترة أسبوعين،تحتسب من أول يوم للدورة إلى أن يحين موعد الإباضة،زائد فترة 25 أسبوعا،تحتسب من بداية تلقيح البويضة إلى ولادة الطفل،و ذلك أن القرآن الكريم يعتمد أول يوم من الحمل بداية عمر الجنين لأن الآية القرآنية ذكرت كلمة حمل في الآية: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]و لم تذكر كلمة «دورة»أو كلمة«حيض»أو ما شابه ذلك.و إذا اعتمدنا المنطق فإن احتساب عمر الجنين من بداية تلقيح البويضة-كما أشار إليه القرآن-منطقي أكثر لأن الجنين لم يخلق في أول أسبوعين.
2-إن النصوص القرآنية لا تشمل التدخلات الطبية مثل إعطاء عقاري الكورتيزون و السورفاكتنت للطفل الذي يولد قبل فترة ستة الأشهر قمرية،و التي تساهم في تحسين معدل البقاء على الحياة،الذي قدر بحوالي 20% للأطفال ذوي الوزن أقل من 1000 غرام*****،لأن النصوص القرآنية عالمية******،أي أنها لكل الشعوب و لكل الأزمنة.فليس كل المجتمعات في الكرة الأرضية لها العلم الكافي و الوسائل التقنية المتقدمة لكي تتدخّل طبيّا،و بالتالي تحسّن من فرص بقاء المولود على الحياة.كذلك ليس لكل المجتمعات عبر التاريخ الإمكانية الطبية المذكورة،و التقدم العلمي يعود لقرون،بل لسنوات قليلة مضت.
3-لأن الأطفال الذين يولدون قبل 25 أسبوعا من الحمل،أي ما دون 1000 غرام،تكثر لديهم أمراض شتى،مثل:أمراض الرئة المزمنة(كمتلازمة الضائقة النفسية RESPIRATORY DISTRESS SYNDROME:RDS )،و(الالتهاب المعوي القولوني الناخر NECROTIZING ENTEROCOLITIS )، و(نزيف دال المخ INTRAVENTRICULAR HEMORRAGE )من الدرجة الثالثة و الرابعة،و يعاني بعضهم-كما تشير إليه دراسات شتى-من شلل مخي أو ضعف حركي،أو من مشاكل في الجهاز السمعي أو البصري،و تأخر في التطور و النمو،و تأخر في النطق،و انخفاض معدّل الذكاء...
إن معدل المرضيّة(الإعاقات و التخلف)للخدّج(ذوي الوزن البالغ الانخفاض عند الولادة EXTREMELY LOW BIRTH WEIGHT )(دون 1000 غرام،المرادف لستة أشهر قمرية)تزيد عن النصف و هي أقرب إلى الثلثين....
4-إن الآية غير معنية بالحالات الخاصة،و الشاذة،أو النادرة التي تقع بين حين و آخر،حيث يولد أطفال ما بين 20-25 أسبوعا من العمر(من أول يوم للدورة)،و لديهم نضوج شبه كامل للرئتين، فهذا يعود سببه-حسب اعتقاد العلماء-لتعرّض الأم الحامل،أو المشيمة،أو الجنين لضيق أو شدّة.
و لمزيد من التفاصيل حول موضوع بقاء الخدّج على الحياة،أو نسب المرضية التي تحصل لهم الرجاء مراجعة البحث الذي قدّمه د.فواز صادق المزيني في المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن و السنة،22-24 مارس 2004 م،دبي الإمارات العربية المتحدة.
و بناء على ذلك فإن الفترة المنصوصة هي الفترة التي يعيش بها المولود بالغالب،و بدون أمراض تذكر. و في النهاية نود أن نشير إلى أن جلّ الدراسات العلمية للأطفال الخدّج تعتمد على الوزن أكثر من اعتمادها على العمر الجنيني بالأسابيع،و احتساب معدّل البقاء على الحياة بحسب العمر الجنيني أدق من احتسابه بحسب وزن الجنين،لأن وزن الجنين غالبا ما ينقص(أو يزيد).-
ص: 390
و من المهم أن ننوّه إلى الفائدة التي تقف وراء تنصيص الآيات القرآنية على فترة ستة الأشهر دون تسعة الأشهر.فالحاصل أن فترة تسعة الأشهر معروفة لدى الجميع على عكس فترة ستة الأشهر التي هي أخفى مدد الحمل(6،7،8،9 أشهر) و التي لم يعرفها العرب آنذاك.و الدليل على ذلك أن الصحابة تحيّروا في أمر المرأة المتهمة بالزنى،و استلزم الأمر استشارة بعضهم البعض،و لم يتبيّن الأمر إلا بعد الاعتماد على نصوص الوحي كي يعرفوا أدنى مدّة حمل،فالآيات القرآنية نصّت صراحة على الخفي من مدّة الحمل،و ضمنا على الجلي منها لوضوحه (1)،و من خلال تلك الحوادث التي يحدثها البارئ عزّ و جلّ يظهر أميّة مجتمع شبه الجزيرة العربية،و علو أحكام القرآن الكريم على الأفكار السائدة في مجتمعهم،فيظهر الإعجاز العلمي الكامن من الآيات القرآنية وفقا للآية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) [فصلت:53].
كما أن هناك فائدة أخرى تستلزم تنصيص مدّة ستة الأشهر و هي:أن الآية القرآنية التي تكلّمت عن الحمل و الفصال جاءت في معرض المنّة،و بيان مدى تعب الأم في حملها و إرضاعها لولدها،حيث يستلزم ذلك البر بها،و الإحسان إليها، و الشكر لها،كما نراه في الآية: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً [الأحقاف:15]، لهذا أثنى اللّه تعالى على من يعرف فضل الوالدين عليه،و يدعو لهما قائلا: حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)[الأحقاف:
15].فترك مدة الحمل الأخرى مطوية ضمن العقد هو لظهور المنّة فيها من باب).
ص: 391
أولى.فإذا كان الشكر واجبا على فترة الحمل الدنيا للكره الذي يرافقها،فذلك يشير إلى وجوب تأدية المزيد من الشكر للمرأة الحامل التي اعتادت مدّة الحمل الطبيعية و التي يلحقها كره أكبر،و هذا يتناغم مع النهي عن أدنى العقوق في قوله تعالى:
وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً(23) [الإسراء:23]،إذ يستلزم ذلك النهي عن ما هو أكبر من ذلك في العقوق.
و لا يجب أن ننسى أن اللّه تعالى ذكر مدّة ستة الأشهر لغرض التعميم،أي تعميم أحكام الآية على كل النساء الحوامل،فذكر المدّة الدنيا هو بمثابة ذكر القاسم المشترك الأصغر بين جميع مدد الحمل،فالمدد الأخرى كمدّة سبعة الأشهر،و مدّة ثمانية الأشهر،و مدّة تسعة الأشهر،تتألف كلّها من مدّة ستة الأشهر مع زيادة المتبقي من الأشهر على المدّة المعتبرة،و لو ذكرت الآية مدّة الحمل القصوى لأسقطت باقي المدد،و لاقتصر واجب الشكر على المرأة التي تلد في المدّة الطبيعية.
و بهذا الأسلوب كانت الآية عامة،شاملة،تتضمن إعجازا علميا فريدا،يمتزج بحكمة الشكر بأبلغ تعبير.
و من الكلام السابق نرى أن أقل مدة حمل هي ستة أشهر،و بذلك تنتهي فترة القابلية للحياة لتبدأ فترة الحضانة الرحمية.
مصطلح الحضانة الرحمية وضع من قبل العلماء لأن الرحم يكون بمثابة حاضن للطفل و هو ليس عنصرا أساسيا للتخلق.
تمتد هذه الفترة من الأسبوع الرابع و العشرين(أي من نهاية ستة أشهر من الحمل)إلى نهاية الحمل،أي إلى نهاية الأسبوع الثامن و الثلاثين من بعد إخصاب البويضة.
يقول الدكتور كيث مور (1):«هذه المرحلة تدل على المرحلة الأخيرة من الحمل،في الوقت الذي يستطيع الجنين أن يعيش إذا ولد قبل أوانه،و لكنه يبقى في الرّحم حيث تدعمه الأم و تغذيه.
ص: 392
في أكثر الأحوال،إذا،يلعب الرحم دور حاضن للمولود قبل أوانه.
إن الوزن الذي يكتسبه الجنين في الأسابيع الأخيرة مدهش،إذ إن الجنين يكتسب موادّ دهنية و يهيأ تدريجيا للولادة».
و من كلام الدكتور كيث مور نفهم أن دور الرحم في هذه الفترة هو دور الحاضن.
في هذه الفترة ينمو الجنين بشكل ملحوظ من جراء التغذية التي يتلقاها محققا المعنى الثاني لكلمة نشأة«نما»،و يتحقق المعنى الثالث من كلمة نشأة«ارتفع و ربا» حيث يزداد معدل طول الجنين بشكل ملحوظ و إن كان بطيئا.
ص: 393
*قال العليم: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ(22) [عبس:17-22].
قال ابن عباس رضي اللّه عنه،في تفسير الآية ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ :ثم يسّر عليه خروجه من بطن أمه،و كذا قال عكرمة و الضحاك و أبو صالح و قتادة و السدي و اختاره ابن جرير (1).
إذا أمعنّا النظر إلى الآيات الكريمات لوجدنا أننا في مرحلة زمنية يمرّ بها الإنسان ابتداء من خلقه كنطفة إلى أن يخرج من بطن أمه حتى يدركه الموت (2).
إذا تتبعنا تاريخ الجنين بدء من وقت تلقيح الحيوان المنوي للنطفة إلى كماله و خروجه من رحم أمه لوجدنا أنه لو لا رحمة اللّه-سبحانه و تعالى-لم يكن ليخرج من هذا الرحم و ذلك لعدة أسباب:
أولا:إن كمية من المخاط تسد مدخل الرحم لكي تحفظه من البكتيريا الهاجمة من الخارج،إلا أنها تسقط عند ما يحين وقت خروج الطفل.
ثانيا:إن هرمون(الرولاكسين RELAXIN )الذي يفرزه المبيض و المشيمة يرخي مفاصل الحوض،كما أنه يرخي عنق الرحم.
ص: 394
ثالثا:إن الهرمونات التي تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم تنقطع فتزعزع وجود الجنين و تهيئه للخروج.
رابعا:إن تقلصات الرحم تبدأ في منطقة الرحم العليا المؤلفة من عضلات التقلص كما أن التقلصات تكون منتظمة بحيث تكون خفيفة في البدء ثم تشتد متقاربة،و هكذا تدفع بالجنين إلى خارج الرحم بسهولة و بطريقة آمنة.فلو أن الرحم انقبض دفعة واحدة لكان معناه الموت المحتم لعدم إمكانية خروج المولود بالحال، و لنقص ورود الدم إليه عبر المشيمة.
خامسا:«إن غشاء المشيمة يتمدد في وقت الحمل و يتسرب في عنق الرحم مما يؤدي إلى توسع عنق الرحم.و بعد هذا ينفجر الغشاء المشيمي و يخرج ماؤه الذي يؤهل طريقا يساعد الجنين على الانزلاق من عنق الرحم» (1).و من المعلوم أن عنق الرحم عادة لا يتسع دخولا لأكثر من إصبع صغير و أما فتحة المهبل فلا تتسع دخولا لأكثر من ثلاثة أصابع.
سادسا:إن سلسلة من التغيرات تطرأ على وضع المولود تسهل خروجه عبر تجويف الحوض؛لأن قناة الولادة تشكل ممرا يصعب على الجنين المرور فيه.
تلك التغييرات هي:دوران داخلي،تمدد،إعادة و دوران خارجي،نزول، التواء (2).(انظر الصورة رقم:117).
سابعا:إن زوايا الحوض تنفرج لتجعل ما بين الرحم و قناة المهبل سبيلا واحدا ليس فيه اعوجاج مما يسهل على الجنين المرور فيه،و يكون الرحم عادة مائلا إلى الأمام بزاوية قدرها تسعون درجة تقريبا بالنسبة إلى قناة المهبل.
ثامنا:إن حجم الجنين أكبر بكثير من حجم مخرج الرحم،و هذا يعني أن عملية خروج الطفل من الرحم صعبة للغاية.و ما يسهل عليه عملية الخروج هو ارتفاع معدل بعض الهرمونات في دم الجنين،و لولاها لما تحمل الجنين الضغط الهائل الناجم عن عملية الخروج،و عبارة الدكتور لارس هامبرغر (3)تصور لنا هذه الحالة جيدا:«لن تفرز أبدا فيما بعد،في حياة الطفل،هذه الكمية من الهرمونات المضادة للألم،و هذا يفيدنا عن مدى ألم الولادة،و عن مدى تهيئة الطفل للألم».1.
ص: 395
ص: 396
إذا جمعنا نصوص الكتاب و السنة وجدنا أن بعضها يكمّل الآخر،مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة في الزمن و في مواضعها من الكتاب الكريم،و الحكمة التي تقف وراء تفريق الآيات التي تتكلم عن تخلّق الجنين و بالتالي عن الآيات الكونية في مواضع مختلفة هي:
1-إن الآيات الكونية ذكرت في مواضع مختلفة و محدّدة من القرآن الكريم لوجود مناسبة لذلك،فذكرت الآيات التي تتكلم عن الزلازل-على سبيل المثال- في المواضع التي تتكلم عن البعث.
2-إن العلم التفصيلي للظواهر الكونية ليس من مقاصد الوحي،فالآيات الكونية هي سبيل للوصول إلى الهداية،و القرآن الكريم إنما يتكلم عن الكائنات استطرادا للاستدلال على صفات اللّه،و أسمائه الحسنى،و بالتالي ليس القصد هو البحث التفصيلي عن صفات الكائنات،و تبويب و ترتيب الآيات القرآنية وفق هذا المنهج،و ذلك لأن ذلك البحث متروك للإنسان نظرا لاطراد السنن الكونية،و الطبيعة التراكمية للمعرفة العلمية،و إنما تذكر الآية الكونية،و يذكر فيها دقيق صنع الظاهرة الكونية،و الحكمة من وراء وجودها للتدبّر،و للوصول إلى الحقيقة المطلقة،و هي معرفة صفات اللّه عزّ و جلّ.
3-إن الآيات الكونية لو جمعت في موضع واحد لتعذّر فهمها قبل تحصيل جميع مستلزمات البحث العلمي.
و لعل هذا التفريق هو سبب من الأسباب التي لا بد منها لكشف حقيقة تخلّق الجنين في المستقبل،كما أنبأنا سبحانه و تعالى في محكم آياته: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ(37) [الأنبياء:37]،فلا بد من تفريق الآيات الكونية حتى نعطي كل واحدة حقّها في البحث،و لا نستعجل في فهمها على ظاهرها،بل نتعمق في دلالاتها،و لا نفرط فيها.فقد قال اللّه تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً(106) [الإسراء:106]،و لا بد من مرور حقبة من الزمن،إضافة إلى تقدم العلوم الكونية حتى نجمع الآيات و الأحاديث بالتدريج كما أشار إليه
ص: 397
المولى عزّ و جلّ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ(67) [الأنعام:67]،ضمن سلسلة متناسقة،تصبح واضحة للقارئ.
و وصف مراحل تخلق الجنين بالتفصيل في القرآن الكريم و السنة المطهرة هو إعجاز بحد ذاته نظرا لدقة التطورات التي تطرأ على الجنين،و لكن تحديد الزمان لتلك التخلقات يزيد من قوة الإعجاز العلمي.
لو نظرنا إلى النصوص القرآنية و الحديثية التي تتعلق بموضوع مراحل تخلق الجنين-و إن كان هذا الموضوع ليس ضمن سورة أو آية واحدة أو حديث واحد- لوجدنا أن بعض النصوص تحدد أزمنة أساسية لمراحل تخلق الجنين،مثل حديث اليوم السابع:«...فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21]،و حديث اليوم الأربعين«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك...»[أخرجه مسلم ح 43]،بحيث لو جمعنا هذه النصوص ضمن وحدة موضوعية لرأينا أن هذه المراحل تنتظم بطريقة مرتبة تلفت نظر الباحث.
و نبدأ بمراحل تخلق الجنين بالترتيب ابتداء من أول مرحلة إلى آخر المراحل و نقسّمها فيما يلي:
*ثنتا عشرة مرحلة قبل اليوم السابع.
*ثلاث مراحل ما بين اليوم السابع و اليوم الأربعين.
*أربع مراحل ما بين اليوم الأربعين و أربعة أشهر و عشرة أيام.
*ثلاث مراحل ما بين أربعة أشهر و عشرة أيام إلى الولادة.
1-المرحلة الأولى:خروج مكوّنات الماء.
فالمرحلة الأولى نستنتجها من النص القرآني: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:6-7].
2-المرحلة الثانية:تخلق النطف في وقت مبكر،و انتزاع عروقها لبعض الصفات المتنحية.
كما يظهر لنا في الآية: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) [الأنعام:98].
ص: 398
و كما جاء في الحديث الشريف:«أن أعرابيا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:ولدت امرأتي غلاما أسود،و إني أنكرته،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:هل لك من إبل؟قال:
نعم.قال:فما ألوانها؟قال:حمر،قال:هل فيها من أورق؟،قال:نعم.قال:
فأنّى هو؟قال:لعله يا رسول اللّه يكون نزعه عرق له.قال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:و هذا لعله يكون نزعه عرق له»[أخرجه مسلم ح 65].و في رواية:و لم يرخص له في الانتفاء منه.
3-المرحلة الثالثة:دفق الماء.
كما أشير إليها في النص القرآني: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:6-7].
4-المرحلة الرابعة:علوّ بعض النطف على الأخرى.
لما ورد في الحديث الشريف:«ماء الرجل أبيض،و ماء المرأة أصفر؛فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا منيّ المرأة منّي الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].
5-المرحلة الخامسة:التقاء النطفتين الناتج عنها الخلق،و الإذكار أو الإيناث.
كما في قوله تعالى: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2].
و كما في حديث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل أبيض،و ماء المرأة أصفر؛فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9].
6-المرحلة السادسة:هجرة النطفة المخصبة إلى الرحم.
لما ورد في النص القرآني: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:6-7].
و الحديث الشريف:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:مخلّقة قال يا رب:فما صفة هذه النطفة؟»[رواه الطبري ح 32].
ص: 399
7-المرحلة السابعة:اضطراب عروق النطفة.
كما في الحديث الشريف:«إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
8-المرحلة الثامنة:انصهار نواتي البويضة و الحيوان المنوي.
لقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
9-المرحلة التاسعة:اختلاط عروق النطفة و التقدير.
كما في الآية الكريمة: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19].
و كما في الحديث الشريف:«إن اللّه تعالى اذا أراد خلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[أخرجه الطبراني ح 21].
و كما في الحديث الشريف:«إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها، ليس منها عرق،إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
10-المرحلة العاشرة:انفلاق النطفة.
كما في الآية الكريمة: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].
11-المرحلة الحادية عشرة:وقوع النطفة في الرحم و الإجهاض المبكّر.
لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
12-المرحلة الثانية عشرة:مرحلة الحرث
كما في الآية الكريمة: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ... [البقرة:223].
13-المرحلة الثالثة عشرة(من اليوم السابع):جمع خلايا الجنين و استقرار و غيض النطفة في الرحم.
كما في الحديث الشريف:«...فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:
8]»[أخرجه الطبراني ح 21].
و كما في الحديث الشريف:«النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه فقال أي ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قيل غير مخلّقة،لم تكن نسمة،و قذفتها الأرحام دما»[أخرجه ابن أبي حاتم ح 33].
ص: 400
و كما في الآية الكريمة: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ... [الرعد:8].
14-المرحلة الرابعة عشرة:تركيب العلقة من خلال عجب الذنب،و ازدياد الأرحام بالأجنة.
كما قال اللّه تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14].
و كما ورد في الحديث الشريف:«كل ابن آدم يأكله التراب،إلا عجب الذنب، منه خلق و فيه يركب»[أخرجه مسلم ح 35].
و كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«...فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21].
و كما في الآية الكريمة: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد:8].
15-المرحلة الخامسة عشرة:تخلقات المضغة.
كما نصّت الآية الكريمة: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14].
و الآية الكريمة: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى [القيامة:38].
16-المرحلة السادسة عشرة(من اليوم الأربعين):خلق العظام و التسوية و التصوير و الإقرار.
لما ورد في الآية الكريمة: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [المؤمنون:14].
و كذا في الحديث الشريف:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصوّرها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:
أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45].
و كذا في الآية الكريمة: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى [القيامة:38].
و كذا في الآية الكريمة: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى... [الحج:5].
17-المرحلة السابعة عشرة:كسو العظام باللحم،و التسوية،و التصوير.
كما ورد في الآية الكريمة: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:14].
ص: 401
و في الآية الكريمة: ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى(38) [القيامة:38].
و في الحديث الشريف:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:
أذكر أم أنثى؟...»[أخرجه مسلم ح 45].
18-المرحلة الثامنة عشرة:خلق الجلد(و تأتي ضمن مرحلة النشأة و مرحلة التعديل).
كما ثبت في الآية الكريمة: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون:14].
و في الآية الكريمة: اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) [الانفطار:7].
و في الحديث الشريف:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟...»[أخرجه مسلم ح 45].
19-المرحلة التاسعة عشرة:الإذكار أو الإيناث(نهاية التركيب)،و إضفاء الصورة الشخصية للجنين،و إتمام الخلق.
كما ثبت في النص القرآني: اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:7-8].
و في الحديث الشريف:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا رب:
أذكر أم أنثى؟...»[أخرجه مسلم ح 45].
و كما ورد في النص القرآني: فَسَوّى(38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:38-39].
و كما جاء في الحديث الشريف:عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:«و كل اللّه بالرّحم ملكا فيقول:أي ربّ:نطفة؟أي ربّ:علقة؟أي ربّ:مضغة؟فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها،قال:أي ربّ:أذكر أم أنثى؟أ شقي أم سعيد؟فما الرزق؟فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه»[أخرجه البخاري ح 98].
ص: 402
20-المرحلة العشرون(من أربعة أشهر و عشرة أيام):إحساس المرأة بحركات الجنين.
كما في الآية الكريمة: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً... [البقرة:234].
21-المرحلة الحادية و العشرون:أقل مدّة الحمل:ستة أشهر.
لقوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً... [الأحقاف:15].
و لقوله تعالى: وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ... [لقمان:14].
22-المرحلة الثانية و العشرون:تيسير سبل الولادة
لقوله تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) [عبس:20-21].
في النهاية نضع المراحل التي تحدثنا عنها ضمن جدول ليكون للقارئ صورة مجملة واضحة عن مراحل تكوين الجنين.
ص: 403
ص: 404
التي ذكرتها النصوص الشرعية
المرحلة لغة (1):المسافة التي يقطعها المسافر بيوم أو نحوه،و المنزل بين المنزلين...و ما بين كل منهلين يسمى:مرحلة.
و جاء في تهذيب اللغة (2):ما بين المنزلين مرحلة.
و في مصطلح الإعجاز العلمي في القرآن و السنة(في علم الأجنّة)المرحلة هي:الفترة الزمنية التي تفصل بين نقطتين:أي بين نقطة تحوّل و نقطة تحوّل أخرى.
و نقطة التحول هذه تكون في اتخاذ آلية تخلّق جديدة بحيث تحدث تغييرات داخلية و خارجية للجنين،فينتقل من خلالها من طبيعة إلى طبيعة أخرى.
و الطور لغة:هو الحال أو الهيئة (3).
و في مصطلحنا الطور هو:الهيئة(أو الصورة)التي تظهر على الجنين خلال مدّة زمنية معينة.
إذن لكل من التعريفين-«مرحلة»و«طور»-دلالة محددة،و إن خلطنا في استعمالها في هذا البحث فذلك لشيوع كلمة«مرحلة»على الألسنة،و لأنها تعني مسافة زمنية على وجه عام.
و أما الحدث-فكما هو معلوم-:عملية تقع للجنين في فترة زمنية معينة.
لذا نحن أمام ثلاث مراحل أساسية لتخلق الجنين يفصل بينها النص القرآني:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ(14) [المؤمنون:12-14]بحرف العطف «ثم» (4)،و يحددها على النحو التالي:
ص: 405
1-مرحلة النطفة المخصبة.
2-مرحلة التخليق.
3-مرحلة النشأة.
-المرحلة الأولى:و هي مرحلة النطفة المخصبة تبدأ من وقت تخصيب البويضة من قبل الحيوان المنوي و تنتهي عند نهاية فترة الحرث،و بداية فترة الغيض.
-المرحلة الثانية:و هي مرحلة التخليق تبدأ من بداية طور العلقة(حسبما جاء في النص القرآني السابق ذكره)،و تنتهي عند نهاية طور الكساء باللحم.
-المرحلة الثالثة:و هي مرحلة النشأة تبدأ من بداية مرحلة التعديل(أي عند انتهاء طور الكساء باللحم)و تنتهي عند بداية الطلق.
سبب تسمية المراحل الثلاثة السابقة:
1-مرحلة النطفة:سميت بذلك لأن عمليات التخلق التي تحصل في هذه المرحلة-أي الانفلاقات-لا تؤدي إلى تخلّق أجهزة محددة لها شكل معين تضفي على النطفة شكلا جديدا،لا من حيث المظهر الداخلي(فهي تظلّ كتلة نطف-أي كتلة قطرات صغيرة-)،و لا من حيث المظهر الخارجي(فهي قطرة كبيرة نسبيا)،بل و لا تخرج النطفة عن طبيعة القطرة،و عمليات التخلق التي تحصل لها تدور كلها حول تخلّق نطف صغيرة داخل نطفة كبيرة.
2-مرحلة التخليق:سميت بمرحلة التخليق لأن عملية الخلق سمة خاصة لهذه المرحلة،فالمرحلة تشهد تكاثرا كبيرا للخلايا و ينشط فيها تخلّق الأعضاء (اليدين،الرجلين،القلب،الكبد...)،كما أنه في هذه المرحلة تظهر العظام و يكسى الجنين باللحم.و سوف نسميها بمرحلة«خلق جسم الجنين»لأن هيكل الجنين و أعضاءه سوف تتخلّق في هذه المرحلة.
3-مرحلة النشأة:سميت بالنشأة لأن سمة النمو تطغى في هذه الفترة على الأعضاء.
و تنقسم مرحلة«خلق جسم الجنين»إلى ثلاث مراحل ثانوية،و هي:
1-مرحلة جمع الجنين(و هي مرحلة سكت عنها النص القرآني السالف ذكره و لكن ذكرها الحديث:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له
ص: 406
كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]» [أخرجه الطبراني ح 21]).
2-مرحلة جمع خلق الجنين.
3-مرحلة الخلق التصويري.
-مرحلة جمع الجنين:سمّيت بذلك لأن هناك آلية واحدة تظهر في هذه الفترة،أ لا و هي جمع خلايا الجنين لتؤلف الهيكل الأساسي لجسم الجنين.
-مرحلة جمع خلق الجنين:سميت بذلك لأن تجمع خلايا الجنين ضمن أعضاء هي السمة المسيطرة في هذه المرحلة.
-مرحلة الخلق التصويري:سميت بذلك لأن آلية التصوير هي البارزة فيها، فتخلق العظام و اللحم-و إن كان تخلق عضوين جديدين-غير أنه عملية تصوير في نهاية الأمر،لأن الجنين ينتقل من خلال هذا التخلق من مظهر جنين عام إلى مظهر جنين إنساني،و أما بالنسبة للسمع و البصر فإن عمليات التخلق التي تحدث لهما تصويرية أكثر من أنها هيكلية.
و لعلّ من الحكمة أن نضيف إلى المراحل المذكورة آنفا مرحلة ليست هي بمرحلة تخلق مادية،و إنما هي مرحلة تحضيرية لتخلق الجنين،أ لا و هي:مرحلة السلالة(أي مرحلة الحيوان المنوي و البويضة الغير مخصبة)التي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:12-14].و الإشارة هنا إلى أنها«من طين» -يعني أنها طينية الأصل-(فتكون وظيفة«من»هنا للجنس،بحيث تعني:و لقد خلقنا الإنسان من سلالة مؤلفة من مواد طينية)لا ينفي بأنها تنسل من محيط آخر غير الطين(كما سنراه في التفسير اللاحق)-إن شاء اللّه-،و خصوصا أن هناك آية أخرى تشير إلى المحيط الذي تنسل منه،و هي: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ(8) [السجدة:8].و بذلك يكون القرآن ذكر مرحلة البويضة غير المخصبة،ثم مرحلة البويضة المخصبة،و من ثمّ المراحل الأخرى،و هذا تسلسل منطقي.و سمّيت هذه المرحلة بمرحلة السلالة لأن هذه المرحلة تسهّل و تمهّد الطريق للتخصيب،أي:
للخلق كما يشير إليه معنى كلمة«سلالة».
ورد في لسان العرب (1):«سلل:السّل:انتزاع الشيء و إخراجه في رفق،سلّه يسلّه سلاّ و استلّه فانسلّ و سللته أسلّه سلاّ...و السلالة ما انسلّ من).
ص: 407
الشيء...و الانسلال:المضي و الخروج من مضيق أو زحام...قال ابن بري:قوله سال السليل بهم أي ساروا سيرا سريعا...و سلّة الفرس:دفعته من بين الخيل، و فرس شديد السلة:و هي دفعته في سباقه».فلو لا عمليات الانسلال برفق من وسط إلى وسط آخر(أي من منيّ الرجل إلى وسط المهبل و الرّحم)،و الانسلال من مضيق (مضيق عنق الرّحم)،و من زحام(زحام الحيوانات المنوية عند عنق الرّحم)،و السير سريعا لملاقاة البويضة المخصبة(إلى ما هنالك من عمليات تسهيل)،لما كان بالإمكان أن يخصّب الحيوان المنوي البويضة المخصبة (1)،و أن يبدأ الخلق بإذن اللّه.
فكل هذه الأحداث لها سمة مشتركة(و هي سمة التسهيل و التدبير المسبق لعملية الخلق)و بالتالي تلزم أن نجمعها تحت مرحلة واحدة-مرحلة السلالة-.
أما بالنسبة للأطوار:فنلاحظ أن لدينا سبعة أطوار تخلق ذكرها القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة،و طور تمهيدي آخر.
و الطور التمهيدي هو طور السلالة(أي طور:الحيوان المنوي و النطفة غير المخصبة)و يأتي ضمن مرحلة السلالة:و سمّي بذلك لأن النطفة فيها لها هيئة السلالة من حيث المظهر و الحركة و المحيط.جاء في تاج العروس عن السلالة (2):«و أيضا السمكة الطويلة» (3).
و أما بالنسبة لأطوار التخلق فهي كالتالي:
-طور النطفة المخصبة:سمّي بذلك لأن شكل و حركة القطرة من الماء يغلب على طابع البويضة.فشكل البويضة المخصبة شكل القطرة من الماء،و هذه البويضة لها خاصية الانسياب كما تنساب القطرة من الماء على السطح المائل.و من الجدير بالذكر أن الأحداث التي تمر على البويضة من وقت تخصيبها إلى وقت انغراسها(أي الانفلاقات المتوالية و الانغراس)لا تفقدها الشكل المستدير الذي تتميز به القطرة.
فبالرغم من انقسام النطفة في داخلها إلى خلايا متعددة،فإن مظهرها لا يتغير عن مظهر القطرة،لأنها تملك غشاء سميكا يحفظها و يحفظ مظهر النطفة فيها،و حتى بعد أن تتخلص النطفة من غشائها بفترة وجيزة،أي خلال الفترة الأولى من».
ص: 408
انغراسها،يظل مظهر القطرة غالبا عليها من جراء تماسك الخلايا بعضها ببعض:
لذلك سمّي مظهر البويضة المخصبة في هذه الفترة بطور النطفة.
-طور العلقة:سمّي بذلك لأن شكل العلقة-أي شكل الدودة التي تعلق على الدواب-يغلب على الجنين.
-طور المضغة:سمّي بذلك لأن الجنين يشبه في هذه الفترة المادة التي لاكتها و مضغتها الأسنان.
-طور العظام:سمّي بذلك لأن صورة العظام تظهر على الجنين.
-طور اللحم:سمّي بذلك لأن اللحم يكسو الجنين.
-طور الجلد:سمّي بذلك لأن الجلد يكسو اللحم.
-طور الإذكار أو الإيناث:لأن جنس الجنين يظهر في هذه الفترة:ذكرا أو أنثى.
أما بالنسبة للأحداث الجنينية،فهي العمليات التي تقع للجنين،و التي لا تؤدي إلى تغيير رئيسي لطبيعته و لا لشكله إذا اعتبرت منفصلة،غير أن مجموعها قد يؤدي إلى إضفاء مظهر جديد للجنين و مثالها:انتشار عروق البويضة المخصبة،انفلاق البويضة المخصبة،انغراسها...إلخ،و نحن نعددها في الرسم التوضيحي الذي نورده في الصفحة التالية(انظر صورة رقم:118)،و الذي يعطينا فكرة عن المراحل و الأطوار و الأحداث الجنينية التي جاء ذكرها في النصوص الشرعية:
ص: 409
118-المراحل،و الأطوار،و الأحداث الجنينية
ص: 410
«ثم»و«الفاء»في آيات علم الأجنة
في هذا المبحث سوف نتحدث عن مغزى استعمال حرفي العطف«ف» و«ثم».
فنتناول هنا بعض الآيات في مجال«تخلق الجنين»و التي ورد فيها استعمال حرفي العطف«ف»و«ثم»و هي:
*النص القرآني الأول: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ(14) [المؤمنون:12-14].
*النص القرآني الثاني: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) [عبس:17-21].
*النص القرآني الثالث: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:6-8].
*النص القرآني الرابع: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى(37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(39) [القيامة:37-39].
إن«ثم»حرف عطف،و هي للترتيب و التراخي (1).
و حرف العطف«الفاء»يدل على الترتيب و التعقيب (2).
النص القرآني الأول يشير إلى ثلاث مراحل تخلق أساسية(تحدّثنا عنها بإطناب في المبحث السابق«المراحل،و الأطوار،و الأحداث الجنينية التي ذكرتها النصوص الشرعية»):
ص: 411
1-مرحلة النطفة المخصبة.
2-مرحلة التخليق.
3-مرحلة النشأة.
و مرحلة تحضيرية هي مرحلة السلالة.
استعمل حرف العطف«ثم»في الآية الأولى ثلاث مرّات:مرة للفصل بين مرحلة السلالة و النطفة،و مرة للفصل بين مرحلة النطفة و مرحلة التخليق،و مرة للفصل بين مرحلة التخليق و مرحلة النشأة.
في المرّة الأولى:استعمل هذا الحرف للدلالة على أن هناك فترة غير وجيزة نسبيا للانتقال من مرحلة السلالة،إلى مرحلة النطفة الأمشاج في القرار المكين.فإذا اعتبرنا أن إنزال الرجل يحصل في الوقت نفسه من خروج البويضة غير المخصبة من المبيض فيكون بداية مرحلة السلالة هو يوم إباضة المرأة (1).و التلقيح يحتاج عندئذ إلى حوالي يوم،و من ثمّ فإن انتقال البويضة المخصبة من الثلث الوحشي لقناة فالوب إلى الرّحم فوقوعها فيه يستغرق ستة أيام.و بالتالي فإن مجموع الأيام التي تحتاجها السلالة لتصبح نطفة أمشاج-أي نطفة مخصبة-في الرّحم هو سبعة أيام،و هي مدّة زمنية طويلة نسبيا بالنسبة للفترات الزمنية التي يحتاجها الجنين للانتقال من طور إلى آخر-كما سنرى-تستوجب أن يستعمل حرف العطف«ثم»في هذا الموضع من الآية.
في المرة الثانية:استعمل هذا الحرف للدلالة على انقضاء فترة زمنية معينة، و للدلالة على التحول البطيء من مرحلة النطفة الأمشاج إلى مرحلة العلقة.
و تفسير ذلك:أن الانتقال من النطفة إلى العلقة يستلزم المرور بمرحلة الجمع (أي جمع خلايا الجنين).
في هذه المرحلة تحتاج الكتلة الداخلية للكرة الجرثومية أسبوعا على الأقل لكي تتميز و تتعلق بواسطة ساق موصلة(فينطبق عليها تسمية العلقة لظهور الساق الموصلة،و إن لم يظهر عليها صورة العلقة بعد)،و يومين لتبدأ(العمليات الظهرية NOTOCHORDAL PROCESSES )فتطاول الكتلة الداخلية،و تقرب صورتها منق.
ص: 412
صورة العلقة(فيكون مجموع الأيام الذي يحتاجه الجنين لكي تظهر عليه صورة العلقة 10 أيام:من اليوم 7 إلى اليوم 16)،و هذه المدة طويلة غير مستهان بها في الإطار الزمني للانتقال من طور إلى آخر،لذلك استعمل حرف العطف«ثم»،و ذلك للدلالة على التراخي.
كذلك من وظائف حرف العطف«ثم»-كما سنراه لاحقا في هذا المبحث- هو أن هذا الحرف يصرف الأنظار إلى صيرورة الشيء،و هنا إلى صيرورة النطفة،أي أن النطفة لا تصبح تشبه العلقة إلا في نهاية المطاف.
يقول الرضي:« ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14]نظرا إلى تمام صيرورتها علقة» (1).
و بالفعل فإن الساق التي تصل الكتلة الداخلية للنطفة ببطانة الرّحم لا تبدأ بالظهور إلا في حوالي اليوم الثالث و العشرين،أي بعد حوالي مرور أسبوع من تعلّق النطفة بظاهر بطانة الرّحم.و لا تبدأ العمليات الظهرية التي تؤدي إلى تطاول الكتلة الداخلية إلا في اليوم السادس إلى السابع عشر لتظهر بعدها على شكل علقة في اليوم الثامن إلى التاسع عشر،أي في نهاية مدّة التحويل (2).
في المرة الثالثة:استعمل حرف العطف«ثم»ليفيد أن مرحلة النشأة تأتي بعد طور الكساء باللحم على التراخي في الزمن في صورة تدريجية.فالنشأة تستغرق وقتا طويلا لكي ينمو الجنين(28 أسبوعا)و هذا ينطبق على وظيفة حرف العطف«ثم».
إلى ذلك فإن معاني كلمة«نشأ»لا تبدأ في الوضوح إلا فيما بعد،كما أن نمو بعض الأعضاء يظهر بعد فترة،مثل نمو الشعر و الأظافر،و تهاجر الأمعاء إلى داخل البطن في الأسبوع الحادي عشر (3)،و تبدأ الحركات الإرادية(مثل حركات العين)في الأسبوع الرابع عشر (4).و لذلك فإن التحوّل إلى«الخلق الآخر»من خلال تنشئته، تدريجي،متفرّق،و لا يتحقق بأكمله إلاّ بعد مرور فترة من الوقت.).
ص: 413
نفيد في هذا الخصوص أن المنظار هنا منظار نسبي،فطور الكساء باللحم يحتاج لأسبوع حتى تظهر ملامحه جلية،بينما تحتاج النشأة لأسابيع(28 أسبوعا)، و هكذا تكون فترة طور الكساء باللحم فترة وجيزة إذا ما قورنت بفترة النشأة،و تحتّم بذلك استعمال حرف العطف«ثم».
و أما في فترة التخليق فالغاية هي-و اللّه أعلم-:التركيز على تلاحق العمليات.فهذه المرحلة تشهد تكاثرا سريعا للخلايا،و العمليات التخليقية تتمّ بسرعة كبيرة في فترة ما يسمى بفترة(تخلق الأعضاء ORGANOGENESIS ).و نظرا لسرعة العمليات التي تحصل في تلك المراحل،و تلاحقها خلال فترات متعاقبة وجيزة،فقد استعمل حرف العطف«ف»؛ففترات الانتقال بين تلك الأطوار المذكورة فترات وجيزة متعاقبة بعضها وراء بعض؛إذا ما قورنت بفترة انتقال النطفة إلى العلقة،و بفترة النمو في مرحلة النشأة.
فالانتقال من العلقة إلى المضغة (1)يستغرق يومين(اليومان:25-26)، و مظهر المضغة بدأت تظهر ملامحه في فترة العلقة لظهور التخطيط،غير أن مظهر المضغة لم يغلب عليه،و من خلال ظهور الفلقات في نهاية مرحلة العلقة(أي في اليومين 23-24)يكتسب الجنين خصائص المضغة،و بالتالي فإن الطورين غير منفصلين تماما.و نظرا لاتصال الطورين و التحول السريع من طور إلى طور آخر كان من الضروري استعمال حرف العطف«ف».
كذلك الانتقال من طور المضغة إلى طور العظام سريع،و الطوران متداخلان.
ففي فترة المضغة تبدأ الخلايا التي ستتمايز إلى خلايا غضروفية(بالتكثف CONDENSATION )في الأسبوع الخامس.و في الأسبوع السادس(أي في طور المضغة)(تفرز حول نفسها المنبت العضوي للغضاريف (2) )CHONDRIFICATION .
و في نهاية الأسبوع السادس و بداية الأسبوع السابع(أي في بداية طور العظام)يكون الأنموذج الغضروفي قد ظهر (3).و هكذا لا يكاد طور المضغة ينتهي حتى يغلب على الجنين مظهر العظام،و لذلك استعمل حرف العطف«ف».
كذلك يأتي طور الكساء باللحم عقب طور العظام مباشرة و التحوّل الزمني لا0.
ص: 414
يذكر،و الطوران متداخلان،و ذلك لأن الخلايا التي ستتمايز إلى خلايا العضلات تنشأ مع الخلايا التي ستتمايز إلى خلايا غضروفية.و في بداية الأسبوع السادس،في فترة تمايز خلايا النسيج الأوسط إلى خلايا غضروفية(أي في طور المضغة)،تنتقل خلايا العضلات بعيدا عن الفلقات (1)لتنمو.و في نهاية الأسبوع السابع(أي في نهاية طور العظام)يمكن ملاحظة تمايز واضح للعضلات (2).و هكذا ما يلبث طور العظام أن ينتهي حتى يغلب على مظهر الجنين مظهر العضلات و اللحم،و لذلك استعمل حرف العطف«ف».
نفهم من كلامنا السابق أن حرف العطف«ثم»جاء للدلالة على التراخي في الزمن للمرحلة حتى تكتمل المرحلة المعينة(أو للطور المعين حتى يكتمل)أو للدلالة على أن هناك فاصلا بين المراحل(أو الأطوار)المتعاقبة،و أن حرف العطف«ف» جاء للدلالة على التواصل بين الأطوار(أو المراحل)و سرعة تعاقبها،و تصديقا لكلامنا جاء في هذا الخصوص في فتح الباري النص التالي (3):«و قد رتب الأطوار في الآية بالفاء لأن المراد أنه لا يتخلل بين الطورين طور آخر،و رتبها في الحديث بثم إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور».
و جاء في عمدة القاري (4)،باب غسل المني:«فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف يجوز أن يتخلل بين المعطوف و المعطوف عليه مدة...».
و قال ابن مالك في ألفية النحو (5):
و الفاء للتّرتيب باتّصال و ثمّ للتّرتيب بانفصال.
و من المنطلق نفسه نلحظ في النص القرآني الثاني أنه استعمل حرف العطف «ثم»بين فترة التقدير و الولادة للدلالة على أن هناك زمنا طويلا بين عملية التقدير و عملية الولادة(و هو تسعة أشهر)،و كذلك يقال عن عملية الولادة و نهاية العمر.
ص: 415
و أما استعمال حرف العطف«الفاء»في هذا النص،الذي تختلف وظيفته عن حرف العطف«ثم»،فإنه استعمل لأن الفترة بين التخليق و التقدير فترة قصيرة متعاقبة (أقل من 30 ساعة) (1).
يدل هذا النص على ثلاث مراحل:مرحلة التخلق،و مرحلة التسوية،و مرحلة التعديل،و قد فصل بينها بحرف العطف«ف».
و قد استعمل حرف العطف«ف»بين المراحل هنا لوجود التعاقب السريع، لأنها تتوالى و تتعاقب بسرعة،بدون تراخ في الزمن،حتى إنها تتداخل فيما بينها عند أطرافها.فعلى سبيل المثال:يستقيم الجنين فور انتهاء مرحلة التخلق(أي في الأيام 43-47) (2)ليحقق معنى التسوية،و تبدأ مقاييس أعضاء الجنين(اليدان و الأرجل و الوجه)بالاعتدال في بداية الأسبوع التاسع (3)،أي فور انتهاء مرحلة التسوية،كما أن ترسيم الجنين الذي قد ابتدأ في مرحلة التسوية(مثل ظهور الجفون و إشعاعات الأصابع) (4)يتواصل و يكتمل ليحقق معنى كلمة«عدل».
يتحدّث النص القرآني عن خمسة أطوار و مراحل:طور النطفة غير المخصّبة، طور العلقة،طور التخلّق(و هو طور المضغة و سمّي بذلك لأن سمة تخلق الأعضاء فيه ظاهرة)،مرحلة التسوية،و طور الإذكار أو الإيناث.
الطور الأول هو:طور النطفة غير المخصّبة و ذلك لأن النص القرآني حدّد أن النطفة هي: نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37]،أي أن النطفة جزء من المني،و بالتالي لم تخصّب بعد.
و بما أنها لم تخصّب بعد،فعليها أن تخصّب،و من ثمّ أن تنفلق،و من ثمّ أن تمر بمرحلة جمع خلايا الجنين،قبل أن تصبح فيما بعد علقة،و هذا يستغرق وقتا
ص: 416
طويلا.و بما أن هناك تراخيا في الزمن للانتقال بين طوري النطفة غير المخصّبة و العلقة،استعمل حرف العطف«ثم».
و قد استعمل حرف العطف«ف»للانتقال بين طور العلقة و طور التخلق(طور المضغة)،و للانتقال بين طور التخلّق و مرحلة التسوية للأسباب التي ذكرناها في النص القرآني الثاني،و النص القرآني الثالث.
كذلك استعمل حرف العطف«ف»للانتقال بين مرحلة التسوية،و طور الإذكار أو الإيناث،و ذلك للتداخل بين أحداث الطور،و أحداث المرحلة،و لتواصل عمليات التميز فيهما.
فطور الإذكار أو الإيناث قد ابتدأ في مرحلة التسوية،غير أن التميز الجنسي لم يظهر على الجنين بعد،و ذلك لأن التميز كان داخليا.
و التميز الداخلي يبدأ بتميز غدّتي التناسل على شكل خصيتين.فتحت وطأة الصبغي(ص Y )تتميز(الخيوط الأولية الجنسية PRIMARY SEX CORDS )(كقنيات منوية SEMINIFEROUS TUBULES )و يكون ذلك في الأسبوع السابع (1)،(أي في طور العظام)،غير أن الأعضاء التناسلية الخارجية تظل متشابهة تماما إلى الأسبوع التاسع،أي إلى نهاية مرحلة التسوية،و من ثمّ يبدأ التميز الخارجي التدريجي إلى أن يصبح واضحا تماما في الأسبوع الثاني عشر.
و لتواصل عمليات الإذكار أو الإيناث،و لتداخل أحداث مرحلة التسوية و طور التميز الجنسي،استعمل حرف العطف«ف».فالجنين أصبح داخليا ذكرا أو أنثى قبل نهاية مرحلة التسوية،و لكن لم تظهر عليه علامات التميز الجنسي إلا بعد هذه المدة.
غير أنه من الجدير بالذكر أن التمايز الخارجي بطيء نسبيا،إذا ما قارناه بفترات الانتقال الأخرى(مثل الانتقال من طور العلقة إلى طور المضغة،و الانتقال من طور المضغة إلى طور العظام...إلخ).
تنبيه:
قد يتساءل قارئ الآية: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5]لما ذا ورد حرف العطف«ثم»بين مختلف الأطوار مع العلم أن النص4.
ص: 417
القرآني الآخر قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ(14) [المؤمنون:12- 14]فأورد بين الأطوار حرف العطف«الفاء»؟.
قبل أن نلقي الضوء على هذا الأمر نودّ الإشارة إلى أنه ليس هناك فرق كبير بين النصين،فالأطوار المذكورة في الآية رقم 5 من سورة الحج هي ثلاثة أطوار فقط، و هذه جاء ذكرها في سورة المؤمنون.و المتأمّل في كلا النصّين يرى الاختلاف في طور المضغة فقط،و ذلك أن طور النطفة و طور العلقة عطفا على ما قبلهما في كلا النصّين بحرف«ثم».و لكن ما يميّز آية سورة الحج هو أن طور المضغة عطف فيها بحرف العطف«ثم»على خلاف ما جيء به في سورة المؤمنون،حيث عطف بحرف «الفاء».
و ليس هناك أي تعارض بين الأمرين لا في الأسلوب السياقي و لا في المعنى المتضمن لكلا الحرفين«ثم»و«الفاء».
فالناظر المدقّق لسياق الكلام القرآني في الآية التي تركز على استخدام حرف العطف«ثم»في الأطوار-و لا سيّما طور المضغة-يفهم أنها تظهر موضوعا معينا، و هو موضوع النظر و التأمل في حالة وجود شك ليوم البعث و الآخرة،لأن هذا النظر سيؤديه إلى الإيمان بذلك بشرط الموضوعية في البحث.
و المتأمّل لا يمكن له أن يتسرع في نظره،لأنه قد يخطئ في النتائج إن هو أسرع.
و من منهجية التأمل:التأني في النظر و التمهّل في الاستنتاج.
فالمطلوب في الآية هو النظر المتأني الذي يوصل إلى الإيمان بالبعث،فناسب ذكر«ثم»التي تفيد التراخي حتى يأخذ الباحث مهلة في الفكر و النظر إلى أن يصل للنتيجة.
و هكذا نحن مدعوون لأن ننظر إلى شكل الجنين في حالة المضغة،و إلى ما يحدث له من عمليات دقيقة من تخليق و عدم إتمام التخليق،و نطابق المعطيات القرآنية مع المعطيات العلمية كما جاء في الآية: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ .و نستنتج أن القرآن حق من عند اللّه تعالى و هذا يستوجب وقتا،لذلك استعمل حرف العطف«ثم»، و الله تعالى أعلم.
ص: 418
أضف إلى ذلك أن من وظائف حرف العطف«ثم»:توجيه الأنظار إلى صيرورة الطور،على عكس حرف العطف«ف»التي ترمي إلى ابتداء الطور،و بالتالي فعلينا أن ننظر إلى طور المضغة المذكور في سورة الحج إلى نهايته حتّى يتضح لنا معناه جليّا،على عكس ما جيء به في سورة المؤمنون،حيث علينا أن نتفكّر في معنى طور المضغة اعتبارا من بدايته ليستقرّ المعنى على أتمّ صورته.
و يشرح لنا الرضي وظيفة حرفي العطف«ثم»و«الفاء»قائلا:«ثم اعلم أن إفادة الفاء للترتيب،لا ينافيها كون الثاني المترتب يحصل بتمامه في زمان طويل،إذا كان أول أجزائه متعاقبا لما تقدم،كقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63) [الحج:63]،فإن اخضرار الأرض يبتدئ بعد نزول المطر،لكن يتم في مدّة و مهلة،فجيء بالفاء،نظرا إلى أنه لا فصل بين نزول المطر و ابتداء الاخضرار،و لو قال:ثم تصبح،نظرا إلى تمام الاخضرار، جاز،و كذا قوله تعالى الأول: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:13-14]نظرا إلى تمام صيرورتها علقة،ثم قال: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً [المؤمنون:14]نظرا إلى ابتداء كلّ طور،ثم قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14]إما نظرا إلى تمام الطور الأخير،و إما استبعادا لمرتبة هذا الطور،الذي فيه كمال الإنسانية،من الأطوار المتقدّمة» (1).
فإذا اعتبرنا طور المضغة في بداية أيّامه نرى أن الكتل البدنية تظهر خجولة في نهاية طور العلقة(حوالي اليوم الرابع و العشرين)حيث يكون عددها ما بين 4 إلى 12،و لكن سرعان ما تتضخّم و يزداد أعدادها بسرعة ابتداء من اليوم الخامس و العشرين إلى اليوم الثلاثين(بداية طور المضغة)،حيث يرتفع عددها إلى ما بين 30 إلى 35،و من ثمّ تخف وتيرة ظهورها حيث يكتمل عددها في تمام اليوم الخامس و الثلاثين،فيصبح عددها حوالي اثنين و أربعين.و من هنا نفهم لما ذا جاء طور المضغة معطوفا بحرف«الفاء»في سورة المؤمنون،نظرا لأن الفلقات التي تضفي على الجنين مظهر المضغة يتركّز ظهورها في بداية طور المضغة.
أما في سورة الحج،فقد جاء ذكر المضغة مع وصف لها مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ كما ذكرناه في مبحث«المضغة/الوصف الداخلي»،و هذا يعني أن كلا4.
ص: 419
الصفتين«مخلّقة»و«غير مخلّقة»لازمتان للمضغة،و بالتالي فالمظهر المشار إليه مقيّد بتلك الصّفتين،و لا يجب علينا أن ننظر إليه إلا من هذه الزاوية.و كما أشرنا إليه في مبحث«الوصف الداخلي»المذكور آنفا:أن كلمة مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ تعني أن أعضاء المضغة تخلّقت،و لكن لم يكتمل تخلّقها أو صورتها بعد.فإذا أمعنّا النظر في هذه المرحلة،تبيّن لنا أن أعضاء هذه المضغة كاليدين و الرجلين و العينين،و الأذنين، لا يبرز خلقها،و لا يظهر للعيان جليّا إلا في نهاية طور المضغة،أي في الأيام الخمسة الأخيرة منها،حيث يظهر الكأس الحويصلي النظري،و يتخلّق هيكل الأذن الخارجي،و تتكوّن سوق الرجلين و اليدين جيّدا.أما إذا نظرنا إلى بداية طور المضغة فهذه غير واضحة و غير متميّزة للناظر المتأمّل.(انظر الصورة رقم 119).
ص: 420
و الدليل على أن الآية تريد أن نصرف أنظارنا إلى نهاية طور المضغة هو:أن تمام التخلّق أو ترسيمه أو تصوّره عليه أن يتبع منطقيّا التخلّق غير المكتمل.و بما أن تصوير و تسوية الجنين لا يكون إلا بعد اثنين و أربعين يوما،أي بعد المرحلة التي تلي مرحلة المضغة وفق الحديث:«إذا مر بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا، فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثم قال:يا رب:أذكر أم أنثى؟»[أخرجه مسلم ح 45]،فبالتالي نفهم أن تخلّق الجنين يجب أن يكون وصل في نهاية طور المضغة إلى أقصى درجات التخلق التي تسبق ابتداء عملية التصوير،و من هنا ساغ ذكر حرف العطف«ثم»في الآية رقم 5 من سورة الحج.و من هنا توافق معنى الحديث المذكور آنفا،و معنى نص سورة الحج،و وظيفة حرف العطف«ثم»، مع العلم الكوني و المنطق ليدلّ ذلك كلّه على أن آية سورة الحج تفصح بدقّة متناهية عن حقائق علمية غيبية،من المستحيل أن يعلمها إنسان في بيئة أمّية إلا من خلال بحوث متتالية باستعانة أدق الوسائل العلمية،أو بوحي من الذي خلق الجسد الذي تصفه الآية.
كذلك كلما دقّقنا في صياغة آية سورة الحج تبيّن لنا الحكمة من وراء ذكر حرف العطف«ثم»في هذه الآية و عدم ذكره في آية سورة المؤمنون،فالآية ذكرت «إقرار الجنين»بعد ذكر المضغة،و كما نعلم من مبحث«الإقرار»فإن ثبات الجنين في الرحم لا يكون إلا بعد مرور الفترة الحرجة من تخلّق أعضاء الجنين،(أي في نهاية فترة المضغة)،و لو جاء ذكر إقرار الجنين في آية سورة المؤمنون بدلا من آية سورة الحج مع وجود حرف العطف«ف»فيها لصرفت أنظار القارئين إلى بداية تخلّق المضغة،و خصوصا أن وظيفة حرف العطف«الواو»الذي قرن بين طور المضغة و ظاهرة الإقرار في قوله تعالى: وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ [الحج:5]لا تدل على التعقيب، و بالتالي لما صحّ ذكر إقرار الجنين في هذا المقام لأن احتمال إجهاض الجنين عال في بداية فترة المضغة.
و لو أبدلنا حرف العطف«الفاء»بحرف«ثم»لما استقام معنى آية سورة الحج بتمامه.و من هنا نفهم أنه كان لا بد من ذكر حرف العطف«ثم»في هذا المقام،و إنه لمن الإعجاز أن يحدّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بوحي من اللّه تعالى الوقت الزمني لبروز أعضاء المضغة في مرحلة ضيّقة نسبيا(أسبوعين و نصف)،و يحدّد وصفها بشكل دقيق(أي بالمخلّق و غير المخلّق)،فازداد الإعجاز إعجازا،و ازداد النور نورا،و ازدادت الدّقّة دقّة،حتى إنه كان باستطاعتنا أن نقول:إن القرآن الكريم يمكن أن يكون دليلا مفصّلا لطلاب الجامعات المتخصّصين في مجال«علم تخلّق الإنسان»لو لا أن اللّه
ص: 421
تعالى حدّد لنا أن القرآن أنزل للذكر كما جاء في الآية: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17) [القمر:17]،و ليس كمادة دراسة تدرّس في جامعات الطب،و ما هناك من أقسام للدراسة،فيا سبحان اللّه!!!.
فائدة:
نلاحظ في الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67]أن اللّه تعالى ذكر طوري النطفة و العلقة دون ذكر بقيّة أطوار الجنين،فما الحكمة من وراء ذلك؟و الحال-كما يظهر لنا-أن هذه الآية لا تضيف معلومات علمية جديدة إلى جانب المعلومات التي أشارت إليها النصوص القرآنية التي ذكرناها سابقا في هذا البحث.
و الجواب-و باللّه التوفيق-:أن المقام يقتضي أن لا تذكر بقية الأطوار الجنينية،و ذلك أن الآية تركّز على إبراز مختلف المراحل الأساسية التي يمر بها الإنسان-و ليس المراحل التي يمر بها الجنين-،و بالتالي فلا حاجة لذكر الأطوار الجنينية،باستثناء طور العلقة الذي يمثّل بداية مرحلة تركيب جسد الجنين.
و هكذا فإن الأطوار الإنسانية تتلخص بذكر مرحلة التراب،و مرحلة النطفة، و مرحلة الجنين(من خلال ذكر مرحلة العلقة)،و مرحلة الطفولة،و مرحلة الشباب، و مرحلة الشيخوخة،و الموت،كمراحل مميّزة يمر بها الإنسان،تشكّل كل منها منعطفا أساسيا لحياته.
و بما أن موضوع الآية يركّز على ذكر الأطوار الإنسانية،و هذه المراحل متباعدة،فإن الأمر يقتضي ذكر حرف العطف«ثم»،الذي يفيد الترتيب و التراخي، بحيث تتلاءم صياغة الآية مع موضوعها.
فإذا تقرّر ذلك،فهمنا أن وظيفة هذا الحرف لا تنسجم مع ذكر بقيّة الأطوار الجنينية التي تتعاقب بشكل متسارع.
و لهذين السببين:التركيز على المراحل الإنسانية،و استعمال حرف العطف «ثم»،كان لا بد من الاكتفاء بذكر طور العلقة،و هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على حبك و دقة صياغة النصوص القرآنية.
ص: 422
ذهب أكثر العلماء (1)إلى أن نفخ الروح في الجنين يتم بعد فترة مائة و عشرين يوما،و استدلوا بظاهر حديث البخاري الذي ينص:عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال:
حدثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-و هو الصادق المصدوق-قال:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون علقة مثل ذلك،ثم يكون مضغة مثل ذلك،ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع كلمات و يقال له:اكتب عمله و رزقه و أجله و شقي أو سعيد،ثم ينفخ فيه الروح»[أخرجه البخاري ح 46].
و فسروه بأن جمع الخلق يكون في أربعين يوما،و أن مرحلة العلقة تكون في الأربعين الثانية،و أن مرحلة المضغة بعد العلقة تكون في الأربعين الثالثة،ثم ينفخ الروح بواسطة الملك بعد الأربعين الثالثة التي هي مائة و عشرون يوما.
فجعل هؤلاء العلماء عبارة«مثل ذلك»في الحديث تعود إلى«أربعين يوما» كأنه قيل:إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون علقة أربعين يوما،ثم يكون مضغة أربعين يوما،ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع كلمات و يقال له:
اكتب عمله و رزقه و أجله و شقي أو سعيد،ثم ينفخ فيه الروح...،فعندها تكون كل مرحلة من المراحل الثلاثة عند من قال بها(الجمع-و العلقة-و المضغة)أربعين يوما.
و الأمر نفسه في تفسير حديث مسلم:قال رسول اللّه-صلى اللّه عليه و على آله و سلم-:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه
ص: 423
الروح و يؤمر بأربع كلمات...»[أخرجه مسلم ح 43]،حيث يعود اسم الإشارة«في ذلك»إلى بطن الأم،و«مثل ذلك»إلى مدة الأربعين يوما،كأنه قيل:إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك البطن علقة أربعين يوما،ثم يكون في ذلك البطن مضغة أربعين يوما ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات...
و مما ساهم في فهم الحديث على النحو الذي أشرنا إليه سابقا هو:وظيفة حرف العطف«ثم»؛الترتيب و التراخي،فتبعا لوظيفتها على«العلقة»أن تتبع زمنيا «جمع الخلق»،و على«المضغة»أن تتبع«العلقة».
و هنالك اجتهاد آخر يخالف اجتهاد العلماء السابقين،و هذا لاحتمالية تفسير الحديث بعدّة أوجه،فيعد هذا الحديث ظني الدلالة من حيث المفهوم.
فتفسير النص يكون أن جمع الخلق في أربعين يوما،و العلقة يجتمع خلقها في تلك الأربعين،و المضغة أيضا يجتمع خلقها في تلك الأربعين،فيكون جمع الخلق في مرحلتين:الأولى العلقة،و الثانية المضغة،و كلاهما في أربعين يوما.
و ليس جمع الخلق هو مرحلة من المراحل الثلاثة كما قالها العلماء السابقون -رحمهم اللّه-.
و لكن الذي يتتبع معنى«يجمع خلقه»في اللغة العربية يظهر له أنها بمعنى:
يحكم و يتقن (1)،فالبيان لهذا المعنى يعطي صورة واضحة لمعنى الحديث،حيث يغير مجريات تفسير الجمهور،و لا يفسّر الحديث إلا من أطر اللغة العربية التي تحدد المعاني لكل النصوص القرآنية و الحديثية.».
ص: 424
فالحديث يذكر الإتقان و الإحكام في ابتدائه،ثم بعد ذلك ما يلبث إلا و يشرحهما بأنهما العلقة و المضغة.
فمعنى الحديث أن الجنين يجمع خلقه،أي يتقن و يحكم في مدة أربعين يوما، ثم بعد ذلك شرح الحديث هذا الجمع:ثم يكون علقة،ثم يكون مضغة.
و نظير ذلك في كلام العرب:
إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره،ثم تشرح تغيّره فتقول:ثم يكون رضيعا،ثم فطيما،ثم يافعا،ثم شابا،ثم كهلا،ثم شيخا،ثم هرما،ثم يتوفاه اللّه بعد ذلك.
و ذلك من باب ترتيب الإخبار عن أطوار الإنسان التي ينتقل فيها مدّة بقائه في الدنيا.
و هكذا فإن وظيفة«ثم»هي ترتيب الإخبار عن أطوار الجنين،و ليس الترتيب و التراخي بين الخبر قبلها و الخبر بعدها،و ذلك لوجود قرائن عديدة-إضافة إلى ما ذكرناه سابقا-تفيد أن كلمة«ثم»لا تدل على ترتيب المخبر عنه في الحديث السابق الذكر.
و مثال ذلك قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154) [الأنعام:153-154]،فمن المعلوم أن وصية اللّه لنا في القرآن جاءت بعد كتاب موسى عليه السّلام.
و على هذا يكون معنى حديث ابن مسعود:إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة(أي ثم يكون جمع خلق-أو إتقان-العلقة في ذلك العدد من الأيام و هو أربعون يوما)مثل ذلك(أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)،ثم يكون في ذلك مضغة(أي ثم يكون جمع خلق-أو إحكام-المضغة في ذات الأربعين يوما)مثل ذلك(أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)،ثم يرسل إليه الملك و يؤمر بأربع كلمات...
و هذا يعني أن العلقة و المضغة متساويتان في مسمى الإتقان و الإحكام،لا في خصوصه،فهما محكمتا الخلق مثلما أن الإنسان محكم بعد الأربعين يوما.
و على هذا فكلمة اسم الإشارة«في ذلك»في الحديث ترجع إلى العدد،أي
ص: 425
إلى ذات العدد الذي هو أربعون يوما،و كلمة«مثل ذلك»في الحديث ترجع إلى جمع الخلق،فنصب«مثل ذلك»على المصدر،لا على الظرف.
و الذي يدعم حجتنا(و هي أن اسم الإشارة«في ذلك»في الحديث ترجع إلى العدد)،هو ما ورد في أحاديث أخرى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تثبت إرسال الملك الذي يؤمر بأربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح بعد الأربعين،و الأحاديث هي التالية:
1-عن حذيفة بن أسيد رضي اللّه عنه-يبلغ به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم-قال:«يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة و أربعين ليلة،فيقول يا ربّ:أ شقي أو سعيد؟فيكتبان،فيقول أيّ ربّ:أذكر أو أنثى؟فيكتبان،و يكتب عمله و أثره و أجله و رزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص».[أخرجه مسلم ح 47]
2-عن حذيفة بن أسيد رضي اللّه عنه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا،فصورها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك،ثم يقول:يا ربّ:أجله؟فيقول ربك ما شاء و يكتب الملك،ثم يقول:يا ربّ:رزقه؟فيقضي ربك ما شاء،و يكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر و لا ينقص»[أخرجه مسلم ح 45].و قد جاء في نسخة لفظ«ثلاث و أربعون»عوضا عن ثنتين و أربعين.
3-عن حذيفة بن أسيد رضي اللّه عنه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأذنيّ هاتين يقول:
«إن النطفة تقع في الرّحم أربعين ليلة ثم يتصوّر...»[أخرجه مسلم ح 48].
4-عن حذيفة بن أسيد صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-رفع الحديث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-:«أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد اللّه أن يخلق شيئا بإذن اللّه لبضع و أربعين ليلة...»[أخرجه مسلم ح 49].
5-عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا استقرت النطفة في الرّحم أربعين يوما أو أربعين ليلة بعث اللّه إليها ملكا،فيقول:يا ربّ:ما رزقه؟ فيقال له...»[أخرجه أحمد 50].
فمن قال من العلماء إن إرسال الملك الذي يختص بكتابة الأجل و الرزق و الشقاء و السعادة ثم نفخ الروح يكون بعد مائة و عشرين يوما،فقوله ينقض بالأحاديث الصحيحة الدّالة على أن الإرسال يكون بعد الأربعين.
ص: 426
و الدليل الفاصل الذي يثبت ما ذهبنا إليه،أن النص المجمل يبقى على إجماله حتى يأتي نص آخر مبيّن،فيحمل عليه و هذا حسب القواعد الأصولية.
و كلمة«مثل ذلك»في الحديث لفظ مجمل يحتمل أن يرجع إلى جمع الخلق، أو بطن الأم،أو أربعين يوما.
فما الشيء الذي يبين ذلك؟
و القضية واضحة مثل الشمس،فإن حديث حذيفة:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة بعث اللّه إليها ملكا فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟فيقضي ربك ما شاء و يكتب الملك...» [أخرجه مسلم ح 45]قد قطع كل احتمال و جعله احتمالا واحدا لا يتعدد من خلال بيان هذا المجمل،حيث منع إعادة«مثل ذلك»إلى أربعين يوما لأن النطفة و العلقة و المضغة لا تتعدى اثنين و أربعين يوما كما هو النص عن حذيفة.
و يمتنع أيضا إعادتها إلى بطن الأم،لأن تكراره في الحديث لا يفيد معنى جديدا،و التكرار إذا لم يفد معنى جديدا يكون حشوا في الكلام كما عند علماء البلاغة،و حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعيد عن ذلك،بل هو أفصح من نطق بالضاد، و يغدو التركيب غريبا عن العربية.
و إذا كان اسم الإشارة في الحديث لا يصح إعادته إلى الأربعين يوما و لا إلى بطن الأم فيتعيّن-بناء على ذلك-أن يعود اسم الإشارة«مثل ذلك»على جمع الخلق،لا على الأربعينات،و هو ما توصل إليه العالم ابن الزملكاني (1)في القرن السابع الهجري.
و تقوى حجّتنا من خلال النص القرآني الواضح الذي يدلّل على أن خلق العظام يكون بعد طور المضغة،يقول اللّه تعالى: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً... [المؤمنون:
14]و خلق العظام ثابت في الحديث الشريف بعد اثنين و أربعين يوما لما في صحيح مسلم:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها ثم قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟...» [أخرجه مسلم ح 45]فيتبين لنا أن المضغة نشأتها في مدة الأربعين يوما كما هو مدلول النص القرآني،و الحديث النبوي الشريف.
فاتجاهات النصوص الشرعية التي جعلناها دليلا لمسألتنا تفسر نص البخاري5.
ص: 427
في جمع الخلق على النحو الذي فسرناه،و إلا حدث التعارض البيّن بين النصوص، و شريعتنا منزهة عن مثل هذا التخبط.
و نعطي صورة توضح هذا التعارض:فمن فسّر حديث البخاري بأن جمع الخلق في الأربعين الأولى،و العلقة في الأربعين الثانية،و المضغة في الأربعين الثالثة،يجعل المضغة بعد ثمانين يوما لأنها في الأربعين الثالثة.
فيلزم أن خلق العظام يكون بعد مائة و عشرين يوما،أي:بعد انتهاء مدة المضغة التي تنتهي في الأربعين الثالثة.
و هذه معارضة صريحة لما في حديث مسلم أن خلق العظام يكون بعد الأربعين يوما:«إذا مرّ بالنطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا فصورها،و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها...»[أخرجه مسلم ح 45].
و آخر مطافنا في الأدلة على هذه القضية،أن المجمل لا بد له من مسائل إيضاحية تبيّن المراحل في الإجمال.
فالمجمل له وسيلتان:
الوسيلة الأولى:هي وجود نص بيّن يظهر الإجمال.
الوسيلة الثانية:وجود وسيلة علمية يقينية توضح هذا المجمل.
فالوسيلة الأولى قد ذكرناها في بحثنا هذا آنفا،أما الوسيلة الثانية:فإن المعطيات العلمية اليقينية تثبت ما قلناه و تكشف الآلات الحديثة كل شيء عن الجنين من طريق مصوّر منذ دخول النطفة الرحم إلى ولادة الطفل.
فالعلم أقرّ بأن هناك ثلاث مراحل أساسية تحدث في الأربعين الأولى:فالجنين يكون نطفة مؤلفة من خلايا في بادئ الأمر(إلى يوم السابع)،و من ثم تجمع خلايا الجنين ضمن قرص جنيني داخل النطفة(ما بين اليوم السابع إلى اليوم الثالث عشر)، و من ثمّ يتحول القرص الجنيني إلى علقة،و تخرج النطفة عن مظهرها(ما بين اليوم الخامس عشر إلى الرابع و العشرين)،و من ثمّ تتحول العلقة إلى مضغة(ما بين الخامس و العشرين إلى الاثنين و أربعين يوما تقريبا).
و المفهوم الأول للحديث الشريف الذي ينص على أن كل مرحلة من مراحل الجنين تحصل خلال أربعين يوما يتعارض مع تلك الحقائق.فالجنين في اليوم العشرين أو الثلاثين أو التاسع و الثلاثين،لا يمكن وصفه علميا كقطرة ماء،و يختلف في شكله و حجمه عنها على وجه القطع،و الجنين في اليوم الستين أو السبعين أو التاسع و السبعين،لا يمكن وصفه علميا أنه على شكل الدودة التي تعيش في البرك
ص: 428
و تمتص الدماء،أو أنه يظهر على شكل قطعة دم رطبة و جامدة،حيث يكون الجنين في هذه الفترة قد تشكّل و تطور و تمّ خلق جميع أعضائه،و الجنين بعد اليوم الثمانين، و إلى اليوم المائة و العشرين،لا يمكن وصفه بحال بأنه مضغة لا شكل فيها و لا تخطيط،أو أنه مخلق و غير مخلق،حيث تكون جميع أجهزة الجنين قد تخلقت، و الجنين نفسه في منتهى الحيوية و النشاط و يمارس جميع حركاته و انفعالاته.
و يتبين لنا من هذا التعليق أن العلم الحديث،الذي قفز قفزات نوعية،يطابق القرآن و حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بشكل يقيني،و لا يمكن أن يتعارض معه،و بالتالي لا يمكن تجاهل الوسائل العلمية اليقينية لتبيان المجمل من النصوص الشرعية،إن أشكل علينا التوفيق بينها.
و بعد:فيتضح لنا أن الأحاديث الواردة متفقة على ذكر الأربعين،و لكن مختلفة في القدر ما بعد الأربعين ببعض الأيام،فهناك روايات تنص على أربعين و أخرى تنص على اثنين و أربعين و أخرى على ثلاث و أربعين و أخرى على خمسة و أربعين و أخرى تجمل هذا و تزيد فتنص على بضع و أربعين يوما،و معنى البضع من ثلاثة إلى تسعة في اللغة العربية،و هذا لا ينافي الناحية العلمية،لأنه من الطبيعي أن تختلف الأجنة و يختلف نموها،و العدد المذكور في النص إنما هو تقريبي و ليس للتحديد.
و بعد هذا البحث كله نصل إلى أن الفتوى التي تجيز إسقاط الجنين قبل مائة و عشرين يوما لأن الملك لم ينفخ الروح في الجنين كلام غير صحيح،و أن إسقاط الجنين قبل مائة و عشرين يوما و بعد أربعين يوما يعدّ قتل نفس لأن الملك يكون قد نفخ في الجنين الروح،و الشريعة الإسلامية تمنع منعا جازما هذا الفعل لقول اللّه تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ... [الإسراء:33].
و يجب أن يصدر حكم من كل المؤتمرات الإسلامية و المجامع الفقهية و من كل فقيه مجتهد مستقل،و كل مفت رسمي بتحريم الإسقاط بتاتا بعد مدة الأربعين و قبل مدة المائة و عشرين يوما و بعدها،و أي تفريط من هذا الجانب يعدّ تفريطا شرعيا كبيرا و خرقا لحق الإنسان،و اعتداء على الإنسانية جمعاء (1).ل.
ص: 429
و أما الإسقاط قبل الأربعين فإنه و إن لم ينفخ في الجنين روح إلا أنه يعيش حياة نباتية و له القابلية لأن يصبح إنسانا حيا فيما بعد،و لذلك يكره إسقاطه.
و في النهاية،نود التعليق على سؤال قد يسأله كثير من الناس،أدى إلى إحداث خطأ في فهم الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي اللّه عنه،و هو:لما ذا لم يذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم طور النطفة في هذا الحديث؟؛فها هو طور«العلقة»مذكور،و ها هو طور«المضغة»مذكور أيضا،و طور«النطفة»يأتي«زمنيا»قبلهما،فلم لم يذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذلك الطور؟.
و قبل الإجابة على هذا السؤال،نشير إلى أن هذا التساؤل قد حمل بعض العلماء إلى الاعتقاد أن الحديث يتكلم عن طور«النطفة»لزوما،و عن طور«العلقة» و طور«المضغة»نصا،و قد أدى ذلك الفهم إلى إدراج كلمة«نطفة»في بعض الأحاديث جمعا بين الأحاديث المختلفة التي تتكلم عن هذا الموضوع.
و لقد رأينا في هذا المبحث أن هذا الحديث يفسّر على النحو التالي:إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة(أي ثم يكون جمع خلق العلقة في ذلك العدد من الأيام و هو أربعون يوما)مثل ذلك(أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)،ثم يكون في ذلك مضغة(أي ثم يكون جمع خلق المضغة في ذات الأربعين يوما)مثل ذلك(أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)،ثم يرسل إليه الملك،و يؤمر بأربع كلمات...
و هذا يعني أن الكلام هنا يدور حول موضوع«جمع الخلق».
و كما شاهدناه في أكثر من مرّة-و الله أعلم- (1)،لا يذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث إلا ما لزم من الأطوار،و يبتعد عن ذكر الأطوار التي ليس لها صلة مباشرة بالموضوع المتناول،أو التي لا ينطبق عليها الوصف المذكور في الحديث،و بالتالي نؤمن أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم امتنع عن ذكر طور النطفة لأن معنى الحديث يقتضي عدم ذكر طور«النطفة»،و الحديث:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما،ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك...»[أخرجه مسلم ح 43]غايته ليست سرد و ترتيب جميع الأطوار التي يمر بها الجنين،بل هي سرد و ترتيب الأطوار التي تحدث فيها ظاهرة«جمع الخلق»،و المتتبع لمعنى«جمع الخلق»،يفهم لما ذا لم يذكر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم طور النطفة-و اللّه أعلم-،و ذلك للسبب التالي:».
ص: 430
إن«جمع خلق»الشيء يقتضي-كما رأينا آنفا-،جمع خلايا الشيء المقصود في أعضاء مختلفة تعطي هذا الشيء الصورة التي تمليها عليها تسميته،و هذا شرط على الشيء أن يحققه،حتى يحق أن يطلق عليه صفة«مجموع الخلق».
فمثلا:على خلايا«المضغة»أن تجتمع فيما بينها حتى تؤلف أعضاء جديدة لدى «المضغة»تعطيها صورة المضغة،فإن لم يكن هناك جمع للخلايا حتى تؤلف أعضاء مختلفة،لم يندرج هذا الطور تحت ظاهرة«جمع الخلق»،و كما رأينا فإن خلايا القرص الجنيني تنقسم،و من ثمّ تتمايز و تجتمع ضمن فلقات هي بمثابة طلائع للعظام و اللحم و الجلد،مما يعد جمعا أوّليا للخلايا التي ستعطي فيما بعد الأعضاء ضمن فلقات تعطي الجنين مظهر«العلقة»،و لذلك يصدق أن نقول عن العلقة:«مجموعة الخلق»،و من ثمّ تتكاثر تلك الفلقات،و تتفكك و تهاجر خلاياها تدريجيا،و تجتمع مؤلفة الأيدي و الأرجل و سائر الأعضاء على صورة براعم أولية دون أن يفقد الجنين مظهر الفلقات،فتجتمع الخلايا من خلال هذه العمليات ضمن أعضاء مختلفة، مكسبة«العلقة»صورة«المضغة المخلقة و غير المخلقة»،فيحق عندئذ أن يندرج الطور الجديد ضمن ظاهرة«جمع الخلق».
و خلاصة القول:
أنه في هذين الطورين هناك خلق أعضاء عن طريق جمع خلايا،و صور جديدة محدثة وفق هذا الجمع.
أما في حال نطفة الأمشاج،فليس هناك جمع خلايا يؤدي إلى نشوء أعضاء جديدة لدى النطفة تضفي عليها صورة النطفة،بل هناك تكاثر للخلايا في اتجاهات مختلفة،لا يؤدي في هذه المرحلة إلى تخلق أعضاء تعطيها صورة النطفة.و جمع الخلايا إلى قسمين الذي حصل داخل غلاف النطفة في نهاية طورها لم يؤدّ إلى جمع أعضاء للنطفة،بل أدى إلى جمع شيء جديد:الجنين.
و هذا إعجاز رائع يدل على مدى دقة صياغة الأحاديث الشريفة،حيث إنها تحتوي على ما يلزم من المفردات،مما يجعل معنى الحديث يتطابق بتفاصيله مع المعطيات العلمية اليقينية.
ص: 431
يعتبر هذا البحث متمما لبحث الحضانة الرحمية لأن الرضاعة لها علاقة وثيقة بعلم الوراثة الذي من شأنه أن يؤثر في التكوين الإنساني،و لها ارتباط بالنمو الجسمي للإنسان،و هذا النمو هو امتداد طبيعي لتخلق المولود،فبعد أن تحدثنا عن الحضانة الرحمية نتحدث في هذا البحث عن الحضانة الخارجية،أ لا و هي:الرضاعة.
و الإسلام أعطى أهمية كبرى لهذا الموضوع،فإنه أمر الأم أن ترضع ولدها من لبنها لما يحتوي من غذاء لا يماثله أي غذاء آخر.
و هذه جملة آيات تشير إلى موضوع الرضاعة:
*قال اللّه تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ... [البقرة:233].
*قال اللّه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].
*قال اللّه تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما...
[البقرة:233].
لقد عرف استخدام لبن البقر في تغذية الطفل و نظام المرضعة (1)من قديم الزمان،و قد اشتهرت تلك الظاهرة منذ العهد اليوناني حيث كانت النساء تعطي أطفالهن للعبيد لترضع المولود الجديد لفترة من الزمن،و من ثمّ كانت تعتمد على لبن الأبقار في تغذية الطفل.
و قد ظلّ نظام المرضع رائجا حتى نهاية القرن الثامن عشر،و من ثمّ بدأ بالتراجع إلى وقتنا الحالي بالرغم من التحقق من أهمية لبن الثدي إلا أن المسلمين في العالم المعاصر ما زالوا يفضلون الإرضاع من الأم اتّباعا لأمر دينهم.
ص: 432
و قد أدّي هذا الحدث إلى ابتداع بنوك اللبن الإنساني في بعض أنحاء المدن الكبرى و كان أولها في بوسطن عام 1910 م.
أما الاعتماد على لبن الحيوانات فقد اتخذ منحى آخر بعد أن فحص ميكروسكوبيا و بعد أن اكتشف أنه يختلف عن لبن الثدي في تكوينه الكيميائي.
و قد حمل هذا الاكتشاف مصانع اللبن إلى إجراء تعديلات على لبن الأبقار لتقريبه من اللبن الإنساني و ترويجه في الأسواق.
و في خطوة لاحقة تمّ تجفيف لبن الأبقار و طرحه في الأسواق،و قد واجهت هذه الخطوة مشكلات متعددة فأدخلت تعديلات إضافية على اللبن المجفف.
و قبل عهد الوحي كان نظام المرضعات رائجا أيضا حتى إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم رضع من حليمة السعدية رضي اللّه عنها،و غيرها.
و كان من شأن الشارع أن يثبت الأخلاق و العادات الحميدة التي لها أثر إيجابي على المجتمع،و أن يحرم الأخلاق و العادات التي تلحق الضرر على المجتمع.
و من العادات التي أقرّ بها الشرع و حثّ عليها هي الرضاعة الطبيعية سواء كانت من المرأة التي وضعت المولود،أو من امرأة أخرى تستطيع إرضاع المولود الجديد مع إعطاء الأولوية للأم في الرضاعة (1).
و قد أوصى اللّه عزّ و جلّ الأمهات بإرضاع أطفالهن مدة سنتين ابتداء من ولادته لمن أراد إتمام الرضاعة في الآية الكريمة: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة:233].
و في حال وجود عسرات على إرضاع الأم لطفلها فقد حثّ الشارع على إرضاع الطفل من ثدي امرأة أخرى في قوله تعالى: وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].فالإسلام يضع الأولوية في الإرضاع للأم،فإذا حدث ما يعيق إرضاعها اختارت امرأة مناسبة لإرضاع ولدها،و هذا بخلاف ما اعتاده العرب،فإنهم كانوا يرسلون المولود إلى البادية إلى مرضعة ترضعه و تهتم به،و يفضلون لبنها على لبن أم المولود،لأن ذلك يكوّن عند المولود النجابة و الفصاحة.فقد جاء في السيرة النبوية (2):«ثم التمس عبد المطلب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المراضع على عادة أهل مكة،).
ص: 433
الذين كانوا يؤثرون إذا ولد لهم ولد أن يلتمسوا له مرضعة من البادية،ليكون أنجب للولد و أفصح له».
و في حال ضاقت السبل على الرضاعة الطبيعية فعلى الأسرة المسلمة أن تنظر في حالة الرضيع،و تبحث في إمكانية إرضاعه من مصادر أخرى إن رأت أنّ تلك الخطوة لا تلحق الضرر به كما في قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [البقرة:233].
يقول ابن كثير رحمه اللّه (1)في تفسير الآية المذكورة سابقا:«فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين،و رأيا في ذلك مصلحة له،و تشاورا في ذلك،و أجمعا عليه،فلا جناح عليهما في ذلك...و هذا فيه احتياط للطفل...».
و هكذا فقد أعطى الشارع أولوية الإرضاع للأم،و أرسى أن البديل للرضاعة من الأم هو الرضاعة من امرأة أجنبية،و في حال ضاقت السبل المذكورة على رضاعة الطفل من النساء فقد سمح اللّه تعالى للأم أن تغذي طفلها من مصادر غير إنسانية مثل لبن الأبقار،إذا لم تلحق تلك الخطوة الضرر بالمولود.
و هذا البحث قد لا يدلل على معجزة علمية إلا أنه يشير إلى أن النظام الإسلامي في غذاء الأطفال من جهة الإرضاع هو أفضل الأنظمة،و جاء الطب الحديث يثبت هذه القضية.
و من المعلوم أن المجتمعات الغربية قد اتجهت إلى تبديل نظام الإرضاع من لبن الأم إلى نظام إرضاع اللبن المجفف،و بعد أن نتج من ذلك آثار سيئة متحققة من خلال الأبحاث اليقينية،غيرت اتجاهها،و تحاول الآن الرجوع إلى الطبيعة،و إلى ما فطر اللّه عليه الإنسان من استخدام إمكانيات ذاتية و إنسانية و هي الإرضاع من الأم.
و في هذا البحث سوف نتحدث عن الأسباب التي تعطي أفضلية الإرضاع للأم، و عن الفرق بين لبن الأبقار و اللبن الإنساني من الناحية الكيميائية،و الآثار التي تترتب من اتخاذ تلك الخطوات.
الآيتان اللتان تعطيان أفضلية الرضاعة من الأم على الرضاعة من المرضعات هما:
ص: 434
قال اللّه تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ... [البقرة:233].
*قال اللّه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].
و تفضيل رضاعة الأم على الرضاعة من النساء الأخريات ينبع من أن اللبن الإنساني يختلف بين امرأة و أخرى (1)،و هذا الاختلاف شأنه أن يكون مناسبا لحاجات الرضيع،و بالتالي فإن ثدي الأم هو الكفيل الوحيد لرضاعة متكاملة.
و هناك جانب آخر يضاف إلى الجانب الكيميائي قلّما يتحدث عنه الناس،و هو الجانب العاطفي للرضاعة،فمن العوامل التي تساعد على النمو السليم للطفل العامل السيكولوجي(النفساني)،فهذا من شأنه أن يساعد على التوازن العاطفي لدى الطفل، و بالتالي على نموه بنحو أفضل.
و الحديث التالي يلقي الضوء على هذا الأمر:«عن محمد بن كعب القرظي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق حين ولد عبد اللّه بن الزبير، فقال:أ هو هو؟أ هو هو؟فقيل:يا رسول اللّه:إن أسماء تركت رضاع عبد اللّه لما سمعتك تقول:أ هو هو،فقال:أرضعيه و لو بماء عينيك...»[أخرجه ابن عساكر ح 95].
و الرضاعة من ماء العين متعذرة،و ذلك لقلّة ماء العين و صعوبة التقاطه،ناهيك أن هذا الماء مالح و لا يتلذذ به الطفل.لذا يتوجب علينا أن لا نأخذ بظاهر الحديث، و أن نفسّره وفق الأدلّة اللغوية و العقلية.
و صياغة الحديث جاءت بصيغة المبالغة:«و لو...».و هذا يعني أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يحثّ السيدة أسماء على إرضاع الصحابي عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهم حتى و لو اقتضى الأمر بوضعه على صدرها فقط.فالرضاعة من ثديها،و الالتصاق الجسدي،و ما يتبعه من نظرات متبادلة،يوطّد العلاقة بين الأم و طفلها فتشعر الأم بالسرور و يشعر الطفل بالطمأنينة.
