نام كتاب: أصول البيان العربي في ضوء القرآن
نويسنده: محمد حسين على الصغير
موضوع: اعجاز بيانى
تاريخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالمؤرخ العربى
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1420 / 1999
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم اشتهر قدماء المصريين بالفن الفرعوني،و اليونانيين بالفلسفة الإغريقية،و العرب بالبيان في فصائله المتشعبة.
تلك حضارات عريقة،تلاشى بعضها،و تماسك البعض الآخر،و بقي البيان العربي راسخا ثابتا متطاولا،و ظل عطاؤه شامخا فتيا متعاليا.
فالشعر و النثر جهد بشري متكامل البنية في الجاهلية و الإسلام، و القرآن وحي سماوي يتحدى البشرية في إعجازه و كوكبة مراميه الفنية فصاحة و بلاغة و براعة.و يظل هذان العاملان:القرآن الكريم و الأدب العربي رافدين تنهل منهما العربية معينها الذي لا ينضب،و تستهدي شعاعها الذي لا يخبو،و لا مقايسة بين الأمرين في جهة الصدور،و لا مقارنة بين النصين في الأصالة و الموضوعية و الغناء،فبينهما بون شاسع تحتمه طبيعة ما يحسنه الناس،و طبيعة ما أنزله اللّه تعالى من ذكر و كتاب،إلا أن البيان العربي يظل متطاولا بهما و إن اختلفت المصادر،و تفاوتت القيمة الفنية، و لكن مما لا شك فيه أن البيان العربي مدين بأصالته و عمقه للقرآن الكريم، و حسبنا أن تتفتق الدراسات القرآنية عن مناهج البلاغة العربية جملة و تفضيلا،و تدور حول فكرة الإعجاز القرآني في مناحي النقد و البيان و الأدب و المقارنة،و النص القرآني بعد هذا و ذاك أرقى نص أدبي و بلاغي في لغة العرب،فلم لا يكون الأساس فيما ابتدع العرب من علوم البلاغة، و هو كذلك فيما قرره علماء العرب أنفسهم حينما جعلوه مقياسا للتطبيق، و ميزانا للمحاكمة،و معيارا للمفاضلة بين نص و نص،و قول و قول،و فن و فن،و ما هذه الدراسات البلاغية المتعددة إلا ألق فيضه،و لمسة بهائه، و نقطة انطلاقه،فهو تنزيل من رب العالمين و كفى.
ص: 5
إن هذه الدراسة تتحدث عن أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم،و تتناول بتأكيد صنوف البلاغة العربية فيما استقرت عليه أو ستستقر على نهج فني سليم،يبتعد عن التعقيد،و يستغني عن التقسيمات المضنية، لتعود علما نابضا بالحياة و الجمال و العبقرية،كما شاء لها الأوائل،و كما هي عليه حقيقة.
و تجيء هذه الدراسة تنفيذا عمليا لهذه الأطروحة،و منظورا عصريا لهذا المنحنى،فتتحدث عما هو أصيل في بلاغة العرب،و تطرح ما هو دخيل عليها،أو أجنبي عنها،تلمح البيان العربي بأبعاده،فتجده الأصل القويم للفن البلاغي،فتأنس بالمجاز استعمالا بلاغيا،و بالتشبيه فنا عربيا، و بالاستعارة تصويرا فنيا،و بالكناية تعبيرا مهذبا نقيا،و ترى في هذه الأصناف لا غيرها أساسا للتمايز البلاغي،و ميزانا للتفاضل في القول، و كان نتيجة لهذا الفهم،و سيرا مع هذا الاتجاه أن تحددت الدراسة بخمسة فصول،أشير فيما يأتي إلى ما تناولته بإيجاز.
الفصل الأول:و كان بعنوان(أبعاد البيان العربي)و قد تناول بالبحث و التمحيص:القيمة البيانية،و البيان لغة،و البيان بمعناه العام،و البيان في طريق الاصطلاح،و استقرار المصطلح البياني،و أثر السابقين في تأصيل البيان،و موقع البيان من البلاغة العربية،و البيان في طور التجدد البلاغي، بما يعد فصلا متميزا في حديثه المركز،و فرزه المؤشرات البلاغية المرتبطة بالبيان،وافق فيه القدماء حينا و خالفهم حينا آخر،و عرض لجهود المحدثين و المجددين،و استقر على أن البيان هو البلاغة بعينها،و البلاغة هي البيان نفسه،فكان التشبيه و المجاز و الاستعارة و الكناية ركائزه و دعائمه و أصوله.
الفصل الثاني:و كان بعنوان(الاستعمال المجازي)،و قد تناول بالبحث المجاز في اللغة و الاصطلاح،و أصالة الاستعمال المجازي، و التشبيه و الاستعارة بوصفهما جزءين من المجاز،و أقسام المجاز بشقيه:
العقلي و المرسل،و وجوه كل منهما،مستقرئا نماذج ذلك في التطبيق من آيات القرآن الكريم مما اكتشفه السابقون،و مما توصل إليه الباحث في الاستنباط،مستبعدا العمق الفلسفي،و النهج المنطقي الذي سلكه جملة من البلاغيين.
ص: 6
الفصل الثالث:و كان بعنوان(فن التشبيه)و قد تناول بالضبط حد التشبيه الاصطلاحي،و أهميته البيانية،و خصائصه التعبيرية،و أقسامه في ضوء جديد،و وجوه التشبيه الفني عند العرب،و أصالة هذا الفن في تشبيهات القرآن،فكان مضمارا لبيان عظمة القرآن التشبيهية،و روعته التمثيلية،بما يعد أرقى التشبيهات في التراث العربي بلا ريب.
الفصل الرابع:و كان بعنوان(التصوير الاستعاري)و قد تناول بالبحث تحديد دلالة الاستعارة في الاصطلاح،و قيمة التصوير الاستعاري في الميزان البلاغي،و أصول الشبه الاستعاري في الموروث القرآني،و خفاء الشبه الاستعاري في تراكيب التشبيه المتشعبة،و أقسام الاستعارة و أنواعها، فكان ميدانا للجديد من القول،و الأصيل من التطبيق،مقللا الأصناف الاستعارية و مبتعدا عن النهج التقليدي الممل.
الفصل الخامس:و كان بعنوان(التعبير بالكناية)و قد تناول بالبحث:
تعريف الكناية،و تحدث بتركيز و اضطلاع عن بلاغة الكناية و خصائصها، و عرض لكناية الصفة و الموصوف و النسبة،و قام بمقارنة بين الكناية و التعريض،و توسع في الموازنة بين الكناية و الرمزية،فكان كشفا في إبداع القرآن،و تأشيرا بارزا في لغته المهذبة و أدبه الجم.
و كانت طبيعة مصادر هذا البحث و مراجعه،أن تهتم بالأصيل عند القدامى أولا،و ترتاد المبتكر عند المحدثين ثانيا،فكانت كتب البلاغة بعامة،و البيان و الأدب و النقد و التراث ميدانا لاستكناه المجهول،و استقراء الغيب،و إقرار المنهج،لم نتقيد بإيراد جميع ما رأوه،و لم نبتكر أكثر مما عرفوه،و لكننا شاركنا في إرساء النافع المفيد،و حاولنا التجديد بجهد متواضع عسى أن يكون مقبولا عند اللّه تعالى.
نعم قد أكون مخطئا في جملة من الاستنتاج،و قد أكون مصيبا بطائفة من الآراء،و قد أكون مضيفا ما لم يقولوه،و قد أبدو مبتسرا لما أكدوه، و هذا و ذاك لا يضير العمل العلمي،و لا يضيق به العرف الجامعي في البحث و الأصالة و الموضوعية.
أرجو أن أكون قد قدمت في هذه الدراسة منهجا قويما للبلاغة
ص: 7
العربية،و فهما جديدا للبيان العربي،مستلهما فيض ذلك من شذرات القرآن الكريم،و نفح آياته،و رصين عباراته،فإن وفقت إلى ذلك فبفضل من اللّه- تعالى-وحده،و إن كانت الأخرى،فلي من نقاء الضمير خير عذير.
و ما توفيقي إلا باللّه العلي العظيم،عليه توكلت و إليه أنيب،و هو حسبي و نعم الوكيل.
النجف الأشرف الدكتور محمد حسين علي الصغير
ص: 8
1-القيمة البيانية 2-البيان لغة 3-البيان بمعناه العام 4-البيان في طريق الاصطلاح 5-استقرار المصطلح البياني 6-السابقون و تأصيل البيان 7-موقع البيان من البلاغة 8-البيان في طور التجديد البلاغي
ص: 9
ص: 10
العرب أمة بيان،و أئمة لسان،و لو قسم التراث الإنساني بين الأمم؛ لكان الفن القولي تراثهم،و الموروث البلاغي نصيبهم،لهذا كان القرآن من جنس ما يحسنون،و من سنخ ما يعرفون،أنزل بلسان عربي مبين،و من ثم كان إعجازه البياني أرقى مراتب الإعجاز،و مناخه في تقويم اللسان من أولى دلائل التبليغ.و أعمق المعجزات أثرا ما وافق مميزات العصر، و أعلاها منزلة ما واكب متطلبات الفطرة،و لقد جبل العربي في صحرائه على حب الكلمة و توخي عذوبة الألفاظ،تهزه الخطبة و تطربه القصيدة، حتى عمد إلى مختارات من الشعر العربي الرائق فعلقها على ظهر الكعبة، و هي أقدس بقعة،و أول بيت وضع للناس.و كانت أسواقهم الأدبية في عكاظ و مجنة و ذي المجاز مسرح خطبهم،و منابر فخرهم،يتلى فيها ما يمثل قريحتهم و يواكب ذائقتهم.
و تأسيسا على هذا المنطق الواضح يصح لنا تحديد التراث الإنساني للعرب بالبيان،فالبيان كل شيء في حياتهم،و كل شيء بعد مماتهم،به يتبارون و عليه يثيبون،و فيه يتمايزون.و هبط القرآن الكريم بين ظهرانيهم فكان ثروة بيانية لا تنفذ،و معينا بلاغيا لا ينضب،و رسالة سماوية لا يقربها الباطل،و كلمهم بلغتهم فنفذ إلى قلوبهم محتفلا بالبيان،فهو بيان للناس،يهديهم و يرشدهم و يوجههم نحو اللّه.
ص: 11
اَلرَّحْمنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ(4) (1) .
و هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير كما يقول الزمخشري (2)فهو لغة الضمير المعبر عنها بالكلمات،و هو حديث النفس المصور بالألفاظ، لهذا فعل في العقول ما يفعل السحر فصور النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك بقوله:
«إن من البيان لسحرا» (3).
فاحتفاؤنا به احتفاء بركن قويم من أركان الوعي البشري المتطور، ينطق به الفكر و ينبض به الجنان،فهو من العرب عصارتها،و من الحضارة زبدتها،تزان به ثمرات العقول،و تقاس عليه مدارج الرقي،و تبلغ فيه حاجات النفس،و تبلّغ به رسالات السماء،و يميز به الإنسان عن سائر المخلوقات،فبحسبه أنه مبين،تمييزا عن الأبكم و الأعجم و الأخرس، و تفضيلا عن الصامت و الواجم و الجماد،و لا تذهب كل مذهب،فللبيان إطلاق في اللغة،و إطلاق في الاصطلاح،و للتفريق بينهما لا بدّ من مقارنة ترفع الإبهام،و تزيل الغموض،فليس كل بيان بيانا،و لا كل منطق بفصيح،فالكلام مراتب،و الأفهام تتفاوت،فما كان منه بوجه من وجوه العربية الفصحى،مشتملا على المجاز في شتى ضروبه،و التشبيه بمختلف صنوفه،و الاستعارة بأبهى إرادتها،و الكناية بأبلغ أداتها،فهو البيان المعني بالحديث،بل هو علم البيان في التفريع عند التطبيق،و ما كان قاصدا إلى التعبير فحسب،فهو إبانة قد تحقق مميزات هذا العلم،و قد لا تحققها، من هنا لم يكن هناك مناص من التفريق بين الوجهين في ضوء المعنى اللغوي و المصطلح الفني لنخلص إلى ما نريد بالتحديد.
و هذا ما يقتضي بيان المعنى اللغوي من جهة،و مسايرة البيان بمعناه العام من جهة ثانية،و تحديد المصطلح البياني ثالثة،و هو ما تبحثه الصفحات الآتية.1.
ص: 12
وردت عند اللغويين عدة فقرات فاحصة في تحديد المعنى اللغوي لجذر البيان،و نضع أيدينا على ما أبداه كل من الراغب الأصبهاني(ت:
502 ه)و ابن منظور(ت:711 ه)تجاه اللفظ لتميزهما بفهم خاص يسير بمنحى البيان باتجاهين قويمين يعطي كل منهما ذائقة لغوية متميزة تجمع إلى جنب الدقة التوسع و الرأي.
أ-فالبيان-عند الراغب-الكشف عن الشيء،و هو أعم من النطق،مختص بالإنسان،و يسمى ما بيّن به بيانا...و يكون على ضربين:
أحدهما:بالتنجيز،و هو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار صنعه.
و الثاني:بالاختبار،و ذلك إما أن يكون نطقا أو كتابة أو إشارة، فمما هو بيان بالحال قوله تعالى وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) (1)،أي:كونه عدوا بيّن في الحال.و ما هو بيان بالاختبار،كقوله تعالى:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ... (2) و سمي الكلام بيانا لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره نحو هذا بَيانٌ لِلنّاسِ... (3).
و سمي ما يشرح به المجمل و المبهم من الكلام بيانا نحو قوله- تعالى- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ(19) (4).
و قد تبين من تعقب الراغب للبيان ما يأتي (5):
1-إن البيان أعم من النطق و الكلام،و إن ما كان مما يختص به
ص: 13
الإنسان،فالإشارة الموحية بيان،و النطق المفهم بيان،و الكتابة الهادفة بيان،و كذلك فهو مما يختص بالإنسان.
2-إن البيان على نوعين إلهي و بشري،فالإلهي ما ارتبط بإنجاز الأشياء فورا بإرادة الكينونة المطلقة كُنْ فَيَكُونُ (1)و ذلك البيان ما يستنبط من آثار صنع الباري عزّ و جلّ و أما البشري فهو على ضربين أيضا:
بيان بالحال تكشف عنها القرائن و الأمر الواقع،و بيان بالاختبار كالمساءلة و المباحثة و المخالطة و المشافهة و أضراب ذلك.
3-إن تسمية الكلام بيانا ناجمة عن إظهاره المعنى المقصود،فهو على هذا يشمل كل ما أظهر المعنى المقصود،سواء أ كان كلاما أو رسما أو رمزا أو إشارة و كان قد أشار إلى هذا الجاحظ(ت:255)من ذي قبل (2).
4-إن إيضاح المبهم و تفصيل المجمل من البيان بل قد سمي بيانا.
و الملاحظ فيما تقدم أن الراغب أبان بعض الجزئيات الدقيقة للبيان، و إن لم يتعقب جذر الكلمة،و لا استقطب عموم إرادتها.
ب-أما ابن منظور(ت:711 ه)فقد تكفل باستيعاب جذر الكلمة و مفرداتها دون اللمسات التي قدمها الراغب:
«البيان ما بين به الشيء من الدلالة و غيرها.و بان الشيء بيانا:
اتضح.و تبين الشيء ظهر.و التبين الإيضاح و الوضوح.و البيان الفصاحة و اللسن،و كلام بين فصيح،و البيان الإفصاح مع ذكاء،و البين من الرجال:
الفصيح.
و البيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ،و هو من الفهم و ذكاء القلب مع اللسن،و أصله الكشف و الظهور» (3).و قد ظهر أن ابن منظور امتدادا للغويين يحمل معنى البيان ما يأتي:ا.
ص: 14
1-ما يبين به الشيء و يتضح و يظهر،و هو بهذا موافق للتبيين إذا يعنى بالإيضاح و الوضوح.
2-إن البيان يأتي بمعنى الفصاحة،و إذا وصف الكلام به فهو فصيح،و يرد بمعنى الإفصاح مع الذكاء.
3-إن البيان إظهار للمقصود بأبلغ لفظ،و كأنه يشير بإيماءة ذكية إلى المعنى الاصطلاحي دون التحديد له.
4-إن أصل البيان في جميع ما تناوله من المعاني هو الكشف و الظهور.
و يتجلى مما سبق أن الراغب قد تحدث عن الجانب التطبيقي للأصل اللغوي،و إن ابن منظور قد تحدث عن المعنى الدلالي للبيان مع إشارته لبلاغته في توخي لمسات المعنى الاصطلاحي له.
و تخلص من هذا أن لفظ البيان-نطقا-هو ما يراد به الكشف و الإيضاح و الظهور و تلك مادة اللفظ الأولى لغة.
يبدو أن البيان لم يأخذ دلالته الاصطلاحية،و لا اكتسب صيغته النهائية منذ عصر الجاحظ(ت:255 ه)حتى عصر عبد القاهر الجرجاني (ت:471 ه)و في شذرات من بعده عند الزمخشري(ت:538 ه) و الرازي(ت:606 ه).
فقد كان البيان يتقلب في وجوه القول كافة،و يواكب فنون البلاغة بعامة،يختلط بالمعاني حينا،و يستوعب جملة من علم البيان حينا آخر.
فالجاحظ و إن ذكر الألفاظ و نقد المعاني،و كان عنده أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ،إلا أنه لم يحدد التقاء البيان علما و مصطلحا بواحدة منهما بل جعله مشاعا يشمل صنوف البلاغة.فعنده أن الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان،و كلما كانت الدلالة أوضح و أفصح كان إظهار
ص: 15
المعنى أنفع و أنجع (1).
و يخلص إلى أن البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، و هتك الحجب دون الضمير،حتى يفضي السامع إلى حقيقته،و يهجم على محصوله،كائنا ما كان ذلك البيان،و من أي جنس كان ذلك الدليل.لأن مدار الأمر و الغاية التي إليها يجري القائل و السامع إنما هو الفهم و الأفهام،فبأي شيء بلغت الأفهام و أوضحت عن المعنى،ذلك هو البيان في ذلك الموضع (1).
و هذا الاتساع الفضفاض في صفة البيان لا يعطي دلالة اصطلاحية، و لا يفضي إلى ضبط علمي دقيق عند الجاحظ،و إنما يعني بأهمية البيان أكثر من تحديده و بقيمته عند القدامى و المعاصرين له بشكل يوحي بعدم إرادته للمصطلح بل البيان بمعناه العام المطلق المشتمل على معايير القول و موازين الكلام،فهو يورد التعميمات الآتية(البيان بصر،و العي عمى...
البيان من نتاج العلم،و العي من نتاج الجهل...البيان ترجمان العلم..
حياة العلم البيان...البيان عماد العلم) (2).
و فيما أورده يتضح أنه نثر بعض الحكم و الأمثال في صفة البيان و أهميته بالنسبة للعلم و موقعه منه،و هذا يدلنا بوضوح أن المصطلح بعد لم يتمخض عن ميلاد.و ينطوي أكثر من قرن على هذا الفهم للبيان فيطل بلاغي عظيم القدر هو علي بن عيسى الرماني(ت:386 ه)فلا يزيد على البيان في دلالته شيئا،بل نجده يحذو حذو الجاحظ في عموميات و تقسيمات أشار إليها الجاحظ من ذي قبل،و هي جميعا لا تعنى بالمعنى الاصطلاحي،و لا تحدد تضاعيفه.
حقا لقد حصر الرماني بنظرة بلاغية قويمة جزءا يعتد به من أشتات البلاغة العربية و مفرداتها،و كان هذا الحصر متمثلا بتقسيمه البلاغة إلى عشرة أقسام هي:الإيجاز،و التشبيه،و الاستعارة،و التلاؤم،و الفواصل،1.
ص: 16
و التجانس،و التصريف،و التضمين،و المبالغة،و حسن البيان (1).
أ-و حين نلحظ هذا التقسيم نرى أنه لا يعنى بالجانب الاصطلاحي الذي عليه علم البيان،فهو يعبر عن هذا القسم باسم حسن البيان لا البيان و لا علم البيان،و قد جعله قسما من البلاغة و جعل التشبيه و الاستعارة اللذان هما جزءان من علم البيان،قسيمين معادلين له،و ليسا بفرعين عنه، مما يدل دلالة مؤكدة أنه لا يعني ما نريد.
ب-يبدو من حديث الرماني عن البيان إرادته لمعناه العام لا تحديده الدقيق فهو عنده«الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره في الإدراك، و البيان على أربعة أقسام:كلام،و حال،و إشارة،و علامة (2).و هذا الفهم يعنى بالبيان أصلا سواء كان كلاما،أم كان رمزا،أو كان بقرينة حالية دون المقال،و هو شيء و البيان في الاصطلاح شيء آخر،على أن ما أبداه قد سبق إليه الجاحظ في تقسيمه للبيان من ذي قبل بزيادة الخط الذي لم يشر إليه الرماني (3).