فمن معاني«لو»:أن تكون للتقليل كما في«الجنى الداني في حروفف.
ص: 435
المعاني» (1)،و«رصف المباني في شرح حروف المعاني» (2)،و مثّل على ذلك بقولهم:أعط المساكين و لو واحدا،و تأتي كذلك للمبالغة في هذا التقليل،كما في:
«تاج العروس» (3)،و كما في الحديث:«عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال من بنى مسجدا للّه كمفحص قطاة أو أصغر بنى اللّه له بيتا في الجنّة» [أخرجه ابن ماجة ح 108]الذي حثّ المؤمنين على إقامة المساجد حتى و لو كانت صغيرة جدا.جاء في شرح سنن ابن ماجة للسندي:(قوله:«كمفحص قطاة»هو موضعها الذي تخيم فيه و تبيض،لأنها تفحص عنه التراب،و هذا مذكور لإفادة المبالغة في الصغر،و إلا فأقل المسجد أن يكون موضعا لصلاة واحد)،و هذا مثاله ما جاء في الحديث السالف الذكر،حيث بالغ في الأمر بالإرضاع،و لو بماء العينين الذي ليس بحليب،من باب المبالغة في الأمر بالإرضاع،و هذا أسلوب من أساليب العرب،في الحض على الأمر بالشيء،دون أن يقصدوا فعل ما جاء ظاهرا في الخطاب،و إنما المراد هنا أن يكون الإرضاع و لو بقطرة حليب،أو بوضع الطفل على مكان الإرضاع لتثبيت الأمومة بين الأم و طفلها.
و إليك آراء الاختصاصيين في مجال الرضاع:
يقول د.على التنير:«يعتبر مدة فترة الرضاعة بالثدي إلى مدة تتراوح بين سنة و نصف و سنتين قاعدة في كثير من المجتمعات الريفية.فإذا كانت الرضاعة تستمر هذه الفترة الطويلة،فالأرجح أن يرجع ذلك إلى ما تضفيه هذه الفترة من السرور و الرضا،و ليس لمجرد أنها واجب مفروض.فالاستجابة النفسية للرضاعة،و ما يصحبها من تمدد لحلمة الثدي و التقلصات الرحمية،تسبب إحساسا بالنشوة...» (4).
و يقول د.لارس هامبرغر:«هناك أيضا فائدة عاطفية عظيمة[في الرضاعة]؛ لن تسنح للأم و طفلها فرصة أخرى يتعرفان فيها بعضهما على بعض،و يكونان علاقة متبادلة،مثلما يكون خلال الرضاعة» (5).1.
ص: 436
و جاء في الوجيز في تغذية الأطفال و الأولاد الصغار:«التغذية من الثدي تثبّت علاقة حميمة و مفرحة بين الأم و طفلها» (1).
و من هنا نفهم لما ذا أوصت النصوص الشرعية بأهمية إرضاع الأم لطفلها، و إعطائها الأفضلية في الإرضاع،و لهذا تعتبر التوصيات الإسلامية النموذج المثالي للاتباع.
و الآية التي تتحدث(بطريقة غير مباشرة)عن أفضلية اللبن الإنساني على المصادر الأخرى هي:
*قال اللّه تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [البقرة:233]
و تفضيل اللبن الإنساني على اللبن الحيواني ينبع من:
أن الجهاز الهضمي للرضيع مهيأ لهضم و تمثيل لبن الأم.
فهذا الجهاز يملك كل الخمائر اللازمة لهضم لبن الأم،و مقادير هذه الخمائر مناسبة لمقادير الأحماض الأمينية الموجودة في لبن الأم.
أما لبن الأبقار فهو يحتوي على عدد من الأحماض الأمينية بمقادير تزيد من ثلاثة إلى أربعة أمثال مقادير ما في لبن الإنسان.(انظر الصورة رقم:121 في الصفحات التالية).
و الكثير من الخمائر اللازمة لتحليل الأحماض الأمينية المختلفة لا تكون موجودة بالصورة المطلوبة في الأطفال حديثي الولادة،و بذلك فإن الأطفال الذين يتغذون من لبن البقر قد يواجهون ارتفاعا في نسبة الأحماض الأمينية بالدم (2)،و قد يؤدي ذلك إلى بعض أنواع القصور العقلي.
و من المضاعفات السلبية لارتفاع نسبة البروتينات في لبن الأبقار على جسم الرضيع:أن هذه البروتينات تتجبّن(تترسّب)بسرعة في معدة الرضيع بتأثير العصارة
ص: 437
المعدية لاحتواء هذا اللبن على نسبة عالية من مجموعة الكازين (1)مما يدفع الرضيع إلى القيء،بالإضافة إلى أن عدم امتصاصه يؤدي إلى تعفّنه و حدوث الإسهال (2).
(انظر الصورة رقم:121 في الصفحات التالية).
إلى ذلك فإن المخ و الجهاز العصبي يمران بتغييرات سريعة خلال سنوات الطفولة الأولى،و الدهن مكون مهم من مكونات الجهاز العصبي و المخ النامي (3)، و اللاكتوز ضروري لبناء(دهن اللبن GALACTOLIPIDIS )في المخ النامي (4)،و لبن الإنسان يختلف عن ألبان غالبية الثدييات الأخرى في أنّ تركيز اللاكتوز به أعلى (5).
و عليه فإن تناول لبن الأبقار و الحيوانات الأخرى الذي يحتوي على كمية منخفضة من اللاكتوز بالنسبة إلى لبن الأم قد يكون له أثر سلبي على صحة الطفل.
كذلك يتحلّل سكر اللاكتوز في أمعاء الرضيع إلى:سكر الجلوكوز و سكر الجالاكتوز.و سكر الجلوكوز يقوم بإمداد خلايا الجسم بالطاقة،كما أنه يساعد الكبد على التخلص من السموم،و هو أيضا ضروري لإتمام حرق المواد الدهنية،و كذلك لتكوين الأحماض الأمينية التي تتكون منها البروتينات (6).
إضافة إلى ما ذكرناه فإن الدهن الموجود في لبن الأم يختلف عن الدهن الموجود في لبن الأبقار؛فعلى سبيل المثال:يتكون أكثرية الدهن الموجود في لبن الأم من الدهن ذات السلسلة الطويلة غير المشبعة،أما دهن لبن الأبقار فهو يحتوي أكثر على الدهن ذات السلسلة القصيرة أو المتوسطة المشبعة(مع أن أكثر الدهن الموجود في لبن الأبقار من النوع ذات السلسلة الطويلة) (7)،و طبيعة الدهن في جسم).
ص: 438
الرضيع تتوقف على نوعية الدهن في غذائه.و قد أوضحت عينة لنسيج عند فحصها ميكروسكوبيا تشابها كبيرا بين تكوين الأحماض الدهنية و أحماض الغذاء،و هكذا فإن مخزون الدهن لدى أطفال الرضاعة الطبيعية يختلف عن مخزون الدهن لدى الأطفال الذين يرضعون لبن الأبقار (1).(انظر الصورة رقم:120).و بما أن المخ النامي و الجهاز العصبي يمران بتغييرات سريعة خلال السنوات الأولى،و بما أن الدهن مكون مهم من مكونات الجهاز العصبي فإن تناول لبن الأبقار أو أي لبن آخر يختلف في تركيبته الكيميائية عن لبن الأم قد يكون له آثار سلبية على صحة الطفل.
كذلك يحتوي لبن الأبقار على مواد معدنية مرتفعة يصعب على الطفل الرضيع استيعابها و تصريفها؛مما يؤدي إلى ضمور و قصور في الكلى في حال تناولها الطفل الرضيع.(انظر الصورة رقم:121).ف.
ص: 439
ص: 440
إضافة إلى ذلك فإن لبن الأم معقم،و هو غير معرض للبكتيريا الموجودة في الهواء،لأنه يخرج من ثدي الأم مباشرة إلى فم الرضيع،و هذا بخلاف حليب الأبقار أو الحليب الصناعي،فمهما عقمناه فإن الأواني المنزلية التي تستعمل لتحضيره، مهما كانت نظيفة،فهي معرضة للبكتيريا الموجودة في الهواء و الماء التي قد تلوثها و تلوّث بالتالي حليب الأبقار.و قد حذرنا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من هذه البكتيريا التي تحدث الوباء في حديثه الشريف:«غطّوا الإناء و أوكوا السقاء،فإن في السّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء،إلا نزل فيه من ذلك الوباء»[أخرجه مسلم ح 79].و بذلك فقد سبق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العالم(لوي باستور LOUIS PASTEUR )(1822-1895 م)الذي يعتبر مؤسس(علم الميكروب MICROBIOLOGY )،و العالمان(روبرت هوك ROBERT HOOKE )(1635- 1703 م)،و(أونتون لوفنهوك ANTON LEEUWENHOEK )(1632-1723 م)الذين راقبوا الأعضاء الميكروبية بواسطة العدسات المكبرة بألف و ثلاثمائة عام تقريبا في التحدث عن الميكروب الذي يحدث الوباء.
من ناحية أخرى يحتوي لبن الثدي على أجسام مضادة مقاومة لكثير من الكائنات البكتيرية و الفيروسية،و قد أوضحت كثير من الدراسات أن هذه الأجسام
ص: 441
المضادة تحصن الجهاز الرئوي و الهضمي عند الأطفال،و معظم هذه الأجسام هي من نوع:(آي جي آي IGA ) (1).
إضافة إلى ذلك فإن لبن الثدي يحفز نظام المناعة لدى الطفل على التطور، و هو يحتوي على مواد تمنع الميكروبات من دخول جسم الطفل،و تغيّر في الأجواء المعوية بحيث تقضي على البكتيريا المضرة للطفل (2)،و تخفف من حالات الإسهال.
أما محاولات تكييف لبن الأبقار و الحيوانات الأخرى التي تقوم بها مصانع اللبن لكي تلائم حاجات الرضيع فهي عملية تقريب فقط للإنتاج الطبيعي (3)،فألبان الثدييات هي ألبان معقدة جدا و مركبة خاصة لتلبي احتياجات الأجناس المحددة (4)، و لا يمكن لأي عملية تكييف أن تحول لبنا من جنس آخر إلى لبن يوازي لبن الأم.
يمتص الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم الحديد بصورة أفضل من أولئك الذين يتغذون بألبان الأبقار،و ذلك لوجود مادة لاكتوفرين في لبن المرضع،و هي مادة تساعد على امتصاص الحديد،كما أن في لبن الأم مادة بروتينية أخرى تتحد بالحديد و أجزاء من الخلايا،بحيث لا تترك الحديد حرّا في الأمعاء،و قد وجد أن الحديد الحر مهم لنمو بعض البكتيريا العدوانية،و بالتالي فإن حرمان هذه البكتيريا من الحديد يؤدي إلى إضعافها و سهولة القضاء عليها.
تؤدي التغذية بالألبان المجففة للمواليد إلى زيادة في عدد من الهرمونات في جسم الطفل مثل:الأنسولين و الموتولين و النيروروتنسين،و هذه كلها لها علاقة بأمراض الاستقلاب التي تكثر عند من يغذون بألبان الأبقار،و تندر فيمن يرضعون (5).
و من الكلام السابق نفهم أن أطفال الرضاعة الصناعية يختلفون حيويا عن أطفال الرضاعة الطبيعية،و يحملون في دمهم أنماطا مختلفة من الأحماض الدهنية، و يتغذون من مجموعة مختلفة من المواد الكربوهيدراتية و البروتين التي تدخل في صلبهم،و هم محرومون من عناصر المناعة المختلفة الموجودة في لبن الثدي...5.
ص: 442
كذلك فإن أكبر المشكلات التي يعاني منها المجتمع الحضاري هي مشكلة البدانة.
و مع علمنا الأكيد أن هناك مسبّبا وراثيا في هذه المشكلة،غير أن أحجام و أعداد خلايا الدهن التي تسبب البدانة تحدد في الأشهر الأولى من حياة الطفل.
و كما نعلم فإن التركيب الكيميائي للبن الأم يتغير تدريجيا خلال عملية الإرضاع إلى أن يصبح غنيا بالدهن عند فراغ الثدي من الحليب،مما يدفع الطفل بعد إحساسه ببعض المرارة إلى التوقف عن الرضاعة و الاكتفاء بما أعطي له من الحليب.
أما هذه الخاصية فهي غير متوفرة في الحليب الصناعي،لأن تركيبه الكيميائي ثابت لا يتغير،مما يدفع الطفل إلى طلب المزيد من الحليب الصناعي دون الشعور بالرغبة في التوقف عن الطعام مما يؤدي إلى زيادة حجم و أعداد خلايا الدهن عند الطفل،علما أن هذه الخلايا ترافقه خلال باقي حياته و تزيد احتمال إصابته بالبدانة لاحقا.
إن الشركات المصنّعة للحليب الصناعي تحاول جاهدة الوصول إلى تركيبة صناعية شبيهة لحليب الأم،لكن التباين الكيميائي الذي ذكرناه آنفا،إضافة إلى العلاقة النفسية التي تنشأ من التقام الرضيع ثدي أمه و التي تسبب إحساسه بالدفء و الأمان،إذا ما قورن بحمل الطفل للقارورة الغريبة و الباردة تجعل الوصول إلى تركيبة مثالية مشابهة لحليب الأم متعذرا مهما تقدمت التكنولوجيا و أساليب تصنيع اللبن.
إلى ذلك نسبة الوفيات بين الأطفال الذين يتغذون على لبن البقر أعلى من نسبة الوفيات بين الأطفال الذين يتغذون على لبن الأم (1).(انظر الصورة رقم:122).
كما تشير مختلف المراجع الطبية إلى أن الأطفال الذين يتغذون على غير لبن الأم قد يعانون من أمراض كثيرة،مثل:(المرض البطني الجوفي CELIAC DISEASE ) (2)،و(مرض السكري DIABETES ) (3)،و(مرض المفاصل المبكر JUVENILE RHEUMATOID ARTHRITIS ) (4)،و(مرض الورم اللمفاوي5.
ص: 443
LYMPHOMA ) (1)،و(المرض الجلدي ATOPIC DISEASE ) (2)،و(مرض الالتهاب المعوي INFLAMMATORY BOWEL DISEASE ) (3)،و(أمراض تصلب الأنسجة MULTIPLE SCLEROSIS ) (4)،و أمراض أخرى...
و للأسباب التي ذكرناها آنفا و لأسباب أخرى،فإن لبن الأم يعتبر المثال الأعلى لتغذية الطفل تغذية سليمة بالمقارنة مع تغذيته من مصادر أخرى،و هو لا يستعاض عنه إلا بلبن مثله كما تشير إليه الآية: وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].
*قال العليم الحكيم: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ [النحل:66] (5).
ص: 444
جاء في مقاييس اللغة (1):«خلص،الخاء و اللام و الصاد أصل واحد مطّرد، و هو تنقية الشّيء و تهذيبه».
و جاء في لسان العرب (2):«استخلص الشيء:كأخلصه...قال الأزهري:
سمعت العرب تقول لما يخلص به السمن في البرمة من اللبن و الماء و الثّفل:
الخلاص،و ذلك إذا ارتجن و اختلط اللبن بالزّبد فيؤخذ تمر أو دقيق أو سويق فيطرح فيه ليخلص السمن من بقيّة اللبن المختلط به،و ذلك الذي يخلص هو الخلاص،بكسر الخاء،و أما الخلاصة و الخلاصة فهو ما بقي في أسفل البرمة من الخلاص و غيره من ثفل أو لبن و غيره.(قال)أبو الدقيش:الزّبد خلاص اللّبن أي منه يستخلص أي يستخرج».
و من التفسير السابق نفهم أن اللبن يستخلص من بين فرث و دم.
و الفرث هو بقايا الطعام في الجهاز الهضمي،جاء في المعجم الوسيط:
«الفراثة:بقايا الطعام في الكرش.الفرث:الفراثة» (3).و قياسا على ذلك نستطيع أن نشمل البكتيريا الموجودة في الأمعاء تحت اسم الفرث لأنها موجودة في الأمعاء، كما أن وجودها يعتمد على بقايا الطعام.
فإذا تحلّل الطعام جزئيا أو كليّا في الكرش لم يعد طعاما،و أصبح بقية طعام، و بالتالي فإن الآية تشير إلى أن التحلّل شيء أساسي لكي يستخرج اللبن من الطعام، و هذه ملاحظة ملفتة للنظر.
و هكذا فإن الآية تعني:نسقيكم مما في بطونه لبنا يستخلص من بين طعام متحلّل في الجهاز الهضمي و دم.
و لم يصب معظم مفسّري القرآن الكريم-رضوان اللّه تعالى عليهم-حقيقة ما ترمي إليه الآية المذكورة أعلاه،فقد جانبوا الصواب في أمرين عند تفسيرهم الآية، (و ذلك لعدم درايتهم بالعلم الكوني المحيط بظاهرة تكوين اللبن):ففي الأمر الأول اعتبروا أن اللبن يتولّد في مكان محدد في الجهاز الهضمي،و بالتالي إن هناك لفظا محذوفا في الآية تقديره:نسقيكم لبنا يتولّد في مكان ما محدد،و في الأمر الثاني).
ص: 445
اعتبروا أن الوسيطة التي تشير إليها كلمة«بين»حقيقة،أي:أن اللفظ«بين»يشير إلى مكان ما يقع بين الفرث و الدم،و كأنّ الآية تعني:نسقيكم مما في بطونه لبنا يتكوّن في مكان ما يقع بين الفرث و الدم،و هذا ينافي الحقيقة،و ذلك أن اللبن و الدم لا يتكوّنان في الكرش.و هذا ما أشار إليه الرازي في تفسيره قائلا:«و لقائل أن يقول:
الدم و اللبن لا يتولدان البتّة في الكرش.و الدليل عليه:الحس،فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا،و ما رأى أحد في كرشها لا دما و لا لبنا،و لو كان تولّد الدم و اللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال،و الشيء الذي دلّت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه» (1).
و بالتالي لا بد أن تكون الوسطية معنوية،و لهذا جاء في البحر المحيط:
«و الذي يظهر من لفظ الآية أنّ اللبن يكون وسطا بين الفرث و الدم،و البينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون.و ادعى الرازي أنه على خلاف الحس و المشاهدة،و يحتمل أن تكون البينية مجازية» (2).و الذي أكّد أن البينية مجازية هو الطاهر بن عاشور (3)في قوله:«و ليس المراد أن اللبن يتميع بين طبقي فرث و دم، و إنما الذي أوهم ذلك من توهمه جملة(بين)على حقيقتها من ظرف المكان،و إنما هي تستعمل كثيرا في المكان المجازي،فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم:
الشجاعة صفة بين التهور و الجبن.فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبيعة من الناس بحسب مبالغ علمهم مع كونه موافقا للحقيقة».فإذا كانت الوسطية معنوية وجب عندئذ أن تعود كلمة«بين»لفعل الاستخراج حتى يستقيم المعنى،أو لكلام محذوف تقديره:لبنا تتألف بعض أجزائه من بين فرث و دم.في الحالة الأولى نفهم أن على عملية الاستخراج أن تحصل إما مناصفة من الفرث و من الدم في آن واحد،و إما أن تكون عملية الاستخراج مؤلفة من عمليتي استخراج ثانويتين تحصلان بالتتابع من الفرث و من الدم.و الحكم في هذه الحالة هو للحقيقة العلمية(و ليسة.
ص: 446
للنظرية التي قد تخطئ).فهي من الأدوات التي توضّح اللفظ المجمل الذي قد يفسّر في أكثر من اتجاه.و الحقيقة العلمية تشير(كما سنراه لاحقا)أن اللبن يستخرج من الفرث أولا و من الدم ثانيا،و بالتالي فالوسطية المعنوية هنا هي أن الاستخراج يحصل على مرحلتين:من الفرث أولا و من الدم ثانيا كما أشارت إليه الآية القرآنية،حيث قدّمت لفظ«فرث»على لفظ«دم»للإشارة أن الوسط الأول الذي يستخرج منه مكوّنات اللبن هو الطعام المتحلّل أو المهضوم،و أن الوسط الثاني هو الدم.و لذلك جاء في البحر المحيط:«و يحتمل أن تكون البينية مجازية،باعتبار تولده[أي تولد اللبن]من ما حصل في الفرث أولا،و تولده من الدم الناشئ من لطيف ما كان في الفرث ثانيا» (1).
و تفصيل ذلك:
أن اللبن يتكوّن من عناصر كثيرة؛كالبروتينات،و الفيتامينات،و الأملاح، و الدهون التي تستخلص من الطعام المهضوم بعد امتصاصه من الأمعاء،و التي يتمّ نقلها إلى الثدي بواسطة الدم الذي يجري في الشرايين.
فاللبن يتكون إذن من مكونات تستخلص من الفرث و من الدم على التوالي، مما يعني أن وظيفة«من»هي لابتداء الغاية في الأماكن في هذه الحالة،بحيث إنها تعني أن اللبن يستخلص من الفرث إلى الدم في المرحلة الأولى،و من الدم إلى مكان آخر في المرحلة الثانية(و هو«الثدي»الذي جاء ذكره في الحديث الشريف:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56] و كما سنفصله لاحقا).
و من الجدير بالذكر أن الآية: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً [النحل:66]في قمّة البلاغة،لأنه اختصر وصف عملية استخراج اللبن على العموم بعبارة وجيزة جدّا، فلو أردنا أن نروي قصة تكوّن اللبن حسبما أورده القرآن الكريم لتوجّب علينا أن نتفوّه بعبارة طويلة،مثل أن نقول:يستخرج اللبن من الطعام المتحلّل في الكرش و ينتقل منه إلى الدم،و من ثمّ يستخرج من الدم و ينتقل منه إلى مكان آخر.
و أما في الحالة الثانية:أي في حالة تقدير كلام محذوف:لبنا تتألف معظم أجزائه من بين فرث و دم،فنفهم أن معظم اللبن يتألّف وسطيّا من أجزاء من الفرث و من أجزاء من الدم،و كأن الآية تعني:نسقيكم مما في بطونه لبنا يتألف من بعض).
ص: 447
الفرث و من بعض الدم يستخلص منهم...،و بالتالي فإن وظيفة«من»في هذه الحالة هي:للتبعيض للإشارة إلى بعض أجزاء الفرث و بعض أجزاء الدم،و وظيفة«بين»هي الوسطية المعنوية للإشارة إلى أن اللبن يتألف وسطيا من كلا الفرث و اللبن.و الحقيقة العلمية تشير إلى ذلك أيضا حيث إن دهن اللبن على سبيل المثال يأتي في معظمه من الفرث في بادئ الأمر،و بالتالي فإن بعض اللبن هو جزء من الفرث،و بعض الأحماض الأمينية للبن تأتي من الدم،و بالتالي فإن بعض اللبن هو جزء من الدم (1).
و من الجدير بالذكر أن المذهب الأول أقوى من المذهب الثاني،و ذلك أنه لا يعيد لفظ«من بين»إلى كلام محذوف-يتألف-،و لكن إلى لفظ موجود في الآية -خالصا-.و اللفظ الذي تعود جذوره للحقيقة أولى أن نعتبره من اللفظ الذي تعود جذوره لكلام مقدّر.أضف إلى ذلك أن المكوّنات البسيطة أو البدائية التي يتكوّن منها مختلف أعضاء اللبن تأتي بادئ ذي بدء من الفرث قبل أن تنتقل إلى الدم(أو إلى أي عضو آخر)فالثدي.
و لمزيد من الإيضاح،سوف نلقي الضوء على المصادر التي يستقي منها اللبن مكوّناته،سواء أ كان اللبن إنسانيا أم حيوانيا(فالآية تناولت في المقام الأول الأنعام، و سوف نرى في مبحث:«معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة»أن القياس في هذا المجال وارد لأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قايس بين الثدييات و بين الإنسان في أكثر من حالة)، فاللبن في معظمه يتكون من:
1-الماء:تستخلص الغدد الثديية ماء اللبن كله من الدم (2). .
ص: 448
2-السكريات:تتكون المواد الكربوهيدراتية الموجودة في اللبن في معظمها من سكر اللبن«اللاكتوز»،و يتكون سكر اللبن في غدّة الثدي من الجلوكوز المستمد من الدم.و جلوكوز الدم(الذي هو مصدر سكر اللبن)هو في الأساس من محتويات الأمعاء قبل أن يتم امتصاصه،لذا فإن سكر اللبن مشتق من الفرث و من الدم.
3-البروتينات:تتكون بروتينات اللبن على العموم من أحماض أمينية أساسية و غير أساسية.و هذه البروتينات(كالكازين و البيتالكتو جلوبلين)تتكون«في الريبوسوم على(الشبكة الاندوبلاسمية ROUGH ENDOPLASMIC RETICULUM )[في غدد الثدي]و تشتق الأحماض الأمينية الأساسية لهذه العملية من الدم» (1)،بعد أن تأتي من الغذاء المتحلّل(أي من الفرث)،أو بعد أن تتكون بواسطة البكتيريا في الأمعاء.و أما بالنسبة للأحماض الأمينية-غير الأساسية-فهي إما تتكون داخل أنسجة الجسم، و إما تتكون بواسطة البكتيريا الموجودة في الأمعاء،أو تستمد من الطعام المتحلل، و من ثمّ تنتقل إلى الثدي بواسطة الدم على شكل أحماض أمينية أو بروتينات البلازما،أو تبنى في غدد الثدي بالاستفادة من وحدات الكربون الموجودة في الكربوهيدرات و الأحماض الدهنية(و التي بدورها تشتق من الدم أو من الطعام المتحلّل كما رأيناه سابقا و كما سنراه فيما سيأتي)و مصادر الأحماض الأمينية.
و أما(بروتينات المناعة IMMUNOGLOBULINS )و الألبومين فتنتقل من الدم إلى اللبن عبر غدّة الثدي بدون أن تتعرض لأي تغيير.
و خلاصة القول:فإن الأحماض الأمينية التي تدخل في تكوين بروتينات اللبن تشتق من بروتينات الدم،أو تصنّعها البكتيريا في الأمعاء،أو تستمد من الطعام المتحلّل في الكرش،أو تستمد من أنسجة الجسم التي سبق و أن صنّعتها من مكونات أنت بواسطة الدم من الغذاء المتحلّل في الأمعاء،أو تقوم غدد الثدي بتصنيعها من مواد تؤخذ من الفرث أو الدم أو منهما معا؛أي أنها تأتي من الفرث(مباشرة أو غير مباشرة)أو من الدم،أو من كليهما معا.
4-الدهون:و تنقسم الدهون على العموم إلى دهون قصيرة السلسلة الكربونية،أو متوسطة السلسلة،أو طويلة السلسلة،و مشبعة أو غير مشبعة.5.
ص: 449
و الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة توجد في نسب ضئيلة في لبن الحيوانات غير المجترة،و لا توجد في اللبن الإنساني،و هي غير موجودة في دهن الطعام، كذلك هو الحال بالنسبة إلى الأحماض الدهنية المتوسطة،فهي غير ذات أهمية،غير أننا سنتكلم عن نشأتها حرصا منا على إزالة الشكوك في أن تكوّن الأحماض الدهنية على العموم يتأتى من الدم و الفرث.
أما الأحماض الدهنية الطويلة السلسلة الكربونية(كحمض البلميتك PALMITIC ACID )فهي تكوّن نسبة كبيرة من الدهن في كل من لبن الإنسان و الحيوان.
*الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة:يتم إنتاج الأحماض الأمينية الدهنية القصيرة السلسلة الكربونية في غدد الثدي من(الخل ACETATE )المستمد من الدم، و الذي يتكون ابتداء في الأمعاء من جراء عملية التخمّر المعوي للسكريات،و الذي ينتقل مع الدورة الدموية إلى غدد الثدي،أو تتكوّن تلك الأحماض من (بيتاهيدروكسيد بيوتيريت HYDROXYBUTYRATE-B )،أو من سكر الدم مباشرة.
*الأحماض الدهنية المتوسطة السلسلة:كثيرا ما تمتص عن طريق الدورة الدموية بدلا من الليمفاويات عن طريق(الكيل CHYLE FORMATIEN ) (1).
*الأحماض الدهنية الطويلة السلسلة:«يوجد الدهن في اللبن على شكل كريّات و تتكوّن كريّات الدهن أساسا من الجلسريدات الثلاثية...و تشير أدلة حديثة إلى أن أغلب الأحماض الدهنية طويلة السلسلة و المكوّنة في ثلاثي جليسريد اللبن، مشتقة من دهن الطعام و تنتقل خلال الدم إلى الثدي كجليسريد ثلاثي كيلوسات ميكرونية(مستحلب)» (2).و تفصيلا:تنتقل الأحماض الدهنية الطويلة السلسلة الكربونية من الطعام المتحلّل إلى الثدي بواسطة الدم،و يتم(تحليلها HYDROLYSIS )في غدد الثدي،و تحرير بذلك أحماضا دهنية حرّة و جليسريدات جزئية،حيث تأخذها الغدد اللبنية ليعاد أسترتها بالجليسرول(الذي يصنّع هو الآخر من الدم)على الشبكة الأندوبلاسمية لتكوين قطرات الدهن (3).3.
ص: 450
و هناك القليل من الأحماض الدهنية(كالحامض الأراشيدوني ARACHIDONIC ACID )التي تتكون في أنسجة الجسم،و تؤخذ مكوناتها من الفرث.
و من الكلام السابق نفهم أن مكونات دهن اللبن تؤخذ من كل من الدم و الفرث (مباشرة أو غير مباشرة).
5-المعادن الرئيسية و الثانوية:يوجد في اللبن البشري و اللبن البقري من المعادن الرئيسية:(كالكالسيوم،و الفسفور،و الصوديوم،و البوتاسيوم كلورايد، و المغنيسيوم و الكبريت)،و المعادن الثانوية:(كالزنك،و النحاس،و المنغنيز، و الكروم،و اليود،و الحديد،و السيلينيوم).
أما الكالسيوم و الفسفور فيستمدان من مخزون الجسم و خاصة من العظام (1)، و للعلم فإن الطعام المتحلّل(الفرث)مصدر الكالسيوم و الفسفور الموجودان في العظام،و أما(فسفور بروتين اللبن CASEIN P )فيأتي من الدم (2).
و فضلا عن ذلك فإن المعادن الأخرى و المعادن ذات التركيز الضئيل في اللبن فتؤخذ مباشرة من الطعام المتحلّل و الماء (3).
6-الفيتامينات:تستمد معظم الفيتامينات إما من الطعام،و إما تنتجها البكتيريا الموجودة في الأمعاء (4).
و من الكلام السابق نفهم ما ترمي إليه الآية الكريمة: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ [النحل:66].و لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نورد تعليق الإمام فخر الدين الرازي الذي فهم أبعاد الآية الكريمة من خلال دلالاتها اللغوية حيث قال:«و أما نحن فنقول:المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم،و الدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث.و هي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش.و هذا اللبن متولّد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولا،ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانيا،فصفاها .
ص: 451
اللّه عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة،و خلق فيها الصفات التي باعتبارها صارت لبنا موافقا لبدن الطفل» (1).
فسبحان من يقذف بالغيب من ألف و أربع مائة سنة مضت على لسان رجل أمي صلّى اللّه عليه و سلّم،ليتيقّن العباد أن هذا الكلام من عند اللّه تعالى فيؤمنوا و يسلكوا طريق الهدى!.
(قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:من أطعمه اللّه الطّعام فليقل:«اللّهمّ بارك لنا فيه و أطعمنا خيرا منه،و من سقاه اللّه لبنا فليقل اللّهمّ بارك لنا فيه و زدنا منه»،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:ليس شيء يجزئ مكان الطّعام و الشّراب غير اللّبن).[أخرجه الترمذي ح 105].
جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي في تفسير الحديث رقم 3455:
«و في رواية أبي داود:(إذا أكل أحدكم)قال المناوي:أي أراد أن يأكل،(طعاما)أي غير لبن،(بارك لنا فيه)من البركة و هي زيادة الخير و نموه و دوامه،(و أطعمنا خيرا منه)من طعام الجنة أو أعم،(و زدنا منه)و لا يقول خيرا منه لأنه ليس في الأطعمة خير منه،(ليس شيء يجزئ)بضم الياء و كسر الزاي بعدها همز،أي يكفي في دفع الجوع و العطش معا،(مكان الطعام و الشراب)أي مكان جنس المأكول و المشروب و بدلهما،(غير اللبن)بالرفع على أنه بدل من الضمير في يجزئ».
نفهم من الحديث،و شرحه أن اللبن هو أكمل الأغذية من الناحية البيولوجية، حيث لا يوجد طعام له قيمة غذائية توازي قيمة اللبن الغذائية.و رغم أن اللبن ينقصه قليل من العناصر الغذائية،و لكن يعد أفضل من أي غذاء آخر منفرد من حيث قيمته الغذائية المرتفعة،و ذلك لاحتوائه على المواد الغذائية الأساسية الضرورية التي لا يستغني عنها جسم الإنسان في جميع مراحل نموه و تطوره.
و المواد الغذائية الضرورية هي:
1-البروتينات:و من أهم فوائدها:بناء العضلات و الأنسجة الجديدة.
2-الكربوهيدرات:مثل النشويات،السكريات،و هي التي تمد الجسم بالحرارة و النشاط.
ص: 452
3-الدهون:التي تختزن في الأنسجة الحيّة و تمد الجسم بالحرارة.
4-المعادن:و هي عناصر مهمة لتكوين العظام و الأسنان،و لأداء وظائف الجسم الحيوية بانتظام.
5-الفيتامينات:و هي مواد مهمّة للحياة و النمو و الوقاية من كثير من الأمراض،و أيضا هي مركبات تسمح بتمثيل مواد الغذاء الأخرى.
6-الماء:الذي يعمل كمذيب و حامل للمواد الغذائية بالجسم.
و«يمد اللبن جسم الإنسان بمجموعة كبيرة جدا من هذه العناصر و المركبات الغذائية الحيوية المهمة.و يمكن إيجاز ذلك في النقاط التالية:
1-يعد اللبن موردا مهما و جيدا للبروتينات ذات القيمة الغذائية المرتفعة، و تمد بروتينات اللبن جسم الإنسان بالأحماض الأمينية الأساسية-بمقادير و تركيزات مرتفعة-ذلك بالإضافة إلى أنه قد ثبت أن بروتينات اللبن غنية بالفسفور الذي يساعد على امتصاص الكالسيوم من القناة الهضمية،و بالتالي يستفيد الجسم من الكالسيوم، هذا علاوة على أن اللبن ذاته غني أيضا بالكالسيوم،لذا فإن الأطفال و البالغين الذين يتناولون اللبن في غذائهم لا تظهر عليهم أعراض أمراض لين العظام و الكساح أو ضعف تكوّن الأسنان.
2-توجد الأحماض الدهنية في اللبن بنسبة دقيقة جدّا بحيث يسهل هضمها و تمثيلها في الجسم،و يحتوي دهن اللبن على كثير من المواد الحيوية المهمة مثل:
الأحماض الدهنية الأساسية،و الفيتامينات الذائبة في دهن اللبن،و المركبات الدهنية الفوسفاتية.كذلك تعتبر النسبة بين الدهن و السكر في اللبن مهمّة جدّا؛إذ إنها تنشّط نمو البكتيريا النافعة بالأمعاء.
3-يقتصر وجود اللاكتوز على اللبن فقط،و يمتاز سكر اللبن(اللاكتوز)عن غيره من الكاربوهيدرات الأخرى بقدرته على التخمّر الذي يعد ذو أهمية نافعة في التغذية،كما أنه يؤثّر على غشاء المعدة المخاطي نظرا لقلة ذوبانه.
كذلك فإن احتواء سكر اللبن على سكر الجالاكتوز يزيد من أهمّيته،إذ يعتبر هذا السكر أساس تكوين الجالاكتوز في أغشية المخ و الخلايا العصبية.أيضا ينفرد سكر اللبن بقدرته على تنشيط نمو أنواع مفيدة من بكتيريا حمض اللاكتيك،و التي يمكن أن تحل محل بعض البكتيريا التعفنية في القناة الهضمية.كما يساعد الحامض المتكوّن-نتيجة نشاط الميكروبات النافعة-على تمثيل و امتصاص الكالسيوم و بعض المعادن الأخرى.
ص: 453
4-يعد اللبن مصدرا مهمّا لكثير من الفيتامينات،و هي مواد تساعد على الاستفادة من الغذاء و الوقاية من الأمراض.و توجد بعض فيتامينات اللبن ذائبة في الدهن،و هي فيتامينات(أ)،(د)،(ه)،(ك)،و البعض الآخر ذائب في ماء اللبن:
و هي فيتامينات(ب 1)،(ب 2)،(ج)،و كذلك الكولين.
5-يكوّن الماء ما يقرب من 85-90% من ألبان الثدييات المختلفة،و بعض مكوّنات اللبن ذائبة في الماء،مثل بعض الفيتامينات و الإنزيمات و اللاكتوز،أو على صورة معلّقة بالماء مثل:حبيبات الدهن أو جزئيات الكيزين.
و الماء له دور مهم و حيوي في حياة الإنسان،حيث إن له وظائفه الفيسيولوجية في الجسم الإنساني.فهو على سبيل المثال:يكون حوالي 85-92% من دم الثدييات المختلفة،كما أن الكثير من أنسجة الجسم تحتوي على الماء،و أيضا فإنه ينظّم درجة حرارة الجسم،كذلك فالماء هو الوسط المناسب لانتشار و تأيّن العناصر المختلفة بالجسم،كما أنه الوسط المناسب للتفاعلات المختلفة و عمليات الهضم و الهدم و البناء التي تحدث في الجسم.
6-يعتبر اللبن مصدرا مهمّا من مصادر فيتامين(أ)الذي يعد مهمّا جدّا في حياة الإنسان،حيث يوجد هذا الفيتامين بنسبة كبيرة في اللبن،ذلك بالإضافة إلى مادة الكاروتين التي تتحول إلى فيتامين(أ)في الجسم بواسطة الأكسدة.
و من أهم فوائد فيتامين(أ)أنه ضروري جدّا للنمو،و لقد أثبتت التجارب الحديثة التي أجريت على الفئران أن نقص هذا الفيتامين يسبب وقف نموها ثم موتها.
كذلك فإن فيتامين(أ)مهم جدّا في عملية الإبصار،و يعرف هذا الفيتامين باسم الفيتامين المضاد للرمد الجاف،إذ إن نقص هذا الفيتامين في الغذاء يسبب المرض بهذا النوع من الرمد،كما أنه يسبب أيضا مرض العشى الليلي.و من فوائد فيتامين (أ)أيضا أنه يكسب جسم الإنسان المناعة من الإصابة بعدوى بعض الأمراض،كما أن له تأثيرا مهمّا في عملية تكوين العظام و الغضاريف،كذلك فإن نقص فيتامين(أ) يؤثر على الخصوبة و التكاثر و التوالد.
7-يحتوي اللبن على نسبة لا بأس بها من فيتامين(د)،و هذا الفيتامين يساعد على ترسب الكالسيوم و الفوسفور في الجسم،أي أنه يساعد على نمو العظام،كذلك فهو مانع للكساح،لذلك يسمى فيتامين(د):المضاد للكساح...
ص: 454
8-يعد اللبن غنيّا بفيتامين(ب 2)أو الريبوفلافين.و يؤدي نقص فيتامين(ب 2) إلى ظهور مرض البلاجرا،لذا يسمى هذا الفيتامين بالمانع لمرض البلاجرا.
9-يوجد الكولين في اللبن بوفرة،و الكولين هو العامل المانع لتراكم الدهن حول الكبد،و الكولين يكون جزءا من الليسيثين الموجود في دهن اللبن،و يعد الليسيثين من الفوسفوليبيدات المهمة في تكوين الخلايا،و الكولين عامل مهم في تمثيل الدهون و استخدامها في الجسم،لذلك يؤدي نقص الكولين إلى بطء النمو و تراكم الدهن حول الكبد و خلل في عمليات الدهون في الجسم.
10-يعد اللبن أحد المصادر الطبيعية الأساسية الغنية بالكالسيوم و الفوسفور، و هما من الأملاح المعدنية الضرورية لجسم الانسان،إذ أن هذه المعادن تدخل في تكوين الهيكل العظمي و تركيب الأسنان و تنظيم الضغط الأسموزي،و تساعد على تنشيط الإنزيمات.و من المعادن الأخرى التي توجد في اللبن-كذلك-بنسب لا بأس بها:الماغنسيوم و الصوديوم و البوتاسيوم و الكلور و الكبريت،و لكن يعد اللبن فقيرا في عنصر الحديد،و يمكن تعويض ذلك بتعاطي أغذية غنية بهذا المعدن مثل البيض و الخضراوات و الفاكهة.و يوجد في اللبن أيضا نسب ضئيلة من الروبيديوم و الليثيوم و الباريوم و المنجنيز و الاسترانثيوم و الألومنيوم و الفلور و النحاس و اليود و الزنك و الكوبلت.
11-يحتوي اللبن على كثير من الإنزيمات التي تساعد على هضم الطعام و امتصاصه» (1).
و من الأدلة التي أشرنا إليها سابقا نفهم أن اللبن غذاء أقرب إلى الكمال من أي غذاء آخر كما أشار إليه الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم.و قد يتوصّل بعض المفكرين إلى أن اللبن غذاء مهم لأن مشيئة اللّه تعالى أرادت أن يرضع الأطفال الصغار اللبن،مما يعني أن اللّه تعالى أودع فيه من العناصر الغذائية المرتفعة،غير أنه لا يستطيع أن يجزم أن اللبن أكمل من أي غذاء آخر،إلا إذا كان قد أمضى وقته في البحث الكيميائي،و لديه من الإمكانيات المعملية التي تخوله من مقارنة جميع أنواع الغذاء.
و لهذا فإن الجزم بأن اللبن أفضل الغذاء يعتبر من الإخبار الإعجازي العلمي للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم!!!.ت.
ص: 455
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56].
بعد أن تبيّن لنا مدى الإعجاز العلمي في الآية الكريمة لنتابع معا رحلتنا مع اللبن بعد أن رأينا أنه يخرج من الطعام إلى الدم،ثم من الدم إلى الثدي:لنر ما ذا يحصل في الثدي.يلقي الضوء على هذا الأمر الحديث التالي:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام».
نفهم من هذا الحديث أن التحريم مرتبط بعملية فتق،و عملية الفتق هذه تحصل للأمعاء المذكورة في الحديث،و هذه الأمعاء موجودة داخل الثدي (1).
ص: 456
و الفتق لغة:الشق.جاء في لسان العرب (1):«فتق الفتق:خلاف الرّتق:فتقه يفتقه و يفتقه فتقا:شقه».
كيف هذا؟و لما ذا استعمل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كلمة«أمعاء»في صياغة الحديث؟.
جاء في لسان العرب (2):«قال الأصمعي:الأمعاء مسايل صغار»و جاء في تاج العروس (3):«قال القالي:المعي:المسيل الضيق الصغير».
فالأمعاء هي مسالك يسيل فيها اللبن.و هذه المسالك موجودة في الثدي كما نص عليها الحديث،و هذه المسالك يجب أن تكون صغيرة و ضيقة كما يشير إليه معنى كلمة«معي».
و لنر عن كثب ما تشير إليه الحقائق العلمية.
يوجد في الثدي(غدد لبنية ALVEOLA ).
تجتمع هذه الغدد على شكل عناقيد حول خمس عشرة إلى عشرين قناة لبنية رئيسية (4)(أي مسايل صغار أو أمعاء)يسيل فيها اللبن إلى أن يصل إلى قمة حلمة الثدي.
هذه الغدد مكونة من(خلايا مفرزة للبن ACINAR CELLS ).
و تتكون بروتينات اللبن في خلايا هذه الغدد.
تمر بعد ذلك نتائج عمليات البناء في تجويف القنوات اللبنية(أي الأمعاء) بطريقتين:
1-(عملية إفراز فمي APOCRINE PROCESS )«يتم خلالها فصل كريات الدهن الكبيرة عند قمة الخلية،و أحيانا تصحبها أجزاء من السيتوبلازم» (5)«و ذلك لأن حجمها لا يسمح لها أن تعبر غشاء الخلية فتنجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم» (6)،و هذه هي عملية الفتق التي تحدّث عنها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و التي تحدث للجدار الخلفي للأمعاء المكون من أغشية الغدد اللبنية.(انظر الصورة رقم:123).).
ص: 457
ص: 458
2-(إفراز خارجي EXOCRINE PROCESS8 )حيث يتم الانتقال خلال غشاء الخلية(دون أي فتق).
و هكذا فإن اللبن يخرج من الخلايا اللبنية من خلال انفطار و شق أغشيتها التي تمثل جدارا بالنسبة للمسايل الصغيرة في الثدي.و من الجدير بالذكر أن هناك مسالك أصغر من مسالك.فالثدي يحتوي على مسالك رئيسية و مسالك فرعية،و المسالك الفرعية هي المسالك الصغيرة و هي التي يجتمع حولها الغدد و هي التي تنفتق جدرانها.
و الإشارة إلى أن(المسالك الصغيرة هي التي تنفتق دون المسالك الكبيرة DUCTULES NOT DUCTS )هو إعلام دقيق للحقائق العلمية لا يعلمها في وسط أمّي إلا من أنزل عليه الوحي،فهل اعتبرنا يا معشر المفكّرين؟!!.
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرضاع إلا ما كان قبل الحولين»[رواه البيهقي ح 57].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا رضاع إلا ما أنشز العظم و أنبت اللّحم»[أخرجه أحمد ح 58].
و بعد أن رأينا هجرة اللبن عبر الثدي بعد هجرته من أمعاء الأم،نواصل طريقنا إلى جوف المولود الذي يمتص اللبن لنرى ما ذا يحصل له.
قبل أن نتابع مسيرنا،لا بد أن نتوقف عند الشرط الأساسي لإرضاع الولد:
و هو أن يكون جسمه محتاجا للرضاعة(أي محتاجا للبن الرضاعة لكي تنمو أعضاؤه) لذلك قال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا رضاع إلا ما أنشز العظم و أنبت اللّحم»،و لا يكون جسم المولود كذلك إلا خلال السنتين الأوليين،أي:«إلا ما كان قبل الحولين».
فالحاصل أن جسم المولود في هذه الفترة يمتص كل العناصر الأساسية لنمو أعضائه من اللبن،و تتحول إلى عظم و لحم فتدخل في صلب الولد.
لمزيد من الإيضاح لنقرأ ما قاله الدكتور علي التنير (1)و هو يذكر لنا الحقائق العلمية التي تشير إلى أن جسم المولود يحتاج للرضاعة لنمو أعضاء جسمه:«خلال الأسابيع الأولى من حياة الطفل لا يكاد يخرج في بوله أي نيتروجين،بما يفيد أن كل
ص: 459
النيتروجين الموجود كبروتين في لبن الثدي يستهلك أساسا في بناء أنسجة الجسم.
و معنى ذلك أن الطفل لا يحرق البروتين الذي يتناوله للحصول على الطاقة بل يستخدمه فقط في بناء الأنسجة» (1).
*قال العليم الحكيم: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ... [البقرة:233].
*قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ... [لقمان:14].
*عن ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرضاع إلا ما كان في الحولين»[رواه البيهقي ح 57].
لقد شاع في بعض الأمم السابقة أن تعتمد على لبن الأم كغذاء أساسي لأطفالها في فترة ما بعد الولادة،و لكن لم نألف أن أوصت تلك الأمم أو سلسلة من العلماء أن تكون مدّة الرضاعة سنتين كاملتين،إلا ما جاء في القرآن الكريم و السنة الشريفة.
و في هذا العصر،و بعد الثورة العلمية و الاكتشافات الجديدة،بدأ العلماء يوصون الأمهات بإرضاع أطفالهن مدة سنتين كاملتين (2)،و بذلك تعتبر شريعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،أول من لفت أنظار العلماء إلى أن المدة المثالية للرضاعة هي سنتان كاملتان.
و الآية: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ...
[البقرة:233]تنص على أن تمام الرضاعة،أي كمالها،هو في حولين-أي سنتين- كما تفسره الآية الثانية: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان:14].و بذلك فهي بمثابة توجيه للأمهات أن يلتزمن بهذا الميعاد استحبابا لا إلزاما.
فالرضاعة مدة سنتين هي لمن أراد التمام و هي بذلك تخيّر الأمهات في الالتزام بالمدة أو في عدم الالتزام بها.
ص: 460
و الحكمة من ذلك هي:أن الجهاز الهضمي للرضيع يكتمل نموه تدريجيا حتى نهاية العامين،و يمكن للولد بعد ذلك أن يعتمد في غذائه على المصادر غير الإنسانية بدون أي خطر على صحته.أما إذا تناول الطفل لبنا صناعيا أو لبنا بقريا قبل انتهاء هذه المدة فهو معرّض أن يصاب بمرض السكري أو أمراض الحساسية.
و قد أظهرت الأبحاث الحديثة«وجود علاقة ارتباطية قوية بين عدد و مدة الرضاعة من ثدي الأم،و بين ظهور مرض السكري من النوع الأول في عدد من الدراسات على الأطفال في كل من:النرويج و السويد و الدانمارك.و علّل الباحثون ذلك بأن لبن الأم يمد الطفل بحماية ضد عوامل بيئية تؤدي إلى تدمير خلايا بيتا البنكرياسية في الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك،و أن مكونات الألبان الصناعية و أطعمة الرضع تحتوي على مواد كيميائية سامة لخلايا بيتا البنكرياسية،و أن ألبان البقر تحتوي على بروتينات يمكن أن تكون ضارة لهذه الخلايا.كما لوحظ أيضا في بعض البلدان الأخرى أن مدة الرضاعة من الثدي تتناسب عكسيا مع حدوث مرض السكري،لذلك ينصح الباحثون الآن بإطالة مدة الرضاعة من ثدي الأم للوقاية من هذا المرض الخطير و للحفاظ على صحة الأطفال في المستقبل.و بناء على هذه الحقائق برزت في السنوات الأخيرة نظرية مفادها:أن بروتين لبن البقر يمكن أن يحدث تفاعلا حيويا مناعيا يؤدي إلى تحطيم خلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين.و يعضد هذه النظرية:وجود أجسام مضادة بنسب مرتفعة لبروتين لبن البقر في مصل الأطفال المصابين بداء السكري بالمقارنة مع الأطفال غير المصابين بالمرض كمجموعة مقارنة (1).
و في دراسة حديثة منشورة في مجلة السكري في يناير 1998 م،استخلص الباحثون أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يعتبر عاملا مستقلا في إصابة بعض الأطفال بمرض السكري بغض النظر عن الاستعداد الوراثي (2).
و في دراسة حديثة منشورة في فبراير 1998 م في جريدة المناعة،أشار المؤلفون إلى أن تناول لبن الأبقار و بعض الألبان الصناعية كبديل للبن الأم يؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بمرض السكري في هؤلاء الأطفال.و قد أجريت هذه الدراسة على أطفال صغار السن حتى الشهر التاسع من العمر.و لهذا نصح المؤلفون بإطالة مدة الرضاعة الطبيعية (3). .
ص: 461
و في دراسة مشابهة منشورة في مجلة السكري في يناير عام 1994 م،أوضح الباحثون وجود ارتباط قوي بين تناول منتجات الألبان الصناعية(خاصة لبن الأبقار)في السن المبكرة حتى العام الأول من العمر و ازدياد نسبة الإصابة بمرض السكري (1).
و في دراسة أجريت بقسم الباطنية سنة 1995 م تحت\إشراف أ.د مجاهد محمد أبو المجد (2)\وجد أن الأجسام المناعية المضادة للبن الأبقار وجدت في مصل الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار حتى نهاية العام الثاني،أما الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار بعد عامين من العمر فلم يتضح فيهم وجود هذه الأجسام المناعية مما يظهر جليا حكمة تحديد القرآن الكريم للرضاعة بعامين كاملين.
لكن لما ذا يسبب لبن الأبقار هذا الضرر على الطفل قبل عامه الثاني،بينما يزول الأثر السيّئ للبن الأبقار بعد هذه المدة؟.
في دراسة أجريت بفنلندا عام 1994 م منشورة في مجلة المناعة الذاتية،يقول المؤلفون:إن بروتين لبن الأبقار يمرّ بحالته الطبيعية من الغشاء من خلال ممرات موجودة فيه،حيث إن إنزيمات الجهاز الهضمي لا تستطيع تكسير البروتين إلى أحماض أمينية،و لذلك يدخل بروتين لبن الأبقار كبروتين مركب مما يحفز على تكوين أجسام مناعية داخل جسم الطفل (3).(انظر الصورة رقم:124). .
ص: 462
و تشير المراجع الحديثة إلى أن الإنزيمات و الغشاء المبطن للجهاز الهضمي و حركية هذا الجهاز و ديناميكية الهضم و الامتصاص لا يكتمل عملها بصورة طبيعية في الأشهر الأولى بعد الولادة،و تكتمل تدريجيا حتى نهاية العام الثاني (1).
و مجموع هذه الأبحاث يشير إلى أنه كلما اقتربت مدة الرضاعة الطبيعية من عامين كلما قلّ تركيز الأجسام المناعية الضارة بخلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين.و كلما بدأت الرضاعة البديلة و خاصة بلبن الأبقار في فترة مبكرة بعد الولادة،كلما ازداد تركيز الأجسام المناعية الضارة في مصل الأطفال... (2).
و هكذا تتضح جليا حكمة تحديد الرضاعة بحولين كاملين في إشارة علمية دقيقة من القرآن الكريم.و جاءت الأبحاث العلمية الحديثة لتؤكد و لتبرهن على صدق و إعجاز ما أخبر به القرآن الكريم» (3).
أضف إلى ذلك أن المخ و الجهاز العصبي يمران بتغيرات سريعة خلال سنوات الطفولة الأولى،و الدهن مكون مهم من مكونات الجهاز العصبي،و اللاكتوز ضروري لبناء(دهن اللبن GALACTOLIPIDIS )في المخ النامي،و لبن الإنسان يختلف عن ألبان غالبية الثدييات الأخرى في أن تركيز اللاكتوز به أعلى.و بالتالي فإن تناول لبن الأبقار و الحيوانات الأخرى الذي يحتوي على كمية منخفضة من اللاكتوز بالنسبة إلى لبن الأم قد يكون له أثر سلبي على صحة الطفل.و عليه فإن تمديد فترة الرضاعة من الأم إلى سنتين هو لصالح عقل الطفل،و جهازه العصبي على وجه الخصوص، و لسائر أعضائه على وجه العموم.
لما ذا حدد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم مدة الرضاعة بعامين؟،هل كان لديه أجهزة تمكنه من معرفة:أن هناك ممرات بين خملات المعدة تسمح للأجسمة الغريبة أن تمر بدون رقابة عليها إلى السنة الثانية؟و أن حركية الجهاز الهضمي لا تكتمل إلا بعد عامين؟ و أن إنزيمات المعدة و الأمعاء لا تعمل بفعالية إلا عند نهاية العام الثاني؟،أم هل كان ملك يستطيع أن ينفذ عبر جدار البطن و الرحم ليشاهد بدقة ما ذا يجري هناك؟،أم هل كان للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أجهزة تحليل تمكنه من معرفة أن الدهن مكون مهم من مكونات المخ النامي و الجهاز العصبي،و أن الرضيع يحتاج للدهن الموجود في لبن الأم؟9.
ص: 463
يجيبنا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بوحي من اللّه تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50].
*قال عزّ و جلّ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ...
[النساء:23].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»[أخرجه البخاري ح 54].
لقد جاء في الإسلام أمر مهم ينظم العلاقات الاجتماعية،أ لا و هو تحريم زواج بعض الأقارب ببعض.
و التحريم ينص-فيما ينص-على أن لا يتزوج المرء من أمه أو أخته أو عمته أو خالته...إلخ،كما يبيح له أن ينظر إلى بعض أجزاء أجساد محارمه،و يفرض عليه بعض الواجبات مثل:الإنفاق عليهم،و الاعتناء بهم،و إلى ما هنالك من واجبات.
و أسباب تحريم الأقارب تعود إلى عدة عوامل،منها:
أ-وجوب إنشاء تنظيم اجتماعي يجب العمل به حتى يسود الأمان و الطمأنينة داخل المجتمع الإنساني،فينتظم على أسس سليمة توجه الحياة البشرية في توارثه و علاقاته الاجتماعية و ولائه...إلخ.
ب-مراعاة متطلبات النفس البشرية التي تشمئز من التزاوج مع قريب لها (كالأب و الأم)لقرابته الفكرية و الجسدية.
ج-حماية النسل الإنساني،فهناك أسباب علمية تفرض تحريم العلاقات الجنسية حتى لا يتأذى النسل البشري (1).
و في هذا البحث سنتحدث عن سبب من تلك الأسباب،أ لا و هو مراعاة متطلبات النفس البشرية من الناحية الجسدية.
و مراعاة متطلبات النفس البشرية من الناحية الجسدية تكمن بإبعاد العلاقات الجسدية بين الأقارب ذات التقارب في النسيج الجسدي.
ص: 464
فالإنسان يشمئز أن يتزاوج من قريبته التي تشابهه في التركيب الفيزيولوجي مثل:أمه،أو خالته،أو عمته،أو أخته...إلخ.
و التقارب الفيزيولوجي بين الأقارب أقره العلم الحديث،فالأقارب تتشارك في المورثات التي تنحدر من آبائهم،و بذلك فبعضهم أقرب لبعض من غيرهم من وجهة النظر الوراثية.كذلك فلقد أظهر العلم الحديث،مع ظهور و انتشار زراعة الأعضاء، أن أحسن متبرع بعضو من أعضائه لشخص آخر مريض هو أحد الوالدين و خاصة الأم،أو الأخوة المباشرين يتبعهم الأقارب مثل:الخال،و العم،و الجد،حيث إن نسبة عوامل رفض جسم المريض لتلك الأعضاء أقل ما يمكن في تلك الظروف، و نجد نجاح نسبة كبيرة من اختبارات التجانس النسيجي بينهم مقارنة بالغرباء (1).
و نعطي مثالا آخر في هذا المجال و هو:تقبل جسم الأم لجنينها و عدم طرده،مع أنه مخالف لها من وجهة التركيب الجيني و يعتبر بذلك كعضو غريب مزروع داخلها.
و في مجال الرضاعة،فإن الأم المرضع تحمل في لبنها صفات فيزيولوجية خاصة بها،فالريبوسوم بمثابة مصنع للخلايا اللبنية و يقوم ببناء اللبن وفقا للأوامر أو الشيفرة الجينية (2)التي يحملها الرسول(الآر إن آي RNA )من(الدي أن آي DNA ) الموجود في نواة الخلية و الذي يمثل أصل الإنسان(أي أساسا لتركيبته و هنا أساس لتركيبة الأم) (3)،و على سبيل المثال:فإن بروتين اللبن«يبنى...على الريبوسوم».
ص: 465
تبعا لرسالة الشفرة الجينية الخاصة بالنوع» (1).و على وجه عام فإن لبن الرضاعة يعتبر فيزيولوجيا انعكاسا لتركيب جسم المرأة المرضعة و ذلك لأن«العناصر الغذائية المختلفة في لبن الثدي تكون مزيجا من الدهن و البروتين اللاكتوز و الأملاح المعدنية و الفيتامينات(و قد)تم تركيبها وفقا للبيانات الوراثية الموجود سرها في خلايا غدد اللبن و التي نشأت مع الجنس البشري» (2).
هذه الصفات الفيزيولوجية تنقلها الأم إلى طفلها من خلال الرضاعة،و ذلك لأن الرضيع يمتص جميع الغذاء الذي تقدمه له أمه،إبان فترة الرضاعة،و هذا الغذاء يستعمل في بناء أنسجة أعضائه.فبروتين اللبن مثلا يدخل في تركيب الخلايا الجسمية،و خصوصا في الأسابيع الأولى من الرضاعة.و هكذا فإن الطفل يحمل بعض الصفات الفيزيولوجية شبيهة لصفات الأم المرضع.و الدليل على أن أنسجة الطفل تتأثر باللبن الذي يرضعه هو:أن طبيعة الدهن في جسم الرضيع تتوقف على نوعية الدهن في غذائه،و قد أوضحت عيّنة لنسيج عند فحصها ميكروسكوبيا تشابها كبيرا بين تكوين الأحماض الدهنية لدى الطفل و أحماض الغذاء.
كذلك،فإن لبن الأم يحتوي على(الأجسام المضادة ANTIBODIES )التي تعطي للطفل مناعة من الأمراض في الشهور الأولى من حياته،و هذا اللبن لا يكتفي بإمداده بتلك المضادات و لكنه يحفز جسم الطفل على تنمية جهازه المناعي الخاص (3)حتى يصبح قادرا على تكوين هذه الأجسام المضادة الخاصة به فيما بعد.و بذلك فإن الأم و الرضيع لهما بعض أوجه التشابه من الناحية الفيزيولوجية و المناعية.
و للأسباب التي سردناها آنفا(أي للتقارب الفيزيولوجي و المناعي)و لأسباب أخرى سيكتشفها العلم في المستقبل-و الله أعلم-فإن العلاقة الجنسية تحرم بين الأم المرضعة و رضيعها مصداقا لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ... وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23].
و من المفهوم نفسه فإن جسم المولود يشبه أو يحمل بعض أوجه الشبه لجسم أخته في الرضاعة(و ذلك لأنها رضعت أيضا من نفس الحليب الذي ساهم هو أيضا ببناء أنسجة لديها تحمل بعض أوجه التشابه الفيزيولوجي لنسيج أخيها في الرضاعة).ف.
ص: 466
و بالتالي فإن العلاقة الجنسية تحرم بينهما وفقا لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ...
وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء:23].
و من نفس الشرح نفهم لما ذا حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الزواج بين الأقارب بالرضاعة بقوله:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»[أخرجه البخاري ح 54].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تحرّم المصّة و لا المصّتان»[أخرجه أحمد ح 60].
و نطرح سؤالا:هل كل من يرضع من الثدي قليلا أو كثيرا تحرم علاقته بأمه أو بأخته من الرضاعة؟أم هناك ضوابط لهذا الأمر؟.
هناك ضوابط لهذه الظاهرة تبعا لكمية و نوعية اللبن الذي يمتصه المولود:
إن الحديث«لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»يدل على أن هناك أكثر من نوع من الحليب في الثدي(و ذلك من جراء استعمال حرف الاستثناء«إلا») (1)،و يدل على أن الحليب الذي يستثنيه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هو الذي لا يفتق الأمعاء و لا ينتج عنه تحريم.
ترى ما هذا الحليب الذي لا يفتق الأمعاء؟،و ما الوسيلة التي يخرج بها من الثدي؟،كما أسلفنا القول:فإن هناك وسيلة،غير التي تفتق الأمعاء في الثدي،يتم عبرها إخراج اللبن و هي«(إفراز خارجي EXOCRINE PROCESS )حيث يتم الانتقال (انتقال اللبن)خلال غشاء الخلية» (2)،«و هذا النوع من الإفراز يسمح فقط لنوع من اللبن المخفف و الذي يحتوي على نسبة أقل من الدهون(2 في المائة)و البروتين، ليمر اللبن في قنوات الثدي حتى يصل إلى الجيوب اللبنية،حيث يبقى بها ليتناولها الطفل في الوجبة التالية.و يسمى هذا اللبن(باللبن الأولي FORE MILK )(و نصطلح عليه باللبن المخفف)و يكوّن حوالي ثلث حجم اللبن المتاح للطفل.و عند ما يبدأ
ص: 467
الطفل في الرضاعة تفرز الأم(اللبن الخلفي HIND MILK )(و نصطلح عليه باللبن المثقل)الناتج(المحتوي)على نسبة أعلى من المواد الدهنية(من 4 إلى 7 في المائة) و يكوّن هذا اللبن ثلثي حجم لبن الرضاعة...» (1).
من المقطع أعلاه يتضح لنا ما يرمي إليه الحديث النبوي الشريف:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56].
فالحليب المستثنى من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هو-و اللّه تعالى أعلم-:اللبن المخفف الذي لا يفتق الأمعاء،فهذا اللبن يخرج بواسطة عملية التناضح(التمايز)الغشائي (2)، و هو ليس بسبب كاف لأن يبرر التحريم:فهو لا يحتوي على غذاء كاف و بذلك لا يؤدي في الغالب إلى بناء أنسجة في جسم الطفل مشابهة فيزيولوجيا إلى حد ما لأمه بالرضاعة أو لأخته من الرضاعة (3).
و هذا الحليب،أي اللبن المخفف،يبقى بالجيوب اللبنية خلف الحلمة بحيث يخرج عند ما يبدأ الطفل في الرضاعة أي عند أول مصة أو مصتين،و هو الذي تتحدث عنه نبوءة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث:«لا تحرّم المصّة و لا المصّتان»[أخرجه أحمد ح 60].
لذلك لا بد أن تكون الوجبة مشبعة حتى تكون سببا كافيا للتحريم.و بالفعل عند ما يبدأ الطفل في الرضاعة،و عند ما يلمس حلمة الثدي تتنبه أطراف الأعصاب الموردة(الحسية)،و تمر الإشارة إلى الهيبوتلاموس الذي ينشط بدوره الفصين الأمامي و الخلفي للغدة النخامية،و يفرز الفص الأمامي هرمون البرولاكتين،و يقوم البرولاكتين الناتج بتنشيط الغدد اللبنية بالثدي و حثها على الإفراز.و في الوقت نفسه يفرز الفص الخلفي للغدة النخامية مادة(الأوكسيتوسين OXYTOCIN )التي يتسبب عنها انقباض في(الخلايا العضلية MYOEPITHELIAL CELLS )بنسيج الثدي(انظر الصورة رقم:
A -125)و بذلك تنعصر الغدد اللبنية بما يسمح للكريات الدهنية و حبيبات البروتين الأكبر حجما بالمرور إلى القنوات اللبنية.(انظر الصورة رقم: B -125).).
ص: 468
من جراء اختلاط اللبن المخفف باللبن المثقل يتغيّر تكوين اللبن تدريجيا خلال التغذية.ففي نهاية الرضعة يحتوي اللبن من الدسم من أربعة إلى خمسة أمثال ما يحتويه في أول الرضعة (1)و بذلك يسد احتياجات الطفل الغذائية.6.
ص: 469
ص: 470
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«انظرن من إخوانكن!فإنما الرضاعة من المجاعة» [أخرجه البخاري ح 55].
*عن أم الفضل أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سئل عن الرضاع فقال:«لا تحرّم الإملاجة و لا الإملاجتان»[أخرجه النّسائي ح 59].
إذا جمعنا الحديثين:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56]و«انظرن من إخوانكن!فإنما الرضاعة من المجاعة» [أخرجه البخاري ح 55]فهمنا أن الرضاعة لا تحرم إلا بعملية فتق الأغشية في الثدي و هذه العملية لا تحصل إلا إذا كان الرضيع جائعا.
فإذا جاع الرضيع تولّد عنده الحافز للامتصاص القوي و بدأ بعملية شفط قوية تؤدي إلى إحداث ضغط سلبي في أمعاء الثدي و إلى تمزيق أغشية الغدد التي تفرج بدورها عن اللبن المثقل.و إن لم يكن الرضيع جائعا،لم يبذل الجهد الكافي و خرج النوع الأول من اللبن فقط و هو اللبن الأولي(أو اللبن المخفف)من خلال عملية التمايز الغشائي الذي لا يبرر التحريم.
و يشير إلى ذلك الحديث الشريف و هو:«لا تحرّم الإملاجة و لا الإملاجتان» [أخرجه النّسائي ح 59] (1)،و هو ينص على أن تناول ثدي الأم بأدنى الفم-بحيث يمص الطفل مصة خفيفة أو مصتين خفيفتين-لا يحرم.
و في حالة الإملاج لا يكون الرضيع جائعا لأن الرضيع الجائع هو من يمص بطريقة الشفط و لا تشبعه الإملاجة و لا الإملاجتان التي لا تفتق أمعاء الثدي،فالذي يشبعه هو الحليب المثقل الذي نتج من الفتق ضمن كمية كبيرة يكتفي بها الرضيع.
لا شك أن الرضيع الجائع سيحاول أخذ الثدي بكل قواه،و بالتالي لن يكتفي بتناول الحلمة بطرف فمه و لكن بتمكن فمه.و لهذا فمن مستلزمات الرضاعة الناجحة -أي من مستلزمات إدرار اللبن-أن ينشأ للطفل الفعل المنعكس الامتصاصي و هو:
أن يستحلب الطفل اللبن بين أعلى باطن الفم و اللسان بحركات رتيبة يقوم بها اللسان و الفك الأسفل.و يكون كذلك بعد محاولات قليلة عند ما تلتقط شفتا الطفل ثدي الأم و يندفع اللسان إلى الأمام ثم إلى الخلف ليضغط على الحلمة نحو سقف الفم.
ص: 471
و يمتلئ الجزء الخلفي من فمه بالحلمة و تساعد حركات الفك اللثتين على أن تضغطا على هالة الثدي بما يعصر اللبن في الفم.(انظر الصورة رقم:126).
أما عضلات الوجنة فتساعد عملية المص كما تحافظ على الضغط السلبي (المنخفض)في الفم.و لو لا هذه الحركة أي إتمام إطباق فم الطفل على الثدي لم يتم إدرار اللبن بكثرة،و لم يتم التحريم،لأن الرضيع يكون قد ملج الثدي إما لأنه ليس جائعا،و إما لأنه لم يتولد عنده الفعل المنعكس الامتصاصي السليم.
ص: 472
*عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال:...فجاءت سهلة بنت سهيل-و هي امرأة أبي حذيفة و هي من بني عامر بن لؤي-إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه:كنا نرى سالما ولدا و كان يدخل عليّ و أنا فضل و ليس لنا إلا بيت واحد فما ذا ترى في شأنه؟فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها»،و كانت تراه ابنا من الرضاعة[أخرجه مالك ح 62].
هذا الحديث يدلّ على الحد الأدنى من عدد الوجبات التي يجب للرضيع أن يتناولها لكي يتمّ لديه بناء أنسجة مشابهة بينه و بين أمه أو أخته من الرضاعة،و تحرم العلاقة بينهم.
إلى ذلك فإن المصة و المصتين تستثنيان من كل وجبة(رضعة)مشبعة كما ينص الحديث الشريف:«لا تحرم المصة و لا المصتان»[أخرجه أحمد ح 60] (1).
ص: 473
(1) -تحرّم،و ذلك أن دليل الخطاب في قوله:«لا تحرّم المصّة و لا المصّتان»يقتضي أن ما فوقها يحرّم، و دليل الخطاب في قوله:«أرضعيه خمس رضعات»يقتضي أن ما دونها لا يحرّم»(بداية المجتهد و نهاية المقتصد،لابن رشد،الفصل الثالث:في مانع الرضاع،المسألة الأولى:في مقدار المحرّم من اللبن،ص 421-422).
و في رأينا فقد نشأ هذا الاختلاف لعدّة أسباب(أو لأحد هذه الأسباب التالية):
منها عدم الالتفات إلى المعنى اللغوي لكلمتي«مصّ»و«رضع»،و منها عدم إلمام بعض الفقهاء المسلمين بالعلم الكوني في مجال الرضاعة،و منها قلّة اعتبار معاني بعض الأحاديث و لا سيّما الحديثان«لا يحرّم من الرّضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثّدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56]و«لا يحرّم من الرّضاع إلاّ ما أنبت اللّحم و أنشز العظم»[أخرجه الإمام أحمد ح 58]اللذان قد يساعدان على إلقاء الضوء على مقدار اللبن المحرّم،و منها العمل على الترجيح بين الأحاديث،أكثر من العمل على التأليف بينها.
و كلمة«مصّ»تعني شرب اللبن بكميّة قليلة.جاء في لسان العرب:«مصص...في حديث عمر رضي اللّه عنه: أنه مصّ منها،أي نال القليل من الدنيا».و جاء في القاموس المحيط،باب مصصته:«مصصته، بالكسر،أمصّه و مصصته أمصّه،كخصصته أخصّه:شربته شربا رفيقا».
و كلمة«رضع»تعني شرب اللبن.جاء في مقاييس اللغة:باب الراء و الضاد،و ما يثلثهما:«رضع: الراء و الضاد و العين أصل واحد،و هو شرب اللّبن من الضّرع أو الثّدي».و جاء في مختار الصحاح، باب الراء:«رضع:ر ض ع:رضع الصبي أمه بالكسر رضاعا بالفتح...و ارتضعت العنز،أي شربت لبن نفسها».و انظر أيضا لسان العرب.
فالرضاع هو شرب اللبن،و قد يحدث إذا شربت قليلا أم كثيرا،أي بمصّة أو مصّتين أو ثلاث...، و الرضعة هي الواحدة من الرضاع-أي وجبة-و قد تشمل عدّة مصّات.
و بعض الأحاديث التي جاءت في هذا الباب ورد فيها«المصّة و المصّتان أو الرضعة و الرضعتان»،و قد جاء الفصل بين فعلي«المصّ»و«الرضاع»بكلمة«أو»التي قد تفيد أحد القولين:إما الشك،و إما التخيير.
و تفصيل دلالة الشك لكلمة«أو»في الحديث التي روته السيدة عائشة رضي اللّه عنها هو كالآتي:
جاء في شرح الحديث رقم 1940 في شرح سنن ابن ماجة للسندي:«قوله:(الرضعة و لا الرضعتان أو المصة إلخ):أو:للشك»،فإذا كان الشك،فذلك مردّه أن أحدا من الرواة نسي اللفظ الذي جاء على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فشكّ أن الفعل المراد هو المص أو الرضاع،و بالتالي علينا الترجيح في أيّ من اللّفظين:«مصّة»أو«الرضعة»هو المراد بالأصل.
و معظم الأحاديث التي وردت في هذا الباب جاءت بلفظ«المصّة و المصّتان»فقط،و جاء في بعض الأحاديث«الإملاجة و لا الإملاجتان»،و معنى كلمة«إملاجة»هو معنى كلمة المصّة:و هو الشرب القليل،و لكن بأدنى الفم(انظر مبحث«الجوع أساس للتحريم»)،مما يعزّز أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أراد معنى المصّة في الحديث الذي رواه مسلم،و اللّه تعالى أعلم.
و الذي يدعّم مقولتنا الحقائق العلمية و الحديثان:«لا يحرّم من الرّضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثّدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56]و«لا يحرّم من الرّضاع إلاّ ما أنبت اللّحم و أنشز العظم»[أخرجه-
ص: 474
(1) -الإمام أحمد ح 58].فالحقائق العلمية تشير إلى أن الحليب المخفّف-الذي لا يحتوي على كثير من الدسم(و الذي لا يسبب بالتالي التحريم)-هو الذي يحرج في أول مصّتين لثدي الأمّ،بينما يخرج الحليب المثقّل المغذّي-الذي يحتوي على كثير من الدسم(و الذي يسبب بالتالي التحريم)-بعد ذلك من خلال عملية شفط قويّة تستوجب عدّة مصّات.و الحديث الأول يشير إلى أن الحليب الذي يخرج بدون فتق الأمعاء في الثدي لا يحرّم،و ليس كافيا أن ينبت لحم الطفل و ينشز عظمه(كما يفيده الحديث الثاني)،و هذا الحليب-كما أشرنا إليه سابقا-لا يمكن أن يكون إلا الحليب الذي يخرج في أول مصّتين حسب المعطيات العلمية.و من هنا نفهم أن المعطيات العلمية و الحديثية و الدلالات اللغوية تشير معا إلى أنه لا يجب علينا أن نعتبر أن المصّتين الأوليين للثدي هما بمثابة غذاء جيّد، و وجبة كاملة للطفل،و بالتالي فإن المصّتين هو اللفظ المقصود بالحديث الذي رواه مسلم،و هذا ما نرجّحه،و اللّه تعالى أعلم.
و تفصيل دلالة التخيير لكلمة«أو»في الحديث التي روته السيدة عائشة رضي اللّه عنها هو كالآتي:
جاء في لسان العرب،باب الهمزة:«أو:حرف عطف.و أو:تكون للشك و التخيير،و تكون اختيارا». و إذا اعتبرنا أن كلمة«أو»هي للتخيير،فيكون المعنى:لا تحرّم المصة أو المصتان أو الوجبة (الرضعة)و الوجبتان(الرضعتان)،أي لا تحرم المصة أو المصتان كما لا تحرم الوجبة و الوجبتان.
فإذا سلّمنا بأن هناك فرقا بين كلمتي«مصّة»و«رضعة»،بقي علينا أن نجيب على من ادعى أن الحديثين «لا تحرّم المصّة و المصّتان»[أخرجه أحمد ح 60]و«أرضعيه خمس رضعات»[أخرجه الإمام مالك ح 62] معارضان للآية القرآنية: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23].
فالآية: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]تتكلّم عن النساء اللاتي تطعم أولادهن من لبنهنّ في الرضاعة التي تحرم،و لا مانع أن يكون هناك قيد لهذه الظاهرة،بمعنى:و النساء اللاتي ترضع أولادهنّ الرضاعة التي تحرم[أي أن ترضع كما يتوجب].
و أمّا التعارض بين الحديثين«أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها»و«لا تحرّم المصّة و المصّتان»فيزول عند ما نفهم معنى كلّ من كلمتي«مصّة»و«رضعة».فالمصّة هي جزء من الرضعة،و بالتالي فإن الحديث الثاني يأتي مقيّدا للحديث الأول.و إذا عملنا على التأليف بينهما فهمنا أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أمر سهلة بأن ترضع سالما رضي اللّه عنهما خمس رضعات،كلّ واحدة منها لا تقلّ عن مصّتين(أو تستثنيان المصتين الأوليين)،بل كلّ واحدة منها لا تقل عن عدد كثير من المصّات،لأن الطفل الجائع-كما أشار إليه الحديث:«انظرن من إخوانكنّ،فإنّما الرّضاعة من المجاعة»[أخرجه البخاري ح 55]-لا يشبع من خلال ثلاث مصّات،و لا من أربع كما هو مألوف للجميع.
و إذا أخذنا بدلالة كلمة«أو»:للتخيير،فهمنا الحديث الذي روته عائشة رضي اللّه عنها على النحو التالي:لا تحرّم الرضعة و الرضعتان[و لا الثالثة،و لا الرابعة،بل من الخامسة كما يشير إليه الحديث الذي روته سهلة في سالم].فلعلّ تخصيص الرضعة و الرضعتين كان لموافقة السؤال كما تقتضيه روايات الحديث ليس أكثر.جاء في شرح ابن ماجة للسندي للحديث رقم 1940:«قوله:(الرضعة و لا الرضعتان أو المصة إلخ)...و لعل تخصيص المصة و المصتين لموافقة السؤال كما تقتضيه روايات الحديث فلا يدل على أن الثلاث محرمة عند القائل بالمفهوم».-
ص: 475
(1) -و الحديث:«لا يحرّم من الرّضاع إلاّ ما أنبت اللّحم و أنشز العظم»[أخرجه الإمام أحمد ح 58]يؤكد أن المصة أو المصتين أو الوجبة و الوجبتين من اللبن ليستا كافيتين للتحريم،و أنّه لا يسبّب التحريم إلا كميّة كافية من اللبن تنبت اللحم و تنشز العظم،و هذا لا يحصل بمصّة أو مصّتين،أو وجبة أو وجبتين غير مشبعتين،لا تؤثّر على هيكلية الطفل بشكل ملحوظ.
و الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي اللّه عنها:«أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس و صار إلى خمس رضعات معلومات فتوفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و الأمر على ذلك»[أخرجه مسلم ح 104] يعضد هذا الكلام.فالحديث يصرّح أنه كان من القرآن المنسوخ تلاوة،و ليس حكما،خمس رضعات معلومات.و من المعلوم أن هناك ثلاثة أنواع من النسخ،و تفصيله كما جاء في صحيح مسلم بشرح النووي في تفسير هذا الحديث:«و النسخ ثلاثة أنواع:-أحدها:ما نسخ حكمه و تلاوته كعشر رضعات،-و الثاني:ما نسخت تلاوته دون حكمه كخمس رضعات و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما،-و الثالث:ما نسخ حكمه و بقيت تلاوته،و هذا هو الأكثر،و منه:قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ الآية،و اللّه أعلم».و تفصيل النسخ:أنه تأخّر نسخ تلاوة الآية التي تنص أن الرضاع يجب أن يكون بخمس رضعات معلومات حتى إن بعض الصحابة ظلّ يتلوها لعدم درايته بنسخها.جاء في صحيح مسلم بشرح النووي:«و قولها[أي السيدة عائشة رضي اللّه عنها]: (فتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هن فيما يقرأ)هو بضم الياء من(يقرأ)،و معناه:أن النسخ بخمس رضعات تأخّر إنزاله جدّا حتى إنه صلّى اللّه عليه و سلّم توفّي و بعض الناس يقرأ خمس رضعات و يجعلها قرآنا متلوّا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده،فلمّا بلغهم النسخ بعد ذلك،رجعوا عن ذلك،و أجمعوا على أن هذا لا يتلى».فهذا الحديث يخبرنا أن التحريم يحدث بخمس رضعات معلومات،و الرضعة المعلومة ما هي إلا الرضعة المعلوم فيها أن الرضيع تناولها عن جوع،و أنها أشبعته،و أن الحليب الذي تجرّعه كان من النوع المثقّل الذي يخرج بفتق الأمعاء الموجودة في الثدي،و أنها أنبتت اللحم و أنشزت العظم،كما نفهم من مجموع الأحاديث،و التفاسير.جاء في تفسير القرطبي للآية: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23]:«فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهّم أو يشك في وصوله إلى الجوف».و كذلك جاء في شرح سنن النسائي للسندي للحديث رقم 3307.فوصف الرضعات بالمعلومات ما هو إلا تنبيه لنا بأن نتأكد أن جميع الشروط التي تلفّظ بها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الأحاديث الأخرى تطبّق على أحكام الرضاع قبل أن نطلق حكم التحريم على المرضعة و الرضيع،و إلا لما صحّ التحريم،و مختصره:أن تكون خمس وجبات مشبعات من لبن الأم المرضع من النوع المثقّل.جاء في تفسير القرطبي للآية رقم 23 من سورة النساء:«و يفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم.و الله أعلم».
و من المهم جدا أن نشير إلى أن النسخ بخمس رضعات كان آخر ما آل إليه الأمر في مسألة الرضاع، و بالتالي فعلينا العمل به لأننا لا نستطيع أن نعتبر الأحاديث الأخرى ناسخة له(و إن لم نعتبر في نظرنا الأحاديث الأخرى معارضة له)،كما أنه يتوجّب علينا العمل بدلالات لفظ النسخ،و هي أن تكون الرضعات معلومات-أي مشبعات-.
ص: 476
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تسترضعوا الورهاء/أي الحمقاء/فإن اللبن يعدي» [أخرجه الطبراني ح 61].
يدل الحديث السابق على أن الحماقة معدية بواسطة الرضاعة،فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يوجه الأسرة إلى عدم طلب المرضع الحمقاء لترضع الطفل لأن احتمال العدوى واردة.
و هذا الحديث يعطي بعدا علميا دقيقا ما تعرّفت إليه البشرية إلا بعد جهد متواصل من الأبحاث العلمية.
و نشير إلى ما دلت عليه المعطيات العلمية ليتضح للقارئ عوامل انتقال العدوى:
1-إن الرضيع يعتمد كليا على مصدر واحد(لبن الأم)في غذائه،و بالتالي فهو يتأثر به جذريا بعكس البالغ الذي يتناول غذاء متنوعا،و لديه مصادر متعددة للغذاء تمدّه بمختلف العناصر الغذائية.
2-إن تركيبة اللبن تختلف من أم إلى أخرى (1)،فهذا اللبن قد تمّ تركيبه حسب البيانات الوراثية الموجود سرها في خلايا غدد اللبن و التي نشأت مع الجنس البشري (2).
3-إن الغذاء الذي يشتق من لبن الأم يدخل في بناء الأنسجة لدى الرضيع (3).
4-إن أي تغيير كيميائي في اللبن سوف يترجم إلى تكوين مختلف في أنسجة الجسم التي تتكون آنذاك (4).
ص: 477
5-إن المخ و بقية الجهاز العصبي يمران بتغييرات سريعة خلال سنوات الطفولة الأولى (1).
6-إن البروتين و الدهن مكونان مهمان من مكونات الجهاز العصبي (2).
7-إن تركيب البروتين و الدهن يتم وفق الرسالة الجينية (3).
8-إن أي اختلال في تركيب البروتين و الأحماض الدهنية يؤثر على نمو المخ و الجهاز العصبي بشكل غير سليم.
9-و بما أن الحمقى هي حمقى من جراء اختلال في الرسالة الجينية،فبالتالي إن لبنها سوف يحمل في طياته انعكاسا لتركيبها المختل إذ إن«العناصر الغذائية المختلفة في لبن الثدي(و نشير هنا بالأخص إلى البروتين و الأحماض الدهنية)...
تم تركيبها وفقا للبيانات الوراثية التي نشأت مع الجنس البشري»و هذا يؤدي بدوره إلى بناء أنسجة مخية و عصبية غير سليمة لدى الرضيع موافقة لما يحتويه الغذاء.
و نعطي بعض الأمثلة:
أ-إن المخ يعتمد في نموه على الأحماض الأمينية و لا سيما(الستين CYSTINE )و(الثورين TAURINE ) (4)و بالتالي فإن نقصا في نسب هذه الأحماض من الممكن أن يؤدي إلى عدم نمو المخ نموا كاملا و إلى قصور عقلي.2.
ص: 478
ب-إن الدهن مكوّن مهم من مكوّنات الجهاز العصبي (1)و هو ضروري لنمو المخ (2)و يعتمد على الحامض الدهني(اللينولين LYNOLINE )و على(الكولسترول CHOLESTEROL ) (3)و بالتالي أي نقص فيهما من المحتمل أن يؤدي إلى قصور عقلي.
ج-إن ارتفاعا في بعض الأحماض الأمينية بالدم مثل ارتفاع في(التيروسين TYROSINE )و(الفينايلانين PHENYLANINE )و سلسلة الأحماض الأمينية المتفرعة و(المثيونين METHIONINE )يمكن أن يؤدي إلى قصور عقلي،و ذلك لأن المولود (خاصة بالنسبة للأطفال غير كاملي النمو)لا يملك الخمائر اللازمة لتحليل هذه الأحماض (4).
و مثال على ذلك:فإن الأمهات المصابات بالتخلف العقلي المسمى:(ب ك يو PKU )،الناتج عن ارتفاع في مستوى الحامض الأميني لديهن،ينجبن أطفالا أشد تخلفا في حال إرضاعهن لأولادهن،و كذلك فإن رضاعة الأمهات المصابات(بمرض الرّقة س FRAGILE X )لأولادهن تؤثر سلبيا على عقول أطفالهن.
و نفصّل ما يحصل في المرض المسمى(بالب ك يو PKU ):
إن مرض(الب ك يو)ينتج عن طفرة جينية (5)تحدث من أثر مورّثات متنحية تأتّت من كل من الأبوين (6)،و يؤدي هذا المرض إلى تراكم الحامض الأميني (الفنيلالانين PHENYLALANINE )و نقص مستوى الحامض الأميني(ل-تيروزين L-TYROSINE )في الدم (7)عند الشخص المصاب،فلا يستطيع أن يهضم الحامض الأميني الأساسي-الفنيلالانين-فيتسمّم جهازه العصبي،و يتولّد لديه خلل عقلي غير رجعي (8).3.
ص: 479
و لقد رأينا أن المرأة المرضع تستمد الأحماض الأمينية الأساسية لحليب الرضاعة من الدم (1).و بما أن مستوى الحامض الأميني عال في الدم،فمن الطبيعي أن تفرز المرأة الحمقى لبنا يحتوي على مستوى عال من الحامض الأميني،مما سيؤثّر سلبا على عقله و جهازه العصبي.
و لقد تعدّدت آراء العلماء العاملين في مجال الرضاعة في كيفية التعامل مع هذا المرض،و لكن عبّرت كلها عن نفس المعتقدات،و سنستعرض تلك الآراء فيما يلي:
-فمن العلماء من ذهب إلى عدم إرضاع الأم لولدها المصاب بمرض(الب ك يو)لأن جسم الولد لا يستطيع هضم الحامض الأميني-الفنيلالانين- (2).
-و منهم من ذهب إلى أن المرأة المصابة(بالب ك يو)يجب أن تتبع نظاما حميويا صارما للغذاء قبل سنة من حملها،و يجب أن تبقى على هذا النظام خلال إرضاعها حتى يصبح ولدها بصحّة جيّدة (3).
-و منهم ما لم يفضّل الرضاعة للأطفال المصابين بمرض(الب ك يو)، و نصح بتعديل وجباتهم (4).
-و منهم من ذهب إلى أن إرضاع الولد من الثدي(بعد اتباع نظام حميويّ معيّن)أفضل من إطعام الولد من الغذاء الصناعي،و ذلك لأن الأطفال المصابين (بالب ك يو)لهم القابلية بالاحتفاظ بكميات غير طبيعية من معدن(الموليبدنوم MOLYBDENUM )،و الغذاء الصناعي يحتوي على كميات من معدن الموليبدنوم تفوق بكثير الكميات الموجودة في حليب الثدي،مما يعني أن الأطفال الذين يتغذون على الغذاء الصناعي قد يصبح لديهم كميات زائدة من معدن الموليبدنوم (5).
-و منهم من ذهب إلى إرضاع الأولاد من كلا المصدرين:من القارورة التي تحتوي على حليب صناعي خال من الحامض الأميني-الفنيلالانين-،و من الثدي،بحيث إن عدد الوجبات من الثدي تتحدد من خلال نسبة الحامض الأميني .
ص: 480
-الفنيلالانين-[التي يجب أن تتواجد]في بلازما الدم،و حجتهم أن ذلك النظام يتيح للطفل أن يشرب(اللبن الخلفي HINDMILK )إضافة إلى(اللبن الأولي FOREMILK )[الذي يعود بالصحة على الولد] (1).
و حجة البعض الآخر-ممن نصح بإرضاع الطفل من الثدي إضافة إلى إطعامه من غذاء يحتوي على معدل منخفض من الفنيلالانين-أن الطفل يحتاج إلى البعض من الفنيلالانين لينمو بشكل طبيعي بالرغم من أنه مصاب بمرض يعجز فيه على تكسير هذا الحامض،و أن اللبن الإنساني[للأم غير المصابة بمرض(الب ك يو) طبعا]يحتوي على معدل من الفنيلالانين أقل من المعدل الموجود في أي غذاء صناعي،و بالتالي فيجب على المرأة[غير المصابة]أن تضيف على الغذاء الصناعي- ذو المحتوى المنخفض من الفنيلالانين-الرضاعة،حتى ينخفض مستوى الفنيلالانين لدى الأطفال ممن يعتمدون على الطعام الصناعي فقط في تغذيتهم.و قد أظهرت بعض الأبحاث أن الأطفال الذين يتغذون من كلا المصدرين هم أعلى ذكاء من الذين يعتمدون على الغذاء الصناعي فقط (2)،مما يشير إلى أن تناول كمية من الفنيلالانين أكثر من اللازم يؤدي إلى قصور عقلي.
و من الجدير بالذكر أن الحديث رقم 61 لا يتكلم عن موضوع رضاعة الأطفال المصابين بمرض(الب ك يو)،و لكن عن موضوع اجتناب الرضاعة من المرأة المصابة بالمرض المذكور،و عليه فهو يتحدث عن حالة المرأة المصابة و تأثير لبنها على الطفل،سواء أ كان الطفل مصابا بالمرض المذكور أم لا،و سواء أ كان ولدها أو ولد امرأة أخرى.
فحتى لو كان الولد ابنا لغيرها،و كان صحيح الجسم،فعلينا أن نجتنب الرضاعة منها لأن هناك خلل في لبنها.
أما في مجمل البحوث التي ذكرناها آنفا فكانت تقارن بين الحليب الإنساني و الغذاء الصناعي،و ليس بين حليب المرأة الحمقى و حليب المرأة الصحيحة العقل و البدن.كما أن الكلام كان يدور غالبا على مدى تقبّل الطفل المصاب بالمرض المذكور(.
ص: 481
لحليب الأم سواء أ كانت مصابة بالمرض المعتبر أم لا،فقد تكون(حاملة CARRIER ) للمرض فقط(و غير مصابة)دون أن تعلم ذلك(لأن عوارض المرض لا تظهر عليها، حيث أن المورّثات هي من النوع المتنحي)،و أنجبت بذلك ولدا مصابا بالمرض المذكور،و هي ماضية بإرضاعه،و بالتالي فإن الموضوعين مختلفين إلى حد ما.
و ما نستطيع أن نستخلصه من مجموع الكلام الذي سقناه:أن المرأة المصابة تحمل معدلات عالية من الفنيلالانين في دمها،و أن الأطباء ينصحون باتباعها نظاما حميويا صارما للغذاء لكي تنخفض و تتّزن معدّلات الفنيلالانين في دمها و من ثمّ في حليبها،و إنهم يفضّلون الرضاعة من الثدي على التغذية من الطعام الصناعي لعدّة أسباب أهمها:
-إن تركيز المعادن أفضل في اللبن الإنساني.
-إن هناك لبن خلفي في اللبن الإنساني غير موجود في الغذاء الصناعي.
-إن الطفل يحتاج إلى البعض من الفنيلالانين للنمو السليم بالرغم من أنه مصاب بمرض يعجز فيه عن تكسير أحماض الفنيلالانين.
و عليه نفهم أن العلم يتّفق مع النصوص الشرعية على أنه يجب أن لا نسترضع الحمقى لأن لديها معدّل عال من الفنيلالانين،و إنه يجب أن نحافظ على الرضاعة من الثدي للأولاد-سواء أ كانوا مصابين بالمرض المذكور أم لا-لأنه لا بديل للرضاعة بالنسبة للتمثيل الغذائي للطفل،و لذلك فإن أفضل حل لهذه المعضلة هي الرضاعة من امرأة أخرى صحيحة الجسم عملا بالآية: وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].فهذه الآية تنص على أن تستبدل المرأة المرضع بامرأة أخرى في حال وجود عسر في الرضاعة(و يتمثّل العسر هنا في حماقة المرأة) (1)،و بما أند.
ص: 482
الإسلام لا يعارض العلم،بل يدعو إليه،فنقول:إن على المرأة المرضع أن تتّبع نظاما حميويا معيّنا في حال كان الطفل مصابا بمرض(الب ك يو)يعدّل من مستوى الفنيلالانين في حليبها.
و من هذا الكلام يتبيّن لنا أن الإرشادات المستقاة من النصوص الشرعية لتدلّ حتما على أن التعاليم الإسلامية لهي الأفضل لصحة الطفل و نموه السليم.
و هكذا يتبين لنا إعجاز الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الإشارة إلى أن الحماقة تنتقل بواسطة اللبن من الأم المرضع إلى الرضيع.
*جاء في الحديث أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:إنّي أعزل عن امرأتي،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لم تفعل؟»،فقال الرجل:أشفق على ولدها،أو على أولادها،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لو كان ذلك ضارّا ضرّ فارس و الرّوم»[أخرجه مسلم ح 51].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة،فنظرت في الرّوم و فارس،فإذا هم يغيلون أولادهم،فلا يضرّ أولادهم ذلك شيئا»[أخرجه مسلم ح 52].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه»[أخرجه أبو داود ح 53].
جاء في لسان العرب (1):«غول:غاله الشيء غولا و اغتاله:أهلكه و أخذه من حيث لا يدري.و الغول:المنية و اغتاله قتله غيلة...».
نفهم من التفسير أن أصل كلمة«الغيل»يشير إلى قتل الشخص من حيث لا يدري.
و الغيلة عند العرب هو أن يجامع الرجل امرأته و هي ترضع.
جاء في شرح سنن النسائي للسندي (2):«قوله(أنهى عن الغيلة)بكسر الغين المعجمة و فتحها،و قيل الكسر لا غير هو أن يجامع الرجل زوجته و هي مرضع...».
و الغيلة عندهم أيضا هو أن ترضع المرأة و هي حامل.
ص: 483
ورد في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«و قال ابن السكيت:هو أن ترضع المرأة و هي حامل،يقال أغالت و أغيلت».
و قد سمى العرب كلاّ من الجماع و الإرضاع غيلة لأن المعتقد السائد عندهم هو أنّ المرأة قد تحمل إن جامعها زوجها خلال فترة الرضاعة،فيفسد بالتالي لبنها، فيكون داء لولدها،و يكون سببا لقتله عندئذ،و بالتالي يسمى:الغيل.
جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (2):«قالوا و الأطباء يقولون:إن ذلك اللبن داء و العرب تكرهه و تتقيه...».
و ورد في القاموس المحيط:«الغيل:اللبن ترضعه المرأة ولدها و هي تؤتى،أو و هي حامل.و اسم ذاك اللّبن:الغيل أيضا.و أغالت ولدها و أغيلته:سقته الغيل، فهي مغيل و مغيل،و هو مغال و مغيل» (3).
و الأحاديث التي أوردناها آنفا تتكلم عن التسبب في قتل الأطفال من حيث لا يدرون،فهي تنهي عن هذا الفعل و عن الأسباب التي تؤدي إليه.
و الحديث الأول:«أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:إنّي أعزل عن امرأتي...»يتكلم عن الجماع،لأن الصحابي يتكلم فيه عن العزل،و بالتالي فهو يتكلم عن الجماع.
و الحديث الثالث:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فإن الغيل يدرك الفارس...» [أخرجه أبو داود ح 53]يتكلم عن الرضاعة من المرأة الحامل لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد تحدّث فيه أن الغيل يدرك الفارس(أي الطفل،كما سنرى فيما يلي من البحث).
و الجماع ليس له تأثير مباشر على الطفل الرضيع،لأنه يسبب الحمل الذي بالتالي يؤثر على نوعية لبن الرضاعة،ناهيك عن أن تأثير الجماع مشروط،هل ستحمل منه المرأة أو لا.(و هي بالغالب لا تحمل كما سنرى فيما يلي من البحث).
قد اختلف العلماء في المعنى الذي أراده الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث الثاني،أي في الحديث:«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة...»[أخرجه مسلم ح 52]،هل أراد الجماع،أو أراد تردّي نوعية لبن الرضاعة؟.4.
ص: 484
جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (1):«و اختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث».
فإذا أخذنا برأي العلماء الذي يميل إلى معنى الجماع،فيشير الحديث«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة...»عندئذ إلى إباحة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لجماع الرجل زوجته و هي حامل لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«فنظرت في الرّوم و فارس،فإذا هم يغيلون أولادهم،فلا يضرّ أولادهم ذلك شيئا»[أخرجه مسلم ح 52].
و أما إذا أخذنا برأي العلماء الذي يميل إلى معنى تردّي نوعية لبن الرضاعة، فيشير الحديث«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة...»عندئذ إلى أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أباح إرضاع الطفل من لبن الأم عملا بلفظ«فنظرت في الرّوم و فارس،فإذا هم يغيلون أولادهم،فلا يضرّ أولادهم ذلك شيئا»[أخرجه مسلم ح 52]،و من ثم نسخ ذلك جليّا بالحديث«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»[أخرجه أبو داود ح 53]،لأن صيغة النهي واضحة فيه.
و سواء فسرنا الحديث«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة...»بالحديث«أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:إنّي أعزل عن امرأتي...»[أخرجه مسلم ح 51] أو الحديث«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»[أخرجه أبو داود ح 53]فالنتيجة واحدة،و هو أن مجامعة الرجل لامرأته و هي حامل مباح عملا بالحديث«أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:إنّي أعزل عن امرأتي...»و أن إرضاع الطفل من أمه و هي حامل منهي عنه عملا بالحديث«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»[أخرجه أبو داود ح 53]،و نترك للقارئ الأخذ بما يراه الأرجح،و لا خلاف بيننا و بينه.
و سوف نأخذ بالمعنى الثاني للغيل(أي بمعنى تردّي نوعية لبن الرضاعة)،لكي نشرح للقارئ الكريم بالتفصيل،أبعاد الأحاديث الثلاثة التي أوردناها سالفا.
و تفصيل ذلك:أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كاد أن يتبنى موقف العرب من لبن الرضاعة في بادئ الأمر نظرا لما جرت به العادة و كان العرف السائد بينهم،و لذلك أراد أن ينهى عنه قائلا:«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة...»[أخرجه مسلم ح 52]،غير أنه نظر في فارس و الروم فرأى أنهم يرضعون أولادهم خلال حمل نسائهم و لا يضرهم شيئا، فقاس ذلك على العرب و كان اجتهادا منه صلّى اللّه عليه و سلّم،و لم ير بأسا بذلك،فقال:«فنظرت).
ص: 485
في الرّوم و فارس،فإذا هم يغيلون أولادهم،فلا يضرّ أولادهم ذلك شيئا»[أخرجه مسلم ح 52].
جاء في المنتقى شرح موطأ مالك (1):«و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:(لقد هممت أن أنهى عن الغيلة»يدل على أنه قد كان يقضي و يأمر و ينهى بما يؤديه إليه اجتهاده...»).
و جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (2):«...و فيه جواز الاجتهاد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم».
غير أن إجازة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في إرضاع الطفل من لبن الغيلة نسخ بعد أن أنزل اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم الوحي و أمره بأن ينهى الأمة عن هذا الفعل،فقال صلّى اللّه عليه و سلّم عندئذ:«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»[أخرجه أبو داود ح 53].
و تنبيه الوحي السماوي لأمور لم يخترها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بحكم طبيعته البشرية لم تكن هي الأولى.و قد تكرر ذلك أكثر من مرة في تاريخ السيرة النبوية الشريفة.
و نعطي مثالا على ذلك:فقد عاتب اللّه-سبحانه و تعالى-رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم في الآية: عَبَسَ وَ تَوَلّى(1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى(2) [عبس:1-2]لأنه أخّر تذكير الأعمى في بعض أمور دينه و ذلك لحضور كبار زعماء قريش عنده،و أهمية دعوتهم إلى الإسلام،فيسلم بإسلامهم من كان تحت قيادتهم.
و بعد:فالقتل في الحديث«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»[أخرجه أبو داود ح 53]، جاء معناه في الاستقبال،و الدليل على ذلك هو:أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«فإن الغيل يدرك الفارس»،فلو أن القتل كان في الحال لما نشأ الولد و أصبح فارسا فأدركه الغيل عندئذ.
و القتل هنا ليس من قبل الوالدين مباشرة لأنه يأتي عند ما يمتطي الفارس جواده فيقع عنه.
و القتل يحصل بدون معرفة أحد كما يشير إليه لفظ«لا تقتلوا أولادكم سرّا»، فلو كان الغيل قتل الأولاد في الحال مباشرة من الوالدين في مجتمع يبيح ذلك من خلال الرضاعة لما أصبح الأمر سرّا،لاختلاط الناس فيما بينهم و لعلمهم بحال بعضهم.).
ص: 486
و من هذه الملحوظات وجب علينا أن نفسر الأحاديث على الوجه الآتي:
جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود (1):«فإذا حملت فسد لبنها،يريد أن من سوء أثره في بدن الطفل و إفساد مزاجه و إرخاء قواه أن ذلك لا يزال ماثلا فيه إلى أن يشتد و يبلغ مبلغ الرجال،فإذا أراد منازلة قرن في الحرب وهن عنه و انكسر، و سبب وهنه و انكساره الغيل»انتهى.
و قال السندي:«و إن لم يظهر أثره في الحال حتى ربما يظهر أثره بعد أن يصير الولد رجلا...».
فالقتل في الحديث«لا تقتلوا أولادكم سرّا...»هو التسبب في قتل الولد بعد أن ينشأ و يصبح فارسا من جراء إضعاف بنيته،و عدم إعطائه حقّه من الغذاء من خلال إرضاعه من أمه الحامل التي تردّت نوعية لبنها.
غير أن هذا اللبن الذي خفّت استفادة الطفل منه لا يظهر أثره في الحال و لكن يظهر أثره على الولد بعد أن ينشأ ظهورا ضعيفا،ذلك لأن أعضاء الطفل الصغير لم تستفد كما يجب من لبن الحامل لأنه فقد بعضا من قيمته الغذائية.
و من الجدير بالذكر أن لبن الغيلة يرخي قوى الطفل مآلا و ليس بالحال، و بذلك فإن النهي عنه جاء هنا للإرشاد لا للتحريم،و هذا ما أشار إليه الحافظ ابن قيّم الجوزية (2)قائلا:«فيكون النهي عنه أولا إرشادا و كراهة،لا تحريما و الله تعالى أعلم».
و بعد:فتشير الأحاديث التي وردت في باب الغيلة إلى عدة أمور هي:
-إن وطء الرجل لامرأته و هي حامل مباح.
-إن إرضاع الحامل لولدها مباح(و ذلك إذا أخذنا برأي ابن قيّم الجوزية، و إلا فإن إرضاع الحامل لولدها لا يجوز).
-إن إرضاع الولد من الأم الحامل غير مستحب.
-إن لبن الأم يفقد بعضا من قيمته الغذائية مما يسبب ضعفا في بنية الرضيع.).
ص: 487
-إن الضعف الذي يلحق في بنية الرضيع خفيف بحيث لا يظهر أثره جليّا عليه في الحال.
-إن هذا الضعف يلازم الطفل حتى بعد أن يشتدّ عوده و يظهر عمليا عليه في المستقبل.
و من الكلام الذي سقناه:نفهم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أباح للصحابي مجامعة امرأته قائلا:«لو كان ذلك ضارا ضرّ فارس و الروم»[أخرجه مسلم ح 51]لسببين:أولا:لأن حمل المرأة نادر في حال أرضعت طفلها،و ثانيا:لأن الضرر الذي قد يلحق بالرضيع-في حال حملت-محدود جدّا و لا يكاد يبين،و الله أعلم.
و تفصيل ذلك علميا:
*في باب المجامعة:أنه أبيح للرجل جماع المرأة الحامل لأنه (1):«من الصعب جدا أن تصبح المرأة المرضعة حاملا قبل أن يبدأ طفلها الرضيع بالاعتماد على المصادر غير الإنسانية في غذائه».
و جاء في كتاب التغذية من الثدي و الرضاعة الإنسانية (2):«أظهرت مراجعة التقارير العالمية أن نسبة النساء اللاتي تحمل و اللاتي لا تضعن أجهزة مانعة للحمل خلال الفترة المسماة(بفترة عدم الخصوبة الطبيعية LACTATIONAL AMENORRHEA )هي 3 إلى 10 في المائة».
و الحاصل أن مستويات هرمون البرولاكتين في الدم الذي ينشط الغدد اللبنية و يحثها على الإفراز تنخفض بسرعة بعد الولادة ابتداء من اليوم الثالث بعد الولادة، بعكس ذلك في حال أرضعت الأم وليدها،حيث يستمر مستواه مرتفعا إلى ما بعد تسعين يوما من الولادة.و بالعكس يقلّ مستوى(الأستروجين ESTROGEN )في المرأة المرضعة بالرغم من أن مستويات هرمونات الغدد الجنسية المسماة:(المحرض القندي GONADOTROPIN HORMONES )تظل عادية و مرتفعة.(انظر الصورة رقم:127).و قد يعني ذلك أن البرولاكتين له تأثير كابح لتكوين(ستيرويدات المبيض OVARIAN STEROIDS )،و حيث إن إفراز البرولاكتين يتناسب مع المدة التي تتعرض فيها الحلمة للإثارة،فإن الرضاعة الحرة-و دون تغذية مساعدة-هي أمر حيوي في تأخير عملية التبويض.8.
ص: 488
و ليس على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يذكّر الصحابي بأن على امرأته أن ترضع وليدها لكي لا تحمل،لأن سؤال الصحابي يدور حول فساد لبن الأم المرضعة أصلا،أي أنها بطبيعة الحال ترضع،و بالتالي فلا معنى لاشتراط الرضاع في هذا المقام.
و من الكلام السابق نفهم أن مباشرة النساء خلال إرضاعهن لأولادهن لا يسبب الضرر لأولادهن؛لأن حمل النساء في هذه الفترة نادر جدا كما أشار إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و كما دلّت عليه المعطيات العلمية و الإحصائية.
*و في باب الرضاعة:أنه أبيح للأم أن ترضع طفلها و هي حامل مع التلميح أن الرضاعة في هذه الحالة مكروهة للأسباب التالية:
-يخفّ مدد اللبن للرضيع في حال حمل المرأة،فقد أظهرت التقارير أنّ 70% من النساء الحوامل يشتكين من نقص في لبن الرضاعة (1)،و هذا يؤدي إلى سوء التغذية لدى الطفل الرضيع و إلى ضعف في بنيته إذا ما اعتمدنا على الرضاعة فقط، و إلى فطام الرضيع في فترة مبكرة من الرضاعة إذا ما اعتمدنا على المصادر غير الإنسانية،و هذا غير محمود لأنه يعتمد عندئذ على مصادر غريبة هي ليست بالغذاء المثالي.
-تشير التقارير أيضا إلى أن مذاق لبن الأم المرضع يصبح مرّا (2)مما يؤدي إلى فطام الرضيع في فترة مبكرة،و هذا يؤدي إلى نتائج غير محمودة كما أشرنا إليه سابقا.1.
ص: 489
-و لعلّ مرارة طعم لبن الأم الحامل تعكس التغيّر الكيميائي لهذا اللبن،و في هذا قال الشاعر:
هيهات تجني سكرا من حنظل فالشيء يرجع في المذاق لأصله
و بالفعل فإن نسبة الصوديوم و مجموع البروتين في اللبن تزيد بينما تنخفض نسبة الجلوكوز و اللاكتوز (1).
-و اللاكتوز يوفّر 40% من حاجات الطفل للطاقة (2)،و بالتالي فإن انخفاض نسبة اللاكتوز في لبن الرضاعة يقلل من نسبة الطاقة المتوفّرة للطفل،و هذا بالتالي يضعف نمو الطفل،و اللّه أعلم.
-كما أن ازدياد الصوديوم في لبن الأم المرضع له انعكاس سلبي على غذاء الطفل،فتركيز الصوديوم في لبن الأم المرضع يتناسب عكسيا مع أثر التغذية على الطفل.فقد لوحظ أن هناك نسبة عالية للصوديوم في لبن النساء اللاتي يعاني أولادهن من سوء تغذية أو(الزموهة DEHYDRATION )أو(زيادة نسبة الأملاح في الدم بزيادة الصوديوم HYPERNATRAEMIA ) (3).
-كما أن زيادة البروتين في لبن الرضاعة تلقي(عبئا ثقيلا على الكلى EXCESSIVE RENAL SOLUTE LOAD )فتتعبها،و الدليل على ذلك هو أن نظام الأيض لدى الرضيع يغلب عليه الحموضة إذا تلقّى نسبا عالية من البروتين في غذائه (4)،غير أن زيادة نسبة البروتين على وجه عام لا تضر الرضيع كثيرا،و قد فسّر لنا د.علي التنير لما ذا لا تضر هذه الزيادة الرضيع قائلا:«و بطبيعة الحال لا يوجد في التغذية بالثدي أي مشكلات مرتبطة باحتراق البروتين الزائد،و لا بعدم توازن الأحماض الأمينية» (5)،و ذلك لأن«بروتين لبن الأم ليس البروتين الصحيح فقط من وجهة النظر البيوكيميائية،و لكنه أيضا البروتين المثالي من وجهة النظر البيولوجية» (6).8.
ص: 490
فعلى سبيل المثال:«لوحظ أنه في المتوسط في حالة الطفل حديث الولادة تهبط مستويات الأحماض الأمينية بالبلازما مباشرة بعد الولادة،و يبدأ المستوى في الارتفاع عند بدء التغذية،و يكون الارتفاع في المستوى معقولا إذا غذي الطفل بلبن الأم.فمثلا تصل مستويات الفينايلالنين لقمتها في اليوم الرابع عشر،أما إذا تغذى الطفل على لبن البقر أو أي أغذية أخرى غنية بالبروتين،فإن مستويات الفينايلالنين تستمر مرتفعة لعدة أسابيع،و ربما لعدة شهور» (1).
و من هذا الحديث نفهم أن التغيّر الكيميائي في لبن الأم الحامل لا يضر الرضيع كثيرا،لأنه لا يدخل أجساما غريبة على جسمه لا يستطيع الجسم مقاومتها و تحليلها كما هو الحال في التغذية من لبن الأبقار،بيد أن هذا التغير الكيميائي لا يمثل الغذاء المثالي للطفل لأن كميته قليلة،و طعمه غير لذيذ،و لأن نسبه مختلفة بحيث لا يتماشى مع مستلزمات النمو للطفل و التمثيل الغذائي لديه،و بالتالي يؤدي إلى إضعاف بنيته بشكل خفيف،و بشكل غير ملحوظ كما يشير إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كما تفيده تقارير منظمة الصحة العالمية«لم يتبين نتائج مرضيّة لأي من الأم و الطفل» (2).
و نفهم من الحديث السابق أن الأحاديث النبوية الشريفة تمثل الإرشاد المثالي و الأفضل للأمهات لإرضاع أطفالهن.
و قد يتساءل القارئ:بما أن الرضاعة من الأم مكروهة في حال الحمل،فما الحل بالنسبة للرضيع إذا حملت أمه،و لم ترد الأم إرضاعه؟نقول-كما أشرنا إليه آنفا-:إن الحل هو أن ترضع له أخرى عملا بالآية: وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق:6].فلبنها جيّد و قد ركّب حسب البيانات الوراثية الإنسانية بما يتناسب مع حاجات الطفل الرضيع،و هو أفضل من لبن الأم الحامل الذي اختلت فيه النسب و المقادير و المذاق،و لذلك فقد يستفيد الرضيع منه أكثر من لبن الأم الحامل و لبن الأبقار الذي يحمل أجساما غريبة و الذي قد يؤذي الرضيع في بعض الأحيان،و اللّه تعالى أعلم.9.
ص: 491
الشرعية:
إن الآية الكريمة و الأحاديث الشريفة المنصوصة في أول البحث تعتبر من الآيات الباهرة الدالة على نبوّة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لما تحتوي على غيبيات علمية عديدة جمعت في عبارات قليلة و بسيطة،و لو حاول العلماء تلخيصها لعجزوا.ففي هذه الأحاديث غزارة من المعلومات تحتاج إلى الكثير من التفصيل لكي تصبح واضحة لعامة الناس.
في الآية و الأحاديث عدة إعجازات(و إشارات علمية)إخبارية نلخصها كالآتي:
1-اللبن الإنساني لا يماثله إلا لبن إنساني آخر.
2-أفضلية الرضاعة من الأم على الرضاعة من المرضعات.
3-الطعام هو المصدر الأساسي لتصنيع لبن الأم.
4-الدم هو المصدر الثاني لتصنيع لبن الأم،و يلعب دور الوسيط في عملية تصنيع اللبن.
5-اللبن يدخل في تركيب أنسجة الطفل.
6-هناك وجود لبن أولي و خلفي.
7-هناك نوع من الحليب المغذي الذي يؤسس بنية الطفل و آخر لا يغذي بشكل ملحوظ.
8-هناك مسالك في الثدي يسيل فيها اللبن.
9-الحليب يخرج من الثدي بأكثر من عملية فيزيولوجية لهذا الغرض،و لا سيما عملية الفتق.
10-المسالك التي تفتق هي مسالك صغيرة و ضيّقة.
11-اللبن المغذي لا يخرج في بادئ الرضاعة.
12-المدّة المثالية للرضاعة هي سنتان كاملتان.
13-من شروط إدرار اللبن أن يكون الرضيع جائعا.
14-من مستلزمات الرضاعة المحرمة أن يتناول الرضيع الثدي بكامل فمه لكي يتم إدرار اللبن بنجاح.
ص: 492
15-خصائص اللبن تنتقل إلى الرضيع.
16-اللبن يعدي.
17-احتمال حمل المرضع ضئيل جدا.
18-تردي نوعية لبن الحامل.
19-ضرورة الاعتماد على لبن الأم لمدة سنتين حتى يستعد الجهاز الهضمي لممارسة نشاطه على أكمل وجه.
20-القيمة الغذائية للبن لا تعادلها أي قيمة لأي غذاء آخر.
ص: 493
ننتقل هنا إلى باب قريب من باب تخلق الجنين:أ لا و هو علم الوراثة.
و علم الوراثة:«هو باب من علم الأحياء يعنى بدراسة ظاهرة التوارث،و هي الطريقة التي يتم عبرها تناقل بعض صفات الكائنات الحيّة من الآباء إلى الأبناء» (1).
و موضوع هذا العلم يدور حول«توارث الصفات الفيزيائية و البيوكيميائية،و التغيرات التي تظهر من جيل إلى جيل» (2).
و علم الوراثة لم يصبح علما بالمعنى المتعارف عليه إلا في أوائل القرن التاسع عشر مع العالم(مندل MENDEL )(1866 م)،و هو أول من كشف عن المبادئ الأساسية الوضعية لعلم الوراثة.
و سبب اعتنائنا بهذا العلم هو أن تطور الجنين يعتمد كليّا عليه،و ذلك لأن الخصائص الوراثية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء هي التي تقدر شكل الجنين:
(لونه،قامته،جنسه،و ما هو عليه بإذن اللّه).
و اللافت للنظر هو أن القرآن الكريم و السنّة الشريفة تكلّما عن كثير من المبادئ الأساسية لعلم الوراثة،و أشارا إلى حقائق علمية دقيقة كانت مجهولة قبل عام 1866 م،و هو العام الذي وضعت فيه مبادئ علم الوراثة.و قمة الإعجاز هو أن هذه الحقائق تكشّفت على لسان رجل أمّي،صلّى اللّه عليه و سلّم،في وسط أميّ،قبل 1250 سنة من اكتشاف أسس علم الوراثة،بيد أنّها لم تنتشر في بقاع الأرض لأن المجتمعات المتقدمة علميا أعرضت عن النبأ العظيم-رسالة اللّه إلى الناس أجمعين-،و ذلك لأنها حسبت أنها على حق كما تشير إليه الآية: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ...
[غافر:83].
*قال العليم الحكيم: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) [عبس:17-19].
ص: 494
لقد ذمّ اللّه سبحانه و تعالى الإنسان في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ،و سبب هذا الذمّ هو:أن الإنسان يكفر و يتكبّر مع العلم أنه خلق من شيء حقير؛من نطفة صغيرة قدّرت تركيبته البيولوجية بإذن اللّه.
جاء في لسان العرب (1):«قدر:...التهذيب و التقدير على وجوه من المعاني:أحدها:التروية و التفكير في تسوية أمر و تهيئته.و الثاني:تقديره بعلامات يقطعه عليها.و الثالث:أن تنوي أمرا بعقلك تقول:قدّرت أمر كذا و كذا...».
و من التفسير نفهم أن التقدير هو أن تنوي تسوية أمر في المستقبل من خلال إعطائه علامات تقطعه عليها.و على ذلك يكون معنى الآية:من نطفة خلقه و أقر له هيئته التي سيكون عليها في المستقبل من خلال تركيبة هذه النطفة.
و التقدير يحصل عند ما يخلق اللّه تعالى نطفة الأمشاج كما أوضحناه في مبحث «اختلاط عروق النطفة»،و ذلك عند انصهار نواتي الحيوان المنوي و البويضة،و امتزاج الصبغيات،و تفاعل المورّثات الذكرية و الأنثوية في عملية تستغرق أقل من 30 ساعة.
و من هنا نفهم أن تقدير هيئة الإنسان يبدأ وقت خلق نطفة الأمشاج (2).
و بما أن التقدير هو تسوية أمر في المستقبل،نفهم أن هذا التقدير يشمل جميع المراحل التي يمر بها الإنسان.
و لذلك جاء ذكر المراحل التي يمر بها الإنسان في الآيتين الكريمتين: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5]،و هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67].
ص: 495
جاء في القرطبي (1)في تفسير فَقَدَّرَهُ :«فقدره في بطن أمه.كذا روى الضحاك عن ابن عباس:أي قدر (2)يديه و رجليه و عينيه و سائر آرابه،و حسنا و دميما و قصيرا و طويلا...».
و إذا تأملنا الآيات: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ(58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) [الواقعة:58-61]،فهمنا أن الحديث هو عن تقدير موت الإنسان.و بما أن الآيات تتحدث ابتداء عن المني-أي عن النطف-،نفهم أن تقدير الموت يكون من النطف-أي من الصبغيات أو المورثات التي تحتويها النطف-كما يقتضيه السياق القرآني (3)(انظر مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»).
و من الجدير بالذكر أن اللّه تعالى نفى صفة الخلق عن الإنسان و جعلها صفة له في قوله: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ(58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(59) [الواقعة:58-59]، و هو بذلك نفى صفة التقدير عن الإنسان و جعلها صفة له كما تشير إليه الآية القرآنية:
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60) [الواقعة:60]،فهو الذي خلق النطفة، و هو الذي بذلك أودع في النطفة صفة التقدير،و بالتالي فإن النطفة تقدّر بنية الإنساني.
ص: 496
بإذن اللّه،لذلك قال اللّه عزّ و جلّ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة:60].فكلمة«نحن»لا تنفي أن يكون التقدير من النطفة بإذن اللّه،بل هي شاهد على أن الذي أودع الخطة الجينية في النطفة هو البارئ جلّ و علا.
كذلك إذا قابلنا الآيات من سورة الواقعة: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ(58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60) [الواقعة:58-60]بآيات سورة عبس: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) [عبس:
17-19]لاحظنا أن كلا النصين الكريمين يتكلم عن التقدير و عن النطف،و قد جاء في أحدهما ذكر تقدير الموت،و هذا يقتضي إلصاق تقدير الموت بالنطفة.
و تقدير موت الإنسان هو تقدير عمره،حيث يموت الإنسان بانتهاء عمره.
لذا حدد الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم عمر أمته ما بين الستين و السبعين قائلا:«عمر أمّتي من ستّين سنة إلى سبعين سنة»[أخرجه الترمذي ح 97] (1)..-
ص: 497
إذن فالتقدير يشمل مراحل تخلق الجنين في الرحم(العلقة،المضغة...)، و مراحل نمو الإنسان بعد خروجه من بطن أمه(الطفولة)،و مرحلة بلوغ أشدّ-أي كامل-النمو (1)،و مراحل الشيخوخة لدى الإنسان،و وقت موت الإنسان كما يقتضيه التقدير الجيني لما جاء في الآية رقم(5)من سورة الحج(مع العلم أن هناك عوامل خارجية مثل:أثر التغذية،و الضغوط النفسية،و الحوادث الفردية،و الأمراض التي تؤثر على عمر الإنسان،ناهيك عن أن الأعمار بيد اللّه،يقول اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]).
إذا أردنا أن نفهم علميا كيف يقدّر الإنسان من النطفة،علينا أن نلقي الضوء على تركيبتها.
إن التركيبة الكيميائية للنطفة تتلخص كالآتي:
في كل نطفة ملقحة يوجد ثلاثة و عشرون زوجا من الصبغيات،و تلك الصبغيات تحتوي بدورها على 000,100 مورثة أو أكثر (2)،و هذه المورثات هي التي تتحكم بتخلق الإنسان بإذن اللّه تعالى.و تخلق الجنين يعتمد على ثلاثة أنواع من المورثات:-مورثات التكوين و البناء-مورثات التنظيم و التسوية-مورثات الشكل أو الصورة،و هذه المورثات تتحكم بتطور الجنين خلال الحمل (3).
ص: 498
و(البويضة الملقحة ZYGOTE )مبرمجة بحيث تقوم بانقساماتها حسب برنامج جيني معين.
و الخلايا التي تنجم عن(الانفلاقات الفتيلية MITOTIC DIVISIONS )للبويضة المخصبة تتمايز بإذن اللّه تعالى وفق خطة مرسومة جعلها اللّه تعالى ضمن الجينات- أي المورثات-الموجودة في الصبغيات،التي تقوم بدورها بالعمل في الوقت المحدد و في الخلية أو الخلايا المحددة.
و قد أشار القرآن الكريم إلى انقسام الخلايا في قوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى... [الأنعام:95].و قد رأينا في مبحث«انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب»أن الحبة من الشيء هي القطعة[الصغيرة]منه (1)،و بالتالي فإن كلمة«حب» كلمة عامة تشير فيما تشير إلى الخلايا.
و للعلم فإن مفهوم الخلايا ليس بغريب عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كما يشير إليه الحديثان النبويان الشريفان:«...فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه...»[أخرجه الطبراني ح 21] (انظر مبحث«جمع خلايا الجنين»)،و«إن أحدكم يجمع خلقه أربعين يوما...» [أخرجه مسلم ح 43](انظر مبحث«المضغة»).
و تفصيلا:فإن الجينات«لا تعمل جميعا في وقت واحد،بل إن بعضها يعمل في مرحلة من مراحل تكوّن الجنين ثم تسكت عن العمل لتتحرك مجموعة أخرى و هكذا،كما أن المجموعة التي تعمل في الجهاز العصبي(مثلا)تختلف عن المجموعة التي تعمل في الجهاز الهضمي،و تختلف عن تلك التي تعمل في الجهاز الدوري(القلب و الأوعية الدموية)و هكذا،بل إنّ العضو الواحد مثل البنكرياس تعمل فيه مجموعات مختلفة من الجينات،ففي كل مجموعة من الخلايا تعمل مجموعةي.
ص: 499
تختلف عن الخلايا الأخرى المجاورة.فالخلايا التي تفرز الإنسولين تعمل بها مجموعة مختلفة من الجينات عن تلك التي تفرز مادة الجلوكاجون الذي يرفع السكر في الدم لأنه على طرف نقيض مع الإنسولين،و هكذا الخلايا الهاضمة المختلفة في البنكرياس،و كل مجموعة منها متخصصة في إنزيم معيّن و لها جينات خاصة بها.
و الخلية الشفافة في قرنية العين تختلف في أسرارها و تكوينها عن الخلية المجاورة لها في صلبة العين،و في شبكية العين ثمان طبقات تختلف خلايا كل طبقة عن الطبقة الأخرى في الوظيفة و الشكل و في السمات و الشيات،بناء على نشاط مجموعة من الجينات في هذه الخلية،و نشاط مجموعة أخرى في الخلية المجاورة لها.بل إن الطبقة الواحدة في الشبكية تختلف حسب وظيفتها.فخلية(العصي RODS )تختلف عن خلية(المخروطات CONES )في الشكل و الوظيفة» (1).
يقول اللّه جلّ و علا: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1) اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) [الملك:1-2].
و عن الموت جاء في مقاييس اللغة:(موت:الميم و الواو و التاء أصل صحيح يدلّ على ذهاب القوّة من الشيء.منه الموت:خلاف الحياة،و إنما قلنا:أصله ذهاب القوّة،لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة (2)فلا يقربنّ مسجدنا،فإن كنتم لا بدّ آكليها فأميتوها طبخا...) (3).
إذن الموت في لغة العرب هو فقدان الشيء قواه،و لا ينحصر لغة في فقدان الروح من الشيء كما يعتقده عامة الناس.
و هكذا فإن الموت ظاهرة لا تقتصر على الإنسان أو على الحيوان فقط،بل تطول جميع الأشياء التي تفقد قواها،و منها الخلايا.
و عن الخلق جاء في لسان العرب:«و الخلق في كلام العرب:ابتداع الشيء
ص: 500
على مثال لم يسبق إليه...(قال)ابن سيده:خلق اللّه الشيء يخلقه خلقا أحدثه بعد أن لم يكن...» (1).
و ورد في لسان العرب:«موت:(قال)الأزهري عن الليث:الموت خلق من خلق اللّه تعالى...» (2).
و جاء في تفسير ابن كثير:«و استدل بهذه الآية من قال:إن الموت أمر وجودي،لأنه مخلوق...» (3).
إذن فالموت شيء مخلوق،أي شيء أحدثه اللّه تعالى،و هذا يستوجب وجود أسباب شرعا و عقلا تتسبب بوجوده،أي آليات و أعضاء و أنظمة هي بمثابة مسببات لظاهرة الموت-أي لإضعاف قوة الشيء-.
و النص القرآني: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ(58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60) [الواقعة:58-60]يشير إلى أن اللّه عزّ و جلّ قدّر(أي أراد- كما تشير إليه كلمة«قدر»-)أن يخلق(أي أن يحدث)الموت(أي إضعاف القوى) مستقبلا.و بما أن«الموت»خلق يستوجب وجوده مسبّبات،فنقول-و باللّه التوفيق- :إن اللّه تعالى أراد أن يحدث إضعاف القوى بإيجاد مسببات-أي آليات-تسبب هذه الظاهرة مستقبلا،و هذا(أي الاستقبال)يستوجب تبعا وضع برنامج زمني لإحداث هذه الظاهرة.و بما أن الآية مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19]تعلمنا أن التقدير موجود في النطفة،فنقول:إن البرنامج الزمني هو خطة جينية أوجدها اللّه تعالى في النطفة،و هذه الخطة لها آليات و أعضاء تتسبب في إحداثها.
و الكلام السابق ينطبق على الإحياء الخلوي لأنه أيضا خلق من خلق اللّه تعالى كما جاء في الآية: اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) [الملك:2](و كما سنرى فيما يلي).
و سنرى في المبحث التالي هذه الآليات و الأنظمة.
و تطور مختلف أعضاء الجسم يعتمد من جهة على تقاسم و تكاثر خلايا الجسم الإنساني المبرمج كما أسلفنا قوله،و من جهة أخرى على(الموت الخلوي المبرمج APOPTOSIS )الذي يقوم بدور أساسي في النمو و الاتزان البيولوجي للكائنات عامة
ص: 501
و للإنسان خاصة،و تعتبر هذه الظاهرة إحدى الدعامات الأساسية لنمو المخلوقات عديدة الخلايا.
فالخلية عند ما تموت(بالاستموات المقدر APOPTOSIS )تفقد قواها و تنهار مكوناتها:فتنكمش و من ثم تنسحب مبتعدة عن جاراتها،ثم تظهر فقاعات على السطح،و يتكثف الكروماتين في نواتها،و سرعان ما تتقطع النواة ثم الخلية نفسها، و تلتهم أجزاؤها بسرعة من قبل خلايا أخرى مجاورة (1).(انظر الصورة رقم:128).7.
ص: 502
هذا و قد أشار القرآن الكريم إلى الموت الخلوي في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95].
و ذلك أن الآية تتحدث عن الحب أولا،و من ثمّ تتكلم عن إخراج الحي من الميت و إخراج الميت من الحي،و هذا يقتضي ربط عمليتي إخراج الميت من الحي و إخراج الحي من الميت بالحب التزاما بالسياق القرآني.و هكذا فإن معنى الآية يكون:إن اللّه فالق الحب و النوى،يخرج الحياة من الحبة الميتة و يخرج الموت من الحبة الحية.
و من الأدلة اللغوية على أن الآية السالفة الذكر تشير إلى أن الموت الخلوي له آلياته و أنظمته:كلمة وَ مُخْرِجُ في قوله تعالى: وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام:95]، فهذه الكلمة على وزن اسم فاعل.
فالحاصل أن اسم الفاعل يصاغ للفعل فوق الثلاثي على وزن مضارعه المعلوم بإبدال حرف المضارعة(الياء)ميما.
و كما سبق و تكلمنا في مبحث(الماء و المني/تفسير النقطة الثالثة«أن هذا الماء ليس متدفقا فحسب بل دافق»):«فإن اشتقاق صيغة[فاعل]من فعلها،ينبغي أن يكون في الصيغة معنى الفعل،أي يكون الفعل قائما بالصيغة»،أي بمعنى آخر:أن صفة إخراج الميت من الحي و الحي من الميت قائمة بنفس الخلية عبر آليّات الاستموات الموجودة فيها-بإذن اللّه-.فالاستموات و الإحياء صفتان لخلايا الجسد،لصيقة بها،لا تنفك عنها.
و لاحظ أيها القارئ الكريم الدقة في صياغة الآية.فقوله تعالى: وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى لأن كلا منها اسم فاعل، و هذا إن دل على شيء فهو يدل على نوعان من العمليات تتحكم فيها الآليات المودعة في الخلية-بإذن اللّه-بالاستموات و الإحياء:الفلق،و إخراج الميت من الحي.
أما كلمة: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فجاءت خالية من عطف الواو على ما قبلها.
ففي اللغة العربية إذا جاءت جملة بعد جملة أخرى،و لم يفصل بينهما بحرف عطف،فالأخيرة قد تعني البيان على سبيل التفسير،أو الوصف،أو التأكيد،أو غير ذلك (1)،و هذا يعني أن فلق الخلية هو بمثابة إخراج الحي من الميّت.
جاء في تفسير المحيط (2):«و عطف قوله: وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ على قوله: فالِقُ الْحَبِّ».
ص: 503
اسم فاعل على اسم فاعل،و لم يعطفه على: يُخْرِجْ لأن قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى من جنس إخراج اَلْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن النامي في حكم الحيوان،أ لا ترى إلى قوله: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم:50].فوقع قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ من قوله: فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى موقع الجملة المبينة.فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل...».
جاء في تفسير الألوسي (1):« وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ كالنطفة و أخويها مِنَ الْحَيِّ كالحيوان و أخويه،و هذا عند بعض عطف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ الْحَيَّ إلخ.
لأنه-كما علمت-بيان لما قبله».
قد يتساءل القارئ:هل أن قاعدة«إخراج الحيّ من الميّت»تنطبق على انفلاق الخلية أم لا؟و الحال أن الخلية ما زالت حيّة عند ما تنفلق؟
و الجواب هو:أن الخلية عند انفلاقها قد ابتدأ نفاذ قواها-أي بمعنى آخر:
أنها شارفت على الموت و انتهى دورها كخلية(أو كبويضة)،وفقا للمعنى اللغوي للموت:فقدان القوى-،و هي سائرة حتما إلى الموت-بإذن اللّه-إن لم تتجدد عبر انفلاقها إلى خليتين جديدتين.
فهي بحكم الميّت مآلا.و هذا الأسلوب قد تتردّدّ في موضع آخر من القرآن الكريم حيث أن الآية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]وصفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالميت مع كونه حيّا عند ما أنزلت الآية عليه،و ذلك لأنه كذلك كان قادما حتما على الموت-بإذن اللّه-.
كما أن انفلاق الخلية سيؤدي مآلا إلى خلق أعضاء مؤلفة من عدّة خلايا أكثر تعقيدا و أكثر حيوية من الخلية الواحدة.أضف إلى ذلك أن هذه الأعضاء ستكون مهيئة لأن تستقبل الروح عند اكتمال تخلق الجنين.فالمسألة نسبية-و اللّه تعالى أعلم-.
كما أن الآية تتكلم عن حب الزرع(الذي يكون بطور الكمون أي المتوقف عن العمل-الميت-)،و عن الخلية،فلا بد أن تأتي بهذه الصيغة المجملة لكي تحيط بجوانب كلتا الحالتين.
و تفصيلا:«يوجد في مجال التخلق الجنيني ثلاثة أنواع من الموت الخلوي المبرمج الذاتي:
1-(الموت الخلوي التشكلي المبرمج MORPHOGENIC APOPTOSIS )ن.
ص: 504
المسئول عن تغيير شكل الأنسجة.مثال على ذلك:الموت الخلوي لخلايا ما بين الأصابع المسئولة عن فصل الأصابع...
2-(الموت الخلوي المبرمج لتطور الأنسجة HISTOGENIC APOPTOSIS ) الحاصل خلال تمايز الأنسجة و الأعضاء...مثال على ذلك:يسبب(هرمون مولر الضد ANTI-MULLERIAN HORMONE )في الذكر الذي تفرزه(الخلايا الجنسية STEROLY CELLS )للخصية في كبح أنابيب مولر(التي تصبح في الأنثى فيما بعد أنابيب قناة فالوب و الرحم و الجزء العلوي للمهبل)من خلال الموت الخلوي المبرمج.
3-(الموت الخلوي المبرمج لتطور الأعضاء PHYLOGENETIC APOPTOSIS )الذي يتدخل في إزالة الأعضاء اللاوظيفية من الجنين مثل(أنابيب الكلى البدائية PRONEPHROS ) (1).
و لا يقتصر دور المورثات على تنظيم و تقدير تخلق الأعضاء فحسب،بل يعتبر الموت الخلوي المبرمج من احتياجات الجسم ليحافظ على نموه السليم.
فعلى سبيل المثال:تنشأ(الخلايا التائية T CELLS )عن أسلافها في نقيّ-أي في أصل-العظام،و تهاجر الخلايا غير الناضجة إلى(غدة التوتة THYMUS )حيث تعرف(بالخلايا التوتية THYMOCYTES )و يموت 90% من هذه الخلايا في التوتة و يبقى 10% فقط تنضج و تخرج للدورة الدموية لتساهم في حراسة الجسم (2).
و قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللّهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95]يدل دلالة واضحة على تواصل و تعاقب و تتابع عمليتي الموت و الحياة بصفة مستمرة في الكائنات الحية.و استخدام الفعل المضارع يُخْرِجْ في القرآن الكريم شاهد على استمرار و تعاقب إخراج الحي من الميت و الميت من الحي،حيث تتخلق أنسجة كاملة من الخلايا المستموتة تقديريا.فعدسة العين تتشكل أثناء التنامي الجنيني من خلايا استمواتية استبدلت محتوياتها الداخلية ببروتين الكرستالين الشفاف، و خملات المعي تتكون من خلايا استمواتية عند قاعدة هذه الأصابع،ثم تهاجر هذه الخلايا عبر أيام عديدة إلى القمة لتساعد في تكوين الطبقة الخارجية للخملات التي .
ص: 505
تستخدم في عملية امتصاص الغذاء.و تستمر هذه العمليات بصورة متفاوتة عبر مراحل العمر المختلفة للكائن البشري (1).
و لا تنفي صيغة اسم الفاعل في قوله تعالى: وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ صيغة المضارع فيه كما في قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن اسم الفاعل يشير بنفسه إلى الاستمرار،فالمضارع.
جاء في تفسير الألوسي (2):«أن اسم الفاعل في معنى المضارع».
و كما أشرنا في المبحث السابق فإن الموت و الحياة خلقان يستوجبان إيجاد آليات و أعضاء تسبب الاستموات و الإحياء الخلوي.و هناك عائلتان من الجينات تتحكم في سيرة الموت الخلوي:عائلة(بي سي أل-2 2- BCL )و عائلة(أي سي إي ICE ).و المجموعة الأولى من الجينات تنظم عملية الاستموات حسب احتياجات الجسم،و المجموعة الثانية تشرف على تصنيع بروتينات الموت و التي تعرف باسم:
(مثيلة بروتيزات آي سي إي ICE LIKE PROTEASES ) (3).
فمصير الخلايا يعتمد على(مثبطات للموت APOPTOSIS INHIBITORS ) و(محفّزات للموت APOPTOSIS INDUCERS ).فعلى سبيل المثال:يعتبر(بروتين الباكس BAX PROTEIN )من العوامل التي تحفّز على الاستموات،و نسبة بروتين الباكس و المورث«بي سي أل-2»تحدد ما إذا أن الخلية ستستجيب لمنبهات كيميائية للاستموات أو لا (4).
و هكذا نرى أن حدث الاستموات له آلياته و أنظمته الخاصة به،مما يدلل على أن الموت مخلوق كما تعلمنا النصوص الشرعية.
يبدأ الانقسام الخلوي من بداية تخلّق الجنين،و يكون معدّل انقسام الخلايا
ص: 506
الجنينية عاليا جدا،و تستمر الأعضاء في النمو مع مرور الأيام فتبلغ بعض الوظائف أوجها،و يبلغ الجسم غاية نموه-أي أشدّه-.و قد قدّرت مرحلة الثلاثين في الغالب مرحلة بلوغ الشدّة في النمو (1).و مع مرور الوقت تتناقص قدرة الخلايا على الانقسام،و تموت باكرا كلّما تقدّم سنّ الإنسان.و قد أظهرت عمليات الزرع الخلوي أن معدل انقسام الخلايا خلال الزرع يتناسب عكسيا مع مرور الوقت في ظاهرة تعرف (بحدّ هايفلك HAYFLICK LIMIT ) (2).فعلى سبيل المثال:تنقسم الخلايا العادية أكثر من خمسين مرّة قبل أن تموت،و أما خلايا(الأشخاص المصابين بمرض الشيخوخة PROGERIA PATIENTS )-أي خلايا المسنين-فإنها تنقسم من عشر إلى ثلاثين مرة.(انظر الصورة رقم:129).
و من أسباب هذه الظاهرة:أن هناك آليّة داخل الخليّة معنيّة بالتحكّم في عمرها،عن طريق وقف الانقسام و إفساح المجال لعمليات الهدم لتميت الخلية، و اكتشف الباحثون أن(الجزء الأخير من الصبغيات TELOMERE )ينقص طوله مع كل انقسام للخلية و تضاعف الحامض النووي الرئيسي(دي أن آي DNA )،و وجد أنّه يعمل كعدّاد يحسب عدد الانقسامات،و يسمّى:(عدّاد الأجل LONGETIVITY METER ).و كما نعلم فإن الخلية تنقسم باستمرار،و بالتالي فإن عمرها ينقص مع انقساماتها المتلاحقة من جرّاء نقص طول العدّاد (3).(انظر الصورة رقم:130).
كذلك من أسباب الشيخوخة:أن الخلايا تموت من جراء الأخطاء التي تحصل خلال إصلاح(الحامض النووي الرئيسي DNA )الموجود في نواة الخلية، و الذي يحتوي على المورثات.و يزداد الأمر سوءا مع مرور الأيام حتى يبدأ الجسم بفقد قواه تدريجيا بحوالي 8,0% من مجمل قواه كل سنة بعد سن الثلاثين (4).و لهذا قال اللّه تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً [غافر:67].جاء في كتاب «علم الوراثة الإنساني» (5):«بما أن المورثات تتحكم في انقسام و موت الخلية،فإن مرحلة النضوج و الشيخوخة مبرمجة جينيّا إلى حدّ ما».0.
ص: 507
ص: 508
لم نر أحدا من العلماء البيولوجيين المسلمين تكلم بإطناب عن تقدير موت الإنسان من الناحية الوراثية.فهذا الأمر معقّد للغاية نظر الوجود أسباب خارجية خارجة عن سيطرة الإنسان،تتحكم في موته و تؤثر في إضعاف قوة جسده،مثل:
الأوبئة،و الأحداث الفردية.و نظرا لأن كل إنسان يختلف في تكوينه و في قوة جسده عن غيره،و نظرا لأن الأبحاث لم تكتمل بعد في هذا المجال،و أنها غير قطعية، ناهيك عن أن الأعمار بيد اللّه تعالى،بيد أن كل المعطيات الشرعية(كما أشرنا إليه سابقا)،و العلمية تشير بوضوح إلى هذا التوجه.
و من الأدلة العلمية على التقدير الجيني لموت الإنسان:
1-كل إنسان و حيوان يتميز بما نسميه(عمر طبيعي متوقع NATURAL LIFE EXPECTANCY )،فعلى سبيل المثال:يتميز عمر(ذبابة نوار MAYFLY )بأنه يوم واحد.و يتميز عمر الحيوان ذات الخلية الواحدة(الأمفيبيا AMPHIBIA )بعمر ما يناهز مائة عام (1).و أما عمر أمة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،فقد حدده الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه ما بين الستين إلى السبعين سنة[أخرجه الترمذي ح 92]كما أسلفنا قوله في مبحث«دور النطفة في التقدير/التقدير كما جاء في النصوص الشرعية».
2-هناك أمراض وراثية طبيعية يشيخ فيها الإنسان قبل أوانه بفعل المورثات مثل:(أمراض عائلة البروجيريا PROGERIAS ).فعلى سبيل المثال:يشيخ الإنسان المصاب(بمرض هاتشينسون غيلفورد HUTCHINSON-GILFORD SYNDROME ) باكرا خلال عمره،حيث تظهر أعراضه(من تجاعيد وطيّات جلدية)من أول سنة، و يموت في الغالب عند عمر اثني عشر عاما،و مثل:(مرض وارنر سندروم WERNER SYNDROME )حيث تظهر أعراضه قبل سن العشرين،و يموت الشخص فيه في الغالب عند سن الخمسين،و قد اكتشف المورّث الذي يسبب مرض شيخوخة وارنر سندروم سنة 1996 م (2)،و الذي ينبثق من النطفة(كما سنشير إليه في الخلاصة لاحقا)،مما يدل على أن موت الإنسان مقدّر في النطفة.(انظر الصورة رقم:131).
ص: 509
ص: 510
أضف إلى ذلك أن الأبحاث أظهرت أن طول عدّاد الأجل(المذكور آنفا)لدى الصبغيات في حالة الإصابة(بمرض الشيخوخة المبكر PROGERIA )قصير إذا ما قارنّاه بعدّاد الأجل للخلايا العادية،بينما هو طويل لدى(الخلايا الجنينية الأم STEM CELLS )،ممّا يشير إلى أن خلايا المسنين مبرمجة لأن تموت أبكر من نظيراتها لدى صغار السن،و هذا ما يؤيد مرّة أخرى أن موت الخلايا مبرمج،و بالتالي موت الأعضاء التي تتألف من هذه الخلايا،فالإنسان مبرمج إلى حدّ ما (1).
3-بما أن صحة الإنسان تعتمد على صحة خلاياه،و أن خلايا الإنسان تفقد قدرتها على الانقسام و على إصلاح عيوبها خلال برنامج زمني معيّن إلى حد ما،فإن جميع أعضائه«تشيخ»مع مرور الوقت،و بالتالي فإن أيّا منها عرضة لأن تصل(نقطة الكارثة CRITICAL POINT )التي تؤدي إلى الموت خلال فترة معينة إلى حد ما(إذا ما استثنينا العوامل الخارجية).
من الحديث الذي سبق،نفهم أن:كل جين من جينات نطفة الأمشاج تتحكم -بإذن اللّه-في تطور عضو من أعضاء جسم الإنسان،بل في تطور جزء من أجزاء العضو الواحد،و هذا التطور يتم حسب برنامج زمني دقيق للغاية.و بالتالي فقد جعل اللّه تعالى النطفة سببا لتقدير بنية الإنسان.جاء في كتاب«علم الوراثة الإنساني»:«إن المورثات تنظّم شكلنا خلال الحياة...لا يهم متى تبدأ الأمراض الوراثية بالظهور، فإن المورثات التي تحدثها موجودة من(بداية خلق الإنسان CONCEPTION )[أي عند خلق نطفة الأمشاج]» (2)،و جاء في كتاب«علم الوراثة الإنساني»:«قلّة هم الذين ينفون أن التخلقات الجنينية و الطفولة و المراهقة و النضج هي مبرمجة جينيا» (3).
إن المورثات الموجودة في النطفة هي السبب في تقدير الإنسان،و كل ذلك بمشيئة اللّه و قدرته:و من هنا نفهم أبعاد الآية مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19].
ص: 511
إن الحديث عن الخلايا جدّ عجيب،و ذلك أن المفهوم القائل بأن جسم الإنسان مكوّن من خلايا كان غريبا عن الناس إبان وقت الرسالة،نظرا لأن هذه الخلايا غير مرئية(لصغر حجمها)و لتكوينها جسما واحدا متماسكا و متواصلا (و بالتالي لا يوحي بأنه مؤلف من عدّة أجزاء)،و الحديث عن موت الخلايا أمر مدهش!و ذلك لأنه يتكلم عن حياة للمادة التي تتكون منها أعضاء جسم الإنسان، و لا يتخيل أحد من أمّة أميّة،أنها حيّة بنفسها.و التكلم عن إحياء خلايا حيّة من خلايا ميّتة أكثر غرابة من الكلام السابق،نظرا لأن ظاهرة إخراج الحي من الميت أبعد عن أذهان الناس من إخراج الميت من الحي.فالكل يموت،و لكن لا يحيا منه شيء في الغالب بعد موته.و مما يزيد الأمر دهشة هو التكلم عن التعاقب المستمر للموت و الحياة في الخلايا،و عن الآلية الدقيقة جدا،غير المرئية،التي تعطي للمادة قوة الاستمرارية،أ لا و هي:انفلاق النوى(فلا أحد يشاهد بالعين المجردة انفلاق النواة الموجودة داخل الحبة أو الخلية).و مما يثير الانتباه أكثر هو التكلم عن عملية [تمايز]و جمع للخلايا،و هو وصف في غاية الدقّة لديناميكية الخلايا وفق برنامج زمني معين(مثل اليوم السابع و اليوم الأربعين) (1).و أما التكلم عن أن الموت خلق مقدّر من النطفة(للإنسان على وجه عام و للخلايا على وجه خاص)،أي أنه يستوجب وجود أعضاء استمواتية تعمل وفق برنامج زمني معيّن تنبثق من النطفة، فهذا أمر لم تعرفه البشرية إلا في السبعينات من القرن العشرين،أ ليس في ذلك دليل على أن القرآن وحي من عند اللّه عزّ و جلّ؟.
*قال العليم الحكيم: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى(46) [النجم:45-46].
*قال عزّ و جلّ: وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [الليل:3].
بداية نرى أن ورود اسم الموصول«ما»في آية سورة الليل كقسم اللّه تعالى في هذا الموضع بالذات له دلالته.فهو قد يشير إلى عظيم صنع اللّه تعالى في أنه خلق شيء ما يكون السبب في سبب إذكار أو إيناث الجنين.فالآية ذكرت الزوجين:الذكر و الأنثى بعد فعل«خلق»للفت انتباه القارئ إلى أن هناك شيئا ما يحدث أحد الجنسين.
و هذا الشيء غير عاقل.
ص: 512
فمن استعمالات«ما»أنها ترد لغير العاقل أو لصفات(العالم أو العاقل)، و للمبهم أمره،أي المجهول ماهيته و حقيقته (1)،و قد ذكر بعض العلماء أنها اسم مبهم في غاية الإبهام (2).
و من هنا نفهم أنها تشير إلى الحيوان المنوي الذي سنأتي على تفصيله لاحقا.
و ليس من الصدفة أن اللّه تعالى استعمل اسم الموصول«ما»في هذا الموضوع،فهو يشير إلى غاية الإبهام،و الحيوان المنوي في غاية الإبهام،و لا أحد يعرف عنه شيئا على الإطلاق،و ذلك أنه صغير جدّا،و أنه يحتوي على أحماض نووية رئيسية بشكل متراص مغلّفة بغطاء.
و من هذا الكلام نفهم أن معنى الآية هو كالآتي:و الشيء غير العاقل، المجهول في تكوينه،الذي خلق الذكر و الأنثى.
و الخلق في الآية،هو أنه تعالى أجرى ذلك الفعل على يدي ظاهرة كونية بإذنه و إرادته،مع العلم أن فاعله الحقيقي هو اللّه تعالى،أي أن الشيء المذكور كان السبب في إذكار أو إيناث الجنين بإذن من رب العالمين.
و قد ورد إسناد الخلق إلى غير اللّه تعالى في كثير من الآيات القرآنية،مثل:
وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران:49]،و إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ... وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [المائدة:110]،و إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت:17].
مما يشير إلى إمكانية تفسير الآية على الوجه الذي أشرنا إليه.
و النص القرآني: وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى(45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى(46) [النجم:45-46]أوضح دلالة من آية سورة الليل،و ذلك لأن اللّه تعالى ذكر أوّلا كلاّ من الذكر و الأنثى في عملية الخلق عوضا عن ذكر الإنسان فقط أو الذكر أو الأنثى،و لأنه ثانيا حدّد المكان الذي تخرج منه النطفة التي تسبّب الإذكار و الإيناث.فلو أن الهدف من الآية هو إعلام الناس عن عملية الخلق فقط،لكان كافيا أن يقول اللّه-سبحانه و تعالى-:و هو الذي خلق الإنسان من نطفة،و لكن ذكر الجنسين في الآية دليل).
ص: 513
على أن المقصود إيضاحه هو عملية الإذكار و الإيناث.و التدقيق على أن النطفة تخرج من المني هو تحديد لهوية هذه النطفة،و بالتالي هو إيضاح لسبب الإذكار و الإيناث (1).
لا بد من أن نعرّف معنى كلمتي«ماء»و«مني»لكي نفهم أبعاد الآية الكريمة التي ذكرناها آنفا.
كلمة«ماء»في القرآن الكريم تشير إلى:
1-السائل الذي يسبّب تخلّق الجنين،نسبة إلى النص القرآني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7].
2-و هذا الماء يخرج من موضع يقع ما بين الصلب و الترائب كما أقرّه النص القرآني: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:6-7].
3-و هذا الماء يدفق كما تشير إليه الآية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) [الطارق:6].
4-و لون هذا الماء أبيض للرجل و أصفر للمرأة،حسبما جاء في الحديث الشريف:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر...»[أخرجه مسلم ح 9].
و تعريف كلمة«مني»:
جاء في لسان العرب (2):«مني:المنى بالياء:القدر».
و جاء أيضا في نفس الكتاب:«(قال)أبو بكر:تمنّيت الشيء أي قدّرته و أحببت أن يصير إلي من المني و هو القدر...».
و جاء أيضا:«يقال منى الرجل و أمنى من المنيّ بمعنى،و استمنى أي استدعى خروج المنيّ».
و هكذا فإن أصل كلمة مني هو القدر.و المني سمي منيّا لأن الإنسان يقدر نزوله و يتمنى حصول الشهوة بنزوله.
وسائل الرجل الذي يخرج من إحليله عند الجماع،تخرج مكوناته من موضع يقع ما بين الصلب و الترائب،و هو أبيض اللون،و هو يدفق،و يسبّب تخلّق الجنين؛ لأن النطفة التي تنسلّ منه تشارك في تكوين البويضة الملقحة التي يتخلّق منها الجنين؛ و بالتالي فهذا السائل هو الماء الذي تتكلم عنه الآية رقم 6 من سورة الطارق.
ص: 514
و ماء المبيض الذي يخرج مرّة كل شهر بعد انتهاء الدورة الشهرية لدى المرأة، تخرج مكوناته من موضع يقع ما بين الصلب و الترائب،و هو أصفر اللون،و هو يدفق،و يسبّب تخلق الجنين لأن النطفة التي تنسلّ من المبيض،تشارك في تكوين البويضة الملقحة،التي يتخلق منها الجنين،و بالتالي فهذا السائل هو الماء الذي تتكلم عنه الآية رقم 6 من سورة الطارق.
و السائل الذي يخرج من إحليل الرجل عند الجماع يخرج باستثارة الرجل له، و بإرادته و هو بالتالي مني الرجل.
و هكذا فإن ماء الرجل هو مني الرجل أيضا.
و مني المرأة يخرج من عنق مهبل المرأة و غدد أخرى مثل:(غدد بارثولين BARTHOLIN GLANDS )و(غدد سكن SKENE GLANDS ).و هذه الأعضاء لا تقع في مكان ما بين الصلب و الترائب،و هذا المني شفاف اللون و ليس بأصفر،و لا يدفق بل يسيل،و لا يشارك مباشرة في تخلق الجنين.
و هكذا فإن ماء المرأة يختلف عن منيها.
و النطفة التي تنحدر من ماء الرجل تنحدر أيضا من مني الرجل،لأن ماء الرجل هو أيضا مني الرجل.
و النطفة التي تنحدر من ماء المرأة لا علاقة لها بمني المرأة،لأن ماء المرأة يختلف عن مني المرأة.
و بالتالي فإن النطفة التي تمنى من المني-كما تشير إليه الآية: مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى [النجم:46]،أي النطفة التي تخرج من مني الرجل(أي الحيوان المنوي)و ليس من مني المرأة،كما أسلفنا شرحه-هي التي تسبب الإذكار أو الإيناث.
و لكي تتضح لنا أبعاد الآية الكريمة،لنر الأمور عن كثب من الناحية العلمية:
-أولا:عند الرجل،السلالة أو الخلية الجنسية نوعان:
*خلية جنسية و ثروتها الوراثية تتألف من اثنتين و عشرين صبغية عادية، و صبغية جنسية واحدة يشار إليها بالحرف(ص أو Y ).
*خلية جنسية و ثروتها الوراثية تتألف من اثنتين و عشرين صبغية عادية، و صبغية جنسية واحدة يشار إليها بالحرف(س أو X .
-ثانيا:عند المرأة،الخلية الجنسية-أي البويضة-نوع واحد:و ثروتها الوراثية تتألف من اثنتين و عشرين صبغية عادية،و صبغية واحدة جنسية يشار إليها بالحرف(س أو X ).
ص: 515
إذا اختلط عند التلقيح الحيوان المنوي(ذات الصبغية الجنسية«ص أو Y ») بالبويضة(ذات الصبغية«س أو X )،كان الجنين ذكرا،أي حاملا للصبغيتين الجنسيتين(ص س أو XY ).و إذا اجتمع الحيوان المنوي الحامل الصبغية الجنسية( X ) مع البويضة الحاملة دائما للصبغية الجنسية( X )كان الجنين أنثى،أي حاملا للصبغيتين الجنسيتين( XX ).(انظر الصورة رقم:132).
و هكذا يتبين لنا أن أساس عملية الإذكار و الإيناث هي نطفة الرجل و ليس المرأة.و يتبيّن لنا دقة التعبير في الآية القرآنية الكريمة.
ص: 516
*عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21].
كما أسلفنا القول في مبحث«اختلاط عروق النطفة»نفهم من الحديث رقم 21 أن النطفة تنتشر في كل عرق و عصب من ماء المرأة.
و قد أشرنا عندئذ أن لفظ«العرق»بالمصطلح النبوي الشريف يرادفه لفظ «الصبغية»بالمصطلح العلمي.
و سنبحث عن سبب استعمال كلمة العرق إشارة إلى الصبغية في الحديث.
فالعرق و العصب بمعنى واحد في الحديث و هما يمثلان الصبغيات.و قد جاءت كلمة«العصب»معطوفة على كلمة العرق لكي تلقي مزيدا من الضوء على صفات الصبغيات (1).
ص: 517
يجدر الإشارة إلى أن حرف«كل»في عبارة«طار ماؤه في كل عرق...»هو للإشارة إلى أن هناك العديد من الصبغيات في النطفة؛و العلماء أثبتوا أن هناك ثلاثا و عشرين صبغية في كل بويضة من بويضات المرأة و في كل حيوان منوي لدى الرجل.
و نفصّل من الناحية اللغوية:
جاء في لسان العرب:«و عروق كل شيء أطناب تشعب منه» (1).
و جاء في لسان العرب:«الأعصاب:الأطناب» (2).
و جاء في لسان العرب:«طنب:الطّنب و الطّنب معا:حبل الخباء و السرادق و نحوهما...الأطناب:الطوال من حبال الأخبية...ابن سيده:الطنب حبل طويل يشد به البيت و السرادق...» (3).
إذن كل من العرق و العصب يعني الطنب،و الطنب يعني بدوره الحبل، و بالتالي فإن كلمتي«عرق»و«عصب»تشيران لغويا إلى شيء واحد،و هو الحبل.).
ص: 518
و الطنب ليس هو الحبل فقط،بل الحبل الطويل،و هذا يعني أن العروق و الأعصاب تشير إلى أن الصبغيات عبارة عن حبال طويلة،و ليست أي حبال.
و قال ابن فارس:«عصب:العين و الصاد و الباء أصل صحيح واحد يدل على ربط شيء بشيء مستطيلا أو مستديرا...» (1).
و تتواصل القيود على صفة تلك الحبال لتزيد الأمور دقّة.فنفهم من كلام ابن فارس-العالم اللغوي الكبير-أن هذه الحبال الطويلة مربوطة بعضها ببعض.
و ليس هذا فحسب،فقد ورد من المعاني لكلمة«عصب»ما يضاعف هذه الدّقة،حيث جاء أنها تعني«الشيء المطوي».
قال ابن فارس:«و إنما سمّي العصيب من أمعاء الشاء لأنه معصوب مطوي» (2).
ثم قال:«و كذلك كلّ شيء استدار حول شيء و استكفّ فقد عصب به» (3).
و جاء في لسان العرب:«...و عصب الشيء يعصبه عصبا:طواه و لواه...» (4).
و وجه الشبه بين معنى«الطوي»التي تشير إليها كلمة«عصب»و بين معنى أصلها-الربط-:أن كل شيء يطوى على شيء يؤدي في النهاية إلى ربطه بغيره من جراء تداخلهما ببعض.
و لم يقتصر الوصف على ذلك،بل جاء ما يبهر العقول؛من تناهي الدّقة.
فالطي المشار إليه عليه أن يكون شديدا.
قال ابن فارس:«و العصب الطي الشديد،و رجل معصوب الخلق،كأنما لوي ليّا» (5).
كل هذا الوصف جاء ليلقي الضوء على الصفة الخارجية للصبغيات،و لكن ما ذا عن وظيفتها؟
يقول ابن منظور:«و عرق كل شيء:أصله» (6).).
ص: 519
و هذا يعني أن الصبغيات هي أصل الإنسان،أو بمعنى أدق أنها هي أصل خلق الإنسان.
و باختصار فهاتان الكلمتان اللتان تعمّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لفظهما تشيران إلى عدّة صفات يجب أن تتحلى بها الصبغيات،و هي:
1-أن تكون شبيهة بالحبال.
2-أن تتقيّد بالطويل من الحبال.
3-أن تكون مربوطة بعضها ببعض.
4-أن تكون ملتوية و مطوية.
5-أن تتقيّد بالطيّ الشديد.
6-أن تتحكم بسائر عمليات الخلق لأعضاء الإنسان.
و نفصّل من الناحية العلمية:
إذا تأملنا الصبغيات عن كثب تبيّن لنا أنها سلاسل(أي حبال)مؤلفة من حبيبات(السكر الناقص الأوكسيجين DEOXY-RIBOSE )و جزئيات من(الفوسفات PHOSPHATE )و(النيتروجين NITROGEN ).
هذه الأزواج مربوطة بعضها ببعض بأربع قواعد نيتروجينية هي(آدنين، غوانين،سايتوزين و ثايمين ADENINE,GUANINE,CYTOSINE,THYMINE ).
و جمعا ما بين الحقيقة العلمية و المعنى اللغوي فإن كل سلسلة من حبيبات السكر و حبيبات الفوسفات هي عرق(أو عصب)،غير أن صفة الربط بين كل زوجين من هذه الحبال صفة لا تنفك عنها،و بالتالي فلا يضر أن نرمز بصفة عامة إلى أن هذين الزوجين يشكلان معا عرقا(أو عصبا)واحدا،أي أن الصبغي المؤلف من حبلين طويلين هو عرق أو عصب واحد،و إن كان المعنى اللغوي يشير إلى أن الصبغي مؤلف من حبلين(أو عرقين).
و من الأهمية بمكان أن نشير أيضا إلى أن هذه الأزواج من الحبال تأتي في كثير من الأحيان مربوطة هي الأخرى بعضها ببعض،أي أن كل اثنين من الحبال المتّحدة بعضها ببعض بواسطة القواعد النيتروجينية ترتبط في كثير من الأحيان باثنين آخرين متّحدين أيضا بعضهما ببعض في المنطقة الوسطى منها عند ما يسمى(بالقسيمة المركزية للصبغية CENTROMERE )و يسمى عندئذ هذا الزوج من الصبغيات
ص: 520
(بالصبغية المزدوجة DIPLOID )،مما يدلّ على أن كلمة«عصب»اختيرت بعناية فائقة لتبرز الإعجاز،فيسطع ضوء النبوة بالإشعاع قويّا مرّة أخرى في مجال«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة في مجال تخلّق الجنين».
كما أن هذه الحبال يبلغ طولها 150 إلى 170 سم إذا كانت ممدودة كخيط، و تأتي أزواجا قطرها مجتمعة 20 أنجستروم (1)و هي بذلك طويلة جدا نسبة إلى حجم قطرها.
هذه الحبال ملتوية و ملتفّة حول نفسها بحيث إنها تشكل حلزون(الدي أن آي D.N.A ).
و هذا الالتفاف حول النفس شديد و كثيف كما يظهر لنا في الصورة التي تلي.
(انظر الصورة رقم:133).
هذه الصبغيات تعتبر أصل الإنسان و ذلك لعدة أمور:
-إن الصبغيات على الوجه العام تحتوي على حلزون الدي أن آي الذي يحتوي بدوره على الشيفرة الجينية التي تقدر الإنسان من لون و قامة...إلخ فهي بمثابة مخزن المعلومات الذي يحمل أسرار التكوين.
-إن الصبغيات مسئولة عن نشاط الخلية و تدبير أمورها و ذلك لأنها مصدر الرسائل و الأوامر لتصنيع البروتينات و الخمائر،فمنها يصنع(الآر إن آي الرسول MESSENGER RNA )الذي يحمل الرسائل و الأوامر من الدي أن آي إلى مصنع الخلية-الريبوزوم (2)-فيقوم الأخير بصنع مختلف البروتينات و الأنزيمات(الخمائر) حسب تلك الأوامر.
-يفقد الجسم كل ساعة ملايين من الخلايا.يعوض الجسم هذا النقص من خلال استنساخ الخلايا.يعتمد استنساخ الخلايا على تضاعف كمية المواد في الصبغيات.إن تضاعف هذه الكمية يولّد استنساخ الخلايا إلى قسمين متماثلين، و هكذا فإن الصبغيات هي أساس لاستنساخ الخلايا،كما أن تركيبة الصبغيات تملي تركيبة الخلايا الجديدة.).
ص: 521
ص: 522
و في مجال«تخلق الجنين في الرحم»:
-إن تكاثر خلايا النطفة التي ستؤلف الجنين يعتمد على الصبغيات لنفس السبب المذكور آنفا.
-إن تخلق أعضاء الجنين يعتمد على تمايز الخلايا التي بدورها تعتمد على الشيفرة الجينية الموجودة في الصبغيات التي تحتويها النطفة.
*قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يبغي على الناس إلاّ ولد غيّة،و إلا من فيه عرق منه» [أخرجه البيهقي ح 90].
هذا الحديث يتكلّم عن ظاهرة تورّث بدليل ورود كلمة«عرق»في الحديث السالف ذكره.
و معناه:لا يبغي على الناس إلا ابن لامرأة ذات غي،و إلا من فيه عرق منه.
و الغي هو الفساد.
جاء في لسان العرب (1):«و من غيّة تلقى عليها الشّراشر»قال ابن بري:يريد كم ترى من مصيب في اعتقاده و رأيه!و كم ترى من مخطئ في أفعاله و هو جادّ مجتهد في فعل ما لا ينبغي أن يفعل!».
و ورد في القاموس المحيط (2):«غوى و يغوي غيّا،و غوي غواية،و لا يكسر، فهو غاو و غويّ و غيّان:ضلّ...و ولد غيّة،و يكسر:زنية».
و جاء في عمدة القاري بشرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني (3):«قوله:
«لغية»بكسر اللام و الغين المعجمة و تشديد الياء آخر الحروف:مشتق من الغواية:
و هي الضلالة كفرا و غيره،و أيضا يقال لولد الزنا،ولد الغية،و لغيره:ولد الرشدة».
و الغي المراد في الحديث هو طبع الغي،و هو حب الأذى للغير،كما يفيده أصل كلمة الغي،و ليس الزنى كما يدّعيه بعض المفسّرين،لأن البغي لا يأتي بالضرورة من الزنى،و البغي لا يتوارث من الزنى،فالبغي شيء،و الزنى شيء آخر، و إن عاد الغي لولد امرأة ذات غي فذاك مردّه لنشأته في بيئة فاسدة،و ليس لصفة يتوارثها من أمه.
ص: 523
و نفهم من الحديث السابق أن الرجل البغي الذي يطغى على الناس له عرق (أي صبغية)يعطيه صفة الغي و الغلظة،كما نفهم من الحديث أن الرجل الغي قد يرث من أمه صفة الغي من خلال العرق الذي ينحدر من أمه.
و تفصيله:أن ضمير الهاء في«منه»قد يعود للغي و قد يعود للولد.فإن عاد للولد أصبحت وظيفة كلمة«من»في«منه»لابتداء الغاية (1)و أصبح المعنى على هذا النحو:لا يبغي على الناس إلا ولد غيّة،و إلا من فيه(أي في الابن)عرق غيّ من هذا الولد-أي منحدر من هذا الولد(أي من الأب)-.و إن عاد للغي أصبحت وظيفة كلمة«من»في«منه»للجنس أو للتبعيض.فإن كانت للجنس أصبح المعنى على هذا النحو:لا يبغي على الناس إلا ولد غيّة،و إلا من فيه عرق من الغي- بمعنى:من فيه عرق من جنس الغي-.و إن كانت للتبعيض أصبح المعنى على هذا النحو:لا يبغي على الناس إلا من فيه عرق من الغي-بمعنى من فيه بعض من هذا الغيّ،أو جزء من الغي-،أي أن العرق يولّد القليل من الغي.
و الذي يؤيّد أن المراد من الحديث هو طبع الغي،أي طبع الفساد،و أنه يورّث:الحديث الصحيح:عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«تجدون النّاس معادن خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،و تجدون خير النّاس في هذا الشّأن أشدّهم له كراهية،و تجدون شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه و يأتي هؤلاء بوجه»[أخرجه البخاري ح 116]،فهذا الحديث يشير إلى أن الناس معادن،و المعدن هو الشيء المستقر في الأرض،و هو على أنواع مختلفة من خسيس و جيّد،و هذا يعني أن اللّه خلق الناس من أتربة مختلفة مقابلة مع الحديث الشريف:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض،جاء منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك،و الخبيث و الطيب و بين ذلك»[أخرجه الترمذي ح 64].جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحديث السالف ذكره (2):«قوله:و المعادن جمع معدن،و هو الشيء المستقر في الأرض، فتارة يكون نفيسا و تارة يكون خسيسا،و كذلك الناس».و هذه الأتربة أعطت عروقا4.
ص: 524
مختلفة،أي أصولا مختلفة كما يشير إليه شرح معنى كلمة«عرق» (1)،و هذا ما فهمه شراح الحديث،حيث قال ابن حجر في شرح الحديث رقم 116 (2):«قوله:(تجدون الناس معادن)أي أصولا مختلفة»،و سياق الحديث يؤكّد هذا المعنى حيث إن العرق يولّد طبعا لا يتغير.فحتى لو أسلم الرجل يتحكم الصبغي في طبعه،فيعود الرجل لطبعه بين حين و آخر.قال ابن حجر (3):«قوله:(خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه و لا تتغير صفته،فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها...و المراد بالخيار و الشرف و غير ذلك من كان متصفا بمحاسن الأخلاق،كالكرم و العفة و الحلم و غيرها،متوقيا لمساويها كالبخل و الفجور و الظلم و غيرها».و من الأهمية بمكان هنا أن نشير إلى أن اللّه تعالى-كما نفهم من تعاليم الإسلام-لا يعاقب الإنسان على طبعه،بل على تصرفاته،و يأخذ بعين الاعتبار طبعه.فالأجر على قدر المشقة،و كلّما جاهد الإنسان طبعه كلما أجر،و كلّما بسط اللّه عزّ و جلّ له سبيل الهداية كما في قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].و إذا زل بعض الشيء فإن اللّه غفور رحيم لقوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً [الإسراء:25].
و العلم يتّفق مع الأحاديث الشريفة أن الطبع يورّث.ففي بحوث معملية،و من خلال تخصيب عدّة حيوانات لها نفس الطبائع(كأن تكون عدوانية،أو سهلة للاستفزاز،أو محبّة للخمر،أو نشطة جنسيا...)،تبيّن أن الأجيال المتأخرة المتولّدة من التزاوج المتخيّر تصبح لها طبائع مكثّفة من الطابع المختار للأجيال المتقدمة.(انظر الصورة رقم:134).أما بالنسبة للبشر فتحديد ذلك أصعب لأن الإنسان يتأثّر ببيئته (4)،جاء في(المدخل لعلم النفس INTRODUCTION TO PSYCHOLOGY ) (5):«بعض السمات تجري في عائلات...الأبناء لآباء مدمنين5.
ص: 525
على الخمر هم أكثر عرضة من أبناء لآباء غير مدمنين على الخمر من أن يصبحوا مدمنين على الخمر...هل أن المعطيات الجينية أو البيئية تلعب دورا كبيرا؟.في محاولة للإجابة على هذا السؤال قام علماء النفس في دراسة على التوائم...لقد اكتشف أن(التوائم المتماثلة IDENTICAL TWINS )(أي التوائم الذين تولّدوا من نفس البويضة و الحيوان المنوي)أكثر تماثلا في الذكاء من(التوائم الأخوية FRATERNEL TWINS )(أي من التوائم الذين تولّدوا من بويضتين مختلفين و حيوانين منويين مختلفين)،كذلك فإن التوائم المتماثلة أكثر تماثلا من التوائم الأخوية في(طباعهم PERSONALITY CHARACTERISTICS ).
و هكذا نفهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أشار إلى أن الطبع يورّث من خلال الصبغيات، كما تورّث السمات الجسدية.
*سأل عليه الصلاة و السلام أحدهم:«ما ولد لك؟»قال الرجل:يا رسول اللّه ما عسى أن يولد لي إما غلام و إما جارية!قال:«فمن يشبه؟»قال:يا رسول اللّه ما عسى أن يشبه إما أباه و إما أمه!فقال الرسول-صلوات اللّه عليه و سلامه-:«مه، لا تقولنّ هكذا،إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضرها اللّه تعالى كل نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]؟.قال:شكّلك».[رواه الطبراني ح 63].
*قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض،جاء منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك،و الخبيث و الطيب و بين ذلك»[أخرجه الترمذي ح 64].
ص: 526
النطفة المذكورة في الحديث:«إن النطفة إذا استقرت في الرّحم،أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ؟قال:شكّلك»[رواه الطبراني ح 63]هي نطفة الأمشاج و إلا لما كان بإمكانها أن تتخلق و أن تعطي مخلوقا،ذكرا كان أو أنثى.و كلمة نسب في الحديث:«إن النطفة إذا استقرت في الرّحم،أحضرها اللّه تعالى كل نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ؟قال:
شكّلك»تشير إلى معنى الانتساب لأن ظاهر الحديث يتكلم عن هذا الموضوع:
فالصحابي توهم أن الولد يأتي شبهه إلى أمه أو أبيه المباشرين،فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يصحح هذا المفهوم الخاطئ المنتشر في أذهان الناس فبيّن أن الولد قد لا يشبه أمه و لا أباه المباشرين و لكن قد يشبه أيّا من أجداده أو جداته أو من فوقهما إلى آدم عليه السّلام،لأنه منسوب إلى سلالة آدم.
للسبب المذكور آنفا يمكن أن نفسر معنى(أحضرها كل نسب بينها و بين آدم) على أنه(أحضرها كل خلق يمكن أن تركب فيه و ينتسب إلى-أو يعود إلى-أو يعود إلى-أي من الأجداد ما بين النطفة و بين سيدنا آدم عليه السّلام)،و الدليل على ذلك أنه ورد في رواية:«فركب خلقه في صورة من تلك الصور،أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه:
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ؟من نسلك ما بينك و بين آدم»[ذكره السيوطي ح 63].
و إذا قارنا الحديثين:«إن النطفة إذا استقرت في الرحم،أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم»،و«...فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[رواه الطبراني ح 21]،نستنتج أن هناك عملية إحضار للشيفرة العرقية(أو الصبغية)من عالم الغيب إلى عالم التركيب و التي تنتسب إلى أي خلق ممكن من أجداد النطفة الذين ينحدرون من سيدنا آدم عليه السّلام.
كما أسلفنا القول:من المحتمل أن يشبه المخلوق الجديد أيّ جدّ من أجداده (ذلك لأن الأجداد تحمل خصائص سيدنا آدم عليه السّلام لأنها منحدرة منه).