ج-و مما يدل على ما ذهبنا إليه أنه يعقب على ذلك بقوله:«و حسن البيان في الكلام على مراتب:فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن السمع،و يسهل على اللسان،و تتقبله النفس تقبل البرد،و حتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة» (4).و هذا كله باعتبار البيان بمفهومه العام لا بالاعتبار البلاغي المحدد.
د-و مما تقدم يبدو أن البيان عند الرماني يتخذ طابعين:
الأول:أنه فن من فنون البلاغة لأنه جزء من أجزائها العشرة لديه.
الثاني:أنه يتكئ على الجاحظ في تقسيم البيان بمعنى الأفهام، و عموم ما يوصل المعنى إلى الذهن.7.
ص: 17
و الطريف في الأمر أن يستند ابن رشيق القيرواني(ت:456 ه)على الرماني في التعريف الذي اختاره و نسبه للرماني و هو به عيال على الجاحظ فقال:
«البيان:الكشف عن المعنى حتى تدركه النفس من غير عقلة،و إنما قيل ذلك،لأنه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدل و لا يستحق اسم البيان» (1).
فهذا التعريف الذي يسنده إلى الرماني و هو به عيال على الجاحظ كما أسلفنا،لا يعطي رأيا في الموضوع إطلاقا،نعم نجده يجعله فنا من فنون البلاغة كما جعله الرماني،من ذي قبل فهو عند الرماني القسم العاشر من البلاغة و هو عند ابن رشيق الباب الثالث و الثلاثون من العمدة،و لم يعطنا أي جديد في الأمر،بل يصح لنا أن نقول أنه مرّ به مترددا لم يتكلف فيه إلا عناء النقل و إيراد بعض الأمثلة التطبيقية.
و يبدو مما سبق أن البيان لم ينتقل عن معناه العام الواسع منذ عهد الجاحظ حتى عصر ابن رشيق،بل كان دائرا في فلك المداليل العامة، التي تعنى بجمال القول،و بلاغة الكلام،و انسجام العبارة،و حسن الأداء، و أشتات البيان.
ليس هناك أدنى ريب في أن عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)يعد مطور البحث البلاغي،و واضح أصوله في كتابيه الجليلين:دلائل الإعجاز و أسرار البلاغة،فقد سبر أغوار الفن البلاغي شرحا و إيضاحا و تطبيقا، اعتنى باللباب من هذا العلم،و أكد الجانب الحي النابض،و ابتعد عن الفهم العشوائي،و الخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية و تطبيقاتها،لم يعتن بالحدود المقيدة منطقيا،و لم يعر للقوقعة اللفظية أهمية،كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض أصيل ينهض بهذا الفن إلى أوج عظمته و ذروة مشاركته في بناء الهرم الإنساني،فما ذا يجنى العلم من الجفاف في
ص: 18
الحد،أو الغلظة في الرسم،أو الصرامة في القاعدة،لهذا و أمثاله لم نجد عبد القاهر مهتما بإعطائنا أية حدود بلاغية تخص التعريف في أي مجال، بل كان يؤثر الحديث عن قيمة أي أصل بلاغي،و فنية دلالته،بدلا من الدخول في تحديدات مربكة،أو تعريفات فارغة،لهذا نجده إزاء علم البيان متحدثا ببيانه الساحر و منطقه الجزل،و مصرحا باسمه دون من سبقه تسمية اصطلاحية،و لكنه لم يعطنا بذات الوقت تعريفا اصطلاحيا،فيقول:
«ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا،و أبسق فرعا،و أحلى جنى، و أعذب وردا،و أكرم نتاجا،و أنور سراجا من«علم البيان»الذي لو لاه لم تر لسانا يحوك الوشي،و يصوغ الحلي،و يلفظ الدر،و ينفث السحر، و يقري الشهد،و يريك بدائع من الزهر،و يجنيك الحلو اليانع من الثمر، و الذي لو لا تحفيه بالعلوم و عنايته بها،و تصويره إياها لبقيت كامنة مستورة، و لما استبنت لها يد الدهر صورة،و لاستمر السرار بأهلتها،و استولى الخفاء على جملتها،إلى فوائد لا يدركها الإحصاء،و محاسن لا يحصرها الاستقصاء» (1).
فأنت تلاحظ من هذا النص وصفا تقويميا لعلم البيان،و تأكيدا حثيثا على أهميته و قيمته،و لقد ورد فيه اسم علم البيان نصا،و ورود التسمية عند عبد القاهر لم يكن عبثا دون مسمى،و لم يأت فارغا دون تطبيق،لأن مما لا شك فيه أن عبد القاهر تعقب هذه التسمية بمسمياتها،و هذا العلم بتفريعاته،فقد تحدث بإسهاب عن الحقيقة و المجاز،ثم عن الاستعارة و أصنافها،ثم نجده فقد فصل القول في التشبيه و التمثيل،ثم يعرض إلى الكناية و التعريض.فهل ترى عبد القاهر في وضع هذه الأبواب،و بحث هذه الفصول،كان يقوم بعمل اعتباطي غير منظم دون لمح إلى هذا الترتيب القويم لمفردات«علم البيان»أما أنا فلا أعتقد ذلك،بل الذي أراه أنه عمد إلى مفردات علم البيان فبحثها و نظر لها و تعقبها،ليضع بذلك مقاييس علم البيان،كما أن جهوده في فكرة النظم،و ارتباطها بمعاني النحو،ما كان إلا تمهيدا طبيعيا لما تعارفوا عليه فيما بعد باسم«علم المعاني»؛فهو4.
ص: 19
حينما يتحدث عن الفصل و الوصل،و التقديم و التأخير،و الذكر و الحذف، و المسند و المسند إليه،و التعريف و التنكير،فإنما يتحدث عن علم المعاني، و إن لم يقل إن هذه هي مادة علم المعاني،و مفرداته فهو أمر مفروغ منه عنده في تأكيده المعاني،و ارتباط فكرة النظم بمعاني النحو،مشفقا على ذلك و مفرعا عنه«و لا ريب في أن الفضل في ابتكار هذا العلم يعود إلى عبد القاهر وحده،فإن مسائل هذا العلم لم تدرس قبله،و لم تعالج على هذا النحو..و لعل تمعن عبد القاهر في الحديث عن معاني النحو،و أن النظم ليس شيئا إلا توخي هذه المعاني،هو الذي أوحى بتسمية هذا العلم «بعلم المعاني» (1).
و ما يقال عن علم المعاني في ترتيب عبد القاهر لمباحثه البلاغية يقال عن«علم البيان»نصا،مما يجعلنا نؤيد بقوة ما ذهب إليه الدكتور أحمد أحمد بدوي في حديثه عن الترتيب الطبيعي لمفردات علم البيان و أبوابه عند عبد القاهر«هذه الأبواب ذات الصلة المتشابكة،جمعها عبد القاهر في كتاب،و اعترف بأهميتها في البلاغة العربية،و قرر أن البلغاء ينظرون إليها نظرة تقدير و إعجاب هي التي جمع شملها من جاء بعد عبد القاهر في مسائل علم البيان في محاولته تحديد مسائله،و ذكر أقسامها،و معرفة سر بلاغتها،و الوقوف عند أمثلتها،يستوحي سر جمالها،و ذلك مجتمعا لم يقم به بلاغي قبل عبد القاهر» (2).
و بعد عبد القاهر نجد الزمخشري(ت:538 ه)يذكر مصطلحي علم المعاني و علم البيان نصا في حديثه عن آداب التفسير«و لا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن و هما علم المعاني و علم البيان» (3)مما حدا بالدكتور شوقي ضيف أن يعده أول من ميز بين المصطلحين،و قسم البلاغة إلى علمين هما المعاني و البيان (4).ا.
ص: 20
و جاء من بعد الزمخشري فخر الدين الرازي(ت:606 ه)فذكر هذين المصطلحين في حديثه عن الخبر فقال:
«و لكن الخبر هو الذي يتصور بالصور الكثيرة،و تظهر فيه الدقائق العجيبة و الأسرار الغريبة من علم المعاني و البيان» (1).
و مع هذا التأكيد من الزمخشري و الرازي لعلمي المعاني و البيان إلا أن الدكتور أحمد مطلوب يشكك في وضوح هذين المصطلحين عندهما، و لا يستطيع أن يتبيّن مفهوم البيان و المعاني بالدقة الاصطلاحية قبل السكاكي(ت:626 ه)الذي عدّه أول من قسم البلاغة إلى معان و بيان و محسنات،و حدد موضوعاتها و أرسى قواعدها،و أنه أول من أطلق على الموضوعات المتعلقة بالنظم مصطلح«علم المعاني»و على الموضوعات التي تبحث في الصورة الأدبية:التشبيه و المجاز و الكناية-مصطلح علم البيان»و أنه أول من سمى غير هذه البحوث محسنات،أو وجوها مخصوصه يصار إليها لقصد تحسين الكلام» (2).
و أرسل ابن الأثير(ت:637 ه)فيما بعد اسم علم البيان إرسال المسلمات في حديثه عن الأحوال اللفظية و المعنوية بقوله«و صاحب علم البيان...عليه بالنظر في كتابنا هذا أو التصفح لما أودعناه من حقائق علم البيان» (3).
و مع ما قدمناه من استقطاب عبد القاهر لمفردات علم البيان و تأكيده لها،و صحة تقسيم الزمخشري لقسمي البلاغة في استكناه بلاغة القرآن الكريم و ورود هذا المصطلح عند كل من الرازي و ابن الأثير نجد الدكتور أحمد مطلوب-مرة ثانية-يذهب إلى أن للبيان عند هؤلاء معنى واسعا يدل على البلاغة كلها،و يكاد كلهم يجمعون على أن البيان هو الإفصاح عما في النفس من المعاني و الأحاسيس،و هذا معنى أدبي جميل أعطى البلاغة حياة و أكسبها رونقا،و فتح أمامها السبيل لتخوض موضوعات أدبية1.
ص: 21
بديعة،و تكون للمؤلفين آراء نقدية طريفة (1).
إلا أنني أرى الحال مختلفة دون ريب عند عبد القاهر الذي وضع الأسس و المشخصات و جاء بالتسمية و المفردات،و عدد و فرع و قسم و استنبط و علق و نظر و طبق في أصول علم البيان اصطلاحا،نعم لم يلجأ إلى التقسيمات الفلسفية،كما صنع من استفاده بعده مما أوجده هو من ركائز لم يضف إليها السكاكي شيئا،و لم يزد عليها القزويني بابا،فالطريق -كما يبدو لي-ممهدة من ذي قبل،إلا أن السكاكي و من ورائه القزويني، قد تجاوزا المعقول في التفريعات،و جدا في الاستقصاء،و إطلاق المسميات بشائبة من الفكر المنطقي و الحس الفلسفي الذي يبتعد في كثير من الأحيان عن البعد البلاغي،مما يدخل البلاغة العربية الأصول في استنباطات أعجمية و ثقافات أجنبية.
و هذا لا يعني أننا نغض من قيمة ما قدمه كل من السكاكي(ت:
626 ه)و الخطيب القزويني(ت:739 ه)و لكن السبق البياني لعبد القاهر و له الأصل و هم المفرعون،فهم و إن أوجدوا التقسيمات المطولة، و الحدود المفرقة و المميزة إلا أن طريقة عبد القاهر فيما يبدو لي أجدى نفعا،و أعم فائدة،و أكثر واقعية،و هو يريد أن ينحدر تبعا لباحثية-إلى مفاهيم مختلطة في المنطق و الأصول و علم الكلام و الفلسفة،و وجد طلاب هذا العلم على وشك الوقوع في دوامة من الجدل و الرد و النقض و الحد و التعريف و الإدخال و الإخراج بحيث تضيق الدائرة لتصبح لغزا رياضيا لا فنا جماليا،و بالتالي تكون العناية بالنظرية لا بالتطبيق،النظرية المشوبة بكثير من الأوشاب الضارة لتنتج هروبا عن هذا العلم،و نزوعا إلى التقسيمات العميقة الدائرة في فلكه،فعمد عن قصد و إصرار إلى مزج الفكر بالواقع،و اللغة بالعاطفة،و العلم بالفن،في إعطاء نماذج و أمثلة و تطبيقات نابعة من القرآن الكريم و الشعر العربي،يجملها حينا و يفصلها حينا آخر، بحسب مقتضيات التلاؤم و التناسب في البيان،شبيها بما أسداه من ذي قبل السيد الشريف الرضي(ت:406 ه)في تلخيص البيان عن الاستعارة0.
ص: 22
و التشبيه دون الخوض في التفصيلات التقسيمية المملة.و هذا ما يدعونا إلى اعتبار عبد القاهر الجرجاني مكتشف الاصطلاح البياني لا في حدوده التطبيقية فحسب بل في جزئياته و اعتباراته البيانية بعامة.
يبدو لنا أن الحد الاصطلاحي لعلم البيان لم يعجز عبد القاهر الجرجاني بعد أن أبان متعلقات علم البيان و مفرداته،و لكنه كان غير معني بهذا الحد لحاجة في نفسه نميل إليها و نؤيده بها كثيرا،إذ لم يكن هدفه إضفاء صيغة الجزم على علم يتسع لمعالم عديدة اتساع اللغة و الفن اللذين لصقا به و هما العربية و البلاغة،لذا كان اهتمامه-كما أسلفنا-منصبا حول ثمرات هذا العلم و جودة عطائه،و إلا فالتحديد الضيق لم يكن يغرب عن باله،و لا يغرب عن تطلعاته.
و أخيرا استقر البلاغيون على تعريف السكاكي(ت:626 ه)لعلم البيان«فهو معرفة إيراد المعنى الواحد في طريق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه،و بالنقصان ليحترز على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد» (1).
و لا مانع من قبول هذا التعريف فهو جامع مانع كما يقول المناطقة باعتباره اتبع طريقتهم في الحد و التخريج،إلا أنه أدخل الدلالات اللفظية في مباحثه فعد كلا من الدلالة المطابقية و الدلالة الالتزامية،و الدلالة التضمنية في استيعاب علم البيان،و هي مباحث منطقية انتقل بها من روعة البيان و بهائه إلى عقم الكلام و تخريجاته (2).و بعد بحث عقيم لا يسمن و لا يغني من جوع نجده يقول:
«و إذا عرفت أن إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية،و هي الانتقال من معنى إلى معنى بسبب علاقة بينهما...ظهر لك أن مرجع علم البيان عدّ هاتين الجهتين:جهة الانتقال
ص: 23
من ملزوم إلى لازم،و جهة الانتقال من لازم إلى ملزوم..و إذا ظهر أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان،علمت انصباب علم البيان إلى التعرض للمجاز و الكناية،فإن المجاز ينتقل فيه من الملزوم إلى اللازم،و إن الكناية ينتقل فيها من اللازم إلى الملزوم» (1).
و لما كانت الدلالات بحسب نظره،إما عقلية:و هي ما تشمل المجاز و الكناية.و إما وضعية و هي التي أخرج بها التشبيه من دائرة علم البيان، لأن الوضعية لا يمكن بها إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة،بخلاف العقلية التي تتضح بها الدلالة،و بهذه الطريقة الملتوية تم له إخراج التشبيه من علم البيان،ثم كرّ على الموضوع فأدخل التشبيه فيه بطريقة ملتوية أخرى فقال:
«ثم إن المجاز-أعني الاستعارة-من حيث أنها من فروع التشبيه لا تتحقق بمجرد حصول الانتقال من الملزوم إلى اللازم،بل لا بدّ فيها من تقدمة تشبيه شيء بذلك الملزوم في لازم له تستدعي تقديم التعرض للتشبيه فلا بدّ من أن نأخذه أصلا ثالثا و نقدمه،فهو الذي إذا مهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السحر البياني» (2).
و قد خلص من هذا التعقيد في العبارة و الثرثرة في الاستدلال إلى استقرار علم البيان عنده في أصلين و أصل ثالث...فكان البيان يشمل المجاز و الكناية و التشبيه،و ليت شعري لم التجأ السكاكي إلى هذه الطريقة من الالتواء في إخراج التشبيه من علم البيان و إدخاله فيه حتى استراح إلى هذه النتيجة و هذا التقرير،فلدى التطبيق نجده قد قدم حديثه على التشبيه ثم المجاز ثم الكناية،فكان ينقض ما أبرم،و يبرم ما أنقض.
و ما إن جاء الخطيب القزويني(ت:739 ه)حتى أعاد لنا تعريف السكاكي لعلم البيان،و سلك نهجه في الدلالات و تقسيماتها المنطقية،و ما كان إلا ناقلا،بأدب،و ناسخا بتصرف،فعرف البيان بقوله:7.
ص: 24
«و هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه» (1).
ثم دخل في دوامة دلالة اللفظ عند المناطقة على ما وضع له اللفظ، و على غير ما وضع له،ثم سار بالاتجاه الذي خططه السكاكي،و توصل إلى الاستنتاج الذي توصل إليه،و قسم البيان كما قسمه فقال:
«ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له،إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز،و إلا فهو كناية.
ثم المجاز منه الاستعارة،و هي ما تبتني على التشبيه،فيتعين التعرض له،فانحصر المقصود في التشبيه و المجاز،و الكناية،و قدم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز على التشبيه،و قدم المجاز على الكناية لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل» (2).
و استقر علم البيان فيما بعد بتقسيمه:ليدل على التشبيه و المجاز و الكناية،فهي مفردات هذا العلم.
و تظل تقسيمات السكاكي(ت:626 ه)و القزويني(ت:739 ه) و سعد الدين التفتازاني(ت:792 ه)فيما بعد،مدار الدّرس البياني، و محور النظام البلاغي الرتيب الذي لا يطاوله أحد،و قد كان ذلك معلما من سيماء عصر هؤلاء و من اتبعهم من الشارحين و المختصرين لمفتاح العلوم،و كان لتأثر الناس بالفلسفة،و تقلّبهم في متاهات علم الكلام، وهب التقسيمات و تشعباتها الأثر في إيجاد هذه السمات و المؤشرات.
و الحق أن علم البيان بل البلاغة بعامة قد أوقع بهما من قبل السكاكي و القزويني و التفتازاني و من تابعهم من البلاغيين التقليديين في المختصرات و الشروح و المطولات و التلخيصات بمعالم جافة لا تمت إلى الذوق الفني بصلة،بل اعتمدت الشكليات الفجة،و التقسيمات المملة، فأخضعت لأقيسة أصولية و متاهات منطقية،حتى عادت شبيهة بالألغاز3.
ص: 25
المعماة،لا مسحة لجمال بها،و لا أصالة لفن معها،مما دعا بعض العابثين أن يسم هذا التراث العربي الإسلامي المحض بالأثر اليوناني تارة، و الأعجمي تارة أخرى،نظرا لعقم الجدال المثار في تصانيف هؤلاء القوم مما عبر عنه بحق الأستاذ عبد العزيز البشري بتعليقه عليه،فقال:
«و فوق التعقيد الشديد في عبارات هذه الكتب،و المبالغة في إيهامها و إغماضها،فإن ملاك البحث فيها إنما هو الجدل اللفظي،و الاعتساف في بحوث فلسفية لا غناء لها في صنعة البيان،بل إنني لأزعم أنه لو كان هناك من يريد التخلص من فصاحة اللسان و فصاحة البيان،فليس عليه أكثر من أن يدرس هذه الكتب حق درسها،و يديم النظر فيها،و يقلب في عباراتها لسانه و فكره،ليكون كل ما يحب إن شاء اللّه...و إذا أبينا إلا الحرص على بقاء هذه العلوم على تلكم الصورة التي دفعها إلينا السابقون،فلا شك في أن لها في دار الآثار العربية المكان الفسيح» (1).
و الذي نحرص عليه أن السكاكي و القزويني و التفتازاني مع اعتدادنا بجهودهم البلاغية لم يكونوا مبتكرين لحصر فن البيان و تقسيماته،فلقد سبقهم الأوائل بذائقتهم الفطرية،و أشاروا إليه ضمن برامجهم المتداخلة في حقول العلوم الإنسانية،و قد كان في السابقين إلى ذلك المفسر و اللغوي و البلاغي و الكلامي،و باستعراض تأريخي لجهود أولئك يتجلى عظم ما قدموه للتراث و الإنسانية في مجال تخصصاتهم،و نشير هنا إلى أبرز المؤشرات التي وقفنا على نماذج منها في الموضوع:
1-تحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت:175 ه)في عدة مباحث من تصانيفه عن التشبيه و أداته (2).
2-و كان سيبويه(ت:180 ه)أول من ذكر التشبيه (3).و تناول
ص: 26
أيضا ذلك النوع من المجاز الذي أطلق عليه المتأخرون المجاز العقلي،أو المجاز الحكمي،و رأى أنه توسع و اختصار في الكلام (1).
و شواهد ذلك متناثرة في كتاب سيبويه (2).و تناول كذلك مباحث علم البيان كالتشبيه و الاستعارة و المجاز و الكناية بما عبر عنه باتساع في الكلام، و للإيجاز و الاختصار لعلم المخاطب بالمعنى (3).