نفهم أيضا من الحديث:«إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض،جاء منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك، و الخبيث و الطيب و بين ذلك»[أخرجه الترمذي ح 64]أن كل أنواع الخصائص الوراثية موجودة في سيدنا آدم عليه السّلام.فسيدنا آدم عليه السّلام مخلوق من كل الأتربة و يحمل بداخله كل الخصائص التي من الممكن أن تنحدر في البشر الذين يلونه.
ص: 527
من الناحية العلمية تفسر هذه الحقائق-و اللّه أعلم-كالآتي:
إن(الخلية الجنسية الذكرية الأولية PRIMARY SPERMATOCYTE )أو (الخلية الجنسية الأنثوية PRIMARY OOCYTE )تتمايز إلى أربعة حيوانات منوية(أو إلى بويضة واحدة)مختلفة التكوين من جراء(عمليات الانقسام التي تحصل للصبغيات خاصة و للخلية الجنسية عامة FIRST AND SECOND MEIOTIC DIVISION ).تلك الانقسامات،تسمح لبعض المورثات التي تقع على الصبغيات أن تنتقل من صبغية إلى صبغية أخرى،و أن تجتمع الصبغيات عشوائيا ضمن الحيوانات المنوية(أو البويضة)مما يحدث تنوعا فريدا لتركيب الصبغيات،و تجمعا مميزا للصبغيات في كل حيوان منوي لدى الرجل(أو بويضة لدى المرأة).
و إذا علمنا أن نواة كل خلية من خليات الإنسان(ما عدا الخلايا الجنسية) تحتوي على ثلاثة و عشرين زوجا من الصبغيات لفّت بشكل لولبي(و أما الخلايا الجنسية فهي تحتوي على ثلاث و عشرين صبغية فقط)،و أن تلك الصبغيات تحتوي على 000,100 مورثة تقريبا،أدركنا أن عدد التركيبات التي قد تحصل تقدر بالمليارات.
يقول كتاب(الوراثة الإنسانية HUMAN GENETICS ):«إن عملية الانقسام الميوزية تولّد تنوعا وراثيا مدهشا.إن أيّا من ثمانية ملايين تركيبة أو أكثر لصبغيات شخص ما،تستطيع أن تجتمع مع أكثر من ثمانية ملايين تركيبة لصبغيات شريكه، مما يزيد احتمال التنوع الوراثي للأشخاص إلى أكثر من 70 مليارا(8388608*8388608).إن(انتقال المورثات CROSSING OVER )(من صبغية إلى أخرى)يزيد هذا الاحتمال» (1).
و مما يزيد الأمر تعقيدا،أنه عند ما تلتقي نطفة الرجل الحاملة لهذه الصبغيات (و هى بالتالي تحتوي على المورثات)مع نطفة المرأة الحاملة هي أيضا عددا مماثلا، تنصهر نواتا النطفتين الحاملتين للصبغيات و تختلط الصبغيات بعضها ببعض (2)، و تتواجه المورثات فيما بينها في نطفة الأمشاج؛إن نوعية هذه المورثات تزيد احتمال التنوع لتركيب الجنين،فتبعا لخصائصها المتنحية و المسيطرة تظهر صفات الجنين، و لا يقتصر الأمر على كامل سيطرة و تعبير هذه المورثات أو تنحيها،فما هو سائد قد].
ص: 528
يكون(كامل التعبير FULLY EXPRESSED )أو(ناقص التعبير PARTIALLY EXPRESSED )،و كذلك ما يكون متنحيا.
ثم إنّ هناك طفرات وراثية تحدث أثناء تكوّن الحيوان المنوي أو البويضة أو نطفة الأمشاج(البويضة المخصبة)أو حتى أثناء تكون الجنين،مما يزيد احتمال التنوع الوراثي لتركيب الجنين.
و لو أردنا أن نتنبأ بصورة قطعية عن خصائص المخلوق الجديد(لونه،قامته، هيئته)لعجزنا،و ذلك لأن هناك تركيبات عديدة جدا لنطفة الأمشاج و بالتالي أنسابا عديدة،و قد يحضر اللّه تعالى نسب النطفة وفق تركيبها النووي(أي حسب الشفرة الوراثية)أو كما يقدره تعالى من غير سابق سبب مفهوم لنا(كما يحصل خلال الطفرات الوراثية)،و هكذا نفهم معنى الحديث النبوي الشريف عن احتمالات النسب التي ذكرها.
الأحاديث التي وردت في هذا المجال:
الحديث الأول:أن أعرابيا أتى رسول اللّه-عليه أفضل الصلاة و التسليم-، فقال:إن امرأتي ولدت غلاما أسود،و إني أنكرته،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«هل لك من إبل؟»قال:نعم.قال:«ما ألوانها؟»قال:حمر،قال:«هل فيها من أورق؟» (أسمر أو ما كان لونه كلون الرماد).قال:نعم.قال:«فأنّى هو؟»قال:عسى أن يكون نزعه عرق له.قال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»[أخرجه مسلم ح 65]و في رواية:و لم يرخص له في الانتفاء منه.
الحديث الثاني:حديث:«انظر في أي نصاب تضع ولدك،فإن العرق دسّاس» [ذكره العجلوني ح 71].
الحديث الثالث:«اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوّاتنا ما حيينا،و اجعله الوارث منا»[أخرجه الترمذي ح 66].
الحديث الرابع:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض،و ماء المرأة رقيق أصفر،فأيّهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].
الحديث الخامس:عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة،و نطفة المرأة صفراء رقيقة،فأيّهما غلبت فالشبه له،و إن اجتمعا جميعا كان منها و منه»[ذكره ابن هشام ح 69].
ص: 529
الحديث السادس:عن عبد اللّه بن بريدة رضي اللّه عنه أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود،فأخذ بيد امرأته،فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق،لقد تزوجني بكرا،و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«صدقت...إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
إن العلم الحديث أثبت في الأبحاث فيما لا مجال للشك فيه أن المولود يحمل مورثات من أمه و مورثات من أبيه بحيث تظهر بالمولود خصائص جديدة من جراء مشج تلك المورثات.
و هذه المورثات على نوعين:نوع متنحّ و نوع مسيطر.
و احتمال ظهور خصائص(المورثات المتنحية RECESSIVE GENES )أقل من احتمال ظهور خصائص(المورثات المسيطرة DOMINANT GENES ).
و لذلك فإن المورثات المسيطرة تظهر تأثيراتها في أغلب الأحيان على النسل المباشر.
و لكن المورثات المتنحية قد تظهر تأثيراتها بعد أجيال.
و أول من شاهد الصبغيات هو العالم الغربي(فلمنج FLEMMING )سنة 1878 م،ثم ظهر العالم(بوفيري BOVERI )فاكتشف الخصائص الوراثية المختلفة التي تحملها الصبغيات سنة 1902 م،ثمّ استطاع العالم مورجان سنة 1912 م أن يصف دور الجينات في الوراثة.
و هذا يعني أن الاكتشافات ظهرت بعد بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ب 1300 عام تقريبا.
و هنا نرى روعة الإسلام في عدم حياده عن البحث العلمي،أو مجانبته المكتشفات العلمية،فالإسلام و العلم هما في دائرة واحدة.
ففي الحديث الأول:يظهر لنا أن الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود، و الرجل ليس بأسود و كذلك امرأته ليست بسوداء،يريد أن ينفي عنه الولد،لظنه أنه ليس بأبيه،لأنه لا يشبهه،و لا يمت له بأي صلة من ناحية الشكل.
ص: 530
و نفي النسب هنا يترتب عليه أن يتهم زوجته بالزنا،و يترتب عليه ما إذا أنكرت المرأة أن يتلاعنا (1)،و أما إذا أقرّت،فعليها الحد كما هو معروف في الشريعة الإسلامية (2).
إلا أن الوحي الذي يوجه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد أعطى حلاّ علميّا مقنعا مقبولا مناسبا.
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ضرب مثلا قريبا لذهن السائل حتى يفهم المسألة و يستوعبها دون أن يدخل في مقدمات علمية معقدة.
فقاس له الأمر على ما يراه الإنسان الذي نشأ في البرية و البادية من الإبل.
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم سأل الرجل هل عندك من الإبل (3)؟،و أجاب الرجل بنعم.و هنا سأله الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:ما ألوانها؟فأجاب الرجل بأن ألوانها حمر.
فصرفه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المقصود:هل فيها من أورق؟أي هل فيها لون أسمر و ما كان لونه كلون الرماد؟فأجاب الرجل بأن فيها إبلا لونها أسمر أو ما كان لونا رماديا.
و هنا لم يعطه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الجواب بل أراد صلّى اللّه عليه و سلّم أن يكشف السائل عن الجواب بنفسه.
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم سأله أيضا:من أين أتاها هذا اللون؟،فما كان من السائل إلا أن».
ص: 531
قال:لعله يكون نزعه عرق له،بمعنى لعلّ هذه الصفة انتزعت من أصل له[أي من مادة من مواده خلال تخلقها]،و في هذه المرحلة الدقيقة أجاب الرجل على سؤاله بطريقة غير مباشرة،فما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلا أن عرض له الجواب بطريقة مباشرة،و بأسلوب لا يمكن أن ينكر النتائج.
و بهذه المنهجية استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يقنع الرجل بأن الولد ولده،و بأنه ينسب إليه،و على الرجل أن يزيل شكه في امرأته،و أن العلاقة بين الزوج و الزوجة الشريفة مرتبطة بالثقة العالية التي لا يأتيها شك أو ظن من خلال أوهام شكلية لا ترتبط بوقائع الحقيقة.
فالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم أظهر معجزة علمية في حديثه و أشار إليها إشارة صريحة واضحة و هي:أن المورثات المتنحية لا تظهر في الجيل الأول و هو المولود،و لكنها تظهر في الأجيال القادمة.
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله:«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»يظهر أن عدم شبه الأب لا يعني أن الولد ليس ابنا لأبيه بل إن المورث المتنحي ظهر و أثّر في تركيبة المولود بحيث أظهر شبها لأحد من أجداده.
و الحديث الثاني«انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دسّاس»[ذكره العجلوني ح 71]يفسّر لنا كيف أن الشبه يظهر بعد أجيال.
فعل«دسّ»له عدة معان،منها:
*إخفاء شيء.جاء في لسان العرب (1):«دسس:الدسّ:إدخال الشيء من تحته...و في الحديث[استجيدوا الخال فإن العرق دسّاس]أي دخّال لأنه ينزع في خفاء و لطف...(قال)الليث:الدّس دسك شيئا تحت شيء و هو الإخفاء و منه قوله تعالى: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل:59]».
*إدخال شيء غريب بين أشياء أخرى.جاء في لسان العرب (2):
«دسس:...و في التنزيل العزيز: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها(9) وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها(10) [الشمس:9-10]،يقول:أفلح من جعل نفسه زكية مؤمنة و قد خاب من دسها في أهل الخير و ليس منهم...قال ثعلب:سألت ابن الأعرابي عن تفسير قوله تعالى: وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [الشمس:10]،فقال:معناه من دسّ نفسه مع الصالحين و ليس هو منهم».).
ص: 532
فالعروق توجد في الجسم سرّا،مختبئة فيه،و من ثمّ تدس صفات في الجنين غير الصفات الظاهرة على والديه،فلو أنّ مفعولها ظاهر-أي لو أنّها من النوع المسيطر-لما كانت العروق تدسّ الصفات خلسة،فهذه الصفات تظهر من الخفاء لتأخذ صفة غيرها، و هي بالتالي ليست من الصفات الظاهرة للعيان في الأبوين القريبين.
و تفصيل ذلك فقهيا:
جاء في لسان العرب (1):«نزع:نزع الشيء ينزعه نزعا،فهو منزوع و نزيع، و انتزعه فانتزع:اقتلعه فاقتلع...و أصل النزع الجذب و القلع،و منه نزع الميت روحه...».
و لذا فإن عبارة«عسى أن يكون نزعه عرق»تعني:عسى أن يكون اقتلعه عرق.
و من المعروف أن الاقتلاع و الجذب هو الأخذ بالقوة.و المنزوع هنا هو صفة السواد المتنحية من الأجداد،غير أن الصفة ليست شيئا ماديا أو محسوسا،و بالتالي فهي لا تنزع،و ما ينزع هو المسبب المادي لتلك الصفة بإذن اللّه،أ لا و هو:(المورّثة GENE ).و هكذا فإن معنى عبارة:«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»يصبح:عسى أن يكون عرقا اقتلع و أخذ بالقوة المورثة المسببة لصفة السواد.
و كما فهمنا من الأحاديث النبوية الشريفة السالفة الذكر مثل حديث:«انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دسّاس»[ذكره العجلوني ح 71]،و حديث:«...ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]،و حديث:
«...ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21]،فإن العروق حسب المفهوم النبوي الشريف هي التي تعطي الصفات للجنين،و بالتالي فهي وعاء المورثات.و إذا أردنا بالتالي اقتلاع البعض منها،فسنأخذها من العروق و ليس من مكان آخر،و هكذا فإن معنى الحديث الشريف يكون:عسى أن يكون عرقا اقتلع و أخذ بالقوة المورثة المسببة للسواد من عرق آخر.
و هذه عبارة عميقة في معناها،غيبية في إخبارها،لفظها الأعرابي غافلا عما تنطوي عليه من معان علمية دقيقة،محاولا إيجاد تفسير للظاهرة،و عقلها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فأقرّ هذه المعلومات و هو على يقين منها قائلا:«و هذا لعله يكون نزعه عرق له» [أخرجه مسلم ح 65].).
ص: 533
و من الجدير بالذكر أن إقرار الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ليس كإقرار عامة الناس لأمورهم الدنيوية الخاصة بهم،لأن إقرار أي خطأ من جانبه يترتب عليه نفي النبوة الشريفة عنه صلّى اللّه عليه و سلّم.و من هذا المنطلق فإن إقراره للأمور العلمية يشير إلى أنه يعلم تمام العلم دقائق الأمور.
و هذه العبارة تشير إلى:
-أن العروق تحتوي على المورثات المسببة للصفات البيولوجية.
-أن العروق تتبادل المورثات.
-أن تبادل المورثات ترافقه القوة.
و تفصيل ذلك علميا:
تنقسم(الخلية الجنسية الأولية PRYMARY SEX CELL )مرتين إلى أن تتخلق و تصبح نطفة،و بالتالي فهي تمر في أطوار،و أهم ما يميز هذه الأطوار عدد و وضعية الصبغيات في الخلية الجنسية.
فهذه الصبغيات تتمدد،و تتضاعف،و تصطف،و تتزاوج،و تنقسم،و تنتقل داخل الخلية.
و الانقسام الأول يدعى:(الانقسام الميوزي الأول FIRST MEIOTIC DIVISION )،و في طوره الأول المعروف:(بالطور التحضيري INTERPHASE ) تتمدد الصبغيات و تنتشر داخل نواة الخلية،و من ثمّ تتضاعف الصبغيات.
و في الطور الثاني المعروف:(بالطور التمهيدي الأول PROPHASE )تغلظ الصبغيات و يقصر طولها و تنتظم في(أزواج متناظرة HOMOLOGS )وفق ظاهرة تسمى:(سينابزيس SYNAPSIS )حيث إن كل مورثة من الزوج الأول تقابل مورثة من الزوج الثاني (1)،فيظهر كل من الأزواج مكونا من أربعة كروماتيدات(عروق)مستوية.
و يمسك مزيج من البروتين و(الآر إن آي الرسولي mRNA )بالأزواج معا (2).
و في نهاية الطور التمهيدي تبدأ تلك الأزواج المتناظرة بالانفصال،و خلال انفصالها تنكسر بعض أجزاء الكروماتيدات(العروق)المتقابلة (3)،كما أن بعض أجزاء العروق تظل متصلة بعضها ببعض إلى مرحلة متأخرة من الانفصال،بينما تتباعد باقي أجزاء العروق،مما يشير إلى استعمال القوة في عملية الانفصال.5.
ص: 534
و تتبادل العروق عددا من المورثات فيقتلع كل عرق من العرق الآخر مورثات تعطي للنطفة المتخلقة مميزات خاصة بتلك المورثات الجديدة.(انظر الصورة رقم:135).
و في هذه الأثناء ينقسم الجسم المركزي للنطفة المخصبة إلى قسمين يدعى كل منهما:(سنتريول CENTRIOLE )،و تتباعد السنتريولات بحيث يتجه كل واحد منها في اتجاه أحد قطبي الخلية.و ينشأ من كل سنتريول مجموعة من الخيوط الشعاعية تمتد عبر سيتوبلازم الخلية و تؤلف ما يسمى بخيوط المغزل،و يتحلل الغشاء النووي.
و في الطور الثالث المعروف(بالطور الاستوائي METAPHASE )تصطف العروق على خط الاستواء و تظهر مشدودة بخيوط المغزل عند السنتروميرات.
و في الطور الرابع المعروف(بالطور الانفصالي ANAPHASE )،تنقبض خيوط المغزل نحو قطبي الخلية (1)فتنجذب الكروماتيدات معها بحيث يجتمع عدد متساو من الكروماتيدات عند كل قطب من قطبي الخلية.
و هكذا يتولد من الخلية الجنسية الأم-الخلية الجنسية الأولية-خليتان جنسيتان تدعى:(الخليات الجنسية الثانوية SECONDARY SPERMATOCYTES )، غير أن تلك الخليات ما تلبث أن تنقسم ثانية انقساما ميتوزيا (2)يسمى:(الانقسام الميوزي الثاني SECOND MEIOTIC DIVISION )فتكون في النهاية أربع نطف (3)تحمل كل واحدة منها عروقا خاصة بها،بحيث إن كلا من تلك العروق التي توجد في تلك النطف يحمل في بعض أجزائه مورثات انتزعها و اقتلعها من عروق أخرى.
(انظر الصورة رقم:135).هذه المورثات تكون منحدرة من الأجداد و لكنها متنحية، فتندس في الجسم كما أشار إليه الحديث الشريف:«...فإن العرق دسّاس»[ذكره الذهبي ح 71]،و لا تظهر صفاتها في النسل المباشر،غير أن ترتيبها الجديد في النطفة الجديدة،و طبيعة النطفة النظيرة(أي النطفة التي ستلقحها)تجعل صفاتها تظهر مجددا لسبب أو لآخر.
و هكذا نفهم أبعاد الحديث الشريف الذي ذكرناه في البحث.ا.
ص: 535
ص: 536
و الحديث الثالث:«اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوّاتنا ما حيينا و اجعله الوارث منّا»[أخرجه الترمذي ح 66]يتحدث عن سيادة المورّثات المسيطرة أيضا.
فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يسأل المولى عزّ و جلّ أن يمتّعه بسمعه و بصره و سائر قوى جسمه إلى حين وفاته،و سائر قوى جسمه هي حواس الشم و الملامسة...إلخ إضافة إلى الجهاز المعوي و الرئوي و الأجهزة الأخرى.و التمتّع بتلك الأعضاء يقتضي أن تكون مورّثات تلك الأجهزة سالمة من العيوب لها صفة القوّة التي تجعلها تديم النظر و السمع و وظائف سائر الأعضاء الأخرى بإذن اللّه.و ليس هذا فحسب،و لكن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يطلب من اللّه تعالى أن يورّث نسله تلك الصفات بأن قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«و اجعله الوارث منّا».و الملفت للنظر أن صياغة الحديث جاءت باستعمال اسم الفاعل بدلا من المفعول به،و لهذه الصياغة دلالتها؛فنحن نرث الصفات من أجدادنا،و من المستحيل أن ترثنا تلك الصفات،و استعمال كلمة«الوارث»-على وزن اسم الفاعل -يشير إلى أن تلك الصفات،أو بتعبير أدق،إلى أن مسبّبات تلك الصفات بإذن اللّه،لها قوّة ذاتية تجعلها تتحكم في الوراثة،و تتسبب بعدم ظهور صفات المورّثات المتنحية ذات العيوب و الضعف في التركيب.و هذا الأسلوب ليس بغريب عن النصوص الشرعية.فلقد مرّ معنا في مبحث«الماء و المني»استعمال اسم الفاعل للدلالة على القوّة الذاتية للماء؛فالماء الدافق هو الذي يندفع بشدة قوّته كما جاء في الآيات: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) [الطارق:5-7]،و كما أوضحناه بإسهاب في مبحث«الماء و المني/تفسير النقطة السادسة:أن هذا الماء ليس متدفقا فحسب بل دافق».و من هنا نفهم أن الحديث الشريف يعني:اللهم متّعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوّاتنا ما حيينا،و اجعل المورّثات التي تتسبب بهذه الصفات الوارث منا،أي تمتلك من القوّة التي تمكنها-بعد أن تنحدر في النسل-من أن تحتفظ بالصفات الجيّدة للسمع و البصر،و أن تظهرهما فيما بعد،فتكون هي المتحكمة و المسيطرة على الإرث،فتستحوذ عليه بإذن اللّه،و اللّه تعالى أعلم.
فسبحان من علّم رجلا أميا صلّى اللّه عليه و سلّم أسرار خلقه،لم يعلمها العلماء إلا بجهد متواصل بواسطة تقنيات عالية الإمكانيات،بعد قرون من الزمن!.
مما يدعّم مفهوم سيادة الصفات التي تأتي من طرفي التزاوج،حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بخصوص الماء:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق كان الشبه»[أخرجه النّسائي ح 67].
ص: 537
و لقد أوضحنا في المبحث السابق«النطفة»أن الماء هو النطفة نسبة إلى الحديث:«ما من كل الماء يكون الولد...»[أخرجه مسلم ح 17].يؤيد هذا التفسير الحديث رقم 69؛فصياغة الحديث الذي رواه جاءت بلفظ«نطفة».
و ينص الحديث،أن شبه الجنين يكون لصاحب النطفة التي تسبق.
و فعل«سبق»يعني غلب.جاء في شرح سنن النسائي للسيوطي (1):«(فأيهما سبق كان الشبه)...و جوّز القرطبي أن يكون بمعنى غلب من قولهم:سابقني فلان فسبقته أي غلبته و منه قوله تعالى: وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [الواقعة:60]أي مغلوبين...».
يؤيد هذا المعنى روايات أخرى جاءت بلفظ«...سبق أو علا...»[أخرجه أحمد ح 67].
و فعل«علا»في اللغة العربية يعني غلب كما أسلفنا القول في مبحث«النطفة» نسبة إلى قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]،و قول اللّه تعالى:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى(67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى(68) [طه:67-68].
فأي نطفة تسبق كان الشبه.و في بعض الروايات:«...أشبهه الولد...» [أخرجه ابن ماجة ح 67]و في أخرى:«أشبه الولد أخواله...أشبه الولد أعمامه»[أخرجه مسلم ح 68].جاء في شرح سنن النسائي للسندي (2):«(كان الشبه)أي شبه الولد بالأب أو الأم».
فالحاصل أن هذه النطف تلتقي،و أي مورثات من هذه النطف يغلب يؤدي إلى شبه الجنين لأمه أو لأبيه أو لأخواله أو لأعمامه الذين تنحدر منهم النطفة الغالبة.
هذه هي الوراثة التي أشار إليها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث السمع و البصر الذي ذكرناه أعلاه (3)..-
ص: 538
(3) -و من الجدير بالذكر أن هناك حديثين مشابهين لهذا الحديث،و قد سبق أن شرحناهما في مبحث «الماء و المني»،و هما:
*(عن أمّ سلمة جاءت أمّ سليم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه:إن اللّه لا يستحيي من الحق،فهل على المرأة من غسل إذا هي احتملت؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»،فغطّت أم سلمة -تعني وجهها-و قالت:أو تحتلم المرأة؟فقال:«تربت يمينك فبم يشبهها ولدها»)[أخرجه البخاري ح 14].
*(عن أمّ سليم رضي اللّه عنها قالت:إنها مجاورة أمّ سلمة-زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم-،فكانت تدخل عليها،فدخل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:يا رسول اللّه:أ رأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أ تغتسل؟،فقالت أم سلمة:تربت يداك يا أم سليم فضحت النساء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أم سليم:إن اللّه لا يستحيي من الحق و إنا أن نسأل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عما أشكل علينا خير من أن نكون منه على عمياء.فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأم سلمة:«بل أنت تربت يداك،نعم يا أم سليم عليها الغسل إذا وجدت الماء»،فقالت أم سلمة:يا رسول اللّه:و هل للمرأة ماء؟!،فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنّى يشبهها ولدها،هن شقائق الرجال»)[أخرجه أحمد ح 77].
نقول في هذا المقام:إنه من المهم أن نخوض في تفاصيل تلك الأحاديث الثلاثة السالفة الذكر،فهناك اختلاف بسيط في ألفاظ كل منها يترتب عليه تفسير يتلاءم مع اللفظ المنقول،كما أن هناك زيادات مختلفة في كل من تلك الأحاديث تضيف عليها دلالات جديدة لا يجب أن نغفل عنها.
تلك الأحاديث تتكلم عن نفس الحادثة لأنها حادثة عين.فالسائل في كل من تلك الأحاديث شخص واحد-أم سليم رضي اللّه عنها،و الكلام يدور عن نفس الموضوع،و احتمال أن تتكرّر تلك الحادثة قليل لأن من شمائل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يجيب السائل بأجوبة شافية حتى تتّضح للسائل بالكلية.هذا إن لم يعط صلّى اللّه عليه و سلّم إيضاحات إضافية تزيد عن حاجة السائل لكي يحيط صلّى اللّه عليه و سلّم بجميع جوانب الموضوع المطروح،حيث إنه مأمور من اللّه تعالى بأن يتمّ علينا ديننا-دين الإسلام-كما أشار إليه المولى عزّ و جلّ في محكم آياته: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].
و قد يفسّر الحديثان-رقم 14 و 77-على نحو الذي أشرنا إليه في مبحث«الماء و المني»و هو أن الولد يشبه أمه بأنها تفرز ماء-أي منيا-كما يفرز هو ماء،و ذلك لأن النساء شقائق الرجال-أي نظائرهم-،و هذا وجه وجيه لوجود قرائن عديدة تقوي هذا التفسير منها أحاديث أخرى كالحديث الذي رواه عبد الرزاق الصنعاني و الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث خولة بنت حكيم حيث جاء المعنى في تلك الأحاديث صريحا و جليا بأنه يشير إلى تلك الظاهرة،و لاتفاق جمهور العلماء المسلمين أن على المرأة غسلا إذا هي احتلمت،و لاتفاق التفسير مع قواعد اللغة العربية،و مع السياق العام للحديثين الذي يدور حول الاحتلام.
بيد أن هناك تفسيرا للشبه الوارد في الحديثين رقم 14 و 77 مختلفا عن الذي أشرنا إليه،أو أن مفهوم الشبه الذي تكلم عنهما الحديثان ناقص إذا ما اعتبرنا الزيادة التي جاءت في الحديث رقم 67،و التي تنص على أن شبه الولد لأمه يكون من جراء غلبة صفات أحد الماءين-ماء الرجل و ماء المرأة--
ص: 539
(3) -اللذين يتخلق منهما الولد على الآخر،و ذلك لأن كلا من الحديثين-رقم 77 و 14-ظني الدلالة في موضوع الشبه،حيث إن هناك أكثر من احتمال لتفسير الشبه الوارد في الحديثين لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13].فكلامه صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنّى يشبهها ولدها»قد يؤخذ على هذا النحو:فبأي شيء يشبهها ولدها،و بالتالي فقد يرمز إلى أن الولد يشبه الأم بأنه ينزل ماء كما تنزل هي ماء،أي أن الولد يشبه أمه في الوظائف الجسدية من إفراز ماء أو نحوه،أو قد يؤخذ كلامه صلّى اللّه عليه و سلّم على هذا النحو:فكيف يشبهها ولدها،و بالتالي فقد يرمز إلى أن جسم و وجه الولد يشبه الأم من جرّاء مائها الذي تخلق منه،أي أن وجه الشبه بينهما هو في الصفات المورفولوجية.و قد فسّر العلماء المسلمون هذا الشبه في كتب التفسير في أكثر من وجه،و من أحبّ الخوض في التفاصيل فليرجع إلى كتب تفسير الحديث.أما الشبه الذي تكلم عنه الحديث رقم 67 فدلالته صريحة و هي الدلالة الثانية-التي أشرنا إليها سابقا في هذا النص-بلا شك.
و هنا يبرز الاختلاف في-و بين-مختلف الأحاديث،و هي على النحو التالي:
1-لما ذا تكلّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الماء الذي يتخلّق منه الولد-أي عن ماء المبيض-في حين كان السؤال عن المني؟
2-لما ذا هناك دلالات مختلفة في-و بين-الأحاديث عن أوجه الشبه بين الولد و أمه؟ 3-لما ذا تكلّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن الشبه المورفولوجي بين الأم و الولد في حين كان السؤال في الحديث الذي رواه أنس بن مالك عن الاحتلام؟(مما يقتضي الكلام عن الشبه الوظائفي في الحديث و ليس عن الشبه المورفولوجي).
4-لما ذا الاختلاف بين ألفاظ الأحاديث و الزيادات المختلفة في كل من الأحاديث؟ 5-لما ذا تكلّم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديثين رقم 14 و 77 أن الماء يخرج من المرأة في حين أن الماء الذي يتخلق منه الولد في الحديث الذي رواه أنس بن مالك لا يخرج من جسد المرأة؟.
لما ذا هذا الاختلاف و التعارض البيّن و الظاهر بين الأحاديث؟و أي الدلالات أرجح؟.
كل تلك الأسئلة تتضح إذا ما اعتبرنا التالي:
1-تلك الأحاديث رويت بأسانيد مختلفة(أي بواسطة رواة مختلفين،راجع مبحث«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها»).فتارة نجد أن الذي رواه أنس بن مالك،و تارة السيدة زينب بنت أم سلمة،و تارة عبد اللّه بن طلحة الأنصاري،و تارة خولة بنت حكيم-رضي اللّه عنهم أجمعين-،مما يشير إلى أن كلا من الرواة حفظ أجزاء متفرّقة من الحوار الذي جرى بين أم سليم و أم سلمة رضي اللّه عنهما و بين الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.و إذا عملنا على التأليف بين تلك الأحاديث-و هذا ما يترجح فعله عندنا لأن أسانيد الأحاديث رقم 14،67،77 صحيحة،بدلا من الترجيح بينها-فهمنا أن هناك حوارا طويلا جرى على الألسنة تضمّن كل الكلام الذي جاء في الأحاديث الثلاثة(أي تضمن كل المعاني التي جاءت في الأحاديث،و ليس بالضروري الألفاظ كما جاءت على ألسنة المعنيين،حيث إن كل راو قد يروي الحديث بألفاظه الخاصة كما فهم الحديث،أو كما جاءت تماما على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذلك لاختلاف مقدرة ضبط الألفاظ بين رجال السند)،هذا إن لم يكن سقطت أجزاء قصيرة من الحوار تربط تلك المعاني بعضها ببعض.-
ص: 540
(3) -و لكي نعطي القارئ فكرة تفصيلية عما قد يكون جرى في الحوار حتى تتوضح له الصورة،نعطي مثالا عما قد يكون جرى عليه الحوار(بعد إزالة التفاصيل التي ليس لنا بها حاجة في هذا المقام) و ذلك على سبيل المثال-و لا الحصر-،و كما نستقرئه من مجموع الأحاديث الشريفة،و ليس تطفلا على الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و نعوذ بالله من ذلك،و لكن من أجل البحث الموضوعي:
أم سليم:هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟.
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:نعم إذا رأت كذلك.
أم سلمة:و هل المرأة تحتلم؟.
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:نعم إذا رأت الماء.
أم سلمة:و هل لها ماء؟.
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:نعم لها ماء،و ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل.
أم سلمة:و هل تنزل المرأة كما ينزل الرجل؟.
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:نعم،فأنى يشبهها ولدها؟هن شقائق الرجال.
أم سلمة:و كيف هن شقائق الرجال؟.
الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:ماء الرجل أبيض غليظ،و ماء المرأة رقيق أصفر،فمن أيهما سبق يكون منه الشبه.
و من هذا المنطلق نفهم من أين جاء الاختلاف بين ألفاظ الأحاديث.
و قد يكون الحوار جرى على نحو غير ذلك،و تعمّد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الإيجاز لأسباب سنتحدثّ عنها فيما بعد،فجاء جواب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على هذا النحو:فبم يشبهها ولدها،هن شقائق الرجال،ماء الرجل غليظ أبيض...
و أما التعارض بين-و في-الأحاديث فيزول إذا ما تحاكمنا إلى قواعد اللغة العربية المعلومة حتما للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم للنص القرآني: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى(3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى(4) [النجم:3-4]،فتلك القواعد تتيح لنا فهم النصوص على شكل سليم و منضبط،و فهم الذي أشكل علينا من الألفاظ و الدلالات،كما أنها تتيح لنا فهم الحكمة من وراء استعمال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لمختلف أساليب اللغة العربية حتى يوصل للسائل-و لسائر الأمة-المعلومات و التفاصيل المرادة.
فإذا أخذنا بألفاظ مجموع الأحاديث-و هذا هو الراجح عندنا-تبيّن لنا أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أشار بكلمة «الماء»في جوابه الأول-«إذا رأت الماء»-إلى السوائل لدى المرأة على الوجه العام،و بما تنطوي عليه من مني على وجه الخصوص،و من ثمّ عمد إلى التكلم عن الماء الذي يتخلق منه الولد باستعماله نفس الكلمة-ماء-في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر».و من خلال الربط بين الاحتلام و خروج المني من المرأة في نفس الحوار،قد يكون أشار الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أن هناك احتمالا أن تحتلم المرأة و أن يخرج منيها من المهبل وقت خروج الماء الذي يتخلق منه الجنين من المبيض-أي الماء الحويصلي-،و بذلك يكون قد أشار إلى الحالة التي تكون عليها المرأة عند خروج سائل المبيض،و هي أنها تكون في ذلك الوقت على درجة أعلى من الاستثارة الجنسية من الحالة التي تسود في غير أوقات الإباضة،و ذلك لأن هرمون الإباضة يكون في أعلى درجاته مما-
ص: 541
(3) -يساعد على استثارتها،فينعكس ذلك على عقلها و جسدها خلال النوم،فتحتلم،و يخرج منها المني، و ترى في المنام ما يرى الرجل.يقول الدكتور لارس هامبرغر في كتابه«ولد طفل»،ص 41:«كثير من النساء يشعرن زيادة في الشهوة الجنسية عند وقت الإباضة.فقد يعود ذلك(للحالة الدورية للشهوة الجنسية ESTROUS PERIOD )أو(لفترة التناكح الحيواني MATING PERIOD )».
و بهذا الأسلوب يكون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد أضاف معلومات هامة عن الماء الذي يتخلّق منه الجنين،دون أن يتخلّى عن التشريع و سن السنن في حال احتلام المرأة،و صرف النظر إلى ما هو أهم من موضوع الاحتلام،إلى الماء الذي يتخلق منه الجنين و خصائصه،لأن منه يتخلّق الخلق،و منه يخرج الكائن الحي،و وجه الأنظار إلى موضوع لم يسأل عنه الصحابة،و إلى وجه الشبه بين المرأة و ولدها الذي هو أهم من وجه الشبه في الاحتلام و أجدر أن نعتبره،و هو موضوع سبب شبه الجنين لوالديه في صفاته المورفولوجية و الجينية،و ينص على أن الرجل يشارك في تخلق الجنين كما تشارك فيه المرأة،حيث إن العرب كانت تعتقد أن المرأة وحدها هي المسئولة عن تخلق الجنين،و في حال أنجبت أنثى يترتب على ذلك هجر الأزواج أزواجهن مع أنه يجب أن نعتبرها مساوية للرجل من الناحية الإنسانية و الحقوقية كما يشير إليه لفظ«شقائق»الذي ورد في الحديث رقم 77،كما أنه يصرف الأنظار إلى موضوع مطلوب بيانه في المستقبل كإظهار إعجاز علمي سيتضح مع مرور الوقت كما أشار إليه المولى عزّ و جلّ في قوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].ناهيك عن أنه صلّى اللّه عليه و سلّم يكون بهذا الأسلوب-أي أسلوب الاختصار -قد بسّط الأمور على السائل الذي لا يعلم أي شيء في مجال«علم الأرحام»و في مجال الإفرازات المهبلية و الرحمية،و ذلك من خلال الاختصار في الخوض في التفاصيل عند عدم الحاجة إليها، كذلك استعمال هذا الأسلوب يتيح للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يذكر السبب الذي ينطوي تحته خروج المني، و يصرف الأنظار إلى الشيء المهم الذي يجب أن نتفكّر فيه،و هذا أسلوب رائع،متقن،معروف في اللغة العربية بالأسلوب الحكيم،و تعريفه:«هو تلقي المخاطب بغير ما يترقّب،بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد،أو السائل بغير ما يتطلّب بتنزيل سؤاله منزلة غيره،تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له».(«بغية الإيضاح في تفسير المفتاح»،ج /1ص 160)،و انظر («المطوّل»،ص 294).
و القول بأن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يعلم بهذا الأسلوب مرفوض لأنه جاء في الآية: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215].جاء في تفسير الكشاف،(ج /1ص 356):«و بنى الكلام على ما هو أهم،و هو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتدّ بها إلا أن تقع موقعها».و انظر البرهان في علوم القرآن،للزركشي،(ج /4 ص 42)و ما بعدها حيث قال:«و الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال إذا كان السؤال متوجها، و قد يعدل عما يقتضيه السؤال تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك».و انظر(«الأطول»، ج /1ص 423،فما بعدها)،و(«عروس الأفراح»،ج /1ص 385).
و الدليل من السنة الحديث:«عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و عن الزّهريّ عن سالم عن ابن عمر عن-
ص: 542
(3) -النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ رجلا سأله ما يلبس المحرم فقال:لا يلبس القميص و لا العمامة و لا السّراويل و لا البرنس و لا ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران فإن لم يجد النّعلين فليلبس الخفّين و ليقطعهما حتّى يكونا تحت الكعبين»[أخرجه البخاري ح 115].جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري،في تفسير الحديث 1542:«و قال البيضاوي:سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز،و إنما عدل عن الجواب لأنه أخصر و أحصر،و فيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه،إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس.و قال غيره:هذا يشبه أسلوب الحكيم،و يقرب منه قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ الآية،فعدل عن جنس المنفق و هو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم».
و أما البيّنة على من يدّعي أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم خلط بين الماءين-الماء الدافق الذي يتخلّق منه الجنين و ماء المهبل(أي المني)-،و لا يعلم من أين يأتي كلا منهما و وظائفهما،فهي كالآتي:
1-إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم أن هناك فرقا بين الماءين،و الدليل على ذلك أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فرّق بين الماءين من خلال التفريق بين تسمية الماءين في حديثه:«ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه»[أخرجه مسلم ح 9]،كما أنه يعلم أن الذي يخرج ابتداء في المهبل عند استثارة المرأة هو منيها لأنه يلتقي بمني الرجل خلال الجماع كما يفيده الحديث،و أن الذي يخرج بعد ذلك(أو يلتقي بعد ذلك بالحيوان المنوي)هو ماء المرأة الذي يتخلق منه الجنين.
2-إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تماما أن ماء المبيض الذي يتخلق منه الجنين لا يخرج ابتداء من الرحم عند الاحتلام و ذلك لأن الحديث:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا...»[رواه الطبري ح 32]يفيد أن هذا الماء يمكث في البطن خارج الرحم فترة من الوقت قبل أن يدخل الرحم(كما تشير إليه كلمة «إذا»التي تفيد الاستقبال-لسان العرب لابن منظور-مادة«إذا»-ج /1ص 301-)،على عكس المني الذي يخرج ابتداء عند الاحتلام من المهبل كما يفيده الحديث رقم 14 و 77.كما أن هذا الحديث يشير إلى أن الماء الذي يتخلق منه الجنين يخرج من مكان بعيد من المهبل،من مكان يقع خارج الرحم،و بالتالي فمن المستبعد أن يخرج«ماء التخلق»من رحم المرأة عند الاحتلام.
3-إن معنى السلالة الذي جاء في الآية: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]يشير إلى أن الحيوان المنوي يقطع مسافة لكي يلتقي بماء المرأة،و هذا يفيد أن الماء يخرج من مكان بعيد عن مخرج الرحم-المهبل-.
4-إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم أن هناك سائلا يخرج فور احتلام المرأة من مهبلها كما يقتضيه الحديثان رقم 14 و 77.
و بالتالي فإننا نقول:إن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تعمّد صياغة الأحاديث على النحو التي جاءت به،للحكمة التي أشرنا إليها سابقا في هذا البحث.
ص: 543
و يشهد لمفهوم سيادة الصفات الحديث:«تخيّروا لنطفكم،و أنكحوا الأكفاء، و أنكحوا إليهم»[أخرجه ابن ماجة ح 71]،فهو يشير إلى أن يتزوج المرء من الأكفاء حتى ينحدر منهم الصفات المحمودة،فيكون النسل ذا كفاءة.
و لقد ذكر مفهوم شبه الولد لأي من أبويه عن طريق غلبة الصفات في حديث آخر و لكن بصياغة مختلفة.هذا الحديث هو:«إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلّها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
يعتبر هذا الحديث تفصيلا للحديث الذي ذكرناه آنفا لما يحتوي من الدقة العلمية.
كما تحدثنا في مبحث:«اضطراب عروق النطفة»تضطرب و تتحرك عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة داخل نطفة الأمشاج(أي البويضة التي أصبحت نطفة الأمشاج بعد اختلاط النطفتين)مهيئة نفسها لنتائج سيادة الصفات.
هذا التهيؤ و التحرك ما هو إلا سؤال العروق للّه عزّ و جلّ أن يجعل الشبه لها.
و ذلك لأن المورثات الموجودة في عروق النطفة الذكرية و النطفة الأنثوية سوف تظهر خصائصها حسب التركيبة الجديدة للنطفة-نطفة الأمشاج-،فلو التقت مورثة متنحية مع مورثة مسيطرة لم تظهر خصائص تلك المورثة،و لذلك تتمنى المورثات أن لا تلتقي بمورثات أخرى أقوى منها.
و هذه ملاحظة علمية دقيقة جدا للحديث الشريف في المجال الغيبي.
قد يتساءل القارئ:
هل للعروق-و هي أشياء غير حيّة لعدم وجود الروح فيها-المقدرة على سؤال اللّه عزّ و جلّ أن يجعل الشبه لها؟.
و الجواب:نعم،و إن لم نع هذا التخاطب،ذلك لأن اللّه عزّ و جلّ قال في محكم آياته: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44].فالعروق تسبّح اللّه تعالى و تخاطبه و تدعو المولى عزّ و جلّ كما يدعو العبد ربّه و لكن لا نفقه هذا الدعاء،أي لا نستطيع التعرف على كيفية هذا الدعاء.
إلى ذلك يشير الحديث الشريف أيضا إلى أن كل العروق سواء كانت من الرجل أو المرأة تشارك في عملية تخلق صفات الجنين مصداقا لقول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:
«ليس منها عرق إلا يسأل...»:فالعروق التي توجد في النطفة الذكرية و النطفة الأنثوية تجتمع تحت سقف واحد و هو سقف نطفة الأمشاج،و يوجد على كل عرق
ص: 544
من تلك العروق(سواء كان آتيا من النطفة الذكرية أو النطفة الأنثوية)مورثات وظيفة كل واحدة منهن إعطاء صفة محددة للجنين.و تبعا لسيطرة تلك المورثات تظهر خصائص بعض المورثات و تتنحى خصائص البعض الآخر و تتحدد صفات الجنين.
فكل المورثات و بالتالي كل العروق تشارك في سؤال اللّه أن يجعل الشبه لها.
إذا قابلنا كلا الحديثين:حديث رقم 69 و حديث رقم 22،استنتجنا:أن الصراع لغلبة الصفات يحصل على مستوى النطف و العروق،و هذا الصراع يقع«إذا كان حين الولد»،أي عند ما يحين خلق الولد و هذا حاصل كما رأينا في مبحث«نطفة الأمشاج» عند اختلاط النطف،و بالتالي هذا يعني:
-أن النطف تحتوي على العروق.
-أن العروق التي تحتويها تلك النطف هي المسئولة عن تمرير الصفات للجنين و ليس سواها.
*عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلمهم من الحمى و من الأوجاع كلها أن يقول:«بسم اللّه الكبير،أعوذ بالله العظيم،من شرّ كلّ عرق نعّار،و من شر حر النار».[أخرجه الترمذي ح 70].
*روي عن حجّاج بن فرافصة،أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ما من مريض يقول:سبحان الملك القدوس الرحمن الملك الديّان،لا إله إلا أنت مسكّن العروق الضّاربة،و منيّم العيون الساهرة،إلا شفاه اللّه تعالى»[رواه ابن أبي الدنيا ح 92].
يستعيذ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في هذا الحديث بالله العظيم من شرّ العرق النعّار و ذلك في حال الأوجاع.
نفهم من هذا القول أن العرق النعار يتسبب بالأوجاع.
العرق كما أسلفنا القول هو الصبغيات في المصطلح النبوي الشريف.
أما كلمة«نعار»فهي على عدّة معان،منها:
-الفور و الشدة.جاء في لسان العرب (1):«و نعر الجرح بالدم ينعر إذا فار».
«و النعرة من النوء اذا اشتد به هبوب الريح».
ص: 545
-الأذى.جاء في لسان العرب (1):«و نعر الفرس و الحمار ينعر نعرا،فهو نعر دخلت النعرة في أنفه».«و قال الأحمر:النعرة ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها».
-المخالفة.جاء في لسان العرب (2):«و النعار أيضا:العاصي».«و نعر الرجل:خالف و أبى».
-إحداث الفتن.جاء في لسان العرب (3):«رجل نعار في الفتن:خرّاج فيها سعّاء».«و قال الأصمعي في حديث ذكره:ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان أي نهض فيها».
إذن فالعرق النعار قد يعني الصبغيات الفوارة بشدة أي الصبغيات التي تتكاثر محتوياتها حتى تفور عن حدّها المعتاد،و قد يعني الصبغيات التي تسبب الأذى للجسم،و قد يعني الصبغيات الشاذة عن طبيعتها المخالفة لها،و قد يعني الصبغيات التي تحدث الفتن في الجسد أي الخلل.
تتحكم الصبغيات كما أوضحناه آنفا في نشاط خلايا الجسم،فهي بمثابة مخزن و مصدر معلومات(لحمض النواة النووي الريبوزي الرسولي m RNA )الذي يقوم بصنع البروتينات و الإنزيمات الذي يحتاجها الجسم.
و هذا يعني أن سلامة الصبغيات هي سلامة للجسم،و أي خلل فيها سوف يؤدي إلى أذى و أوجاع في الجسد.
فالحاصل أن الصبغيات تحتوي على مادة الدي أن آي.
مثل كل المركبات البيولوجية فإن مادة الدي أن آي تكون عرضة للتلف تأثرا بحرارة الجسم و البيئة المائية داخل الخلية.فعلى سبيل المثال:يقدر العلماء أن خمسة آلاف قاعدة بيورينية(أدنين-جوانين)تتلف يوميا من محتوى الدي أن آي بالخلية البشرية.غير أن هناك إنزيمات تسمى:(إنزيمات الإصلاح DNA REPAIR ENZYMES )تصلح عيوب مادة الدي أن آي و بذلك يزول تأثير غالبية التغيرات.
(انظر الصورة رقم:136).).
ص: 546
و عند ما يحدث تغيير في جزئي الدي أن آي و لا يتم إصلاحه يتم وراثة الخلل الناتج عند نسخ هذا الجزيء و انتقاله إلى خلايا جديدة و تسمى حينئذ:طفرة جينية.
و يبلغ عدد(الأمراض التي تنشأ عن الطفرات الجينية الفردية SINGLE GENE DEFECT DISEASES )4500 مرض.
فالعرق النعار هو الصبغيات التي تحمل طفرات جينية و هي بذلك صبغيات خالفت و شذت عن طبيعتها السليمة لتولد خللا أي فتنة في نظام الجسد.و بالتالي فتسبب الأذى و الأوجاع التي تكلم عنها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم.
من الأمثلة على الأذى الذي يتولد من الطفرة الجينية و بالتالي من الخلل الصبغي أي من العرق النعار:طفرات بروتين الهيموغلوبين.
الهيموغلوبين بروتين يقوم بنقل الأوكسيجين من الرئتين و يوصله إلى خلايا الجسم لتمده بالطاقة اللازمة.
ص: 547
من الطفرات:
-هيموغلوبين( HB-SS ):الذي ينتج عن استبدال الحمض الأميني الجلوتاميك في الموضع 6- B بحمض الفالين مما يغير من طبيعة الهيموغلوبين فيترسب بالشيفرات الدموية و يسبب تحلل الكريات الدموية«الآنيميا المنجلية».
-هيموغلوبين هامر سميث( HB-HS ):ينشأ عن استبدال حمض الفنيل الآنين في الموضع 42- B بحمض السرين فيصبح الهيموغلوبين غير مستقر.
-الثاليثميا:يوجه الصبغي(11)تسلسل الأحماض الأمينية في السلسلة بيتا، بينما يوجه الصبغي(16)تسلسل الأحماض الأمينية في السلسلة ألفا،و عند ما يفشل توجيه الصبغي(11)يصبح الهيموغلوبين مكونا فقط من سلسلة ألفا و لا يتمشى مع الحياة(فيموت الجنين HYDROPS FETALIS )،و عند ما يفشل توجيه الصبغي(16) يتوقف إنتاج السلسلة ألفا و يصبح المريض عرضة لتحلل كريات الدم الحمراء.
من خلال تلك الأمثلة نرى أن مخالفة الحمض الأميني لمواقعه يؤدي إلى أذى و أوجاع.
إلى ذلك فإن المورّثات تقوم بحماية الجسم من السرطان.فهناك مجموعة من المورّثات تتحكم في النمو المنتظم المبرمج للخلية بما يتماشى مع طبيعة عملها و تسمى:(برو أونكوجان PRO-ONCOGENE )و تحت ظروف خاصة تفقد هذه المورّثات القدرة على ضبط نمو الخلية و يصبح النمو عشوائيا محدثا الفتن في الجسد و ممهدا الطريق إلى إحداث السرطان،و عندئذ تصبح مورّثات مكونة للسرطان تسمى:(أونكوجان ONCOGENE )فيصبح الصبغي الذي يحمل تلك المورّثات مولّدا للأوجاع أي عرق نعار.فمثلا ينتقل المورّث CAB 1 من موضعه بالذراع الطويلة للصبغي 9 إلى موضع آخر بالذراع الطويل للصبغي 22 فيخالف طبيعة الجسم و يعرض الشخص للإصابة بالأذى(سرطان الدم النخاعي المزمن).
و من الأمثلة أيضا:يتكثف المورّث N-MYC بدرجة عالية أي يفور بشدة تصل إلى 200 ضعف مما يسبب ورم الجذيع العصبي (1).
و هكذا يتبيّن لنا لما ذا استعاذ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من شر العرق النعّار.ف.
ص: 548
نودّ الإشارة إلى أن بعض الأمراض مثل:(الالتهابات INFECTIONS )(حيث تحدث طفرات جينية بسبب الفيروسات)و بعض حالات السرطانات مثل:سرطان الدم(اللوكيميا LEUKEMIA )،و(أمراض الغدد اللمفاوية LYMPHOMA )يرافقها ارتفاع في حرارة الجسم أي الحمى التي ذكرها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
و في النهاية نود التعليق على الحديث السابق،و نرد على ما يثار عليه من شبهات أن هذا الحديث يعالج قضية العروق التي يجري فيها الدم،فإذا قصدنا هذا المعنى،فإن هذا المعنى يتعارض مع العلم الذي أوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و العلم الكوني،حيث إنهما يتلاءمان دون أدنى تعارض،فلا يعقل أن يرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الأمراض كلّها إلى العروق التي يجري فيها الدم،فالأمراض التي لها علاقة بالعروق التي يجري فيها الدم قليلة جدا،أما إذا أعدنا معنى العروق إلى الصبغيات،فيصبح المعنى يتلاءم مع العلم أكثر.
و يعضد تفسيرنا الحديث:«ما من مريض يقول:سبحان الملك القدوس الرحمن الملك الديّان،لا إله إلا أنت مسكّن العروق الضّاربة،و منيّم العيون الساهرة إلا شفاه اللّه تعالى»[رواه ابن أبي الدنيا ح 92].فهو يتحدث عن العروق التي تضرب و تؤذي الجسم من خلال نشاطها المختل.فكلمة«مسكّن»تشير إلى أن العروق في نشاط ديناميكي،و لو لا أن يسكّن اللّه عزّ و جلّ نشاطها بحيث أن يمنع فورانها على غير ما جرت عليه العادة،أي أن يمنع(طفراتها MUTATIONS )،لأحدثت أمراضا عديدة.
فلفظ:«ما من مريض»على إطلاقه،و هو يعني بالتالي أي مرض،و هذا يتوافق مع صياغة الحديث الأول:«كان يعلّمهم من الحمى و من الأوجاع كلها»[أخرجه الترمذي ح 70].و العلم أثبت أن العروق في حركة ديناميكية مستمرة كما أثبت طفراتها.و لقد تحدثنا عن طفرات العروق فيما سبق،و أما عن نشاطها الديناميكي،فنورد ما جاء في كتاب:«الآيات العجاب في رحلة الإنجاب»،فهو يعطينا فكرة واضحة عن حركة الصبغيات:«و الحلزون الذي نتحدث عنه(أي حلزون الدي أن آي)ليس ساكنا،بل هو في حالة ديناميكية مستمرة تتوالى فيها عمليات التفكك و التكثيف تمشيا مع حالة الخلية من استقرار أو انقسام،و حسب المتطلبات البيولوجية مثل:استنساخ(الآر إن آي RNA )لاصطناع بروتينات الجسم الحيوية،حتى إن عدد مرات الالتواء و الطي و التفكك و غيرها من الحركات يقدر بمليون حركة في الثانية...!» (1).5.
ص: 549
لقد بيّنت لنا الأحاديث الشريفة سالفة الذكر دور الصبغيات في توارث الصفات من الآباء إلى الأبناء،كما أنها بيّنت لنا دور الصبغيات في تخلق الجنين.أما هذا الحديث فهو يمتاز عن الأحاديث الأخرى بأنه يسلط الضوء على دور آخر للصبغيات و هو تسبب الصبغيات في إحداث الأمراض عبر طفراتها.
قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45].
نفهم من ظاهر الآية الكريمة أن كل دابة-أي كل ما يدب على الأرض- خلقت من ماء.
هذا الماء ليس هو«الماء»الذي نشربه و نسقي به الزرع...،و الدليل على ذلك:أنه نكّر،أي جاء في صيغة النكرة،و لم يعرّف بأل التعريف.
فلو عرّف بأل التي هي للجنس،لأصبح من ألفاظ الأجناس التي تدل على الماهية (1).
جاء في تفسير الألوسي:«...و تنكير الماء هنا و تعريفه في قوله تعالى:
وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا و القصد هناك إلى معنى الجنس...» (2).
و بالتالي فإن الآية تشير إلى ماء معين.
و بما أن السياق القرآني يتكلم عن الدواب،فإن هذا الماء مخصوص بتلك الدواب،بل مخصوص بكل دابة ذكرت في الآية.
جاء في البحر المحيط:«...و نكر الماء هنا و عرف في: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]لأن المعنى هنا: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ [النور:45]من نوع من الماء مختص بهذه الدابة» (3).
ص: 550
قال السيوطي:«قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور:45]أي كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع الماء و كل فرد من أفراد الدواب من فرد من أفراد النطف» (1).
و كلمة«من»هنا-كما يذكر المفسرون-جاءت لابتداء الغاية،جاء في البحر المحيط:«و(من)لابتداء الغاية،أي ابتدأ خلقها من الماء...» (2)،و بالتالي فإن معنى الآية يصبح:و الله ابتدأ خلق كل دابة من ماء مخصوص بها.
فإذا كان الكلام عن ابتداء الخلق و عن تخصيصه لكل دابة،فهمنا أن هذا الماء هو الماء الذي تتخلق منه أجنّة الحيوانات.
و بالتالي فإن الماء المعني هو الجزء من الماء الذي يسبب التخلق،وفقا لما قال الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما من كل الماء يكون الولد»[أخرجه مسلم ح 17]:أي من النطفة.
جاء في أوضح التفاسير:« وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور:45]:أي من نطفة؛و ذلك لأنها سائلة،و أغلبها ماء» (3).
جاء في تفسير البيضاوي:« مِنْ ماءٍ هو جزء مادته،أو ماء مخصوص هو النطفة» (4).
و من هنا نفهم أن الآية تعني:و اللّه ابتدأ خلق كل دابة من نطفة خاصة بها.
و من ثمّ تكلمت الآية عن أنواع الدواب:فمنها من يمشي على بطنه،و منها من يمشي على رجلين،و منها من يمشي على أربع.
جاء في تفسير النسفي:« مِنْ ماءٍ أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص و هو النطفة،ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوامّ و منها بهائم و منها أناسي» (5).).
ص: 551
فإذا كان الكلام عن نطف معينة،و عن أنواع الدواب،فهمنا أن سبب تنوع الخلق هو تنوع النطف،أي أن التركيبات المختلفة للنطف تؤدي تبعا إلى نشأة حيوانات مختلفة.
و من الجدير بالذكر أن الآية لا تتكلم عن أنواع معينة من الحيوانات،بل تقصد تبيان سبب تنويع خلق الحيوانات،ليس إلا.جاء في تفسير أبي السعود:« مِنْ ماءٍ هو جزء مادته أو ماء مخصوص هو النّطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ لأنّ من الحيوانات ما يتولّد لا عن نطفة...و تذكير الضّمير في منهم لتغليب العقلاء، و التّعبير عن الأصناف بكلمة من ليوافق التّفصيل الإجمال،و التّرتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ [النور:45]ممّا ذكر و ممّا لم يذكر بسيطا كان أو مركّبا على ما يشاء من الصّور...» (1).
و هذا التنويع هو دلالة على قدرة الخالق،و تعظيم لشأنه،و بيان أن اللّه تعالى قادر على خلق أنواع مختلفة من النطف،فينتج عن ذلك خلق أنواع مختلفة من الحيوانات،و هو بأسرار خلقه خبير.يقول اللّه تعالى: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14) [الملك:14].
جاء في تفسير أبي السعود:« يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ ممّا ذكر و ممّا لم يذكر بسيطا كان أو مركّبا على ما يشاء من الصّور...و إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور و الإيذان بأنّه من أحكام الألوهيّة: إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45].فيفعل ما يشاء كما يشاء» (2).
و تفصيلا:إن أهم ما في النطف،هو العروق التي تسبب تخلق الكائن الحيواني كما جاء في الحديث:«فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[رواه الطبراني ح 21].فهذا الحديث ينص على أن ماء الرجل ينتشر بين عروق نطفة المرأة،أي أن النطفة تحتوي على عروق (3).».
ص: 552
و هذه العروق موجودة في نطف سائر الحيوانات كما هي موجودة في نطف الإنسان،كما نستنبطه من الحديث النبوي الشريف التالي،حيث قاس الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بين الدواب و البشر:(أن أعرابيا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:يا رسول اللّه:إن امرأتي ولدت غلاما أسود.و إني أنكرته.فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«هل لك من إبل؟»قال:نعم.
قال:«ما ألوانها؟»قال:حمر.قال:«هل فيها من أورق؟»[أسمر أو ما كان لونه كلون الرماد].قال:نعم.قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنى هو؟»قال:لعلّه،يا رسول اللّه يكون نزعه عرق له.فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هذا لعله يكون نزعه عرق له»)[أخرجه مسلم ح 65].
و نفهم من الحديث السابق أيضا أن هذه العروق تعطي صفات الحيوانات، و بالتالي خلقها المخصوص بها و تركيبتها الفريدة،و بالتالي فإن اختلاف خلق الحيوانات سببه اختلاف تركيبة عروق نطف الحيوانات.
و بعد أن جمعنا بين النصوص الشرعية،و استعرضنا بعض الأدلة،فهمنا أن الآية تعني:و الله خلق كل دابة من نطفة مخصوصة بها،و خالف بين خلق سائر الحيوانات من خلال اختلاف خلق و عدد عروق نطف تلك الحيوانات،التي تعطيها خلقا خاصا بها تبعا لما تحتوي هذه العروق من مورثات.
و قد أقرّ العلم الكوني هذه الظاهرة،و أظهر الإعجاز العلمي في القرآن بعد نزوله من نحو 1400 سنة.
و للعلم فإن كل حيوان يمتاز بصبغيات مختلفة،و بأعداد مختلفة من هذه الصبغيات،تعطي كل حيوان خلقه الخاص به.
و كل من هذه الصبغيات مؤلفة من عرقين متحدين.
جاء في كتاب الإنسان النامي:«(الكروماتيد CHROMATID )[أي الصبغي] يتألف من(حبلين مجدولين STRANDS )متوازيين» (1).
و نسرد فيما يلي بعض الأمثلة عن عدد عروق بعض الحيوانات،بما في ذلك الإنسان(الذي يعتبر من الناحية البيولوجية حيوان سام ناطق):8.
ص: 553
المخلوق عدد الصبغيات عدد العروق
الإنسان\46\46*2 92
القرد\48\48*2 96
الأرنب\44\44*2 88
الخنزير\40\40*2 80
الغنم\54\54*2 108
الحصان\66\66*2 132
الكلب\78\78*2 156
هذا و قد حدد الحديث الذي رواه عبد اللّه بن بريدة رضي اللّه عنه:(أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود،فأخذ بيد امرأته فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:
و الذي بعثك بالحق لقد تزوجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«صدقت،إن لك تسعة و تسعين عرقا،و له مثل ذلك،إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»)[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]أن للإنسان عددا محددا من العروق يمتاز بها.و هذا أمر لم تعرفه البشرية قبل عام 1912 م،حيث أعلن(فون ويني وارتر VON WINIWARTER )أن الخلايا البشرية تحتوي على سبع و أربعين صبغية (1).
و من الجدير بالذكر أن ظاهر الحديث يشير إلى أن للمرأة تسعة و تسعين عرقا، مع العلم أن للمرأة ملايين من الخلايا و بالتالي ملايين من العروق،و في كل من هذه الخلايا ستة و أربعين صبغية،أي اثنين و تسعين عرقا،و بالتالي حتى يصح معنى الحديث و يصبح مقبولا لا بد من تقدير كلام لازم مسكوت عنه،و تقديره:إن لنطفتك تسعة و تسعين عرقا،و هذا ما يعرف بأصول الفقه الإسلامي«باقتضاء النص»، و هو حجة يعتد بها عند سائر الفقهاء (2).
كذلك نفهم من صياغة الحديث أن عدد العروق مقيّد بوقت خلق الإنسان، و ذلك أن الحديث أشار إلى حين خلق الجنين بلفظ:«صدقت،إن لك تسعة و تسعين عرقا،و له مثل ذلك،إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق».
ص: 554
إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له».و بالفعل فإن للحيوان المنوي عند دخول البويضة ثلاثا و عشرين صبغية،كل واحدة منهن مؤلفة من حبلين،أي أن للحيوان المنوي ستة و أربعين عرقا،و للبويضة في بادئ الأمر ست و أربعون صبغية،و عند دخول الحيوان المنوي البويضة تستكمل البويضة(انقسامها الميوزي الثاني SECOND MEIOTIC DIVISION )و يصبح عدد صبغياتها ثلاثا و عشرين،مؤلفة كل واحدة منها أيضا من حبلين،أي أنه يصبح للبويضة ستة و أربعون عرقا.و عند اقتراب نواتي الحيوان المنوي و البويضة بعضهما من بعض،و قبل انصارهما-أي عند ما يحين خلق الولد بانصهار النواتين-يتضاعف عدد صبغيات كل من النواتين ليصبح كل منهما يحتوي على ست و أربعين صبغية (1)،أي لتصبح كل واحدة منهن تحتوي على اثنين و تسعين عرقا،و بالتالي فيصبح للرجل عددا مماثلا لعدد المرأة من العروق؛ و هو اثنان و تسعون حبلا،كما ينص عليه الحديث:«و له مثل ذلك...»،فيتحقق نص الحديث السالف ذكره،و يبرز النبأ العظيم قبل أكثر من قرن على اكتشافه من قبل العلماء الكونيين.
و يعود الاختلاف بين عدد العروق في الحديث و عدد العروق التي ينص عليها العلم الكوني لخلل في سند الحديث السابق لجهالة في الإسناد (2)،و بالتالي خلل في متنه،و لنسيان بعض الصحابة و التابعين رضي اللّه عنهم لما قاله الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،مع حرصهم على ضبط و حفظ كل ما سمعوه،فجلّ من لا يسهو.و نعطي مثالا-لربما كان نتيجة نسيان بعض الصحابة و التابعين رضي اللّه عنهم لما سمعوه،مما يشير إلى أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تكلّم بالحق و من ثمّ اختلطت ألفاظ الحديث من بعده-:فالأحاديث التي تكلمت عن حادثة«جمع خلق الإنسان»رويت بمتون مختلفة،و بطرق مختلفة عن صحابة و تابعين رضي اللّه عنهم،و نصّت النصوص الحديثية على أن خلق الإنسان يتمّ في غضون:
أربعين،اثنين و أربعين،ثلاثة و أربعين،خمسة و أربعين،و بضع أربعين يوما (3).
و روت بعض المتون أن مدة«جمع الخلق»هي أربعون ليلة،و بعضها الآخر أربعون يوما،و جاء في متن من المتون أن فترة«العلقة»و فترة«المضغة»تقع في تلك المدّة كما دلّت عليه عبارة«في ذلك»،بينما سقط هذا اللفظ من متن آخر.».
ص: 555
و من الملفت للنظر أننا نلاحظ في جميع هذه المتون أن رأس العدد،أي عدد الأربعين،لم يتخلله خطأ،بينما حدث السهو في الرقم الفرعي؛أي رقم اثنين، و ثلاثة،و خمسة إلخ،مما يشير إلى سهو بعض الرجال عن التفاصيل التي جاءت في تلك المتون.و هذا ما تكرّر في الحديث الذي رواه عبد اللّه بن بريدة رضي اللّه عنه حيث تذكّر رجال الإسناد رأس العدد جيدا؛أي رقم تسعين،بينما سهوا في العدد الفرعي؛أي رقم تسعة،و انظر كلامنا عن التصحيف في«الملحق»المرفق في آخر الكتاب.
و على كل حال يشهد لصدق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أحاديث أخرى تنص على إعجاز رقمي دقيق للغاية،لم يسه فيه الرجال الذين رووها عن شيء مما قاله الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و الأحاديث هي:عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إنّه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين و ثلاثمائة مفصل،فمن كبّر اللّه،و حمد اللّه،و هلّل اللّه،و سبّح اللّه،و استغفر اللّه،و عزل حجرا عن طريق الناس،أو شوكة أو عظما عن طريق الناس،و أمر بمعروف،أو نهى عن منكر،عدد تلك السّتّين و الثلاثمائة السّلامى فإنّه يمشي يومئذ و قد زحزح نفسه عن النار»[أخرجه مسلم ح 42]،و«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة،فجامع الرجل المرأة،طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع،جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8][رواه الطبراني ح 21].
و نود الإشارة إلى أنه،إضافة إلى ذكر عدد العروق،أشار الحديث إلى أن لنطفة الرجل و نطفة المرأة عددا مماثلا من العروق،و حدد وقت وجود هذا العدد من العروق،و هذه دقّة فائقة في تحديد الحقائق العلمية.
و إذا قابلنا الحديث:«نطفة الرجل بيضاء غليظة و نطفة المرأة صفراء رقيقة...» [ذكره ابن هشام ح 69]مع الحديث السابق(رقم 22)فهمنا أن الاختلاف بين الرجل و المرأة لا يعود لاختلاف عدد العروق بينهما،بل لاختلاف محتوى خلايا الرجل و المرأة،و بالتالي لاختلاف محتوى هذه العروق،لأن رقم العروق ثابت في الحديث (رقم 22)عند كل من الطرفين،بينما يعود الاختلاف في الحديث(رقم 69)في صفة النطفة الذكرية و الأنثوية في اللون و الكثافة و غيرها في الحديث(رقم 69)،و هذا ما قرره العلم الكوني حيث إن الرجل يمتاز باتحاد الصبغي(ص Y )مع الصبغي (س X )،أما المرأة فإن صبغياتها الجنسية تتألف من(س س XX ) (1).».
ص: 556
و بعد:فإن الحديث:«صدقت،إن لك تسعة و تسعين عرقا،و له مثل ذلك، إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22]يشير إلى أن للإنسان على العموم تسعة و تسعين عرقا،و يشير مفهوم المخالفة عندئذ (1)،أن لغير الإنسان-أي لكل كائن آخر-عددا مغايرا من العروق،و هذا ما توصلنا إليه من قبل في هذا البحث،و هذا ما أشارت إليه الآية: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45) [النور:45].
فاعتبروا يا أولي الأبصار قد أنزل اللّه إليكم ذكرا،حتى يتذكّر من أراد أن يذّكر، فيهلك من هلك عن بينة،و يحيى من حيّ عن بينة.
إن التكلم عن مكان وجود الصبغيات التي تتحكم بتخلق الجنين بإذن ربها (2)، و التكلم عن كيفية اصطفافها في هذا المكان من غلظة ورقة (3)،و التكلم عن تحرك الصبغيات من امتداد و انقباض (4)و انتشار (5)عند تخلق الجنين،و التكلم عن دورها في إذكار أو إيناث الجنين (6)،و التكلم عن دورها في إعطاء الجنين خصائص تشبه خصائص آبائه (7)،و التكلم عن تنحي و سيطرة خصائصها (8)،و التكلم عن علاقة
ص: 557
الصبغيات بعضها ببعض من نزع للمورثات (1)،و الإشارة إلى أنها سبب لتركيب الجنين (2)كما يشير إليه معنى كلمة«عرق»و كلمة«عصب».(3)،و التكلم عن أهمية وجود الظلمة لتفادي الطفرات الجينية (4)كما في الآية: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى... [الحج:5].(5)،و التكلم عن الطفرات الصبغية و دورها في إحداث الأمراض (6)،و التكلم عن بعض النتائج للطفرات الجينية في إحداث الإجهاض المبكر عند وقوع النطفة في الرحم (7)، و التكلم عن الفترة التي يخف فيها أثر تلك الطفرات من إجهاض مبكر (6)و تشوهات جنينية (8)،بل و الإشارة إلى شكل الصبغيات من طول و ترابط بعضها ببعض (8)لا يمكن أن يكون على سبيل المصادفة،و لا يدع مجالا للشك أن الذي بعث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يعلم تمام العلم النظام الجيني السائد لدى الإنسان.
الشريفة:
هذا الباب هو جزء من علم الوراثة و علم التخلق:ذلك لأنه علم قائم بحد ذاته متشعب و دقيق.و قد وضع الإسلام أسسا مهمة لمنع حدوث التشوهات و الأمراض، بينما كانت الأمم في جهل تام عما يستطيع أن يصيبها و لم تكتشفها إلا في الآونة الأخيرة مما يدل على مدى إعجاز النبوءات التي تفوه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
ص: 558
أما هذه الأسس فتتلخص بمجموعة من الآيات و الأحاديث هي كالآتي:
-الآية الأولى:قال اللّه تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً(117) لَعَنَهُ اللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً(118)... وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ... [النساء:117-119].
-الآية الثانية:قال اللّه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء:23].
-الحديث الأول:«و انظر في أي نصاب تضع ولدك،فإن العرق دساس» [ذكره العجلوني ح 71].
-الحديث الثاني:«اغتربوا لا تضووا»[ذكره ابن قتيبة ح 75].
-الحديث الثالث:«لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا»[ذكره ابن حجر ح 75].
-الحديث الرابع:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يحرّم من الرضاع ما يحرّم من النسب»[أخرجه البخاري ح 54].
-الحديث الخامس:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[أخرجه ابن ماجة ح 72].
-الآية الثالثة:قال اللّه تعالى: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4].
-الحديث السادس:قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما جعل اللّه لمسخ نسلا و لا عقبا»[أخرجه مسلم ح 73].
*قال اللّه تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً(117) لَعَنَهُ اللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً(118)... وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ... [النساء:
117-119].
ص: 559
هذه الآية لها علاقة غير مباشرة بموضوعنا هذا و هي تنص على أن الشيطان سوف يحاول إثارة الجنس البشري على إحداث تغييرات في خلق اللّه كما أخبرنا رب العالمين عزّ و جلّ سواء كان حيوانا أو إنسانا،فلفظ«خلق اللّه»على إطلاقه (1).
كيف تتم في عصرنا التغييرات الخلقية؟.
تتم التغييرات في الخلق المرتبطة بالإنسان بعمليات التحويل من ذكر إلى أنثى عبر جب قضيبه و إيجاد مهبل و فرج صناعي له و إعطائه هرمونات أنوثة مكثفة لتظهر له أثداء:على سبيل المثال:نقصّ قصة الشاب البريطاني الذي أجريت له عملية جراحية عام 1980 م لتحويله إلى امرأة ثم قامت المحكمة بتزويجه على أنه أنثى إلى أحد اللوردات (2).
هناك قصة أخرى عن الشاب المعروف باسم سالي و هو طالب بكلية الطب في جامعة الأزهر حيث قام أحد القوادين من الأطباء بتحويله إلى أنثى (3).
و قد نشرت مجلة(مختصر الأمراض الباطنية و أمراض النساء و الولادة MEDICINE,GYNC,OBST,DIGEST )عدد فبراير 1981 م بحثا عن كيفية إجراء عملية إيجاد مهبل و فرج صناعي للشاذين جنسيا.3.
ص: 560
أما على الصعيد الجنيني فهناك تغييرات حصلت من خلال أبحاث تشمل الإخصاب بين الجنس البشري و الحيوان و تعرف هذه الظاهرة(بالكلونيغ CLONING ).كما أن هناك أبحاثا تشمل استنساخ أجنة حيوانات و هي بطريقها إلى استنساخ أجنة بشرية،و تعتبر عمليات الاستنساخ هذه عمليات غير طبيعية مخالفة للقانون الطبيعي الذي وضعه اللّه على الأرض لإنجاب أجنة بشرية و ذلك لأن مادة الاستنساخ و طريقة الإخصاب غير طبيعية.
تتمثل عملية الاستنساخ في استخلاص بويضة غير مخصبة من الأنثى و استبعاد نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية و زرع نواة خلية عادية محتوية على 46(صبغية CHROMOSOME )متخذة من خلية بالغين في هذه البويضة و هذا ما يعرف:
(بالازدراع النووي NUCLEAR TRANSPLANTATION )،ثم تزرع البويضة داخل رحم الأنثى و يصبح الجنين المتكوّن نسخة من الشخص الذي وهب نواة الخلية العادية.و تتمثل الصعوبة الكبرى في تحفيز البويضة للعمل و كأنها خضعت لعملية التلقيح فعلا بواسطة الحيوان المنوي و من ثم قيامها بعمليات انقسام كما لو أنها تحولت إلى جنين حديث (1).(انظر الصورة رقم:137).
كما أسلفنا القول فإن مادة الاستنساخ غير طبيعية و ذلك لأن المادة الأساسية للإخصاب استبعدت(نواة البويضة)و استبدلت بها مادة لم تخلق للإخصاب(نواة خلية بشرية).
كما أن الطريقة غير طبيعية:فالبويضة المخصبة اصطناعيا تحتاج لتقنيات لحفزها على الانقسام و العمل و هي طريقة غير طبيعية،و قد تؤثر على تركيبة هذه الخلية.
أضف إلى ذلك أن(الحامض النووي DNA )لنواة الخلية العادية قد يحتوي على عيوب،و ذلك نتيجة تعرّض الخلية العادية أثناء حياة الإنسان إلى العديد من المؤثرات،كأشعة الشمس و السموم،و بسبب الأخطاء المتوقعة أثناء عملية تضاعف الحامض النووي في دورة حياة هذه الخلية (2).3.
ص: 561
و قد استعمل هذا الأسلوب على الحيوانات في أستراليا و اليابان و أميركا و بريطانيا و قد أصبح منتشرا إلى حد كبير،و كلنا نعرف قصة النعجة«دولي»الشهيرة التي تعد أول حيوان استنسخ.
و هكذا تعتبر هذه العملية تغييرا في خلق اللّه و ذلك من بداية التخلق البشري.
ص: 562
إن طريقة الازدراع النووي مباحة ضمن حدود الشرع في عملية بناء أنسجة مختلف أعضاء الجسم للأغراض الترميمية أو التأهيلية لأنها تعيد للشخص فاقد العضو إمكانية تعويضه عن خسارته،و لكنها غير مباحة لأن تحل محل سنة اللّه عزّ و جلّ في التخلّق البشري(كالاستنساخ).فمن مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النفس و النسل،و هذا يقتضي تجنيد الطاقات للحفاظ عليهما،و استخدام طريقة الازدراع النووي لعلاج الأمراض(مثل:أمراض المخ و نخاع العظم و الكبد و الكلى) هي طريقة من الطرق المتاحة لحفظ النفس من العاهات التي تصيبه.
*قال اللّه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء:23].
إن أسباب التشوهات التي تصيب بعض الأجنة كثيرة:أحد هذه الأسباب هو:
الزواج من الأقارب أو ما يسمى(بالكونسوغينيتي CONSANGUINITY ).لذا أنزلت هذه الآية التي وضعت الحد الأدنى لهذه العلاقات حتى لا يتأذى منها الإنسان،هذا بغض النظر عن العواقب الاجتماعية و الدينية الوخيمة التي قد ترافقها.فالزواج من الأقارب يظهر الصفات و الأمراض المتنحية التي كانت غير ظاهرة مما يؤدي إلى تشوهات قد تصيب الناتج الوراثي(أي المولود).
هذه العواقب الوراثية تتلخص بأن هناك احتمالات كبيرة بأن يحصل للناتج الوراثي(أي المولود)من تلك العلاقات المحرمة(مثل:أن يتزوج أمه أو أخته...) تشوهات خطيرة تؤدي إلى إعاقته خلال باقي حياته أو تؤدي إلى وفاته على الفور.
و هذا يحصل عند ما يتقاسم الوالدان مورثات غير طبيعية كما أكده الدكتور جولي سمبسون (1)و قد قسم احتمالات إصابة المولود بتلك التشوهات عبر إيضاح نسب تقاسم المورثات(إذ إن نسبة تقاسم المورثات تؤدي إلى زيادة احتمال مشج المورثات غير الطبيعية)و قد قسم هذه الاحتمالات عبر جداول فحواها كالآتي:
ص: 563
طبيعة العلاقة نسب تقاسم المورثات بالمائة الآباء 50
الأبناء 50
الأخوة 50
طبيعة العلاقة نسب تقاسم المورثات بالمائة
آباء الآباء 25
أبناء الأبناء 25
بنت الأخ أو بنت الأخت 25
طبيعة العلاقة نسب تقاسم المورثات بالمائة
أبناء العم أو أبناء العمة 12
أبناء الخال أو أبناء الخالة 12
عمات الآباء 12
و قد اعترف أنه ليس له إحصائية دقيقة عن نسب التشوهات الخلقية،و الوفيات الحاصلة من تلك العلاقات؛ذلك أن الموضوع لم يدرس بالتفصيل من قبل علماء الوراثة،بيد أنه يستطيع أن يعطينا فكرة عن الموضوع و ذلك بإبراز إحصائيات تدل على مدى التشوهات الخلقية الناتجة عن علاقات غير محرّمة و لكن قريبة(على سبيل المثال علاقات جنسية بين أبناء العم)و الإحصائيات هي:
نسبة التشوهات بالمائة عند آباء ليس\عند آباء ذات\البلد
لهم صلة قرابة\صلة قرابة(أبناء عم) 81,0\48,1\الهند
02,1\69,1\اليابان
58,1\03,2\البرازيل
04,1\31,1\ماليزيا
ص: 564
حديث:«و انظر في أي نصاب تضع ولدك،فإن العرق دساس»[ذكره العجلوني ح 71].
حديث:«اغتربوا لا تضووا»[ذكره ابن قتيبة ح 75].
حديث:«لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا»[ذكره ابن حجر ح 75].
إن الزواج من الأقارب يظهر الصفات و الأمراض الوراثية المتنحية منها(الأمراض التي بها خلل في الأيض INBORN ERROR OF METABOLISM )(الاستقلاب)مثل:
(مرض ويلسون WILSON'S DISEASE )،و(مرض تيساك TAY-SACHS )،و(البرص الوراثي ALBINISM )،و(البول الأسود PHENYLKETONURIA )،و(مرض التليّف CYSTIC FIBROSIS )،و عددها يزيد عن مائة مرض معروف لدى الأطباء المختصين.
هذه الأمراض لا تظهر-حسب قانون مندل-إلا إذا أخذ الجنين صفة مشتركة من الأبوين.و هذه الظاهرة أشار إليها الحديث:«انظر في أي نصاب تضع ولدك،فإن العرق دساس»[ذكره العجلوني ح 71]،فالصفات كانت غير ظاهرة،و من ثمّ ظهرت من جراء التقاء الصفات المشتركة،و لذلك يدعونا الحديث الشريف إلى النظر في أي نصاب نضع نطفنا لئلا تظهر الصفات المدسوسة،و بالتالي أن نتجنب الزوج الذي يسبب ظهور الصفات المتنحية غير السليمة(و نفهم منه أن نجتنب الزوج الذي يحمل صبغيات شبيهة).و بما أن المجتمع يحمل العديد من هذه الصفات المتنحية فإن احتمال ظهور المرض في الذرية ضعيف إذا كان الزواج من الأباعد و ذلك للاحتمال الضعيف أن تلتقي المورّثات الشبيهة لهذا المرض أو ذاك.و يشهد لهذه الظاهرة الحديثان:«اغتربوا لا تضووا»[ذكره ابن قتيبة ح 75]،و«لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا»[ذكره ابن حجر ح 75].
جاء في لسان العرب (1):«ضوا:...و في الحديث:اغتربوا لا تضووا.أي تزوجوا في البعاد الأنساب لا في الأقارب لئلا تضوى أولادكم،و قيل:معناه انكحوا في الغرائب دون القرائب...و قيل:معناه تزوجوا في الأجنبيات...و معنى لا تضووا أي:لا تأتوا بأولاد ضاوين أي ضعفاء...و منه لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا...و قال:جاء عن الفراء أنه قال:ضاوي ضعيف فاسد...».
ص: 565
و نشير هنا إلى أن احتمال الإصابة بالأمراض يزيد إذا كان الزواج من الأقارب و خصوصا إذا كانت علاقة الدم من الدرجة الأولى،لذلك حرم اللّه-سبحانه و تعالى- الزواج بين هؤلاء الأشخاص قائلا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء:23].
*قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لم تظهر الفاحشة في قوم قط،حتى يعلنوا بها،إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[أخرجه ابن ماجة ح 72].
في المبحث السابق أتينا على ذكر سبب من الأسباب التي تؤدي إلى تشوهات في الجنين.و كما قلنا هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إليها،و من هذه الأسباب:العلاقات الجنسية العديدة المختلطة غير المنظمة التي تؤدي إلى أمراض جنسية.هذه الأمراض بدورها تؤدي إلى تشوهات جنينية.
لذا كان من الضروري أن يحذرنا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من هذه العلاقات،و يلقي الضوء على أنها تظهر مشاكل نحن بغنى عنها.
يفسر لنا الدكتور كيث مور هذه الظاهرة (1)قائلا:«إن التشوهات التخلقية قد تنتج من عوامل معدية:فالعلاقات الجنسية ذات الطابع المختلط قد ارتبطت منذ القدم(بمرض السيفيليس SYPHILIS )و(مرض السيلان المخاطي GONORRHEA ) أو ما يسمى التعقيبة.
فهناك ازدياد مقلق للأمراض الزهرية التي ليس لها علاج في الوقت الحاضر:
منها(الهربس HERPES )و(مرض قصور المناعة المكتسب الإيدز AIDS )...كما أن العلاقات المختلطة قد تؤدي(عند المرأة)إلى(تشوهات في الجهاز التناسلي CERVICAL DYSPLASIA )مع احتمال أن يكون المرض خبيثا.إن تطور هذه الأمراض مرتبط بمعدل الجماع مع كثرة الشركاء».
و هكذا يتبين لنا أن تعدد الشركاء و الفاحشة يؤدي إلى أمراض زهرية،و هي بدورها تؤدي إلى تشوهات في الجنين.على سبيل المثال:فإن مرض الهربس يؤدي
ص: 566
إلى تشوهات عند الجنين مثل:(قصور في نمو المخ MICROCEPHALY )،و(صغر حجم كرة العين MICROPHTHALMIA )،و(تشوهات شبكية العين RETINAL DYSPLASIA ).
إن مرض السفيليس إن لم يعالج في الحمل قد يؤدي في أكثر الأحيان إلى تشوهات جنينية خطيرة.إن ميكروب السفيليس(تريبونما باليدوم TREPONEMA PALLIDUM ) قد يؤدي إلى صمم عند الجنين أو إلى(تضخم رأسه HYDROCEPHALUS )أو إلى قصور عقلي مع تشوهات في نمو الحنك و الأنف و الأسنان.
و الحديث إن لم يكن إعجازا في مجال تخلق الأجنة لأنه لا يشير مباشرة إلى حدوث تشوهات جنينية،إلا أنه يعتبر تحذيرا مثاليا للأمم من أن الأمراض و الأوجاع لن تستثني أحدا،بما فيهم الأولاد و الأجنة،و ذلك لأن لفظ«قوم»جاء في الحديث، و هذا اللفظ عام يشمل جميع أفراد المجتمع،غير أن هذا الحديث يعتبر إعجازا في المجال الجنسي.فعلى سبيل المثال:إن الأيدز مرض جديد يحصد المجتمعات التي تتفشى فيها الرذيلة و لم يكن موجودا من قبل،فآخر المعلومات تشير إلى أنه ظهر عام 1930 ميلادية لدى الإنسان (1)،و عرفت أعراضه عام 1981 م،و من ثمّ اكتشف الفيروس المسبب له عام 1984 م،و فشا في المجتمعات الإباحية في الآونة الأخيرة عند ما كثر الفساد،تماما كما جاء في الحديث الشريف:«لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[أخرجه ابن ماجة ح 72].
*قال اللّه تعالى: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... [الأحزاب:4].
«إن الإبداع الطبي في الإسلام نبع متجدد على مدى الأزمنة،فبالرغم من الحالات النادرة للأطفال المعوّقين خلقيا استطاع العلماء تسجيلها مثل:زيادة أحد الأصابع،أو تلاحقها باليدين،أو القدمين،أو ازدواج الأمعاء،أو الحالب،أو التحام جزئي أو كليّ لتوأمين،أو ظهور فصّ زائد بالكبد،أو كلية ثالثة،أو ظهور
ص: 567
بعض الزوائد في نهاية العمود الفقري على شكل ذيل...أو تلك الحالات النادرة مثل:وجود مبيض متّحد مع خصية،أو ملاحظة وجود أكياس غريبة في المبيض،أو الخصية تحتوي على بعض الأسنان أو الشعر و قد سجّلتها عدسات الكاميرات،أو الأشعة التشخيصية،و طبعت على شرائط الفيديو لمناقشتها و دراستها على أنها تشوهات غريبة يمكن أن يصاب بها الجنين.
إلا أننا لم نلاحظ تسجيلا مكتوبا أو مصوّرا أو رواية منقولة شفهية منذ بدء الخليقة لطفل واحد مولود له قلبان مطلقا (1)...و ذلك تصديقا لقوله تعالى:).
ص: 568
ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... [الأحزاب:4]مخالفين بذلك التفسير المعنوي لهذه الآية لأننا نجدها معجزة علمية ينبغي تفسيرها على هذا النحو،و ربما يحمل معناها أكثر من تفسير،و لكننا نحاول الاجتهاد المنطقي الموضوعي لإظهار مدى الإبداع الطبي الإسلامي،دون أن نحمل الآية أو نؤولها بدليل أن العلماء و خبراء علم الأجنة لا يوجد لديهم أي دليل على وجود مثل هذا المخلوق الذي يمتلك قلبين في جوفه و لن يكون له وجود حتى قيام الساعة لأن الحقائق القرآنية حق و يقين و صدق» (1).
*قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما جعل اللّه لمسخ نسلا و لا عقبا»[أخرجه مسلم ح 73].
المسخ كما نعرف هو مخلوق ذو تشوهات خلقية خطيرة تؤثر على الشكل الظاهري و الداخلي للإنسان.و قد أثبت العلم بأن الأجنة التي تولد ممسوخة،إما أن تولد ميتة،و إما أن تعيش لبضعة أيام ثم تموت فلا ينشأ لها نسل.
أما إذا كانت الإصابة أقل خطرا فقد ينتج عنها عاهات خطيرة تمنعها من أن تتناسل.يفسر لنا الدكتور مور (2)أسباب عدم المقدرة على التناسل قائلا:«إن التشوهات الخطيرة تؤثر في أكثر الأوقات على الجهاز العصبي المركزي و على الجهاز الأصم،العاملان الأساسيان للتناسل العادي».
أما في حالات التخنيث ففي هذه الحالات يكون الجنس لا ذكرا و لا أنثى خالصا،و إن مال إلى أحد الطرفين،و لا نستطيع أن نعتبر أن أصحاب تلك الحالات الشاذة من الممسوخين لأن إصاباتهم غير بليغة حتى يصنفوا من الممسوخين.على كل الأحوال فإن الجهاز التناسلي لهؤلاء لا ينشأ و لا ينمو سليما و يكون بذلك غير صالح للعمل.
ص: 569
و الأسس التي يرتكز عليها
من المسلّم به في نحو هذا البحث أن نعرّف المصطلحات،فلا بد من أن نعرّف معنى الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،ثمّ نقعّد بعدها بعض قواعد و أسس يمكن للعلماء المسلمين و العلماء الكونيين اعتمادها في أبحاثهم المتعلقة بهذا المجال،فتكون اجتهاداتهم منضبطة في بيان الإعجاز العلمي في القرآن و السنة، فتثمر جهودهم أبحاثا موضوعية تنأى بهم عن الاستطراد و الميل النفسي لتثبيت وجهة نظرهم الخاصة.
ذهب فريق من العلماء إلى منع تفسير الآيات القرآنية على ضوء الإعجاز العلمي،لأنه يرى في هذا تعسّفا في تفسير القرآن،وليّا لأعناق النصوص لتوافق النظريات العلمية المستجدة،و رأوا أن هذا المجال متروك للعقل البشري؛يجرب فيه فيصيب حينا و يخطئ حينا آخر،و حجتهم أن القرآن الكريم كتاب لم يقصد فيه البحث التجريبي في منهجه أساسا،و إنما هو كتاب أنزل لمحض الهداية،بما تضمنه من عقائد،و أحكام،و مثل خلقية،و مواعظ،و ليكون سبيلا للتعبد للّه في رحلة الحياة،و صرحوا بأن النظريات العلمية الحديثة و التي تعتبر في عصرنا مسلّمات بدهية قد تتغير في زمان لاحق،مما يتسبب في اضطراب في تفسير الآيات القرآنية،و قد يحدث تبدّلا في فهم الآيات فيما بعد،مما يزعزع العقيدة في قلوب الناس.
و في الجانب الآخر نرى بعض العلماء يميلون إلى الإفراط في تفسير الآيات وفق المناهج العلمية الحديثة،حتى إنهم قد أخضعوا بعض الآيات القرآنية إلى التأويل البعيد،بل المذموم،لكي يطابق البحث العلمي،مما يعدّ جنوحا-في نظري-عن الدقة الموضوعية في البحث العلمي،الذي سعوا لأجله.
و قد يكون من الصواب تقرير أن كون القرآن كتاب هداية للبشر،و ليس كتاب علم كوني،لا ينفي أن يكون متضمّنا لأدوات و وسائل هداية دعائمها العلم الكوني، فالهداية قد تكون بالأحكام الشرعية،كما تكون بالدعوة للنظر و التأمل في بديع صنع اللّه،و بالتالي فمن الصواب تقرير أن القرآن قد أشار إلى بعض الظواهر الكونية
ص: 570
الكبرى،و دعا المفكرين الباحثين إلى مزيد دراسة لها،و اعتبار بها،لتكون إحدى الطرق الدالة على الإيمان باللّه عزّ و جلّ.و لعله يحسن في هذا المقام إيراد قوله تعالى:
أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ(30) [الأنبياء:30]،فكما لا يخفى فإن الآية الكريمة تدعو الكفار إلى الإيمان و ذلك عبر الإخبار عن واقعة كونية-نشأة الكون-تدل على عظيم قدرة اللّه لم يكونوا يعرفونها في عهد التنزيل،فيتحققون من صدق الرسالة عبر مطابقة ما ستئول إليه علومهم بما أشارت إليه الآية القرآنية.و كذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج:5]،فإنا نرى أن الآية تدعونا إلى الإيمان بيوم البعث،و ذلك عبر تبيان مراحل تخلّق الجنين تفصيلا،و الاعتبار بأن القادر على خلق الإنسان بهذه المراحل،هو قادر على أن يعيد خلقه مرة أخرى،و الأمثلة في هذا الباب عديدة...فالواقع أن الإعجاز العلمي هو إحدى طرق الهداية التي اعتمدها القرآن الكريم،و ليس بابا للتكلّف.
و من الجدير بالذكر أن الفريق الذي يعارض تفسير الآيات القرآنية على ضوء الإعجاز العلمي مخافة أن يحصل تغيير في المسائل العلمية في زمان لاحق،و بالتالي تبدّل في فهم الآيات القرآنية،لم يفرّق بين النظريات و الحقائق العلمية.و قد توصّل العلم في كثير من جوانبه إلى إلقاء الضوء على مسائل علمية لا تنكر و لن تتبدّل إلا بإذن اللّه تعالى،و تعتبر حقائق علمية.و هناك من الآيات ما هو قطعي الدلالة، و بالتالي فمن الصواب أن نفرّق بين النظريات العلمية و الحقائق العلمية في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و من الإنصاف أن نجيز تفسير الآيات وفق المعطيات العلمية الصحيحة.
و ليس لنا أن نتحدث عن إعجاز القرآن الكريم من غير ضوابط،لذا اعتمدت في هذا البحث على النصوص القرآنية قطعية الثبوت و الحديثية المتواترة و المقبولة(أو الضعيفة المنضبطة)،مع الاعتماد على النصوص التي لا تنزل عن غلبة الظن دلالة.
و البحث العلمي ممتد و فيه نظريات و حقائق،فما أدرانا أنّ ما نتحدث عنه -في مجال البحوث التجريبية-هو نظرية علمية أو حقيقة علمية؟،فقد أخطأ كثير من العلماء المسلمين في تفسير بعض إعجازات القرآن الكريم،و على سبيل المثال:
فقد سارع بعض العلماء بالجزم بأن الحيض يحتوي على مواد سامة لأن اللّه قال في
ص: 571
محكم آياته: قُلْ هُوَ أَذىً... [البقرة:222]،و لأن العالم الغربي قد أكد ذلك.
و الحقيقة أنه لا يحتوي أصالة على مواد سامة...كما مرّ في طيّات هذا البحث (1).
و خلاصة ذلك:أن الواجب على أهل البحث العلمي-الشرعي و التجريبي- هو سلوك طريق العدل و الموضوعية في ذلك،لا أن نجمد عند النصوص دون تدبر لها،و لا أن نتسرع في تقرير مطابقة نظرياتنا العلمية للنصوص الشرعية،فتتبدل النظريات يوما،و نقع في مصادمة حقيقة علمية لتفسير متكلّف سابق لا يحتمله النص الشرعي.
لذا فإنه يتعين علينا اعتماد أسلوب نضع من خلاله أسسا و ضوابط تمنع أيّ إفراط في ذلك أو تفريط.
الإعجاز لغة من أعجز يعجز،و هو إثبات العجز الذي هو:«نقيض الحزم...
و معنى الإعجاز:الفوت و السبق» (2).
فالإعجاز هو الإعلام بعجز البشر عن معرفة حقائق مشار إليها.
و وصف الإعجاز هنا بأنه علمي هو نسبة إلى العلم.
و العلم:هو إدراك الأشياء على حقائقها،أو هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما (3)،و المقصود بالعلم في هذا المقام:العلم التجريبي.
و الإعجاز العلمي:هو إشارة إلى حقائق علمية يعجز الناس في حينها عن معرفتها.
فائدة:قد يخلط البعض بين مفهومي الإعجاز و المعجزة؛فالإعجاز:إشارة من نص شرعي لحقيقة علمية عجزت العقول عن إدراكها في زمن نزوله،و المعجزة أمر خارق للعادة مشاهد للعيان،عجز الناس عن الإتيان بمثله في زمن وقوعه و بعد ذلك.
ص: 572
أما حصر هذا الإعجاز في مجال القرآن و السنة فهو يدلّ على أن الوعاء الذي تستقى منه الحقائق هو القرآن الكريم و السنة الشريفة.
و عليه فإن الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو:إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة بحقائق علمية ثابتة قد انكشفت انكشافا تامّا بواسطة العلم التجريبي، و التي ثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،أو في الأزمنة التي سبقت عصر النبوة.
و في مصطلحنا،الإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو:
مطابقة معان كثيرة و متوافرة،صريحة في دلالاتها،من الكتاب و السنة،لحقائق علمية،غير معلومة زمن التنزيل،و لا تدرك إلا بالتجربة أو وسائل مادية،لتثبت صدق الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم من عند اللّه عزّ و جلّ.
و لعل المناسبة بين التعريف اللغوي و التعريف الاصطلاحي هي:أن اللّه تعالى قد وضع في كتابه العزيز معان للقرآن الكريم تتوافق مع حقائق العلم الكوني التجريبي،غير معلومة للبشر في عصر من العصور السابقة،بحيث تسبق قدراتهم العلمية في حينها،و يفوتهم إدراكها إلا بعد مرور فترة من الزمان،و ذلك لتثبت الحجة عليهم بأنهم قاصرون عن معرفتها،فتقام عليهم الحجة بأن الذي وضعها هو الذي يعلم غيبيات الخلق في الدنيا فيثبت عجزهم عن إدراك غيبيات الخلق من أمور الآخرة،فيتعين عليهم الإيمان بما أخبر به من ذلك،و اللّه أعلم.
و أما الأسس و القواعد التي تضبط هذا الباب فنستوحيها من التعريف السابق ذكره و نشرحها على الوجه الآتي:
و كلمة«مطابقة»تعود للجذر«طبق»،و هو يعني تغطية الشيء من قبل شيء آخر يوضع عليه.
جاء في معجم مقاييس اللغة (1):«طبق:الطاء و الباء و القاف أصل صحيح واحد،و هو يدلّ على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطّيه».
ص: 573
و هذا يعني أن عملية المطابقة ترتكز على عنصرين أساسيّين:
*المطابق.
*و المطابق عليه.
و قد يكون التطابق معنويا أو ماديا.
فإن كان ماديا وجب تغطية الحدود المجسمة للمطابق عليه من جميع جوانبه من قبل المطابق.
و إن كان معنويا وجب ملازمة معنى الشيء،و هذا يقتضي الموافقة بين معنى المطابق و معنى المطابق عليه.
و لذا نرى أنه جاء في لسان العرب (1):«و تطابق الشيئان:تساويا.و المطابقة:
الموافقة.و التّطابق:الاتفاق».
و في سياق الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،المطابق هو النص الشرعي و المطابق هو الحقيقة العلمية،و بالتالي فإن بحثنا يدخل في المجال المعنوي،و هذا يعني أن التطابق بينهما يكون بعرض صفات الحقيقة العلمية الثابتة على دلالة النص الشرعي القطعي،فإن وافقت صفات الحقيقة العلمية دلالة النص الشرعي طابقته.
و المطابقة تقتضي أيضا تلاؤم صفات الموصوف العلمي مع مضمون النص الشرعي ملاءمة تامّة من حيث السياق و من حيث المعنى،كما تدلّ عليه اللغة العربية،لغة القرآن و السنّة.
و إذا فقد هذا الشرط الأساسي أصبح الموضوع المعالج تأويلا محتملا للنص الشرعي و ذلك غير محمود،لأنه لا يعبّر عن حقيقة الدلالة التي يشير إليها النص، و بذلك نكون قد حمّلناه ما لا يحتمل.
فلا يصح-على سبيل المثال-أن نقول:إن الآية الكريمة: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]تتحدّث عن إعجاز علمي في مجال علم الأجنّة إذا طابقنا معناها على الأحداث التي تجري في الرحم،لأن سياق الآية يتكلم يقينا عن سمة فلكية محدّدة و ظنا عن ظاهرة كونية عامة،و بالتالي فهي غير مطابقة للإعجاز في مجال علم الأجنة،غير أنّه يجوز).
ص: 574
الاتعاظ بها عموما على أنها تلمّح إلى أن البارئ عزّ و جلّ جعل الدوران سمة عامة لتسبيح المخلوقات الكونية في الغالب كما نرى (1).
معان:جمع معنى،و المعنى هو المفهوم من لفظ مستعمل،و هو يستخرج من لفظ يدلّ عليه.
فاللفظ إذن دالّ على المعنى،كما أن المعنى هو مدلول اللفظ.
و المعنى-في هذا المقام-هو:المفهوم من اللفظ الذي ورد في نصوص القرآن و الحديث الشريف،و عليه أن يطابق حقيقة علمية كما أسلفنا ذكره،و هذا يعني أن هناك حقيقة علمية ترافق كل معنى ورد في مجال الإعجاز العلمي.
و هذه المعاني-أي هذه الإشارات إلى الحقائق العلمية-عليها أن تكون كثيرة و متوافرة في النصوص الشرعية ليقع الإعجاز،و إلا فهناك احتمال أن يحكم عليها بعض القرّاء بأنها أتت على سبيل الصدفة.
و كلما ازدادت وفرة هذه الإشارات قلّ الاحتمال أن تأتي مصادفة،و ذلك لأن الاحتمال أن تتكرر مصادفة يتضاءل عكسيا مع كثرة الوقوع كما نعلم في(علم الإحصاء STATISTICS ).كذلك فإن احتمال وقوع المصادفة في المعرفة لأمور غيبية يقلّ مع كثرة التكرر لأن معرفة أمور غيبية تتناسب عكسيا مع القدرة البشرية نظرا لسعتها المحدودة،و ذلك أن الطبيعة البشرية تعجز شيئا فشيئا عن الإحاطة بأكثر مما حولها من غيبيات-كلما ازدادت-هذا إن استطاعت أن تكشفها-،و خاصة إذا توجبت قدرة خارقة على معرفتها،و انعدمت الوسائل التي تتيح اكتشافها.
أضف إلى ذلك أنه كلما تشعبت هذه الإشارات الإعجازية في كلّ اتجاه ازداد الإعجاز قوّة،و ذلك أن التحدث عن أمور دقيقة في أكثر من مجال يتطلب-فيما يتطلب-عدة اختصاصات في عدّة أنواع من العلوم لدى شعوب البعثة(و هذه العلوم لم تكن متوفرة إبان التنزيل)،و هذا أيضا يتناسب عكسيا مع القدرة البشرية.و يكون الإعجاز أضخم إذا كشف الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن كثير من الجوانب لكل من الظواهر الكونية الذي تناولها كلّ على حده،حتى إذا جمعنا كل المعاني التي وردت في نصوص
ص: 575
القرآن و السنة عن العديد من الظواهر الكونية الغيبية،و عن العديد من صفات كل من هذه الظواهر الكونية،أصبح لدينا مجموعة هائلة من الكشوفات الإعجازية،تشكل مجموعة متواترة قطعية الدلالة في مجموعها،على أنه لا يستطيع رجل واحد أميّ أن يتكلم بها أمام شعوب عجزت لمئات من السنين عن الإتيان بقليل منها إلا إذا أيّده اللّه تعالى من عنده.
و بما أنه ليس من غرض هذا البحث التكلم بتفصيل عن كل هذه الكشوفات و المعاني،نكتفي بالإشارة إلى القليل من الإعجازات العلمية الكبيرة و المهمة التي تكلم عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،أو عن بعض المجالات العلمية التي أوجد فيها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم-بإعلام اللّه تعالى-إعجازات علمية عديدة،حتى يتسنى للقارئ أن يأخذ فكرة عن ضخامة الإعجاز.و من أراد الاطلاع عليها تفصيلا فيستطيع أن يقرأ عنها في العديد من كتب العلماء الأثبات الموجودة في المكتبات.
1-في مجال(علم تخلق الجنين EMBRYOLOGY ):إن الأعضاء الأساسية في الجنين تتخلق خلال أربعين يوما كما يشير إليه الحديث الشريف:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو الصّادق المصدوق:«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح و يؤمر بأربع كلمات»[أخرجه مسلم ح 43].
2-في مجال(علم الرضاعة BREAST FEEDING ):إن هناك قنوات صغارا يسيل فيها اللبن في ثدي الأم للحديث:«لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56].
3-في مجال(علم الوراثة GENETICS ):إن هناك مورثات مسيطرة و مورثات متنحية للحديث:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ ماء الرّجل غليظ أبيض،و ماء المرأة رقيق أصفر،فمن أيّهما علا أو سبق يكون منه الشّبه»[أخرجه مسلم ح 67].
4-في مجال(علم البحار OCEANOLOGY ):إن هناك تيارات باطنية في البحار تحدث أمواجا داخلية كما في الآية: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
ص: 576
5-في مجال(علم الجيولوجيا GEOLOGY ):إن الجبال بمثابة تثبيت للقشرة الأرضية كما تشير إليه الآية الكريمة: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15].
6-في مجال(علم الميكروب MICROBIOLOGY ):إن هناك نسمة-أي بكتيريا-تنقل الأمراض عبر الهواء كما أشار إليه الحديث:عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«غطّوا الإناء و أوكوا السّقاء فإنّ في السّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلاّ نزل فيه من ذلك الوباء»[أخرجه مسلم ح 79].
7-في مجال(علم الفلك ASTRONOMY ):إن ضغط الهواء يتضاءل شيئا فشيئا كلما صعدنا في السماء كما جاء في الآية الكريمة: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
8-في مجال(علم التبيؤ ECOLOGY ):إن الذبابة تحمل في أحد جناحيها الداء،و في الجناح الآخر المادة المضادة لهذا الداء للحديث الذي رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقع الذّباب في شراب أحدكم فليغمسه ثمّ لينزعه فإنّ في إحدى جناحيه داء و الأخرى شفاء»[أخرجه البخاري ح 99].
9-في مجال(العلم الباطني INTERNAL MEDECINE ):إن سائر أعضاء الجسد تساهم و تتفاعل و تتكاتف في الدفاع عن الجسم إذا ما أصيب بمرض للحديث:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ترى المؤمنين في تراحمهم و توادّهم و تعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسّهر و الحمّى»[أخرجه البخاري ح 100].
10-في مجال(علم النفس PSYCHOLOGY ):إن مقدم الرأس هو المسئول عن التحكم في الأفكار كما تشير إليه الآية الكريمة: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق:16].
ص: 577
كما أشرنا إليه سابقا فإن المعنى هو المفهوم من لفظ مستعمل.
و اللفظ يأتي في جملة مركبة،و هو يعود لجذر محدد،و لهذا الجذر كثير من التفريعات،و قد تكون لتلك التفريعات معان مختلفة في أحيان،و متفقة في أحيان أخرى.
و بما أن معاني اللفظ الواحد قد تكون متعددة،و قد يكون اختلافها بيّنا، فيتوجّب عندها إيجاد ضابط للانتقاء من هذه المعاني.
و الضابط في هذا المجال هو معنى جذر الكلمة المعتبرة.
لذا فإن جذر الكلمة هو قطب الرّحى الذي يترتب عليه فهم معنى أيّ فرع من فروع تلك الكلمة.
و المعتبر في معاني الفروع أن تكون لها صفة مشتركة على الأقل مع معنى جذر الكلمة الأم.
و بذلك تصبح معاني النصوص الشرعية المعتبرة التي يشار إليها واضحة و منضبطة (1).
ص: 578
كذلك فمن الأهمية بمكان انسجام جميع معاني اللفظ الذي يشير إليه الباحث في مجال الإعجاز العلمي مع سياق النص الشرعي،و ثوابت الشريعة الإسلامية، و مفهوم النص العام،و كذلك مع مفهوم العلم الكوني اليقيني،بحيث تؤدي مفهوما متوافقا مع النقل و العقل.
و قد يسأل القارئ:ما الداعي إلى هذه التعددية؟أ لا يجعل ذلك الأمر معقّدا على الباحث في الإعجاز؟
و الجواب-و باللّه التوفيق-:هو أن من أوجه الإعجاز البياني في القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة،أن الخطاب الشرعي موجه في كل الأزمنة لكل المجتمعات،و بالتالي فإنه يتضمن أكثر من معنى في بعض الأحيان،فيتلاءم مع كل الطبقات،و يتدبره السامع على اختلاف منزلته العقلية.
و إن ذلك-لا شك-كما يصدق في النص القرآني،فإنه يصدق كذلك في كلام النبي صلّى اللّه عليه و سلّم القائل:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13] (1).».
ص: 579
و لوقوع الإعجاز العلمي في القرآن و السنة فإنه لا بد من أن تشمل المطابقة بين السنن الكونية و مضمون النصوص الشرعية-على الأقل-معنى واحدا من معاني الكلام الذي ورد في تلك النصوص.
و لا يشترط تطابق معاني الجذر المعتبر جميعها على السنّة الكونيّة التي يشير إليها الباحث،و ذلك لتعذّر توافق هذه المعاني جميعها-و قد تشعّبت في اتجاهات مختلفة-على شيء واحد.و كذلك لأننا لا نعلم حقيقة ما يرمي إليه اللفظ،فقد يرمي إلى بعض المعاني دون الأخرى،فإذا كانت الدلالة واضحة اكتمل التوافق و استقر التفسير،و من ثم تتحدد دلالات ألفاظ النصوص الشرعية بما استقر من حقائق علمية؛و هذا هو الإعجاز-إن شاء اللّه تعالى-كما نرى.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن معاني ألفاظ القرآن الكريم متعددة،و أن العلم لم يستقر في غالب مجالاته،لذا فإن الإعجاز العلمي قد ينكشف تدريجيا،و الضابط في تلك المعاني يبقى مرتبطا بدلالات اللغة العربية،و قواعدها،و أساليب الخطاب فيها، و كذلك بقواعد البيان البلاغي فيها،مصداقا لقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت:3].
و من أمثلة الضوابط في مجال النحو:أن يكون المعنى منسجما مع الدلالة النحوية للنص القرآني،و إلا لفقد معناه.فعلى سبيل المثال:فقد فسّر البعض الآية:
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]تفسيرا خاطئا صريحا و جليّا،و جعل«لمع»بمعنى الفعل-أي أن اللّه تعالى لمع المحسنين بمعنى أضاءهم-،و من المعلوم أن فعل«لمع»غير متعدّ،لا يأتي له مفعول به،و فعل «لمّع»بتشديد الميم هو الذي يأخذ مفعولا واحدا،و بالتالي فهذا التفسير مخالف للدلالات اللغوية النحوية،و لام«لمع»تسمى المزحلقة تتصل بخبر«إنّ»و ليست من أصل الكلمة.و من أمثلة الضوابط في مجال البيان البلاغي:أن تراعى قاعدة أن لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية،فإن خرج،و عدل عن الحقيقة إلى المجاز (1)،فعلى المجاز أن ينضبط بضوابط التأويل التي تقتضي وجود قرينة من نص آخر(مثل حديث نبوي شريف)،أو قياس،أو كما درج عليه المفسرون،معه.
ص: 580
احتمال اللفظ للمعنى المرجوح احتمالا لغويا لا غبار عليه،و احتواء العلم الكوني اليقيني للفظ احتواء كاملا.
و في هذه الحال يعتبر التفسير من باب التأويل المحمود،و لا يعد إعجازا علميا،لأن المجاز ليس بحقيقة مطردة ذات دلالة قطعية (1)،و ذلك أن اللفظة.
ص: 581
استعمل في غير ما وضع له (1).
و في هذا البحث نعطي بعض الأمثلة للمجاز:فالحديث:«أرضعيه و لو بماء عينيك...»[رواه ابن عساكر ح 95]يعتبر من باب المجاز الصريح و لا يحتاج لقرينة خارجية.و أما الحديث:«إنّ إبراهيم ابني،و إنّه مات في الثّدي،و إنّ له لظئرين تكمّلان رضاعه في الجنّة»[أخرجه مسلم ح 96]،فهو من باب الكناية لأن عبارة«مات في الثدي»استعملت في غير ما وضعت له،و هي غير واضحة بنفسها،بيد أن عبارة «مات في الثدي»معروفة لدى عامة المفسرين أنها تعني:مات في سن الرضاعة، و السياق العام للحديث يشير إلى هذا المعنى.و أما الحديث:«لا يحرّم من الرضاعة3.
ص: 582
إلا ما فتق الأمعاء في الثدي و كان قبل الفطام»[أخرجه الترمذي ح 56]فإن معناه غير واضح لعامة الناس،بيد أن ظاهر الحديث يتكلم عن ظاهرة كونية،و بالتالي يجب أن نتحقق من أن معناه لا يشير إلى حقيقة علمية قبل أن نصرفه إلى المجاز،خصوصا و أن القاعدة تنص على أن لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية.
و قد حمل معظم المفسرين الحديث على غير محمله لأنهم ارتكزوا في تفسيره على الحديث السالف ذكره الذي رواه مسلم،و الذي يحتوي على كناية.و قد أقرّ العلم أن هناك لبنا يخرج من الثدي و يفتق الأغشية-أي الأمعاء-الموجودة فيه،و هو ينبت لحما للرضيع شبيها من الناحية الفيزيولوجية بلحم أمه من الرضاعة،مما يسبب حرمة الطفل بأمه من الرضاعة (1)،و بالتالي فإن المعنى يجب أن يحمل على الحقيقة (2).
و بما أن القرآن نزل على قوم بلغتهم التي يعرفونها،فيجب عند ذلك مراعاة معاني المفردات كما عهدها أهلها عند نزول الوحي،و لا يقبل أي تفسير جديد إلا إذا كان متوافقا مع ثوابت الشرع،و المحكم من نصوصه.و نقول:إنه يجب أن يكون المعنى متوافقا مع ثوابت الشرع و ذلك أنه لما كان التفسير هو للآيات و الأحاديث الكونية،فهذه الأخيرة من جملة النصوص الشرعية،و فرع من فروعها،و قد قعّد لها علماء التفسير قواعد عدّة تلقتها الأمة بالقبول،و بالتالي علينا أن نتبع تلك القواعد.
و ما نرى من مسوّغ لتحميل النصوص ما لا تحتمل،فهذا أمر مرفوض ابتداء، أسأل اللّه تعالى أن يجنبنيه في كتابي هذا.
و أما المصادر التي سنستقي منها التفسير للألفاظ التي وردت في نصوص الكتاب و السنة،فنلخصها كما يلي:
1-القرآن الكريم:أي أن يكون معنى اللفظ الوارد في النصوص الشرعية، و الذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية،مفسرا بواسطة آية قرآنية.
2-المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:أي أن يكون معنى اللفظ الوارد في النصوص الشرعية-و الذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية-مفسرا بتفسير نبوي عنه.
3-المأثور عن الصحابة:أي أن يكون معنى اللفظ الوارد في النصوص الشرعية-و الذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية-مفسرا من قبل الصحابة-رضوان اللّه تعالى عنهم-العالمين باللغة العربية تمام العلم و بتأويل القرآن،مثل ابن عباس رضي اللّه عنه.».
ص: 583
4-معاجم اللغة العربية:التي تعنى بتفسير اللغة العربية كما كانت سائدة إبان عهد الرسالة،حيث ينبغي على اللفظ الوارد أن يدل على المعنى كما وضع له من قبل اللغويين،أو كما عرف عند عامة العرب.
5-المجاز المنضبط-كما أسلفنا ذكره-مع الإشارة إلى أن التأويل من باب التفسير،إلا أن تكون دلالته قطعية فيعتدّ به عندئذ.
و لقد تكلّمنا عن معاني الكلمة التي تأتي في الجملة المركبة،و قد أوضحنا أن هناك كثيرا من المعاني نستطيع اعتمادها إذا كانت لها صفة مشتركة مع معنى جذر الكلمة المعتبرة،و انسجمت مع مفهوم النص العام،و مع سياق النص الشرعي، و مفهوم العلم الكوني اليقيني.
بيد أن هناك معان أخرى-غير معاني الكلمة المعتبرة-نستطيع أن نستقيها من المفهوم العام للنص الشرعي.فعلى سبيل المثال:نفهم من كلمة«أحلّ»التي أتت في الآية: ...وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275]،أن اللّه تعالى أباح البيع، و من كلمة«حرّم»أن اللّه عزّ و جلّ منع التعاطي بالربا،و لكن نفهم أيضا من المفهوم العام للآية القرآنية أن الآية تشير أصالة و قصدا أن اللّه تعالى فرّق بين البيع و الربا، و أوضح أن البيع لا يماثل الربا،مع العلم أن كلمة«أحلّ»و كلمة«حرّم»لا تشيران مباشرة إلى عملية التفريق هذه.
و لا نريد أن نعلّق على دلالة النص الشرعي على ظاهرة مقصودة أولا و بالذات،مثل:حكم التفريق بين البيع و الربا السالف ذكره،لأنه أمر مسلّم به، و لكن نريد أن نضع ضوابط لدلالة النص الشرعي على معان قد تستنبط من المفهوم العام للنص الشرعي.
و قد أحلّ تعالى الاستنباط في قوله: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً [النساء:83].
و قد أقرّ الفقهاء نوعين من الدلالات:دلالة المنطوق،و دلالة المفهوم (1).8.
ص: 584
و أما دلالة المنطوق فتقسّم إلى ثلاثة أنواع (1):
1-عبارة النص:و هو دلالة اللفظ على حكم مقصود في النص أصالة أو تبعا.و في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة:هو دلالة اللفظ على معنى يشير إلى ظاهرة كونية مقصود في النص أصالة أو تبعا.
و ما يعنينا هنا هو الدلالة التبعية لأن الدلالة الأصلية أمر مسلم به.
و هذه الدلالة يحتج بها،لأن المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية يثبت تبعا بنفس اللفظ.
فعلى سبيل المثال:إن الحديث:«إذا وقعت النطفة في الرحم...»[رواه الطبري ح 32]يفيد أصالة أن النطفة تقع في الرحم،و يشير تبعا إلى أن النطفة تأتي من خارج الرحم،و أن النطفة تخرج من مكان يعلو سطح الرحم،حتى تدخله و تقع فيه (2).
كذلك الحديث:«...فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها...»[أخرجه الطبراني ح 21]فهو يشير أولا و بالذات أن ماء الرجل ينتشر في ماء المرأة،و يشير تبعا أن ماء(أي نطفة الرجل)أصغر من نطفة المرأة و إلا لما انتشر فيها (3).
2-إشارة النص:و هي دلالة اللفظ على حكم(أي معنى يشير إلى ظاهرة كونية)لم يقصد من النص أصالة و لا تبعا،و لكنه لازم للمعنى الذي ورد الكلام لإفادته،فلا يتبادر فهمه من اللفظ،و لكنه معنى لازم للمعنى المتبادر.فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام.
و هذه الدلالة يحتج بها،لأن المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية يثبت لزوما بنفس اللفظ.
و نعطي مثالا على هذه الدلالة:فالحديث:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[رواه الطبراني ح 21]يشير».
ص: 585
لزوما إلى أن ماء(أي نطفة)الرجل دخل ماء(أي نطفة)المرأة،و إلا لما استطاع أن ينتشر فيه (1).
كذلك فإن الحديث:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟،فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:
مخلّقة قال:يا رب:فما صفة هذه النطفة؟...»[رواه الطبري ح 32]يشير لزوما إلى أن النطفة التي تقع في الرحم مخصبة،لأنه لا معنى أن يسأل الملك اللّه-جلّ و علا- هل ستتخلق النطفة أم لا،و ذلك أن النطفة التي لا تخصّب يستحيل عليها أن تتخلق، أو أن يخلّقها الملك.بيد أن النطفة لو كانت مخصّبة لكان هناك احتمال أن تتخلق، أو أن يمجها الرحم دما(في ظاهرة تعرف ب«الإجهاض التلقائي») (2).
3-اقتضاء النص:هو دلالة الكلام على لازم مسكوت عنه،يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا...حيث إن هذا النوع من الدلالة يقتضي صدق الكلام أو صحته.
و هذه الدلالة معتبرة،لأن الثابت بها أمر ضروري لصدق الكلام و صحة معناه.
فعلى سبيل المثال:إن ظاهر الحديث:«لا تحرّم المصّة و لا المصّتان»[أخرجه أحمد ح 60]يشير إلى أن المصّة لا تثبت بها محرمية الابن بأمه من الرضاعة،و هذا لا يصح عقلا،لأن المصّة بنفسها لا تشكل سببا للتحريم في أي حال من الأحوال، و بالتالي لا بد من تقدير ليكون الكلام سليما،و ذلك بأن يقدر أن لبن المصة هو المعني،و بذلك يصبح معنى الحديث:لا يحرّم[لبن]المصة و المصتين.
و كذلك فإن عملية الفتق في الحديث:«لا يحرّم من الرّضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي،و كان قبل الفطام»[رواه الترمذي ح 56]لا تسبب التحريم بنفسها، و إنما اللبن المسبب لعملية الفتق،هو الذي يسبب التحريم،فيصبح معنى الحديث هكذا:لا يحرم من الرضاع إلا[اللبن]الذي يفتق الأمعاء في الثدي و يكون قبل الفطام.حيث إنه ينبت اللحم و ينشز العظم كما في الحديث:«لا يحرّم من الرضاع».
ص: 586
إلا ما أنبت اللحم و أنشز العظم»[أخرجه أحمد ح 58]،و تقدير الحديث الأخير أنه لا يحرم من الرضاع إلا[اللبن]الذي ينبت اللحم و ينشز العظم (1).
كذلك،فإن ظاهر الحديث:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها»[رواه الطبراني ح 21]يشير إلى أن الماء يطير (أي ينتشر)في كلّ عرق من عروق المرأة(حيث إن ضمير الهاء في كلمة«منها»يعود إلى المرأة)،و هذا يستحيل عقلا.و لكي يصح معنى الحديث و يصبح مقبولا،فلا بد من تقدير،و ذلك بأن يقدر أن ماء المرأة هو المعني،فيصبح معنى الحديث:طار ماء الرجل في كل عرق و عصب من[ماء]المرأة (2).
و أما ظاهر النص القرآني الكريم: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7]فيشير إلى أن الماء الدافق يخرج من مكان ما يقع ما بين الصلب و الترائب،و الحقائق العلمية اليقينية لا تشير إلى هذا،بل إلى أن الماء الدافق يخرج من إحليل الرجل و مبيض المرأة،و أن مكونات الماء الدافق تخرج من مكان ما يقع ما بين الصلب و الترائب،و لذلك لا بد من تقدير و مفاده:خلق من ماء دافق،تخرج أعضاؤه[أو مكوناته]من بين الصلب و الترائب.
و نعطي مثالا آخر:فظاهر الحديث:«ليس ذلك بالحيض إنّما هو عرق»[أخرجه أحمد ح 27]ينص على أن الدم الذي يتكلم عنه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هو العرق،و هذا يستحيل عقلا و شرعا،و لا بد من تقدير ليصبح الكلام مقبولا و تقديره:ليس ذلك بالحيض إنما هو[دم]عرق (3).
و أما دلالة المفهوم فتقسّم إلى نوعين:
1-مفهوم الموافقة(و يسمى:دلالة النص عند علماء الحنفية):و هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق(أي معنى المنطوق الذي يشير إلى الظاهرة الكونية)،للمفهوم،المسكوت عنه،لاشتراكهما في علة(و في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة:لاشتراكهما في صفة)يفهم كل عارف باللغة أنها مناط الحكم(أي».
ص: 587
أنها مناط المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية)،و لا تحتاج إلى اجتهاد أو قياس فقهي،سواء أ كان المسكوت عنه أولى أم مساويا للمنطوق.
و هذه الدلالة يعتدّ بها،لأن المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية ثابت بالنص بواسطة الصفة.
فعلى سبيل المثال:يشير منطوق الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ... [البقرة:223]أن حمل النساء يشابه عملية الزرع،و يشير مفهوم الآية أن النطفة هي بمثابة الحب الذي يقذف في الأرض،حيث إن عملية الحرث ترتكز على زرع الحب،و الحمل على زرع النطفة (1).
2-مفهوم المخالفة:هو دلالة النص على نقيض حكم(أي على نقيض معنى يشير إلى ظاهرة كونية)المنطوق،للمسكوت عنه،بأن يكون اللفظ مقيدا بقيد يجعل الحكم(أي المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية)مقيّدا بهذا القيد،فيدل النص بمنطوقه على الحكم(المعنى الذي يشير إلى الظاهرة الكونية)المنصوص عليه،و يدل بمفهوم المخالفة على عكسه في غير موضع القيد.
و قد اتفق الأصوليون على الاحتجاج بمفهوم المخالفة في الوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد في العقود و التصرفات و الأقوال و التعامل.و اختلفوا على الاحتجاج به في الوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد في النصوص الشرعية من الكتاب و السنة.
و نحن،في مجال«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة»،نتحاكم إلى الحكمة و العلم اليقيني لإثبات أن مفهوم المخالفة يشير إلى إعجاز علمي،حيث إن اللّه تعالى أمرنا أن نلجأ إلى الحكمة في قوله جلّ و علا: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]،و ذلك أنّ العلم اليقيني هو المقصود لإثبات إعجاز النصوص الشرعية.
فإن كان هناك مبرر لوجود مفهوم المخالفة لجأنا إليه،و إلا لما استدللنا به، و نعتبر أن مفهوم المخالفة يشير إلى إعجاز علمي في حال وافقت المعطيات العلمية -من خلال مفهوم المخالفة-على عكس منطوق المعنى في غير موضع القيد.».
ص: 588
و على سبيل المثال:فإن الحديث:«لا يحرّم من الرّضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي،و كان قبل الفطام»[رواه الترمذي ح 56]يعني أن اللبن الذي يفتق الأمعاء الموجودة في الثدي يسبب التحريم،و يشير بمفهوم المخالفة أن اللبن الذي لا يفتق الثدي لا يسبب التحريم.
كذلك فإن الحديث:«لا يحرّم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم و أنشز العظم» [أخرجه أحمد ح 58]ينص أن اللبن الذي ينبت اللحم و ينشز العظم يسبب التحريم، و يشير بمفهوم المخالفة أن اللبن الذي لا ينبت اللحم و لا ينشز العظم لا يسبب التحريم (1).
و ما يسري على النصوص الشرعية منفصلة من أحكام استنباط يسري عليها مجتمعة،حيث إن النصوص الشرعية تكمّل بعضها بعضا،و تؤلف وحدة متكاملة.
فعلى سبيل المثال:يشير النص القرآني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ(7) [الطارق:5-7]أصالة(أي بعبارة النص)أن الماء -الذي يخرج ابتداء من مكان ما،يقع ما بين الصلب و الترائب-يخرج بسرعة.
و يشير الحديث:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟،فإن قال:غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما،و إن قال:مخلّقة قال:يا رب:
فما صفة هذه النطفة؟...»[رواه الطبري ح 32]تبعا(أي بعبارة النص)أن الماء الذي يدخل الرحم يبقى زمانا خارج الرحم(كما يقتضيه استعمال كلمة«إذا»)،و إذا ما اعتبرنا النصين الشرعيين مجتمعين،فهمنا لزوما(أي بإشارة النص)أن الماء يجري مسافة طويلة قبل دخوله الرحم(لأنه يجري بسرعة و يبقى زمانا قبل أن تقع النطفة في الرحم) (2).
و من الأمثلة الأخرى:فإن الآيتين: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً... ،[الأحقاف:15]،و وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ... [لقمان:14]،تدلان بطريق العبارة على الوصية بالوالدين،و تدلان بطريق الإشارة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر،و ذلك أنه إذا اختزلنا أربعا و عشرين شهرا(أي إذا اختزلنا مدة عامين؛و هي مدة الرضاع)من ثلاثين شهرا(أي من مدة الرضاع و الحمل)أصبح لدينا ستة أشهر (و هي مدّة الحمل) (3).».
ص: 589
و أما النصوص الشرعية التي تشير إلى الحقائق العلمية و التي سوف نطابق عليها السنن الكونية فالمقصود بها آيات من القرآن الكريم و أحاديث ثابتة من السنة النبويّة.
*فالقرآن الكريم هو:«كلام اللّه المعجز،المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،المكتوب في المصاحف،المنقول بالتواتر،المتعبّد بتلاوته» (1)و بما أن علم اللّه هو العلم الشامل،المحيط بكل شيء،الذي لا يعتريه خطأ،و لا يشوبه نقص،و علم الإنسان محدود و يقبل الازدياد و هو معرض للخطأ،فبالتالي يجب أ لا تجعل حقائق القرآن-الذي هو كلام اللّه-موضع نظر،بل يجب أن تقدم على أنها الأصل.
و أما من يطالب بأن نسوي بين القرآن و بين المعطيات العلمية في البحث في حقيقتهما،فلعلّ هذا البحث أن يكون دافعا له ليتدبر كيفية تطور تاريخ العلم الكوني في مجال الأرحام،و كيف شذّ عن طريق الصواب،ثم عاد ليطابق حقائق الدين الثابتة.
*و السنّة هي:ما صدر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية،و كلّ ما يفيد منها تشريعا حجّة في الدين إذا ثبتت نسبتها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، كما تشير إليه النص القرآني: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى(2) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى(4) [النجم:3-4] (3).
و أمّا الأسانيد (3)التي رويت بها الأحاديث النبوية فإنها تنقسم ابتداء إلى قسمين:مقبولة،و مردودة.
فالمقبول:هو ما ترجّح به صدق المخبر به و حكمه:صلاحيته للاحتجاج و العمل به.و عليه فالأحاديث المتعلقة بمجال علم الأجنّة نستطيع الاعتقاد بحجيتها تبعا لذلك.
ص: 590
و المردود:هو ما لم يترجّح به صدق المخبر به،و حكمه:أنه لا يحتجّ و لا يعمل به إلا بشروط(سنذكرها فيما بعد)،و في إطار الإعجاز العلمي في علم الأجنّة،لا يحقّ لنا الاعتقاد بأنه إعجاز علمي (1)إلا بشروط(سنذكرها فيما بعد).
و تبعا لذلك التقسيم للإسناد،فقد حكم علماء الحديث بالصحة على الأحاديث المقبولة الإسناد،و هي:
*متواتر (2).
*صحيح (3).
*حسن (4).
*صحيح لغيره (5).
*حسن لغيره (6).
و أمّا الحديث المردود الإسناد،فهو الحديث الذي في إسناده علة(لسقط في الإسناد أو طعن في راو مثلا)،و هو المسمى:الحديث الضعيف و يعمل به في فضائل الأعمال[بل و يستأنس به في بعض الأحيان]بالشروط التالية:).
ص: 591
1-إذا كان هذا الضعف غير شديد(مثل بعض أنواع الحديث المرسل (1)،أو إذا كان هناك اختلاف بين العلماء الجهابذة في الحكم عليه).
2-إذا اندرج العمل بالحديث تحت العمل بأصل عام.
3-إذا لم يعتقد عند العمل به ثبوته،أي نسبته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،بل يعتقد الاحتياط (2).
و في إطار الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة قد يصح الاستدلال بالحديث الضعيف الإسناد بالشروط التالية:
1-إذا كان الضعف غير شديد.
2-إذا اندرج حكمه تحت حكم قرآني أو تحت سنّة معمول بها(أي أنه يدخل تحت أصل عام من أصول الشريعة).
3-إذا لم يجزم بثبوت الحديث من جهة السند،بل كان متنه موافقا يقينا للمعطيات العلمية.
و أمّا الحديث الضعيف جدا كالذي في سنده متهم بالكذب فلا يروى إلا مع بيان ضعفه الشديد (3)،لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»[أخرجه مسلم ح 5]،و«من تعمّد عليّ كذبا فليتبوّأ مقعده من النار» [أخرجه البخاري ح 6]،و إن أشرت في بحثي هذا إلى بعض الأحاديث الضعيفة جدا، فذلك لعدة أسباب،و هي:0.
ص: 592
1-مطابقة السنن الكونية لمحتوى تلك الأحاديث الضعيفة جدا.
2-التحذير منها،حتى لا يعتقدها أو يرويها الغافلون عن ضعفها الشديد على أنها إعجاز علمي،بعد أن يجدوا أن معناها صحيح (1)..-
ص: 593
3-فتح المجال لمزيد من الأبحاث في هذا المجال،لعلّ هناك أحاديث موجودة في كتب الأحاديث ذات إسناد صحيح يتوافق متنها مع متن تلك الأحاديث الضعيفة.
فالكذوب قد يصدق في القليل من كلامه (1)،و قد يخلط الكلام الكذب مع القليل من الكلام الصحيح (2).
و على كلّ حال فليس للكذوب مصداقيّة،حتى و لو صدق،و علينا أن نبحث عن أسانيد أقوى إذا أردنا أن نعتقد بثبوت تلك الروايات أو أن نعمل بها.
أما إن تبيّن أن النص الشرعي ليس من كلام الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم(مثل أن يكون الحديث موقوفا و ليس له حكم المرفوع (3)،فحكمه أنه لا يعدّ من السنة.
معناه:
-أن تكون الحقيقة العلمية التي خلقها البارئ عزّ و جلّ،و التي يشير إليها الإعجاز العلمي،مطّردة،و ذلك لكي تكون مرتكزا علميا،و بالتالي موعظة مستمرة للناس.
فلا نستطيع مثلا أن نقيس حادثة كونية استثنائية غير متوافقة مع قوانين العلم الثابتة،و لا نستطيع مطابقتها مع الآيات القرآنية،و ذلك لأنها خارقة للقاعدة،لا يتقبّلها العقل البشري في كثير من الأحيان.
ص: 594
فقد وردت في القرآن الكريم و السنّة الشريفة استثناءات لتلك الحقائق أو السنن،فعلى سبيل المثال:أمر اللّه تعالى النار أن تكون بردا و سلاما على سيدنا إبراهيم عليه السّلام كما في الآية: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء:69].
-أن تكون السنن الكونية المشار إليها عامّة،فلا نستطيع أن نفيس أحداثا أو ظواهر كونية استثنائية شاذة مثل:الظواهر السائدة في مثلّث برمودا أو فورموذا، أو كالتي حدثت بعد انفجار القنبلة الذريّة في مدينة هيروشيما،حيث فسدت البيئة بتلوثها بالإشعاعات،فلا نستطيع أن نقيس ذلك على نصوص شرعية تتكلم عن ظواهر عامة،إلا إذا أشارت النصوص الشرعية إلى تلك الحوادث أو الظواهر على أنها خارقة للنواميس الكونية،فتكون إذن إعجازا علميا لما تكشف عن أمور غيبية خارقة للعادة،مثال على ذلك:طلوع الشمس من المغرب في آخر الزمان،كما يخبرنا الحديث الآتي:«إنّ الساعة لا تكون حتّى تكون عشر آيات...و طلوع الشمس من مغربها...»[أخرجه مسلم ح 1].
-أن تكون السنّة الكونية معلومة،فإن لم تكن كذلك،كانت إحدى اثنتين:
*إما سنّة يرجى كشف حقيقتها يقينا في المستقبل من خلال الأبحاث العلمية و الوقائع الكونية،فيحتمل كونها مستقبلا إعجازا علميّا.
*و إمّا سنّة لا يرجى كشف حقيقتها في المستقبل فيما نظن،و بذلك لا يصح وصفها بأنها إعجاز علميّ بحال،و لكن يمكن وصفها بأنها مقاربة للإعجاز العلمي، و بذلك يصح الاتّعاظ بها.
و هنا نقول في النوع الأول من السنّة:إنّه في حال ظهرت مطابقة السنّة الكونية لحديث نبوي شريف في المستقبل،صارت إعجازا علميّا،و إن عارضت السنّة الكونيّة حديثا نبويا أرجعنا ذلك إلى قصور فهمنا للحديث الشريف،مع اعتقادنا بصحة الحديث الشريف،و وجوب معاودة النظر في فهمه على ضوء المعطيات العلمية اليقينية التي يمكن أن تنكشف لنا في المستقبل.فالتاريخ يشهد على أن فهمنا لبعض الأحاديث فيما مضى كان قاصرا،و من ثمّ تعمّق الفهم مع التقدّم العلمي و انجلت الحقيقة بعد ذلك،مثاله الحديث الشريف:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها...»[أخرجه الطبراني ح 21]،فقد فسّره بعض الصحابة على أنه يشير إلى أن النطفة تطير تحت كل ظفر
ص: 595
و شعر،بينما تفيد معطيات العلم بأن الحديث يشير إلى انتشار صبغيّات الحيوان المنوي لدى الرجل بين صبغيات بويضة المرأة (1).
و نقول في النوع الثاني:إن هناك سننا كونيّة لن نستطيع اكتشافها في المستقبل لسبب من الأسباب،مثل:وصف نهاية الكون،فلن يكون هناك أي إنسان حيّ لمشاهدة نهاية الكون،أو سيكون الوقت متأخّرا أو قصيرا جدا لإدراكه و ذلك للإيمان به.
بيد أن المعطيات العلمية بعد التقدم العلمي الهائل،تعطينا فكرة جيّدة عمّا سيكون في المستقبل؛فهناك نظريات قويّة مثلا،تشير إلى أن الكون سينقبض على نفسه في نهاية الزمان بعد عملية التوسّع التي تحصل له الآن،و الآية القرآنية ربما تشير إلى ذلك: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ [الأنبياء:104].
و لذلك يصحّ الاتعاظ بالآية و اعتبارها تقريبا للإعجاز العلمي،و لكن لا يصحّ لنا أن نعتقد ثبوت الإعجاز العلمي فيها بشكل جازم.
-أن يتناول النص الشرعي موضع الإعجاز موضوعا علميا صحيحا،لا حقيقة تاريخية محضة سابقة معينة مثلا (2)،و إلاّ لفقد الإعجاز العلمي مصداقيّته،كما جاء في الآية: إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [نوح:1].
-أن تتكلم الآية القرآنية أو السنّة الصحيحة عن ظاهرة علمية حقيقية،و إلا فقدت الأرضية الصلبة التي ترتكز عليها في الإعجاز.فعلى سبيل المثال:لا يصح لنا أن نفسّر الحديث:إن النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم بصق يوما في كفّه فوضع عليها إصبعه ثم قال:قال اللّه:«ابن آدم:أنّى تعجزني و قد خلقتك من مثل هذه...»[أخرجه أحمد ح 2]،أنه يشير إلى أن الجنين يتخلق من اللّعاب،فمن البديهي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قد ماثل بين اللعاب و المنيّ لعلّة التشابه في القلة و الامتهان،و ليس للتركيبة الخلقية الكيميائية لكل منهما.ء.
ص: 596
-أن يكون الإخبار القرآني أو الحديثي عن حقيقة علميّة صريحة،أي أنه يشير إلى حقيقة علميّة محدّدة و واضحة،و إلاّ لصرفنا تفسير الآية القرآنية في أيّ اتجاه شئنا،و لحملناها ما لا تحتمل،و لفقدنا عندها جوهر المطابقة.فلا يصح مثلا أن نصرف الآية الكريمة: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ(21) [المؤمنون:21]إلى أنها إعجاز علمي في مجال الكبد،أو الطحال،أو المرارة،ذلك لأن البطن لفظ عام يشمل كل الأعضاء الموجودة فيه.
ثبوت كلّ منهما:
بعد أن شرحنا معنى«دلالات النصوص الشرعية»،و بعد أن وضّحنا ما هو المقبول و المردود منها،و الشروط التي يجب أن يلتزم بها الباحث في علم مصطلح الحديث حتى يصل إلى نتائج سليمة،و بعد أن عرّفنا الضوابط التي لا بد من أن نقيّد بها المعطيات العلمية حتى نعتبرها حقائق علمية،من المهم أن نذكر الضوابط التي يجب أن نراعيها في التوفيق بين دلالات النصوص الشرعية و درجة ثبوت إسنادها و صحة المعطيات العلمية لكي نعتبر أنها تشير إلى إعجاز علمي في القرآن و السنة.
و من المهم قبل أن نصف النصوص القرآنية بالإعجاز العلمي،أن ننوه إلى كل مما يلي:
-أولا:أن هناك نصوصا من الوحي قطعية الدلالة،كما أن هناك حقائق علمية كونية قطعية الثبوت.
-ثانيا:أن هناك نصوصا من الوحي ظنية في دلالتها،و كذلك في العلم، هناك نظريات ظنية في ثبوتها لم ترق إلى مستوى الحقائق العلمية الثابتة.
و أما التوفيق بين النصوص الشرعية و المعطيات العلمية فهو على النحو التالي:
-لا يمكن أن يقع تعارض بين قطعي الدلالة من الوحي و قطعي الثبوت من العلم التجريبي،و ذلك لأن القرآن كلام اللّه و الحقائق الكونية خلق اللّه.
و إن وقع تعارض ففي الظاهر،فلا بد عند ذلك من النظر في اعتبار قطعية دلالة النص،أو قطعية ثبوت الحقيقة العلمية.
فإذا كان ثمّ خلل في ذلك،أعدنا البحث في دلالة النص القرآني و في حقيقة المعطيات العلمية إلى أن ندرأ التعارض الظاهر بينهما،فربّ علم كوني اعتقدنا أنه
ص: 597
حقيقة،تبين لنا فيما بعد أنه نظرية،مثل:الاعتقاد بأن(مادة الغمامة الإلكترونية المحيطة بنواة الذرات ELECTRONS )ثابتة لا تتحول،ثم تبين لنا فيما بعد أنها تصبح(كتلة طاقة محفوظة ENERGY MASS CONSERVATION ).
-و إذا وافقت المعطيات العلمية الظنية الثبوت،نصا قرآنيا قطعي الدلالة،لم نعتبر النص القرآني إعجازا علميا،إلى أن تنكشف حقيقة المعطيات العلمية،و لكن نعتبره إشارة إلى حقيقة كونية كبرى،و معلما على طريق الوصول إلى الحقيقة العلمية.
-و إذا وافقت المعطيات العلمية القطعية نصا قرآنيا ظني الدلالة-يصرف معناه في كثير من الأوجه-،أخذنا بدلالة النص القرآني،و لم نعتبر النص القرآني إعجازا علميا،لأن دلالة النص القرآني غير قطعية،و ينبغي أ لا ننطلق من قاعدة غير مطردة.
-و إذا وقع التعارض بين حقيقة علمية قطعية،و بين نص قرآني لم نتأكد من دلالته،فتؤول الدلالة الظنية للنص القرآني لتتفق مع الحقيقة العلمية القطعية،ثم لا نعتبر النص القرآني إعجازا علميا.
-و إذا وقع تعارض بين معطيات علمية ظنية،و بين دلالة قطعية لنص قرآني، رفضنا تلك المعطيات.
و هذه الأحكام مطردة الاعتبار أيضا على الأحاديث النبوية الشريفة،غير أن هناك عاملا آخر تحسن إضافته و هو:صحة إسناد الحديث الشريف.
و في حالة حصول تعارض ظاهر بين دلالة قطعية لنص قرآني و دلالة قطعية لحديث شريف،نظرنا عندها في صحة إسناد الحديث،فإن لم يصح،قدّمنا دلالة النص القرآني القطعية،و لم نأخذ بنص الحديث غير الصحيح.و إن صحّ إسناد الحديث الشريف،توقفنا عنده-للبحث عن نصوص أخرى حتى نزداد معرفة عن حال هذا الحديث-،أو أوّلناه.فإن لم نستطع أن نؤوله،و كان تعارضه بيّنا لم نستحسنه،و وضعناه جانبا.و إن تعارضت دلالة قطعية لحديث صحيح الإسناد مع معطيات علمية يقينية بديهية لا مجال لإنكارها،و لم يكن هناك مجال للتأويل،كان حكم الحديث في هذا المقام حكم التعارض بين دلالة نص قرآني قطعي الدلالة و دلالة قطعية لحديث صحيح الإسناد،و وجب التنبيه إلى استحسان عدم الاستشهاد به.
ص: 598
جاء في تدريب الراوي (1):«و من جملة الوضع أن يكون مخالفا للعقل بحيث لا يقبل التأويل،و يلحق به ما كان يدفعه الحس و المشاهدة[و قياسا-في مجال الإعجاز العلمي-ما تدفعه المعطيات العلمية اليقينية البديهية التي لا مجال لإنكارها]،أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية،أو السنة المتواترة،أو الإجماع القطعي».
و أما إذا كان الحديث ذا ضعف غير شديد و وافق الشروط الثلاثة التي ذكرناها سابقا،و الذي يصح معنى متنه،أي الذي يوافق المعطيات العلمية اليقينية،فيحسن الاستشهاد به في الإعجاز على سبيل الاستئناس لا الجزم.
و أما الحديث ذو الضعف غير الشديد،و الذي وافق المعطيات العلمية،غير اليقينية(مثل النظريات العلمية قيد الأبحاث)،فيظل حكمه-و بالتالي الاتعاظ به- معلّقا،إلى أن تثبت الحقيقة،فإذا تبيّن فيما بعد-و ذلك من خلال الأبحاث العلمية-أن معنى الحديث،و بالتالي متنه لا يصحّ،وجب التنبيه إلى الشك في نسبته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و إلى استحسان عدم الاستشهاد به،حتى لا يؤثر ذلك سلبا على ضعيفي الإيمان وكيلا يكون بمثابة حاجز لغير المسلمين عن اعتناق الإسلام، و حتى نحتاط للسّنة المطهّرة من نسبة ما ليس منها إليها.
و الحديث ذو الضعف غير الشديد،الذي وافق بعض متنه المعطيات العلمية اليقينية،و البعض الآخر لم يوافق(كما إذا كان سبب ضعف الحديث ضعف أحد رجال إسناده لاختلاطه (2)في آخر عمره أو لسوء حفظه) (3)،فالإنصاف في الحكم على الرجال،و بالتالي في الحكم على الحديث يكون بقبول ما وافق الثقات في الروايات و ترك ما لم يتابع عليه.و في مجال الإعجاز العلمي في تخلّق الجنين قبول ما وافق المعطيات العلمية اليقينية،و ترك ما عارضها.
و أما الحديث ذو الضعف الشديد الذي وافق متنه الحقائق العلمية فلا يصح مطلقا نسبته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وفق القواعد التقليدية،و لم نعتبره إعجازا علميا، و مثال ذلك الرواية:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها الأعضاء و العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].0.
ص: 599
و أما النصوص الشرعية التي هي ليست من كلام خير الأنام،فلن نأخذ بها و لو وافقت المعطيات العلمية الغيبية و لن نعتبرها إعجازا علميّا،و ذلك أنه لم يدّع أحد من الصحابة-رضوان اللّه تعالى عليهم-أنه يعلم الغيب أو أنه نبيّ،و بالتالي لا نستطيع أن ننسب إليهم ما لم يقرّوه.و من ادعى النبوّة ممن عاصر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،قتل أو بطل ادعاؤه و زهق باطله.
معناه:
أن يكون التحدث عن حقيقة علمية غير معلومة،أو غيبيّة،و إلا لفقدت النصوص الشرعية صفة الإعجاز.فالإخبار عن أمر معلوم ليس بإعجاز ذلك أنه بمتناول عامّة الناس،و هو ليس بأمر خارق للعادة،و قد فقد صبغته الغيبيّة،مثال على ذلك الآية: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً...
[الأحقاف:15].فمن المعلوم لدى عامّة الناس أن المرأة الحامل تعاني من تعب و ألم خلال وضعها لطفلها،و بالتالي وصف وضع المرأة خلال الوضع وصفا عاما يعلمه الجميع لا يعدّ إعجازا علميا.
معناه:
-أن تكون تلك الحقائق العلمية غير معلومة في عهد الرسالة،حتى يتبين للناس أن ما أخبر به الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن بمستطاع للبشر معرفته لو لا معطيات العلم، و بالتالي يقرّون بأن تلك المعلومات هي من قبيل الوحي الإلهي الواجب تصديقه.
كذلك،فإن جهل الأمم بتلك الحقائق العلمية ضروري قبل عهد الرسالة،حتى لا يتهم الناس الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم باقتباس المعلومات من الأمم المتحضرة المعاصرة له.
-أن تكتشف تلك الحقائق بعد عهد الرسالة،حتى يقارن الناس بين ما جاء به الرسول محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما كشفه العلم اليقيني.و بذلك يتبين للناس صحة المعلومات التي أتى بها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فيؤمنون بها.
و كلمة«مطابقة»التي أوردناها في التعريف تقتضي أن تكتشف تلك الحقائق بعد زمن التنزيل،و إلا لما استطعنا أن نطابق هذه الحقائق بمعاني النصوص الشرعية، و لما اتضح الإعجاز العلمي في القرآن و السنة.
ص: 600
في هذا المقام نبيّن الفرق بين العالم الفذّ الذي اكتشف بعض الحقائق الكونية بعد جهد جهيد،و بين النبي أو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم الذي تكلم عنها،فالعالم خلال رحلة اكتشافه للحقائق الكونية قد استعمل من الوسائل المادية مثل المجهر،أو الحاسوب، أو أدوات أخرى كالاختبارات،ما يخوله التنقيب عن الحقائق العلمية،كما أنه سهر الليالي يطالع الكتب،و يفكّر،و يتأمّل،حتى يصل إلى نتيجة سليمة،و أخطأ في كثير من الأحيان،و أصاب في أحيان أخرى،و ارتكز في كثير من الأحيان على التخمين، و بنى عليه،و هذا ما يسمى بالنظريات العلمية(و من كان له شك في هذا الكلام فليطالع مبحث«ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة»حتى يتبيّن له صحة ادعائنا)،بينما جاء الأنبياء بمعجزاتهم من دون أن يستعملوا أدوات مادية،كما أنه في كثير من الأحيان كانت المعجزات تحصل على أيديهم فجأة من دون أن يستطيع أحد أن يتهم أنهم حضّروا لها.
و نروي لهذا الغرض قصة الحبر اليهودي الذي جاء يسأل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عن عوامل إيناث أو إذكار الجنين.ففي الحديث أن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«كنت قائما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فجاء حبر من أحبار اليهود،فقال:السلام عليك يا محمد...جئت أسألك عن شيء لا يعلمه من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان،قال:ينفعك إن حدثتك؟،قال:أسمع بأذني،قال:جئت أسألك عن الولد،قال:ماء الرجل أبيض و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا،فعلا منيّ الرجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل آنثا بإذن اللّه،قال اليهودي:
لقد صدقت و إنك لنبي،ثم انصرف و ذهب،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه و ما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللّه به»[أخرجه مسلم ح 9].
في هذه الرواية يتبيّن لنا أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم كان في كثير من الأحيان يجيب عن أسئلة الذين يفدون عليه من غير سابق إعلام،على حين غفلة،و هو لا يعلم سابقا الأسئلة التي ستطرح عليه.و كان صلّى اللّه عليه و سلّم يجيب مباشرة،بدون أن يلجأ إلى دراسة المواضيع المطروحة عليه،و بدون أن يستعمل وسائل مادية تمكّنه من معرفة الحقيقة العلمية،و يردّ عليها بدقة،و بعبارات محبوكة السبك،و بوحي من اللّه عزّ و جلّ،و هو مقرّ بعجزه لو لا المدد الربّاني له.
و نفهم من كلامنا السابق أن الخوارق-سواء أ كانت مادية،أو معنوية-التي حصلت على أيدي الأنبياء-صلوات اللّه و سلامه عليهم-لا تعدّ سبقا زمنيا فقط،
ص: 601
بمعنى أننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذه الخوارق سبقت زمنها فقط،و بمقدور البشر يوما ما أن يأتوا بمثلها.فالإعجاز العلمي في القرآن و السنة هو كشف للحقائق العلمية الغيبية بدون وسائط،و هذا فوق قدرة البشر،و كل من عاصر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يشاهد يوما ما أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم استعمل أداة ما،و لم يكن لديه مختبر،و لم يقرأ الكتب،بل و كان أميّا لا يقرأ و لا يكتب مصداقا لقوله تعالى: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ(48) [العنكبوت:48].
و بالطبع فالغرض من الإعجاز العلمي هو أن يبرهن أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مرسل من عند اللّه عزّ و جلّ،و ليظهر و يثبت صدق مدده من عند اللّه تعالى.فالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكذب، لأن الكذاب لا يتحدى إن كان حاذقا،فهو يتكلم عن جهل،و كذبه سيظهر عاجلا أم آجلا،و من ادعى النبوة(مثل مسيلمة الكذاب،و سجاح بنت الحارث بن عقبان...) و تحدى عن حماقة،ظهر جليّا في عصره،أو فيما بعد،أنه كاذب.و الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لم يخمّن،فالمخمّن أيضا لا يتحدى،لأنه غير واثق من كلامه،حيث إنه بنى كلامه على الظن،و الظن قد يخطئ،و خصوصا إذا ما كان يتكلّم عن كثير من الأمور، حيث إن احتمال الخطأ في إجابته يزيد في هذه الحالة.و قد بيّنا في مبحث«التحدي» مدى جدية هذا التحدي،و بينّا أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم جعله علامة فارقة له على صدقه.
و لهذا أجاب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في قصّة الحبر اليهودي،واثقا من نفسه،متحدّيا العالم أجمع:«لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه و ما لي علم بشيء منه حتى أتاني اللّه به»[أخرجه مسلم ح 9].
و بعد أن عرّفنا الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة و اطلعنا على القواعد و الأسس المعتمدة لبيانه،نشير هنا إلى أحكام تطلق على النصوص التي تعالج موضوع الإعجاز،و ذلك لضبط الاجتهادات في هذا المجال،و قد تكون أيا من الأحكام التالية:
1-إن كان تفسير الباحث للآية غير منسجم مع القواعد:(النحوية و/أو الصرفية و/أو البلاغية و غيره...)فإنه لا يعد إعجازا علميا.
2-إن كان الباحث لا يجيد المطابقة بين الحقائق العلمية و النص الشرعي، و قد أوّل النص الشرعي تأويلا بعيدا أو متكلفا،فإنه لا يصح الاحتجاج بالنص الشرعي على أنه إعجاز علمي عند هذا الباحث.
ص: 602
3-إن لم يشر الباحث للكلمة المعتبرة في الإعجاز إلى معنى متعارف عليه، فلا يصح الاحتجاج بالنص الشرعي على أنه إعجاز من حيث المعنى.
4-إن لم يشر الباحث إلى الكلمة المعتبرة في الإعجاز بمعنى يتلاءم مع معنى جذر الكلمة،فلا يصح الاحتجاج بالنص الشرعي عند هذا الباحث على أنه إعجاز علمي.
5-إن النص الشرعي يتناول حادثة كونية يرجى كشف حقيقتها في المستقبل، و بالتالي فإن النص الشرعي له القابليّة لأن يكون إعجازا علميا،للبحث و الاتعاظ.
6-إن كان النص الشرعي يتناول حادثة كونية لا يرجى كشف حقيقتها في المستقبل،و بالتالي فإن النص الشرعي ليس له القابليّة لأن يكون إعجازا علميا، فيكون للاتعاظ فقط.
7-إن كان النص الشرعي لا يتناول موضوعا علميا،فلا يصح بالتالي الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي.
8-إن كان النص الشرعي لا يتناول حادثة كونية علميّة،فلا يصح الاحتجاج به أيضا على أنه إعجاز علمي.
9-إن كان النص الشرعي يتناول حادثة معلومة في كل الأزمنة،فلا يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي.
10-إن كان النص الشرعي يعالج استثناءات للسنن الكونيّة،فلا يمكن اعتباره عند ذلك إعجازا علميا.
11-إن كان النص الشرعي يتناول حديثا مقبول الإسناد،مع عدم توافق متنه للحقائق العلمية اليقينية،نتوقّف عند الحديث،و يجعل قيد البحث.
12-إن كان نص الباحث يتناول حديثا مختلفا في ضعف إسناده،مع توافق متنه للأدلة العلمية،فإنه يستدل بالحديث في الإعجاز-على سبيل الاستئناس لا الجزم-.
13-إن كان نص الباحث يتناول حديثا مختلفا في ضعف إسناده،مع عدم توافق متنه للأدلة العلمية،نتوقّف عند الحديث،و يجعل قيد البحث.
14-إن كان نص الباحث يتناول حديثا مختلفا في ضعف إسناده،مع توافق بعض متنه للحقائق العلمية،فيؤخذ من الحديث ما صحّ من متنه،و يستدل به.
ص: 603
15-إن كان نص الباحث يتناول حديثا واهيا،مع عدم توافق متنه للمعطيات العلمية،فلا يصح الاحتجاج بهذا النص في الإعجاز،فيكون ذكره لبيان درجته فقط.
16-إن كان نص الباحث يتناول حديثا ضعيفا جدا،مع موافقة متنه للمعطيات العلمية،فلا يصح الاحتجاج بالحديث في الإعجاز،و يكون قيد البحث حتى يثبت معناه من نصوص أخرى.
17-إن ارتكز الباحث على التأويل المحمود(كالمجاز المنضبط)في تفسير معنى اللفظ الذي ورد في النص الشرعي،فلا يعتبر إعجازا علميا،للبحث و الاتعاظ،إلا إذا كانت دلالة المجاز دلالة قطعية.
18-إن كان الباحث لا يجيد استنباط المعنى من المفهوم العام للنص الشرعي وفق دلالة اللفظ على المعنى،فإنه لا يصح الاحتجاج بالنص الشرعي على أنه إعجاز علمي عند هذا الباحث.
19-إن كان النص الشرعي ليس من قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،فلا يعتبر إعجازا علميا،للبحث و التفسير.
20-إن توافر في النص الشرعي جميع الشروط السابقة،و وافق متنه أيضا المعطيات العلمية،فإن الإعجاز يكون مقبولا.
و من الجدير بالذكر أننا تناولنا دراسة متن الأحاديث و سندها كلاّ على حدة، لكي نعطي كل ذي حق حقّه،و لكي لا يتأثر تخريج الأحاديث بالعلم الكوني، و العكس صحيح.و من ثمّ حكمنا على إعجازها على ضوء هذه المعطيات.
و نرجو من القراء الكرام مراجعة قسم الأحاديث للتأكد من درجات الأحاديث التي استشهدنا بها،و معرفة ما يصلح منها للاستدلال في ميدان الإعجاز العلمي.
ص: 604
حكمنا على الأحاديث هو بحسب ما قرره بعض أهل الحديث [و قد يتوصل غيرنا إلى ما يخالفنا فيه،و لكلّ سعيه] مقدمة:في هذا القسم سوف نخرّج الأحاديث،و من ثمّ نعلّق على صلتها بالإعجاز العلمي في القرآن و السنة،وفقا لصحة أسانيد الأحاديث،و لما آلت إليه المعطيات العلمية من حقائق و نظريات،و للشروط التي أوردناها في أواخر مبحث «تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها».و من المهم أن ننوّه أن علماء الأحاديث اتفقوا على أن الأحاديث التي وردت في صحيح البخاري، و في صحيح مسلم صحيحة السند و المتن،لكثرة العناية التي خضعت لها من قبل محقّقيها،و للشروط التي وضعوها.فصحيح البخاري يعتبر«أصح كتاب بعد كتاب اللّه تعالى» (1)عند جمهور المحدثين،و صحيح مسلم يعتبر ثاني كتاب بعد صحيح البخاري من حيث البحث في صحة و قوة الأسانيد (2)،و بالتالي فإننا لن نشير في تعليقنا«على صلة الحديث بالإعجاز العلمي»أن الحديث المروى من قبل البخاري و/أو مسلم صحيح السند و/أو المتن،لأنه أمر مسلّم به.غير أنه يتوجب علينا في حال ظهور عكس ذلك أن نشير إلى خلل متنه.
و قد تعمدت عدم ذكر أسانيد الأحاديث لكي لا يمل القارئ من قراءة الأسانيد الطويلة مع الاكتفاء بذكر الصحابي الذي روى الحديث،حيث إن الفضل يرجع إليه في رواية الحديث،و لا يجب أن ننسى فضله في الإسلام و ذلك للأحاديث المقبولة -أي للأحاديث ذات درجة الحسن فما فوقها-،غير أني ذكرت الأسانيد للأحاديث المقبولة التي لنا حاجة إلى الخوض في تفاصيلها خلال البحث،كما أني ذكرت أسانيد الأحاديث التي هناك اختلاف في سندها بين علماء تخريج الحديث-بقدر ما أتيح لي-لكي يطّلع عليها من أحبّ أن يخوض في تفاصيلها،و للحاجة إلى دراسة سندها.
ص: 605
[ح 1]عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد،قال:كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في غرفة و نحن أسفل منه،فاطّلع إلينا فقال:«ما تذكرون؟»قلنا السّاعة،قال:«إنّ السّاعة لا تكون حتّى تكون عشر آيات:خسف بالمشرق،و خسف بالمغرب،و خسف في جزيرة العرب،و الدّخان،و الدّجّال،و دابّة الأرض،و يأجوج و مأجوج،و طلوع الشّمس من مغربها،و نار تخرج من قعرة عدن ترحل النّاس».
انظر ص:595.
-أخرجه مسلم-بهذا اللفظ-في«كتاب الفتن و أشراط الساعة»،(13)باب في الآيات التي تكون قبل الساعة،رقم 2901/40.
-و أخرجه أبو داود في«كتاب الملاحم»،باب أمارات الساعة،رقم 4311.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث أوردناه في سبيل ضرب الأمثال و ليس لغرض إظهار الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة في مجال تخلّق الجنين،و هو لا يعنينا في هذا المقام.و هذا الحديث يتناول حوادث كونية يرجى كشف حقيقتها في المستقبل،و بالتالي فإن النص الشرعي له القابليّة لأن يكون إعجازا علميا،فهو للبحث و الاتعاظ.و ينطبق عليه حكم رقم 5 في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها».
*[ح 2]عن بسر بن جحاش القرشي أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بصق يوما في كفّه،فوضع عليها إصبعه ثمّ قال:«قال اللّه:ابن آدم:أنّى تعجزني،و قد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك و عدلتك مشيت بين بردين و للأرض منك وئيد،فجمعت و منعت،حتّى إذا بلغت التّراقي قلت:أتصدّق،و أنّى أوان الصّدقة؟».
انظر ص:596.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 4:210-211[من طريق أربعة من شيوخه عن حريز ابن عبد الرحمن بن ميسرة].
-و ابن ماجة في الوصايا(2707)
و الحديث حسن ينظر«مسند أحمد»29:385،رقم 17842،من طبعة الرسالة.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث أوردناه في سبيل ضرب الأمثال و ليس لغرض إظهار الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة في مجال تخلّق الجنين،و هو لا يعنينا
ص: 606
في هذا المقام.و هو حديث حسن الإسناد،غير أنه لا يتناول حادثة كونية علميّة،فلا يصح الاحتجاج به أيضا على أنه إعجاز علمي.و ينطبق عليه حكم رقم 8.
*[ح 3]عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«إنّ الملائكة تنزل في العنان-و هو السّحاب-فتذكر الأمر قضي في السّماء،فتسترق الشّياطين السّمع فتسمعه،فتوحيه إلى الكهّان،فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
انظر ص:594(ح)-693.
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الخلق»،(6)باب ذكر الملائكة،رقم 3210.
و أخرجه في«كتاب الطب»،(46)باب الكهانة،رقم 5762،بلفظ آخر.
و في«كتاب الأدب،(117)باب قول الرجل للشيء«ليس بشيء»و هو ينوي أنه ليس بحق،رقم 6213،بلفظ آخر.
و أخرجه أيضا في موضع آخر.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث أوردناه في سبيل ضرب الأمثال و التفسير،و ليس لغرض إظهار الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة،و هو لا يتحدث عن ظاهرة علمية،و بالتالي ليس هناك تعليق عليه من ناحية الإعجاز.و ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 4]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:وكّلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحفظ زكاة رمضان،فأتاني آت،فجعل يحثو من الطعام،فأخذته،و قلت:و اللّه لأرفعنّك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،/فقصّ الحديث/.فقال لي:إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي...،لن يزال عليك من اللّه حافظ و لا يقربك شيطان حتى تصبح...، و قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقك و هو كذوب،...ذاك شيطان».
انظر ص:593(ح)-594(ح)-693.
-جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في«كتاب الوكالة»،(10)باب إذا وكّل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكّل فهو جائز،و إن أقرضه إلى أجل مسمّى جاز، رقم 2311.
ص: 607
و أخرجه في«كتاب بدء الخلق»،(11)باب صفة إبليس و جنوده،رقم 3275 مختصرا.
و أخرجه في«كتاب فضائل القرآن»،(10)باب فضل سورة البقرة،رقم 5010.و لفظه قريب جدا من لفظ الحديث رقم 3275.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 5]عن المغيرة بن شعبة:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».و في رواية«الكاذبين»بالجمع.
انظر ص:592.
-هذا الحديث رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه،(1)باب وجوب الرواية عن الثقات و ترك الكذابين،و التحذير من الكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
-و أخرجه الترمذي في سننه في«كتاب العلم»،(9)باب ما جاء فيمن روى حديثا و هو يرى أنه كذب،رقم 2662،بلفظ:«فهو واحد الكاذبين».[نسخة تحفة الأحوذي 7:422 أحد،بدل واحد].قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح.
-و رواه ابن ماجة في مقدمة سننه،(5)باب من حدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حديثا و هو يرى أنه كذب،رقم 38-41.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 5:14،بلفظ«من حدث بحديث و هو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
و في 5:20،بلفظ«من حدث بحديث و هو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
و أخرجه في 1:113،بلفظ«من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
و أخرجه في 4:250 بمثل اللفظ الأول-عنده-لكن بلفظ«الكذّابين».
و في 4:252 بلفظ:«من حدّث بحديث و هو يرى أنه كذب فهو أحد الكذّابين».
(فاللفظ هنا عام غير مختص بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم).
و في 4:255 بلفظ:«من حدّث بحديث و هو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين-و في رواية أحد الكذّابين-».و هذا اللفظ أيضا عام.
و ينظر الحديث رقم 6(التالي).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
ص: 608
[ح 6]عن أنس رضي اللّه عنه:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من تعمّد عليّ كذبا فليتبوّأ مقعده من النار».
انظر ص:592.
-أخرجه البخاري-بهذا اللفظ-في«كتاب العلم»،(38)باب إثم من كذب على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،رقم 108.
و في الكتاب و الباب نفسه رقم 106-107-109-110.
و أخرجه في كتب أخرى كالجنائز و الأنبياء و الأدب.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الزّهد و الرقائق»،(16)باب التّثبّت في الحديث، و حكم كتابة العلم،رقم 3004/72.
و الحديث أخرجه كثيرون عن عدد كبير من الصحابة.
و قد نص المحدثون على تواتره،ينظر على سبيل المثال:«نظم المتناثر من الحديث المتواتر»،للمحدّث محمد بن جعفر الكتّاني،ح رقم 2،كتاب العلم،ص 35-41.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 7]عن سعيد بن عمرو أنّه سمع ابن عمر رضي اللّه عنهما عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب و لا نحسب...».
انظر ص:42.
-أخرجه البخاري في«كتاب الصوم»،(13)باب قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا نكتب و لا نحسب»رقم 1913.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الصيام»،(2)باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال،و الفطر لرؤية الهلال،رقم 15.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث له علاقة غير مباشرة بالإعجاز،لأنه يظهر أمّية الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و مدى الفتح الربّاني عليه صلّى اللّه عليه و سلّم،و بالتالي فإن موضوع الإعجاز العلمي في القرآن و السنة يرتكز عليه،و هو صحيح المعنى،صحيح السند لأنه ورد في صحيح البخاري.و ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 8]عن عائشة أمّ المؤمنين أنّها قالت:أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم،فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصّبح،ثمّ حبّب
ص: 609
إليه الخلاء،و كان يخلو بغار حراء،فيتحنّث فيه-و هو التّعبّد اللّيالي ذوات العدد -قبل أن ينزع إلى أهله و يتزوّد لذلك،ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها،حتّى جاءه الحقّ و هو في غار حراء،فجاءه الملك،فقال:اقرأ قال:ما أنا بقارئ، قال:فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد،ثمّ أرسلني،فقال:اقرأ،قلت:ما أنا بقارئ،فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد،ثمّ أرسلني،فقال:اقرأ، فقلت:ما أنا بقارئ،فأخذني فغطّني الثّالثة ثمّ أرسلني،فقال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) [العلق:1-3].
انظر ص:44.
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الوحي»،(1)باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،رقم 3.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الإيمان»،(73)باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، رقم 252.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 7.
*[ح 9]عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:كنت قائما عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال:السّلام عليك يا محمّد...جئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلاّ نبيّ أو رجل أو رجلان،قال:«ينفعك إن حدّثتك؟»قال:أسمع بأذنيّ،قال:جئت أسألك عن الولد،قال:«ماء الرّجل أبيض،و ماء المرأة أصفر،فإذا اجتمعا،فعلا منيّ الرّجل منيّ المرأة أذكرا بإذن اللّه،و إذا علا منيّ المرأة منيّ الرّجل آنثا بإذن اللّه»قال اليهوديّ:لقد صدقت، و إنّك لنبيّ،ثمّ انصرف،فذهب،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لقد سألني هذا عن الّذي سألني عنه و ما لي علم بشيء منه حتّى أتاني اللّه به».
انظر ص:74-78-80-82-84-104-105(ص)-109(ح)-399-514- 543(ح)-601-602.
-أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،(8)باب بيان صفة منيّ الرجل و المرأة و أنّ الولد مخلوق من مائهما،رقم 34.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:يتكلم هذا الحديث عن ظواهر علمية غيبية،أ لا
ص: 610
و هي باختصار:إذكار أو إيناث الجنين،و الظروف التي تسهّل هذه العملية.و قد روي هذا المتن بسند آخر و جاء فيه«أذكر»و«آنث».و الصحيح هو«أذكرا»و«آنثا» بالتثنية،لأنه يتوجب إشراك كل من ماء الرجل و ماء المرأة في عملية إذكار أو إيناث الجنين،و بالتالي تتوفر فيه جميع الشروط لإطلاق عليه حكم«الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة»(حكم رقم 20).
*[10]عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ما من الأنبياء نبيّ إلاّ أعطي من الآيات ما مثله أو من أو آمن عليه البشر،و إنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه اللّه إليّ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة».
انظر ص:52.
-أخرجه البخاري في«كتاب الاعتصام بالكتاب و السّنة»،(1)باب قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم»رقم 7274.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الإيمان»،(70)باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى جميع الناس و نسخ الملل بملّته.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ليس له علاقة مباشرة بالإعجاز،لأنه يتحدّث عن طبيعة الإعجاز الذي أعطي للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و ليس عن خبر إعجازي محدد.و بالتالي فإن موضوع الإعجاز العلمي في القرآن و السنة يرتكز عليه.و ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 11]حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم الدّمشقيّ،حدّثنا بشر بن بكر،حدّثنا ابن جابر،حدّثني أبو عبد السّلام عن ثوبان قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»،فقال قائل:و من قلّة نحن يومئذ؟قال:«بل أنتم يومئذ كثير،و لكنّكم غثاء كغثاء السّيل،و لينزعنّ اللّه من صدور عدوّكم المهابة منكم،و ليقذفنّ اللّه في قلوبكم الوهن،فقال قائل:يا رسول اللّه:و ما الوهن؟قال:«حبّ الدّنيا و كراهية الموت».
انظر ص:54.
-أخرجه أبو داود في«كتاب الملاحم»،باب في تداعي الأمم على الإسلام،رقم 4297.و اللفظ له.
-و أخرجه أحمد في المسند 2:339.
ص: 611
في سند الحديث مقال،و قد حسّنه بعضهم و قوّى إسناده بعضهم،و الحق أنه حسن لغيره.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.إلا أنه يشير إلى إعجاز إخباري(و ليس في مجال العلم)لأنه يتكلم عن أخبار غيبية تحققت بعد عصر البعثة،و ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 12]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّ شيء خلق من ماء».
انظر ص:56-57.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 2:295-323-493.
[قال الهيثمي:رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح خلا أبي ميمونة،و هو ثقة،و قال أحمد شاكر في شرحه على المسند 15:72،رقم 7919:إسناده صحيح].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى من الناحية العلمية،و هو يتكلم عن ظاهرة كونية لا يعلمها إلاّ القليل من الناس،و قد يكون معلوما لدى علماء عصور ما قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذلك لأن مجرّد الاحتكام إلى العقل و التفكر و النظر في خلق اللّه قد يوصلنا إلى هذه النتيجة،غير أن وصول الناس إلى هذه النتيجة تبقى في مجال الظن لأنه ليس بوسعهم قبل البعثة التحقق من هذا معمليا.أما الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فقد بتّ في هذا الأمر عن يقين بما أوحى اللّه تعالى له، و إقرار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليس كإقرار الناس لأنه يترتب عليه نفي النبوة،و بالتالي فيعتبر تحدّيا،و يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي(حكم رقم 20).
*[ح 13]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم».
انظر ص:20-69-70-137-139(ح)-211-303-356-540(ح)-579-695.
-أخرجه البخاري في«كتاب الجهاد»،(122)باب قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«نصرت بالرّعب مسيرة شهر»،رقم 2977.
و أخرجه أيضا في«كتاب التعبير»،(22)باب المفاتيح في اليد،رقم 7013.
و أخرجه أيضا في«كتاب الاعتصام بالكتاب و السنّة»،(1)باب قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم»،رقم 7273.
-و أخرجه مسلم في«كتاب المساجد و مواضع الصلاة»،رقم 1168.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ليس له علاقة مباشرة بالإعجاز،لأنه
ص: 612
يتحدّث عن منهجية متّبعة في إظهار الإعجاز الذي أعطي للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و لا يتكلم عن خبر إعجازي محدد.و بالتالي فإن موضوع الإعجاز العلمي في القرآن و السنة يرتكز عليه.و ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 14]عن أمّ سلمة قالت:جاءت أمّ سليم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه:إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ،فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت الماء»،فغطّت أمّ سلمة-تعني وجهها-و قالت:يا رسول اللّه:أو تحتلم المرأة؟قال:«نعم تربت يمينك فبم يشبهها ولدها؟».
انظر ص:74-75-77-82(ح)-539(ح)-540(ح)-543(ح).
-أخرجه البخاري في«كتاب العلم»،(50)باب الحياء في العلم،رقم 130.
و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،(7)باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنيّ منها،رقم 32.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة كونية لا يعلمها إلاّ القليل من الناس على وجه اليقين(و هو قد يكون معلوما لبعض من علماء عصور ما قبل البعثة لأنه يتكلم عن أن للمرأة منيّا كما أن للرجل منيّ؛و هذا أمر غير غيبي، لأنه بوسع المرأة أو الطبيب أن يشاهدا إفرازات المهبل)،و بالتالي فإن النص الشرعي يتناول حادثة قد تكون معلومة في بعض الأزمنة،و لا يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و لكن يصح الاستشهاد به على أنه مرجع ديني علمي ملفت للنظر، و ينطبق عليه الحكم رقم 9.
*[ح 15]حدّثنا أبو نعيم،حدّثنا سفيان عن ابن المنكدر:سمعت جابرا رضي اللّه عنه قال:
كانت اليهود تقول:إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول،فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [البقرة:223].
انظر ص:43.