3-و أبو زكريا الفراء،يحيى بن زياد(ت:207 ه)في معاني القرآن،و معاصره أبو عبيدة،معمر بن المثنى(ت:209-210 ه)في مجاز القرآن،قد تناولا التشبيه و ذكر طرفي التشبيه و وجه الشبه في جملة من المباحث و أما المجاز فاستعماله عندهما لا يعد و لا يحصر،و إن أريد به طريقة العرب في التعبير عن المعنى (4).
و يقول بعض الدارسين«إن حديث الفراء عن الاستعارة يعد طفرة كبيرة،و قفزة رائعة للوصول بها إلى غايتها التي نعرفها اليوم» (5).
4-و قد ذهب عميد الأدب العربي المرحوم طه حسين(ت:1973 م)أن الجاحظ(ت:255 ه)يعد مؤسس علم البيان العربي» (6).
و تابعه على هذا الدكتور شوقي ضيف و توسع في الاعتبار فعد الجاحظ مؤسس البلاغة العربية دون منازع (7).و ربما كان كتابه البيان و التبيين،مضافا إلى كتاب الحيوان،دليلا ينهض على صحة هذا القول إذ بحث فيهما جملة مهمة من مباحث المعاني و البيان.
5-و ابن قتيبة،أبو محمد عبد اللّه بن مسلم الدينوري(ت:276 ه)8.
ص: 27
في كتابيه:تأويل مشكل القرآن،و تفسير غريب القرآن،بحث جملة علم البيان تشبيها و كناية و مجازا و قد توسع في ذلك.
لقد قسم ابن قتيبة الكلام إلى حقيقة و مجاز (1).و هو يأخذ المجاز بمفهومه العام و معناه الواسع (2).إلا أنه وضع لبنة في صرح علم البيان،لا سيما إذا رأينا اهتمامه بالاستعارة التي عبر عنها:بأن أكثر المجاز يقع في باب الاستعارة (3).
و من أطرف ما أورده ابن قتيبة جمعه لمادة علمي المعاني و البيان في صدر كتابه،بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره،و إن استخدم كلمة المجاز أحيانا بمفهومها العام كما أسلفنا،فهو يقول:
«و للعرب المجازات في الكلام و معناها طرق القول و مآخذه،ففيها الاستعارة و التمثيل و القلب و التقديم و التأخير و الحذف و التكرار و الإخفاء و الإظهار و التعريض و الإفصاح و الكناية و الإيضاح،و مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع،و الجميع خطاب الواحد،و الواحد و الجميع خطاب الاثنين،و القصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم،و بلفظ العموم لمعنى الخصوص،مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز» (4).
و هكذا شأن كل ما هو مبتكر،و أسلوب كل ما هو قيم،و أصيل،أن يعطيك الدقة و الشمولية و الاستقصاء،فيما يتصل بطريقة التعبير البلاغي.
6-و أما الحديث عن المبرد(ت:285 ه)و ثعلب(ت:291 ه) و ابن المعتز(ت:296 ه)و قدامة بن جعفر(ت:337 ه)و القاضي الجرجاني(ت:366 ه)و الرماني(ت:386 ه)و الخطابي(ت:388 ه)و الحاتمي(ت:388 ه)و أبي هلال العسكري(ت:395 ه)ي:
ص: 28
و الباقلاني(ت:403 ه)و الشريف الرضي(ت:406 ه)و ابن رشيق (ت:456 ه)و ابن سنان الخفاجي(ت:466 ه)و أضرابهم من الأعلام، فيطول بنا،و لا يتسنى بسطه بمثل هذه الإلمامة،فلكل فرد من هؤلاء يد على البلاغة،و إن لم يكن بلاغيا،و رشحات في البيان و مفرداته قصد إليه أو لم يقصد،فقد يلتقي علم البيان بالنقد و قد يلتقي النقد بالأدب،و أنت من خلال ذلك تظفر ببغيتك من علم البلاغة هنا و هناك،بين متناثر من أدب،أو مزيج من لغة،أو حديث عن موازنة،و بحسب هؤلاء جميعا أنهم أرسوا دعائم هذا العلم نظريا و تطبيقيا و إن لم يذهبوا إلى التقسيمات الجافة و المبهمات المغلقة.
7-فإذا وقفنا عند عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)نجده بحق مؤسس هذا العلم و مشيد أركانه،فالمستقري لكتاب:دلائل الإعجاز، يلحظ مباحثه منصبة حول علم المعاني بكل تفريعاته الجمالية و الأسلوبية، و المستقري لكتاب أسرار البلاغة،يجده مخصصا لعلم البيان و صوره كافة باستثناء الكناية التي قدم عنها بحثا مفصلا في الدلائل.
إن الجزئيات التي أثارها عبد القاهر،و الأبواب التي خاض غمارها،تعد بحق الحجر التأسيسي لمفاهيم علم البلاغة،و معاييرها لذلك نعده في المستوى التطبيقي و النظري،الفكر المخطط،و المنظر الحصيف لهذا الفن.
و ليس جديدا أن يقال إنّ عبد القاهر واضع أصول علم البيان في كتابه(أسرار البلاغة)،و واضع علم المعاني في كتابه(دلائل الإعجاز)، فقد مرّ علينا فيما سبق جزء من هذا الزعم،و يأتي فيما بعد ما يؤكده، و تلك نظرة يشاركنا بها جمع من الباحثين و العلماء كالدكتور طه حسين، و الدكتور شوقي ضيف،و الدكتور أحمد أحمد بدوي،و الدكتور أحمد مطلوب،و الدكتور عبد القادر حسين.في عدة مباحث و عدة كتب (1).ي.
ص: 29
لا ريب إن مباحث المسند و المسند إليه،و الفصل و الوصل،و التقديم و التأخير،و الإخماد و الإظهار،و الحذف و التقدير،و أمثالها،و إن كانت لا تخلو من لمحات بلاغية،و سمات بيانية بالمعنى العام،إلا أنها مباحث نحوية،و إن المجاز و التشبيه و التمثيل و الاستعارة و الكناية و التعريض و الرمز،و إن كانت لا تخلو من دقائق نحوية،إلا أنها مباحث بلاغية.
فمن الخير للعربية،و من الصيانة للتراث،أن نرجع بالفنون إلى أصولها،فما غلّب من منحى على فن ما،ألحق به،ما تميز بخصائص تأصله باتجاه متميز،اختص به،و ليس في ذلك شطط،بل فيه دقة و موضوعية،الدقة في التغليب،و الموضوعية في التبويب،و إلا فالفنون العربية متداخلة الأبعاد في أجزاء من مباحثها،فالنقد الأدبي ذو لمحة بلاغية.
البلاغة ذات سمة نحوية و النحو ذو صلة لغوية،و اللغة ذات أقيسة منطقية،و المنطق ذو مسحة فلسفية،و الفلسفة ذات سحنة أصولية، و الأصول ذو تفريعات كلامية،و هكذا دو اليك بالنسبة لفنون العربية الأخرى.
مباحث«علم المعاني»لا تخلو من جفاف يعتمد الحدود و الرسوم و التعريفات،و كأنها قطعة من النحو،تمت إليه بوشائج التقسيم و أواصر التعقيد (1).و مباحث«علم البيان»لا تخلو من روعة و بهاء يهدفان إلى إيضاح المعنى،و إضاءة اللفظ،و جلاء الصورة،فهي وثيقة الصلة بالبلاغة القائمة على أساس الكشف و الإيضاح،و إيراد المعنى بالصور المختلفة، فكل منهما-أعني المعاني و البيان-قريب الأسر بفن قائم بذاته،بل هو جزء من ذلك الفن،فلم لا يلتحق كل جزء بكلياته،و كل فرع بأصوله؟هذا هو ما يقتضيه الذوق السليم،و الطبع الفطري لنتلافى بذلك هذه الردّة
ص: 30
المتزايدة لدى الناشئين و هذا النفور المتنامي تجاه البلاغة العربية و الدرس البياني عن طريق تذليل السبل،و تقليل الأقسام،و تحديد الموضوعات.
إن التفريعات و التعريفات المستمدة من مدرسة الإيهام و الإبهام، معالم مضللة لا تلتقي و الذوق الفني،و مظاهر متخلفة تدعو إلى النفرة و الاشمئزاز،و لا ذنب للبلاغة في ذلك بل للمتصرفين بأصنافها،و الداعين إلى تعقيدها،و القائمين على تقعيدها،حتى عادت كالطلاسم المبهمة، و الألغاز المعماة،و ليس ما ذهب إليه جمع من الباحثين ممن تأثروا بمفاهيم عصورهم..ثقافة أجنبية،و سليقة أعجمية،ليس ما ذهبوا إليه نصوصا مقدسة غير قابلة للنقاش،و لا هي تعليمات دينية غير قابلة للرد، بل هي آراء بشرية تقبل النقض و الرفض،و تتعرض للسهو و الخطأ،كما تتقبل الرضا و القبول،و ليس تقويمها خروجا على التراث،بل هو تهذيب و صقل للجهد الإنساني الموروث.و البيان هو الموروث البلاغي لدى العرب،و الإرث البلاغي هو قمة متبقيات العرب قيمة و أهمية و عطاء، فالتوجه إليه بمزيد من العناية،دليل الإقامة على ماضي التراث،لإفادة الحاضر و تهيئة المستقبل.
لقد بهر العرب بجمال القرآن و روعته،و نظروا إلى التغيير الجذري الذي أضافه ليس في العادات و المفاهيم و التقاليد فحسب،بل في القول و الكلام و النظم البياني،لقد نظروا إلى لغتهم و هي تتجه-فجأة-نحو الاستقامة و الاستقرار و الصعود،فحدبوا على عطاء هذه اللغة يختزنونه، و عمدوا إلى مرونتها يستغلونها،فكان هذا المخزون جمالا بلاغيا لا يبلى، و كان ذلك الاستغلال موروثا بيانيا لا يفنى،و ما ذاك إلا استجلاؤهم لدلالات القرآن الأدبية،و فنونه القولية،فقد خلص اللغة من الوحشي و الغريب،و هذب طبع ألفاظها من التنافر و التعقيد،فلم يعد العربي بعد بحاجة إلى إقصاء ذلك و استبعاده،هم الآن-أعني العرب-بحاجة إلى الكشف عن خبايا هذا الكتاب و كنوزه،و قد كان الكشف منصبا حول مجازات القرآن و استعاراته و تشبيهاته و كناياته،و هذا هو الملحظ البلاغي الخالص في استكناه وجوه الإعجاز البيانية في القرآن الكريم،و لم يكن هذا-وحده-بل أضيفت له جملة من الفنون البديعية في الجناس
ص: 31
و الالتفات و السجع و الفواصل مما لا كثير عناء باستخلاصه و الوصول إليه بيسر،و لكن دائرة الجهد متحكمة في استجلاء المجازات و طرق استعمالها و التشبيه و وجوه الشبه،و الاستعارة و ضروب أصنافها،و الكناية و مجالات إيرادها.
إذن لا شوائب في لغة القرآن و ألفاظه،و لا صعوبة في لمس جماله و تحسسه،فلا بحث مع ذلك للغرابة و التنافر و التعقيد،و لا كبير جهد بالوصول إلى أمثلة البديع.و الإسناد و الفصل و الوصل،و التقديم و التأخير، و التعريف و التنكير،و الحذف و التقدير و ما شاكل ذلك مذاهب قتلها النحاة بحثا و تمحيصا،فلم يبق إلا البيان المتمثّل في المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية،و هذا هو البلاغة بعينها،و تلك هي الأصول الكبرى،و الينابيع الأولى لفن القول،فيها يتقوم الجهد البلاغي الموروث،و عليها تدور رحى البلاغة العربية.
إن العربي اليوم بحاجة إلى إضاءة الدرس البلاغي على وفق متطلبات التطور الحضاري،فالعصر يسير بسرعة ضمن حسابات دقيقة في الفروض و النتائج،و هذه الحسابات إن تيسرت في فرع من فروع الإنسانيات فلا غرابة أن تشمل فرعا آخر أكثر تماسا بحياة الأمة و جذور تحررها،و هذا ما نجده ضرورة تطبيقية بالنسبة للبلاغة التي تعنى بتعليم الإنسان صناعة الكلام،و إذا كان الكلام صناعة،فعلم البيان أساس هذه الصناعة،لأنه المعني بصور الفن القولي التي تعتمد التشبيه و الاستعارة و الكناية و ضروب المجاز أركانا يستند إليها في هذا التعليم.و مهمة هذا التعليم استخراج الكلام الجيد،فلتكن عملية استخراج الكلام الجيد و العناية به مرنة ميسرة خالية من كثرة التقسيمات و التعقيدات.
و في هذا الضوء،و من أجل حصر الأبعاد البيانية،فما كان فصيحا من الكلام فلا مانع أن يكون بليغا أيضا،دون الخوض في التفصيلات المملة،و قديما قال أبو هلال العسكري(ت:395 ه)«الفصاحة و البلاغة ترجعان إلى معنى واحد،و إن اختلف أصلاهما،لأن كل واحد منهما إنما
ص: 32
هو الإبانة عن المعنى و الإظهار له» (1).
حقا إن الأصل اللغوي كان سببا لهذا التمايز بين المصطلحين،إلا أن المناخ الذوقي يقتضي إلغاء هذا التقسيم و التمايز،ففي طور تجديد البلاغة العربية عودة لتوحيد المصطلحين،لا اعتزازا برأي القدامى فحسب بل من أجل مسح متوازن لعناصر البيان العربي بجمله و مفرداته و جهة صدوره،فهي بليغة و هي فصيحة في آن واحد دون التمييز بينهما بوصف البلاغة فنا يوصف به الكلام و المتكلم دون الكلمة المفردة،و كون الفصاحة فنا يوصف به الكلام و المتكلم و الكلمة.
و هذا ما يقودنا إلى معرفة البلاغة دون الخوض في أبعاد التعريفات المضنية،فهناك أشتات متفرقة لتعريف البلاغة عند الأمم سردها الجاحظ (2).
و أما عند العرب فقد أجملها النويري(ت:733 ه)بأنها:
«ما فهمته العامة و رضيته الخاصة» (3).
و يميل أكثر البلاغيين إلى أنها:مطابقة الكلام لمقتضى الحال،أو مناسبة المقال للمقام (4).
و لقد كان علم البيان الذي يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة،و بصور متعددة،هو القانون الذي تعرف به هذه المطابقة و تلك المناسبة (5).
أما ما أورده المتأخرون عن عصر عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)كأبي يعقوب السكاكي(ت:626 ه)و الخطيب القزويني(ت:739 ه)بحصر أبحاث البلاغة في المعاني و البيان و البديع و ضروب تقسيماتهاف.
ص: 33
الجافة،و أنواع كل قسم،و أصناف كل قبيل،فمرده كما يقول الخولي إلى أنه«صورة لما ساد دراسة تلك البلاغة من نزعات فلسفية،و كلامية، و منطقية،أقحمت فيها كثير من أبحاث لا علاقة لها بالغرض الأدبي، و ضيقت دائرتها الفنية،و أفاضت عليها جمودا و جفافا أعجزها عن أن تترك أثرا أدبيا في ذوق دارسها» (1).
إذن لا محيص من إزالة الأوشاب العالقة بهذا الفن،و لا مناص من تصفية الأعشاب الضارة من هذه الواحة،بحركة من التجديد الأدبي تعنى بالفن القولي دون هذا الإرباك في التقسيم،و هذا الإقحام في الفلسفة و المنطق و الكلام.إن هذا التجديد لا يراد به أكثر من إعادة الحق إلى نصابه،و قطع دابر الخصام المفتعل في مباحث البيان،فهو يتبنى التسوية المتكافئة بين الطرحين.
إن هذا التجديد بتصور أولي يجب أن يقوم على الأسس الآتية:
1-دراسة العلاقة القائمة بين الألفاظ و المعاني،و استخلاص الصورة الأدبية المنتزعة منهما بوصفهما امتدادا لهما على أساس يتداخل فيه الغرض الفني بالتعبير القولي،جملة واحدة غير قابلة للفصل،و ليست بخاضعة لتفضيل الألفاظ على المعاني،أو تقديم المعاني على الألفاظ.
مما لا طائل فيه،و لا جدوى منه،و بمدلول أدق نرى ضرورة دراسة الصورة الفنية The artofemige للنص الأدبي في ضوء المواصفات النقدية الحديثة بوصفها أساسا لمعرفة بلاغة النص،دون الخوض بتفصيلات أحوال الإسناد،و الإسناد الخبري،و التقديم و التأخير و التعريف و التنكير، و كل ما يتعلق بشئون ما تعارفوا عليه بعلم المعاني الذي تكفل بالكشف عن أهم أبعاده علم النحو العربي،و قتله بحثا و تمحيصا،و أشبعه درسا و تخريجا.
2-دراسة القدر الجامع المشترك بين الألفاظ و المعاني،و تضافره في تكوين النص الأدبي متكاملا،فلا ندع تحكما للألفاظ على حساب4.
ص: 34
المعاني،و لا تمسكا بالمعاني على حساب الألفاظ،بل تخضع الجميع للذائقة الفنية القائمة على استكناه الجمال و الروعة فيما يقدمه النص بطرفيه اللفظ و المعنى،و من هنا يكون الحكم على سلامة النص بلاغيا،بشمولية تستقطب تأثرنا بالإحساس و الوجدان و الخيال و الأثر النفسي،أي أننا نقوم بوقت واحد بإلغاء الحواجز المفتعلة بين الألفاظ و المعاني،و فك الحصار عنها ممتزجة بالتفاعل الداخلي للنفس الإنسانية،فلا حدود بين اللفظ و المعنى،فهما النص،و لا قيود بين النص و النفس،فبهما تبلغ الغاية.فقد يقع المعنى من الإحساس موقع القبول للحاجة إليه،و قد يحقق الأثر النفسي في التطلع نحوه،و قد يغيب عن الخيال و النفس و الحس،فيعود جامدا لا حراك فيه،و إن كان معنى رائقا في لفظ رائق،لكنه يفقد القبول النفسي،و معنى ذلك عدم مطابقته لمقتضى الحال الذي أكده القدامى.
3-دراسة المقومات الأسلوبية التي تكون العبارة العربية في أرقى صورها البيانية ككلّ لا يتجزأ في تقويم النص الأدبي و الحكم عليه بلاغيا و نقديا دون ضرورة ملحة إلى استقراء الجزئيات المتعلقة في كل من الكلمة،و الجملة و الفقرة،و ما ينطوي عليه كل جزء من هذه المركبات من احتمالات تخضع لجانبين من المعايير:هما الجودة و الحسن و التلاؤم في جانب و الغرابة و التعقيد و التنافر في جانب آخر،بل يكون الحكم في ذلك على النص كلا واحدا متقوما،لا نقتسره اقتسارا تحت طائلة التشويه،و لا نفككه أجزاء محاولين التفريق،كل ذلك في ظل استجلاء المميزات الأسلوبية الهادفة إلى إبراز النص الأدبي بصورته الرائعة، و جاذبيته الطبيعية.
4-دراسة الأسس البلاغية السليمة التي تمتاز بها لغة القرآن كالمجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية و الرمز و التعريض بوصفها أركانا إذا فقدها النص لم يعد نصا بلاغيا يعتد به،فهذه الأسس هي الحركة الدائبة في اللفظ المنطبع أثره على المعنى،و هي الحياة في المعنى الذي يعطي ذائقته اللفظ،و إلا عاد النص جامدا لا ينبض بالإحساس البلاغي،و لا يتسم بصفة الفن القولي.
و في ضوء ما تقدم نلمس البلاغة فنا يتصل بالحياة و علما يتمشى مع
ص: 35
الذوق و مسألة تحقق الطموح و الإحساس بالجمال،و تنعكس على المؤشرات الآتية:
أ-علاقة اللفظ بالمعنى.
ب-قيمة الألفاظ و المعاني.
ج-مقومات الأسلوب الأدبي.
د-أركان البلاغة العربية متمثلة في المجاز،التشبيه،الاستعارة، الكناية.
و لما كان هذا البحث يرى علم البيان الأساس في بلاغة العرب إن لم نقل هو البلاغة بعينها.و كنا من ذي قبل قد بحثنا علاقة اللفظ بالمعنى في عمل مستقل (1).و قيمة الألفاظ و المعاني في جهد سابق (2)لم تبق إلا مقومات الأسلوب الأدبي مقترنة بأركان البلاغة العربية،الأسلوب في تمايزه و تفاضله،لا في الطريقة التعبيرية التي يتناول بها الباحث النص، و إنما بالشكل الذي يطبع هذا الأسلوب و يسمه بالرصانة حينا،و بالبلاغة حينا آخر،أي بالقدرة الإبداعية التي تجعل من هذا الأسلوب عملا فنيا، و ذلك ما يلتقي في خصائص و مميزات البيان العربي،متمثلة في مفرداته و ركائزه الأولى و هي المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية.و هي ليست منفكة في حال من الأحوال عن النص الأدبي المتميز،و تلك موضوعات الفصول الآتية بإذن اللّه تعالى.ى.