-أخرجه البخاري في«تفسير القرآن»باب نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ،رقم 4523.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ليس بعينه الإعجاز،و إنما في الآية
ص: 613
التي نزلت بسببه،و أوردناه في سبيل ضرب الأمثال و التفسير،بيد أن موضوع الإعجاز العلمي يرتكز عليه لأنه ينفي اعتقادا خاطئا اكتسبه العرب من اليهود،و يظهر مدى تقدّم تعاليم الإسلام على غيرها من المعتقدات السائدة في شبه الجزيرة العربية.
و هو إن كان يتناول موضوعا علميا(و هو أن إتيان النساء من قبل الرجال من جهة الخلف في القبل ليس له تأثير على تخلق الجنين)،غير أن موضوعه لا يعتبر بعيدا عن إدراك العالم سليم التفكير،بعيد الحدس،و قد تكون عادة الإتيان المذكورة سابقا معروفة لدى شعوب أخرى في العالم أنها لا تضرّ.و ينطبق عليه الحكم رقم 9.
*[ح 16]عن أبي موسى الأشعري قال:أخذ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في عقبة-أو قال:في ثنيّة-قال:فلمّا علا عليها رجل نادى،فرفع صوته:لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، قال:و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على بغلته،قال:«فإنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا».
انظر ص:83.
-أخرجه البخاري في«كتاب الدعوات»،(7)باب لا حول و لا قوّة إلا باللّه،رقم 6409.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الذّكر و الدّعاء»،(13)باب استحباب خفض الصوت بالذّكر،رقم 45.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 17]عن أبي الودّاك عن أبي سعيد الخدري سمعه يقول:سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن العزل،فقال:«ما من كلّ الماء يكون الولد و إذا أراد اللّه خلق شيء لم يمنعه شيء».
انظر ص:106-109-110(ص)-137-139(ح)-141-144(ح)-538- 551.
-أخرجه مسلم في«كتاب النكاح»،(22)باب حكم العزل،رقم 133.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة غيبية و هي أن الإنسان يتخلق من جزء من المنيّ-من الحيوانات المنوية-،و ليس من المنيّ كلّه،و لا يمكننا معرفة ذلك إلا بواسطة المجهر الألكتروني(الذي لم يكن متاحا قبل عصر البعثة)لصغر حجم الحيوانات المنوية،و بالتالي تتوفر فيه جميع الشروط لإطلاق حكم«الإعجاز»العلمي في القرآن و السنّة في مجال تخلق الجنين(حكم رقم 20).
ص: 614
[ح 18]عن سالم بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن أبيه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشّعر بين رجلين ينطف رأسه ماء...».
انظر ص:109.
-أخرجه البخاري في«كتاب أحاديث الأنبياء»،(48)باب قول اللّه: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا... [مريم:16]،رقم 3441.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الإيمان»،(75)باب ذكر المسيح ابن مريم و المسيح الدّجّال،رقم 277.و اللفظ له.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 19]عن الزهريّ قال:أخبرني أنس بن مالك قال:كنّا جلوسا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنّة»،فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه..
انظر ص:109.
-رواه الإمام أحمد في المسند 3:166.
قال المنذري في«الترغيب و الترهيب»3:548-549،من كتاب الأدب باب الترهيب من الحسد و فضل سلامة الصدر:بإسناد على شرط البخاري و مسلم،و النّسائي، و رواته احتجّا بهم أيضا،إلا شيخه سويد بن نصر و هو ثقة.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 20]حدثنا حسين بن الحسن،حدثنا أبو كدينة،عن عطاء بن السائب،عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد اللّه قال:مرّ يهوديّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يحدث أصحابه،فقالت قريش:يا يهوديّ:إنّ هذا يزعم أنّه نبيّ،فقال:لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلاّ نبيّ،قال:فجاء حتّى جلس ثمّ قال:يا محمّد ممّ يخلق الإنسان؟قال:«يا يهوديّ من كلّ يخلق،من نطفة الرّجل و من نطفة المرأة،فأمّا نطفة الرّجل فنطفة غليظة منها العظم و العصب،و أمّا نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللّحم و الدّم،فقام اليهوديّ فقال:هكذا كان يقول من قبلك».
ص: 615
انظر ص:111-133-134-142-214-220.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 1:465.
[في سنده حسين بن حسن الأشقر الفزاري ضعيف،قال البخاري:«فيه نظر»،و قال أبو زرعة:«منكر الحديث»،و ذكره ابن حبان في الثقات،و قال ابن حجر:صدوق يهم و يغلو في التشيّع،ينظر:شرحه في المسند لأحمد شاكر 6:199،و تقريب التهذيب رقم:1318،و«كتاب التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة»للحسيني رقم 1304].
و ينظر«مسند الإمام أحمد»7:437،من طبعة الرسالة.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:إن بعض متن هذا الحديث صحيح مثل:(يا يهوديّ من كلّ يخلق،من نطفة الرّجل و من نطفة المرأة،فأمّا نطفة الرّجل فنطفة غليظة ...،و أمّا نطفة المرأة فنطفة رقيقة...)،و بعضه الآخر غير صحيح مثل:أن العظم و العصب من نطفة الرجل،و أن اللحم و الدم من نطفة المرأة.و ما يقوله العلم اليوم هي أن كل الأعضاء تتخلق مناصفة من نطفة الرجل و نطفة المرأة.و يشهد للجزء الصحيح من هذا المتن الحديث رقم 67 على وجه عام،و رقم 69 على وجه خاص.
و من الجدير بالذكر أن العلماء اختلفوا في الحكم على راو من رواة الحديث،حيث أفاد قول العلماء فيه أنه ينفرد بروايات،و له أوهام،و بالتالي فاحتمال الوهم فيه وارد.و عليه فإن الجزء الذي انفرد بروايته،و الذي عارض العلم الكوني،يعدّ ضعيفا لا يصلح للاحتجاج به في مجال الإعجاز العلمي.و ينطبق على مجمل الحديث حكم رقم(14).
*[ح 21]عن مالك بن الحويرث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إنّ اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة،فجامع الرّجل المرأة،طار ماؤه في كلّ عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى،ثم أحضر له كلّ عرق له بينه و بين آدم.ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]».
انظر ص:80-136-141-142-144-145-148-150-151-152- 153-226-234-235-241-242-245-247-248-268-301-302 -398-400-401-407-499-517-518-521-527-533-552- 556-557-585-587-595-706.
ص: 616
-[رواه الطبراني في«الكبير»19:644،و الأوسط 2:365-366،رقم 1636، و«الصغير»:106،و البيهقيّ في«الأسماء و الصفات»2:129(ط 1،1985 م،دار الكتاب العربي)و ابن منده في كتاب«التوحيد»،و قال:إسناده متّصل مشهور على رسم أبي عيسى-أي الترمذي-و النّسائي و غيرهما،و جوّد السيوطي إسناده،و قال الهيثمي:رجاله ثقات،ينظر:جامع العلوم و الحكم لابن رجب:154،و مجمع الزوائد 7:134،و الدر المنثور:439/8].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث جيّد الإسناد،و هو صحيح المعنى.
و يتناول أخبارا علمية غيبية،و هي-باختصار-انتشار صبغيات نطفة الرجل بين صبغيات نطفة المرأة،و عملية إحضار«خطة تركيب الجنين»من الصبغيات.و بالتالي تتوفّر فيه جميع الشروط لأن نطلق عليه حكم«الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة» (حكم رقم 20).و قد ورد في متن آخر لهذا الحديث عند البيهقي لفظ«عضو»بدلا من لفظ«عصب»،و الأولى هو لفظ«عصب»،حيث إن المعطيات العلمية تقصر عملية الانتشار(أي عملية الطيران)على الصبغيات فقط كما يشير إليه معنى كلمتي «عرق»و«عصب»،و ليس على كلّ أعضاء النطفة المخصّبة.أضف إلى ذلك أنّ مجموع الأحاديث النبوية الشريفة جاء فيها لفظ«عرق»فقط دون لفظ«عضو».انظر تعليقنا عن التصحيف في حاشية«الملحق»المرفق في آخر الكتاب.
*[ح 22]حدثنا الجارود قال:حدثنا علي الحسين بن شقيق قال:أخبرنا عبد اللّه قال:حدثنا مغيرة بن مسلم عن عبد اللّه بن بريدة:أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود،فأخذ بيد امرأته فأتى بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت:و الذي بعثك بالحق لقد تزوّجني بكرا و ما أقعدت مقعده أحدا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقت، إن لك تسعة و تسعين عرقا،و له مثل ذلك،إذا كان حين الولد اضطربت العروق كلّها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له» (1).
انظر ص:146-150-155-156-208-211-381-400-530-533- 544-557(ح)-706-707-710(ح).7.
ص: 617
-أورده السيوطي في«الدر المنثور»،تفسير سورة الانفطار.
-و أخرجه الحكيم الترمذي في«نوادر الأصول»الأصل الثامن و الأربعون و المائة في الثلاثة التي تحت العرش.ص /191من الطبعة المصوّرة في دار صادر- بيروت-/،و قال في رواية ابن بريدة:أن رجلا من الأنصار.../.
دراسة رجال السند:
-الجارود:هو الجارود (1)(فإما أن يكون أخطأ الناسخ،و إما أن تكون اضمحلّت نقطة حرف«ج»مع مرور الزمن)و الجارود هو من شيوخ الحكيم الترمذي،و هو شيعي ثقة و اسمه عباد بن يعقوب الرواجني(سير أعلام النبلاء:536/11).
-علي الحسين بن شقيق:هو علي بن الحسن (2)بن شقيق(خطأ من الناسخ)من شيوخ البخاري و أحمد بن حنبل و هو ثقة(تهذيب الكمال:371/20).
-عبد اللّه:هو(ابن المبارك)الإمام الحجة الثقة(تقريب التهذيب:320).
-مغيرة بن مسلم القسمني السّراج:صدوق(تقريب التهذيب:542).
-عبد اللّه بن بريدة:أبو سهل المروزي،قاضي مرو تابعي ثقة،توفي سنة 105 هجرية و قيل بل 115 هجرية و له مائة سنة،ينظر تقريب التهذيب رقم 3227.
فالحديث ضعيف لإرساله.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ضعيف لإرساله،و هو صحيح المعنى (إلا في عدد الصبغيات،حيث إن العدد في متن الحديث يتوافق مع المعطيات العلمية في رأس العدد-أي العدد«تسعين»-،و يختلف في الرقم الفرعي-أي العدد«تسعة»-مما يخفّف من وطأة الخطأ).و من الجدير بالذكر أن سند هذا الحديث آحادي،أي أنه لم يرو إلا من هذا الوجه،و بالتالي فإن احتمال الخطأ فيه وارد،خصوصا أنه ليس هناك سند قويّ متابع له يتكرر فيه هذا الخطأ،و بالتالي سنعتبر هذا الاختلاف ناتجا من سمع الرواة،و ليس من كذبهم لأن جميعهم ثقات.ن.
ص: 618
كذلك فإن الخطأ ليس ناجما من خطأ الناسخ و ذلك لأن لفظ«تسعة و تسعين عرقا» جاء في جميع المخطوطات التي تحققنا منها.
و من الجدير بالذكر أنّه يحتوي على عدّة إخبارات غيبية صحيحة و في غاية الدّقة مثل:
أن يكون للإنسان عامّة عروقا(و يشهد لهذا الظاهر الأحاديث رقم:21،23،65، 70،71،90،92).و أنّ هذه العروق تسبّب شبه الإنسان بأقربائه(انظر حديث رقم 21،65،71،90).و أن للرجل عددا مماثلا من العروق التي للمرأة،و أن هذه العروق تضطرب(انظر حديث رقم:21،23،65،70،90،92).و أن حادثة الاضطراب تحدث عند بداية«الخلق»-أي عند تخصيب البويضة المخصّبة-(انظر حديث رقم 23).و أن هذه العروق تدسّ صفات في النسل غير المباشر(انظر حديث رقم 21،63،65،71).
و بما أن ضعف هذا الحديث غير شديد و ذلك لأنه حديث مرسل عن ثقة (1)،و بما أن حادثة اضطراب العروق تندرج تحت ظاهرة كونية يعتقد ثبوتها في مجال الأحاديث النبوية الشريفة(كما أشرنا إليه سابقا في هذا التعليق)،و بما أن معظم متنه موافق للمعطيات العلمية المقررة(راجع مبحث«اضطراب عروق النطفة»)،فلا بأس من الاستشهاد به في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة (2)،شرط توضيح الفارق البسيط في رقم عدد الصبغيات،و تبيان كيفيّة حدوث هذا الخطأ.و ينطبق عليه الحكمان رقم 12 و 14.
*[ح 23]عن ابن عباس مرفوعا:«النطفة التي يخلق منها الولد،ترعد لها الأعضاء و العروق كلها،إذا خرجت،وقعت في الرحم».
انظر ص:155-156-208-210-211-214-215-400-599-705- 709(ح)-710(ح).
-أخرجه الديلمي.و هو شديد الضعف،قال السيوطي في«الدر المنثور»5:6:
«بسند واه».و ذكره ابن عرّاق الكناني في«تنزيه الشريعة»1:226 رقم 157.».
ص: 619
و في سنده:نهشل بن سعيد بن وردان،...متروك-أي متّهم بالكذب-و كذّبه إسحاق بن راهويه/التقريب /7198.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث شديد ضعف السند،صحيح المعنى، و ذلك لأن راويه«نهشل»اتّهم بالكذب.و لفظ«الأعضاء»لا يتوافق مع المعطيات العلمية كما أشرنا إليه في تعليقنا على الحديث رقم 21.و هو يشير إلى معظم الدلالات العلمية التي يتحدث عنها الحديث السابق،و هي:أن للإنسان عامّة عروقا، و أن هذه العروق ترعد-أي تضطرب-،و أن حادثة الارتعاد تحدث بعد حصول عملية«الخلق»-أي بعد تخصيب البويضة المخصّبة-.و يضيف إلى ذلك أن النطفة تأتي من خارج الرّحم،و أنها تخرج من مكان ما لتقع بالرّحم،و يشهد لهاتين الظاهرتين الأخريين الحديث رقم 32.و بما أن الحديث ضعيف جدا(مع أن متنه يوافق المعطيات العلمية)فلا يصح الاحتجاج به في الإعجاز،حتى يثبت معناه من نصوص أخرى،و ينطبق عليه الحكم رقم 16.غير أننا نستطيع أن نعتبره أثرا إسلاميا،مع عدم نسبته للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و أن نجعله قاعدة للبحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة.
*[ح 24]في حديث يزيد بن الأسود العامري:«فجيء بهما ترعد فرائصهما/أي ترجف و تضطرب من الخوف/».
انظر ص:156.
-أخرجه الترمذي في«كتاب الصلاة»،(163)باب ما جاء في الرجل يصلّي وحده ثمّ يدرك الجماعة،رقم 219.و اللفظ له.و قال:حديث حسن صحيح.
-و أخرجه النسائي في«كتاب الإمامة»،(54)باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده،رقم 858.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 25]عن عليّ-كرّم اللّه وجهه-:«و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة إنّه لعهد النّبيّ الأمّيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن و لا يبغضني إلاّ منافق».
انظر ص:159-499(ح).
-أخرجه مسلم في«كتاب الإيمان»،(33)باب الدليل على أن حبّ الأنصار
ص: 620
و عليّ رضي اللّه عنهم من الإيمان...،رقم 131.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 26]عن فاطمة بنت أبي حبيش أنّها كانت تستحاض فقال لها النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا كان دم الحيض فإنّه دم أسود يعرف،فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصّلاة،فإذا كان الآخر فتوضّئي و صلّي».
انظر ص:180-186-189.
-أخرجه أبو داود في سننه في«كتاب الطهارة»،باب من قال توضأ لكل صلاة، رقم 304.و اللفظ له.
و أخرجه أيضا في«كتاب الطهارة»،باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، رقم 286،بهذا اللفظ:«إذا كان دم الحيضة فإنّه دم أسود يعرف،...فإنما هو عرق».
[قلت:سكت أبو داود عن الحديثين].
-و أخرجه النّسائي في«كتاب الطهارة»،(138)باب الفرق بين دم الحيض و الاستحاضة،رقم 215 و 216.
و أخرجه أيضا في«كتاب الحيض و الاستحاضة»،(6)باب الفرق بين دم الحيض و الاستحاضة،رقم 362 و 363.
[قال ابن القيّم في«تهذيب سنن أبي داود»-المطبوع مع كتاب«معالم السّنن» للخطّابي،بعد أن نقل كلام ابن القطّان بأنه منقطع-قال:في 1:183«و لم يروه أصحاب الصحيح،و إنّما رواه أبو داود و النّسائي،و سأل عنه ابن أبي حاتم أباه فضعّفه،و قال:هذا منكر،و صححه الحاكم».انتهى].
-و أخرجه البخاري في«كتاب الحيض»،(26)باب عرق الاستحاضة،رقم 327.
-و أخرجه أبو داود في سننه في«كتاب الطهارة»،باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة،رقم 289،و سنده:حدثنا أحمد بن صالح،ثنا عنبسة،ثنا يونس،عن ابن شهاب،أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن،عن أم حبيبة بهذا الحديث -أي الحديث الذي سبق الرقم 289،و هو حديث 288،أن أم حبيبة...
استحيضت سبع سنين...فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن هذه ليست بالحيضة،و لكن هذا عرق فاغتسلي و صلي...»-.
قال الحافظ ابن حجر في«الفتح»1:427-بعد حديث...327:و كذا أخرجه
ص: 621
مسلم...،و أبو داود من طريق الأوزاعي...-قال:و مسلم أيضا من طريق إبراهيم بن سعد[ح رقم 64]،و أبو داود من طريق يونس كلاهما عن الزهري عن عمرة وحدها،قال الدارقطني:هو صحيح من رواية الزهري عن عروة و عمرة جميعا.انتهى.
[فيكون حديث أبي داود برقم 289 صحيحا].
[و قال الشيخ عبد القادر الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»7:367:و هو حديث صحيح/أي عن حديث رقم /289].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند(و إن كان فيه اختلاف بين العلماء،و لكن الظاهر أنه صحيح)،و هو صحيح المعنى.و هو يتكلم عن ظاهرة علمية،أ لا و هي:صفة دم الحيض،و هذا الأمر واضح للعيان و النساء ذوات الخبرة بذلك،و بالتالي لا يصح أن نعتبره إعجازا علميا،و لكن يصح أن نعتبره مرجعا دينيا علميا ملفتا للنظر.و ينطبق عليه حكم رقم 9.
*[ح 27]عن أمّ سلمة قالت:جاءت فاطمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:إني أستحاض، فقال:«ليس ذلك بالحيض إنّما هو عرق،لتقعد أيام أقرائها،ثم لتغتسل،ثم لتستثفر بثوب،و لتصلّ».
انظر ص:180-186-187-188-587.
-أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد عن أم سلمة(المسند 6:304).
و أخرجه أحمد أيضا عن عائشة(المسند 6:194)أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:إني أستحاض فلا أطهر أ فأدع الصلاة قال:«لا،ليس ذلك بالحيض إنما ذلك عرق،فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلي».
-و أصله في البخاري«كتاب الحيض»،(8)باب الاستحاضة،رقم 306 عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت:قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:يا رسول اللّه:
إني لا أطهر،أ فأدع الصلاة؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنما ذلك عرق و ليس بالحيضة، ...»الحديث.
-و أخرجه أيضا مسلم في«كتاب الحيض»،(14)باب المستحاضة و غسلها و صلاتها،رقم 333/62.
ص: 622
-و أخرجه مالك في«الموطأ»،«كتاب الطهارة»،(29)باب المستحاضة رقم 10.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح لأن أصله ورد في البخاري، و هو يتكلم عن ظاهرة غيبية أ لا و هي:ما يمتاز به الرّحم في تركيبته:و هو وجود العروق فيه بشكل مكثّف،و بالتالي يصح أن نعتبره إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 28]عن صفيّة بنت حييّ قالت:...قال(رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم):«إنّ الشّيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم».
انظر ص:186.
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الخلق»،(11)باب صفة إبليس و جنوده،رقم 3281.و اللفظ له.
و أخرجه أيضا بهذا اللفظ في«كتاب الاعتكاف»،(11)باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه،رقم 2038.
و بلفظ«من ابن آدم»أخرجه في«كتاب الأحكام»،(21)باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك الخصم،رقم 7171.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة علمية غير غيبية،لأنه باستطاعة الأطباء في كل العصور تشريح جسم الإنسان و معرفة هذه الظاهرة،و بالتالي لا يصح أن نعتبره إعجازا علميا،و لكن يصح أن نعتبره مرجعا دينيا علميا ملفتا للنظر.و ينطبق عليه حكم رقم 9.
*[ح 29]عن عائشة رضي اللّه عنها:«و كانت/أي أم حبيبة/تغتسل أحيانا في مركن في حجرة أختها زينب و هي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،حتّى أنّ حمرة الدّم لتعلو الماء...».
انظر ص:186.
-أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،(14)باب المستحاضة و غسلها و صلاتها، رقم 64(بلفظ قريب منه).
-و النّسائي في«كتاب الطهارة»،(134)باب ذكر الاغتسال من الحيض،رقم 204.و اللفظ له.
-و أبو داود-بمثل لفظ مسلم-في«كتاب الطهارة»،باب من روى أنّ المستحاضة تغتسل لكل صلاة،رقم 288.
ص: 623
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:83-187-237.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.إلا أنه يتكلم عن ظاهرة علمية.
*[ح 30]عن عائشة رضي اللّه عنها؛أنّ امرأة مستحاضة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قيل لها أنّه عرق عاند...
انظر ص:187.
-أخرجه النّسائي في«كتاب الطهارة»،(136)باب ذكر اغتسال المستحاضة،رقم 213.و اللفظ له.
و أخرجه أيضا في«كتاب الحيض و الاستحاضة»،(5)باب جمع المستحاضة بين الصلاتين و غسلها إذا جمعت،رقم 360.
قال الشيخ عبد القادر الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»7:370:و هو حديث صحيح.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:172.
قال الساعاتي في«الفتح الرّبّاني»2:178:الحديث رجاله كلهم رجال الصحيحين (أي البخاري و مسلم).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى،و هو يتكلم عن أسباب استحاضة النساء،و هو مقاومة العرق لتخثّر الدم،و هو أمر غيبي، تحدث به أحد الصحابة و أصاب بنور من اللّه تعالى كما جاء في الحديث:«اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه»[ح 74]،و لا يعتبر هذا الجزء من الحديث إعجازا علميا لأن لم يدّع أحد من الصحابة معرفة الغيب.و يعتبر أثرا إسلاميا علميا ملفتا للنظر،و ينطبق عليه الحكم رقم 19.
*[ح 31]حدثنا يحيى بن أبي بكير قال:ثنا إسرائيل عن عثمان بن سعد عن عبد اللّه ابن أبي مليكة قال:حدثتني خالتي فاطمة بنت أبي حبيش قالت:...فقال (رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم):«مري فاطمة بنت أبي حبيش،فلتمسك كلّ شهر عدد أيّام أقرائها،ثمّ تغتسل و تحتشي،و تستثفر،و تنظّف،ثمّ تطهّر عند كلّ صلاة، و تصلّي فإنّما ذلك ركضة من الشّيطان،أو عرق انقطع،أو داء عرض لها».
ص: 624
انظر ص:180-186-187.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:464.
و فيه(عثمان بن سعد)وثّقه أبو نعيم و شيخه الحاكم،و ليّنه غير واحد منهم النسائي و ابن معين و يحيى بن سعيد القطان انظر«الكاشف»للذهبي رقم 3699،و«التذكرة» للحسيني 2:1138 رقم 4498،و«تهذيب التهذيب»لابن حجر 7:117،و قال ابن عديّ:هو حسن الحديث و مع ضعفه يكتب حديثه،و الحديث له شواهد يرقى بها للاحتجاج.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يحتجّ به من ناحية السند،و هو صحيح المعنى.و يتكلّم عن أسباب استحاضة النساء،و هو أن العروق تنقطع داخل الرحم، و هذا أمر غيبي لم يعلمه العلماء إلا بعد أن درسوا بدقّة مقطع الرحم و تكوينه، و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 32]عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال:إذا وقعت النطفة في الرحم،بعث اللّه ملكا فقال:يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة،مجّتها الأرحام دما، و إن قال:مخلّقة،قال:يا ربّ:فما صفة هذه النطفة؟أذكر أم أنثى؟ما رزقها؟ما أجلها؟أ شقيّ أم سعيد؟قال:فيقال له:انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة،قال:فينطلق الملك فينسخها،فلا تزال حتى يأتي على آخر صفتها.
انظر ص:169-170-206-208-209-210-211-213-214-215-297 (ح)-343-348-399-543(ح)-558(ح)-585-586-589-706.
قال بدر الدين العيني في عمدة القاري-ج /3ص 291-:«و قد بين ذلك حديث رواه الطبراني بإسناد صحيح من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:(إذا وقعت النطفة في الرّحم بعث اللّه ملكا،فقال يا ربّ:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلّقة،مجّها الرحم دما،و إن قال:مخلّقة،قال:يا ربّ:فما صفة هذه النطفة؟فيقال له:انطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد قصة هذه النطفة،فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب)،و هو موقوف لفظا،مرفوع حكما،لأن الإخبار عن شيء لا يدركه العقل محمول على السماع».
و انظر فتح الباري في صحيح البخاري لابن حجر[1:418-419]،و قد عزاه إلى الإمام الطبري،و هو موجود عنده بنفس الإسناد المذكور آنفا في تفسير سورة الحج،
ص: 625
و هو كالتالي:(حدثنا أبو كريب،قال:ثنا أبو معاوية،عن داود بن أبي هند،عن عامر،عن علقمة،عن عبد اللّه،قال:....[الحديث]).
أقول:إن ابن مسعود صحابي جليل في منتهى الصدق،و قد روي عنه أشهر حديث في الصحيحين على الإطلاق في مجال تخلق الجنين،و هو حديث رقم[43]أو [46]،و بالتالي فمن المستبعد تماما أن يتكلم برأيه عن حادثة غيبية،لذا وجب أن يقول هذا الحديث استنادا إلى شيء عنده عن طريق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذلك لعدّة أسباب:
1-أن هذا الخبر لا يقال من قبل الرأي،و لا سبيل إلى معرفة هذا إلا عن طريق النّبوة.
2-أن ابن مسعود رضي اللّه عنه لم يرو عن أهل الكتاب،و لم يعرف بالرواية عنهم (1).
3-أنه من تتّبع الأحاديث التي رويت عن ابن مسعود رضي اللّه عنه لاحظ أنه لا يرفع الحديث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-أو جزءا من الحديث-إلا إذا تأكّد من أدائه بلفظه كما سمعه، و يسكت عن رفع باقي الحديث و يرويه بالمعنى،بالرغم من أن الأحاديث التي رواها رويت بأسانيد أخرى مرفوعة بأكملها،و انظر في هذا الخصوص-على سبيل المثال -:الحديث الذي روي في صحيح مسلم،كتاب«الفتن و أشراط الساعة»،باب «إقبال الروم في كثرة القتل عند خروج الدجال»،رقم 2899،و الحديث الذي روي في صحيح البخاري،في كتاب«الفرائض»،باب«ميراث ابنة الابن مع بنت»،مع الحديث الذي روي في نفس المرجع السابق،في نفس الكتاب،و لكن تحت باب «ميراث الأخوات مع البنات عصبة».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى، و يتكلّم عن ظاهرتين غيبيّتين:وقوع النطفة في الرّحم،و الإجهاض المبكر،و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 33]قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«النطفة إذا استقرّت في الرّحم جاءها ملك،فأخذها بكفّه فقال:
أي ربّ:مخلّقة أم غير مخلّقة؟فإن قيل:غير مخلّقة،لم تكن نسمة،و قذفتها الأرحام دما».).
ص: 626
انظر ص:206-235(ح)-297-400.
-[جاء في«جامع العلوم و الحكم»ص 160:خرّجه ابن أبي حاتم و غيره.
-و في التعليق على الكتاب:و رواه أيضا الطبريّ 17:117،و إسناده صحيح].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى، و يتكلّم عن ظاهرتين غيبيتين:استقرار النطفة في الرّحم،و الإجهاض المبكر.
و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 34]عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ اللّه؛لا يعلم ما في غد إلاّ اللّه،و لا يعلم ما تغيض الأرحام إلاّ اللّه،و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلاّ اللّه،و لا تدري نفس بأيّ أرض تموت،و لا يعلم متى تقوم السّاعة إلاّ اللّه».
انظر ص:226-227-229(ح)-230(ح)-233-234.
-أخرجه البخاري في«كتاب التفسير»،سورة الرعد،باب اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ [الرعد:8]،غيض:نقص،رقم 4697،لكن بلفظ «مفاتيح...».
[و قد روي هذا الحديث في البخاري في أكثر من موضع بألفاظ مختصرة،و فيها تقديم و تأخير...].و اللفظ له.
-و أخرجه أحمد في المسند بلفظ مأخوذ من الآية 2:122،و في 2:24-و في 2:52 بلفظ قريب من لفظ البخاري-و في 2:58.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتحدّى العلماء و البشر أجمعين على أن يعلموا ما هي خصائص النطفة في مرحلة غيضها في الرحم.و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 35]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«كلّ ابن آدم يأكله التّراب إلاّ عجب الذّنب منه خلق و فيه يركّب».
انظر ص:247-249-250-401.
-أخرجه مسلم في«كتاب الفتن»،(28)باب ما بين النفختين،رقم 142.و اللفظ له.و ينظر فيه رقم 141 و 143.
ص: 627
-و في البخاري لفظ قريب من حديثي مسلم-برقم 141 و 143-في«كتاب التفسير»،باب وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ... [الزمر:
68]من سورة الزمر،رقم 4814.و في سورة عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ]باب يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ... [النبأ:18]،رقم 4935.
-و أخرجه أبو داود في«كتاب السّنّة»باب في ذكر البعث و الصّور،رقم 4743.
-و أخرجه الإمام مالك في الموطّأ في«كتاب الجنائز»،(16)باب جامع الجنائز، رقم 48 بلفظ«تأكله الأرض».
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 2:322-428.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلّم عن ظاهرة غيبية جدا لم يعلمها العلماء الكونيون إلا في الآونة الأخيرة:و هي أن تخلق الجنين يكون من مؤخرة ذنبه.و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 36]عن الحسن بن موسى،عن عبد اللّه،عن دراج بن سمعان(أبو السمح) عن سليمان بن عمرو بن عبد،عن سعد بن مالك(أبي سعيد الخدري)عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«يأكل التّراب كلّ شيء من الإنسان إلاّ عجب ذنبه»، قيل:و مثل ما هو يا رسول اللّه؟قال:«مثل حبّة خردل منه تنبتون».
انظر ص:247-249-250.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 3:28.و اللفظ له عن أبي سعيد الخدري و حسّن الهيثمي إسناده في«مجمع الزوائد»10:332،من«كتاب البعث»،باب قيام الساعة و كيف ينبتون.و سكت عنه الحافظ في«فتح الباري»6:552 من«كتاب التفسير»،سورة الزّمر...،عند الحديث رقم 4814.
-و قد أخرجه الحاكم و قال:«صحيح الإسناد»و سكت عنه الذهبي.
و في سنده دراج أبي السمح و في روايته ضعف،و لكن الحديث صحيح بطرقه و شواهده.و ينظر الحديث رقم 35 السابق و الحديث رقم(37)الآتي.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح المعنى،و له حكم الحديث السابق،غير أنه يضيف إخبارا غيبيا آخر:و هو أن مؤخرة الذنب الذي ينشأ منه الجنين صغير الحجم جدا.
ص: 628
[ح 37]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:ما بين النّفختين أربعون، قال:أربعون يوما،قال:أبيت،قال:أربعون شهرا،قال:أبيت،قال:أربعون سنة،قال:أبيت،قال:ثمّ ينزل اللّه من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلاّ يبلى إلاّ عظما واحدا و هو عجب الذّنب و منه يركّب الخلق يوم القيامة.
انظر ص:247-249-250-260-261-265.
-أخرجه البخاري في«كتاب التفسير»،سورة عم،(1)باب يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ... [النبأ:18]،رقم 4935.
و ينظر الحديث رقم 35 المتقدم.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يضيف خبرا غيبيا آخر:و هو أن مؤخرة الذنب التي ينشأ منها الجنين مادّتها عظمية.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 38]عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم...إذا سجد قال:
«اللّهمّ لك سجدت و بك آمنت و لك أسلمت سجد وجهي للّذي خلقه و صوّره و شقّ سمعه و بصره تبارك اللّه أحسن الخالقين».
انظر ص:289-304-307(ص)-309-311.
-أخرجه مسلم في«كتاب صلاة المسافرين و قصرها»،(26)باب الدعاء في صلاة الليل و قيامه،رقم 201.و اللفظ له.
-و أخرجه أبو داود في«كتاب الصلاة»،باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، رقم 760.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة غيبية،و هي كيفية خلق السمع و البصر لدى الجنين،و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي، و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 39]حدّثنا ابن أبي عمر و سعيد بن عبد الرّحمن المخزوميّ قالا:حدّثنا سفيان ابن عيينة،عن الزّهري،عن أبي سلمة قال:اشتكى أبو الرّدّاد اللّيثيّ فعاده عبد الرّحمن بن عوف فقال:خيرهم و أوصلهم ما علمت أبا محمّد،فقال
ص: 629
عبد الرّحمن:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«قال اللّه تبارك و تعالى:أنا اللّه، و أنا الرّحمن،خلقت الرّحم،و شققت لها من اسمي،فمن وصلها وصلته،و من قطعها بتّته».
انظر ص:304.
-أخرجه أبو داود في«كتاب الزّكاة»،باب في صلة الرّحم،رقم 1694.
-و الترمذي في«كتاب البرّ و الصّلة»،(9)باب ما جاء في قطيعة الرّحم،رقم 1907.قال الترمذي:حديث صحيح.و اللفظ له.
قال الشيخ عبد القادر الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»6:486:إسناده-أي إسناد الترمذي-منقطع.«و للمتن متابع رواه أبو يعلى بسند صحيح».انتهى.
قلت:ينظر«تهذيب التهذيب»لابن حجر 3:271،ترجمة ردّاد اللّيثي.و«تحفة الأحوذي»للمباركفوري 6:34-35.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 40]عن عبد اللّه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ليس منّا من شقّ الجيوب،و ضرب الخدود،و دعا بدعوة الجاهليّة».
انظر ص:305.
-أخرجه البخاري في«كتاب الجنائز»،(35)باب ليس منا من شق الجيوب،رقم 1294.و في(38)باب ليس منا من ضرب الخدود.و في(39)باب ما ينهى من الويل و دعوى الجاهلية عند المصيبة.(بألفاظ فيها تقديم و تأخير).
-و مسلم في«كتاب الإيمان»،(44)باب تحريم ضرب الخدود و شق الجيوب و الدعاء بدعوى الجاهلية،رقم 165،بلفظ:«ليس منا من ضرب الخدود،أو شق الجيوب،أو دعا بدعوى الجاهلية».
-و الترمذي في«كتاب الجنائز»،(22)باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود و شق الجيوب عند المصيبة،رقم 999.و اللفظ له.و قال:هذا حديث حسن صحيح.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 41]عن معيقيب بن أبي فاطمة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال في الرّجل يسوّي التّراب حيث يسجد،قال:«إن كنت فاعلا فواحدة».
ص: 630
انظر ص:317.
-أخرجه البخاري في«كتاب العمل في الصلاة»،(8)باب مسح الحصى في الصلاة،رقم 1207.
-و أخرجه مسلم في«كتاب المساجد و مواضع الصلاة»،(12)باب كراهة مسح الحصى و تسوية التراب في الصلاة،رقم 49.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 42]عن عبد اللّه بن فرّوخ أنه سمع عائشة رضي اللّه عنها تقول:إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«إنّه خلق كلّ إنسان من بني آدم على ستّين و ثلاث مائة مفصل،فمن كبّر اللّه، و حمد اللّه،و هلّل اللّه،و سبّح اللّه،و استغفر اللّه،و عزل حجرا عن طريق النّاس،أو شوكة أو عظما عن طريق النّاس،و أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك السّتّين و الثّلاث مائة السّلامى فإنّه يمشي يومئذ و قد زحزح نفسه عن النّار».
انظر ص:323-333-381(ح)-556.
-أخرجه مسلم في«كتاب الزكاة»،(16)باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف،رقم 54.
-[و قريب من القسم الأول من الحديث،في مسند الإمام أحمد 5:354 و 35].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة غيبية،و هي عدد المفاصل أو العظام لدى الجنين،و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي، و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 43]عن عبد اللّه(بن مسعود)رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-و هو الصّادق المصدوق-:«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما،ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح و يؤمر بأربع كلمات؛بكتب رزقه و أجله و عمله و شقيّ أو سعيد، فو الّذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها و إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها».
ص: 631
انظر ص:289-295-301-302-316-317-331-341-342-381 (ح)-398-424-430-576.
-أخرجه البخاري في«كتاب القدر»،(1)باب(في القدر)،رقم 6594.
و في«كتاب بدء الخلق»،(6)باب ذكر الملائكة،رقم 3208.
و في«كتاب أحاديث الأنبياء»،(1)باب خلق آدم و ذريته،رقم 3332.
و في«كتاب التوحيد»،(28)باب قوله تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات:171]،رقم 7454.
-و أخرجه مسلم في«كتاب القدر»،(1)باب كيفية الخلق الآدميّ،في بطن أمه، و كتابة رزقه و أجله و عمله،...،رقم 1.و اللفظ له.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن عدّة ظواهر غيبية،أبرزها:
أن الجنين يمرّ بما يسمى ظاهرة«جمع الخلق»،و أن هذه الفترة مدّتها أربعون يوما، و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 44]عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا أراد اللّه أن يخلق نسمة قال ملك الأرحام معرضا:أي ربّ:أذكر أم أنثى؟فيقضي اللّه،فيقول:أي ربّ:
أ شقي أم سعيد؟فيقضي اللّه أمره،ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها».
انظر ص:349.
-قال الهيثمي في«مجمع الزوائد»7:193،من«كتاب القدر»،باب ما يكتب على العبد في بطن أمه:رواه أبو يعلى و البزّار،و رجال أبي يعلى رجال الصحيح.
انتهى.
-و الحديث في«مسند أبي يعلى الموصلي»10:154 رقم 5775،قال المحقق:
إسناده صحيح.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى،و هو يتحدث عن أن الجنين يؤنّث أو يذكّر بعد مرحلة خلق الشيء الحي-أي بعد مرحلة نفخ الروح-و هذا الأمر غيبي نستطيع أن نحدد وقته إذا ما استعنّا بأحاديث أخرى.
و هو يتكلّم أيضا عن حادثة غير مرئية و غير واضحة تمام الوضوح للعلم الكوني، و هي كتابة مصير الجنين بين عينيه.و يصح أن نعتبره إعجازا علميا في مجال إذكار أو إيناث الجنين،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
ص: 632
[ح 45]عن أبي الزّبير المكي أن عامر بن واثلة حدّثه...فأتى رجلا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري...فقال له الرجل:...فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«إذا مرّ بالنّطفة ثنتان و أربعون ليلة،بعث اللّه إليها ملكا،فصوّرها و خلق سمعها و بصرها و جلدها و لحمها و عظامها،ثمّ قال:يا ربّ:أذكر أم أنثى؟فيقضي ربّك ما شاء،و يكتب الملك،ثمّ يقول:يا ربّ:
أجله؟فيقول ربّك ما شاء،و يكتب الملك،ثمّ يقول:يا ربّ:رزقه؟فيقضي ربّك ما شاء،و يكتب الملك،ثمّ يخرج الملك بالصّحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر و لا ينقص».
انظر ص:107(ح)-316-319-321-331-340-345-349-356- 361-363-368-401-402-421-426-427-428.
-أخرجه مسلم بهذا اللفظ في«كتاب القدر»،(1)باب كيفية الخلق الآدمي،في بطن أمه،و كتابة رزقه و أجله و عمله،و شقاوته و سعادته،رقم 2645.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن عدّة ظواهر غيبية،و لا سيما أن تصوير و خلق السمع و البصر و الجلد و اللحم و العظام يأتي زمنيا بعد اثنين و أربعين يوما،و قبل إذكار أو إيناث الجنين،و هو أمر غيبي،و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 46]عن عبد اللّه(بن مسعود)حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-و هو الصّادق المصدوق-،قال:«إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما،ثمّ يكون علقة مثل ذلك،ثمّ يكون مضغة مثل ذلك،ثمّ يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع كلمات و يقال له:اكتب عمله و رزقه و أجله و شقيّ أو سعيد،ثمّ ينفخ فيه الرّوح،فإنّ الرّجل منكم ليعمل حتّى ما يكون بينه و بين الجنّة إلاّ ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النّار،و يعمل حتّى ما يكون بينه و بين النّار إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة».(نسخة الحافظ اليونيني«فيعمل»4:135،تصوير دار إحياء التراث العربي-بيروت-عن طبعة البابي الحلبي-القاهرة-سنة 1378 هجرية).
انظر ص:341-342-423.
ص: 633
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الخلق»،(6)باب ذكر الملائكة،رقم 3208.
و ينظر الحديث رقم 43.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 43.و لكن من الجدير بالذكر أن الحديث رقم 43 أدق في تعبيره من هذا الحديث،و بالتالي من الأولى أن نستشهد بالحديث رقم 43 في مجال الإعجاز العلمي و في المجال التشريعي بالرغم من أن هذا الحديث أكثر تداولا بين العلماء المسلمين!!.
*[ح 47]عن حذيفة بن أسيد-يبلغ به النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم-قال:«يدخل الملك على النّطفة بعد ما تستقرّ في الرّحم بأربعين أو خمسة و أربعين ليلة،فيقول:يا ربّ:أ شقيّ أو سعيد؟فيكتبان،فيقول:أي ربّ:أذكر أو أنثى؟فيكتبان،و يكتب عمله و أثره و أجله و رزقه ثمّ تطوى الصّحف فلا يزاد فيها و لا ينقص».
انظر ص:426.
-أخرجه مسلم في«كتاب القدر»،(1)باب كيفية الخلق الآدميّ،في بطن أمه، و كتابة رزقه و أجله و عمله و شقاوته و سعادته،رقم 2644.و اللفظ له.
-و أخرجه أحمد في المسند 4:6-7.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة غيبية،و هي المدّة التي يمكث فيها الجنين قبل نفخ الروح فيه(بدلالة سؤال الملك لربّه عزّ و جلّ أ شقي أو سعيد-و هذا لا يكون إلا بعد نفخ الروح-)و قبل أن يؤنّث أو يذكّر.و من الجدير بالذكر أن الحديث ليس بوضوح الأحاديث رقم 43،و 45 و 46،من جهة أنه لا يصرح بوضوح مسألة نفخ الروح،و بالتالي من الأفضل أن نذكره مع الأحاديث السالفة الذكر لكي لا يحصل الالتباس.و لكن أهميته تكمن في أنه يذكر مدّة مختلفة قليلا عن مدّة الأربعين أو الاثنين و الأربعين حتى يظهر أن الأجنّة تختلف فيما بينها.
و يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 48]عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأذنيّ هاتين يقول:«إنّ النّطفة تقع في الرّحم أربعين ليلة ثمّ يتصوّر عليها الملك...».
انظر ص:215-426.
ص: 634
-أخرجه مسلم في«كتاب القدر»،(1)باب كيفية الخلق الآدمي،في بطن أمه، و كتابة رزقه و أجله و عمله،و شقاوته و سعادته،رقم(4/1)2645/.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن ظاهرة غيبية،و هي المدّة التي يمكث فيها الجنين قبل بدء عملية التصوير له.و بالتالي يصح الاحتجاج به على أنه إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 49]عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،رفع الحديث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«أنّ ملكا موكّلا بالرّحم إذا أراد اللّه أن يخلق شيئا بإذن اللّه لبضع و أربعين ليلة...».
انظر ص:426.
-أخرجه مسلم في«كتاب القدر»،(1)باب كيفية الخلق الآدمي،في بطن أمه، و كتابة رزقه و أجله و عمله و شقاوته و سعادته،رقم(4/2)2645/.
[تنبيه:بعض أجزاء الحديث-بتقديم و تأخير و اختلاف بعض اللفظ-في البخاري و مسند أحمد،لكن قوله:«إذا أراد...ليلة»في مسلم فقط].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 47.
*[ح 50]حدثنا أحمد بن عبد الملك،حدثنا الخطاب بن القاسم،عن خصيف، عن أبي الزّبير عن جابر قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا استقرّت النّطفة في الرّحم أربعين يوما أو أربعين ليلة بعث إليها ملكا فيقول:يا ربّ:ما رزقه؟فيقال له، فيقول:يا ربّ:ما أجله؟فيقال له،فيقول:يا ربّ:ذكر أو أنثى؟فيعلم، فيقول:يا ربّ:شقيّ أو سعيد؟فيعلم».
انظر ص:426.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند،3:397.[دون لفظ الجلالة«الله»، و في«الفتح الرّباني»للساعاتي 1:129 بلفظ:«بعث اللّه إليه ملكا».
و في«مجمع الزوائد»للهيثمي 7:192:«بعث اللّه إليها ملكا»].
-قال الهيثمي في«مجمع الزوائد»7:192:رواه أحمد،و فيه خصيف، وثّقه ابن معين و جماعة و فيه خلاف،و بقية رجاله ثقات.
ص: 635
و ينظر«تهذيب التهذيب»لابن حجر 3:143-144(ففيه خلاف كبير).
و في«التهذيب»عن ابن حبّان:إلا أن الإنصاف فيه:قبول ما وافق الثقات في الروايات و ترك ما لم يتابع عليه.
قال الحافظ ابن حجر في«تقريب التهذيب»رقم 1718:صدوق سيّئ الحفظ خلط بأخرة،و رمي بالإرجاء.
[جاء في حاشية التقريب:(خصيف:حسّن الترمذي حديثه)-من طبعة دار ابن حزم -بيروت-الأولى سنة 1420 هجرية،تحقيق العلاّمة المحدّث محمد عوّامة].
و الحديث،كما في«مسند أحمد»23:414،رقم 15269 من طبعة الرسالة،صحيح لغيره.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 47،إلا أنه لا يذكر مدّة مختلفة عن الأربعين.
*[ح 51]عن عامر بن سعد أن أسامة بن زيد أخبر والده سعد بن أبي وقاص أنّ رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:إنّي أعزل عن امرأتي،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لم تفعل ذلك؟»فقال الرّجل:أشفق على ولدها أو على أولادها،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لو كان ذلك ضارّا ضرّ فارس و الرّوم».
انظر ص:483-484-488.
-أخرجه مسلم في«كتاب النكاح»،(24)باب جواز الغيلة و هي وطء المرضع و كراهة العزل،رقم 1443/143.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن أمر معلوم،و هو أنّ فارس و الروم يجامعون نساءهم خلال الحمل،و قد يترتب على ذلك حمل المرأة،و قد يؤثر على نوعية لبنها.و لكن إقرار الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن مجامعة النساء خلال الحمل لا تضر ليس كإقرار الشعوب،فالشعوب التي مضت ترتكز على خبرتها في هذا المجال،و ليس لديها الإمكانية بأن تجري الفحوص المعملية،و أن تعلم التركيبة الكيميائية للبن الأم(و هذا من مجال الغيب في عصر ما قبل البعثة)و أن تتأكد أن ذلك يضرّ أو لا.أما إقرار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ففيه تحدّ لأنه عارض تقاليد شعبه،و يترتب عليه نفي النبوة منه في حال ثبت العكس،و بالتالي يصح أن نعتبر هذا الحديث على أنه إعجاز علمي في مجال الرضاعة،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
ص: 636
[ح 52]عن جدامة بنت وهب أخت عكّاشة قالت:حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أناس و هو يقول:«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الرّوم و فارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرّ أولادهم ذلك شيئا».
انظر ص:483-484-485-486.
-أخرجه مسلم في«كتاب النكاح»،(24)باب جواز الغيلة و هي وطء المرضع و كراهة العزل،رقم 1442/141.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:434 بهذا اللفظ أيضا،لكن بدل«فلا»:
بالفاء،و«لا»:بالواو.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 52.
*[ح 53]حدّثنا الرّبيع بن نافع أبو توبة حدّثنا محمّد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد بن السّكن قالت:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فإنّ الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه».
انظر ص:483-484-485-486.
-أخرجه-بهذا اللفظ-أبو داود في سننه في«كتاب الطّب»،باب في الغيل، رقم 3881.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:453،باللفظ:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فإن قتل الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه».
و أخرجه أيضا في المسند 6:458 بلفظ:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره من فوق فرسه».
قال الساعاتي في«الفتح الرّباني»16:221:و سنده حسن.
-و أخرجه ابن ماجة في سننه في«كتاب النكاح»،(61)باب الغيل،رقم 2012 بلفظ:«لا تقتلوا أولادكم سرّا فو الّذي نفسي بيده إن الغيل ليدرك الفارس على ظهر فرسه حتى يصرعه».
قال الشيخ الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»11:528:و في سنده:المهاجر بن أبي مسلم(مولى أسماء بنت يزيد بن السّكن)،لم يوثقه غير ابن حبّان،و باقي رجاله ثقات.انتهى.
ص: 637
و المهاجر بن أبي مسلم،قال عنه الذهبي في«الكاشف»،رقم 5660:وثق.
و قال عنه ابن حجر في«التقريب»رقم 6925:مقبول من الثالثة(أي الطبقة الوسطى من التابعين).
و قول الحافظ ابن حجر:«مقبول»،يعني أنه:[من ليس له من الحديث إلا القليل، و لم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله،(مقبول)حيث يتابع].(ينظر مقدمة التقريب المرتبة السادسة).
-و الحديث أخرجه أحمد في المسند،و أبو داود و ابن ماجة،و البيهقي 7:464 (البيهقي من طريق أبي داود برقم 3881)كلّهم من طريق المهاجر بن أبي مسلم عن أسماء بنت يزيد بن السّكن.
و المهاجر روى عنه في هذا الحديث ابنه محمد بن مهاجر(عند أبي داود،رقم 3881،و أحمد،و البيهقي).
و روى عنه أيضا ابنه عمرو بن مهاجر هذا الحديث أيضا(عند ابن ماجة).
فتحصّل من ذلك أن محمد بن مهاجر له متابع هو أخوه عمرو بن مهاجر.و عندئذ يتجه تحسين الساعاتي للحديث،و اللّه تعالى أعلم.
و ينظر«تهذيب الكمال»للمزّي 28:582-583 رقم 6217،ترجمة المهاجر.
و بذلك ينظر في كلام الشيخ الأرناءوط-حفظه اللّه تعالى-.
و في«تهذيب سنن أبي داود»لابن القيّم 5:362-بعد أن أورد حديث مسلم عن سعد بن أبي وقاص:أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:إني أعزل عن امرأتي...،-قال ابن القيّم:و هذه الأحاديث:أصح من حديث أسماء بنت يزيد،و هو حديث شامي يرويه عمرو بن مهاجر عن أبيه المهاجر بن أسلم (1)مولى أسماء بنت يزيد-يعدّ في الشاميين-عن أسماء بنت يزيد،فإن كان صحيحا فيكون النهي عنه أوّلا إرشادا و كراهة،لا تحريما،و اللّه تعالى أعلم.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن،و هو صحيح المعنى،و بالتالي يصح الاحتجاج به.و هو يتكلّم عن أمر غيبي،و هو أثر لبن الأم الحامل على الرضيع مآلا،و هذا أمر غيبي،لا يعلمه إلا من بوسعه أن يجري أبحاثا معملية عدّة ذات طابع كيميائي و بيولوجي.و هذه ليست باستطاعة شعوب ما قبل البعثة،و بالتالي يصح أنم.
ص: 638
نعتبر هذا الحديث على أنه إعجاز علمي في مجال الرضاعة،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 54]عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في بنت حمزة:«لا تحلّ لي، يحرم من الرّضاع(الرضاعة)ما يحرم من النّسب،هي بنت أخي من الرّضاعة».
انظر ص:464-467-559.
-أخرجه البخاري في«كتاب الشهادات»،(7)باب الشهادة على الأنساب، و الرضاع المستفيض،و الموت القديم،رقم 2645.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الرّضاع»،(2)باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل،رقم 1445/9،و(3)باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة،رقم 1447/13.
و اللفظ لهما.
[تنبيه:هناك ألفاظ مثل:إن الرّضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة.
يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
كانت عائشة تقول:حرّموا من الرضاعة ما تحرّمون من النسب.
يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرّحم.
هذه الألفاظ في مسلم من الباب الثاني و الثالث].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يشير إلى أن الأخت من الرضاعة تحرم على أخيها من الرضاعة كحرمة الأخت من النسب.و تفسيرنا لهذه الحرمة ترتكز على حكمة أن الأخت بالرضاعة تصبح مورفولوجيّا قريبة إلى أخيها من جراء الرضاعة (و هذا صحيح من الناحية العلمية)،و بالتالي تأنف النفس البشرية أن يتزوج الرجل من المرأة القريبة منه.و قد يكون هناك سبب ثان علمي يسبب التحريم لم نكتشفه بعد، و بالتالي فهذا الحديث يرجى كشف حقيقته العلمية في المستقبل،و له القابليّة لأن يكون إعجازا علميا،للبحث و الاتعاظ.و ينطبق عليه الحكم رقم 5.و نعتبره-إلى حين اكتشاف الحقيقة العلمية-مرجعا دينيا علميا بارزا.
*[ح 55]عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم دخل عليها و عندها رجل،فكأنّه تغيّر وجهه كأنّه كره ذلك،فقالت:إنّه أخي،فقال:«انظرن من إخوانكنّ،فإنّما الرّضاعة من المجاعة».
ص: 639
انظر ص:471-475(ح).
-أخرجه البخاري في«كتاب الشهادات»،(7)باب الشهادة على الأنساب، و الرضاع المستفيض،رقم 2647.
و في«كتاب النكاح»،(21)باب من قال:لا رضاع بعد حولين،رقم 5102.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الرّضاع»،(8)باب إنما الرضاعة من المجاعة،رقم 1455/32،بلفظ:«انظرن إخوتكن من الرضاعة...».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يشير إلى أنه لا بد أن يكون الطفل جائعا لكي يتولّد عنده الحافز للامتصاص القوي،و يخرج بذلك اللبن المثقل.و بما أن الشعوب لم تكن تعلم قبل البعثة أن اللبن المثقل هو الذي يؤثر هيكليّا على الطفل فبالتالي يصحّ أن نعتبره إعجازا علميا في مجال الرضاعة.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 56]حدّثنا قتيبة،حدّثنا أبو عوانة،عن هشام بن عروة،عن أبيه،عن فاطمة بنت المنذر عن أمّ سلمة قالت:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرّضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثّدي و كان قبل الفطام».
انظر ص:447-456-467-468-471-474(ح)-576-583-586- 587(ح)-589.
-أخرجه الترمذي في«كتاب الرّضاع»،(5)باب ما جاء(أو ما ذكر)أن الرضاعة لا تحرّم إلا في الصّغر دون الحولين،رقم 1152.و اللفظ له.
-و ابن ماجة في«كتاب النكاح»،(37)باب لا رضاع بعد فصال،و لفظه:«لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء»،رقم 1946.
قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح.
و قال المباركفوري في«تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي»4:314:و صحّحه الحاكم أيضا.انتهى.
و في سند ابن ماجة:عبد اللّه بن لهيعة.
قال الحافظ ابن حجر في«تقريب التهذيب»رقم 3563:عبد اللّه بن لهيعة،أبو عبد الرحمن المصري،القاضي،صدوق،...خلط بعد احتراق كتبه،و رواية ابن المبارك و ابن وهب عنه أعدل من غيرهما،و له في مسلم بعض شيء مقرون.
ص: 640
و صحيح الحديث الألباني في«إرواء الغليل»:(ج /2ص 221).
قلت:و هذا من صحيح حديثه لأنه من رواية محمد بن وهب عنه.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح،و الحديث يشير إلى ظواهر علمية غيبية عدّة في غاية الدقّة.فهو يشير إلى أن هناك أكثر من نوع للبن الثدي (و هذا ليس بغيب لأننا نستطيع أن نميّز اللبن الخارج من الثدي بمجرد أن نلمسه أو نطعمه).و أن هناك أغشية تنفتق بالثدي(و هذا من الغيب،لأنها موجودة داخل الثدي،و غير مرئية).و أن اللبن المثقل هو الذي يخرج من خلال عملية الفتق للأغشية(و هذا من الغيب لأننا لا نستطيع أن نرى بالعين المجردة آلية خروج اللبن عبر الأغشية داخل الثدي).و أن هذا اللبن هو الذي يؤثر هيكليّا على جسم الرضيع (و هذا أيضا من الغيب حيث يتطلب معامل كيمائية و بيولوجية لمعرفة تأثيره)،ممّا يؤدي إلى تحريم علاقته بأمّه،و بالتالي يصح أن نعتبر الحديث إعجازا علميا لما يحتوي من أخبار غيبية.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 57]و قد أخبرنا أبو سعد بن محمد المالينيّ،أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ قال:سمعت عمر بن محمد الوكيل يقول:نا أبو الوليد بن برد الأنطاكي،نا الهيثم بن جميل،نا سفيان بن عيينة،عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرضاع إلا ما كان في الحولين».
انظر ص:459-460.
-[تنبيه:جاء في الموطّأ للإمام مالك 2:607 الحديث من رواية عبد اللّه بن مسعود بلفظ:«لا رضاعة إلا ما كان في الحولين»...قال محقق الموطأ-محمد فؤاد عبد الباقي:-قال أبو عمر-أي ابن عبد البر-:منقطع،و يتصل من وجوه.
«كتاب الرضاع»،(2)باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر،رقم 14].
-و في سنن البيهقي 7:462 أحاديث منها:
عن عبد اللّه-بن مسعود-قال:لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
عن ابن عباس قال:لا رضاع بعد حولين كاملين.
عن ابن عباس قال:لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
قال البيهقي:هذا هو الصحيح موقوف.
عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين»،قال البيهقي:قال أبو أحمد-أي الحافظ ابن عديّ صاحب«الكامل في الضّعفاء»-:
ص: 641
هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عيينة مسندا(أي ما اتصل سنده مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم)و غير الهيثم يوقف-أي يوقف الحديث-على ابن عباس رضي اللّه عنهما.
قال العلاّمة علاء الدّين المارديني الشهير بابن التركماني سنة 745 هجرية في«الجوهر النّقيّ»-و هو ذيل على سنن البيهقي-:الهيثم هذا وثّقه ابن حنبل و غيره.و قال الدارقطني:حافظ،فعلى هذا الحكم،له على ما هو الأصح عندهم لأنه ثقة،و قد زاد الرّفع انتهى.
[الراجح-و اللّه أعلم-الوقف كما يتبيّن من قول و نقل الحافظ الزّيلعي-سنة 762 هجرية-في«نصب الراية»3:218-219].
-و الحديث رواه الدارقطني في سننه 4:174،«كتاب الرضاع»بلفظ:«لا رضاع إلا ما كان في الحولين»عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.قال الدارقطني:لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل،و هو ثقة حافظ.
قال الحافظ ابن حجر في«فتح الباري»9:146-من«كتاب النكاح»،(21)باب من قال:لا رضاع بعد حولين،بعد أن أورد حديث ابن عباس و قال:رفعه:«لا رضاع إلا ما كان في الحولين»أخرجه الدارقطني،ثم نقل كلام الدارقطني في الهيثم- قال:و أخرجه ابن عدي.و قال-أي ابن عدي-غير الهيثم يوقفه على ابن عباس و هو المحفوظ.انتهى.
فتحصل من هذا كلّه أن المحفوظ هو أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس رضي اللّه عنهما، و اللّه تعالى أعلم.
أما الحكم على الحديث،فقد قال الشيخ عبد القادر الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»11:490:و يشهد له حديث الترمذي الذي بعده-أي رقم 56 المتقدّم-، فهو حديث حسن بشواهده.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن،و هو صحيح المعنى.و هو يتكلم ضمنيا عن ظاهرة علمية غيبية،و هي أن حركة الجهاز الهضمي و خمائره التي تساعد على الهضم لا تكتمل قبل نهاية سنتين من عمر الرضيع،و لم يعلم أحد هذه الظاهرة قبل البعثة لفقدان الوسائل المعملية و التشخيصية.و يشهد لمعنى هذا الحديث الآية: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة:233].
و بما أن الحديث في الغالب موقوف،فمن الاحتياط أن لا ننسبه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و بالتالي أن لا نعتبره إعجازا علميا،و أن نقول أن ابن عباس رضي اللّه عنه استوحى تفسيره من الآية السابقة الذكر(و هي التي نستطيع أن نقول إنها تشير إلى إعجاز علمي).كذلك، من الحكمة أن نعتبر الحديث أثرا إسلاميا من قول ابن عباس رضي اللّه عنهما،و أن نستشهد به
ص: 642
في تفسير الآية القرآنية.و لا ننكر على أحد أصرّ أن الحديث من قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك أن الهيثم رفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و قد يكون محقّا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 58]عن أبي موسى الهلاليّ عن أبيه أن رجلا كان في سفر فولدت امرأته فاحتبس لبنها فجعل يمصّه و يمجّه فدخل حلقه فأتى أبا موسى فقال:حرّمت عليك،قال:فأتى ابن مسعود فسأله فقال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يحرّم من الرّضاع إلاّ ما أنبت اللّحم و أنشز العظم».
انظر ص:459-474(ح)-476(ح)-587-589.
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 1:432،لكن بالراء المهملة في«أنشز»بدل الزاي.[قال الشيخ أحمد شاكر معلّقا على المسند 6:80،رقم 4114:و يروى:
«أنشز»العظم،بالزاي المعجمة].و اللفظ له.
و قد حكم الشيخ أحمد شاكر على الحديث بالضعف.
[و الحديث بسنده:حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه:أن رجلا كان في سفر...،لا يحرّم من الرضاع...الحديث].
قال الشيخ شاكر:أبوه-أي والد أبي موسى الهلالي-مجهول لم يترجم له أحد...
-و أخرجه أبو داود في«كتاب النكاح»،باب في رضاعة الكبير،رقم 2059، بلفظ:«لا رضاع إلا ما شدّ العظم و أنبت اللحم».من حديث ابن مسعود موقوفا.
و هذه الرواية ضعيفة أيضا،كما قال الشيخ أحمد شاكر.
و أما الرواية الثانية لأبي داود برقم 2060،فهي مرفوعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،و لفظها«أنشز العظم»بالزاي المعجمة.
و هذه الرواية ضعيفة أيضا كما قال الشيخ أحمد شاكر.
و بالرجوع إلى ما قاله الشيخ الأرناءوط في الحديث 57،نجد أن الحديث حسن بشواهده.كما في«جامع الأصول»11:490.
قال الإمام الخطّابي في«معالم السّنن»3:11،في الحديث رقم 1976:أنشر العظم- بالراء المهملة-معناه:ما شدّ العظم و قوّاه،و الإنشار بمعنى الإحياء،في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ(22) [عبس:22]و يروى«أنشز العظم»بالزاي معجمة، و معناه:زاد في حجمه فنشز.
ص: 643
و يؤيد هذا قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة:259]فقد ورد فيها القراءتان و هما متواترتان.يقول ابن عاشور 37/3:«ننشرها بضم النون و الراء المهملة مضارع أنشر الرباعي بمعنى الإحياء...ننشزها بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه،و النشز الارتفاع و المراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب و اللحم و الدم بها» (1).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن(و هذا يعني أننا نستطيع أن نستشهد به)،و هو صحيح المعنى.و يتحدث عن أن هناك أكثر من نوع للبن الثدي:
اللبن المخفف،و اللبن المثقل.و أن اللبن المخفف ليس له الأثر البليغ في نمو الطفل على عكس اللبن المثقل،و هذا أمر يعدّ من الغيب قبل البعثة لفقدان الوسائل المعملية الكيميائية و البيولوجية،و بالتالي يصح أن نعتبره إعجازا علميا في مجال الرضاعة.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 59]عن أمّ الفضل أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سئل عن الرّضاع،فقال:«لا تحرّم الإملاجة و لا الإملاجتان».
انظر ص:471-472(ص)-473(ح).
-أخرجه مسلم في«كتاب الرّضاع»،(5)باب في المصّة و المصّتان،رقم /18 1451،و 1451/22 من دون لفظ«لا»الثانية.
-و أخرجه النّسائي بهذا اللفظ في«كتاب النكاح»،(51)(باب)القدر الذي يحرم من الرضاعة،رقم 3308.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:339 و 6:340،بهذا اللفظ أيضا.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يشير إلى أن الرضيع لا يتأثر إلا إذا تناول الثدي بكامل طاقته حتى يخرج اللبن المثقل،و هذا من مجال الغيب لعدم معرفة الصحابة بتأثير اللبن المثقل على هيكل الرضيع في المقام الأول.كذلك فإن معرفة أن اللبن المثقل لا يخرج إلا إذا تناول الرضيع الثدي بكامل الفم يتطلب مراقبة دقيقة لعملية الرضاعة و تحتاج لاختصاصيين في هذا المجال.و يصح الاحتجاج به في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة في مجال الرضاعة.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.4.
ص: 644
[ح 60]عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«لا تحرّم المصّة و لا المصّتان».
انظر ص:467-468-473-475-586-587(ح).
-أخرجه مسلم في«كتاب الرضاع»،(5)باب في المصّة و المصّتان،رقم /17 1450 دون لفظ«لا»،و في 1451/20 بلفظ:«لا تحرّم الرّضعة أو الرّضعتان،أو المصّة أو المصّتان».
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند بهذا اللفظ 6:96 و 6:216 و 6:247(و 6:31 و 4:5،دون لفظ«لا»).
-و أخرجه النّسائي في«كتاب النكاح»،(51)(باب)القدر الذي يحرّم من الرضاعة،رقم 3309 و 3310،دون لفظ«لا».
[و في النّسائي ح رقم 3308:و قال قتادة:المصّة و المصّتان،بعد قوله:«لا تحرّم الإملاجة...»].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يشير إلى أن الرضيع لا يتأثر إلا إذا تناول وجبة مشبعة من اللبن المثقل،و هذا لا يكون من خلال تناول مصة أو مصتين.
و يعتبر هذا الخبر من الغيب لعدم معرفة الصحابة بتأثير اللبن المثقل على هيكل الرضيع في المقام الأول.و يصح الاحتجاج به في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة في مجال الرضاعة.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 61]عن عائشة قالت:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا تسترضعوا الورهاء،فإنّ اللّبن يعدي».
انظر ص:477-481.
-أخرجه الطبراني في«المعجم الصغير»1:52،قال يونس بن حبيب:الورهاء:
الحمقاء.
-و في رواية البزار:«لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يورث».
قال الهيثمي في«مجمع الزوائد»(4:262):و إسنادهما ضعيف.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ضعيف السند.و هو حسن التوجه من الناحية العلمية،غير أن المعطيات العلمية-و إن كانت تؤيد معنى الحديث بقوة- غير قاطعة كل القطع في هذا المجال على ما نعلم.فلذلك نتوقف عند الحديث، و يجعل قيد البحث،و للاتعاظ.و ينطبق عليه الحكم رقم 13.
ص: 645
[ح 62]عن مالك عن ابن شهاب أنّه سئل عن رضاعة الكبير فقال:...فجاءت سهلة بنت سهيل-و هي امرأة أبي حذيفة و هي من بني عامر بن لؤي-إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت:يا رسول اللّه:كنّا نرى سالما ولدا،و كان يدخل عليّ و أنا فضل،و ليس لنا إلاّ بيت واحد فما ذا ترى في شأنه؟فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها»،و كانت تراه ابنا من الرّضاعة.
انظر ص:473-475.
-أخرجه الإمام مالك في الموطّأ في«كتاب الرضاع»،(2)باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر،رقم 12.و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الرضاع»،(7)باب رضاعة الكبير،رقم 1453- 1454(مختصرا).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 60.
*[ح 63]عن موسى بن علي،عن أبيه عن جده أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال له:«ما ولد لك؟» قال الرجل:يا رسول اللّه:ما عسى أن يولد لي إمّا غلام و إمّا جارية!قال:«فمن يشبه؟»قال:يا رسول اللّه:ما عسى أن يشبه؟إمّا أباه و إمّا أمّه!فقال الرسول -صلوات اللّه عليه و سلامه-:«مه!لا تقولنّ هكذا،إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسب بينها و بين آدم.أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]؟»،قال:شكّلك.
انظر ص:141-226-233-234-235-241-526-527.
-أورده الهيثمي في«مجمع الزوائد»7:134-135-من«كتاب التفسير» سورة إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ(1) [الانفطار:1]-و قال:رواه الطبراني-أي في الكبير- و فيه مطهّر بن الهيثم،و هو متروك.انتهى.
فالحديث ضعيف جدا.
-و الحديث وارد من طريق موسى بن عليّ بن رباح عن أبيه عن جده أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال له:ما ولد لك؟كما في«الدر المنثور»للسيوطي 6:323-عند تفسير سورة الانفطار،قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ [الانفطار:6]الآيات-و اللفظ هو:«...فركب خلقه في صورة من تلك الصّور،أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ(8) [الانفطار:8]من نسلك ما بينك و بين آدم».
ص: 646
قال الذهبي في«ميزان الاعتدال»4:129،رقم 8596:مطهّر بن الهيثم عن موسى بن علي،قال أبو سعيد بن يونس:متروك الحديث...
قال ابن حبّان:يأتي بما لا يتابع عليه.انتهى.
و قال الذهبي في«الكاشف»رقم 5486:مطهّر بن الهيثم الطّائي،عن أبيه،و موسى ابن عليّ،و عنه ابن المثنى،و الفلاّس،واه.ق-أي ابن ماجة القزويني-
[تنبيه:هناك خلاف في ضبط اسم علي،هل هو عليّ،أم بالتصغير عليّ،تراجع كتب التراجم،و المشهور فيه:علي،بضم العين المهملة،و فتح اللام،أي بالتصغير].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث شديد ضعف السند،صحيح المعنى.
و هو يتكلم عن أن تخلق الجنين قد يشبه أيّا من أجداده،لأن الخطة الجينية قد تكون في أي شكل من الأشكال،و هذا من مجال الغيب لعدم دراية شعوب ما قبل البعثة بأن هناك خطة جينية لتخلق الإنسان.و يشهد لمعنى هذا الحديث الآية القرآنية:
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54]، و الحديث رقم 21:«ثم أحضر له كل عرق له بينه و بين آدم»(فلفظ«أحضر»و لفظ «بينه و بين آدم»وردا في الحديثين).كذلك فإن الحديث رقم 22«ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له»يتكلم عن هذه الظاهرة بعبارة مختلفة.و الحديث رقم 33 يشير إلى معنى الاستقرار الذي ورد في هذا الحديث،و إلى أن التخلق يعقب الاستقرار.و بسبب شدة ضعف سنده لا نستطيع أن ننسبه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و لا يصح أن نعتبره إعجازا علميا(و لكن هذا لا يعني أننا لا نعتبر المعنى الذي يرمي إليه الحديث إعجازا علميا لوجود أدلّة خارجية عليه؛كآية سورة الفرقان السالفة الذكر، و الحديث الشريف رقم 21 الجيّد السند).و لكن يصح أن نعتبره أثرا إسلاميا نستعين به على تفسير الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة،شرط أن نشير إلى شدة ضعفه.
و ينطبق عليه الحكم رقم 16.
*[ح 64]عن أبي موسى الأشعري قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛فجاء منهم الأحمر و الأبيض،و الأسود و بين ذلك،و السّهل و الحزن،و الخبيث و الطّيّب».
انظر ص:56-524-526-527.
ص: 647
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 4:400،و لفظه:«إن اللّه عزّ و جلّ خلق...جاء منهم الأبيض و الأحمر و الأسود و بين ذلك،و الخبيث و الطيّب،و السّهل و الحزن، و بين ذلك».
و في 4:406،و لفظه:«إن اللّه عزّ و جلّ خلق...جعل منهم الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك،و السّهل و الحزن،و بين ذلك،و الخبيث و الطيّب و بين ذلك».
-و أخرجه أبو داود في«كتاب السنّة»،باب في القدر،رقم 4693،و لفظه:«إن اللّه خلق...جاء منهم الأحمر،و الأبيض،و الأسود،و بين ذلك،و السّهل و الحزن،و الخبيث،و الطيّب»و في رواية بزيادة«و بين ذلك».
-و أخرجه الترمذي في«كتاب تفسير القرآن»،(3)باب«و من سورة البقرة»،رقم 2955،و اللفظ له.
قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح.
و قد صحّحه ابن حبّان،و الحاكم،و أقرّه الذهبي[«الفتح الرّبّاني»للساعاتي 20:27- 28].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند.و هو يخبرنا أن الإنسان مكوّن من جميع مواد الأرض،و هو يصوّر لنا كيف أن تنوع مزاج البشر مرتبط بتنوع التربة التي نشأ منها أبونا آدم عليه السّلام.و لا أعتقد أننا سنستطيع إثبات تلك الظاهرة الأخيرة من خلال العلم الكوني،و لكن لن نقفل الباب أمام البحث،و سنقول:إنه يرجى كشف حقيقة هذا الأمر.و ينطبق عليه الحكم رقم 5.
*[ح 65]عن أبي هريرة أن أعرابيّا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:يا رسول اللّه:إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود،و إنّي أنكرته.فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«هل لك من إبل؟»، قال:نعم،قال:«ما ألوانها؟»،قال:حمر،قال:«هل فيها من أورق؟»/أسمر أو ما كان لونه كلون الرماد/،قال:نعم،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«فأنّى هو؟»قال:
لعلّه،يا رسول اللّه يكون نزعه عرق له،قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هذا لعلّه يكون نزعه عرق له».
انظر ص:142-146-399-529-533-553-557-558(ح)-706.
-أخرجه البخاري في«كتاب الحدود»،(41)باب ما جاء في التعريض،رقم 6847.
ص: 648
و في«كتاب الاعتصام بالكتاب و السّنّة»،(12)باب من شبّه أصلا معلوما بأصل مبيّن و قد بيّن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حكمهما ليفهم السائل،رقم 7314.
-و مسلم في«كتاب اللّعان»،(دون ذكر للباب،لأنه لا يوجد باب في«كتاب اللّعان»كله من صحيح مسلم،و كذا الشرح للنووي)رقم 1500/20.و اللفظ له.
و في رواية ل مسلم جاء في آخرها:«و لم يرخّص له في الانتفاء منه».
و في رواية في أوّلها:«جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم...».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يشير إلى عملية نزع صفة-أي نزع مورّثة-من عرق إلى عرق آخر،مما يسبب ظهور صفة متنحية في النسل غير المباشر،و هذه العملية ظلّت في عالم الغيب للبشر إلى أن تقدم العلم في الآونة الأخيرة،و اكتشف هذه الظاهرة.و يصح أن نعتبر هذا الحديث إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 66]أن ابن عمر قال:قلّما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقوم من مجلس حتّى يدعو بهؤلاء الدّعوات لأصحابه:«اللّهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك،و من طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك،و من اليقين ما تهوّن به علينا مصيبات الدّنيا،و متّعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوّتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منّا،و اجعل ثأرنا على من ظلمنا،و انصرنا على من عادانا،و لا تجعل مصيبتنا في ديننا،و لا تجعل الدّنيا أكبر همّنا و لا مبلغ علمنا،و لا تسلّط علينا من لا يرحمنا».
انظر ص:529-537-557(ح).
-أخرجه الترمذي في«كتاب الدعوات»،(80)باب ما جاء في عقد التسبيح باليد،رقم 3502.و اللفظ له،قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب.
و قد صححه الحاكم في المستدرك 2:142،و وافقه الذهبي.
-قال المباركفوري في«تحفة الأحوذي»9:477:و أخرجه النّسائي و الحاكم و قال:صحيح على شرط البخاري.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،صحيح المعنى،و هو يتكلم عن المورّثات المسيطرة و دورها في التحكم في صفات النسل.و هذا من عالم الغيب حيث إنّ العلم لم يكتشف المورّثات السائدة و المتنحية إلا في الآونة الأخيرة.
و يعتبر إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
ص: 649
[ح 67]عن قتادة أن أنس بن مالك حدّثهم أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل»،فقالت أم سليم-و استحييت من ذلك-قالت:و هل يكون هذا،فقال نبي اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نعم فمن أين يكون الشّبه؟إنّ ماء الرّجل غليظ أبيض،و ماء المرأة رقيق أصفر،فمن أيّهما علا أو سبق يكون منه الشّبه».
انظر ص:74-86-106-123-529-537-538(ح)-539(ح)-540 (ح)-557(ح)-576.
-أخرجه البخاري في«كتاب مناقب الأنصار»،(51)باب كيف آخى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بين أصحابه؟،رقم 3938،و فيه«...و أما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد،و إذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد...».
-و مسلم في«كتاب الحيض»،(7)باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنيّ منها،رقم 311/30.و اللفظ له.
-و أخرجه النّسائي في«كتاب الطهارة»،(133)باب الفصل بين ماء الرجل و ماء المرأة،رقم 200،بهذا اللفظ:«ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فأيّهما سبق كان الشبه».
-و ابن ماجة في«كتاب الطهارة و سننها»،(107)باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل،رقم 601،و لفظه«ماء الرجل غليظ أبيض،و ماء المرأة رقيق أصفر، فأيّهما سبق أو علا،أشبهه الولد».
-و أحمد في المسند:3:121،و لفظه:«...ماء الرجل...،و ماء المرأة أصفر رقيق،فأيّهما سبق أو علا أشبهه الولد».
و في 3:199،و لفظه:«...ماء الرجل...،فمن أيّهما سبق أو علا يكون الشّبه».
[قال سعيد-أي ابن المسيّب-:نحن نشك-أي في كلمة سبق أو علا-].
و في 3:282،و لفظه:«...ماء الرجل أبيض غليظ،...أصفر رقيق،فمن أيّهما سبق أو علا يكون الشّبه».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن صفات ماء الرجل و ماء المرأة.و معرفة صفات ماء الرجل ليس بإعجاز لأنه ظاهر للعيان،أما معرفة صفات ماء المرأة فهو إعجاز علمي،حيث إن ماء المرأة يخرج من مكان متخفّ(مبيض المرأة)و يضيع في جوف المرأة،و لا سبيل له أن يخرج من خارج الجسم.و إن خرج،يخرج و قد اختلط بسوائل أخرى تغيّر خصائصه.فلا سبيل لنا إلى معرفة
ص: 650
خصائصه إلا بواسطة كاميرات ذات تقانة عالية.كذلك فإن الحديث يشير إلى ظاهرة علمية غيبية هي الأخرى:و هي أن الصفات السائدة الموجودة في نطفة المرأة و نطفة الرجل هي التي تعطي النسل صفات مشابهة لأي من والديه.و بما أن مجتمع ما قبل البعثة لم يعلم ابتداء أن للمرأة ماء،و بما أنه لم يعلم دور المورّثات السائدة و المتنحية فهذا الحديث يعد إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 68]عن عائشة...:فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا علا ماؤها ماء الرّجل أشبه الولد أخواله،و إذا علا ماء الرّجل ماءها أشبه أعمامه».
انظر ص:538.
-أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،(7)باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنيّ منها،رقم 314/33.و اللفظ له.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:92،بلفظ:«...إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه أخواله،و إذا علا ماء الرجل ماءها أشبهه».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث 67.
*[ح 69]عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«نطفة الرجل بيضاء غليظة، و نطفة المرأة صفراء رقيقة،فأيّهما غلبت صاحبتها فالشّبه له».
انظر ص:104(ح)-106-121-122-123-146-150-220-529- 545-556-557(ح).
-هذا الحديث ذكره ابن هشام في سيرته ج 167/2،ط محمد محي الدين عبد الحميد،بلفظ:«...فأيتهما غلبت صاحبتها كان الشبه لها».
-و أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في«كتاب العظمة»5:1632،ح رقم 1070- 11،ذكر لطيف صنع اللّه و حكمته سبحانه و تعالى و حسن تقديره و عجيب صنيعه، و حسن تركيب خلقه.
عن ابن عباس رضي اللّه عنهما:«أتى نفر من اليهود النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا:إن أخبرنا عما نسأله فإنه نبي،فقالوا:من أين يكون الشبه يا محمد؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:الحديث....
-و أخرجه البزار في مسنده كما في كشف الأستار-للهيثمي-(119/3 رقم 2375) عن السكن بن سعيد،ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو،ثنا إبراهيم بن طهمان-به.
قال البزار:لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه،و قد روي نحوه عن غيره من وجوه.
ص: 651
و حديث أنس أخرجه البخاري في صحيحه(362/6 رقم 3329،272/7 رقم 3938، 165/8 رقم 4480)في سياق قصة عبد اللّه بن سلام مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين مقدمه على المدينة،و لفظه الأول:«و أما الشبه في الولد...لها».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح،و هو صحيح المعنى،و يخبرنا عن ظاهرة علمية غيبية،و هي أن نطفة المرأة قليلة الكثافة بالنسبة لنطفة الرجل،و هذا من مجال الغيب،لأن شعوب ما قبل البعثة لم تعلم في المقام الأول وجود النطف، فكيف لها أن تعلم صفات هذه النطف؟.و يعدّ إعجازا علميا،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 70]حدّثنا محمّد بن بشّار،حدّثنا أبو عامر العقديّ،حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن حصين،عن عكرمة،عن ابن عبّاس أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يعلّمهم من الحمّى و من الأوجاع كلّها أن يقول:«بسم اللّه الكبير، أعوذ باللّه العظيم،من شرّ كلّ عرق نعّار،و من شرّ حرّ النّار».
انظر ص:315-545-558(ح).
-أخرجه الترمذي في«كتاب الطب»،(25)باب ما جاء في تبريد الحمّى بالماء، رقم 2075.و اللفظ له.
-و ابن ماجة في«كتاب الطب»،(37)باب ما يعوذ به من الحمّى،رقم 3526.
(و في السند إبراهيم الأشهلي،و هو إبراهيم بن إسماعيل).
-و أحمد في المسند 1:300 و 4:462،رقم 2729 من طبعة الرسالة.
قال الترمذي:هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة-و يقال له:إبراهيم النهشلي-و إبراهيم يضعّف في الحديث.و يروى:عرق يعار-أي بالياء المثنّاة تحتيّة-.
جاء في«الفتح الرّبّاني»للساعاتي 17:160(قلت)الحديث أخرجه أيضا(ك هق ش (1)و ابن أبي الدنيا و ابن السّنّي في«عمل اليوم و الليلة»و صحّحه الحاكم و أقرّه الذهبي و قال:إبراهيم قد وثّقه أحمد.انتهى.ه.
ص: 652
قلت:و قال ابن حجر في إبراهيم:ضعيف،و قال الدارقطني:متروك.ينظر التقريب لابن حجر رقم:146،و الكاشف للذهبي رقم 114.و«تهذيب التهذيب»لابن حجر 1:104-105،و«تهذيب الكمال»للحافظ المزّي 2:42-44،رقم 146.
فالحديث ضعيف،و اللّه أعلم.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:لقد اختلف العلماء في ضعف سند هذا الحديث،و إن كان الراجح أن يكون ضعيفا.و عليه فإن الضعف ليس شديدا.و معنى هذا الحديث صحيح،و يشير إلى دور الصبغيات في إحداث الأمراض.و إذا كان خبر وجود الصبغيات لشعوب ما قبل البعثة مجهولا،فكيف لهذه الشعوب السبيل إذن لمعرفة دور هذه الصبغيات؟.و نعتبر هذا الحديث إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 12.
*[ح 71]حديث:«تخيّروا لنطفكم،فإن العرق دسّاس».
انظر ص:142-146-529-532-533-535-544-557(ح)-559-565.
-تنبيه:هذا اللفظ لعله مركّب من جزءين.
و الحديث:«تخيّروا لنطفكم،و انكحوا الأكفاء،و أنكحوا إليهم»،و في لفظ«و لا تضعوها إلا في الأكفاء».
-أخرجه ابن ماجة في«كتاب النكاح»،(46)باب الأكفاء،رقم 1968.
-و الحاكم في المستدرك،1/268.
-و الدارقطني 3/299.
-و القضاعي في مسند الشهاب رقم 677.
-و الديلمي في الفردوس،رقم 2295.
-و ابن عدي في الكامل 2/195 و 5/241.
-و ابن حبان في المجروحين 1/225.
-و الخطيب في تاريخه 1/264.
كلهم عن عائشة رضي اللّه عنها من طرق عديدة.
قال الحاكم:صحيح الإسناد،و أورده الذهبي بأن في سنده ضعيف و متّهم،كما ضعّفه ابن أبي حاكم في العلل رقم 1269،و قال في الجرح و التعديل 1/385:ليس له أصل.
-و أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية من طرق كثيرة عن عائشة و عن عمرو عن ابن عمر رضي اللّه عنهم و أعلّ جميع طرقه.
ص: 653
-و أخرجه الضياء في المختارة رقم 2634 و حسّن إسناده.
و الخلاصة:فإن الحديث بمتابعاته و شواهده يرتقي للاحتجاج به و لا شك.
-و قد اشتهر على الألسنة:«تخيّروا لنطفكم فإن العرق دساس»،و جملة«إن العرق دساس»ليست في شيء من روايات هذا الحديث،بل أخرجها القضاعي في مسند الشهاب 1/370،رقم 638 من حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما مرفوعا.
-و جاء في كشف الخفاء للعجلوني،358/1:«أقلّ من الدّين تعش حرّا...
و انظر في أي نصاب تضع ولدك،فإن العرق دساس».
-و أورده السخاوي في المقاصد الحسنة،ص 169،بلفظ:«تزوّجوا في الحجر الصالح،فإن العرق دساس».
-كما أورده ابن الجوزي في«العلل المتناهية»،رقم 607،بلفظ:«الناس معادن، و العرق دسّاس،...».
و طرق لفظ«إن العرق دساس»لا تقوى إلى درجة الحسن،فأحسن درجاته أن يكون ضعيفا،و هو أعلى من أن يكون موضوعا،انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ الألباني(159/2-161)،و تلخيص العلل للذهبي،حديث رقم 602.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث مركب ابتداء من حديثين،و إن أوردته على حاله هذه في البحث،فذلك لأن كثيرا من الباحثين قد تلفّظوا به هكذا عن غير دراية:و اللفظ الأول مقبول،و الثاني ضعيف لا ينجبر.
و اللفظ:«تخيّروا لنطفكم،فإن العرق دسّاس»و إن كان مركّبا من حديثين،إلا أنه يجدر أن نلاحظ التالي:
الركن الأساسي في البحث العلمي لفهم النصوص هو معرفة العلّة كما هو معروف في علم الأصول.و علّة«تخيّر النطف»هي-حسب نصوص السلف-:أن العرق دساس.فقد روي عن السلف عدّة نصوص تشرح معنى التخيّر،بل تبيّن علّة التخيّر، و هو أن العرق دساس،و لذلك روي عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها:«تخيّروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهنّ و أخواتهن».و روي غير ذلك.
فهذه الزيادة،و إن كانت ضعيفة،إلا أنها علّة الحديث،فيعمل بها كما هو مقرر.
و من الناحية العلمية معنى العبارتين صحيح.و كلا العبارتين يشير إلى ظاهرة الصفات المتنحية و السائدة.و هذا من مجال الغيب عند شعوب ما قبل البعثة.و لذلك نستطيع أن نعتبر الحديثين إعجازا علميا في مجال«الوراثة»،و ينطبق عليهما معا الحكم رقم 12.
ص: 654
[ح 72]حدّثنا محمود بن خالد الدّمشقيّ،حدّثنا سليمان بن عبد الرّحمن أبو أيّوب عن ابن أبي مالك،عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح،عن عبد اللّه بن عمر قال:
أقبل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال:«يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، و أعوذ باللّه أن تدركوهنّ:لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتّى يعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطّاعون و الأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا،و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلاّ أخذوا بالسّنين و شدّة المئونة و جور السّلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ منعوا القطر من السّماء،و لو لا البهائم لم يمطروا، و لم ينقضوا عهد اللّه و عهد رسوله إلاّ سلّط اللّه عليهم عدوّا من غيرهم،فأخذوا بعض ما في أيديهم،و ما لم تحكم أئمّتهم بكتاب اللّه و يتخيّروا ممّا أنزل اللّه إلاّ جعل اللّه بأسهم بينهم».
انظر ص:559-566-567.
-أخرجه ابن ماجة في«كتاب الفتن»،(22)باب العقوبات،رقم 4019.و اللفظ له.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة:هذا حديث صالح للعمل به،و قد اختلفوا في ابن أبي مالك و أبيه.
[سنده في ابن ماجة:...حدثنا محمود بن خالد الدمشقي،ثنا سليمان بن عبد الرحمن،أبو أيّوب،عن ابن أبي مالك،عن أبيه،عن عطاء بن أبي رباح،عن عبد اللّه بن عمر].
-و أخرجه البيهقي 3:346-347 في«كتاب صلاة الاستسقاء»،باب الخروج من المظالم و التقرّب إلى اللّه تعالى بالصدقة و نوافل الخير رجاء الإجابة.
و أخرجه أيضا في 9:231 في«كتاب الجزية»،باب الوفاء بالعهد إذا كان العقد مباحا، و ما ورد من التشديد في نقضه.
-و جاء في«مجمع الزوائد»3:65 في«كتاب الزكاة»،باب فرض الزكاة،هذا الحديث دون لفظ«لم تظهر الفاحشة...»،و لفظه:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«خمس بخمس»،قيل:يا رسول اللّه و ما خمس بخمس؟قال:«ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم،و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلا فشا فيهم الموت،و لا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر،و لا طفّفوا المكيال إلا حبس عنهم النبات و أخذوا بالسّنين».
ص: 655
ثم قال الحافظ الهيثمي:رواه الطبراني في الكبير،و فيه إسحاق بن عبد اللّه بن كيسان المروزي،ليّنه الحاكم،و بقيّة رجاله موثّقون،و فيهم كلام.انتهى.
[-تنبيه:و عند العدّ/كما في الحديث الذي ورد في«مجمع الزوائد»/يظهر أن المعدود هو أربعة،و ليس خمسة.و المذكور في سنن ابن ماجة خمسة هي:
[يا معشر المهاجرين:خمس إذا ابتليتم بهن...]
1-لم تظهر الفاحشة...
2-و لم ينقصوا المكيال
3-و لم يمنعوا زكاة أموالهم...
4-و لم ينقضوا عهد اللّه...
5-و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب اللّه...].
و في«مجمع الزوائد»أيضا 5:317-318،الحديث بأطول مما ذكره ابن ماجة و البيهقي،في«كتاب الجهاد»،باب ما نهي عن قتله من النساء و غير ذلك.ثم قال- الهيثمي-:-قلت روى ابن ماجة بعضه-رواه البزّار و رجاله موثّقون.
دراسة رجال سند ابن ماجة:
1-محمود بن خالد الدمشقي،ثقة/«التقريب»لابن حجر رقم /6510.
2-سليمان بن عبد الرحمن،أبو أيوب،صدوق يخطئ/«التقريب»رقم /2588.
3-ابن أبي مالك-و اسمه خالد بن يزيد-،ضعيف مع كونه كان فقيها،و قد اتهمه ابن معين-اتّهمه بالكذب على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،كما في«التهذيب»لابن حجر 3:127-/«التقريب»رقم 1688،و في«الكاشف»للذهبي:ضعّفوه رقم /1364.
4-عن أبيه،-و هو-يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهمداني الدمشقي القاضي،صدوق ربّما وهم/«التقريب»رقم /7748.
و قال الذهبي في«الكاشف»رقم 6336:وثّقه أبو حاتم.
قال الشيخ محمد عوّامة-حفظه اللّه تعالى-معلّقا على«الكاشف»:و الرّجل-أي يزيد بن عبد الرحمن-ثقة،كما قال أبو حاتم و غيره،و يحتمل أن يقال فيه:
صدوق،أما«صدوق ربما وهم»:فلا.
5-عطاء بن أبي رباح...،ثقة فقيه/«التقريب»رقم /4591.
6-عبد اللّه بن عمر،صحابي.
-تنبيه:قسم من هذا الحديث وارد في«حلية الأولياء»لأبي نعيم الأصفهاني.ذكر
ص: 656
ذلك الشيخ أحمد الغماري في«المداوي»5:280،فقال:و قد أخرجه أيضا أبو نعيم في«الحلية»[320/3]من طريق جعفر بن محمد الفريابي:
ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي،ثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك،عن أبيه،عن عطاء،عن ابن عمر به،و خالد بن يزيد متروك.انتهى.
و لفظ أبي نعيم:«لم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء،و لو لا البهائم لم يمطروا».
-و في الموطأ من«كتاب الجهاد»،(13)باب ما جاء في الغلول،ح رقم 26:عن عبد اللّه بن عباس أنه قال:«ما ظهر الغلول في قوم قطّ إلا ألقي في قلوبهم الرّعب.
و لا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت.و لا نقص قوم المكيال و الميزان إلا قطع عنهم الرّزق.و لا حكم قوم بغير الحقّ إلا فشا فيهم الدّم.و لا ختر(غدر)قوم بالعهد إلا سلط اللّه عليهم العدوّ».انتهى.
قال أبو عمر بن عبد البرّ في«التمهيد»23:430:و هذا حديث قد رويناه متصلا عن ابن عباس،و مثله-و اللّه أعلم-لا يكون رأيا أبدا.انتهى.
ثم ذكر الإمام ابن عبد البر الحديث عن ابن عباس رضي اللّه عنهما متصلا(ينظر«التمهيد» 23:430-431).
و قال الحافظ المنذري في«الترغيب و الترهيب»1:215-من«كتاب الصدقات، الترهيب من منع الزكاة و ما جاء في زكاة الحليّ-[ط محمد الصبيح-مصر،أو 1:543-544 رقم 20-21،من الطبعة التي حقّقها محمد عمارة]قال المنذري- بعد ذكر رواية الطبراني في الكبير-:رواه الطبراني في الكبير،و سنده قريب من الحسن و له شواهد.انتهى.
-و روى المنذري أيضا حديث بريدة رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم اللّه بالسّنين» (1)،ثم قال:رواه الطبراني في الأوسط (2)و رواته ثقات،و الحاكم و البيهقي في حديث إلا أنهما قالا:و لا منع قوم الزكاة إلا حبس اللّه عنهم القطر،و قال الحاكم:صحيح على شرط مسلم،و رواه ابن ماجة و البزار و البيهقي من حديث ابن عمر و لفظ البيهقي:...انتهى كلام المنذري.
قال الشيخ عبد القادر الأرناءوط معلّقا على«جامع الأصول»11:722-بعد إيراد حديث الموطأ-:و له شواهد بمعناه في المرفوع ما عدا الشطر الأول منه،منن.
ص: 657
حديث ابن عمر،رواه ابن ماجة و البزار و البيهقي،و من حديث ابن عباس عند الطبراني-أي في الكبير-،و هو حديث صحيح بشواهده.
و في«صحيح الترغيب و الترهيب»للألباني،حكم على حديث بريدة رقم 761 و ابن عباس رقم 763 بالحسن،و على حديث ابن عمر رقم 762 بالصّحّة.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح،و هو صحيح المعنى في المجال العلمي للعلاقات الجنسية.و ينص على أن كثرة الجماع من رجال أجانب تؤدي إلى زيادة الاحتمال بالإصابة بالأمراض الجنسية(و أما باقي الحديث فلا يعنينا في هذا المقام).و لمعرفة هذه الظاهرة لا بد من تقدم الشعوب في المجال العلمي للأمراض الجنسية،و معرفة كيف و متى تنقل الجراثيم،و هذا لم يكن متاحا فيما مضى.كذلك يتطلب معرفة في تاريخ الأمراض الجنسية التي أصابت الشعوب،و هذا الأمر لم يكن يعطى أهمية كبرى فيما قبل.و لذلك سنعتبره إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 73]عن عبد اللّه(بن مسعود)قال:...فقال(النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم):«إنّ اللّه لم يجعل لمسخ نسلا و لا عقبا،و قد كانت القردة و الخنازير قبل ذلك».
انظر ص:559-569.
-أخرجه مسلم في«كتاب القدر»،(7)باب بيان أن الآجال و الأرزاق و غيرها،لا تزيد و لا تنقص عمّا سبق به القدر،رقم 2663/32.و اللفظ له.
-و أخرجه الإمام أحمد في المسند 1:390،413،466.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ينص على أن المسخ-أي أن الإنسان الذي يصاب بتشوهات خطيرة-لا يبقي نسلا.و تبيّن أن هذا مرده أن الجنين الممسوخ يولد ميتا،أو يعيش قليلا،أو يصاب في الجهاز الذي يتحكم بأعضائه التناسلية،مما يجعله غير قادر على التناسل.و معرفة السبب الأخير(الذي يعيد العقم لجهاز التحكم)يتطلب معرفة في العلم الكوني للمجال الجنسي و البيولوجي.و هذا لم يكن متاحا فيما مضى.و نعتبر هذا الحديث إعجازا علميا في المجال الجنسي.
و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 74]حدّثنا محمّد بن إسماعيل حدّثنا أحمد بن أبي الطّيب حدّثنا مصعب بن سلاّم عن عمرو بن قيس عن عطيّة عن أبي سعيد الخدريّ قال:قال
ص: 658
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه»،ثمّ قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].
انظر ص:147(ح).
-أخرجه الترمذي في سننه في«كتاب تفسير القرآن»،(16)باب«و من سورة الحجر»،رقم 3127.و قال:هذا حديث غريب.
[تنبيه:هذا الحديث بكثرة طرقه-إن شاء اللّه-تعالى حسن،أو صحيح.
ينظر«المداوي لعلل الجامع الصغير و شرحي المناوي»1:176-179،للحافظ أحمد الغماري.
و ينظر(«بشارة المؤمن بتصحيح حديث«اتقوا فراسة المؤمن»)ص 39-40،للشيخ محمود سعيد ممدوح.و هذا الكتيّب عبارة عن جزء حديثي].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 75]حديث:«لا تنكحوا القرابة القريبة،فإنّ الولد يخلق ضاويا».
انظر ص:559-565.
-أورده الحافظ ابن حجر في«التلخيص الحبير»3:146 و قال:هذا الحديث تبع في إيراده إمام الحرمين هو و القاضي الحسين-أي تبع الرافعي في شرحه على الوجيز المذكورين في إيراد الحديث-.
و قال ابن الصلاح:لم أجد له أصلا معتمدا.انتهى.
و قد وقع في«غريب الحديث»لابن قتيبة قال:جاء في الحديث:«اغتربوا لا تضووا».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ليس له أصل،فبالتالي لا نستطيع أن ننسبه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و بالتالي لن نعتبره إعجازا علميا.و هو صحيح المعنى.
و يشهد لمعنى هذا الحديث بطريقة غير مباشرة الآية القرآنية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ... [النساء:23]،لأنها تحرم العلاقة الجنسية بين الأقارب،و لا بد أن هذا مرده لسبب علمي وجيه(و هو أن النسل يضعف من خلال هذا التزاوج)إلى جانب الجانب الاجتماعي.و من الحكمة أن نستشهد به كأثر إسلامي على سبيل التفسير،و ليس كحديث نبوي شريف.و ينطبق عليه الحكم رقم 19.
ص: 659
[ح 76]حدّثنا عبد بن حميد،حدّثنا حسين بن عليّ الجعفيّ،قال:سمعت حمزة الزّيّات عن أبي المختار الطّائيّ عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث قال:
مررت في المسجد،فإذا النّاس يخوضون في الأحاديث،فدخلت على عليّ فقلت:يا أمير المؤمنين أ لا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟قال:و قد فعلوها؟قلت:نعم قال:أما إنّي قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«أ لا إنّها ستكون فتنة»،فقلت:ما المخرج منها يا رسول اللّه؟قال:«كتاب اللّه،فيه نبأ ما كان قبلكم،و خبر ما بعدكم،و حكم ما بينكم،و هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبّار قصمه اللّه،و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه،و هو حبل اللّه المتين،و هو الذّكر الحكيم،و هو الصّراط المستقيم،هو الّذي لا تزيغ به الأهواء،و لا تلتبس به الألسنة،و لا يشبع منه العلماء،و لا يخلق على كثرة الرّدّ، و لا تنقضي عجائبه،هو الّذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتّى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ [الجن:1-2]من قال به صدق،و من عمل به أجر،و من حكم به عدل،و من دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم».
انظر ص:10.
-أخرجه الترمذي في«فضائل القرآن»،باب ما جاء في فضل القرآن،رقم 2906.
-و الدّارمي في«فضائل القرآن»،باب فضل من قرأ القرآن،رقم 26،2:435.
و اللفظ للترمذي.
و في سند الحديث أبو المختار الطائي مجهول كما في«التقريب»رقم 8348.
و الحارث الأعور الهمداني صاحب عليّ-كرم اللّه وجهه-،رمي بالرّفض،و قد ضعّف في حديثه،و كذّبه الشعبيّ من جهة بدعته،لا من جهة حديثه.
و حديثه في السنن الأربعة،و احتجّ به النّسائي.و على كلّ فالحديث-كما قال ابن كثير-قصاراه أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه و قد وهم بعضهم في رفعه.و هو كلام حسن،و له شاهد مرفوع من حديث عبد اللّه بن مسعود.ينظر فضائل القرآن لابن كثير ص 14-16.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
ص: 660
[ح 77]عن أمّ سليم قالت:كانت مجاورة أمّ سلمة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فكانت تدخل عليها،فدخل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أمّ سليم:يا رسول اللّه:أ رأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أ تغتسل؟فقالت أمّ سلمة:تربت يداك يا أمّ سليم فضحت النّساء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقالت أمّ سليم:إنّ اللّه لا يستحي من الحقّ،و إنّا إن نسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عمّا أشكل علينا خير من أن نكون منه على عمياء، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لأمّ سلمة:«بل أنت تربت يداك،نعم يا أمّ سليم،عليها الغسل إذا وجدت الماء»،فقالت أمّ سلمة:يا رسول اللّه و هل للمرأة ماء؟فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:
«فأنّى يشبهها ولدها؟هنّ شقائق الرّجال».
انظر ص:76-539-540(ح)-542(ح)-543(ح).
-أخرجه الإمام أحمد في المسند 6:377.و اللفظ له.قال الهيثمي:رواه أحمد و هو في الصحيح باختصار،و في إسناده انقطاع بين أم سليم و إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة.
-و الدارمي في كتاب«الطهارة»،باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، رقم 764.
[و الحديث أورده الحافظ ابن حجر في«فتح الباري بشرح صحيح البخاري»1:388 و 1:389،و سكت عنه] (1).
و هو حديث صحيح أصله في صحيح البخاري-كتاب الغسل.باب:إذا احتملت المرأة.رقم 278.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح لأن أصله في البخاري،و هو صحيح المعنى.و له حكم الحديث رقم 14.
*[ح 78]حدّثنا بشر بن هلال الصّوّاف،حدّثنا داود بن الزّبرقان عن بكر بن خنيس عن عبد الرّحمن بن زياد عن عبد اللّه بن يزيد عن عبد اللّه بن عمرو قال:خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرءون القرآن و يدعون اللّه،و الأخرى يتعلّمون و يعلّمون،فقال-.
ص: 661
النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«كلّ على خير،هؤلاء يقرءون القرآن و يدعون اللّه،فإن شاء أعطاهم و إن شاء منعهم،و هؤلاء يتعلّمون و إنّما بعثت معلّما»،فجلس معهم.
انظر ص:76.
-أخرجه ابن ماجة في«المقدمة»،باب فضل العلماء و الحث على طلب العلم، رقم 222.
-و الدارمي في كتاب«المقدمة»،باب في فضل العلم و العالم،رقم 349.
متفق على ضعف إسناده،قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء:أخرجه ابن ماجة من حديث عبد اللّه بن عمرو بسند ضعيف.و قال البوصيري في زائد ابن ماجة:
إسناده ضعيف.داود و بكر و عبد الرّحمن،كلهم ضعفاء.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 79]عن جابر بن عبد اللّه قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«غطّوا الإناء و أوكوا السّقاء فإنّ في السّنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلاّ نزل فيه من ذلك الوباء».
انظر ص:441-577.
-أخرجه أحمد في المسند(355/3).
-و مسلم في«الأشربة»،باب الأمر بتغطية الإناء و إيكاء السقاء و إغلاق الأبواب و ذكر اسم اللّه عليها...،رقم(2014).
-و ابن ماجة في الأشربة،باب تخمير الإناء،رقم(3410).و اللفظ لمسلم.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث ليس له علاقة بعلم«تخلق الجنين»، بل«(بعلم الميكروب MICROBIOLOGY )»،و ينطبق عليه الحكم رقم 20 لأنه يتكلم عن أمور علمية غيبية،أ لا و هي انتقال الأعضاء الميكروبية غير المرئية عبر الهواء، و هذا أمر لم تكتشفه الخليفة إلا بعد مرور حوالي 1200 عام على بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
*[ح 80]عن أنس أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها و لم يجامعوهنّ في البيوت،فسأل أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:فأنزل اللّه تعالى:
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]إلى آخر الآية،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح»،فبلغ ذلك اليهود
ص: 662
فقالوا:ما يريد هذا الرّجل أن يدع من أمرنا شيئا إلاّ خالفنا فيه!فجاء أسيد بن حضير و عبّاد بن بشر فقالا:يا رسول اللّه:إنّ اليهود تقول كذا و كذا فلا نجامعهنّ، فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتّى ظننّا أن قد وجد عليهما،فخرجا فاستقبلهما هديّة من لبن إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأرسل في آثارهما فسقاهما،فعرفا أن لم يجد عليهما.
انظر ص:195.
-أخرجه أحمد في المسند(132/3-133 و 246-247).
-و مسلم في الحيض،باب جواز غسل الحائض رأس زوجها و ترجيله،رقم(302).
-و أبو داود في«الطهارة»،باب في مؤاكلة الحائض و مجامعتها،(رقم 258).
-و الترمذي في التفسير(سورة البقرة)،رقم 2977،و اللفظ لمسلم.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:سبق أن سردنا بالتفصيل في مبحث«ازدياد الأرحام و غيضها/الحيض»أن الشعوب لم تكن تعلم حقيقة ما يجري علميّا في المهبل و الرّحم حتى عهد قريب،و كانت تعتقد كثيرا من الأمور الباطلة في شأن حيض المرأة،فجاء هذا الحديث و أعطى بعدا جديدا محقّا لحيض المرأة و فرّق بين الحيض و الاستحاضة، و تحدّى معتقدات الشعوب السائدة آنذاك بأن جسم المرأة يحتوي على سموم و أوضح أن وجود الدم في فترة الحيض قد يسبب نشوء الأمراض إذا ما لم نأخذ الحيطة و الحذر،و هذا كان مجهولا للناس قبل فترة الوحي،و هي علاقة الزمان و المكان بسيلان الدم.و بالتالي يصح أن نعتبره إعجازا علميا.و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 81]حدّثنا هارون بن محمّد بن بكّار حدّثنا مروان-يعني ابن محمّد-حدّثنا الهيثم بن حميد،حدّثنا العلاء بن الحارث،عن حزام بن حكيم عن عمّه:أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما يحلّ لي من امرأتي و هي حائض؟قال:«لك ما فوق الإزار»،و ذكر مؤاكلة الحائض أيضا و ساق الحديث.
انظر ص:195.
-أخرجه أبو داود في«الطهارة»،باب في المذي،رقم(212)،و اللفظ له.
-و أخرجه الترمذي مختصرا في«الطهارة»،باب ما جاء في مؤاكلة الحائض،رقم (133).
-و ابن ماجة في«الطهارة»،باب في مؤاكلة الحائض،رقم(1073).
-و أحمد في مسنده رقم(18528)و(1999).
ص: 663
-و الدارمي في«الطهارة»،باب الحائض تمشط زوجها رقم(1073).
و قال الترمذي:حديث حسن غريب.و سكت عنه أبو داود و المنذري.و الحديث صحيح لشواهده المتعددة منها ما أشار إليه الترمذي عن عائشة و أنس رضي اللّه عنهما و غيرهما،و حديث عائشة في الصحيحين.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 80.و لكن من الحكمة أن لا نذكره وحده في مجال الإعجاز العلمي في علم«الأرحام»لأنه لا يلقي الضوء بشكل واضح على البعد العلمي في المحيض إلا إذا أرفقناه بالحديث رقم 80،و ذلك لعدم ورود الآية الكريمة و حادثة مخالفة اليهود في الحديث.
*[ح 82]عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:خرجنا لا نرى إلاّ الحجّ،فلمّا كنّا بسرف حضت، فدخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا أبكي،قال:«ما لك أنفست؟»،قلت:نعم، قال:«إنّ هذا أمر كتبه اللّه على بنات آدم،فاقضي ما يقضي الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت»،قالت:و ضحّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن نسائه بالبقر.
انظر ص:194.
-أخرجه البخاري في«الحيض»،باب كيف كان بدء الحيض،رقم(294)، و اللفظ له.
-و هو عند مسلم في«الحج»،باب بيان وجوه الإحرام،رقم(1213).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 83](عن عائشة رضي اللّه عنها)و كنّ نساء يبعثن إلى عائشة بالدّرجة فيها الكرسف فيه الصّفرة،فتقول:لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء،تريد بذلك الطّهر من الحيضة،و بلغ بنت زيد بن ثابت أنّ نساء يدعون بالمصابيح من جوف اللّيل ينظرن إلى الطّهر،فقالت:ما كان النّساء يصنعن هذا،و عابت عليهنّ.
-هذان أثران أخرجهما البخاري تعليقا في«الحيض»،باب إقبال الحيض و إدباره.
انظر ص:195.
-أما الأول«و كن نساء يبعثن إلى عائشة»فقد رواه مالك موصولا في الموطأ،في الطهارة،باب طهر الحائض،رقم(98)،عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة...و من هذا الطريق أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(335/1،رقم 1486) و عبد الرزاق في المصنف(301/1،رقم 1159).
ص: 664
و للحديث شاهد عن أسماء أيضا أشار إليه صاحب نصب الراية(193/1)،و ابن حجر في الدراية(85/1).
فالحديث صحيح بشاهده.
-و أما الثاني«و بلغ بنت زيد...»فقد وصله مالك في الموطأ في الطهارة،باب طهر الحائض،رقم(98)،من حديث عبد اللّه بن أبي بكر عن عمته عن ابنة زيد.
و من طريق مالك أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(59/1)،رقم(129)،و البيهقي في السنن الكبرى(335/1،رقم 1486).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 84]عن عائشة أنّ امرأة من الأنصار قالت للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:كيف أغتسل من المحيض؟قال:«خذي فرصة ممسّكة فتوضّئي ثلاثا»ثمّ إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم استحيا فأعرض بوجهه،أو قال:«توضّئي بها»،فأخذتها فجذبتها،فأخبرتها بما يريد النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
انظر ص:196.
-أخرجه البخاري في«كتاب الحيض»،باب غسل المحيض،رقم(315)، و اللفظ له.و ينظر رقم(314 و 7357).
-و أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم،رقم(332).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 85]عن عائشة أنّ امرأة سألت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن غسلها من المحيض،فأمرها كيف تغتسل،قال:«خذي فرصة من مسك فتطهّري بها»،قالت:كيف أتطهّر؟قال:
«تطهّري بها»،قالت:كيف؟قال:«سبحان اللّه تطهّري»،فاجتذبتها إليّ،فقلت:
تتبّعي بها أثر الدّم.
انظر ص:196.
-أخرجه البخاري في«كتاب الحيض»،باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض و كيف تغتسل و تأخذ فرصة ممسّكة فتتبع أثر الدم،رقم(314).و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم برقم(332).و ينظر الحديث السابق[84].
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
ص: 665
[ح 86]باب إذا رأت المستحاضة الطّهر.قال ابن عبّاس:تغتسل و تصلّي و لو ساعة،و يأتيها زوجها إذا صلّت،الصّلاة أعظم.
انظر ص:199.
-أورده البخاري تعليقا في«كتاب الحيض»،باب إذا رأت المستحاضة الطهر.
-و قد أخرجه موصولا ابن أبي شيبة في المصنف(120/1 رقم:1367).
-و الدارمي في(224/1-225)رقم(800 و 801).
-و أورده أبو داود معلقا أيضا بعد رقم(281 و 300)،و عنه البيهقي في السنن الكبرى(340/1 رقم 1501).
-و انظر شرح معاني الآثار للطحاوي(99/1)،و الآثار لأبي يوسف(35).
و للحديث شواهد يقوى بها و يصلح للاحتجاج منها الحديث التالي.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 87 الآتي.
*[ح 87]حدّثنا أحمد بن أبي سريج الرّازيّ أخبرنا عبد اللّه بن الجهم حدّثنا عمرو ابن أبي قيس عن عاصم عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنّها كانت مستحاضة و كان زوجها يجامعها.
انظر ص:199.
-أخرجه أبو داود في«كتاب الطهارة»،باب المستحاضة يغشاها زوجها،رقم (310)،و اللفظ له.
-و البيهقي في السنن الكبرى(1:329).
و في سماع عكرمة من حمنة نظر عند المحدثين،و لكن يشهد للحديث الحديث السابق.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث فيه نظر من حيث سماع عكرمة من حمنة عند المحدثين،أي أن المحدثين لا يجزمون بسماع عكرمة من حمنة،و بالتالي ليس بقوي.و لكن حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما،السابق(و له حكم الاتصال) (1)و شواهد أخرى مثل:أن أم حبيبة كان زوجها يجامعها و هي مستحاضة،تجعله يرقى للاحتجاج به.جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري في تفسير الحديث السابق:
«و لأبي داود من وجه آخر عن عكرمة،قال:«كانت أم حبيبة تستحاض،و كان).
ص: 666
زوجها يغشاها»و هو حديث صحيح إن كان عكرمة سمع منها».و هذان الحديثان (رقم 86 و 87)موقوفان(أي أن سنديهما ينتهي إلى الصحابة-رضوان اللّه تعالى عليهم-و ليس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم)،غير أن لهما حكم المرفوع (1)،لأن الصحابة كانوا يأتون نساءهم في عهد الوحي،و لم ينههم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود في شرح هذا الحديث:«من الصحابة قد فعلا (2)ذلك في زمن الوحي،و لم ينزل في امتناعه،فيستدل به على الجواز».و سكوت الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم هو نوع من الإقرار بأنه يرضى بهذا الفعل.و الإخبار بأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك مع عدم نهي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لهم هو رفع تقريري حكمي (3).و بالتالي نقول:أننا نستطيع أن نستشهد بهذين الحديثين في مجال الإعجاز العلمي في القرآن و السنة.و هذان الحديثان يدلاّن على الأسس التي وضعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مجال الحيض و الاستحاضة،و التي بيّنّا إعجازها في الحديث رقم 80،و بالتالي فهي تشير إلى الإعجاز العلمي في مجال علم«الأرحام».و من الجدير بالذكر أنه يجب أن لا نستشهد بالحديث رقم 87 إلا مع ذكر الحديث رقم 86 السابق،حتى تكون الحجة قوية.و ينطبق على الحديثين الحكم رقم 20.
*[ح 88]حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة و عليّ بن محمّد قالا:حدّثنا أبو أسامة عن عبيد اللّه بن عمر،عن نافع عن سليمان بن يسار،عن أمّ سلمة قالت:سألت امرأة النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،قالت:إنّي أستحاض فلا أطهر،أ فأدع الصّلاة؟قال:«لا و لكن دعي قدر الأيّام و اللّيالي الّتي كنت تحيضين-قال أبو بكر في حديثه:و قدرهنّ من الشّهر-ثمّ اغتسلي و استثفري بثوب و صلّي».
انظر ص:199.
-أخرجه مالك في الموطأ،«كتاب الصلاة»،باب المستحاضة،رقم(105).
-و أبو داود في«الطهارة»،باب المرأة تستحاض،رقم(275-276).
-و النّسائي في«الحيض و الاستحاضة»،باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيض كل شهر،رقم(354-355).8.
ص: 667
-و ابن ماجة في«الطهارة»،باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدّت أيام قرائها،رقم(623)،و اللفظ له.
و هذا الحديث من رواية سليمان بن يسار عن السيدة أم سلمة رضي اللّه عنها.و قد أعلّه بعضهم بأن سليمان لم يسمع من أم سلمة،و للحديث شواهد يرتقي بها إلى الصحة،و اللّه أعلم.و انظر شرح ابن ماجة لمغلطاي(3-857-860)،و شرح السنة للبغوي(/2 142)،و تهذيب الكمال(101/12)،و تهذيب التهذيب(228/4).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث جيّد السند،و له شواهد يرقى بها إلى درجة الصحة،و هو صحيح المعنى،و يشير إلى نفس الأسس في الإعجاز العلمي في مجال الحيض و الاستحاضة التي تشير إليها الأحاديث رقم 80،86 و 87،و بالتالي له نفس حكمهم.
*[ح 89]حدّثنا محمّد بن بشّار،حدّثنا أبو عامر العقديّ،حدّثنا زهير بن محمّد عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل،عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة،عن عمّه عمران ابن طلحة،عن أمّه حمنة بنت جحش قالت:كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة،فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أستفتيه و أخبره،فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش،فقلت:يا رسول اللّه:إنّي أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها؟قد منعتني الصّيام و الصّلاة قال:«أنعت لك الكرسف فإنّه يذهب الدّم»، قالت:هو أكثر من ذلك،قال:«فتلجّمي»،قالت:هو أكثر من ذلك،قال:
«فاتّخذي ثوبا»،قالت:هو أكثر من ذلك إنّما أثجّ ثجّا،فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:
«سآمرك بأمرين أيّهما صنعت أجزأ عنك،فإن قويت عليهما فأنت أعلم»،فقال:
«إنّما هي ركضة من الشّيطان،فتحيّضي ستّة أيّام أو سبعة أيّام في علم اللّه،ثمّ اغتسلي،فإذا رأيت أنّك قد طهرت و استنقأت فصلّي أربعا و عشرين ليلة أو ثلاثا و عشرين ليلة و أيّامها و صومي و صلّي فإنّ ذلك يجزئك،و كذلك فافعلي كما تحيض النّساء و كما يطهرن لميقات حيضهنّ و طهرهنّ،فإن قويت على أن تؤخّري الظّهر و تعجّلي العصر ثمّ تغتسلين حين تطهرين و تصلّين الظّهر و العصر جميعا،ثمّ تؤخّرين المغرب و تعجّلين العشاء ثمّ تغتسلين و تجمعين بين الصّلاتين فافعلي،
ص: 668
و تغتسلين مع الصّبح و تصلّين،و كذلك فافعلي و صومي إن قويت على ذلك»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«و هو أعجب الأمرين إليّ».
انظر ص:183-185-199.
-أخرجه أحمد في المسند(381/6-382 و 439-440).
-و أبو داود في«الطهارة»،باب من قال:إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة،رقم (287).
-و الترمذي في«الطهارة»،باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد،رقم(128)،و اللفظ له.
-و ابن ماجة في«الطهارة»،باب ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها،رقم(627).
-و الحاكم في المستدرك في«الطهارة»(أحكام المستحاضة)(172/1-173).
-و البيهقي في السنن الكبرى في«كتاب الحيض»،باب المبتدئة لا تميّز بين الدّمين(338/1-339).
-و الدارقطني في الحيض(214/1،رقم 48).
قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح،و نقل تصحيحه عن البخاري و أحمد أيضا.
و لا يقدح في صحته رواية ابن عقيل.و الله أعلم.
قال الحاكم:قد اتفق الشيخان على إخراج حديث الاستحاضة من حديث الزهري و هشام بن عروة عن عائشة...و ليس فيه هذه الألفاظ التي في حديث حمنة بنت جحش.و رواية عبد اللّه بن محمد بن عقيل بن أبي طالب و هو من أشراف قريش و أكثرهم رواية غير أنهما لم يحتجا به.ثم أشار إلى شواهد الحديث.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث صحيح السند،و له نفس حكم الحديث 88 السابق.
*[ح 90]عن أبي موسى رضي اللّه عنه:قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا يبغي على الناس إلاّ ولد غيّة، و إلا من فيه عرق منه».
انظر ص:523.
-أخرجه البخاري في تاريخه الكبير(102/4،رقم 2107).
-و الطبراني في المعجم الكبير(كما في مجمع الزوائد:233/5).
ص: 669
-و البيهقي في السنن الكبرى(298/8،رقم 26335).و في شعب الإيمان(/5 286،رقم 6675).
-و الديلمي في الفردوس(141/5،رقم 7755)،كلهم من طريق سهل بن عطية الأعرابي عن أبي الوليد القرشي.
قال ابن حبان عن سهل:«منكر الرواية لا يقبل ما ينفرد به»،و قال الهيثمي:«أبو وليد القرشي لم أعرفه».
و للحديث طريق آخر أخرجه وكيع في«الغرر»عن منصور بن أبي مزاحم و من طريق عيسى بن مرحوم العطار عن أبي الفقماء عن أبي موسى.
و من ثمّ فقد حسّن الحديث المناوي في التيسير شرح جامع الصغير.
و انظر المداوي لعلل الجامع الصغير و شرحي المناوي لأحمد الغماري(607/6-608).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن بتعدد طرقه.و هو يشير إلى أن الصبغيات تتحكم إلى حد كبير في طبع الإنسان.و هذا من علم الغيب في عهد ما قبل الرسالة حيث إن الشعوب قاطبة قبل عهد الوحي لم تعلم ابتداء بوجود الصبغيات.و بالتالي نعتبر أنه يشير إلى إعجاز علمي.و له الحكم رقم 20.
*[ح 91]و عن طلحة بن عبيد اللّه قال:«مرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ببعير قد وسم في وجهه فقال:«لو أن أهل هذا البعير عزلوا النار عن هذه الدابة»،فقلت:لأسمنّ في أبعد مكان من وجهها قال:فوسمت في عجب الذنب».
انظر ص:249.
-أخرجه أبو يعلى في مسنده(21/2،رقم 651)و البزار في البحر الزخار(/3 163،رقم 948)و الضياء المقدسي في المختارة(39/3،رقم 838).
قال الضياء:إسناده حسن،و قال الهيثمي:رجاله رجال صحيح.
انظر مجمع الزوائد(109/8-110).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 92]روي عن حجّاج بن فرافصة،أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ما من مريض يقول:سبحان الملك القدوس الرحمن الملك الديّان،لا إله إلا أنت مسكّن العروق الضّاربة،و منيّم العيون الساهرة إلا شفاه اللّه تعالى».
ص: 670
انظر ص:545-549.
-أخرجه ابن أبي الدنيا في«المرض و الكفارات»،رقم 257،و هو آخر حديث في الكتاب،و عنه المنذري في الترغيب و الترهيب(221/4،رقم 5106)و هو حديث ضعيف لإعضاله،و ضعّف بعض رواته.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث معضل،أي أنه سقط من إسناده اثنان فأكثر،أضف إلى ذلك أنه ضعّف بعض رواته،مما يزيد الحديث ضعفا،و لكن معناه صحيح.و يشهد لمعنى الحديث،الحديث رقم 70.و بالتالي لا نستطيع أن نستشهد به وحده،و لكننا نستطيع أن نذكره كتفسير و كشاهد للحديث رقم 70.و ينطبق عليه الحكم رقم 16.
*[ح 93]عن أسامة بن زيد قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من صنع إليه معروف فقال لفاعله:جزاك اللّه خيرا فقد أبلغ في الثّناء».
انظر ص:16.
-أخرجه الترمذي في«البر و الصلة»،باب ما جاء في الثناء بالمعروف،رقم (2035)،و اللفظ له،و قال هذا حديث حسن جيد غريب.
-و أخرجه النّسائي في السنن الكبرى(53/6،رقم:1008)و من طريقه ابن السني في عمل اليوم و الليلة رقم(270).
-و أخرجه الطبراني في الصغير(148/2-149).
-و أبو نعيم في تاريخ أصبهان(342/2)و هو حديث حسن.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 94]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه:قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العرق».
انظر ص:186.
-أخرجه البخاري في الاعتكاف،(باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟،رقم 2035)و باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه،رقم(2037)،و باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه،رقم(2039).و انظر الأرقام(3101 و 3281 و 6219 و 7171).
-و مسلم في«السلام»،باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خليا بامرأة و كانت زوجته محرما له أن يقول:هذه فلانة...رقم(2174 و 2175).
ص: 671
-و البيهقي في«شعب الإيمان»(321/5-322)،رقم 6799،بلفظ«...مجرى الدم من العروق)».
-و الحافظ أبي نعيم في ذكر أخبار أصبهان(211/2-212)،بلفظ«...مجرى الدم في العروق».
-و السيوطي في جامع الأحاديث و المراسيل(25/3)،رقم(8807).و اللفظ له.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يحتج به لأن أصله في البخاري،و له نفس حكم الحديث رقم 28.
*[ح 95]أخبرنا أبو الحسين بن أبي يعلى،و أبو غالب،و أبو عبد اللّه ابنا أبي علي، قالوا:أنا محمّد بن أحمد أنا محمد بن عبد الرحمن أنا أحمد بن سليمان أنا الزبير ابن أبي بكر قال:و حدثني محمد بن الحسن،عن إبراهيم بن محمّد بن نافع بن ثابت،عن محمد بن كعب القرظي:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما حين ولد عبد اللّه بن الزبير فقال:«أ هو هو؟أ هو هو؟»فقيل:
يا رسول اللّه:إن أسماء تركت رضاع عبد اللّه لمّا سمعتك تقول:أ هو هو؟أ هو هو؟،فقال:«أرضعيه و لو من ماء عينيك،كبش من ذئاب،ذئاب عليها ثياب، ليمنعنّ الحرم،و ليقتلنّ به».
انظر ص:435-582.
-أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق(160/28).
-و هو في كنز العمال(471/13)،رقم(37232)،و الحديث مرسل ضعيف.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث مرسل ضعيف،و لكن لا ضرر في ضعفه في الإعجاز العلمي في القرآن و السنة في مجال الرضاعة،لأنه لا يتكلم عن ظاهرة غيبية،بل عن توجه حكيم للمرضعات خاصة و للشعوب عامة.فلا بأس أن نستشهد به للاستئناس.و ينطبق عليه الحكم رقم 9.
*[ح 96]عن أنس بن مالك قال:ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة،فكان ينطلق و نحن معه فيدخل البيت و إنّه ليدخّن و كان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثمّ يرجع قال
ص: 672
عمرو:فلمّا توفّي إبراهيم،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّ إبراهيم ابني،و إنّه مات في الثّدي،و إنّ له لظئرين تكمّلان رضاعه في الجنّة».
انظر ص:456(ح)-582.
-أخرجه مسلم في«الفضائل»،باب رحمته صلّى اللّه عليه و سلّم الصبيان و العيال و تواضعه،رقم (2316).و اللفظ له.
-و أحمد في المسند(112/3).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 97]حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ،حدّثنا محمّد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح،عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«عمر أمّتي من ستّين سنة إلى سبعين سنة».
انظر ص:497-509.
-أخرجه الترمذي في«كتاب الزهد عن رسول اللّه»،باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين،رقم(2331).
-و ابن ماجة في«كتاب الزهد»،باب الأمل و الأجل،رقم(4236)،بلفظ«أعمار أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين و أقلّهم من يجوز ذلك».
قال أبو عيسى:هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة و قد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن السند،صحيح المعنى.و هو يشير إلى متوسط عمر أمّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.و هذا الأمر ليس بغيب لأن التفكر و المراقبة العميقة و الدقيقة يفضي بنا إلى هذه النتيجة-و إن كانت هذه النتيجة غير واضحة تماما و ذلك لأن متوسط عمر الإنسان يقل تدريجيا مع مرور الزمن إلى حد لا يمكن التنبؤ به-.و لكن ما يلفت النظر إليه هو أنه يشير إلى أن عمر شعب من الشعوب محدد إلى حد ما.و هذا يتطلب في معرفته إلى حكمة بالغة.و بالتالي ليس بإعجاز،و هو حديث ديني علمي بارز.و ينطبق عليه الحكم رقم 9.
*[ح 98]عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«و كّل اللّه بالرّحم ملكا فيقول:
أي ربّ:نطفة؟أي ربّ:علقة؟أي ربّ:مضغة؟فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها
ص: 673
قال:أي ربّ:أذكر أم أنثى؟أ شقيّ أم سعيد؟فما الرّزق؟فما الأجل؟فيكتب كذلك في بطن أمّه».
انظر ص:343-346-347-348(ص)-402-558(ح).
-أخرجه البخاري في«القدر»،باب في القدر،رقم(6595)،و اللفظ له،و في كتاب الحيض،باب قول اللّه عزّ و جلّ:مخلّقة و غير مخلّقة،رقم(318).
-و مسلم في«القدر»،باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه و كتابة رزقه و أجله، بلفظ:«فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقا»،رقم 2646.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلم عن عدّة ظواهر علمية غيبية، و أهمّها:أن اللّه تعالى يقضي(أي يتمّ)خلق الجنين عند ما يدخل هذا الأخير فترة الإذكار أو الإيناث،أي أن الجنين يدخل فترة غير حرجة من تخلقه بدخوله فترة التميز الجنسي.و هذا من علم الغيب لأن عالم ما قبل فترة الوحي لم يعلم بتفاصيل التخلق،فكيف له أن يربط ما بين دخول فترة التميز الجنسي و دخول فترة التمام؟.
و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 99]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه:قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا وقع الذّباب في شراب أحدكم فليغمسه ثمّ لينزعه،فإنّ في إحدى جناحيه داء و الأخرى شفاء».
انظر ص:577.
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الخلق»،باب في إذا وقع الذّباب في شراب أحدكم فليغمسه فإنّ في إحدى جناحيه داء و في الأخرى شفاء،رقم(3320).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلّم عن ظاهرة غيبيّة جدّا،و هي أن الذباب يحمل في أحد جناحيه البكتيريا التي تسبّب الأمراض،و في الأخرى (الفيروس القاتل لهذه البكتيريا BACTERIOPHAGE ).و لمعرفة هذا نحتاج إلى مجهر إلكتروني بالغ الدقّة،إضافة إلى معرفة عالية في«علم الميكروب»،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 100]عن النعمان بن بشير يقول:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ترى المؤمنين في تراحمهم و توادّهم و تعاطفهم كمثل الجسد،إذا اشتكى عضوا،تداعى له سائر جسده بالسّهر و الحمّى».
انظر ص:577.
ص: 674
-أخرجه البخاري«في كتاب الأدب»،باب رحمة الناس و البهائم،رقم(6011).
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلّم عن ظواهر غيبيّة،من خلال استعمال كلمتين في غاية الدقّة:«اشتكى»،و«تداعى».فكلمة«اشتكى»تشير إلى أن العضو المصاب«يشتكي»،أي يستغيث و يعلم و يخبر باقي الأعضاء بأنه مصاب.
و بالفعل تنطلق نبضات عصبية من مكان الإصابة،إلى الدماغ،و إلى مراكز الحس و التحكم غير الإرادي،و تنبعث مواد كيماوية و هرمونات بمجرّد حدوث ما يهدد أنسجة العضو المصاب.و أما كلمة«تداعى»فهي تعني أن الجسم يدعو بعضه بعضا، و هذا ما يحدث بالفعل،فمراكز الإحساس تدعو مراكز اليقظة و التحكم فيما تحت المهاد،التي تدعو بدورها الغدة النخامية لإفراز الهرمونات،التي تدعو باقي الغدد الصمّاء لإفراز الهرمونات،التي تحفّز جميع الأعضاء لتوجيه وظائفها لنجدة المشتكي:فالقلب يسرع بالنبض لسرعة جريان الدم،في الوقت الذي تنقبض فيه الأوعية بالأجزاء الخاملة من الجسم،و تتّسع الأوعية الدموية المحيطة بالعضو المصاب لكي تحمل له ما يحتاجه من طاقة و أوكسجين...،كذلك تبدأ العضلات بهدم مخزونها من الدهن و لحم العضلات،لكي تعطي من نفسها لمصلحة العضو المصاب.و بالتالي فإن صياغة الحديث تشير إلى العمليات الخفيّة و الدقيقة التي تحدث في الجسم،و لا يمكن الاطلاع عليها إلا بالوسائل العلمية المتقدمة،التي لم تكن متوفّرة في عصر النبوة،و بالتالي ينطبق على الحديث الحكم رقم 20.
*[ح 101]نا محمد بن مخلد بن حفص-إملاء من كتابه-نا القاسم بن الفضل بن بزيع-سنة تسع و خمسين و مائتين-نا زكريا بن عطية نا سعيد بن خالد حدثني محمد بن عثمان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال:...قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه».
انظر ص:20-21.
-رواه الدارقطني في الجزء الرابع،ص 144 عن ابن عباس مرفوعا.
-و الديلمي في الفردوس في الجزء الثالث،ص 228،عن ابن عباس.
و قد ضعف الحديث ابن حزم في«الأحكام»الجزء الثالث،ص 281،و قال:لا تقوم به حجة-أي من جهة السند-.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:يشهد لمعنى هذا الحديث:الحديث رقم 13.و انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
ص: 675
[ح 102]عن عليّ رضي اللّه عنه أنّه قال:استحييت أن أسأل النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن المذي من أجل فاطمة،فأمرت المقداد فسأله،فقال:«منه الوضوء».
انظر ص:74.
-أخرجه مسلم في«كتاب الحيض»،باب المذي،رقم 303.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 103]عن أبي سعيد قال لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في تلك البقلة:«الثّوم»و النّاس جياع،فأكلنا منها أكلا شديدا ثمّ رحنا إلى المسجد،فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الرّيح،فقال:«من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة شيئا فلا يقرّبنا في المسجد».فقال النّاس:حرمت،حرّمت،فبلغ ذاك النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال:«أيّها النّاس إنّه ليس بي تحريم ما أحلّ اللّه لي و لكنّها شجرة أكره ريحها».
انظر ص:500.
-أخرجه مسلم في«كتاب المساجد و مواضع الصلاة»،باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها،رقم 565.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 104]قالت عائشة رضي اللّه عنها:أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس،و صار إلى خمس رضعات معلومات،فتوفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و الأمر على ذلك.
انظر ص:473(ح)-476(ح).
-أخرجه مسلم.في«كتاب الرضاع»،باب التحريم بخمس رضعات،رقم 1452.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:له نفس حكم الحديث رقم 62.
*[ح 105]عن ابن عبّاس قال:دخلت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنا و خالد بن الوليد على ميمونة،فجاءتنا بإناء فيه لبن فشرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و أنا على يمينه،و خالد على شماله،فقال لي:«الشّربة لك،فإن شئت آثرت بها خالدا»،فقلت:ما كنت أوثر على سؤرك أحدا،ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«من أطعمه اللّه الطّعام فليقل:اللّهمّ
ص: 676
بارك لنا فيه و أطعمنا خيرا منه،و من سقاه اللّه لبنا فليقل:اللّهمّ بارك لنا فيه و زدنا منه»،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«ليس شيء يجزئ مكان الطّعام و الشّراب غير اللّبن».
انظر ص:452.
-أخرجه أبو داود في«الأشربة»،باب ما يقول إذا شرب اللبن،رقم 3730.
-و الترمذي في«الدعوات»،باب:ما ذا يقول إذا أكل طعاما،رقم 3455.
-و ابن ماجة في«الأطعمة»،باب اللبن،رقم 3322.
و قال الترمذي هذا حديث حسن.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث حسن السند،صحيح المعنى،و هو يخبر أن القيمة الغذائية للبن غير موجودة في أي غذاء آخر في زمن لم يكن باستطاعة الناس معرفة التركيبة الكيميائية للأغذية المختلفة،و من المستلزمات لمعرفة أن هذا الغذاء أكمل من الأغذية الأخرى الإحاطة(بعلم الغذاء NUTRITION ).و هذا يتطلب العديد من العلماء الباحثين،و الكثير من وسائل التقنية المتقدمة،و المجاهر الألكترونية،لذا يعتبر هذا الحديث من الإعجاز العلمي للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم،و ينطبق عليه الحكم رقم 20.
*[ح 106]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«قال اللّه:كذّبني ابن آدم و لم يكن له ذلك،و شتمني و لم يكن له ذلك،فأمّا تكذيبه إيّاي فقوله:لن يعيدني كما بدأني،و ليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته.و أمّا شتمه إيّاي فقوله:اتّخذ اللّه ولدا و أنا الأحد الصّمد لم ألد و لم أولد و لم يكن لي كفءا أحد».
انظر ص:262.
-أخرجه البخاري في«كتاب تفسير القرآن»،باب يقال:لا ينون أحد أي واحد، رقم 4974.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 107]عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«خلق اللّه آدم على صورته طوله ستّون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النّفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيّونك فإنّها تحيّتك و تحيّة ذرّيّتك.فقال:السّلام عليكم.فقالوا:السّلام عليك
ص: 677
و رحمة اللّه.فزادوه و رحمة اللّه.فكلّ من يدخل الجنّة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتّى الآن».
انظر ص:59.
-أخرجه البخاري في«كتاب الاستئذان»،باب بدء السلام،رقم 6227،و اللفظ له.
-و مسلم،في«كتاب الجنة و صفة نعيمها و أهلها»،باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير،رقم 2841،بلفظ قريب منه.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 108]عن جابر بن عبد اللّه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«من بنى مسجدا للّه كمفحص قطاة أو أصغر بنى اللّه له بيتا في الجنّة».
انظر ص:436.
-أخرجه ابن ماجة في كتاب المساجد و الجماعات،باب من بنى للّه مسجدا، رقم 738.
-و ابن حبّان في صحيحه(490/4)و(491/4).
-و قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة،الجزء 1،ص 261:
«هذا إسناد صحيح،رواه ابن حبان في صحيحه.و له شاهد من حديث ابن عباس رواه أحمد في مسنده،و البزار في مسنده أيضا،و أبو داود،و الطيالسي،و الحارث ابن أبي أسامة،و أبو يعلى الموصلي».
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 109]عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها قالت:دعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى جنازة صبيّ من الأنصار،فقلت:يا رسول اللّه:طوبى لهذا،عصفور من عصافير الجنّة،لم يعمل السّوء و لم يدركه،قال:«أو غير ذلك يا عائشة؟إنّ اللّه خلق للجنّة أهلا خلقهم لها،و هم في أصلاب آبائهم،و خلق للنّار أهلا خلقهم لها،و هم في أصلاب آبائهم».
انظر ص:102.
-أخرجه مسلم،في«كتاب القدر»،باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، و حكم موت أطفال الكفار،رقم 2662.
ص: 678
-و ابن ماجة،في المقدمة،باب في القدر،رقم 82.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:لقد استعمل المجاز في هذا الحديث للدلالة على أن الإنسان وجد ابتداء في مكان يقع قريب من الصلب و هو في عالم الذر.و بالتالي فهو لا يشير إلى إعجاز علمي،و ينطبق عليه الحكم رقم 17.
*[ح 110]عن عروة،أنّ عائشة رضي اللّه عنها-زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم-،حدّثته أنّها قالت للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟قال:«لقد لقيت من قومك ما لقيت،و كان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة،إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال،فلم يجبني إلى ما أردت،فانطلقت و أنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلاّ و أنا بقرن الثّعالب،فرفعت رأسي،فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت،فإذا فيها جبريل،فناداني،فقال:إنّ اللّه قد سمع قول قومك لك،و ما ردّوا عليك،و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم،فناداني ملك الجبال،فسلّم عليّ ثمّ قال:يا محمّد:فقال:ذلك فيما شئت،إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين،فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئا».
انظر ص:102.
-أخرجه البخاري في«كتاب بدء الخلق»،باب ذكر الملائكة،رقم 3231،و اللفظ له.
-و أخرجه مسلم في«كتاب الجهاد و السير»،باب ما لقي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من أذى المشركين و المنافقين،رقم 1795.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 109.
*[ح 111]عن سيدنا حذيفة رضي اللّه عنه قال:ضرب لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمثالا،واحدا، و ثلاثة،و خمسة،و سبعة،و تسعة عشر،و فسّر لنا منها واحدا،و سكت عن سائرها،فقال:«إنّ قوما كانوا أهل ضعف و مسكنة،فقاتلوا قوما أهل حيلة و عداء،فظهروا عليهم،و استعلوهم،و تسلّطوهم،فأسخطوا ربهم عليهم».
انظر ص:381(ح).
ص: 679
-ذكره المتّقي الهندي في كنز العمال،رقم 31322،(المجلّد 11،ج 1،ص 2214 من طبعة دار الفكر).
-و ابن أبي شيبة في مصنّفه،باب من كره الخروج في الفتنة و تعوّذ منها،رقم 32993،و سنده:حدّثنا أبو أسامة عن الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن حذيفة...
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 112]قال المستورد القرشيّ عند عمرو بن العاص:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:«تقوم السّاعة و الرّوم أكثر النّاس»،فقال له عمرو:أبصر ما تقول!قال:
أقول ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،قال:«لئن قلت ذلك إنّ فيهم لخصالا أربعا:إنّهم لأحلم النّاس عند فتنة،و أسرعهم إفاقة بعد مصيبة،و أوشكهم كرّة بعد فرّة،و خيرهم لمسكين و يتيم و ضعيف،و خامسة حسنة جميلة:و أمنعهم من ظلم الملوك».
انظر ص:382(ح).
-أخرجه مسلم في«كتاب الفتن و أشراط الساعة»،باب تقوم الساعة و الروم أكثر الناس،رقم 2898.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 113]أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب استعمل أبا هريرة على البحرين...(فقال عمر بن الخطاب لأبي هريرة رضي اللّه عنهما):أ تكره العمل،و قد طلب العمل من كان خير منك،يوسف؟،قال:
إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي،و أنا أبو هريرة بن أميمة،أخشى ثلاثة،و اثنين، قال عمر:أ فلا قلت خمسا؟،قال:لا،أخشى أن أقول بغير علم،و أقضي بغير حكم،و يضرب ظهري،و ينتزع مالي،و يشتم عرضي.
انظر ص:382(ح).
-أخرجه عبد الرزاق في مصنفه،ج /11ص 333،مطولا.
-و أبو نعيم في حلية الأولياء،ج /1ص 380.
-و ابن سعد في الطبقات الكبرى،باب الطبقة الثانية من المهاجرين و الأنصار، ج 4،ص 241.
ص: 680
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 114]عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«ليست السّنة بأن لا تمطروا، و لكن السّنة أن تمطروا و تمطروا و لا تنبت الأرض شيئا».
انظر ص:385(ح).
-أخرجه مسلم في«كتاب الفتن و أشراط الساعة»،باب في سكنى المدينة و عمارتها قبل الساعة،رقم 2904.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 115]عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:أنّ رجلا سأله ما يلبس المحرم فقال:«لا يلبس القميص و لا العمامة و لا السّراويل و لا البرنس و لا ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران فإن لم يجد النّعلين فليلبس الخفّين و ليقطعهما حتّى يكونا تحت الكعبين».
انظر ص:543(ح).
-أخرجه البخاري في«كتاب العلم»،باب من أجاب السائل بأكثر ممّا سأله،رقم 134.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.
*[ح 116]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«تجدون النّاس معادن خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،و تجدون خير النّاس في هذا الشّأن أشدّهم له كراهية،و تجدون شرّ النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه و يأتي هؤلاء بوجه».
انظر ص:524.
-أخرجه البخاري في«كتاب المناقب»،باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى [الحجرات:13]،رقم 3494.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث يتكلّم عن أن الصبغيات تتحكم بأطباع البشر،و هذا من علم الغيب،غير أنه من المناسب أكثر أن نذكره مع الحديث رقم 90 و الحديث رقم 64،لأن استنباط تلك الظاهرة توجب مقابلته مع الأحاديث السالفة الذكر،و ينطبق عليه حكم رقم 20.
ص: 681
[ح 117]عن ابن عبّاس،قال:إنّ ابن عمر-و اللّه يغفر له-أوهم،إنّما كان هذا الحيّ من الأنصار-و هم أهل وثن-مع هذا الحيّ من يهود-و هم أهل كتاب-و كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم،فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، و كان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النّساء إلاّ على حرف،و ذلك أستر ما تكون المرأة،فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم،و كان هذا الحيّ من قريش يشرحون النّساء شرحا منكرا و يتلذّذون منهنّ مقبلات و مدبرات و مستلقيات،فلمّا قدم المهاجرون المدينة تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه،و قالت:إنّما كنّا نؤتى على حرف فاصنع ذلك و إلاّ فاجتنبني،حتّى شري أمرهما،فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فأنزل اللّه عزّ و جلّ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [البقرة:223]،أي:مقبلات، و مدبرات،و مستلقيات يعني بذلك موضع الولد.
-انظر ص:43.
-أخرجه أبو داود في كتاب النكاح،باب في جامع النكاح،من طريقه عن محمد ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس به، رقم 2164.
و ابن إسحاق يدلّس،و قد عنعن في هذا الإسناد،إلا أنه قد صرّح بالسماع عن أبان بن صالح عند الحاكم في مستدركه:ج /2ص 279،من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن إسحاق سمع أبان بن صالح يحدّث...
و هذا ما نبّه إليه البيهقي حين خرّجه في سننه:ج /7ص 194.
و عبد الرحمن بن محمد المحاربي لا بأس به كما قال ابن حجر في«تقريب التهذيب»:ج /1ص 372.
و أبان بن صالح وثقه الأئمة كما في«التقريب»:ج /1ص 43.
و قد صحّحه الحاكم في مستدركه.
و قال الذهبي:على شرط مسلم.
و قال ابن كثير:تفرّد به أبو داود،و يشهد له بالصحة ما تقدّم من الأحاديث...إلخ.
(تفسير ابن كثير:ج /1ص 595،بتحقيق سامي السلامة-ط دار طيبة-).
ص: 682
و ذكره ابن حجر في فتح الباري-ج /8ص 39-،مع التزامه أ لا يذكر في كتابه إلا ما صحّ عنده أو حسن.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:انظر تعليقنا على الحديث رقم 3.و ما نضيفه هو:
أن هذا الحديث من الأهمية لأنه شاهد على جهل العرب قبل البعثة،و بالتالي يرتكز عليه الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،و هو صحيح السند،فنستطيع الاستشهاد به.
*[ح 118]عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إنّ للّه تسعة و تسعين اسما مائة إلاّ واحدا من أحصاها دخل الجنّة» انظر ص:709(ح).
-أخرجه البخاري في كتاب«الشروط»،باب ما يجوز من الاشتراط و الثنيا في الإقرار و الشروط،رقم 2736.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث لا يتحدث عن ظاهرة علمية،و لا علاقة له بالإعجاز العلمي،و بالتالي ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 119]عن أبا هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«قال سليمان بن داود عليه السّلام لأطوفنّ اللّيلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين كلّهنّ يأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه،فقال له صاحبه إن شاء اللّه،فلم يقل إن شاء اللّه،فلم يحمل منهنّ إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل،و الّذي نفس محمّد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون»
انظر ص:709(ح).
-أخرجه البخاري في كتاب«الجهاد و السير»،باب من طلب الولد.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث لا يتحدث عن ظاهرة علمية،و لا علاقة له بالإعجاز العلمي،و بالتالي ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 120]عن ابن عبّاس:أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يسجد على سبعة أعضاء،و لا يكفّ شعرا،و لا ثوبا:الجبهة،و اليدين،و الرّكبتين،و الرّجلين.
انظر ص:710(ح).
ص: 683
-أخرجه البخاري في كتاب«الأذان»،باب السجود على سبعة أعظم،رقم 809.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث لا يتحدث عن ظاهرة علمية،و لا علاقة له بالإعجاز العلمي،و بالتالي ينطبق عليه الحكم رقم 7.
*[ح 121]حدّثنا محمّد بن موسى البصريّ حدّثنا حمّاد بن زيد عن أبي الصّهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدريّ رفعه قال:«إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلّها تكفّر اللّسان فتقول:اتّق اللّه فينا،فإنّما نحن بك،فإن استقمت استقمنا، و إن اعوججت اعوججنا»
انظر ص:710(ح).
-أخرجه الترمذي في كتاب«الزهد عن رسول الله»،باب ما جاء في حفظ اللسان،رقم 2407.
صلة الحديث بالإعجاز العلمي:هذا الحديث لا يتحدث عن ظاهرة علمية،و لا علاقة له بالإعجاز العلمي،و بالتالي ينطبق عليه الحكم رقم 7.
كلمة:لقد رأينا في هذا البحث أن الأحاديث الصحيحة لا يعتريها خطأ علمي، و أن الأحاديث الضعيفة قد يصيبها خطأ علمي،و قد لا يصيبها،أو قد يصيبها في بعض متنها دون بقية المتن.و هذا مما يثبت أن قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم-على القطع- صحيح،حيث إنه إذا ما توفّر الصدق في رجال السند،و بعد عنهم الاختلاط، و الوهم...إلخ،و تحققنا من أن طريق الإسناد خال من أي نقص،أو عيب،زال الغبار،و ظهر الحق على الدوام.كذلك،هذا يثبت أن الأسس التي وضعها العلماء في مجال«الحديث»عامة،و في مجال«مصطلح الحديث»خاصة،سليمة،لأنه لو لم تكن كذلك،لظهر كثير من الباطل في متن و معنى الأحاديث صحيحة السند.فلله الحمد و المنّة أنه حفظ الدين كما جاء في الحديث:«قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك...»[رواه ابن ماجة في المقدمة،باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين،رقم 44]و قيّض له رجالا ثقات يحافظون عليه كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32].
ص: 684
قرأنة مصطلحات المراحل الجنينية
ص: 685
ص: 686
ص: 687
ص: 688
ص: 689
ص: 690
الوحدة القياسية للطول المستعملة هي: (GREATEST LENTGH:GL )إلى اليوم الثالث و العشرين،و من ثمّ الوحدة القياسية المستعملة هي: (CROWN-RUMP:CR)
للمراجعة كتاب الإنسان النامي، موروبارسو،ص 91 و 109 و 544-546،و كتاب علم الأجنة الطبي،سادلر،(بداية الكتاب).
ص: 691
تقوية الحديث الضعيف جدا إلى درجة الاستئناس
في هذا الملحق نريد أن نعالج موضوعا فريدا من نوعه،قلّما تعرّض له علماء مصطلح الحديث،و هو موضوع حساس جدّا قد يعترض عليه بعض العلماء في هذا العصر لأنه قد يتصادم مع بعض مفاهيمهم الراسخة في وجدانهم:و هو موضوع تقوية الحديث ذي السند الضعيف جدا-و الذي يحمل في طيّاته إعجازا علميا نوعيا-إلى درجة الاستئناس به-كحد أدنى-.
و مرد هذا الاعتراض في نظرنا يعود للجمود الفكري الذي يرجح في عصرنا هذا،و المخافة من التجديد،لأن هذا الأخير يحمل في طياته:الخروج عن المألوف،الذي يعد العدو النفسي للإنسان لما يحمل من أمور قد تختلف عن المعتقدات القديمة،و لما يفتح من مجالات ضخمة تحمل في طياتها أعباء ضخمة من أمور يعتقد الجامدون فيها أنهم بغنى عنها.كذلك قد يعود هذا الاعتراض لاعتقاد العلماء التقليديين أنه من الواجب أن يدافعوا عن مفاهيمهم حول العلوم التي يرون أنها قد وقفت فوق حد التمام،و أصبحت لا مجال للتجديد فيها،أو الإضافة عليها.
و لكن نقول:إننا لسنا بدعاة لتغيير أي علم من العلوم التي فتقها السلف، و لكن ما نريده هو أن ننهض بالتفكير إلى درجة التجديد الفقهي بما يتناسب مع مستلزمات علم جديد قد ظهرت ملامحه واضحة في هذا العصر،بعد أن كانت في عالم الركود إلى أن يأذن اللّه تعالى بكشف اللثام عن هذا العلم في الوقت المناسب، بل إن عملنا هذا هو-بعكس ما قد يعتقده العلماء المعارضون-هو للحفاظ على التراث النبوي،و أ لا يضيع منه شيء صحيح،حتى و لو حمله بعض الضعفاء،ما دام يدل على حقائق علمية دقيقة ظهرت مؤخرا،لأن ذلك مما يساهم في تقرير النبوة، و يدل على صدق صاحبها صلّى اللّه عليه و سلّم،و لأننا محتاجون إلى مثل هذه الدلائل في هذا العصر الحاضر لإقناع الآخرين بمدى شمولية الإسلام للعلم و المعرفة.بل نرى أنه من التفريط أن ننسى تلك الأحاديث و نهجرها لمجرد أنها رويت على ألسنة الضعفاء.
فكما أن التحدث بحديث يرى أنه كذب جريمة،فإنه من التفريط أن نهجر أحاديث فيها من الإعجاز العلمي الهائل،حيث إننا سوف نسأل أيضا يوم القيامة عن ما ذا صنعنا بأحاديث تبيّن لنا أنها تساهم في رفع شأن هذا الدين العظيم.
ص: 692
و نقول أيضا:إنه تبيّن لنا في هذا البحث أن القوانين التي سنّها علماء الحديث هي على درجة عالية من المحافظة،و هذا أمر حميد لأنه يحتاط لديننا من الأحاديث المغلوطة التي فيها من الأخطاء أو الأكاذيب التي-إن اعتمدناها-قد تدخل على أسس هذا الدين المتين الوهن،و لكن قد يكون من الحكمة أن نخفّف بعض الشيء بعض قيود هذه القواعد في حال تبيّن لنا الحاجة لهذا التصرف،و ذلك لأن هناك مبررات شرعية لهذا،فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد أعلمنا أن الكاذب قد يصدق في بعض الأحيان،أو قد يخلط بين الكلام الصحيح و الكلام الكاذب في الحديثين التاليين:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«صدقك و هو كذوب،ذاك شيطان»[أخرجه البخاري ح 4]، و قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن الملائكة تنزل في العنان-و هو السّحاب-فتذكر الأمر قضي في السماء،فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهّان،فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم»[أخرجه البخاري ح 3]،و هذان الحديثان-و إن كانا تحذيرا للأمة بأن نحتاط من الكذابين-(و هذا ما التزم به جيدا علماء الحديث)فهما أيضا بمثابة تلميح من خير الأنام صلّى اللّه عليه و سلّم أنه لا يجب أن نقفل الباب مع هؤلاء الذين فقدوا مصداقيتهم في بعض الأحيان،و أن ننبذ كل أحاديثهم التي رووها،و ننساها إلى الأبد،فتضعيف الراوي لا يعني أنه يجب علينا أن نحكم على كل أحاديثه بالضعف،فقد يستوعب الحديث الذي سمعه من راو آخر و لا يستوعب حديثا ثانيا،و قد يكذب في أحيان(أو يخلط بين الكلام الصحيح و الكلام الكذب)لدافع الرياء أو لدنيا يصيبها...إلخ كأن يظهر أنه حافظ لجميع التراث النبوي،و من ثمّ يعود لصوابه في أحيان أخرى،و قد يكون ضعيف النفس فيكذب ليظهر صادقا،ظنّا منه أن هذا العمل سيجعل له مخرجا من موقف حرج،كأن يكون نسي لفظ حديث نبوي أو معناه و لكن لا يريد أن يظهر أمام المجتمع أنه نسيه،و من ثمّ تنتفي أسباب الإحراج فيعود لصدقه،بل حتى و لو كان كثير الكذب فقد يدفعه الخوف من العقاب لأن يصدق،أو حرصا أ لا تذهب مصداقيته في المجتمع الإسلامي(كما ظهر لنا جليّا في الحديث رقم 4 السالف ذكره)...إلى ما هنالك من أسباب.فكذبه لا يعني بالضرورة أنه ذو مكر شديد يريد أن يخلط مفاهيم هذا الدين ليظهره بصورة متدنية،فيكذب بلا استثناء،و مع ذلك فنحن لا نبحث عن إمكانية إرجاع مصداقية هذا الصنف من الرجال،بل نتحرى عن المواطن التي صدقوا فيها مع الاعتقاد الراسخ أنهم فاقدون لهذه المزيّة.و من هذا المنطلق فلا يجب أن نعزل تماما روايات الضعفاء و خصوصا إذا كان هناك وسيلة إيضاحية تبيّن كذبهم من عدمه،و الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات:6]تلقي الضوء على هذا
ص: 693
الأمر،و تعلمنا-بل تأمرنا-أن نتبيّن-أي أن نتحرى-صدق الكلام من عدمه عند فاقدي المصداقية،بل تشير إلينا بعبارة النص،أي بطريقة مباشرة أن نتحرّى عن مدى صدق الخبر الذي يتفوّه به فاسق-لا أن نعزل أقواله كلّها(كما فعله علماؤنا الكرام)-فلو كان الكلام ضربا من الكهانة لوجب علينا أن نعزل أقواله كلّها لفقدان الوسيلة الإيضاحية،و لكن لو توفّرت لنا الوسيلة المبيّنة لكنا خالفنا الأمر الإلهي المتمثّل بتعاليم الآية السالفة الذكر.
و من الجدير بالذكر أن الآية تأمرنا أن نتحرى عن الفاسق-فاقد المصداقية- لا عن الصادق،مما يعني أنه قد يكون كلامه صحيحا،فلا معنى من التحري إذا كان مآل الخبر الكذب المحض و ليس فيه احتمال الصحة.
كذلك الآية القرآنية: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً(83) [النساء:83]فهي تشير إلى أن نعيد الخبر المشكوك إلى أهل الاختصاص لكي يتحروا عنه،و يستنبطوا هل هو صحيح أو لا، أو يتحروا ما هو صحيح منه مما هو خطأ من خلال الاستنباط المرتكز على العلم، أي من خلال الاستخراج المرتكز على علمهم الذي حصّلوه لذلك قال اللّه تعالى:
لَعَلِمَهُ .جاء في تفسير القرطبي للآية السالفة الذكر:«أي يستخرجونه،أي ليعلموا ما ينبغي أن يفشى منه،و ما ينبغي أن يكتم»،و بالتالي فهذه وصية ربانية أخرى- تضاف إلى الوصية الأولى التي ذكرناها آنفا-تدفعنا إلى وضع الأحاديث الضعيفة جدا تحت مجهر العلم الكوني الثابت.
و هذا يعد بنظرنا تفريطا في هذا الباب إن لم نلتزم به.لذا علينا أن نعمد إلى أمرين:
1-أن نعيد النظر في دراسة الأحاديث الضعيفة جدا كلّها التي تتكلم عن الظواهر العلمية،فنعزل الأحاديث ذات المتن الخاطئ،و نأخذ بالأحاديث ذات المتن الصحيح(التي تحمل في طياتها إعجازا علميّا يتعذر الوصول إليه).
2-أن نضع تلك الأحاديث تحت المجهر العلمي الثابت،فنعزل طرف الحديث الخاطئ من طرف الحديث الصحيح،لأن الكاذب يخلط في حديثه الخطأ بالصواب.
و علينا بعد ذلك أن نجمع تلك الأحاديث في مراجع معتمدة من مجمع فقهي، تشير إلى أن هذه الأحاديث يستأنس بها.
ص: 694
و نعني بالاستئناس-على وجه التحديد-في هذا المقام المعيّن:أن الراوي لتلك الأحاديث قد يكون صدق،و بالتالي قد يكون تفوّه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(و قد لا يكون)،أي-بمعنى آخر-:أن لا نجزم بثبوتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كما أن لا ننفي قطعيا احتمال أن يكون قد تفوّه بها،و ذلك لأننا تحرينا عن مصداقية متنها-التزما بآية سورة الحجرات السابقة-و ذلك لوجود وسيلة إضافية مكنتنا من ذلك،فترتفع مصداقية سند هذا الحديث خاصة-دون غيره-لدرجة الضعف الخفيف،لأنه تبيّن أن راوي الحديث قد يكون صدق في هذا الكلام على وجه الخصوص.
بيد أننا لن نتكلم عن تلك الأحاديث الضعيفة بغير ضوابط شرعية حتى لا نفرّط بمقام هذا الدين.و من الضوابط-كما ذكرناه سابقا في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة»-:
1-أن تندرج تحت أصل عام شرعي و علمي معمول به،أي أن لا تعارض نصا قرآنيا،أو حديثا ثبتت صحّته،أو علمّا شرعيا مسلّما به عند جمهور الفقهاء.
2-أن تكون دلالة الحديث قطعية،بحيث لا نستطيع أن نؤوّله،أو ظنية بحيث إنها تحمل دلالتين:إحداهما قريبة المنال،و الأخرى بعيدة(بمعنى أنها تستلزم الإحاطة بعلم معين و عمق في النظر لإدراكها،لا أنها بعيدة المنال من حيث إننا لا نستطيع أن ندركها إلا بواسطة تأويل مفرط)و ذلك لكي تستوعب جميع فئات المجتمع في كل زمان فهم الحديث المعتبر بما يتناسب مع قدراتها،أو ما يقاس على ذلك من أمور،مصداقا لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«بعثت بجوامع الكلم»[أخرجه البخاري ح 13]، و هكذا فعلى دلالة الحديث البعيدة أن لا تنفي إعجازا علميا باهرا،و أن تستوعبه استيعابا كاملا-لا لبس فيه-.
3-أن يراعى فيها الضوابط اللغوية و الفقهية و ما هنالك من شروط ذكرناها في مبحث«تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة».
4-أن لا يجزم بثبوت سند الحديث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(و لا أن ينكر على من يستأنس به)،مع التنبيه أن فيه فاقدا للمصداقية،غير أن المعطيات العلمية رفعت من شأنه.
5-أن يقتصر الموضوع على الإعجاز العلمي،أو على التجربة و الحس و المشاهدة التي لا مجال أن ندفعها أو أن نكذبها،فتؤيده و ترفع من شأنه،لا على المواضيع الأخرى التي ليس لها علاقة بموضوع الغيب،كالعقود و المعاملات...إلخ.
ص: 695
6-أن تحمل في طيّاتها إعجازا علميا نادرا جدا لا يمكن لبعيد الحدس أن يظفر به.
بيد أن العلماء السابقين-كما تكشّف لنا في هذا المبحث،بعد تنقيب شديد في كتب الحديث و مصطلحاته-لم يعترضوا على هذا الأمر،و إن لم يبوّبوا له بابا، و قد كشفت عباراتهم أنهم يؤيدون هذا الاتجاه في حالات استثنائية تتماشى مع متطلبات العلم ذات الوجه المشرق،و الخلفية الرصينة؛أ لا و هو موضوع الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،بل و حتى ذهب بعضهم إلى درجة تصحيح سند بعض هذه الأحاديث،و نحن-بهذه الحالة-نكون قد سلكنا مذهبا وسطا بين الإقصاء التام للأحاديث الضعيفة جدا و بين التصحيح القوي-المسلم به-.
و بناء على طلبنا قام-العالم الفاضل-الشيخ أبو حزم عبد الرحمن بن محمد الحكمي الفيفي ببحث رائع تطرّق فيه إلى أقوال العلماء في هذا المضمار،و أثمرت جهوده عن نتائج باهرة قد تقلب رأسا على عقب بعض المفاهيم السائدة في عصرنا هذا،و أرسله لي،و هذا نص رسالته:
«بحث المحدثون قديما و حديثا تقوية الحديث الضعيف بالطرق،و المتابعات و الشواهد و الاعتبارات،ثم بموافقة الحديث للقياس أو قبل ذلك شهادة الكتاب و الإجماع على صحته،إلى غير ذلك مما بحثوه في كتبهم في مصطلح الحديث تطويلا و اختصارا،إلا أني وجدت أنهم لم يبحثوا تقوية الحديث بالتجربة التي يندرج تحتها:
-وقوعه كحادثة تاريخية.
-وقوعه كذكر أو دعاء و تحقق ذلك منه.
-وقوعه دلالة على اكتشاف علمي،أو إعجاز غيبي.
كل هذه الأمور تندرج تحت تقوية الحديث بالتجربة التي هي اختبار الشيء و إحكامه و معرفة الأمور و ما فيها،كما تدل عليه عبارة اللسان(110/3)،و القاموس (85)،و هذا المعنى هو الذي يريده أهل الطب قديما كابن البيطار،و ابن سينا، و الأنطاكي،حيث يصفون خلطة ما فيقولون:دواء مجرب،و كذلك هو المعنى الذي يعنيه أصحاب العلم التجريبي اليوم حين يكثفون التجارب على شيء ما،و بعد طول الامتحان،و كثرة الاختبارات و تنوع التقليبات البحثية له يجزمون أنه حقيقة علمية، نجمت عن تجربة،و هذا تماما ما نعنيه هنا.فوقوع الحديث الدال على أمر غيبي تاريخي أو علمي أو روحاني(من دعاء و نحوه)و تحققه مع التجربة الصريحة و البحث المجرد،لا شك أنه أمر يلفت إلى الانتباه،و التروي في عدم رد الحديث.
ص: 696
و الأصل في هذا حديث أبي حميد و أبي أسيد الساعديين رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم،و تلين له أشعاركم و أبشاركم،و ترون أنه منكم قريب،فأنا أولاكم به،و إذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم،و تنفر أشعاركم و أبشاركم،و ترون أنه منكم بعيد،فأنا أبعدكم منه».
رواه أحمد في مسنده(497/3)،و رواه أيضا ابن حبان في صحيحه رقم(63)، (140/1)،و صححه،و قال الهيثمي في مجمع الزوائد(377/1):(رواه أحمد و البزار و رجاله رجال الصحيح).و ذكر الزركشي في«النكت على مقدمة ابن الصلاح»(/2 263)أن عبد الحق الإشبيلي صححه في«الأحكام»و كذلك القرطبي في«المفهم» شرح صحيح مسلم.
و الذي أراه أن هذه الرواية للحديث هي أصح رواياته دون غيرها،و أن معنى الحديث يتنزل على تلك الأحاديث التي لم يحملها إلا الضعفاء مع صحتها في نفسها،و مخالفتها لجملة ما يروونه،لموافقتها للشريعة،و للحقائق العلمية،و كذلك ما يروونه من قليل وافقوا فيه من سواهم من رواة الحديث الصحيح،مما هو موافق تماما للشريعة،لأن الراوي الضعيف لا يكون غير ضابط لكل رواياته،و إنما ضعف بالأغلب،لأن الحكم على الغالب،و هكذا كانت أحكام أهل التجريح و التعديل، فإنهم إن ضعفوا رجلا لا يقصدون أن كل أحاديثه لم يضبطها،و إنما قصدوا الأغلب منها فطرحوه،و أما ما عنده من قليل صحيح فاستغنوا برواية غيره له من الثقات، و لذلك اعتبروا الضعفاء في المتابعات و الشواهد و غيرها.
و مما تقدم موجزا يظهر لنا أن الحديث السابق قوى العمل بالتجربة في تصحيح أو قبول بعض الأحاديث.و قد رأيت في هذه العجالة أن أسوق بعضا من أقوال أئمة هذا الشأن في ذلك،أو المشتغلين به من المعاصرين.
*الحاكم أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه النيسابوري(ت 405)الإمام المحدث المشهور،صاحب المستدرك على الصحيحين.
فقد أخرج عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار،و تتشهد بين كل ركعتين،فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على اللّه-عزّ و جلّ-و صلّ على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ثم اسجد و اقرأ و أنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات،و قل:لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير،عشر مرات ثم قل:اللهم إني أسالك بمعاقد العزّ من عرشك،و منتهى الرحمة من كتابك،و اسمك الأعظم،وجدك الأعلى،و كلماتك
ص: 697
التامة،ثم سل حاجتك ثم ارفع رأسك،ثم سلم يمينا و شمالا،و لا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجابون».
قال الحاكم:قال حميد بن حرب:قد جربته فوجدته حقا،و قال إبراهيم بن علي الدبيلي:قد جربته فوجدته حقا،و قال الحاكم:قال لنا أبو زكريا:قد جربته فوجدته حقا،قال الحاكم:و قد جربته فوجدته حقا.
و هذا النسق من الرجال هم سند الحاكم في الحديث،و بالتالي فهو حديث مسلسل بالتجربة،و الحاكم و حميد بن حرب،و إبراهيم بن علي الدبيلي،و أبو زكريا،وعدتهم أربعة من أئمة الحديث اعتمدوا التجربة في تقوية الحديث حتى وجدوه حقا.
و قد أورد الحافظ الكبير،إمام أهل الحديث في زمانه،شيخ الإسلام أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري(ت 656)هذا الحديث في كتابه«الترغيب و الترهيب»(477/1-478)ثم قال:(أما عامر ابن خداش-راوي الحديث المتفرد به-هذا هو النيسابوري.قال شيخنا الحافظ أبو الحسن:كان صاحب مناكير،و قد تفرد به عن عمر ابن هارون البلخي،و هو متروك متهم/أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم.و الاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد،و اللّه أعلم).
شيخ الإمام المنذري هذا هو أبو الحسن علي بن المفضل بن علي الإسكندري المالكي(544-611)و المنذري،ولد سنة 581،فيكون عمره حين وفاة شيخه ثلاثين عاما،على أنه بلديّة،فهما مصريان.
فإن كان الكلام الأخير في«الترغيب و الترهيب»-و هو قوله:(و الاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد)-من كلام الإمام أبي الحسن علي بن المفضل فيضاف إلى المنذري أيضا،و إلا فهو للمنذري موافقا و مقررا،أو محررا و مبتدئا بالحكم،و على كل فقد ظهر من خلال هذا أن المنذري-و هو أعلم أهل زمانه بالحديث و أحفظهم له كما ذكره الذهبي-[انظر«طبقات الشافعية الكبرى»(/8 260)]يقبل حديثا بالتجربة و يعتمد عليها في العمل به،مع أن إسناده ضعيف كما صرح به هو.
و قد علق السيد العلامة المحدث محمد بن علوي المالكي الحسني المكي في كتابه«أبواب الفرج»(299)قائلا:(و الحديث و إن كان ضعيفا لكنه مقبول مجرب معمول به)فهذا الإمام خامس المحدثين الأربعة السابقين،و قد قوى الحديث الضعيف بالتجربة بالإضافة إلى الإمام المنذري.
ص: 698
و قد ورد النهي عن القراءة في الركوع و السجود كما هو مشهور في الحديث، في صحيح مسلم و غيره،إلا أن القراءة في هذا السجود خاصة جائزة،لأنه ليس السجود الذي هو من صلب الصلاة،و إنما هو سجود زائد بعد التشهد كما هو ظاهر في الحديث،و هذا ما قرره السيد العلامة المالكي في كتابه السابق.
*من الأحاديث التي رويت بالتجربة الحديث المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم،و الملتزم هو:ما بين الحجر الأسود و باب الكعبة.و قد رواه السيوطي قائلا:أخبرتني أم هانئ بنت أبي الحسن سماعا عليها قالت:أخبرنا عبد اللّه بن محمد النشاوري،قال:أخبرنا إبراهيم بن محمد الطبري،قال:أخبرنا أبو القاسم بن مكي،قال:أخبرنا أبو طاهر السلفي،قال:سمعت أبا الفتح الغزنوي يقول:سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن نصر اللبان يقول:سمعت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي يقول:سمعت أبا القاسم عبيد اللّه بن محمد بن خلف البزاز يقول:سمعت عبد اللّه بن الزبير الحميدي يقول:سمعت سفيان بن عيينة يقول:سمعت عمرو بن دينار يقول:سمعت ابن عباس يقول:سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:
(الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء،و ما دعا عبد اللّه-تعالى-في دعوة إلا استجابها).
قال ابن عباس:فو الله ما دعوت اللّه فيه قط إلا أجابني.
قال عمرو:و أنا ما دعوت اللّه فيه إلا استجاب لي.
قال سفيان:و أنا ما دعوت اللّه فيه إلا استجاب لي.
قال الحميدي:و أنا ما دعوت اللّه فيه إلا استجاب لي.
قال محمد بن إدريس:و أنا ما دعوت اللّه فيه إلا استجاب لي.
قال محمد بن الحسن:و أنا ما دعوت اللّه فيه إلا استجاب لي.
قال عبيد اللّه بن محمد:و أنا دعوت اللّه فيه مرارا فاستجاب لي.
قال حمزة:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قال الحسن اللبان:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قال الغزنوي:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قال السلفي:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قال ابن مكي:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
ص: 699
قال الطبري:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قال النشاوري:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قالت أم هانئ:و أنا دعوت اللّه فيه فاستجاب لي.
قلت-أي السيوطي-:و أنا دعوت اللّه بأمور دنيوية و أخروية فاستجاب لي الأولى،و أرجو أن تكون الأخرى قد استجيبت[«جياد المسلسلات»(196-199)].
قال العلامة المحدث محمد بن أحمد الفاسي ثم المكي(ت 832):(روينا عنه-أي الملتزم-حديثا مرفوعا مسلسلا في استجابة الدعاء فيه،و جرب ذلك من زمنه إلى عصرنا).[«العقد الثمين»(242/1)].
فهؤلاء الأئمة من لدن سفيان بن عيينة إلى السيوطي مرورا بالفاسي اعتمدوا التجربة في قبول الحديث.قال الشيخ العلامة صديقنا مجد مكي محقق«جياد المسلسلات»(201)بعد نقل كلام للشوكاني في ذلك:(و هذا تعليل جيد،يضاف إليه صدق التجربة).فالشيخ العلامة المحدث مجد مكي اعتمد أيضا صدق التجربة في تقوية الحديث.
قال الحافظ شمس الدين محمد بن محمد بن الجزري(ت 833)،المقرئ المشهور،صاحب الطيبة و غيرها:أخبرنا شيخنا الإمام المحدث جمال الدين محمد ابن يوسف بن محمد بن مسعود السرمدي مشافهة،أنبأنا شيخنا الإمام أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود المقرئ،أنبأنا أبو أحمد عبد الصمد بن أبي الجيش، أنبأنا أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن علي،أنبأنا والدي،أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ،أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي بن خلف،أنبأنا عبد الرحمن السلمي،أنبأنا عبد اللّه بن موسى السلامي،أنبأنا الفضل بن عياش الكوفي،أنبأنا الحسين بن هارون الضبي،حدثنا عمر بن حفص بن غياث،عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب،قال:رآني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حزينا فقال:يا ابن أبي طالب أراك حزينا؟فقلت:هو كذلك.قال:
فمر بعض أهلك يؤذن في أذنك،فإنه دواء للهم.قال:ففعلت فزال عني.قال الحسين:فجربته فوجدته كذلك.قال حفص بن غياث:جربته فوجدته كذلك.قال عمر بن حفص:جربته فوجدته كذلك.قال الحسين بن هارون:جربته فوجدته كذلك.قال الفضل:جربته فوجدته كذلك.قال عبد اللّه بن موسى:جربته فوجدته كذلك.قال عبد الرحمن:جربته فوجدته كذلك.قال أبو بكر:جربته فوجدته كذلك.