ص: 36
1-المجاز بين اللغة و الاصطلاح 2-أصالة الاستعمال المجازي 3-التشبيه و الاستعارة جزءان من المجاز 4-أقسام المجاز 5-المجاز العقلي 6-وجوه المجاز العقلي 7-المجاز المرسل 8-وجوه المجاز المرسل
ص: 37
ص: 38
يبدو أن التفسير الاصطلاحي لمعنى المجاز متسلسل عن الأصل اللغوي،فقد أكد عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)العلاقة بين اللغة و الاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز«فالمجاز مفعل من مجاز مفعل من مجاز الشيء يجوزه إذا تعداه،و إذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي،أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا» (1).
و هو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل و الفرع في عملية النقل التي تثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ دون الحقيقة فيقول:
«ثم أعلم بعد:أن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا،و هو أن يقع نقله على وجه لا يعرى معه من ملاحظة الأصل.
و معنى الملاحظة أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه و بين الذي تجعله فيه» (1).
و لا يدع عبد القاهر هذا الأمر على عواهنه بل ينظّر له،و يطبق على نموذجه،و يحلل المناسبة القائمة بين الأصل و الفرع على أساس من التلازم
ص: 39
الإنساني في النظرة المشتركة إلى العلاقة الضرورية في مجالات الألفاظ و المعاني،فيقول:
«إن اليد تقع للنعمة و أصلها الجارحة لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين و عاداتهم و ما يقتضيه ظاهر البنية و موضوع الجبلة، و من شأن النعمة أن تصدر عن اليد،و منها تصل إلى المقصود بها و الموهوبة هي منه...إلخ» (1)و هو بذلك يصور لنا المناسبة بين اليد بوصفها جارحة،و اليد بوصفها نعمة،و علاقة هذه المناسبة في حقيقتها في الأولى،و مجازيتها في الثانية،و أن لا بدّ من ملاحظة ذلك في مثل هذه الحالة الاستعمالية،فكأنه يستشعر لمح الصلة بين أصل اللفظ و بين المعنى الثانوي له،و من ثم يعود إلى تأكيد المناسبة بين اللغة و الاصطلاح في اشتقاق المجاز،متناولا المناسبة بين الحقيقة و المجاز أيضا.
«و أما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني و الأول فهي مجاز،و إن شئت قلت:كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه و بين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز» (2).
كان هذا ملخصا فيما أبداه عبد القاهر في أسرار البلاغة،و يثني على الموضوع في دلائل الإعجاز بصيغة مقتضبة ينقل فيها،و لكنه هنا يختصر الحد الاصطلاحي فيقول«و أما المجاز فقد عول الناس في حده على حديث النقل،و إن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز» (3).و الحق أن ابن جني(ت:392 ه)قد سبق إلى موضوع النقل،و أكده في تعريفه للحقيقة و تحديده للمجاز فالحقيقة«ما أقر في الاستعمال عن أصل وضعه في اللغة، و المجاز ما كان بضد ذلك» (4).2.
ص: 40
و جاء فخر الدين الرازي(ت:606 ه)لينقل لنا تعريف عبد القاهر نصا دون إضافة شيء عليه،مؤكدا الصلة القائمة بين اللغة و الاصطلاح و الحقيقة و المجاز (1).
و جاء السكاكي(ت:626 ه)ليضع الحد الاصطلاحي موضع القانون الذي لا يعدل و لا يبدل فيقول:
«المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع» (2).
و لم يأت ابن الأثير(ت:637 ه)بجديد حينما حدد المجاز بأنه«ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة،و هو مأخوذ من جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع إذا تخطاه إليه» (3).
و إنما حصر البعد الاصطلاحي و عقبه بالمعنى اللغوي الذي تواضعوا حتى عصر شهاب الدين النويري(ت:733 ه)الذي استفاد من نظرة المتقدمين إلى المجاز بين اللغة و الاصطلاح شارحا له لرأي عبد القاهر بل معقبا عليه بالإيضاح فقال:
«و المجاز من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه،فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز،على أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا،لأنه ليس بموضع أصلي لهذا اللفظ،و لكنه مجازه و متعداه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعداه إلى مكانه الأصلي» (4).
و لقد كان التقرير اللغوي مستمدا من التبادر الذهني للفظة المجاز فلقد نقل ابن منظور(ت:711 ه)قول اللغويين«جزت الطريق و جاز7.
ص: 41
الموضع جوازا و مجازا سار فيه و سلكه،و جاوزت الموضع بمعنى جزته، و المجاز و المجازة الموضع» (1).
و هذا مما يرجح لدى وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة و اصطلاحا،فبملاحظة عبارات القوم نجدها متقاربة في المؤدى و المضمون،تقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي،و انبثاق الحد الاصطلاحي عنه،و هو الاجتياز و التخطّي من موضع إلى موضع،و هذا يكشف عن وجود العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة و استعماله اصطلاحا،فكما يجتاز الإنسان و يتنقل في خطاه من موضع إلى موضع، فكذلك تجتاز الكلمة بمرونتها الاستعمالية من موقع إلى موقع،و يتخطى اللفظ محله من معنى إلى معنى،مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك،لأن تلك الكلمة أو ذلك اللفظ،قد استعملا في غير ما هو موضوع لهما في أصل اللغة،و بذلك يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ،و تحميله المعاني المستحدثة بما لا يستوعبه اللفظ نفسه في أصل وضعه الحقيقي.
و الذي نخلص إليه أن الاستعمال المجازي قد أوجد صلة مبتكرة بين اللفظ في استعماله الحقيقي،و معناه الجديد المنقول إليه،إلا أن الأول ماض في طريقته اللغوية المحددة له في إرادة أصل الاستعمال المتبادر إليه في الذهن العربي،و الثاني قد اجتاز حدود الاستعمال الأولى إلى أفق جديد من الإرادة الاستعمالية المتجددة التي دلت عليها قرائن الأحوال من دون تأثير على الوضع الأولى لذلك اللفظ فهو هو في مجاله الحقيقي،و هو غيره في معناه المجازي،إلا أن هناك رابطة بين الأصل و الفرع لا بدّ من توافرها،إذا لم يكن المجاز جزافا فيما دل عليه،و قد أشرنا لذلك سابقا.
المجاز في لغة العرب فن أصيل تمتد جذوره إلى العصر الجاهلي في الاستعمال،و تشتبك فروعه في كل من الشعر و النثر على حد سواء،و قد
ص: 42
حدب الأدب الجاهلي على إعطاء نماذج حية في هذا المضمار،تجده متناثرا في المعلقات السبع شعرا،و في الخطابة و السجاعة نثرا؛و كتب الحماسة و الأدب قبل الإسلام،و منتخبات الإعلام كالضبي و الأصمعي و ابن الشجري،و أمالي المصنفين كالمرتضى و القالي،غنية بأصول هذا الفن و إرهاصاته التأريخية،نجد فيها إشاعة الحياة في الجماد،و إضافة الحس إلى الكائنات،فتجاوزت بذلك حدود الحقيقة العرفية إلى مناخ أوسع شمولا،و أبلغ تعبيرا،و أدق إرادة.
يقول المرحوم عباس محمود العقاد:«فاللغة العربية لغة المجاز،لا لأنها تستعمل المجاز،فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية،و لكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى المعاني المجردة،فيستمع العربي إلى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه،فالقمر عنده بهاء،و الزهرة نضارة،و الغصن اعتدال و رشاقة، و الطود وقار و سكينة» (1).
و كان التحرر من الضيق اللفظي،و الانطلاق في مجالات الخيال، و التأثر بالوجدان،و الحنين إلى العاطفة،و الاتساع في اللغة أساس هذا الاستعمال.
يقول ابن قيم الجوزية(ت:751 ه).
«فإن المعنى الذي استعملت العرب المجاز من أجله ميلهم إلى الاتساع في الكلام و كثرة معاني الألفاظ ليكثر الالتذاذ بها،فإن كل معنى للنفس به لذة،و لها إلى فهمه ارتياح و صبوة،و كلما دق المعنى رق مشروبه عندها،و راق في الكلام انخراطه،و لذّ للقلب ارتشافه،و عظم اغتباطه، و لهذا كان المجاز عندهم منهلا مورودا عذب الارتشاف،و سبيلا مسلوكا لهم على سلوكه انعكاف،و لذلك كثر في كلامهم حتى صار أكثر استعمالا من الحقائق،و خالط بشاشة قلوبهم حتى أتوا منه بكل معنى رائق و لفظ0.
ص: 43
فائق،و اشتد باعهم في إصابة أغراضه فأتوا فيه بالخوارق،و زينوا به خطبهم و أشعارهم حتى صارت الحقائق دثارهم و صار شعارهم» (1).
و لذلك يرى بعض البلاغيين أن المجاز هو علم البيان بأجمعه،و أنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة و البلاغة،لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل و يشجع الجبان (2).
و هبط القرآن الكريم بجزيرة العرب،فكان المعجزة الكبرى،و الثروة البلاغية العظمى،و حلم العرب بمادة مجازية ضخمة،و بدائرة انتقالية متطورة،تقرب البعيد،و تقوم الذائقة،و تشيع الإحساس،و إذا صح ما رواه ابن خلكان(ت:681 ه)من أن أبا عبيدة معمر بن المثنى(ت:206 ه) قد وضع كتابه(مجاز القرآن)لسؤال عن قوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ(65) (3)فقال إنما يقع الوعد و الإيعاد بما قد عرف مثله،و هذا لم يعرف،و عزم على وضع كتابه في القرآن في مثل هذا و أشباهه (4).
إذا صح هذا علمنا مدى تنبه الذهنية العربية مبكرا لهذا الملحظ الدقيق في استنكاه؟؟؟ مجاز القرآن،و حاجة العرب إليه،و هنا تنطلق قضية المجاز في القرآن أ هي واردة أم منتفية،و حاجة العرب للمجاز أ هي ضرورة أملتها الضائقة البيانية في لغتهم أم هي مسألة تحرر و انطلاق ذهبوا إليهما، هاتان القضيتان كتب فيهما الكثير المتناثر،أو القليل المنظم،و للوقوف عليهما و الإجابة عن أبعادهما نطرح بإيجاز ما يأتي:
1-رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن كافة، و وافقهم بعض الشافعية،و قسم من المالكية،و أبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة (5).2.
ص: 44
و قد جاء هذا الرفض بحجة أن المجاز أخو الكذب،و القرآن منزّه عنه،فإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير،و ذلك محال على اللّه تعالى (1).
و قد عقب الزركشي(ت:794 ه)على منع استعمال المجاز في القرآن بقوله:
«و هذا باطل،و لو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد و الحذف،و ثنية القصص و غيره،و لو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن» (2).
بينما حرص الجمهور و الشيعة الإمامية،و أغلب المعتزلة و من وافقهم من المتكلمين على إثبات وقوعه في القرآن (3).
و قد أفرده بالتصنيف من الشافعية عز الدين بن عبد السلام(ت:660 ه)في كتابه:الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز و الحق أنه واقع في القرآن كما ستشاهد هذا فيما بعد لدى التطبيق المجازي على عبارات القرآن الكريم.
حقا إن ابن قتيبة(ت:276 ه)قد أشار منذ عهد مبكر إلى مسألة الطعن على القرآن في هذه القضية،و ناقشها مناقشة أدبية نقدية بارعة فقال:
«و أما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب،لأن الجدار لا يريد،و القرية لا تسأل،و هذا من أشنع جهالاتهم،و أدلها على سوء نظرهم و قلة أفهامهم،و لو كان المجاز كذبا،و كل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا كان أكثر كلامنا فاسدا،لأنا نقول:«نبت البقل»و«طالت3.
ص: 45
الشجرة»و«أينعت الثمرة»،و«أقام الجبل»و«رخص السعر» (1).
و قد أيد ذلك عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)بقوله:«و أنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة،و ذلك قوله عزّ و جلّ: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ... (2)و أمثال ذلك كثير.
و من قدح في المجاز و هم أن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطا عظيما،و يهدف لما لا يخفى» (3).
2-و قد يرد على العرب إشكال في استعمال المجاز،فهل ضاقت اللغة ذرعا عن رسم الصورة الفنية للشكل أو المضمون بالاستعمال الحقيقي حتى عمد إلى الصيغ المجازية؟؟أما هذا فلا أعتقده،و لا بد من تعليل مقبول لهذه الظاهرة؛و التعليل المنطقي-فيما يبدو لي-هو الانتقال بذهن السامع إلى آفاق جديدة ذات أبعاد جديدة،و التخطي معه إلى صور رائعة و مشاهد متناسقة لا تتأتى بالاستعمال الحقيقي،و هذا يعني القيام بعملية تجديد و تطوير لأسلوب اللغة،و حسبنا مجازات القرآن شاهدا و دليلا، و مجالا للتفصيل في القول.
2-لقد أشار ابن جني(ت:392 ه)إلى أن المجاز لا يقع في الكلام و يعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة هي:الاتساع،و التوكيد، و التشبيه،فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة (4).
و لا نريد أن نناقش ابن جني في هذا الاتساع أو التوكيد أو التشبيه كما فعل ابن الأثير في متابعته هذه الوجوه فهذا ما لا طائل معه (5).
بل نقول:إن المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة فكلاهما1.
ص: 46
يهدف إلى الفائدة المتوخاة من الكلام،لأن الكلام«إنما هو مبني على الفائدة في حقيقته و مجازه» (1).
لهذا كانت الآراء المتطرفة مرفوضة تطبيقيا و نظريا حينما أنكرت المجاز تارة،و الحقيقة تارة أخرى،من قبل فريقين من الآراء المسرفة في الأحكام،لهذا كان ما أورده العلوي(ت:749 ه)يعد بحق قولا فاصلا إذ وفق إلى إيجاد مقارنة سليمة في الموضوع.قال العلوي:
«إن من الناس من زعم أن اللغة حقيقة كلها،و أنكر المجاز،و زعم أنه غير وارد في القرآن و لا في الكلام.و منهم من زعم أن اللغة كلها مجاز،و أن الحقيقة غير محققة فيها،و هذان المذهبان لا يخلوان من فساد؛فإنكار الحقيقة في اللغة إفراط،و إنكار المجاز تفريط،فإن المجازات لا يمكن دفعها و إنكارها في اللغة،فإنك تقول:«رأيت الأسد» و غرضك الرجل الشجاع،و قوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ (2)وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ... (3)إلى غير ذلك.و لا يمكن إنكار الحقائق كإطلاق الأرض و السماء على موضوعيهما،و أيضا فإنه إذا تقرر المجاز وجب القضاء بوقوع الحقائق،لأنه من المحال أن يكون هناك مجاز من غير حقيقة.فإذا بطل هذا القول فالمختار هو الثالث،و هو أن اللغة و القرآن مشتملان على الحقائق و المجازات جميعا،فما كان من الألفاظ مفيدا لما وضع له في الأصل فهو المراد بالحقيقة،و ما أفاد غير ما وضع له في أصل وضعه فهو المجاز» (4).
و الحق أن ما قرره العلوي هو المختار،و هو ما نأنس به و نميل إليه، فليست اللغة كلها حقيقة،و ليست كلها مجازا،بل هي خليط من هذا و ذاك،و مع هذا تبقى الحقيقة و هي«اللفظ الدال على موضوعه الأصلي» (5)هي الأصل المشرع في الاستعمال،و يظل المجاز فرعا عن ذلك الأصل،1.
ص: 47
و ما لم يحقق المجاز مزية فلا يعدل إليه عن الحقيقة.و لعل ابن الأثير (ت:637 ه)يقرر هذا بقوله:«و اعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة و على طريق المجاز باختلاف لفظه،فانظر:
فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحمل إلا على طريق الحقيقة لأنها هي الأصل،و المجاز هو الفرع،و لا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلا لفائدة» (1).
و كنا قد قررنا في بحث سابق أنه:إنما يعدل إلى المجاز إذا كان فيه زيادة في الفائدة،و استيعاب للمعنى الحقيقي بإضافة معنى جديد ينتقل إليه ذهن السامع،و هذا الانتقال بذهن السامع ذو قيمة فنية في شمولية اللفظ العربي و مرونة استعماله،و على هذا فالمجاز حدث لغوي يفسر لنا تطور اللغة بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة،و المعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراك حقائقها إلا بالتعبير عنها،و التصوير اللفظي لها،و المجاز خير وسيلة للتعبير عن ذلك بما يضيفه من قرائن،و ما يضفيه من علاقات لغوية جديدة توازن بين المعاني و الألفاظ في الشكل و المضمون (2).
و على هذا فالاستعارة و التمثيل و التشبيه إنما تتحقق بالمجاز،و لا يتحقق هذا في الكلام الموضوع بموقعه من الأصل اللغوي،فلا استعارة و لا تشبيه و لا تمثيل و لا تجوز في الاستعمال الحقيقي،لذلك كان الاستعمال المجازي غنيا بطاقات و إمدادات بيانية،تجدد معالم اللغة، و تلون أفكار الألفاظ،و تحرر جمود المعاني،و تحتل الصدارة في أركان البلاغة،
و تأسيسا على ما سبق؛فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة،و تركيزه على استكناه الصور الإبداعية،ينطبق على
ص: 48
التشبيه و الاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين؛مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث،و لذا فقد يلتبس الأمر بين المجاز من جهة و التشبيه و الاستعارة من جهة أخرى؛و للتفريق بين هذه المتقاربات ينظر إلى الكلام عن كثب:
أ-فإن أريد فيه التوسع في الكلام مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب-و إن أريد فيه التشبيه في ذكر المشبه و المشبه به و أداة التشبيه مع وجود وجه الشبه،أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه،أو انعدام وجه الشبه من جهة،و توافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه أو حذفهما معا،فهو التشبيه.
ج-و إن أريد التشبيه في ذكر الشبه و حذف المشبه به فهو الاستعارة (1).
و على هذا فالتشبيه و الاستعارة بالمعنى العام للمجاز جزءان منه؛ و فرعان عن أصله،و لكن التحديد الدقيق يقتضي الفصل بينهما،لأن في المجاز توسعا و تجوزا في الألفاظ يختلف عما يراد بهما في التشبيه و الاستعارة.
و ينظر في هذا التفريق-مضافا لما أوردناه-في كتب البلاغيين المتأخرين عن عصر الجاحظ(ت:255 ه)لأن الجاحظ كمعاصريه يعبر عن الاستعارة و التشبيه و التمثيل جميعا بالمجاز،و يبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ الفنية التي يطلق عليها اسم المجاز،و هي عبارة عن مجموعة الصور البيانية التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية من حيث عناصرها في الشكل (2).
و يعلل هذا الملحظ عند الجاحظ و معاصريه في إطلاق صفة الاستعمال المجازي على هذه العناصر بأمرين:4.
ص: 49
الأول:إرجاع صنوف البيان العربي و تفريعاته إلى الأصل،و هو المجاز بمعناه الواسع.
الثاني:عدم وضوح هذه المصطلحات في مفهومها و دلالتها و دقتها مستقلة كما هو الحال في استقلاليتها و وضوحها فيما بعد عصر الجاحظ عند كل من الرماني(ت:386 ه)و الشريف الرضي(ت:406 ه)و عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)و لهذا فحديث الجاحظ و أبي عبيدة و الفراء و من تابعهم:«عن التشبيه و الاستعارة و التمثيل و الكناية و المجاز هو حديثنا اليوم عن الخيال،و عن الصورة الشعرية» (1).
و في الرجوع إلى مصنفات الشريف الرضي(ت:406 ه)و عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)و الزمخشري(ت:538 ه)و فخر الدين الرازي(ت:606 ه)يتجلى التفريق الدقيق بين هذه المصطلحات فضلا عن السكاكي(ت:626 ه)الذي حصرها حصرا إلزاميا.
المجاز نوعان:لغوي و عقلي فاللغوي ما استفيد عن طريق اللغة و مدركات اللسان،و العقلي ما استفيد عن طريق العقل و إيحاءات الفطرة.
و تأسيسا على هذا ينتهي عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)إلى أن المجاز ذو شقين:مجاز عن طريق اللغة،و هو المجاز اللغوي،و مضماره الاستعارة و الكلمة المفردة.و مجاز عن طريق المعنى و المعقول،و هو المجاز الحكمي على حد تعبيره،و توصف به الجمل في التأليف و الإسناد (2).
و قد فرق بينهما و قال:إنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، و إذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة (3).
و كل من المجازين اللغوي و العقلي لا يدرك إلا في التركيب،و وراء
ص: 50
كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي من الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1).
و هذا التقسيم لم يكن معروفا بدقته هذه،بل كان المجاز،بجملته كليا يشمل صور البيان المختلفة الرئيسية فضلا عن الأقسام الفرعية،كما هو الحال عند الجاحظ(ت:255 ه)كما أشرنا لذلك سابقا،أو كما عالج قوله تعالى عند التطبيق: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10) (2)يعدها من باب المجاز و التشبيه على شاكلة قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ (3)،فعنده أن هذا قد يقال لهم:و إن شربوا بتلك الأموال الأنبذة،و لبسوا الحلل،و ركبوا الدواب،و لم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل،و قوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً مجاز آخر...فهذا كله مختلف،و هو كله مجاز (4).
و يبدو أن هذا التقسيم فيما اختطه عبد القاهر هو الذي اقتفى أثره المقسمون من بعده،فهذا الرازي(ت:606 ه)يقسمه إلى مجاز في الإثبات و مجاز في المثبت،و هما العقلي و اللغوي،و عنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة،و إن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد (5).
و هو عيال على عبد القاهر في التقسيم و التعبير و اختيار ألفاظ المصطلح.
و في هذا الضوء نجد السكاكي(ت:626 ه)يقسم المجاز إلى قسمين:لغوي و عقلي،و اللغوي إلى قسمين:خال من الفائدة و متضمن لها،و يسميه الاستعارة.ا.
ص: 51
إلا أننا نجد السكاكي يغض النظر عن المجاز العقلي،و يؤكد اللغوي،و كأنه يميل إلى عده أساس المجاز،ثم يعقب على ذلك بتقسيمات،ثم يشرح كل قسم شرحا وافيا فيه دقة المناطقة،و روح الفلاسفة،و يضرب على ذلك الشواهد الأمثلة (1).
و يختار الخطيب القزويني(ت:739 ه)تقسيم المجاز إلى مفرد و مركب:
أ-أما المفرد فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب،على وجه يصح مع قرينه عدم إرادته.
و المجاز المفرد على أقسام:لغوي و شرعي و عرفي؛فاللغوي:
كالأسد في الرجل الشجاع،و الشرعي كلفظ«الصلاة»إذا استعمله المخاطب لعرف الشرع في الدعاء.و العرفي عنده نوعان:العرفي الخاص كلفظ«فعل»إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث.
و العرفي العام كلفظ(دابة)إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (2).
ب-و أما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه.
و قد قسم المجاز إلى مرسل و استعارة (3).و يبدو مما سبق أن للمجاز نوعين رئيسين هما المجاز العقلي و المجاز اللغوي،و أن لهما فروعا لا يعنينا الخوض بتفصيلاتها كثيرا،كما هو الحال بالنسبة للقسمين الرّئيسين، إذ بهما يتجلى سبق المجاز إلى استيعاب صور البيان.
و الطريف أن نشاهد السكاكي منكرا للمجاز العقلي كما سبق الإشارة إلى هذا،و يوافقه على ذلك القزويني و يعده مجازا بالإسناد،و قد أخرجه من علم البيان و أدخله في علم المعاني (4).1.
ص: 52
و قد أنكره صاحب الطراز فقال«و المختار أن المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية،و لا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية» (1).
بينما نجد الزركشي(ت:794 ه)يعد المجاز العقلي هو الذي تتكلم به أهل الصنعة فيقول عنه:«و هو أن تستند الكلمة إلى غير ما هي له أصالة لضرب من التأول،هو الذي يتكلم فيه أهل اللسان» (2).
غير أننا نجد القرآن الكريم-و هو أرقى ما يتكلم به أهل اللسان صناعة-حافلا بنوعي المجاز،لذا فالمجاز بنوعيه العقلي و اللغوي سيكون محور الدراسة الآتية.
و لما كان المجاز اللغوي ذا فرعين في التقسيم البلاغي،لأن مجاله رحاب اللغة في مرونة الاستعمال،و صلاحيتها في الانتقال من معنى إلى معنى مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد لوجود المناسبة بينه و بينها،و توافر الصلة بين المعنى الأولي و الثانوي.
فإن كانت العلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي، فهو الاستعارة،و قد عقدنا لها فصلا خاصا،و إن لم تكن العلاقة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجاز هي المشابهة،فهو المجاز المرسل.
أقول لمّا اشتمل المجاز اللغوي على هذين الفرعين و قد خصصنا الاستعارة بفصل خاص،كان الحديث عنه مختصا بالمجاز المرسل، و سيكون الحديث مقتصرا عليه بعد استيفاء مبحث المجاز العقلي بإذن اللّه.
و هو المجاز الذي نتوصل إليه بحكم العقل،فيثير الإحساس بطريقة استعماله،و يهز الشعور بنتائج إرادته،فالألفاظ لم تنقل عن أصلها اللغوي،فدلالتها على ذاتها بذاتها،و الكلمات لم تجتز وضعها في الأصل
ص: 53
إلى مقارب له أو مشابه،و إنما يستشعر بهذا المجاز عن طريق التركيب في العبارة،و الأسناد في الجملة،فهو مستنبط من هيئة الجملة العامة، و مستخرج من تركيب الكلام التفصيلي دون النظر في لفظ معين أو صيغة منفردة.
و من خلال هذا المنظور المتطور تبدو طريقة الاستعمال المجازي بإطار جديد،و بنتاج جديد،و بأسلوب جديد.
و يعود كشف هذا النوع من المجاز إلى عبد القاهر الجرجاني(ت:
471 ه)دون منازع،فهو مبتكره كما نرى ذلك و يراه الدكتور طه حسين (ت:1973 م)من ذي قبل (1).
و يسمي عبد القاهر هذا المجاز مجازا عقليا تارة،و مجازا حكميا تارة أخرى،و مجازا في الأثبات بسواهما،و إسنادا مجازيا أو مجازا إسناديا بعض الأحايين (2).
و قد نبه صاحب الطراز إلى فكرة ابتكاره و تسميته فقال:«اعلم إن ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي هو ما قرره الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني و استخرجه بفكرته الصافية،و تابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة كالزمخشري و ابن الخطيب الرازي و غيرهما» (3).و قد تابع الجرجاني على هذه التسمية كل من الزمخشري (4)و السكاكي (5)و القزويني (6).
و لقد كان تعريف السكاكي لهذا المجاز واضحا نوعا ما خلاف عادته في التعقيد عند التقصيد فقال:
«إنه الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب4.
ص: 54
من التأويل،إفادة للخلاف لا بواسطة وضع،كقولك:أنبت الربيع البقل، و شفى الطبيب المريض،و كسا الخليفة الكعبة،و هزم الأمير الجند،و بنى الوزير القصر» (1).
و الحق أن السكاكي لم يزد شيئا عما حققه عبد القاهر في التعريف بقوله:«و حدّه أن كل كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه من العقل لضرب من التأول فهو مجاز» (2).
و ما دام عبد القاهر هو السبّاق لهذا الفن،و ما دام غيره لم يزد عليه شيئا،فسيكون حديثنا منصبا حول ما أبدعه بالدرجة الأولى:
1-لقد حقق عبد القاهر في المجاز الحكمي عنده،و العقلي عنده و عند غيره،و رأى أن وراء الكناية و الاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي،و هو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل لدى استقرار الجمل في التركيب،و النظر في مجموعة المفردات التركيبية للكلام،و قد فصل القول بهذا في حدود معينة في كتابيه الدلائل و الأسرار.
يقول في دلائل الأعجاز:
«اعلم أن طريق المجاز و الاتساع...أنك ذكرت الكلمة و أنت لا تريد معناها،و لكن تريد معنى ما هو ردف له شبيه.فتجوزت بذلك في ذات الكلمة و في اللفظ نفسه.و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل.و هو أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط،و تكون الكلمة متروكة على ظاهرها،و يكون معناها مقصودا في نفسه،و مرادا من غير تورية و لا تعريض.
و المثال فيه قولهم:نهارك صائم و ليلك قائم،و نام ليلي،و تجلى همي،و قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ... (3).6.
ص: 55
و قول الفرزدق:
سقاها خروق في المسامع لم تكن علاطا و لا مخبوطة في الملاغم
و قد عقب على هذه النماذج بقوله:
«أنت ترى مجازا في هذا كله،و لكن لا في ذوات الكلم،و أنفس الألفاظ،و لكن في أحكام أجريت عليها.أ فلا ترى أنك لم تتجوز في قولك:نهارك صائم و ليلك قائم في نفس«صائم»و«قائم»و لكن في أن أجريتهما خبرين على الليل و النهار،كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت»نفسها،و لكن في إسنادها إلى التجارة.و هكذا الحكم في قوله سقاها خروق،ليس التجوز في نفس«سقاها»و لكن في أن أسندها إلى الخروق.أ فلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه و حقيقته؟فلم يرد بصائم غير الصوم،و لا بقائم غير القيام،و لا بربحت غير الربح،و لا بسقت غير السقي...» (1).
2-و عنده-في أسرار البلاغة-أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل،و إذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة (2).
و مسألة الاثبات و المثبت نشير لها توضيحا فيما يأتي:
أ-قال تعالى يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ... (3).
فإن الجعل هو الوضع،و الوضع حاصل و هو المثبت،و لا مجاز فيه،و لو تحقق لكان مجازا لغويا و لا شاهد فيه،و إنما المجاز في الآية في الإثبات،و هو فيها الأصابع،لأن المراد حقيقة بهذا الوضع:ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع-و هو عادة:
الأنامل فحسب و الأنامل بعض الأصابع،و هنا تحقق المجاز في الإثبات، و هو الأصابع لإرادة الأنامل منها،لأن المثبت و هو أصل الوضع حاصل على حقيقته.9.
ص: 56
و كما ينطبق هذا في المجاز العقلي فإنه ينطبق أيضا في المجاز اللغوي،و يكون من باب إطلاق الكل و إرادة الجزء.
ب-و مثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ...(122) (1)«و ذلك أن المعنى و اللّه أعلم على أن جعل العلم و الهدى و الحكمة حياة للقلوب على حد قوله عزّ و جلّ: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا... (2).
فالمجاز في المثبت و هو الحياة،فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف إلى أن الهدى و العلم و الحكمة فضل من اللّه و كائن من عنده...
فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على التشبيه،فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات ما ضرب الحياة مثلا له فعلا للّه تعالى و لا حقيقة أحق من ذلك» (3).
3-و يتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل المتكامل بين المجاز اللغوي و المجاز العقلي،بما يشبه الحكم القاطع الذي تردد معه،و لا تراجع عنه،فيقول:
«و مما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته إلى دلالة اللغة،و جعله مشروطا فيها محال، لأن اللغة تجري مجرى العلامات و السمات،و لا معنى للعلامة و السمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه و خلافه» (4).
4-و في ضوء هذا الفهم للمجاز الحكمي عند عبد القاهر نجد الزمخشري(ت:538 ه)يخرج المعنى الكامل مخرج المجاز في المثل القرآني و هو قوله تعالى:7.
ص: 57
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(41) (1) .
فقد حملها على الإرادة المجازية في النظر العقلي،ناظرا التركيب الجملي دون اللفظ المفرد في الآية فقال:
«أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز فكأنه قال:و إن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون» (2).
و الزمخشري هنا يعلل هذا الحمل المجازي،بصحة ما اعتمدوا عليه في دينهم ببيت العنكبوت،و إذا كان أوهن البيوت هو بيت العنكبوت،فقد ثبت أن دينهم الذي يعتنقونه هو أوهن الأديان،و أعجزها،فعلق حمل الآية مجازيا على قضية منطقية قياسية ذات طرفين:صغروي و كبروي،و من ثم كانت النتيجة:أن أوهن الأديان هو دينهم،و لكنه تعالى عبر عنه تعبيرا مجازيا:أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.و هو استخراج دقيق فيما أحسب (3).
5-و الحق أن انتشار المجاز العقلي في القرآن يوحي بأصالة استعماله البلاغي في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق،و لما كان هذا المجاز إنما يعرف باعتبار طرفيه و هما المسند و المسند إليه،لأنه يكون في الجملة و يقع في التركيب كما أسلفنا،و لا علاقة له باللفظ المفرد كالاستعارة،و لا الكلمة الواحدة كالمجاز المرسل،فإن هذين الطرفين لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي:
أ-الطرفان حقيقتان،و لا علاقة لهما بالمجاز إلا بضم بعضهما إلى البعض الآخر،كقوله تعالى: وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها(2) (4)فإن الإخراج حقيقي،و الأرض حقيقية،و لا مجاز بهما،و لكن المجاز مستنبط من اقترانهما.2.
ص: 58
ب-الطرفان مجازيان:نحو قوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ... (1)
فالربح هنا مجازي،و لا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضاعة، و التجارة هنا مجازية،فلا يراد بها المعاملات السوقية،و إنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة و عدم خسران الإعمار،و المراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة و صالح الأعمال.
ج-الطرفان مختلفان كقوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ (2)فإن نسبة إيتاء الأكل إلى الشجرة مجازية،لأن المؤتي هو اللّه تعالى،و لكن الأكل هنا حقيقة،و هو ثمرة الشجرة،فكان أحد الطرفين مجازيا و الثاني حقيقيا.
6-و من البديهي أن نلمس في المجاز العقلي،و إن كان متعلقا بالإسناد لا بالألفاظ قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي،و قد قسموا هذه القرينة الدالة على ذلك إلى:
أ-قرينة لفظية:و تستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضوع المجازات باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات،و توحي بها العبارات، كقوله تعالى:
وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي... (3) فعبر سبحانه و تعالى عن الإرادة من كونه على سبيل المجاز بقيل،و إنما هي أمر كائن لا محالة، و كانت قرينة هذا المجاز خطاب الجماد،و هو لا يخاطب«يا أرض»و«يا سماء»إذ هو ليس مما يعي الخطاب،أو يدرك الامتثال،فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.
ب-قرينة غير لفظية،و تستفاد من الجملة باستحالة صدور ذلك الشيء من فاعله عقلا،و إنما يكون من آمره،و في نطاق مقدوره و دائرته، كقوله تعالى:4.
ص: 59
وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22) (1) .
فالمجيء هنا لأمر اللّه و قدرته و قوته و إرادته،و ليس لذاته القدسية، لأنه لا يوصف بالذات المتنقلة القادمة أو الذاهبة أو المتحركة،تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
و ما يقال هنا يقال في قوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ...(82) (2)فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها،فيكون التقدير:أهل القرية.
و ما أستفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية،بل بقرينة معنوية حالية، أدركها العقل و اقتضاها المقام.
و قد تفنن علماء البلاغة،بإبراز علاقات هذا المجاز باعتباراته الخطابية و الأسلوبية،و هذه العلاقات ما هي إلا وجوه يقع عليها هذا المجاز،و يدور في فلكها،نكتفي بإيراد أشهرها ذيوعا،و أكثرها استعمالا في القرآن الكريم،كأنموذج أعلى تقتفي خطاه الاستعمالات الأخرى في اللغة العربية،فما يرد في كلام البلغاء من العرب يقاس عليه،و ما يستنبط منه يرجع إليه:و فيما يأتي نستعرض ملخصا إجماليا، و قد يكون إحصائيا في الوقت نفسه،بوجوه المجاز العقلي،مطبقة على نماذج من كتاب اللّه.
1-السببية،هي أكثر الوجوه استعمالا في القرآن الكريم،و أشهر العلاقات ارتباطا فيه،و أمثلته متوافرة في حدود كثيرة لا تحصى،و معالمه منتشرة لا تستقصى،إذ كثيرا ما يطلق هذا المجاز في القرآن مسندا إلى السبب،و إن بدا العامل فيه الفاعل،و لكن التحقيق يبدي خلاف ذلك مما يوحي بطبيعة إرادة المجاز:
أ-قال تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً (3)فقد نسبت
ص: 60
زيادة الإيمان في الآية إلى آيات اللّه تعالى و لما كان الأصل في الإيمان و زيادته هو التوفيق الإلهي الصادر عن اللّه تعالى،علم أن زيادة الإيمان هنا بالنسبة للآيات مجاز عقلي بوصفها سببا فيه.
ب-قال تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (1).
فخطاب فرعون لهامان فيما اقتصه القرآن الكريم،لا يوحي بأنه متولي هذا البناء بنفسه،و لكنه المأمور به،إذ لم يباشر البناء،و إنما بناه عماله و فعلته،و لما كان هامان سببا في بناء هذا الصرح،أسند إليه الفعل مجازا،و علم أن وجه ذلك السببية.
ج-قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ(28) (2)فقد أضافت الآية إحلال البوار إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا،و ذلك بسبب من سوء أعمالهم و كفرهم و طغيانهم،و كان ذلك نتيجة لكفرهم و سبب كفرهم إطاعتهم أكابرهم بالكفر،في حين أن الذين أحل هؤلاء و هؤلاء دار البوار-على سبيل العقوبة و المجازاة-هو اللّه تعالى، فنسبة الإحلال لهم كان بسبب كفرهم،و إن كان الفاعل الحقيقي هو اللّه تعالى،فعلم بهذا استخلاص المجاز العقلي بالسببية.
2-الزمانية،و ذلك فيما بني فيه الكلام للفاعل و أسند للزمان،و لا أثر للزمان في ذلك،و إنما اعتبر الزمان باعتبار الإسناد إليه،و العامل و المؤثر غيره،و أبرز مصاديقه من القرآن الكريم قوله تعالى: وَ الضُّحى(1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى(2) (3).
فسجى بمعنى سكن،و الليل و إن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة التي قد توصف بالهدوء حينا و بالفعالية حينا آخر،و إنما المراد به سكون الناس فيه عن الحركات،و خلودهم فيه إلى السبات،و استسلامهم إلى الراحة.2.
ص: 61
قال الراغب:(ت:502 ه)«و هذا إشارة إلى ما قيل:هدأت الأرجل» (1).
فهو يعني بذلك هدوء الناس بهدوء حركاتها المنطلقة من أرجلها و جوارحها.و وجه هذا المجاز هو الزمانية التي صدر فيها الحدث.
3-المكانية،و ذلك فيما بني فيه الكلام للفاعل و أسند للمكان،و لا أثر للمكان في ذلك،و إنما اعتبر المكان باعتبار الاسناد إليه،و العامل الحقيقي غيره،فلما أسند للمكان كان مجازا عقليا بسببه،و أبرز مصاديقه من القرآن الكريم،التعبير عن جريان الأنهار في عدة آيات كريمة،منها قوله تعالى:
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ...(35) (2) و الأنهار وعاء للماء و مستقر له،و هي ثابتة غير متنقلة،و هي مكان الجري، و ما يجري فيها هو الماء،فلما أسند الجري إلى الأنهار علم بالضرورة أنه مجاز لأن الماء هو الجاري،إلا أن مكانه الأنهار،فعبر عن جريان ذلك الماء بجري الأنهار بوصفها مكانا له.
4-الفاعلية:فيما بني فيه الكلام للمفعول و أسند للفاعل الحقيقي:
و قد ينظر لهذا بقوله تعالى:
وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً(45) (3) .
فمستور هنا بمعنى ساتر على قول يعتد به،و لم ينقل هذا اللفظ عن وضعه الأصلي في اللغة ليعد مجازا لغويا،و إنما المراد به عين لفظه، و إنما كانت صيغته دالة على الفاعل و إن وردت بصيغة المفعول.
فعن الأخفش:«أراد حجابا ساترا،و الفاعل قد يكون في لفظ5.
ص: 62
المفعول،يقال مشئوم و ميمون،إنما هو شائم و يامن» (1).
و هذا استعمال مطرد في اللغة العربية،مرده المجاز العقلي بإطلاق صيغة المفعول و إرادة الفاعل.
5-المفعولية:فيما بني فيه الكلام للفاعل،و أسند إلى المفعول به الحقيقي،و مثاله قوله تعالى-:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ(7) (2) .
و المراد بها عيشة راضية لأن الرضا يقع عليها و لا يصدر منها،فعلم بذلك مجازيتها.قال الطبرسي: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ(7) .أي معيشة ذات رضى يرضاها صاحبها» (3).
6-المصدرية،و هو فيما بني فيه الكلام للفاعل،و أسند إلى المصدر،مع قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي،و مثاله قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ(13) (4)فقد أسند الفعل إلى مصدره«نفحة»و لم يسند إلى نائب فاعله الحقيقي،و ذلك لعلاقة المصدرية التي نقلت الكلام إلى مجازه العقلي.
و ليس ملزما لأحد ما ذهب إليه بعضهم من أن هذا المجاز من مباحث علم الكلام و أولى به أن يضم إليها،لأنه كما اتضح من تفصيلات عبد القاهر،و إشارات القزويني،يعد كنزا من كنوز البلاغة،و ذخرا يعمد إليه الكاتب البليغ و الشاعر المفلق و الخطيب المصقع،و ليس أدل على ذلك من أن القدماء استعملوه في كلامهم،و أن القرآن الكريم حفل بألوان شتى منه،و أن البلاغيين و النقاد أشاروا إليه و ذكروا أمثلته،و إن لم يطلق عليه الاسم إلا مؤخرا على يد عبد القاهر.و هذا كله يدل على أن المجاز العقلي لون من ألوان التعبير،و أسلوب من أساليب التفنن في القول،و لا3.