ص: 700
قال ابن الجزري:لم أسمع ابن ناصر يقول فيه شيئا،بل جربته فوجدته كذلك.قال أبو محمد يوسف:جربته فوجدته كذلك.قال عبد الصمد:جربته فوجدته كذلك.قال أبو الثناء:جربته فوجدته كذلك.قال ابن الجزري:و لم أسمع شيخنا السرمدي يقول شيئا،و لكن جربته فوجدته كذلك.قلت(أي:السيوطي):
و سمعت هذا الحديث من الحافظ تقي الدين محمد بن فهد(ت 871)بسماعه من الجزري حسب التسلسل،و لم أر في رجاله من تكلم فيه بقدح.انظر[«كنز العمال» رقم(5001)].و هؤلاء الأئمة في هذا النسق من لدن حفص بن غياث إلى ابن فهد اعتمدوا التجربة كما تقدم من سياقة الحديث.
*و في خبر مقطوع عن يونس بن عبيد:ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]إلا وقفت بإذن الله.رواه ابن السني في عمل اليوم و الليلة،من حديث المنهال بن عيسى،و هو مجهول.و مع هذا فقد قال ابن القيم الجوزية(ت 751)عن هذا الدعاء:(قال شيخنا ابن تيمية قدس اللّه روحه (ت 728):و قد فعلنا ذلك فكان كذلك)[«الوابل الصيب»(ص 168)].
و إن لم يصرحا بالتقوية للحديث إلا أن فعلهما له أو فعل ابن تيمية له ثم وقوع الحديث وفق ذلك يدل على قبوله عندهما،لما علم من شدة تمسكهما بالسنة و بالآثار،و من هنا ينضمان إلى من ذكرنا سابقا بتقوية الحديث بالتجربة.
*حديث علي رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«تكون مدينة بين الفرات و دجلة، يكون فيها ملك بني العباس و هي الزوراء،تكون فيها حرب مقطعة يسبى فيها النساء، و يذبح فيها الرجال،كما يذبح الغنم».
رواه الخطيب البغدادي أحمد بن علي(ت 463)في«تاريخ بغداد»(39/1).
و ذكره الإمام السيوطي(ت 911)في كتابه«جامع الأحاديث الكبير»(109/4- 110)ثم قال:(الخطيب عن علي،و قال:إسناده شديد الضعف،قلت-أي السيوطي-:وقعت هذه الحرب و الذبح بعد موت الخطيب بأكثر من مائتي سنة، و ذلك مما يقوي الحديث)(رقم الحديث:10580)كما في طبعة دار الكتب العلمية، و أما في طبعة مجمع البحوث الإسلامية 1402«جمع الجوامع»المعروف بالجامع الكبير،العدد العاشر من الجزء الثاني،فهو في(ص 1185)و رقم(470-12794).
و سقطت بغداد(الزوراء)بأيدي التتار سنة 656،و وقع فيها من الذبح، و الحرب المقطعة،و السبي ما هو مذكور في كتب التاريخ،و ذلك محل اتفاق من
ص: 701
المؤرخين،أي بعد موت الخطيب ب 193 سنة/مع أنه ضعفه،و على ذلك فيكون الحديث موجودا عند الرواة قبله بكثير،و لعل مما زهد الحفاظ في روايته حتى حمله غيرهم من الضعفاء الذين ليسوا وجوها في الناس لعله وقع بغداد في النفوس، و كونها حاضرة البلاد،و مركز الخلافة،و لا يجرؤ المشاهير على رواية شيء من ذلك مما قد يعرضهم لطوائل المحاسبة و صوادع المعاقبة.
هذا و قد أورد الإمام المحدث المتقي الهندي(ت 975)هذا الحديث في كتابه «كنز العمال»رقم(31455)في(1136/1)طبعة بيت الأفكار الدولية،و نقل كلام السيوطي كما هو مقرا له،فهذا إقرار منه و رضا به.
و السيوطي نفسه قد أورد هذا الحديث ضمن كتابه«اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة»(248/1).و مع هذا فقد قواه في كتابه«جامع الأحاديث الكبير»لأنه وقع.
*و قد استأنس الحافظ الكبير،و الإمام الشهير،خاتمة الحفاظ أحمد بن علي ابن حجر(ت 852)بالتجربة في تخريجه حديث«ماء زمزم لما شرب له»فقال فيما نقله عنه الإمام السخاوي:(و مرتبة هذا الحديث أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به،و قد جربه جماعة من الكبار فذكروا أنه صح...)«المقاصد الحسنة» (568)فاستأنس بالتجربة كما ترى،فلا أقل من أن تكون عنده استئناسا كما يظهر من كلامه.
*و ذكر الإمام السخاوي صاحب«فتح المغيث بشرح ألفية الحديث»المتوفى (902 ه)حديث«ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله»ثم قال:(و قد تكلمت عليه في بعض الحوادث،و أوردت ما حكاه لي قاضي الحنابلة الأستاذ عز الدين الكناني رحمه اللّه من واقعة له مع يهودي تؤيد ذلك)«المقاصد الحسنة»(580)فجعل الواقعة مؤيدة للحديث،فلا أقل من كونه جعل الواقع العلمي أو التجريبي لدلالة الحديث الضعيف تأييدا و استئناسا به عليه.
*و من المشايخ المعاصرين الذين قووا الأحاديث الضعيفة لوقوعها الشيخ حمود بن عبد اللّه التويجري(ت 1413)،قال في كتابه«إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن و الملاحم و أشراط الساعة»(12/1):(و بعض الأمور التي ورد الإخبار بوقوعها لم ترو إلا من طرق ضعيفة و قد ظهر مصداق كثير منها،و لا سيما في زماننا،و ذلك مما يدل على صحتها في نفس الأمر و كفى بالواقع شاهدا بثبوتها و خروجها من مشكاة النبوة).
ص: 702
و على ما ذكر فإن الحديث الضعيف يقوى إذا تحقق وقوعه تماما بدون تأويل بعيد،أو تفسير متكلف،و أقوى أنواع وقوعه ثبوت إعجاز علمي به،فهذا هو أقوى التجارب.
*و قد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في كتابه«الحباء من العيبة غب زيارتي لطيبة»حديث جابر رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قعد على موضع مسجد الفتح،و حمد اللّه و دعا عليه،و عرض أصحابه و هو عليه،و هذا الحديث هو حديث إجابة الدعوة في مسجد الفتح،و قد حسنه الشيخ ابن عقيل لتجربة إجابة الدعوة فيه مما ظهر أن للمكان خصيصة فضل.ثم قال:(فإذا وجدت شواهد تصحح أو تحسّن تجربة جابر رضي اللّه عنه،أو صحت تجارب لغيره من خالف أو سالف فنتائج التجربة متبعة)(ص 67).و قد ذكرنا من المعاصرين-على ما سبق-السيد العلامة المحدث الشيخ محمد ابن علوي الملكي الحسني المكي،كما في حديث صلاة الحاجة،و ذكرنا أيضا الشيخ العلامة مجد مكي كما في حديث إجابة الدعاء في الملتزم.
و أما من السابقين فالإمام الحاكم صاحب المستدرك،و من في نسق إسناده في صلاة الحاجة على ما مر سلفا،فقد اعتمدوا التجربة.
و كذلك من في نسق الحديث المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم،و منهم السيوطي إلى سفيان بن عيينة،و كلهم محدثون أثبات.و كذلك الإمام الفاسي صاحب «العقد الثمين»حيث نقلنا قوله هناك و صرح بالتجربة،و كذلك من في نسق الحديث في تفريج الهم بالأذان في الأذن،و فيه جلة من أئمة هذا الشأن كالسيوطي و ابن الجزري،و ابن فهد و ابن ناصر و حفص ابن غياث و غيرهم.و أنهم جربوه فوجدوه كذلك،رووه هكذا مسلسلا من لدن حفص بن غياث إلى السيوطي.
و كذلك نقلنا عمل ابن تيمية،و نقل ابن القيّم عنه ما جربه في إيقاف الدابة الصعبة بتطبيق خبر مقطوع و فيه مجهول،فوجدوا الأمر كذلك.و كذلك تقوية السيوطي ثم المتقي الهندي صاحب كنز العمال،لحديث سقوط بغداد مع كونه واهي الإسناد لوقوعه و تحققه على ما ورد.
و كذلك اعتماد المنذري لحديث صلاة الحاجة الذي رواه الحاكم،بسبب التجربة،مع أن فيه راويا ضعيفا تفرّد به،و رجلا متروكا متهما،و ذكرنا الحافظ ابن حجر،و تلميذه السخاوي في استئناسهما بالتجربة،أو الوقوع على قبول بعض الأحاديث.
ص: 703
إذا تأكد لديك ما مضى تقريره،فاعلم أن ما قاله بعض الفضلاء المعاصرين المشتغلين بالحديث و التفسير و هو:الشيخ الفاضل الدكتور محمد بازمول:(و اليوم يكثر الحديث عن الإعجاز العلمي،و قد هجم بعضهم و ذهب يقوي أحاديث حكم أهل العلم بضعفها،و أحيانا بوضعها،فيأتي هؤلاء (1)لما يراها توافق الحقيقة العلمية و يمهّد لإثبات الحديث بهذه الموافقة.و هذه طريقة لا تثبت بها الأحاديث،بل إن الحديث ضعيف السند إذا وافق آية لا يحكم له بثبوت نسبته إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم لمجرّد ذلك،ما لم تكثر طرقه،و يقوم من القرائن ما يجعل النفس تطمئن لذلك،فكيف بمجرّد الموافقة للواقع العلمي؟)«مجلة جامعة أم القرى،(ع 26)(ص 261)».
اعلم أن ما قاله هذا الشيخ الفاضل المعاصر لا يتجه مع ما سبق نقله من كلام أئمة هذا الشأن،و تقويتهم الحديث بالتجربة.على أنه لم يورد إلا حديث سقوط بغداد و كلام السيوطي عليه فقط،و لم يورد كلام غير السيوطي ممن ذكرنا في رسالتنا هذه،ثم إنه لا نزاع أنه لا تثبت نسبة حديث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثبوتا قطعيا،إلا المتواتر من الحديث على ما هو مبسوط في كتب المصطلح و أصول الفقه،و إنما ثبوت غير المتواتر إليه صلّى اللّه عليه و سلّم يكون من قبيل الظن الراجح،و أما الحديث الضعيف الذي ثبت أو قوي بالتجربة(دعاء أو وقوعا أو إعجازا علميا)فالأئمة و غيرهم من المتعاطين لهذا الفن لا يثبتون نسبة الحديث إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قطعا أو جزما،و أنه قاله بلفظه، و لكن يحصل عندهم ظن راجح أن الراوي الضعيف لهذا الحديث أدى المعنى، فالذي يثبتون نسبته هو المعنى الذي صححته التجربة،و دلّ عليه البرهان.
هذا،و لا يخفى أن الحقائق العلمية اليوم أقوى من الوقائع التاريخية التي وردت ضمن الأخبار،و قوى السيوطي من أجلها حديث سقوط بغداد،لأن التاريخ متسع،و قد تحدث حادثة مقبلة ينطبق عليها الحديث أتم الانطباق.
و كذلك الحقائق العلمية أقوى من مجربات الأدعية،كحديث صلاة الحاجة، و الدعاء في الملتزم،و الأذان في الأذن،و قراءة الآية على الدابة الصعبة،على ما مر تفصيله،لأن الدعاء قد يستجاب لأمر آخر،كالإخلاص و اضطرار الداعي،و غير ذلك،و لكن لكثرة وقوع ذلك اعتمد الأئمة تصحيح تلك الأحاديث...
ص: 704
لا يخفى أن الحقائق العلمية الثابتة بالتجربة أقوى برهانا و دلالة على صحة الحديث إذا طابقته و طابقها دون تكلّف من تأويل أو تفسير،لأنها حقائق ثبتت قطعا شأنها في ذلك شأن الضروريات التي لا مجال لإنكارها لكونها من قبيل المحسوسات،أو ما نزل منزلتها،و كل هذا يدل على قدرة اللّه تعالى،ثم الإعجاز العلمي المطوي في تلك الأحاديث الأمر الذي قواها،علاوة على دلالة ذلك على ثبوت النبوة و صدق صاحبها صلّى اللّه عليه و سلّم.
هذا و قد ألفت هذه الرسالة الموجزة بناء على طلب السيد الكريم...كريم بن نجيب بن الأغر.أدامه اللّه لرفع راية العلم الدقيق،و التفسير العلمي للقرآن الكريم.
و كتبتها بين الظهر و العصر من يوم الثلاثاء الموافق الخامس عشر من رجب عام 1425 ه المحاذي ل 31 من أغسطس آب عام 2004 م.
و اللّه أعلى و أعلم،و صلى اللّه و سلم على رسولنا الأكرم،و أصحابه الأقدم فالأقدم،و من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث الأعظم».انتهى كلامه.(«المعربة في تقوية الحديث بالتجربة»للشيخ أبي حزم عبد الرحمن بن محمد الحكمي الفيفي).
و بعد أن جلنا في عالم أقوال الجهابذة العلماء الذين تلقّتهم الأمة بالقبول، و تبيّن لنا مدى حرص-العالم المكرم-الشيخ عبد الرحمن بن محمد الحكمي الفيفي في الإحاطة بجوانب هذا الموضوع الفريد،نرى أنه من الحكمة أن نورد مثلا يجسّد لنا هذا الإعجاز،و يبرّر من الناحية العلمية الأسباب التي تجعله يرتقي إلى درجة الاستئناس.
و لذلك نتناول الحديث:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها الأعضاء و العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
فهذا الحديث يشير إلى الحقائق العلمية الغيبية التالية:
1-أن للإنسان نطفة،نسبة للفظ:[النطفة]في الحديث.و توافق بذلك الآية:
أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37].
2-أن هذه النطفة خاصة،بمعنى أن لها القابلية لأن تخلّق-بإذن اللّه- إنسانا،أي أنها مخصبة،نسبة للفظ:[التي يخلق منها الولد]،و توافق بذلك الآية:
إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].
3-أن لهذه النطفة صبغية،نسبة للفظي:[لها]و[عروق]في الحديث، و توافق بذلك الحديث جيّد السند:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل
ص: 705
المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]» [أخرجه الطبراني ح 21]،ناهيك عن أبعاد كلمة«عرق»من كونها تشير إلى أن الصبغيات طويلة،بل إنها في غاية من الطول،و إنها تشكّل أصل الإنسان.
4-أن هناك العديد من العروق،نسبة للفظ:[العروق]،و توافق بذلك الحديث السالف ذكره.
5-أن هذه العروق تتحرك،نسبة للفظ:[ترعد لها...العروق]،و هي بالتالي توافق الحديث:أن أعرابيا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال:ولدت امرأتي غلاما أسود، و إني أنكرته،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:«هل لك من إبل؟»قال:نعم.قال:«فما ألوانها؟»قال:حمر،قال:«هل فيها من أورق؟»،قال:نعم.قال:«فأنّى هو؟»، قال:لعله يا رسول الله:يكون نزعه عرق له.قال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:و هذا لعله يكون نزعه عرق له»[أخرجه مسلم ح 65]،و غيره من الأحاديث التي وردت في هذا الصدد.
6-أن حركة هذه العروق محددة بالانكماش و التمدد المحدودين في هذا المقام،و في هذا الوقت تحديدا،نسبة للفظ:[النطفة التي...ترعد لها...العروق...إذا خرجت]،و توافق بذلك الحديث المرسل عن ثقة(أي ذات الضعف غير الشديد)،و هو:«صدقت!...إذا كان حين الولد،اضطربت العروق كلها،ليس منها عرق إلا يسأل اللّه أن يجعل الشّبه له»[أخرجه الحكيم الترمذي ح 22].
7-أنها تأتي من خارج الرحم نسبة للفظ:[وقعت في الرحم]،و توافق بذلك الآية: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13].
8-أن الموضع الذي تأتي منه متصل بالرحم،نسبة للفظ:[إذا خرجت وقعت في الرحم]،و هذا المفهوم تفرّد به الحديث،و هو يوافق الحقائق العلمية الثابتة،و بالتالي أضاف إشارة علمية جديدة على مجموع الإشارات التي جمعت من مختلف الأحاديث.
9-أن الموضع الذي تأتي منه يقع على هاوية تطل على الرحم نسبة للفظ:
[وقعت في الرحم]،و توافق بذلك حديث-إسناده صحيح-هو:«إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه ملكا فقال:يا رب:مخلّقة أو غير مخلّقة؟فإن قال:غير مخلقة مجّتها الأرحام دما»[رواه الطبري ح 32].
10-أن إخصاب النطفة يحصل في الرحم قبل أن تدخله،لأنها تدخل الرحم
ص: 706
و لها القابلية أن تتخلق،نسبة للفظ[النطفة التي يخلق منها الولد...وقعت في الرحم]،و توافق بذلك الحديث السالف ذكره في النقطة رقم(9).
11-أن ارتعاد عروق النطفة يحصل في المكان الذي يقع عضويا قبل الرحم، و هذه أيضا إشارة تفرّد بها الحديث على غيره من الأحاديث،و هي إشارة علمية صحيحة بلا شك،و هو بذلك أضاف دقّة جديدة تضاف إلى مجموعة الإعجازات التي وردت في هذا المضمار.
12-أن هذه النطفة تمكث لفترة غير وجيزة خارج الرحم،نسبة لوظيفة[إذا] التي وردت في الحديث،و توافق بذلك الحديث رقم 32 السالف ذكره،و الذي ورد في النقطة رقم(9).
13-أن ارتعاد عروق النطفة يحصل زمنيا بعد التخصيب مباشرة نسبة للفظ:
«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها...العروق»،و قبل ولوج حدود الرحم نسبة للفظ:«ترعد لها...العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»،و توافق بذلك اللفظ الذي جاء في الحديث رقم 22 السالف ذكره،و هو:«إذا كان حين الولد، اضطربت العروق كلها»،و هذا التحديد في منتهى الدقة حيث جعل الأمر المذكور (الارتعاد)بين حدثين مهمين(التخصيب-دخول الرحم)،و كل ذلك في وقت ضيّق (حوالي يومين)،مع تقريب الحدث أكثر لجهة زمن التخصيب،لأن لفظ«إذا»- المقترن بوقوع النطفة في الرحم-يشير إلى مكوثها لفترة من الزمن-بعد أن ترعد عروقها-في مكان ما يقع خارج الرحم قبل الولوج في الرحم،بينما الارتعاد حصل لمجرد أن النطفة أصبحت مستعدة لأن يتخلق منها الولد(أي أصبحت مخصبة).
14-أن كل عروق النطفة ترعد بدون استثناء نسبة للفظ:[العروق كلها]، و توافق بذلك الحديث رقم 22 السالف ذكره بدقّة متناهية.
15-أن دخول الرحم يحصل برفق،نسبة للفظ:[إذا خرجت وقعت في الرحم]،حيث إن خروج النطفة من حدود مكان ما(قناة فالوب)أعلى مستوى سطحه من مستوى سطح مكان آخر(الرحم)أدى إلى وقوعها على سطح الأخير، و ليس من جراء قفزها و اندفاعها بسبب السرعة و الضغط الذي يرافقها كما أشارت إليه الآية القرآنية: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق:6]،و توافق بذلك الحديث رقم 32 السالف ذكره،و انظر لهذا الغرض مبحث«هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم».
ص: 707
أما بالنسبة للفظ«الأعضاء»الذي ورد في الحديث إلى جانب كلمة«العروق» فسنعتبر أنه جاء في الحديث من جراء ما يسمى في مصطلح الحديث بالتصحيف، و التفصيل هو كما في الحاشية (1)..-
ص: 708
(1) -و مرد هذا التصحيف-في اعتقادنا-إلى التباس السمع على المستمع سواء أ كان الناسخ الأول للحديث،أم راويا من الرواة،حيث إن رقم تسعة و تسعين جاء في عدّة مواضع في النصوص القرآنية، فتبادر إلى ذهن المستمع الرقم الأخير لألفته له،فأخذ به.
و من النصوص الشرعية التي ورد فيها الرقم تسعة و تسعون هي:
1- إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص:23].
2-عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«إن للّه تسعة و تسعين اسما مائة إلاّ واحدا من أحصاها دخل الجنّة»[أخرجه البخاري ح 118].
3-عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«قال سليمان بن داود عليهما السّلام:لأطوفنّ اللّيلة على مائة امرأة أو تسع و تسعين كلّهنّ يأتي بفارس يجاهد في سبيل اللّه،فقال له صاحبه إن شاء اللّه،فلم يقل إن شاء اللّه،فلم يحمل منهنّ إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل،و الّذي نفس محمّد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا أجمعون»[أخرجه البخاري ح 119].
و من الجدير بالذكر أن الشرع لم يذكر رقم تسعة و تسعين للتكثير فقط،و إنما لوقوعه كذلك،و الدليل على ذلك أنه وقع في أحاديث أخرى غير ذلك من الأرقام-كما مرّ معنا في طيّات هذا الكتاب-، مثل رقم أربعين،و سبع،و ثلاثمائة و ستين...إلخ،و بالتالي فإن الشرع ينقل الرقم الموجود في الطبيعة،و هو في هذه الحالة:اثنان و تسعون،و هذا ما يدل على أن السامع خلط بين الرقم الحقيقي و الرقم الشائع في النصوص الشرعية.
و أما بالنسبة للتصحيف البصري فتمثل بالحديث:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها الأعضاء و العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23].
و الدليل على ذلك الأسباب التالية:
1-أن رسم الأعصاب اليدوي يتشابه إلى حدّ كبير برسم الأعضاء حيث إن الباء تكتب مرتفعة عن السطر في وسط ألف الأعصاب الأخيرة و لها مثل الهمزة في أولها،و بالتالي تتشابه إلى حدّ كبير مع الهمزة،فيتوهم الناسخ أن الأعضاء هي اللفظ المراد.
2-أن العلم الكوني الثابت يعتبر وسيلة لمعرفة الخطأ من الصحيح،و إذا استعرضنا مختلف الأحاديث،تتعارض فيما بينها،إلا إذا رجحنا أي اللفظين أصوب،و العلم الكوني يشير إلى أن لفظ «الأعصاب»هو المراد.
3-أن العامل النفسي يؤثّر في نسخ المخطوطات،و قد تجلّى هنا بناحيتين:
*أولا:أن الارتعاد مألوف لدى عامة الناس-و خاصة لرجل حصّل قدرا قليلا من العلم في مجال تخلّق الجنين-أنه يحصل لسائر الأعضاء الجسدية،و بالتالي فلن يتبادر إلى ذهن الناسخ أن الارتعاد- -المذكور في الحديث يحصل على صعيد النطف،بل على صعيد جسد المرأة ككل،و بما أن الاضطراب يتصوّر حصوله لسائر الأعضاء الجسدية عادة أكثر من حصوله لأعصاب المرأة ككل، بمعنى جهازها العصبي،فلقد تراءى له أن كلمة«أعصاب»هي«أعضاء».-
ص: 709
(1) -*ثانيا:أننا نلحظ أن ما وقع من العامل النفسي للراوي في حديث:«تسعة و تسعين عرقا»قد وقع أيضا هنا،فإن الراوي،أو الناسخ-الذي تصحّف عليه لفظ«أعصاب»إلى«أعضاء»-كان كثيرا ما يطرق سمعه ورود كلمة«أعضاء»في الحديث،الذي هو مجاله،بخلاف كلمة«أعصاب».فقد وردت في حديث:«عن ابن عبّاس أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يسجد على سبعة أعضاء،و لا يكفّ شعرا،و لا ثوبا: الجبهة،و اليدين و الرّكبتين و الرّجلين»[أخرجه البخاري ح 120]،و حديث:(عن أبي سعيد الخدري رفعه قال:«إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلّها تكفّر اللّسان فتقول:اتّق اللّه فينا،فإنّما نحن بك،فإن استقمت استقمنا،و إن اعوججت اعوججنا»)[أخرجه الترمذي ح 121]،إلى غير ذلك.
فالورود الكثير للكلمة شجّع الراوي أنها المقصودة،و من هنا وقع التصحيف عنده.
4-أن مختلف الأحاديث جاءت بلفظ«عرق»دون لفظ«عضو»،مما يشير إلى أن العروق وحدها هي المقصودة،و ليس سائر الأعضاء،مما يستوجب حمل معنى الكلمة المعطوفة على العروق،أو المقرونة بها،على الأعصاب دون غيرها من الأعضاء،لأنها تفيد نفس المعنى.
5-أنه لا يخفى أن عطف العروق-و هي دقيقة جدا-على الأعضاء-و هي المرئية في البدن لكل أحد-فيه نبوّ في الأسلوب العربي،لأن العطف،و إن اقتضى التغاير،إلا أنه ينبغي فيه التناظر،و نظير العروق هو الأعصاب.و هذا ما يسمى«بمراعاة النظير»(و قد سبق تعريفه في مبحث«مرحلة القابلية للحياة/العدة»)،فكيف إذا اتفق مع ما دل عليه العلم،و ما ذكرناه آنفا من الإمكانية الكبيرة لوقوع التصحيف فيه؟.
6-و الجدير بالذكر أن حديث الطبراني وردت فيه اللفظتان مفردتين(عرق-عصب)،على حين أن حديث الديلمي وردتا فيه مجموعتين(أعضاء-عروق)،مما يدل أن المراد هو الأعصاب،لا الأعضاء؛ورودها مع«عروق»مفردتين هناك،و ورودهما عند الديلمي مجموعتين،فما أفرد هناك جمع هنا،و لا يتعين هذا إلا بكون الراوي صحّف الأعصاب إلى الأعضاء.فاستعنا بدلالة إفرادهما عند الطبراني على معرفة تصحيف الراوي لإحداهما(الأعصاب)عند الديلمي،فتأمل فإنه ملحظ دقيق.
7-أن الحديث رقم 22:«إن اللّه تعالى إذا أراد خلق النّسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق و عصب منها،فإذا كان يوم السابع جمعه اللّه تعالى ثم أحضر له كل عرق بينه و بين آدم،ثم قرأ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]»[أخرجه الطبراني ح 21]يعتبر بيانا للحديث:«النطفة التي يخلق منها الولد ترعد لها الأعضاء و العروق كلها إذا خرجت وقعت في الرحم»[أخرجه الديلمي ح 23]،و قد ورد فيه لفظ«عصب»-على ما تأكدنا منه-،و هو أقوى في سنده من الحديث الذي أخرجه الديلمي رقم 23،مما يعني أن الأعضاء هي المرادة،و الله تعالى أعلم.- -و قبل أن نشرح لما ذا حديث الطبراني هو بمثابة بيان لحديث الديلمي ننوه إلى ما يلي:إن الحديث ورد عند البيهقي في«الأسماء و الصفات»بلفظ«عضو»،غير أن الطبراني متقدم على البيهقي، فالطبراني متوفى سنة 360 ه-،بينما البيهقي متوفى سنة 458،و بالتالي فهو أقرب إلى النبع-أي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم-مما يعزّز الاتجاه أن البيهقي أو أحد مشايخه-رحمهم اللّه-،أو أحد ناسخي مخطوطات البيهقي وقع منهم التصحيف،و أن هذا التصحيف من النوع البصري.-
ص: 710
(1) -أضف إلى ذلك أن لفظ«عصب»ورد عند الطبراني في كتبه الثلاثة:«الكبير»،و«الأوسط» و«الصغير»مما يعزّز احتمال أن لفظ«عصب»هو المراد لأن تعدّد المصادر بنفس اللفظ تنفي أن يكون وقع هناك خطأ.أضف إلى ذلك أن الهيثمي الذي روى زوائد الطبراني على الكتب الستة في كتابه «مجمع الزوائد»أورده بهذا اللفظ،و هذا دليل آخر يضاف إلى مجموعة الأدلة السابقة بأن لفظ «عصب»هو المراد.
كذلك فإن الحديث الذي رواه الطبراني و البيهقي إسناده واحد،و هو:عن أنيس بن سوار عن أبيه عن مالك بن الحويرث رضي اللّه عنه الحديث...و من ثم اشتهر-أي روي بأكثر من سند-بعد ذلك،مما يشير إلى أن اللفظ يجب أن يكون واحدا فقط لا غير،لأنه ينبع من أنيس بن سوار-رحمه اللّه-.قال الطبراني:«لا يروى عن مالك ابن الحويرث إلا بهذا الإسناد،تفرّد به ابن سوار».و بما أن الطبراني متقدم فيرجّح لفظ الطبراني على لفظ البيهقي لأننا لا نستطيع أن نعتبر أن هناك ألفاظا مختلفة-أي متون مختلفة-جاءت بأسانيد مختلفة،أي بمعنى آخر:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تلفظ بها أكثر من مرّة بأكثر من متن لأكثر من صحابي.
كذلك فإن الديلمي متأخر عن البيهقي الذي هو بدوره متأخر عن الطبراني،فالديلمي متوفى عام 509 ه،مما يعني أن الديلمي،أو أحد مشايخه،أو ناسخ مخطوطاته قد يكون ارتكز على مخطوطات البيهقي في فهمه للحديث رقم 23،فرواه بلفظ«الأعضاء»موافقا بذلك جمع لفظ«عضو»الذي ورد عند البيهقي.
و تفصيل موضوع البيان الذي ذكرناه آنفا هو كالتالي:
كلمة«كل»:«اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر نحو: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، و المعرف المجموع نحو: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم:95]،و أجزاء المفرد المعرف نحو: كل زيد حسن».(مغني اللبيب،لابن هشام الأنصاري،ج /3ص 84،تحقيق عبد اللطيف الخطيب،ط المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب،الكويت).
فإذا تقدّمت«كل»على المفرد المنكر جعلته بمعنى الجمع،و أفادت العموم،كما في حديث الطبراني رقم 21.
و إذا تأخرت«كل»على الاسم الذي تستغرقه أكّدته،و إذا أراد المتكلم أن يظهر الجمع فعليه أن يجعل الاسم المستغرق في صيغة الجمع لأن دلالة«كل»في الجمع تبقى مطوية،كما في حديث الديلمي.- -و خلاصة القول:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أراد العموم مع تأكيدهما في كلا الحديثين:رقم 21،و رقم 23. و ذلك لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قدّم لفظ«كل»المفيدة للعموم لاستغراق أفراد الاسم المنكر في حديث الطبراني رقم 21،و عند ما تقدّمت«كل»كان المعنى في قوّة الجمع،فأفادت«كل»العموم.
أما في الحديث الذي رواه الديلمي فتأخرت«كل»فأصبحت مؤكدة لما قبلها،و أصبحت دلالة ما قبلها-مع كونها أكّدته-مطوية على الجمع بسبب تأخيرها،فاحتاج اللفظ أن يأتي بصيغة الجمع لكي يفيد العموم.
و هكذا أصبح المفرد«عصب»يساوي العموم«أعصاب»،و استوى الحديثان في الدلالة،لأنه استعيض عن معنى الجمع المطوي بجمع لفظي«عصب»و«عرق»إلى لفظتي«أعصاب»و«عروق».-
ص: 711
(1) -فإذا تقرّر لك ذلك أيها القارئ،فاعلم أن الحديث الذي رواه الطبراني رقم 21 بمثابة بيان للحديث رقم 23 الذي رواه الديلمي-كما ذكرنا سابقا-لأن كل رواية فصلت ما كان مطويا في الأخرى،مما يعني أن المتنين مستويان في مرادهما،و بالتالي مستويان بألفاظهما،و هذا يشير بدوره إلى أن لفظ «عصب»المفرد في أصله،المجموع باتصاله باسم«كل»،يقابله لفظ«أعصاب»في حديث الديلمي، مما يعني أنه وقع تصحيف بصري بإبدال كلمة«أعصاب»بكلمة«أعضاء».
فائدة مهمة:و قد يتساءل القارئ لما ذا قدّمت«كل»في حديث الطبراني في حين أخرت في حديث الديلمي؟أ ليس لهذا الفعل دلالته؟و إلى ما ذا يدل؟.
-في حديث الطبراني:
و من المعلوم أن«في»تفيد«الظرفية المكانية»،و هي بالتالي تشير إلى معنى الوحدة و الممازجة.
فإذا فهمنا أن معنى كلمة«طار»في حديث الطبراني:«طار ماؤه في كل عرق و عصب»يشير إلى الانتشار فهمنا أن عروق نطفة الرجل انتشرت بين عروق نطفة المرأة،و بالتالي أن حرف«في»وقع موقع أداة«بين».و مرد ذلك أن المراد هنا هو إظهار أن البينية شديدة جدا و متشابكة كثيرا إلى حد الممازجة،مع أنها ليست الممازجة،فحسن استعمال«في»الظرفية المستخدمة في غير معناها الأصلي في هذا الموضع.فمن ناحية فعل«طار»يدل على شدّة الانتشار-كما مرّ معنا في مبحث«اختلاط عروق النطفة»-و من ناحية وظيفة«في»تدل على المخالطة إلى حد الممازجة مما يثبّت في ذهن السامع قوّة الانتشار.و تفيد المعطيات العلمية:«إن صبغيات الأم(أي عروق نطفة المرأة)و صبغيات الأب(أي عروق نطفته)تختلط في«الطور الاستوائي METAPHASE )(لأول عملية انقسام ميتوزية )FIRST MITOTIC DIVISION )للبويضة المخصبة»(كتاب الإنسان النامي مع زيادات إسلامية،د.كيث مور، ص 32)،و يكون ذلك عند خط استواء البويضة.فالحاصل أن هذه العروق-بعد أن تتمدد- تتضاعف،و من ثمّ تنقبض على نفسها لكي يتاح لها أن تعبأ في مكان ضيّق و أن تصطفّ بشكل منتظم عند خط استواء النطفة،و من هنا ساغت الصياغة(أي ساغ استعمال فعل«طار»و اسم«في»)التي توحي بشدّة قرب الأشياء المختلطة.غير أن هذه العروق لا تتداخل،و لئلا تتوهم الممازجة أتي- -بلفظة«كل»الدالة على العموم.فكانت الدلالة على المراد دقيقة جدا،فهي انتشار لكل عروق الحيوان المنوي بين كل عروق البويضة انتشارا واسعا شاملا-كما أفاده العموم في«كل»-و متلاصقا إلى قريب الممازجة-كما أفادته«في»المقيدة بمعنى العموم-.و السرّ في ذلك أنه يتوهم من إدخال «في»أن الصبغيات(أي العروق)أصبحت شيئا واحدا،على حين أن لفظة«كل»تفيد التعميم للجنس فردا فردا،فقيّدت دلالة«في»بدلالة«كل»،فحصلنا على معنى دقيق جدا لم يكتشف إلا حديثا بدقة متناهية.
-في حديث الديلمي:
أخرت«كل»لغرض التأكيد.فالموضوع يشير إلى الارتعاد،أي إلى تموج و اضطراب عروق الحيوان المنوي و عروق البويضة،و تفيد لنا المعطيات العلمية أن عروق الحيوان المنوي تكون داخل غشاء منفصل عن الغشاء الذي يغلّف عروق البويضة عند ما يدخل الحيوان المنوي البويضة،أي أنهما يؤلفان مجموعتين منفصلتين،و من ثم يتفكك غشاؤهما النووي-بعد أن تقترب المجموعتان من بعضهما-
ص: 712
و قد علّقنا في«قسم تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز العلمي»على هذا الأمر في«صلة الحديث بالإعجاز العلمي»للحديث رقم 21،و بينّا أن اللفظ الصحيح هو لفظ«الأعصاب»،لأنه بذلك يكون قد تكلم عن نفس الشيء الذي جاء ذكره في الحديث و هو:«العروق»،أي عن الصبغيات التي ترعد،فانظره هناك.و هو إن كان كذلك-و لا بد أن يكون كذلك لأن المعطيات العلمية قاطعة في هذا المجال،و لأن لفظ الحديث رقم 21(المتصل،المشهور،ذو الرجال الثقات)قد جاء فيه كذلك- فهو يضيف أبعادا وصفية في منتهى الإعجاز للعروق و هي أنها مربوطة بعضها ببعض، و ملتوية،و ليس ذلك فقط بل شديدة الالتواء،مع العلم أنه لا يمكننا رؤيتها بأي حال من الأحوال لصغر حجمها الذي يقدّر بالأنجستروم(واحد على عشرة مليار من المتر).
و نرى من التحليل السابق أن الحديث السالف ذكره يشير إلى عدّة إشارات علمية ذات طابع إعجازي مبهر،و هذه الإشارات العلمية تشكّل مجموعة متجانسة بعيدة المنال لبعيد الحدس،بحيث تجعل من المستحيل التنبؤ بها مجتمعة،فالحديث يدور عن شيء(نطفة)جد صغيرة(يبلغ حجمها حوالي 055,0 ملم)في مكان مظلم، و الوصول إليه متعذّر بغياب التقانة لأن مدخل المهبل لا يتّسع في الأحوال العادية لأكثر من إصبع صغير أن يدخله،و هو مسدود بكتلة مخاطية،و يصف لنا حالة هذه النطفة(مخصبة)،و يصوّر لنا طبيعة حركتها(من رخاء)،و موقع المكان الذي تجري فيه(خارج الرحم،و أنه يقع على مشارفه)،و يعطينا فكرة عن مدة مكوثها في هذا المكان،و يخبرنا عن وجود أشياء في النطفة هي أصغر منها بآلاف المرات (الصبغيات)،بل يخبرنا أن تلك الأشياء تتحرك،و يصف لنا طبيعة تحرك العروق (الارتعاد،أو الاضطراب)،مع العلم أن حادثة الارتعاد تحصل في دقائق معدودة، و يحجب رؤيتها غلاف النطفة بالنسبة للناظر الذي ينظر داخل قناة فالوب،فما الحال بالنسبة للناظر الذي ينظر من خارج جسد المرأة؟!!!،هذا مع العلم أن وصف صورةة.
ص: 713
ديناميكية،أي شيء ينتقل من مكان إلى آخر،تتغيّر صورته الداخلية مع مرور الوقت،أصعب من وصف شيء لا يتحرك،و أعضاؤه الداخلية جامدة،بحيث يتسنى للناظر الوقت لكي يستوعب تفاصيله،و ليس ذلك فقط بل يحدد لنا الزمان الذي تتحرك فيه تلك العروق بالشكل السالف ذكره،و يقيّده بين زمانين:بعد زمن الإخصاب،و قبل زمن دخول الرحم،مع الإشارة إلى أن وقت الارتعاد أقرب لزمن حدوث الإخصاب،و لا أظن أن أي إنسان على الإطلاق يستطيع أن يفصح عن تلك المعلومات بهذا التفصيل الذي يفوق التصور،إلا إذا كان يؤيّده الوحي الرباني،لشدّة الدقة و الشمولية التي فيه،و الغيب المطبق الذي يحيط بهذا الأمر بغياب التقانة،و في ظل جهل مطبق أيضا كان سائدا ليس في الجزيرة العربية فقط بل في العالم أجمع في عهد الوحي و ما قبله!!!!!!!.
كذلك فإن الحديث المعتبر يوافق القرآن الكريم و الأحاديث السالف ذكرها و غيرها لم نذكرها لسببين:-أولا:لكي لا نطيل على القارئ-ثانيا:لأن التوافق بين الحديث المعتبر و الأحاديث الأخرى يحصل بواسطة طرق فقهية غير مباشرة كاقتضاء النص و غيرها،و هي أقل مرتبة من طريقة عبارة النص التي اعتمدناها بالغالب هنا.
و المعاني التي أشرنا إليها هنا قطعية الدلالة لأنه لا نستطيع أن نصرفها في غير الأوجه التي ذكرناها و إلا لأصبحت دلالاتها عندئذ عبثية.
و بعد أن سردنا الأدلة الشافية لموضوع«تقوية الحديث ذي السند الضعيف جدا -و الذي يحمل في طيّاته إعجازا علميا نوعيا-إلى درجة الاستئناس به-كحد أدنى-»،نرى من الأهمية بمكان أن نلخّص ذكر الأسباب التي تدعونا لهذا الفعل، و القرائن التي من أجلها يجب أن ترفع لها راية التجديد الفقهي لموضوع«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة»من جهة تقوية الأحاديث التي لنا إليها حاجة،حتى نحكم هذا الموضوع خدمة لهذا الدين العظيم،و لكي يعتمده علماء الحديث فيبوبوا له أبوابا،و حتى يعتمده العلماء المعاصرون في أبحاثهم الآتية بإذن اللّه،و هذه الأسباب هي:
1-أن نصوص القرآن الكريم و السنة الشريفة تدعونا لهذا الفعل.
2-أن جهابذة العلم الفقهي و الحديثي في الإسلام قد ذكروا تقوية الحديث الضعيف جدا مليّا-بشكل مفرق-في كتبهم.
3-أنه إذا كان جهابذة العلماء يقوون الحديث الضعيف جدا الذي يرتكز على الدعاء لمجرد تحقق وقوعه عدّة مرات-و ليس بشكل مزمن دائم-على أيدي بعض
ص: 714
الرجال دون غيرهم،فمن باب أولى أن نقوي الأحاديث التي تتكلم عن حقائق مطّردة سارية في كل زمان،و لكل المجتمعات،و في كل أنحاء الكرة الأرضية.
4-أن علم«الإعجاز العلمي في القرآن و السنة»علم جديد يجب أن يسن له قوانين مناسبة لمتطلباته.
5-أن هناك وسيلة إضافية-لم تكن متوفّرة من قبل هي الآن بمتناول الأيدي -تمكّن لنا معرفة صحة متن الحديث من خطئه.
6-أنه يعد تفريطا أن ننسى تلك الأحاديث التي تتكلم عن إشارات غيبية إعجازية لمجرد أنها رويت على ألسنة الضعفاء للأسباب النفسية و الاجتماعية التي ذكرناها آنفا.
7-أنه إذا كان علماء الحديث يرجعون الحديث الموقوف على الصحابي- و الذي جاء فيه إخبار عن الغيب-لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تحت باب«الوقف القولي الحكمي» (1)،فمن باب مرادف أن نقوي درجة صحة سند الأحاديث الضعيفة جدا التي تتكلم عن إعجاز علمي فريد.
و نقول:و إن كان الوقف القولي الحكمي يرتكز على صحة السند،غير أنه يرتكز أيضا على فقدان تصريح الصحابي نسبته للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و قد يكون قال هذا الخبر رضي اللّه عنه بناء على فهمه لأحاديث أخرى،على سبيل التفسير،لا على سبيل رواية حدث قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،أضف إلى ذلك أنه قد يخطئ في فهمه لتلك الأحاديث، مع شكه في أنه قد يكون فعل كذلك،فيصفها بشكل خاطئ،بقدر استطاعته،لعدم تمكنه من استعادة صيغة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الفريدة في ذهنه،دون نسبتها للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، كما كان يفعله سيدنا ابن مسعود-التقي،الورع،رضي اللّه عنه-الذي تبين لنا سابقا في هذا البحث (2)أنه كان لا يرفع حديثا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يحفظ صياغته بدقّة،لشدة حرصه على هذا الأمر،بينما نرى أن الحديث الضعيف جدا على عكس ذلك،حيث إن السند يقرّ الرفع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بينما رجل من رجال السند-أو رجال-فيهم».
ص: 715
طعن،و كما مرّ معنا قد يكون صدق في هذا الموضع خاصة،أو قد يكون قد خلط في كلامه الكاذب بعض الصدق.
8-أنه في بعض الحالات يروي لنا الأحاديث رجال فيهم ضعف من حفظ و ضبط للأحاديث من جراء اختلاط ذاكرتهم،أو لأسباب أخرى،و لكنهم ليسوا بكذبة،و على هذا فيمكن اكتشاف الأحاديث التي ضبطوها-دون الأحاديث التي فرطوا فيها-عبر مقابلتها بالحقائق العلمية الثابتة،إذا كانت رواياتهم بهذا الصدد.
9-أنه يجب علينا الحفاظ على جميع التراث النبوي،و عدم التفريط في شيء منه،و لو حمله الضعفاء،ما دام لدينا الوسائل الدقيقة في معرفة ما ضبطوه بما يتعلق بموضوعنا هذا.
و صلى اللّه على سيدنا محمد-خير الأنام- و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 716
لست أدّعي الكمال في كتابي هذا،فكل إنسان يصيب و يخطئ،فلا كمال إلاّ للّه و كتابه الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42) [فصلت:42]،فما كتبته من فهمي و كان حقّا فهو من اللّه،و ما كان غير ذلك فهو منّي و من الشيطان.و قد حاولت في هذا الكتاب أن أثير عقل القارئ حتى يبحث عن الحق،و أفتح قلبه حتى يستنير بالنور،و أن أبحث بموضوعية و منهجية مطابقة للعلم.
فبيّنت أن الإسلام وحي من اللّه تعالى لا مدخل للبشرية فيه،و أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم رسول لا ينطق إلاّ بوحي من اللّه الحكيم العليم.و أظهرت جزءا من معجزات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في القرآن على ضوء الحقائق العلمية المعاصرة،ليؤمن من كان منكرا و يزداد إيمانا من كان به معتقدا لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح:4]،و ليكون مشعلا و نورا للعاصين الشاردين،فأهل عصرنا لا يذعنون لشيء مثل إذعانهم للعلم،على اختلاف أجناسهم و أديانهم.
و هذا بحث أضعه حتى يكون واحدا من المؤلّفات التي تغني المكتبة الإسلامية العلمية،و تعطي حافزا للباحثين أن يكملوا الطريق العلمي و يزيدوا من ترقّي العلم و تطويره.
و قصدي من بحثي هذا أن يكون علما نافعا ينفع الآخرين نفعا عميما و أن أنتفع به في قبري حين لا أنيس و لا سمير،فينوّر قبري و يشفع لي يوم القيامة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ(88) إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89) [الشعراء:88-89]فتكون به نجاتي.
و أسأل المولى عزّ و جلّ أن يتقبل مني عملي،و أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، و أن ينفع به البشرية جمعاء و أن يغفر لي زلاّتي و يستر لي عوراتي و يختم بالصالحات أعمالي.
و صلى اللّه و سلم على سيد المرسلين و الحمد للّه رب العالمين.
ص: 717
1-إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم-لأبي السعود محمد بن محمد العمادي -دار إحياء التراث العربي،الطبعة الرابعة،بيروت 1994 م.
2-أنوار التنزيل و أسرار التأويل لأبي سعيد عبد اللّه أبي عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي-دار الفكر-بيروت-1996 م.
3-بحر العلوم-لمحمد بن أحمد أبو الليث السمرقندي-تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرمة العمري-دار الفكر-الطبعة الأولى-بيروت 1996 م.
4-البحر المحيط-لمحمد بن يوسف،الشهير(بأبي حيان الأندلسي)-دار الفكر- الطبعة الثانية-بيروت 1983 م.
5-التحرير و التنوير-لمحمد طاهر ابن عاشور-دار سحنون-تونس 1997 م.
6-الجامع لأحكام القرآن-لأبي عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي-دار إحياء التراث العربي-الطبعة الثانية-1985 م.
7-جامع البيان في تفسير القرآن-لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري-دار المعرفة- بيروت-1986 م.
8-حاشية الصاوي على تفسير الجلالين-لأحمد الصاوي المالكي-دار إحياء التراث العربي-بيروت.
9-الدر المنثور في التفسير بالمأثور-لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي- دار المعرفة-بيروت-المصورة عن الطبعة الميمنيّة-مصر-سنة 1314 هجرية.
10-روح المعاني في تفسير القرآن و السبع المثاني-لأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي-دار إحياء التراث العربي-الطبعة الرابعة-بيروت 1985 م.
11-تفسير روح البيان للبروسوي.
12-زاد المسير في علم التفسير-لأبي فرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمود الجوزي-المكتب الإسلامي-الطبعة الثالثة-بيروت 1984 م.
13-صفوة التفاسير-لمحمد علي الصابوني-دار القرآن الكريم-الطبعة الأولى- بيروت 1980 م.
14-فتح القدير-لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني-دار المعرفة-بيروت.
15-تفسير القرآن العظيم-لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير-دار إحياء التراث العربي-سوريا 1969 م.
16-الكشاف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل-لأبي القاسم جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري-دار المعرفة-بيروت.
ص: 718
17-محاسن التأويل-لمحمد جمال الدين القاسمي-تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي- مؤسسة التاريخ العربي-الطبعة الأولى-بيروت 1994 م.
18-مدارك التنزيل و حقائق التأويل-لأبي البركات عبد اللّه النسفي-دار الفكر- بيروت.
19-مفاتيح الغيب-المسمى التفسير الكبير-لمحمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي البكري الرازي-دار إحياء التراث العربي-الطبعة الأولى-بيروت 1995 م.
20-نظم الدرر في تناسب الآيات و السور-لبرهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي-دائرة المعارف العثمانية-الطبعة الأولى-اسطنبول.
1-الإتقان للإمام جلال الدين السيوطي الشافعي،دار الفكر،الطبعة الأولى.
2-البرهان في علوم القرآن للزركشي،تحقيق د.محمد أبو الفضل إبراهيم،الطبعة الثالثة،دار الفكر.
1-تدريب الراوي لجلال الدين السيوطي،تحقيق د.أحمد عمر هاشم،دار الكتاب العربي،بيروت.
2-تيسير مصطلح الحديث،للدكتور محمود طحّان،نشر و توزيع مكتبة دار التراث- الكويت-ط 6،1404 هجرية 1984 م.
3-لمحات من تاريخ السنة و علوم الحديث،عبد الفتاح أبو غدة،الطبعة الرابعة 1417 ه،مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
4-مقدمة في أصول الحديث،للمحدث الجليل الشيخ عبد الحق الدهلوي،المتوفي سنة 1052 هجرية،تقديم و تعليق سلمان الحسين النّدوي،دار البشائر الإسلامية، الطبعة الثانية 1986 ميلادية.
1-أحوال الرّجال،لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني،تحقيق السيّد صبحي السامرّائي،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 1 1405 هجرية-1985 م.
2-إسعاف المبطأ برجال الموطّأ،للسيوطي-آخر كتاب تنوير الحوالك له-.
3-البداية و النهاية،للإمام أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير،الناشر:مكتبة المعارف -بيروت-طبعة مصورة عن الطبعة المصرية.
4-بشارة المؤمن بتصحيح حديث«اتّقوا فراسة المؤمن»،لمحمود سعيد ممدوح،ط 1.
1416 هجرية،1995 م.
5-تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر،دار الفكر-بيروت-.
ص: 719
6-تذكرة الحفّاظ،لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي،تصحيح عبد الرحمن ابن يحيى المعلّمي،طبعة دار إحياء التراث العربي-بيروت-المصوّرة عن دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد-الهند-سنة 1377 هجرية.
7-التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة،لأبي المحاسن محمد بن علي العلويّ الحسينيّ،تحقيق د.رفعت فوزي عبد المطّلب،الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ط 1.
1418 هجرية-1997 م.
8-تراجم رجال الدارقطني في سننه،للشيخ مقبل الوادعي،الطبعة الأولى 1420 هجرية،الناشر:دار الآثار-صنعاء-،توزيع مؤسسة الريان بيروت-.
9-الترغيب و الترهيب،لعبد العظيم بن عبد القويّ المنذري،مطبعة محمد صبيح- ميدان الأزهر بمصر-سنة 1352 هجرية[أو الطبعة التي حققها محمد عمارة، تصوير دار الفكر-بيروت-سنة 1401 هجرية-1981 م].
-و النسخة التي حققها محي الدين مستو،و سمير العطار،و يوسف بديوي،الطبعة الثالثة 1420 هجرية،دار ابن كثير دمشق-بيروت-.
-و النسخة التي حققها الشيخ الألباني من ضعيف الترغيب و الترهيب،الطبعة الأولى 1421 هجرية،مكتبة المعارف الرياض-.
10-تغليق التعليق على صحيح البخاري،لابن حجر العسقلاني،تحقيق سعيد القزعي، الطبعة الأولى 1405 هجرية،المكتب الإسلامي-بيروت-و دار عمّار-الأردن-.
11-تقريب التهذيب،لأحمد بن حجر العسقلاني،تحقيق محمد عوّامة،طبعة دار القلم -دمشق-ط 3.1411 هجرية-1991 م.
-تقريب التهذيب،لأحمد بن حجر العسقلاني،و معه حاشيتا عبد اللّه بن سالم البصري و محمد أمين ميرغني،تحقيق محمد عوّامة،الطبعة الأولى لدار ابن حزم- بيروت-سنة 1420 هجرية-1999 م.
12-التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعيّ الكبير،لأحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق عبد اللّه هاشم اليماني المدني،طبعة دار المعرفة-بيروت-المصورة عن الطبعة المصرية سنة 1384 هجرية.
13-تلخيص العلل المتناهية لابن الجوزي،لمحمد بن أحمد الذهبي،تحقيق ياسر بن إبراهيم بن محمد،مكتبة الرشد-الرياض-شركة الرياض-الرياض-ط 1.
1419 هجرية-1998 م.
14-تنزيه الشّريعة المرفوعة عن الأخبار الشّنيعة الموضوعة،لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني،تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف و عبد اللّه محمد الصّدّيق الغماري،ط 2.
1401 هجرية-1981 م دار الكتب العلمية-بيروت-المصورة عن الطبعة المصرية.
15-تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق،لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي،تحقيق د.
ص: 720
عامر حسن صبري،المكتبة الحديثة،الإمارات العربية المتحدة،ط 1.1409 هجرية -1989 م.
16-تهذيب التهذيب،لأحمد بن حجر العسقلاني،طبعة دار صادر-بيروت-المصورة عن الطبعة الأولى لدائرة المعارف النظامية-الهند-سنة 1325 هجرية.
17-تهذيب سنن أبي داود،لمحمد بن أبي بكر الزّرعي(المعروف بابن القيّم)-و معه مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري،و معالم السّنن للخطّابي-تحقيق محمد حامد الفقي،و أحمد محمد شاكر،تصوير دار المعرفة-بيروت-عن مطبعة السّنة المحمدية-القاهرة-سنة 1369 هجرية.
18-تهذيب الكمال،لأبي الحجّاج يوسف بن عبد الرحمن المزّي،تحقيق د.بشّار عوّاد معروف،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 1.1413 هجرية-1992 م.
19-التيسير بشرح الجامع الصغير،للمناوي،الطبعة الثالثة 1408 هجرية،مكتبة الإمام الشافعي-الرياض.
20-جامع الأحاديث و المراسيل(الجامع الكبير و الصغير و زوائده)-لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي-دار الفكر-بيروت-1994 م.
21-ذكر أخبار أصبهان،للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني،الطبعة الثانية 1405 هجرية،الدار العلمية-دلهي-الهند.
22-ذكر من اختلف العلماء و نقّاد الحديث فيه،لأبي حفص عمر بن شاهين،اعتناء حمّاد الأنصاري،كتب هوامشه عبد الباري بن حمّاد الأنصاري.مكتبة أضواء السّلف،ط 1.1419 هجرية-1999 م.
23-زوائد الأجزاء المنثورة على الكتب السّتة المشهورة،لعبد السلام علّوش،المكتب الإسلامي-بيروت-ط 1.1416 هجرية-1995 م.
24-سنن ابن ماجة،لأبي عبد اللّه محمد بن يزيد بن ماجة القزويني،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،تصوير دار الكتب العلمية-بيروت-عن الطبعة المصرية.
25-سنن أبي داود،لسليمان بن الأشعث السجستاني،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد،طبعة دار إحياء التراث العربي-بيروت-المصورة عن الطبعة المصريّة.
26-سنن البيهقي،لأحمد بن الحسين البيهقي-و معه الجوهر النّقي،لعلاء الدين ابن التّركماني-،طبعة دار المعرفة-بيروت-1413 هجرية-1992 م.المصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية-الهند-سنة 1355 هجرية.
27-سنن التّرمذي،لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة التّرمذي،تحقيق و شرح أحمد محمد شاكر(1-2)،و تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي(3)،و تحقيق إبراهيم عطوة عوض (4-5)،طبعة دار إحياء التراث العربي-بيروت-المصورة عن الطبعة المصرية.
28-سنن الدارقطني،لعلي بن عمر الدارقطني،تحقيق السيد عبد اللّه هاشم اليماني
ص: 721
المدني،طبعة دار المحاسن-القاهرة-سنة 1386 هجرية-1966 م،و طبعة دار المعرفة،تحقيق السيد عبد اللّه هاشم اليماني،بيروت،1966 م.
29-سنن الدارمي،لأبي محمد عبد اللّه بن عبد الرحمن الدارمي،بعناية محمد أحمد دهمان،الناشر دار إحياء السّنة النبويّة،طبعة دار الكتب العلمية-بيروت- المصوّرة.أو مصورة دار الفكر-بيروت-1398 هجرية-1978 م.
30-سنن النّسائي،لأحمد بن شعيب النّسائي،بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، و حاشية الإمام السّندي،اعتناء الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة،دار البشائر الإسلامية- بيروت-ط 3.1414 هجرية-1994 م.الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
31-سير أعلام النّبلاء،لمحمد بن أحمد الذهبي،أشرف على تحقيقه الشيخ شعيب الأرناءوط،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 11 1417 هجرية-1996 م.
32-شرح السنة،للإمام الحسين بن مسعود البغوي،تحقيق شعيب الأرناءوط و زهير الشاويش،الطبعة الثانية 1403 هجرية،المكتب الإسلامي-بيروت-.
33-شرح سنن ابن ماجة،للحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج.تحقيق كامل عويضة، الطبعة الثانية 1420 هجرية،مكتبة نزار الباز-السعودية-.
34-شعب الإيمان،للإمام البيهقي،تحقيق محمد بسيوني زغلول-طبعة دار الكتب العلمية.
35-صحيح البخاري،لمحمد بن إسماعيل البخاري،و معه فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن حجر العسقلاني-رقّم كتبه و أبوابه و أحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي،تصوير دار المعرفة-بيروت-.
36-صحيح الترغيب و الترهيب،لمحمد ناصر الدين الألباني،المكتب الإسلامي- بيروت-ط 2.1406 هجرية-1986 م.
37-صحيح مسلم،لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،طبعة دار الفكر-بيروت-1403 هجرية-1983 م المصورة عن الطبعة المصريّة.
38-الطبقات الكبرى،دار الكتب العلمية،1997 م.
39-العظمة،لأبي الشيخ الأصبهاني أبي محمد عبد اللّه بن محمد بن جعفر بن حيّان، دراسة و تحقيق رضاء اللّه بن محمد إدريس المباركفوري.دار العاصمة-الرياض- النشرة الأولى 1411 هجرية.
40-غريب الحديث-لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الجوزي -تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي-دار الكتب العلمية-الطبعة الأولى-1985 م.
41-الفتح الرّبّاني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني،مع شرحه بلوغ الأماني، لأحمد عبد الرحمن البنّا الشّهير بالساعاتي،طبعة دار إحياء التراث العربي-بيروت -المصورة عن الطبعة المصرية.
ص: 722
42-الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير-يوسف النبهاني-دار الكتاب العربي-بيروت.
43-الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب السّتّة،لمحمد بن أحمد الذهبي،و معه حاشية برهان الدين سبط بن العجمي الحلبي،تحقيق الشيخ محمد عوّامة،خرّج نصوصهما أحمد محمد نمر الخطيب،دار القبلة-جدّة-و مؤسسة علوم القرآن- جدّة-ط 1.1413 هجرية-1992 م.
44-كشف الخفاء و مزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس،لإسماعيل بن محمد العجلوني،الناشر:مؤسسة مناهل العرفان-بيروت-،توزيع مكتبة الغزالي-دمشق-.
45-كنز العمال في سنن الأقوال و الأفعال،لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي،تحقيق بكري حيّاني،و صفوة السقا،طبعة مؤسسة الرسالة-بيروت- 1409 هجرية،و طبعة دار الفكر.
46-مجمع الزّوائد و منبع الفوائد،لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي،دار الكتاب العربي-بيروت-ط 3.1402 هجرية-1982 م مصورة عن الطبعة المصرية.
47-المداوي لعلل الجامع الصغير و شرحي المناوي،لأبي الفيض أحمد بن محمد ابن الصّدّيق الغماري،تحقيق مصطفى صبري،دار الكتبي-مصر-ط 1.
48-المرض و الكفارات لابن أبي الدنيا،تحقيق يوسف بديوي و محمد منير جلال،دار ابن كثير-دمشق-1992 م.
49-المستدرك على الصحيحين،للإمام الحاكم،أبي عبد اللّه محمد بن عبد اللّه النيسابوري،و بذيله تلخيص المستدرك،للحافظ الذهبي.الناشر:دار الكتاب العربي -بيروت-مصور عن طبعة الهند.
50-مسند أبي يعلى الموصلي،أحمد بن علي بن المثنّى التميمي،تحقيق حسين سليم أسد.طبعة دار الثقافة العربية-دمشق-بيروت-ط 1.1413 هجرية-1992 م.
51-*مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل،طبعة دار الفكر-بيروت-المصورة عن الطبعة الميمنيّة بمصر سنة 1313 هجرية.
*مسند الإمام أحمد بشرح و تحقيق أحمد محمد شاكر،طبعة مكتبة التراث الإسلامي،القاهرة-مصر-الناشر دار الجيل-بيروت-.
*مسند الإمام أحمد،طبعة مؤسسة الرسالة،الأولى،بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط.
52-مسند الفردوس،للديلمي،دار الكتب العلمية،تحقيق بسيوني زغلول،بيروت.
53-مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة لشهاب أحمد بن أبي بكر البوصيري،تحقيق و تعليق موسى محمد علي و الدكتور عزّت علي عطية،الموزع:دار الكتب الحديثة، مطبعة حسان،مصر.
ص: 723
54-المصنف لابن أبي شيبة،طبعة دار الفكر.
55-المصنف للحافظ الكبير أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني،ط 2،توزيع المكتب الإسلامي.
56-معالم السّنن،لأبي سليمان حمد بن محمد الخطّابي،تحقيق محمد حامد الفقي، و أحمد محمد شاكر-ينظر تهذيب سنن أبي داود-.
57-المعجم الأوسط،لأبي القاسم سليمان بن أحمد اللخمي الطّبراني،تحقيق د.
محمود الطّحّان،مكتبة المعارف-الرّياض-ط 1.1405 هجرية-1985 م.
58-المعجم الصغير للطبراني،تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان،طبعة دار الفكر- بيروت-1401 هجرية-1981 م.المصورة عن الطبعة المصرية.
59-المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة،لمحمد بن عبد الرحمن السّخاوي،تحقيق عبد اللّه محمد الصّدّيق الغماري،دار الكتب العلمية- بيروت-ط 1.1407 هجرية-1987 م.
60-مقدمة صحيح مسلم-ينظر صحيح مسلم-.
61-الموطّأ للإمام مالك بن أنس،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،طبعة دار إحياء الكتب العربية،فيصل عيسى البابي الحلبي-مصر-.
62-ميزان الاعتدال،لمحمد بن أحمد الذهبي،تحقيق علي محمد البجاوي،طبعة دار المعرفة-بيروت-المصورة عن الطبعة المصرية.
63-*نصب الرّاية،لأبي محمد عبد اللّه بن يوسف الزّيلعي،طبعة دار إحياء التراث العربي-بيروت-ط 3 1407 هجرية-1987 م،المصورة عن الطبعة المصرية،دار المأمون سنة 1357 هجرية(و الهندية)سنة 1301 هجرية.
*نصب الراية،بتصحيح الشيخ محمد عوّامة.مؤسسة الرّيان-بيروت،دار القبلة -السعودية،المكتبة المكيّة-السعودية-ط 1.1418 هجرية-1997 م.
64-نظم المتناثر من الحديث المتواتر،لمحمد بن جعفر الكتّاني،دار الكتب العلمية- بيروت-ط 7.1402 هجرية-1987 م.
65-نوادر الأصول،لمحمد بن علي،الحكيم التّرمذي،طبعة دار صادر-بيروت- المصوّرة.
66-الهداية في تخريج أحاديث البداية،لأحمد بن محمد بن الصّديق الغماري،عالم الكتب-بيروت-ط 1.1407 هجرية-1987 م.
67-اليوم و الليلة،للإمام أبي بكر ابن السّنّي أحمد بن محمد،تحقيق عبد القادر أحمد عطا،الطبعة الأولى 1389 هجرية،الناشر مكتبة الكليّات الأزهرية-القاهرة-دار الطباعة المحمّدية بالأزهر.
1-تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي-لأبي العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم
ص: 724
المباركفوري-تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف،و عبد الرحمن محمد عثمان دار الفكر-بيروت(للتخريج)،و طبعة دار الفكر-1995 م(للشرح).
2-التمهيد لما في الموطّأ من المعاني و الأسانيد،لأبي عمر يوسف بن عبد اللّه بن محمد ابن عبد البرّ النّمري القرطبي،تحقيق جماعة من علماء المغرب،طبعة المغرب،سنة 1387 هجرية-1967 م.
3-تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي-دار الكتب العلمية-بيروت(للشرح)،و طبعة دار الندوة الجديدة-بيروت-المصورة عن الطبعة المصرية(للتخريج).
4-جامع الأصول من أحاديث الرسول،لمجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري(المعروف بابن الأثير)-تحقيق عبد القادر الأرناءوط،مكتبة الحلواني.
مطبعة الملاّح.مكتبة دار البيان-دمشق-طبعة سنة 1389 هجرية-1969 م (للتخريج)،و طبعة دار الفكر-الطبعة الثانية-1983 م(للشرح).
5-جامع العلوم و الحكم،لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي،تحقيق شعيب الأرناءوط و إبراهيم باجس،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 7.1417 هجرية-1997 م.
6-حاشية السندي على سنن ابن ماجة-لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي-المطبعة العلمية 1313 هجرية،مصر.
7-شرح سنن النسائي-لجلال الدين السيوطي و حاشية السندي-المطبعة المصرية بالأزهر(للشرح)،و(للتخريج:شرح سنن النسائي للسندي،و شرح سنن النسائي للسيوطي،ينظر سنن النسائي في كتب تخريج الحديث).
8-شرح النووي على صحيح مسلم-تحقيق حازم محمد،عماد عامر-دار أبي حيان -الطبعة الأولى-الإمارات-1995 م.
9-عمدة القاري شرح صحيح البخاري-لبدر الدين محمد عبد الرحمن بن أحمد العيني-دار الفكر-بيروت.
10-عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ ابن القيم الجوزية-لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي-تحقيق عبد الرحمن عثمان-دار الفكر-بيروت.
11-فتح الباري بشرح صحيح البخاري،لأحمد بن حجر العسقلاني-تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،و محب الدين الخطيب-دار المعرفة-بيروت(للشرح)،و(للتخريج:
ينظر صحيح البخاري في كتب تخريج الحديث).
12-فيض القدير شرح الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي-لمحمد عبد الرءوف المناوي-تصوير دار الفكر-بيروت-عن الطبعة المصرية-سنة 1357 هجرية.
13-معالم السنن-لأبي سليمان حمد بن حمد الخطابي و تحقيق محمد حامد الفقي، و أحمد محمد شاكر-ينظر(تهذيب سنن أبي داود في كتب تخريج الأحاديث).
ص: 725
14-المنتقى شرح موطأ الإمام مالك-لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب ابن وارث الباجي-دار الكتاب العربي-الطبعة الرابعة-بيروت-1984 م.
1-بداية المجتهد و نهاية المقتصد،لمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي،دار ابن حزم،بيروت،لبنان،الطبعة الأولى.
1-أصول الفقه الإسلامي للسنة الرابعة،كلية الحقوق،جامعة دمشق،الدكتور إبراهيم السلقيني.
2-المستصفى في علم الأصول،للإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، دار الكتب العلمية،بيروت-لبنان.
1-الأشباه و النظائر للسيوطي،دار الكتاب العربي،ط 3،1417 هجرية.
2-الأصول شرح تلخيص مفتاح العلوم،لإبراهيم بن محمد بن عربشاه العصام الحنفي، تحقيق د.عبد الحميد هنداوي،طبعة دار الكتب العلمية،ط 1،1422 هجرية.
3-البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة لعبد الفتاح القاضي ط 1،1401 ه،دار الكتاب العربي،بيروت-لبنان.
4-بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة،لعبد المتعال الصعيدي،مكتبة الآداب و مطبعتها بالجماميز و المطبعة النموذجية.
5-تاج العروس للإمام اللغوي محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي-تحقيق علي شيري-دار الفكر-بيروت-1994 م.
6-تهذيب اللغة،لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري،دار إحياء التراث العربي، ط 1،2001 م.
7-الجنى الداني في حروف المعاني،للمرادي،طبعة دار الكتب العلمية.
8-رصف المباني في شرح حروف المعاني،للمالقي،تحقيق أحمد الخراط.
9-شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك-لبهاء الدين عبد اللّه العقيلي الهمداني-تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد-المكتبة العصرية-بيروت-1988 م.
10-شرح الرضي لكافية ابن الحاجب،تحقيق الدكتور يحيى بشير مصري،ط 1،جامعة الإمام،الرياض،1417 هجرية.
11-الصحاح،تاج اللغة و صحاح العربية،لإسماعيل بن حماد الجوهري،تحقيق أحمد عبد الغفور عطار-دار العلم للملايين،الطبعة الأولى 1987 م.
12-عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح،لبهاء الدين أبي حامد أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي،تحقيق الدكتور خليل إبراهيم خليل،ط 1،دار الكتب العلمية.
ص: 726
13-فصول في فقه العربية،للدكتور رمضان عبد التواب،مكتبة الخانجي،القاهرة، ط 6،1420 هجرية.
14-القاموس المحيط-مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-مؤسسة الرسالة- الطبعة الأولى-بيروت-1986 م.
15-قطر الندى وبل الصدى للإمام جمال الدين عبد اللّه بن يوسف بن هشام الأنصاري، تحقيق إميل يعقوب،دار الكتب العلمية،بيروت،ط 2،2000 م.
16-لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري -دار إحياء التراث العربي-الطبعة الثالثة-بيروت-1993 م.
17-المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم،لسعد الدين مسعود،ابن عمر التفتازاني، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي،ط 1،دار الكتب العلمية،1422 هجرية.
18-معجم البلدان لشهاب الدين أبي عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي-دار صادر- بيروت-1977 م.
19-معجم القواعد النحوية عبد الغني الدقر،دار القلم،دمشق،الطبعة الثانية-1992 م.
20-معجم متن اللغة،للعلامة اللغوي الشيخ أحمد رضا،دار مكتبة الحياة،بيروت، 1958 م.
21-معجم مقاييس اللغة:لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا-تحقيق:عبد السلام هارون،دار الفكر.
22-المعجم الوسيط،إخراج د.إبراهيم أنيس،د.عبد الحليم منتصر،عطية الصوالحي،محمد خلف اللّه أحمد.
23-نظرات في البيان،تأليف الدكتور محمد عبد الرحمن نجم الدين الكردي،ط 3، مطبعة السعادة،1406 هجرية،1986 م،مصر.
1-إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان،الدكتور محمد فيّاض،ط 1،دار الشروق،القاهرة.
2-الإعجاز العلمي في السنة النبوية،الدكتور زغلول النجار،طبعة ثالثة،دار النهضة للطباعة و النشر و التوزيع-مصر،2002 م.
3-الإنسان،الدكتور تاج الدين محمود الجاعوني،الجزء الأول،ط 1،دار عمار، عمان-الأردن.
4-الآيات العجاب في رحلة الإنجاب،للدكتور حامد أحمد حامد،دار القلم-دمشق -ط 1،1996 م.
5-البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن لكمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم
ص: 727
الزملكاني-تحقيق خديجة الحديثي و أحمد مطلوب-مطبعة العاني-الطبعة الأولى بغداد-1974 م.
6-التارات السبع؛من الطين إلى الجنين،أطوار الخلق في القرآن و السنة المطهرة،د.
محمد علي البار،الندوة العالمية للشباب الإسلامي،1420 هجرية-الرياض- المملكة العربية السعودية.
7-تاريخ النقد الأدبي عند العرب،للأستاذ طه أحمد إبراهيم،بدون ذكر طبعة و تاريخ و دار نشر.
8-تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد الشافعي البيجوري،دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى،بيروت-لبنان.
9-تشجيع الأمهات على الإرضاع الطبيعي(طبعة منقّحة،و مزيدة)،للدكتورة فيليستي سفج كينغ،ميدتو للنشر،نيقوسيا،قبرص،1991 م.
10-خلق الإنسان بين الطب و القرآن،للدكتور محمد علي البار،الدار السعودية للنشر و التوزيع-جدة-ط 10،1995 م.
11-دراسة في السيرة،للدكتور عماد الدين خليل،مؤسسة الرسالة،دار النفائس- بيروت-ط 5،1981 م.
12-رحلة الإيمان في جسم الإنسان،للدكتور حامد أحمد حامد،دار القلم-دمشق- ط 1،1996 م.
13-الرضاعة الطبيعية،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي،للدكتور علي التنير،مؤسسة الكويت للتقدم العلمي،مطابع كويت تايمز-الكويت-ط 1،1982 م.
14-الرضاعة و الفطام في الطب و القرآن،د.محمد كمال عبد العزيز،الدار العربية للنشر و التوزيع،ط 1،مصر-1998 م.
15-السيرة النبوية في ضوء القرآن و السنّة،الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة،ج 1،دار القلم-دمشق 1999 م.
16-الطب الإسلامي بين العقيدة و الإبداع،لمختار سالم،مؤسسة المعارف-بيروت- 1988 م.
17-الطب محراب الإيمان،للدكتور خالص جلبي،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 3، 1984 م.
18-علم الأجنة في ضوء القرآن و السنة،المجلس الأعلى العلمي للمساجد،هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة،مطابع رابطة العالم الإسلامي-مكة المكرمة-1987 م.
19-القرار المكين،الدكتور مأمون الشفقة،دار حسان(الرياض-المملكة العربية السعودية)،دار الآداب(الشارقة،الامارات العربية المتحدة)،ط 2،1987 م.
20-مجلة الإعجاز العلمي الصادرة عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة-رابطة
ص: 728
العالم الإسلامي-مكة المكرمة،الأعداد:الأول و الرابع و العاشر،و الثاني عشر، و الثالث عشر،1995-2002 م.
21-مختصر الجامع في السيرة النبوية،سميرة الزائد،المطبعة العلميّة،ط 1،1995 م.
22-المعالم الأثيرة في السنّة و السيرة،محمد محمد حسن الشراب،دار القلم(دمشق)، الدار الشامية(بيروت)،ط 1،1991 م.
23-المعجزة القرآنية،للدكتور محمد حسن هيتو،مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 2، 1994 م.
24-مفردات ألفاظ القرآن الكريم-الراغب الأصفهاني-تحقيق عدنان داودي-دار القلم-دمشق،الطبعة الثانية-بيروت-1997 م.
25-المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام،للدكتور جواد علي،جامعة بغداد،الطبعة الثانية،1993 م.
26-مناهل العرفان في علوم القرآن-لمحمد عبد العظيم الزرقاني-دار الكتب العلمية -بيروت-1996 م.
27-من علم الطب القرآني،للدكتور عدنان الشريف،دار العلم للملايين-بيروت- الطبعة الأولى،1990 م.
28-موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم و السنة المطهرة،يوسف الحاج أحمد، الطبعة الثانية،2003 م،مكتبة ابن حجر،دمشق،سوريا.
29-هل تستطيع اختيار جنس مولودك ولد أم بنت؟للدكتور خالد بكر كمال-دار الثقافة العالمية-جدة-ط 1،1994 م.
30-هل هناك طب نبوي؟للدكتور محمد علي البار،الدار السعودية للنشر و التوزيع، ط 2،1990 م،جدّة،المملكة العربية السعودية.
1-ABSTRACTS OF THE SCIENTIFIC ORAL AND POSTER SESSIONS,PROGRAM SUPPLE- MENT,16 TH WORLD CONGRESS ON FERTILITY AND STERILITY,AMERICAN SO- CIETY FOR REPRODUCTIVE MEDICINE,ALABAMA,1998.
2-A CHILD IS BORN,LARS HAMBERGER,DOUBLE DAY,LONDON,1990
3-ANATOMIE TOPOGRAPHIQUE,J.P ROUVIERE,EDITION MALOINE,PARIS,FRANCE
4-BREASTFEEDING AND HUMAN LACTATION,JAN RIORDAN.KATHLEEN G.AVER- BACH,SECOND EDITION,JONES AND BARTLETT PUBLISHERS,MASSACHUSETS, 1999.
5-CLINICAL GYNECOLOGIC ENDOCRINOLOGY AND INFERTILITY,LEON SPEROFF, 4 TH EDITION.
6-GENERAL AND SYSTEMATIC PATHOLOGY,EDITED JCE UNDERWOOD,CHURCHILL LIVINGSTONE,THIRD EDITION,2000 .
7-HUMAN EMBROLOGY,W.J.HAMILTON AND H.W.MOSSMAN,THE WILLIAM WIL K- INS COMPANY,1978 .
8-HUMAN GENETICS,CONCEPTS AND APPLICATION,3 RD EDITION,RICKI LEWIS,THE
ص: 729
UNIVERSITY OF ALBANY,MC GRAW HILL,1999 .
9-INFANT FEEDING,JAMES AKRE,WORLD HEALTH ORGANIZATION-GENEVA-SUP- PLEMENT TO VOLUME 67,PRINTED IN BELGIUM,1989 .
01-INTRODUCTION TO PSYCHOLOGY,RITA L.ATKINSON,RICHARD C.ATKINSON,ED- WARD E.SMISTH,DARYL J.BEM,ELEVENTH EDITION,1993.HAROURT BRACE COL- LEGE PUBLISHERS .
11-LIFE ON EARTH,DAVID ATTENBOROUGH,COLLINS/BBC,LONDON 1992 .
21-MANUAL ON FEEDING INFANTS AND YOUNG CHILDREN,MARGARET CAMERON AND YNGVE HOFVANDER,THIRD EDITION,OXFORD MEDICAL PUBLICATIONS,OX- FORD,1983 .
31-MEDICAL EMBRIOLOGY,T.W SADDLER,WILLIAMS WILKINS,SEVENTH EDITION, BALTIMORE,1995 .
41-OBSTETRICS AND GYNECOLOGY,WILLSON CARRINGTON,MOSBY YEAR BOOK,9 TH EDITION,1991 .
51-SHORT PRACTISE OF SURGERY,BAILEY AND LOVE'S,20 th EDITION .
61-STATISTICS FOR MODERN BUSINESS DECISIONS,LAWRENCE L.LAPIN.THE DRY- DEN PRESS,SIXTH EDITION,USA,1993 .
71-THE DEVELOPING HUMAN,KEITH MOORE with islamic additions,ABDUL-MAJEED A.
ZZINDANI,THIRD EDITION,DAR EL QIBLA,JEDDAH,1983 .
81-THE DEVELOPING HUMAN KEITH,MOORE PERSAUD,W.B.SAUNDERS COMPANY, 6 TH EDITION,USA,1998 .
91-THE GROLIER MULTIMEDIA ENCYCLOPEDIA,ELECTRONIC PUBLISHING INC,MIND- SCAPE,CALIFORNIA,1995(CD) .
02-WILLIAM,S OBSTETRICS,18 TH EDITION,UGL .
-المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي:الإعجاز الطبي في القرآن،85/9/25 م، القاهرة.
-الدكتور شارل رو.
-الدكتور ت-ف-ن برسو.
-الدكتور محمد علي البار.
-الدكتور عبد الفتاح محمد طيرة.
-الدكتور كيث مور.
-الدكتور جولي سمبسون.
-الدكتور ج-س-جورنجر.
-المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن و السنة،22-24 مارس 2004،دبي،الإمارات العربية المتحدة.
-د.عثمان جيلان علي معجمي.
-د.فواز صادق المزيني
-د.محمد دودح.
ص: 730
الموضوع الصفحة
تنبيه 6
تقريظ 7
أبرز شخصية في علم الأجنّة تدلي بشهادتها 8
مقدمة 9
موجز في تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنّة 17
حكم التعارض بين التفسير العلمي و تفسير السلف 20
ثقافة العالم القديم و الحديث في علم الأجنة:26
أ-مرحلة علم الأجنّة الوصفي 27
ب-مرحلة علم الأجنّة التجريبي 37
ج-مرحلة التقنية و استخدام الأجهزة 40
معارف العرب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم 42
أميّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم 44
الوحي يمحو الأمية 46
التحدي 50
بدء الخلق 56
تعريف الأطوار 66
المنهجية المتبعة في وصف الأطوار الجنينية 69
الماء و المني 71
أ-نبذة علمية عن إفرازات الرجل و المرأة 71
ب-التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني 71
ج-مطابقة بين المعطيات العلمية و التعريف القرآني و اللغوي للماء و المني 73
د-النقاط الثمانية حول الماء و المني 74
1-النقطة الأولى:أن للمرأة منيا كما للرجل منيّ 75
2-النقطة الثانية:أن لمني الرجل و لمني المرأة دورا في تسهيل عملية إذكار أو إيناث الجنين 82
3-النقطة الثالثة:أن كلا من ماء الرجل و ماء المرأة يشارك في تخلّق و إذكار أو إيناث الجنين 84
ص: 731
4-النقطة الرابعة:أن لماء المرأة و لماء الرجل دورا في شبه الجنين بأمّه أو بأبيه 86
5-النقطة الخامسة:أن هذا الماء متدفق 86
6-النقطة السادسة:أن هذا الماء ليس متدفقا فحسب بل دافق 87
7-النقطة السابعة:أن مكونات هذا الماء تخرج من الظهر 95
8-النقطة الثامنة:أن ماء المرأة أصفر 104
النطفة 106
أ-النطفة 106
1-تعريف النطفة 106
2-نطف ذكرية و أنثوية 111
ب-السلالة 111
1-المعنى الأول للسلالة:الماء القليل 114
2-المعنى الثاني للسلالة:السمكة الطويلة 115
3-المعنى الثالث للسلالة:انتزاع الشيء و إخراجه برفق 115
4-المعنى الرابع للسلالة:الخروج من الزحام 117
5-المعنى الخامس:الخروج من مضيق 117
6-المعنى السادس:السير السريع و السباق 120
ج-الوصف الداخلي للنطف 121
مستودع النطف 124
نطفة الأمشاج 133
اختلاط عروق النطفة 136
اضطراب عروق النطفة 155
انفلاق النطفة و الازدواجية في التركيب 159
وقوع النطفة في الرحم 169
القرار المكين 171
أ-علاقة الرحم بالجنين 171
ب-علاقة الرحم بجسم المرأة 175
ازدياد الأرحام و غيضها-الحيض-180
أ-مرحلة النمو 182
ب-مرحلة الإفراز 182
ج-مرحلة الغيض 183
د-علاقة الزمان و المكان بدم الحيض 190
ص: 732
1-معتقدات الشعوب عن الحيض 190
2-مسألة المحيض في الفقه الإسلامي 194
3-الحقائق العلمية 201
4-مجموع الإعجازات(أو الإشارات)العلمية في مجال الحيض 205
الإجهاض المبكر 206
مكان مستودع النطف و موقع الإخصاب 208
هجرة النطفة من المستودع إلى الرحم 213
الحرث 222
غيض النطفة في الرحم و استقرارها 226
ملخص المعلومات عن النطف 237
1-عن البويضة 237
2-عن الحيوان المنوي 238
3-عن البويضة المخصبة 239
جمع خلايا الجنين 241
تذكير بالمراحل الماضية للنطفة 246
الذنب 247
مرحلة ازدياد الأرحام بالأجنة 268
العلقة 270
1-المعنى الأول:الالتصاق و التعلق بشيء 271
2-المعنى الثاني:الدودة التي تعيش في البرك 278
3-المعنى الثالث:الدم الجامد 281
4-المعنى الرابع:الدم الرطب 281
5-المعنى الخامس:شديد الحمرة 281
الظلمات الثلاث 283
المضغة 289
أ-الشكل الخارجي 289
1-المعنى الأول:المادة التي لاكتها الأسنان 290
2-المعنى الثاني:الشيء الصغير 294
ب-الشكل الداخلي 295
ج-شق السمع و البصر 304
الإقرار 312
ص: 733
التسوية 316
أ-التسوية و التصوير 316
ب-خلق العظام و الكساء باللحم 343
1-خلق العظام 323
I -خلق المضغة عظاما 323
II -عدد العظام 332
2-الكساء باللحم 335
ج-نفخ الروح 341
إتمام الخلق 343
النشأة 349
أ-تعريف النشأة 350
1-المعنى الأول:بدأ 350
2-المعنى الثاني:نما 350
3-المعنى الثالث:ارتفع و ربا 351
ب-مرحلة القابلية للحياة 357
1-التعديل 357
I -الصورة الشخصية 357
II -التوازن 360
III -تخلق الجلد 361
VI -التميز الجنسي 363
2-العدة 372
3-أقل مدة حمل 386
ج-مرحلة الحضانة الرحمية 392
تيسير سبل الولادة 394
توقيت أحداث التخلقات في القرآن و السنة 397
المراحل،و الأطوار،و الأحداث الجنينية التي ذكرتها النصوص الشرعية 405
الأسلوب القرآني في استخدام حرفي«ثم»و«الفاء»في آيات علم الأجنة 411
اجتهاد غير مصيب 423
رعاية الخلق:الرضاعة 432
1-نظام الرضاعة و تغذية الطفل كما أقره الشرع الإسلامي 432
2-أفضلية الرضاعة من الأم على الرضاعة من المرضعات 434
ص: 734
3-أفضلية اللبن الإنساني على اللبن الحيواني و المنتجات الصناعية 437
4-المكونات الأساسية للبن 444
5-قيمة اللبن الغذائية لا يماثلها أي قيمة أخرى لأي غذاء آخر 452
6-عمليات خروج الحليب 456
7-وقت احتياج الطفل إلى اللبن 459
8-حكمة تحديد مدة الرضاعة بسنتين 460
9-أسباب تحريم المرضع 464
10-نوعية اللبن المحرّم 467
11-الجوع أساس في التحريم 471
12-مقدار اللبن المحرم 473
13-عدوى اللبن 477
14-الغيل 483
15-مجموع الإعجازات التي وردت في النصوص الشرعية 492
معجزة الرؤية الإسلامية في علم الوراثة 494
أ-النطفة في الإسلام 494
1-دور النطفة في التقدير 494
I -التقدير كما جاء في النصوص الشرعية 495
II -نبذة علمية عن الخطة الجينية و الانفلاق الفتيلي للخلايا 498
III -خلق الموت 500
VI -نبذة علمية عن الموت الخلوي المبرمج 501
V -نبذة علمية عن أسباب الشيخوخة 506
IV -نبذة علمية عن التقدير الجيني لموت الإنسان 509
IIV -الخلاصة 511
IIIV -دلائل الإعجاز 512
2-دور النطفة في تحديد جنس الجنين 512
I -النطفة المسببة للإذكار أو الإيناث 514
II -عملية الإذكار أو الإيناث 516
ب-الإعجاز العلمي في الصبغيات كما جاء في النصوص الشرعية 517
1-صفات الصبغيات 517
2-انحدار الصبغيات في النسل 523
3-دور الصبغيات في تنويع الخلق 526
ص: 735
4-المورثات المسيطرة و المتنحية 529
5-دور الصبغيات في شبه الجنين لوالديه 537
6-طفرات الصبغيات و آثارها على الجسد 545
7-السبب الوراثي لتنوّع خلق الحيوانات 550
ج-خلاصة القول 557
د-الانحراف التخلقي و مضاعفاته كما يراه القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة 558
1-الفساد العلمي 559
2-العلاقات المحرمة و الأمراض الوراثية التي تنتج منها 563
I -آثار العلاقات المحرمة بالدم 563
II -العلاج الوقائي لأمراض العلاقات المحرمة 565
3-دور الزنى في إحداث الأمراض في النسل 566
4-حالة استثنائية للانحراف التخلقي 567
5-الانحراف التخلقي و تأثيره على النسل 569
تعريف الإعجاز العلمي في القرآن و السنة و الأسس التي يرتكز عليها 570
قسم تخريج الأحاديث وصلتها بالإعجاز العلمي 605
قرأنة مصطلحات المراحل الجنينية 685
ملحق 692
خاتمة 717
المصادر و المراجع 718
فهرس الكتاب 731
ص: 736