ص: 63
يخرجه من البلاغة إفساد المتأخرين له،و إدخال مباحث المتكلمين فيه عند تعرضهم للفاعل الحقيقي (1).
و تسميته بالمرسل نابعة من كونه غير مرتبط بقيود،فالإرسال في اللغة الإطلاق،و أرسله أطلقه،و لما كانت الاستعارة مقيدة بادعاء أن المشبه من جنس المشبه به،كان المجاز المرسل مطلقا من هذا القيد.
و لعل الإمام عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)هو أول من تنبه إلى الفروق المميزة بين الاستعارة و المجاز المرسل في حديثه عن المجاز اللغوي حينما يقرن بالاستعارة،و تكون علاقته غير المشابهة (2).
و يبدو أن السكاكي(626 ه)أول من أطلق هذه التسمية عليه (3).
و قد عرفه الخطيب القزويني(ت:739 ه)متابعا السكاكي بقوله:
«و هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه و ما وضع له ملابسة غير التشبيه،كاليد إذا استعملت في النعمة،لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة،و منها تصل إلى المقصود بها،و يشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولي لها،فلا يقال:اتّسعت اليد في البلد،أو اقتنيت يدا، كما يقال:اتّسعت النعمة في البلد،أو اقتنيت نعمة،و إنما يقال:جلت يده عندي،و كثرت أياديه لديّ و نحو ذلك» (4).
و في هذا التعريف و التنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي و المعنى المجازي بالنسبة لليد،فهي و إن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان،إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة، و البطش في مقام القوة،و الضرب عند الانتقام مثلا،و بها يتعلق الأخذ و العطاء،و المنع و الدفع،و الصد و الرد،و كل صادر عنها بعلاقة هي غير
ص: 64
المشابهة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي،و إنما بالأثر و القوة و القدرة،و لا مشابهة بينه و بين الجارحة نفسها.و خير نموذج في القرآن لبيان علاقة غير المشابهة في المجاز المرسل؛قوله تعالى: وَ اللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (1).
فكلمة«محيط»على الصعيد المجازي،تبرز ذات دلالة،تتعدى معنى الإحاطة التقليدية،فليست إحاطة اللّه هنا إحاطة مكانية،كإحاطة القلادة بالجيد،أو السوار بالمعصم،و إنما هي إحاطة مجازية،خارجة عن حدود الإحاطة المكانية،كإحاطة ذي القوة بمن ليس له حول و لا قوة،و كإحاطة ذي الشأن المتعالي بمن لا يدانيه سيطرة و إعدادا،إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان-و إن استوعبت المكان-لأن اللّه تعالى فوق حدود المكان،و إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من التوسع في اللفظ و حمله على المجاز فيكون المعنى كما أشار الزمخشري:
«و المعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة» (2).و إذا كان المعنى كذلك،علمنا أن لا مشابهة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي،فانصرف التمثيل إلى المجاز المرسل بعلاقة ما و لكنها غير المشابهة.
و مهمة المجاز المرسل مهمة لغوية،فاللفظ هو اللفظ،و المعنى لذلك اللفظ لغة،المعنى نفسه،إلا أنه في دلالته الثانوية حينما يراد به المجاز نجده قد انتقل بتطور ذهني،و بتصور متبادر إليه في السياق،فهو في حالته الأولى لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي،و إنما بقي على ما هو عليه،و قد كانت القرينة هي الصارفة عن هذا المعنى إلى سواه في الاستعمال المجازي،سواء أ كانت القرينة حالية أو مقالية.
و المجاز المرسل و إن كان مدار الحديث في الصلة بين النفس و الإرادة الاستعمالية،و رمز التطور اللغوي في الانتقال من معنى إلى معنى، إلا أننا يجب أن لا نتطرف فيه و في ادعاء انطباقه على صنوف التعبيرات1.
ص: 65
اللغوية حتى و إن أريد بها معناها الأصلي،لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان،و دلالاته البلاغية،و مما يحمل الكلام أكثر من طاقته التي تنهض به إلى مستوى التعبير الأدبي،فيعود ذلك تكلّفا مقيتا،و تمحلا مذموما ترفضهما طبيعة النصوص الأدبية الراقية.
لقد لاحظ الدكتور أحمد بدوي:أن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة القرآن الكريم،قد تكلفوا كثيرا في التماس أمثلة المجاز المرسل من القرآن،حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة،و مخالفة الذوق اللغوي،و لو أننا سرنا على منهجهم لوجدنا في كل ما ننطق به مجازا،و ليس في ذلك كبير نفع،ما دامت الكلمة لا تسترعي انتباه القارئ،و لا تستوقفه لتبين السر في استخدامها.
يقول الدكتور أحمد بدوي:«لا أريد أن أمضي في بيان ما تكلفوه، و جروا وراءه من تلمس الأسباب لعد الآيات من باب المجاز اللغوي[يريد بذلك المجاز المرسل دون الاستعارة]،و كل ما أريد قوله هنا هو أن أكثر هذه الكلمات أصبحت توحي بالفكرة من غير أن يثار في النفس المعنى المجازي.
خذ مثلا قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ(4) (1)فإنهم قالوا:إن فيه إطلاق الكل على البعض،و المراد تعجبك وجوههم،لأن الأجسام لا ترى كلها،و إنما يرى الوجه فحسب،و لا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية،فالجسم و إن كان لا يرى كله،من المستطاع أن يدرك الإنسان بنظره ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب، و لا تريد الآية:تعجبك وجوههم،و لكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة،و ما يبدو فيها من مظاهر النماء و القوة،و ما عليه وجوههم من جمال و نضرة» (2).
هذه الملحوظة و ما قاربها لا تخلو فيما يبدو من وجه سديد،إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الأدبية و دائرته الفنيةا.
ص: 66
تصيدا لمعان قد لا تراد،و وجوه قد لا تستحسن،و علاقات قد لا تستصوب.
المجاز المرسل يقوم بعملية تصوير موحية،تنتقل بالذهن إلى آفاق من المعرفة لا يحققها اللفظ على حقيقته،فمن الأفضل الاقتصار فيه على هذه العملية،فما أراده من ذلك و ساعدت عليه عملية التصوير فهو المعنى المجازي المختار،و ما احتيج معه إلى التكلف المضني،و الالتواء في الاستنباط،فالابتعاد عنه مما يتمشى مع روح البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
توسع البلاغيون في استخراج وجوه المجاز المرسل بما لا مسوغ له بلاغيا،إذا بلغ حد التفريط المتعمد في علاقات مجازية متداخلة يقتضي انفصالها و فرزها دقة فلسفية لا ذائقة بلاغية،و لا نريد نقد ذلك أو التعريض بقدر ما نريد من استنباط أهم هذه الوجوه في ضوء ما ورد في القرآن الكريم.
1-تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل،فكان ذلك الكل كأنه الشيء كله،و يمثل له البلاغيون بعدّة نماذج من القرآن الكريم منها:
أ-قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً(1) (2)فإن المراد بالقيام هنا هو الصلاة،كما هو متداول في استعمالات القرآن الكريم عند إطلاق لفظ القيام،فدلالة الكلمة تعني معنى:صل،و لما كان القيام جزءا مهما و ركنا أساسيا في الصلاة،عبر عنها به.
ب-قوله تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ...(27) (2)فإن المراد بالوجه هنا الذات القدسية للّه عزّ و جلّ و لما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على الذات،عبر به هنا عن الذات الإلهية،على طريقة العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء و إرادة الكل.
ص: 67
2-تسمية الجزء باسم الكل،و لك أن تعبر عنه بإطلاق اسم الكل على الجزء،و هو عكس النوع السابق،و مثاله قوله تعالى:
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ... (1) و المراد هو وضع الأنامل و هي جزء من كل الأصابع في الآذان«و كلمة عنها بالأصابع:الإشارة إلى أنهم يدخلون أناملهم في آذانهم بغير المعتاد،فرارا من الشدة،فكأنهم جعلوا الأصابع» (2).
3-تسمية المسبب باسم السبب،و ذلك بأن يطلق لفظ السبب و يراد المسبب،كقوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ... (3) و واضح أن إطلاق الاعتداء هنا لا يراد به الاعتداء حقيقة،بل المراد المجازاة فقط،إذ لا يأمر اللّه بالاعتداء قطعا،و إنما«سمي جزاء الاعتداء اعتداء لأنه مسبب عن الاعتداء» (4).
و عليه قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها...(40) (5)فقد عبر سبحانه و تعالى عن الاقتصاص بلفظ السيئة،و ليس الاقتصاص سيئة،و لكنه مسبب عنها.
و هذا باب مطرد في القرآن الكريم.
4-تسمية السبب باسم المسبب،و هو عكس الوجه السابق،و ذلك بأن يطلق لفظ المسبب و يراد به السبب،و نماذجه في القرآن الكريم لا تحصى،و أمثلته لا تستقصى،و يحمل عليه ما يأتي.
أ-قوله تعالى: وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً... (6)و واضح أن3.
ص: 68
الرزق لا ينزل من السماء بهيئة و كيفيته المتبادرة إلى الذهن،و إنما أنزل اللّه المطر،و كان المطر سببا في الرزق،فعبر عنه بالرزق باعتبار السببية.
ب-قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً...(10) (1).
فالمراد به أكل المال الحرام الذي تسبب عنه النار لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل.
5-تسمية الشيء باسم ما كان عليه،كقوله تعالى: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ... (2).
أي:الذين كانوا يتامى فيما مضى إذ لا يتم بعد البلوغ.و كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً... (3)سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام (4).
6-تسمية الشيء باسم ما يكون عليه،أو تسميته باسم ما يؤول إليه مستقبلا،كقوله تعالى:
إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً... (5) .
فالمجاز في الخمر باعتبار العصر و الخمر لا تعصر فهي سائل،و إنما العنب المتحول بالعصر خمرا هو الذي يعصر،فإطلاق الخمر و إرادة العنب منه باعتبار ما يؤول إليه العنب بعد العصر.
و الحق أن وجوه المجاز المرسل و علاقاته من الكثرة و الوفرة بحيث قد تستوعب أضعاف ما ذكرنا من نماذج،و قد تعقبها جملة من المتأخرين، و تفننوا باستخراجها من مظانها التصنيفية كما فعل ذلك الدكتور أحمد6.
ص: 69
مطلوب فأوصلها إلى أكثر من عشرين وجها عدا التفريعات الأخرى (1).
7-و في بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز المرسل منها: (2)
أ-إسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي، و مثاله قوله تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ...(18) (3) .
فقد أسند عصف الريح إلى اليوم،و هو دال على زمان من الأزمان، و لا تستند إليه الفاعلية حقيقة.
ب-وضع النداء موضع التعجب كقوله تعالى:
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ...(30) (4) .
فقد نوديت الحسرة و هي مما لا ينادى و لكنها جاءت في موضع العجب،و تحقق النداء في موضع التلهف على العباد.
ج-إطلاق الأمر و إرادة الخبر،و مثاله قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59) (5).
فإن لفظة كن تدل على الأمر،و لكن المراد بها الخبر و التقرير، و التقدير فيها:يكون فيكون،أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف،أي فهو يكون،و الرأي لأبي علي الفارسي (6).
د-إضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي،كقوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ (7).7.
ص: 70
فالحق و الباطل أمران معنويان،و لا يقع عليهما الضرب و هو أمر مادي،و الضرب لا يقع إلا من جارحة أو سواها على قابل،و ليس للّه جارحة،و لا الحق بقابل لذلك،و لا الباطل بموضع للضرب،و إنما هو تعبير مجازي عن محق الباطل و ظفر الحق.
ه-التغليب«و هو إعطاء الشيء حكم غيره،و قيل ترجيح«أحد المغلوبين على الآخر،و إطلاق لفظه عليهما،إجراء للمختلفين مجرى المتفقين» (1).
كقوله تعالى بالنسبة إلى مريم ابنة عمران:
وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (2) .
فغلب عليها صفة الذكور،و لو لم يرد المعنى المجازي في ذلك، لجاء بالأصل الموضوع للإناث و هو القانتات،و لكنه أطلقه على الذكور و الإناث من باب التغليب.و قد عد الزركشي ذلك من المجاز«لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له،أ لا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف،فإطلاقه على الذكور و الإناث على غير ما وضع له» (3).
و في ختام هذا الفصل لا بدّ أن نشير إلى دلالة ذات أهمية بيانية في القرآن الكريم،و هي أن القرآن في طرحه لنماذج المجاز المرسل نجده كثيرا ما يسند الفاعلية إلى الجماد،فيصفه بالحركة،و يشيع الحس بالكائنات الصامتة،فكأنها ناطقة تتكلم،و يضفي مناخ القدرة و القوة على ما لا حول له و لا قوة،اعتدادا منه بهذه الظاهرة البيانية،و لعله يريد بذلك أن يفجر روافد بلاغية جديدة ذات إطار تجددي على مجموعة الممارسات البيانية في اللغة العربية الكريمة،و لعل خير ما يمثل ذلك قوله تعالى:
وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ... (4) .2.
ص: 71
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك،فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة،و قد علم بالضرورة أن الأمن و الاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية و جدرانها،و إنما يتنعم بهما أهلها و سكانها،فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل و هو القرية على الحال فيها و هم الأهل و الساكنون.و عبر عن الرزق بأنه يأتي،و الرزق ليست له حركة و لا إرادة في التنقل و القصد،و إنما اللّه تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق،و يأتي بها-و هو الرزاق ذو القوة المتين-من كل مكان إلى هذه القرية تعبيرا عن تنعمها و عيشها الرغيد،فكان الرزق يقصدها سائرا متوافرا.
إن الذائقة الفنية تقتضي تتبع شذرات القرآن الكريم في هذا العطاء الضخم،لأنه يمثل الحس العربي الأصيل،و الإرادة الاستعمالية المتطورة، و المناخ الفني المضيء،ففي ذلك تكمن القدرة الخارقة في استيحاء التلازم الذهني،بين الأصل و الفرع في الاستعمال،و الترابط البياني في الانتقال من معنى إلى معنى،و التوسع في دلالات الألفاظ،إفصاحا عن المشاعر، و تعبيرا عن العواطف،و صيانة للغة و التراث.
ص: 72
1-حد التشبيه 2-أهمية التشبيه 3-خصائص التشبيه 4-أقسام التشبيه 5-وجوه التشبيه الفني 6-تشبيهات القرآن
ص: 73
ص: 74
التشبيه لغة:التمثيل،و هو مصدر مشتق من مادة«شبه».
قال ابن منظور:«الشبه و الشبه و الشبيه:المثل،و الجمع أشباه.
و أشبه الشيء الشيء:ماثله،و أشبهت فلانا و شابهته و اشتبه عليّ و تشابه الشيئان و اشتبها:أشبه كل واحد منهما صاحبه.و شبهه إياه و شبهه به مثله، و التشبيه التمثيل» (1).
و يبدو من هذا العرض اللغوي أن التشبيه و التمثيل بمعنى واحد عند اللغويين،و إليه يميل ابن الأثير(ت:637 ه)حينما قارن بين الصيغتين:
«يقال:شبهت هذا الشيء بهذا الشيء،كما يقال:مثلته به» (2).
و يأتي علماء البلاغة ليضعوا حدا لتعريف التشبيه اصطلاحا،و لعل من أقدمهم في ذلك محمد بن يزيد المبرد:(ت:285 ه)الذي يقول:
«و اعلم إن للتشبيه حدا،فالأشياء تتشابه من وجوه،و تتباين من وجوه، و إنما ينظر إلى التشبيه من حيث وقع» (3).
و هذا القيد من المبرد في حد التشبيه مبعثه التفريق بين الشيء نفسه، و التشبيه من جهات أخرى،و لو انعدمت المميزات لكان التشبيه عين
ص: 75
الشيء،و لو كان عينه،فهو ليس تشبيها.و إنما يعود تشبيها إذا تشابه من وجه و تباين من وجه،و هكذا.
و قد أيد وجوه التفريق و الالتقاء قدامة بن جعفر(337 ه)فقال:«إن الشيء لا يشبه بنفسه و لا بغيره من كل الجهات،إذ كان الشيئان إذا تشابها من جميع الوجوه،و لم يقع بينهما تغاير البتة اتحدا فصار الاثنان واحدا، فيبقى أن يكون التشبيه إنما يقع بين شيئين بينهما اشتراك في معان تعمهما و يوصفان بها،و افتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه بصفتها،و إذا كان الأمر كذلك فأحسن التشبيه:هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها يدني بهما إلى حال الاتحاد» (1).
أما علي بن عيسى الرماني(ت:386 ه)فيضع الصيغة الاصطلاحية المناسبة لدى تعريفه للتشبيه فيقول:«التشبيه هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حسّ أو عقل،و لا يخلو التشبيه من أن يكون في القول أو في النفس» (2).
و يبدو أن تعريف الرماني جامع مانع كما يقول أهل المنطق،إذ أبان فيه وجوه الالتقاء بين المشبه و المشبه به في العقل أو الحس،و هما اللذان يحكمان في المشاركة بين الشيئين في أمر ما،و هذا التشبيه إما أن تدل عليه دلائل قولية،أو إيحاءات نفسية.
و قد تابعه على هذا التعريف نصا أبو بكر الباقلاني(ت:403 ه) (3)و قال أبو هلال العسكري(ت:395 ه)مضيفا إلى ما سبق:«التشبيه:
الوصف بأن أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه،ناب منابه أو لم ينب.و يصح تشبيه الشيء بالشيء جملة،و إن شابهه من وجه واحد» (4).
و هذه الإضافة متمثلة بجواز نيابة أحد الموصوفين عن الآخر،صحت5.
ص: 76
نيابته فعلا أو لم تصح،لأن موقع التشبيه عادة مشترك بين حالتين تجتمعان في وجوه،و تفترقان في وجوه أخرى.
و قال ابن رشيق القيرواني(ت:456 ه):«التشبيه صفة الشيء بما قاربه و شاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة،لا من جميع جهاته،لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه» (1).
و هذا التعريف امتداد طبيعي لتعريف المبرد،و ترجمة حرفية لرأي قدامة بن جعفر كما أسلفنا.
و قد أجمل السكاكي(ت:626 ه)تقويم التشبيه بأرصن تعبير شمل آلته و مصادره،بذكر المشبه و المشبه به،و هما طرفاه،و وجه الشبه و هو جهة الاشتراك في وجه أو الافتراق في وجه آخر،و أحوال التشبيه:قريبة و بعيدة،موافقة و مخالفة،تنافرا و اتساقا،فقال:
«إن التشبيه مستدع طرفين:مشبها و مشبها به،و اشتراكا بينهما في وجه،و افتراقا من آخر،أن يشتركا في الحقيقة و يختلفا في الصفة،أو بالعكس» (2).
و هذا الاشتراك و ذلك الافتراق،أن يشبه شيء بشيء جملة،و لكن المشابهة لا تصدق بأكثر من جانب،و قد تختلف من جوانب أخرى، كالاختلاف في حقيقة الشيء مثلا،و الاتفاق في صفته.
و قد لخص القزويني(ت:739 ه)تعريف التشبيه بقوله:«التشبيه:هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى» (3).
و هذه التعريفات-كما يبدو-تدور في فلك واحد خلاصته أن التشبيه مشاركة ما في أمر ما أو أمور لأمر آخر في صفة واحدة أو صفات متعددة.
إلا أن التوافق في مجموعة الصّفات و مختلف المعاني و الجهات أحب إلى البلاغيين من غيره،و قد نظر ابن سنان الخفاجي(ت:466 ه)إلى هذا الملحظ فقال:و إنما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر8.
ص: 77
في أكثر صفاته و معانيه،و بالضد حتى يكون رديء التشبيه ما قل شبهه بالمشبه به» (1).
لهذا فالتشبيه محاولة بلاغية جادة لصقل الشكل و تطوير اللفظ،و مهمته تقريب المعنى إلى الذهن بتجسيده حيا،و من ثم فهو ينقل اللفظ من صورة إلى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور،فإن أراد صورة متناهية في الجمال و الأناقة شبّه الشيء بما هو أرجح منه حسنا،و إن أراد صورة متداعية في القبح و التفاهة شبه الشيء بما هو أردأ منه صفة.
التشبيه من أصول التصوير البياني،و مصادر التعبير الفني،ففيه تتكامل الصور،و تتدافع المشاهد،و القدر الجامع لنظرة البلاغيين إلى التشبيه:هو التفنن بإبراز الصورة البلاغية للشكل،و استقراء دلالتها الحسية،و ذلك عن طريق تسخير قدرة التشبيه الخارقة في تلوين الشكل بظلال مبتكرة و أزياء متنوعة،لم تقع بحس قبل التشبيه،و لم تجر بها العادة،و لا تعريف بداهة،إلا بلحاظ مجموعة العلاقات الفنية في التشبيه، و عند ضم بعضها للبعض الآخر تبدو محسوسة متعارفة ذات قوة وصفية متميزة،و هنا تكمن القدرة الإبداعية للتشبيه في تكييف الصورة.
و التشبيه فن أصيل عند العرب،جرى في كلامهم،و تناولته أشعارهم، و ابتنت عليه خطبهم،قال المبرد:«و التشبيه جار في كثير من الكلام-أعني كلام العرب-حتى لو قال قائل إنه أكثر كلامهم لم يبعد» (2).
و قد عده السكاكي(ت:626 ه)ركنا من أركان البلاغة لإخراجه الخفي إلى الجلي،و إدنائه البعيد من القريب،و إذا مهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السحر البياني (3).
و إذا نظرنا في عصور الأدب المختلفة وجدنا التشبيه أوضح الفنون و أكثرها
ص: 78
تعبيرا عن البيئة العربية في مختلف مشاهدها و رحابها،و في الشعر الجاهلي و صدر الإسلام كثير من صوره و ألوانه،و في كتاب الله-تعالى-جمهرة من أنواعه،جاءت لتصور المعنى أدق تصوير،و تضيف إلى الشكل أبهى الحلل و أروعها،و هي صوت لم تأت حلية أو زينة تضاف إلى التعبير، و إنما هي جزء منه.
و كان لتشبيهات القرآن أثر مهم في كلام العرب،فأدارها الشعراء في قصائدهم،و اتخذها الكتاب أساسا لتصويرهم،و كانت-أيضا-عمدة البلاغيين في ضرب الأمثلة و الموازنة بين فنون البيان المختلفة (1)و كان أداة صالحة للتدليل على إعجاز القرآن و بلاغته في معالم عديدة،حتى لم يخل منه كتاب،و لم ينب عنه باب.
و هذا ما يفسر لنا أن التشبيه لم يكن فنا طارئا،و لا علما مدخولا على البلاغة العربية،بل هو من الأسس البيانية التي وطدت دعائم الفن البلاغي بعامة،و ما ذلك إلا لخصائص و مميزات؛التصقت به فجعلته في الذروة من الفنون عند العرب.هذا بالإضافة إلى تأثيره النفسي و العقلي فإنه يتنقل بالإنسان من أفق إلى أفق،و يتخطى به من مناخ إلى مناخ،عدا الجانب البلاغي الذي يجمع إلى جنب المبالغة المهذبة الإيجاز الساحر،و إلى جنب البيان الرصين،التصوير الدقيق.
و هذا و ذاك مما جعل ابن الأثير(ت:637 ه)يعد التشبيه:«يجمع صفات ثلاثا هي المبالغة و البيان و الإيجاز» (2).
و هو مصيب بهذا الاعتبار،فالتشبيه-و هو أداة بيانية-قد جمع إلى جنب البيان المبالغة و الإيجاز.
أما المبالغة فيه:فالارتفاع بالمشبه إلى حد المشبه به من قولك في مثال ساذج:«وجهك كالقمر»فمهما بلغ حسن الوجه و بهاؤه فإنه لا يبلغ مستوى القمر في سنائه و إشراقه.و أما الإيجاز:فهاتان الكلمتان مع أداة1.
ص: 79
التشبيه في المثال الآنف،تقومان مقام إطنابك في صفة الوجه بالنور و الجمال و الاستدارة و الإشراق،و الصفات المناسبة الأخرى،و أما البيان فبحسبه أنه عبر عما في نفسك تعبيرا مؤثرا سليما بلغت به المراد.
لقد اهتمّ الباحثون قديما و حديثا في موضوع التشبيه فصنفوا فيه كثيرا،و ذلك تعبير عملي عن أهمية التشبيه و قيمته البيانية و التراثية بوقت واحد.و الدليل على أهمية التشبيه عند العرب أننا نلمس ظاهرة شائعة في بيانهم بالنسبة إليه:فإنهم قد يتجاوزون التشبيه الواحد في العبارة الواحدة إلى تشبيهات متعددة تصور بها براعة التشبيه،و دقة المعنى،دليلا على بلاغة المتكلم،و مقياسا لأصالة الشاعر،و سمة لمقدرة الخطيب.و سنلمس في المبحث الآتي في:خصائص التشبيه،جوانب مشرقة تعبر عن أهمية التشبيه في مجالات مختلفة لا سيما في القرآن الكريم الذي تدور دراستنا في فلك ضوئه الهادي.
من خصائص التشبيه في البيان العربي كونه عنصرا أساسيا في التركيب الجملي،و المعنى العام المراد لا يتم إلا به،فالنص الأدبي الممتاز لا يقصد إلى التشبيه بوصفه تشبيها فحسب،بل بوصفه حاجة فنية تبنى عليها ضرورة الصياغة و التركيب،فهو و إن كان عنصرا أساسيا يكسب النص روعة و استقامة و تقريب فهم،إلا أنه يبدو عنصرا ضروريا لأداء المعنى المراد من جميع الوجوه،لأن في التشبيه تمثيلا للصورة،و إثباتا للخواطر،و تلبية لحاجات النفس.
إنك تستطيع من خلال التشبيه تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد،دون توقف لغوي،أو معارضة بيانية،مسيطرا على الموقف من خلال تصورك لما تريد إمضاءه من حديث،أو إثباته من معنى.
يقول ابن الأثير(ت:637 ه):«إنك إذا مثلت الشيء بالشيء فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه،و ذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه،أ لا ترى أنك إذا شبهت صورة بصورة هي أحسن منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا حسنا يدعو إلى الترغيب
ص: 80
فيها،و كذلك إذا شبهتها بصورة شيء أقبح منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا يدعو إلى التنفير منها» (1).
و الذي أعتقده أن ابن الأثير قد استفاد هذا الحكم في التشبيه-و إن كان بديهيا إلى حد ما-من خلال نظره في تشبيهات العرب بعامة،و في تشبيهات القرآن بخاصة،إذ يلاحظ أن التشبيهات القرآنية قد ربطت إلى جانب الحس العاطفي تخيل الصورة في النفس،و إثارة الانفعالات الوجدانية حولها في مجالين متقابلين هما مجال الترغيب،و مجال التنفير، تمشيا مع اعتياد العرب في ذلك.
أ-أما في الترغيب فانظر إلى قوله تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ(48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ(49) (2).
أ لا ترى ما في الوصف و التشبيه في هاتين الآيتين من التراصف، و إثارة النفس،نحو التعليق بمن تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن إليها الروح،و تهش لها النفس،و يتطلع إليها الفكر مع نقاء الصورة،و لطف الاستدراج،و رقة الترغيب المتناهي،فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة إلى أزواجها فحسب عفة و خفرا و طهارة،و شبههن بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف و تشبيه من اشتد حجابه،و تزايد ستره،بأنه في كن عن التبرج،و منعة من الاستهتار.
قال ابن ناقيا البغدادي(ت:485 ه)تعقيبا على تشبيه الآيتين:
«و هذا الكلام غاية في مناسبة الوصف و مطابقته،و بلاغة معنى التشبيه و موافقته» (3).
ب-و أما في التنفير،فتزداد النفس عزوفا،و تتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا،و قد شبهت بما هو أقبح منها،حتى تبدو الاستهانة واضحة و الاشمئزاز منها متوقعا،مضافا إلى الهلع و الرعب2.
ص: 81
و التطير الذي توجده هذه الصورة الشديدة،و إن شئت فانظر إلى قوله تعالى: وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42) (1).
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا.و كيف نفر منها طبعك نفورا،فما هو شأن هذه الريح المشومة التي جاءت بعذاب الاستئصال؟و ما هي خصائصها التي أوجدها اللّه-عزّ و جلّ-و سخّرها للهلاك التام المدمر حتى عاد كل شيء أتت عليه كالورق الجاف المتحطم نظرا لشدة عصفها،و سرعة تطايرها،و خفة مرورها.
و إضافة إلى ما تقدم نلمس في تشبيهات القرآن،و هي الذروة في تشبيهات اللغة العربية الكريمة،المحاكاة في الأمور المحسوسة،و المماثلة في الإدراكات المشاهدة،لأن في التصوير الحسي،و التشبيه في المشاهدات،انتقالا من الأمور الذهنية الصرفة إلى العيان و النظر،و انصرافا من القضايا العقلية المحضة إلى انعام الحواس بما تدركه دون جهد عقلي في تصور أمر مفروض،أو معنى ذهني مجرد،لا يتحقق مصداقه في الخارج إلا بما هو حسي،فيزول-عندئذ-الغموض و الإبهام،و تدرك في ضوء ذلك حقائق الأشياء.
يقول الدكتور أحمد أحمد بدوي:«و ليس التشبيه في واقع الأمر سوى إدراك ما بين أمرين من صلة في وقعهما على النفس،أما تبطن الأمور، و إدراك الصلة التي يربطها العقل وحده فليس ذلك من التشبيه الفني» (2).
إذ الصورة التي يكدح العقل و يكد الذهن في استخراج أجزائها و ربط علاقاتها،تكاد تكون بعيدة عن الدائرة الفنية للتشبيه،لأن إدراك المعقولات بعملية عقلية خالصة،لا يكون من اليسر كإدراكها بالحسيات المشاهدة،و إن شئت فانظر إلى قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (3).4.
ص: 82
فالآية ناظرة إلى تجديد الخلق للجزاء،و بعثهم يوم القيامة،و إعادتهم بعد إفنائهم،فهذه السماء المشاهدة النيرة بالنجوم و الكواكب و الشمس و القمر سوف تطوى في ذلك اليوم كما يطوى الكتاب على ما فيه،ثم ينشر للعمل به،و الاستفادة من محتوياته،فالمشبه و المشبه به مما يدرك بالحواس الناظرة و المتصورة تصورا بدائيا لا عناء فيه و لا تكلف،تمثّلت الصورة فيه واضحة،و تحققت الفكرة بسيطة سليمة،تدرك في الأثر و الشكل و الحركة و النظام.
يقول ابن ناقيا البغدادي(ت:485 ه):
«و نقول في كيفية التشبيه أن الشيء يشبه بالشيء تارة في صورته و شكله،و تارة في حركته و فعله،و تارة في لونه و نجره،و تارة في سوسة (1)و طبعه،و كل منهما متحد بذاته،واقع من بعض جهاته،و لذلك يصح تشبيه الجسم بالجسم،و العرض بالجسم،و الجسم بالعرض،و العرض بالعرض» (2).
لهذا نجد تشبيهات القرآن باستخدامها جميع هذه الأصناف أكثر تأثيرا،و أقوى دلالة من المشبه،لتحقيق الجوانب التمثيلية من جميع جهاتها متجاوبة مع ما يحدثه هذا التنوع من تأثير على النفس،كما ستلمس هذا جليا من خلال النماذج القرآنية الآتية:
أ-حينما يريد اللّه أن يشبه قلوب بني إسرائيل قساوة استعمل المدلول الحسي لإصابة المعنى المراد فقال تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (3) .
فهذا الحجر القاسي المتصلد قد ينفجر منه الماء،و قد تجري منه العيون،و قد تشقق الأنهار،و لكن قلوبهم أشد قسوة،و أكثر غلظة،إذ ذهب لينها،و تلاشت رقتها،و ذلك غاية ما يتصور،و نهاية ما،يحتسب و ذلك أن يكون القلب أقسى من الحجر.4.
ص: 83
إن التطلع الواعي لتشبيه هذه الآية يعني اضطراب النفس حول هذا المصير المؤلم لهذا الجزء الشفاف من البدن و هو القلب،و ليس المراد هو هذا العضو الصنوبري بمركباته العضوية،و إنما المراد هو هذا العضو بما ضم بين جانبيه من مخايل الرحمة و الرقة و الهدى و الإيمان،و ما يستلزم ذلك من الهداية و الرشاد و الاطمئنان،و بهذا التشبيه تحقق نفي هذه المستلزمات جميعا عن القلب،فعاد حجارة لا تضر و لا تنفع،صماء لا تستهدي و لا تستثير.
ب-و حينما يريد القرآن الكريم التزهيد في الحياة الدنيا،فإنّه يسلك عدة سبل لذلك،و لكنه حينما يعتمد التشبيه الفني صورة حية لذلك،فإنه يعمد إلى هبات الطبيعة،و مقومات الحياة،فيصورها بما يبلغ به المراد، فتجده من خلال ذلك ينظر إلى الماء بوصفه عنصرا أساسيا في حياة الإنسان،فهو يدور معه حيث دار،و يتعلق به أنى وجد،فارتباطه به ارتباطا أساسيا في حياة الإنسان،فهو يدور معه حيث دار،و لكنه مع ذلك ينتفع به انتفاعا محدودا قدر الحاجة،و ما زاد على ذلك فهو سارب في سبيله،لا دوام له و لا بقاء،فعمد إلى تشبيه الحياة الدنيا به من خلال هذا الملحظ الدقيق في محاولة تفرض التأثير على النفس،و توجه الانتباه المتزايد،فقال تعالى:
وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً(45) (1) .
لهذا يرى الأستاذ محمد المبارك بمثل هذه الطريقة القرآنية نوعين من المعرفة:فكرية و فنية«فهي من الوجهة الفكرية:نوع من القياس و الحكم بالنظائر و الأشباه،و من الوجهة الفنية نوع من التشبيه الموسع على صور جذابة» (2).
ج-و حينما يرصد القرآن الكريم البيئة المختلفة لطبقة من الناس همها علفها،و شغلها تقممها،لا تفكير لها إلا في الملذات،و لا أمر عندها إلا7.
ص: 84
في ظلال الشهوات،فالمتعة لا تتحقق لديهم إلا بانتقاء الأطعمة،و الحياة لا تصفو إلا بأطايب المأكولات،عمد إلى تصوير حالهم مع كفرهم، و كونهم بذلك لا يرجون إلا الحياة الدنيا،و لا يعملون إلا لها،فقال تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ... (1)و قد عقب ابن ناقيا البغدادي على ذلك فقال:«معنى تشبيههم بالأنعام في الأكل التخسيس لهم،و الازدراء بهم في هذه الحال،و وصفهم بالجهل و الدناءة،و أنهم يأكلون للشره و النهم كالبهائم.و ذلك أن الأكل على ضربين:أكل نهمة، و أكل حكمة،فأكل النهمة للشهوة فقط،و أكل الحكمة للشهوة و المصلحة و العرب تمدح بقلة الأكل و خفة الرزء،كما تذم بالرغب و البطنة و الشره» (2).
هذه الصور الثلاث التي سقناها مثلا على خصائص التشبيه نلاحظ فيها الجانب النفسي مقترنا إلى الجانب الفني،و الغرض الديني مساوقا للغرض البياني.ففي النموذج الأول،رأينا القلب القاسي مشبها بالحجارة بل هو أقسى منها،و هي صورة حية يتخيلها الفكر بلمحة خاطفة و نظرة فاحصة بوقت واحد.
و في النموذج الثالث:رأينا الصورة الباهتة المشوهة للذين كفروا، بأن شغلهم منحصر فيما يأكلون،و لذلك فقدرهم من خلال هذا ممثل بنتيجة ما يأكلون.
في كل هذه النماذج القرآنية نرى العلاقة قائمة بأصالة متناهية بين المشبه و المشبه به.لهذا نجد البلاغيين بحق قد اشترطوا وجود العلاقة بين المشبه و المشبه به بما يتناسب مع الإدراك،لأنه تقويم للتشبيه من الولوج بباب الإيغال و الإيهام،و هذا يقتضي أن ينسجم التشبيه في طرفيه بما تسيغه الحواس المختلفة،لأن الجوانب الحسية قلما تتداخل مع بعضها،و تختلف باختلاف الحواس عند الإنسان،فهي تدرك حينا بالعين المجردة،و تدرك حينا بالعقل الفطري،و تدرك حينا بالواقع الملموس المشاهد،لئلا تتهافت5.
ص: 85
الصور في التشبيه فتعود شاحبة غير متجانسة،أما إذا كانت متجانسة-كما هي الحال-في النماذج السابقة فقد اقتربت من الفهم،و استقرت في المخيلة،بما تمليه طبيعة إدراك الحواس لها،و ذلك عند ضم بعضها إلى البعض الآخر بإطار من الوضوح و القرب و التكافؤ.
أجمع البلاغيون أن للتشبيه أربعة أركان هي:المشبه و المشبه به، و هما طرفا التشبيه.و وجه الشبه،و أداة التشبيه.هذه الأركان الأربعة نستطيع من خلالها تقسيم التشبيه تقسيما متطورا يختلف عما جرى عليه الأكثرون من البلاغيين الذين عدوا أفراد التشبيه كالتشبيه الضمني و التشبيه المقلوب و أضرابهما أقساما له.
ينحصر تقسيمنا للتشبيه باعتبارين مهمين نلحظ فيهما الوجهة الفنية، و الحصيلة البيانية للتشبيه،غير ناظرين في التقسيمات التقليدية في تعداد مفردات التشبيه و أفراده.هذان الاعتباران هما:التشبيه باعتبار طرفيه:
المشبه و المشبه به،و التشبيه باعتبار وجه الشبه،و لا كبير أمر باعتبار أداة التشبيه.
قسم التشبيه باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام:
فهما إما حسيان،أو عقليان،أو المشبه به حسي،و المشبه عقلي، أو المشبه به عقلي و المشبه حسي (1).
و سنرصد هذه الأقسام الأربعة أساسا في نسبة توافرها في القرآن الكريم.فالقسم الأول من هذه الأنواع يشكل حجر الزاوية في تشبيهات القرآن،و كذلك القسم الثالث،أما الثاني فسنجد نماذجه أقل درجة منهما، و أضيق حدودا بالنسبة لهما،و أما القسم الرابع و هو تشبيه الحسي بالعقلي فهو قليل في القرآن الكريم،و السبب في ذلك من خلال تصوري القاصر
ص: 86
هو:أن مهمة التشبيه هي التقريب و الإيضاح،و هذا لا يتم بتمثيل الواضح بالغامض،و الحسي بالمجرد،لأن الحس أصل و المعقول فرع،إذ استفادته من الحس«لأن العقل مستفاد من الحس،و لذلك قيل:من فقد علما،و إذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعا و الفرع أصلا و هو غير جائز» (1).بل منعه الرازي(ت:606 ه)فقال:«إنه غير جائز لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس و منتهية إليها» (2).و مع هذا فقد اشتمل القرآن على هذا النوع و إزاء الوقوف عند هذه الظاهرة نتحدث عن هذه النسب:
أ-أما الحسيان،فنماذجهما كثيرة في القرآن،و يمكن رصد بعضها على سبيل المثال بما يأتي:
أولا:قوله تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ(48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ(49) (3).
فالمشبه هو النساء بذواتها،و المشبه به هو البيض المكنون،و هما حسيان،أدركا في إحدى الحواس الخمس الظاهرة و هي:البصر و السمع و الشم و الذوق و اللمس.
ثانيا:قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ...(171) (4).
فالمشبه هو الكافرون بأعيانهم،و المشبه به هو الناعق بذاته،و هما حسيان.
ثانيا قوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ(8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ(9) (5).9.
ص: 87
فالمشبه في الآية الأولى السماء،و في الآية الثانية الجبال،و هما حسيان.و المشبه به في الأولى المهل،و في الثانية العهن،و هما حسيان.
و هذا النوع من أوسع أبواب التشبيه في القرآن الكريم.
ب-و أما العقليان،فهما أقل توافرا من القسم الأول،إلا أنهما متلازمان في المعاني الذهنية المجردة التي تدرك بالعقل لا بالحس،و تحمل عليهما جميع الآيات التي شبهت الإيمان أو العلم بالحياة،و الكفر أو الجهل بالموت،قال تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ (1).
ففي هذه الآية تقرير لحقيقة الضلال،و تصوير لحقيقة الإيمان، فالموت حقيقة معنوية جعل إلى جنبها الكفر،و كلاهما عقلي،و الحياة حقيقة معنوية جعل إلى جنبها الإيمان،و كلاهما عقلي،و قد أريد بهذين التعبيرين تقرير الحقيقة المطلقة التي يتسم بها الفريقان:الفريق الموحد و الفريق الكافر،فالميت بالكفر لا ترجى له حياة معنوية،و المهتدي بالإيمان يستمد الحياة الأزلية في كل الأزمان،لأن الكفر موت و ضلال، و الإيمان نور و حياة،و من مات بالكفر فهو في حيرة أبدية،و من كان حيا بالإيمان فهو على نور من ربه،و الأمران كلاهما حقيقة عقلية نابضة تدركها النفس الإنسانية،و تؤكدها التجربة المؤثرة.
ج-و كون المشبه به حسيا،و المشبه عقليا،فتمثله عدة نماذج من القرآن الكريم:
أولا:قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ (2).
فالمشبه به حسي و هو الغيث و المشبه عقلي و هو الحياة.
ثانيا:قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ...(39) (3)9.
ص: 88
فالمشبه هو عمل الكافرين،و هو أمر عقلي،و المشبه به السراب و هو محسوس.
د-و كون المشبه به عقليا،و المشبه حسيا فقد اشتمل على استيعابه القرآن الكريم،ليستقطب بذلك جميع الأقسام،و يحقق كل الأصناف،قال تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ(65) (1).
فالمشبه به عقلي،و هو رءوس الشياطين،و المشبه حسي و هو طلع الشجرة.
و استعمال القرآن لهذا التشبيه جار على عادة العرب في استعمالاتها، لما تتخيله في الشياطين من صورة مرعبة،و عليه جرى قول الشاعر:
أ يقتلني و المشرفي مضاجعي و مسنونة زرق كأنياب أغوال (2)
فالغول و هو الشيطان مما تتصوره العرب بمثال مهول مرعب،فجرى تشبيه القرآن في ضوء ما تفهمه العرب.
و قد قسموا التشبيه باعتبار وجه الشبه فيه إلى مفرد و مركب:
أ-تشبيه المفرد بالمفرد،و يصار إلى هذا التشبيه عادة عند المقارنة بين حالة و حالة،و جهة و جهة،و صورة و صورة،دون سبغ صفات مركبة تتحد بمجموعها لتمثل حالة واحدة.و يمكن أن نمثل له بالنماذج الآتية:
أولا:قال تعالى: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) (3).
ص: 89
فشبه القرآن هذه الحالة المفردة و هي القمر لحالة مفردة مماثلة و هي العرجون.
ثانيا:قال تعالى: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ(17) (1)فنفى القرآن تساوي حالتين و كيفيتين،حالة من يخلق و حالة من لا يخلق.
ثالثا: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ(18) (2)فنفت الآية التماثل بين حالتين مفردتين هما المؤمن و الفاسق.
ب-تشبيه المركب بالمركب،«و المركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (3)فالتشبيه مركب من أحوال الحمار.
و هو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه» (4).
قال ابن الزملكاني:«و لا يخفى أن كيفية الهيئة الاجتماعية تغاير كيفية المفردات،فلذلك وجب أن يصار إلى كل واحد منهما عند الحاجة» (5).
و الحق أن أغلب من بحث موضوع التشبيه المركب بعد عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)فهو عيال عليه في كشفه الدقيق لأسرار التشبيه المركب،أو التشبيه المنتزع من أمور متعددة في ضوء تشبيهات القرآن الكريم.
إذ ضرب عدة أمثلة حية من القرآن أوضح بها عمق فلسفة التشبيه في وجه الشبه المستخرج من شيئين أو أشياء تمتزج و تتفاعل لتعود شيئا واحدا ذا صور متعددة،و لكنها تأخذ طابعا تصويريا جديدا،يختلف عما ستكون عليه تلك التشبيهات أو الوجوه لو جزئت و عادت آحادا في تشابيه مفردة، و هذا من أروع الخصائص الفنية للتشبيه المركب في القرآن عند انتزاعه وجه الشبه من متعدد و كان هذا الاستعمال في القرآن الكريم استخداما فنيا و دينيا9.
ص: 90
بوقت واحد،فالاستخدام الديني متمثل بالتعلق بنتائج هذا التشبيه فيما يؤثره في النفس الإنسانية رغبة أو رهبة رغبة في الوعد الحسن،و الثواب الجزيل،و الجزاء الذي لا حدود لإفاضاته،و رهبة من المصير المرعب، و العذاب المستمر،و الهوان المتراكم،و الاستخدام الفني و هو يضفي ذلك المناخ الديني يجيء زيادة في الإيضاح،و عمدة في التصوير،حتى يعود المتخيل محققا و المستبعد قريبا،و الخفي واضحا،و ذلك بإضفاء الصفات المتعددة على الشيء الواحد بغية التطلع إلى مجموعة جديدة من الهيئات المركبة المتداخلة التي امتزجت و كأنها صورة واحدة و هي عدة صور.
لقد أوضح عبد القاهر(ت:471 ه)هذا الملحظ الدقيق بقوله:
و ربما انتزع(يعني وجه الشبه)من عدة أمور يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه،فيكون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر حتى تحدث صورة غير ما كان لهما في حال الأفراد،لا سبيل الشيئين يجمع بينهما و تحفظ صورتهما،و مثال ذلك قوله عزّ و جلّ:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً...(5) (1) .
الشبه منتزع من أحوال الحمار،و هو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم،و مستودع ثمر العقول ثم لا يحس بما فيها و لا يشعر بمضمونها،و لا يفرق بينها و بين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء،و لا من الدلالة عليه بسبيل،فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه،و يكد جنبيه،فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة،و نتيجة لأشياء ألفت،و قرن بعضها إلى بعض.
بيان ذلك:أنه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص و هو الحمل،و أن يكون ذلك المحمول شيا مخصوصا و هو الأسفار التي فيها أمارات تدل على العلوم،و أن يثلث ذلك بحمل الحمار ما فيها حتى يحصل الشبه المقصود.ثم إنه لا يحصل من كل واحد من هذه الأمور على5.
ص: 91
الانفراد.و لا يتصور أن يقال أنه تشبيه بعد تشبيه من غير أن يقف الأول على الثاني،و يدخل الثاني في الأول،لأن الشبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار،ثم لا يتعلق-أيضا-بحمل الحمار حتى يكون المحمول الأسفار،ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جهل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره...
و النتيجة المطلوبة و هي الذم بالشقاء في شيء يتعلق به غرض جليل و فائدة شريفة مع حرمان ذلك الغرض و عدم الوصول إلى تلك الفائدة، و استصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة و النعم الخطيرة من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سببا إلى نيل شيء من تلك المنافع و النعم (1).
و يستدرج عبد القاهر في بيانه الاستدلالي على انتزاع وجه الشبه من أمور متعددة،حتى يرى أن التشبيه المشتمل على عناصر الشبه من متعدد في الجمل و التركيب أولى بأن يسمى تمثيلا لأنه يحصل به ما لا يحصل إلا بجمل متعددة،يظهر وجه الشبه بمجموعها إذا ضم بعضها إلى بعض،لهذا احتيج إلى كثرة التعدد في الجمل لا سيما إذا كان التشبيه عقليا،و يوضح هذه الفكرة بقوله:
«حتى أن التشبيه كلما أوغل في كونه عقليا محضا كانت الحاجة إلى الجمل أكثر،أ لا ترى إلى نحو قوله عزّ و جلّ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (2).
كيف كثرت الجمل فيه حتى أنك ترى في هذه الآية عشر جمل إذا فصلت،و هي و إن كان قد دخل بعضها في بعض حتى كأنها جملة واحدة ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، و إفراد شطر من شطر،حتى أنك لو حذفت منها جملة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك بالمغزى من التشبيه» (3).7.
ص: 92
و قد قيل في وجه الشبه في الآية التي فصل عبد القاهر القول في تشبيهها المركب عدة أقوال:
أحدها:قال الجبائي:أنه تعالى شبه الحياة الدنيا بالنبات على وصفه في الاغترار به و المصير إلى الزوال،كالنبات الذي يصير إلى مثل ذلك.
الثاني:أنه شبه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون من المتاع ثم الانقطاع.
الثالث:أنه شبه الحياة الدنيا بحياة مقدرة على هذه الأوصاف (1).
على أن الظاهر من الآية التشبيه بالماء مختلطا بنبات الأرض،في مجموعة الصور المنتزعة من جمل الآية الكريمة.
و وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران:
أحدهما:أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت،و إن أخذت قدر الحاجة انتفعت به،فكذلك الدنيا.
الثاني:أن الماء إذا أطبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء، فكذلك الدنيا» (2).
و هناك وجه ثالث في وجه التشبيه به:أن الماء إذا جرى في المكان غادره إلى غيره،و انطلق منحدرا عنه،أما إذا بقي بمكانه فإنه يجف و يفنى، و كذلك الدنيا سارية عادية،فهذا لا يبقى و تلك لا تبقى،فاتحدا معا في الفناء.
و لعل ابن ناقيا البغدادي قد أشار من طرف خفي إلى هذا الغرض مضيفا إليه النبات بقوله:«و التشبيه في الآية أحسن موقعا،أبلغ معنى من جميع ما وصف به حال الدنيا،و ميل النفوس إليها،مع قلة صحبتها، و الاستمتاع بلذاتها فكذلك حال النبات و الماء في النضارة و الحسن ثم العود إلى الجفاف و اليبس» (3).1.
ص: 93
و الحق أن نماذج التشبيه المركب في القرآن قد استوعبت جملة كبيرة من آياته،و احتلت بقعة صالحة من تشبيهاته حتى أنه ليتعذر حصرها، و يشكل جمعها.خذ مثلا لذلك آية النور في قوله تعالى: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35) (1).
فالآية قد شبهت نور اللّه تعالى-و هو مفرد بعدة هيئات مركبة خلصت من خلالها إلى التشبيه المركب.
قال الزركشي:«فإنه سبحانه أراد تشبيه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن،ثم مثله بمصباح،ثم لم يقنع بكل مصباح،بل بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة،بوضعه في مشكاة،و هي الطاقة غير النافذة،و كونها لا تنفذ،لتكون أجمع للتبصر،و قد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة، فيه الكوكب الدري في صفائها،و دهن المصباح،من أصفى الأدهان و أقواها وقودا،لأنه من زيت شجر في أوسط الزجاج،لا شرقية و لا غربية،فلا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار،بل تصيبها أعدل إصابة» (2).
و قد قسم البلاغيون التشبيه باعتبار أداة التشبيه إلى قسمين رئيسيين و هما:المرسل و المؤكد:
أ-التشبيه المرسل:و هو ذلك التشبيه الذي ذكرت فيه أداة التشبيه:
كالكاف و كأن و مثل و ما شابهها من أدوات و ألفاظ،مثاله كل التشبيهات المتقدمة الذكر في هذا المبحث،و منها قوله تعالى: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ... (3).
ص: 94
ب-التشبيه المؤكد:و هو ذلك التشبيه الذي حذفت منه أداة التشبيه، بدعوى أن المشبه عين المشبه به فلا كبير فائدة بذكر أداة التشبيه،و يعده البلاغيون أبلغ من التشبيه المرسل لجعلك فيه المشبه مشبها به من غير أداة فكأنه هو.
و مثال ذلك ما جاء في القرآن الكريم من بيان لصفة يوم القيامة و ما يشاهد من أحوالها و أهوالها بقوله تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ...(88) (1)فإن أداة التشبيه محذوفة و التقدير في غير القرآن تمر كمر السحاب،فحذف الأداة فعاد و المشبه كأنه عين المشبه به.
و من خلال استقراء أقسام التشبيه و تطبيقاتها في ضوء القرآن الكريم يمكننا القول أن تشبيهات القرآن من أرقى التشبيهات التي وصلت إلينا من البيان العربي دون أدنى شك،فإذا أضفنا إلى ذلك فيما بعد مبحث «تشبيهات القرآن»خرجنا بنتيجة لا تقبل النقاش،و هي استيعاب التشبيه القرآني لجميع صور البيان العربي التي يتوقعها البلاغي الأصيل،و الناقد اللامع،في رسم الصورة الفنية لأروع نص أدبي.
أبرز أبو هلال العسكري(ت:395 ه)أربعة وجوه للتشبيه الفني يمكن عدها أصلا قويما و ركنا أساسيا في استكناه التشبيه الفني،و كان أبو هلال قد استخرج هذه الوجوه معتمدا على الرماني(ت:386 ه) و مواكبا له فيها و إن كان معاصرا له.
قال العسكري:«و أجود التشبيه و أبلغه ما يقع على أربعة أوجه:
أحدها:إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة.
و الوجه الآخر:ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة.
و الوجه الثالث:إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرف بها.
ص: 95
الوجه الرابع:إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها» (1).
و الحق أن العسكري بهذا التقسيم عيال على الرماني كما أسلفنا،إذ نقل قوله حرفيا في الموضوع (2).
و تابعه على هذا بدر الدين الزركشي(ت:794 ه) (3)و أورد النص ذاته جلال الدين السيوطي(ت:911 ه) (4)نعم أضاف كل من الزركشي و السيوطي نوعا خامسا إليها و هو:تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع، و هو عكس الوجه الأول الذي ذكره الرماني و استعاره منه العسكري (5).
و لما كان الرماني فيها يبدو مؤسسا لاستخراج هذه المظاهر و الوجوه،فقد وجدناه يضرب لها أمثلة حية من التشبيهات القرآنية، و يخصصها بأمثال القرآن الكريم مما يكشف لنا أن تشبيه المثل القرآني هو النموذج الأرقى لأنواع التشبيه.
فالنوع الأول:إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة و ذلك كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً (6).
قال الرماني:«و قد اجتمعنا في بطلان المتوهم من شدة الحاجة و عظم الفاقة،و لو قيل يحسبه الرائي ماء ثم يظهر على خلاف ما قدر لكان بليغا،و أبلغ منه لفظ القرآن،لأن الظمآن أشد حرصا عليه،و تعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في النار...و تشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه،فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم،و عذوبة اللفظ،و كثرة الفائدة،و صحة الدلالة...» (7).6.
ص: 96
و من ذلك قوله عزّ و جلّ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ...(18) (1).
قال الرماني:«فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة،إلى ما تقع عليه،و قد اجتمع المشبه و المشبه به في الهلاك و عدم الانتفاع و العجز عن الاستدراك لما فات،و في ذلك الحسرة العظيمة و الموعظة البليغة» (2).
و من ذلك قوله تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ثم قال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (3)و قد عقب الرماني على المشبه و المشبه به في اجتماعهما بقوله:
«و قد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير،و في التخسيس، فالكلب لا يطيعك في ترك اللهث حملت عليه أو تركته،و كذلك الكافر لا يطيع بالإيمان على رفق و لا على عنف» (4).
النوع الثاني:إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، و ينظر له بقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ...(24) (5).
و يعقب الرماني على التنظير بقوله:«و قد اجتمع المشبه و المشبه به في الزينة و البهجة ثم الهلاك بعده،و في ذلك العبرة لمن اعتبر،و الموعظة لمن تفكر في أن كل فان حقير و إن طالت مدته،و صغير و إن كبر قدره» (6).
و قال عزّ و جلّ: اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ (7)«فهذا التشبيه قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به،و قد اجتمعا في شبه0.
ص: 97
الإعجاب ثم في التغيير بالانقلاب،و في ذلك الاحتقار للدنيا،و التحذير من الاغترار بها و السكون إليها» (1).
النوع الثالث:إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها،و قد مثل له بقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ...(2) (3).
«و قد اجتمعا في الجهل بما حملا،و في ذلك العيب لطريقة من ضيق العلم بالاتكال على حفظ الرواية من غير دراية» (4).
و قال عزّ و جلّ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ...(41) (5).
«و قد اجتمعا في ضعف المعتمد و و هاء المستند،و في ذلك التحذير من حمل النفس على الغرور بالعمل على غير يقين،مع الشعور بما فيه من التوهين» (5).
النوع الرابع:إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها،و لم يمثل له الرماني بآية من أمثال القرآن،و يمكن أن ينظر له بقوله تعالى:
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ... (6) و قد اجتمعا- أعني المشبه و المشبه به-في الالتفاف و التكاثر و التكاتف،و في ذلك دعوة إلى التآزر و الجماعة و الاستعانة.
و الحق أن ما أورده الرماني من الأمثلة و النظائر كاف لاستيعاب الموضوع و الدلالة على أصالته،و فيه غناء كبير عن الإضافة إليه،بيد أن المرحوم الأستاذ(محمد أبو زهرة)قد تعقبه بالإضافة إلى الأقسام التي أوردها فيما تخيله إضافة،و ذلك بقوله:9.
ص: 98
«و لا شك أن هذه الوجوه لا تشمل كل أقسام المقسم،فمن التشبيهات ما ليس بوجه من هذه الوجوه كتشبيه غير الواضح بالواضح كما ترى ذلك في كثير من الآيات القرآنية،و كالتشبيه الذي يقصد به ما أكنه سبحانه،و ما خلق،و ما دبر،فهو تقريب بالمغيب عنا إلى المعلوم لنا،و ما عند اللّه أعظم و أكبر،و قد يكون التشبيه لتقريب المعنى الكلي من المعنى الجزئي أو لتصوير المعنى الكلي في بعض جزئياته» (1).
و الواقع-فيما يخيل إليّ-أن ما أبانه أبو زهرة قد اشتمل عليه تقسيم الرماني دلالة و إشارة،إذ الأقسام الأربعة التي أوردها الرماني تستوعب هذه الجزئيات التي استنبطها أبو زهرة:من تشبيه غير الواضح بالواضح، و المغيب بالمعلوم،و تقريب المعنى الكلي من المعنى الجزئي،أو تصويره في بعض الجزئيات،فتشبيه ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة يستوعب تشبيه غير الواضح بالواضح،لأن ما لم تجر به العادة أمر غير متضح للذهن فشبه بالواضح فزال الغموض،و الواضح هو ما جرت به العادة،و تشبيه ما لم تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه يشمل تشبيه المغيب ذهنيا بالمعلوم حسيا.و تشبيه ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها هو بالذات تشبيه لتقريب المعنى الكلي من المعنى الجزئي،و به يصور المعنى الكلي في بعض جزئياته إلى حد ما،و بهذا يندفع إشكال الأستاذ أبي زهرة.
و يرى الدكتور بدوي طبانة أن التشبيه في جريانه على أصله«هو ما يلحق فيه الأدنى بالأعلى،و المجهول بالمعلوم،و الخفي بالجلي،و الناقص بالكامل،و أن الأصل في ذلك اعتبار وجه الشبه الذي يكون أوضح و أتم في المشبه به منه بالمشبه...و أن التشبيه المقلوب هو ما عكست فيه هذه الأمور فيدعي أن العلم و الجلاء و الكمال متوافرة في المشبه على درجة أتم من توافرها في المشبه به» (2).
و هذا الرأي دقيق للغاية،و تدعمه الأدلة في سريان حكم التشبيه على0.
ص: 99
هذه المظاهر التي ذكرها؛و عليه فباستطاعتنا أن نعد ما في آية النور في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ (1)من التشبيه المقلوب،أو التشبيه العكسي فيما يسمونه،لأن جلاء نوره إنما هو في حقيقته-سواء أ كان المقصود نور اللّه، أم نور النبوة،أم نور الإيمان و الهداية على اختلاف الأقوال-لا في المشبه به،و هو المشكاة بأوصافها التابعة لها،إذ تجد في ذلك-بدون أدنى شك-تشبيها للأعلى بالأدنى،و للمتكامل بالناقص،و للثابت بالمتلاشي،و لكنه في الواقع تقريب لأذهان المخاطبين،و تصوير لأمثلة نوره التي لا يدانيها شيء بما تدركه الحواس،إلا أن هذه الصورة إنما هي الأوضح في ذهن العرب،لأن التشبيه فيها يقوم على تشبيه الصورة المجهولة التي لا تدانى بالصورة المعروفة لدى الناس.
لهذا يرى ابن سنان الخفاجي(ت:466 ه)أن الأصل في:«حسن التشبيه:أن يمثل لأجل إيضاح المعنى و بيان المراد،أو يمثل الشيء بما هو أعظم و أحسن و أبلغ منه فيكون حسن ذلك لأجل الغلو و المبالغة» (2).
و الطريف في الأمر أن يورد الخفاجي أدلته في تحقيق دعواه،بأمثلة من القرآن الكريم فحسب،و لا يكتفي في ذلك حتى تكون هذه الأمثلة جميعا من آيات الأمثال القرآنية-وحدها-ناظرا فيها إلى التشبيه باعتبار طرفيه تارة،و باعتبار أصالتها الفنية تارة أخرى،ثم يعقب على مجموعة التشبيهات الواردة بآيات الأمثال بقوله:
«و هذه التشبيهات كلها ما بيناه من تشبيه الخفي بالظاهر المحسوس، و الذي لا يعتاد بالمعتاد،لما في ذلك من البيان» (3).
حقا إن التشبيه القرآني هو خير وسيلة لتأكيد آراء النقاد و البلاغيين8.
ص: 100
العرب بوصفه أبلغ أنواع التشبيه،و لأنه يشكل المظاهر الفنية لوجوه التشبيه،و سيتجلى ذلك واضحا من خلال مدارسة المبحث الآتي بإذن اللّه.
مما تقدم يبدو لنا أن أرقى التشبيهات في البيان العربي هي تلك التشبيهات التي وردت في القرآن الكريم،و كان هذا الموضوع قد بحث قديما و حديثا في أشتات متناثرة من مختلف الدراسات القرآنية حتى إنك لا تجد كتابا بلاغيا و لا مبحثا قرآنيا و لا مصنفا في مجازات القرآن يخلو من الإشارة إليه،و قد أفرده بالتصنيف الجيد الممتاز ابن ناقيا البغدادي(ت:
485 ه)في كتابه القيم(الجمان في تشبيهات القرآن) (1).و لعله أول من خصص كتابا لتشبيهات القرآن بهذا المستوى من الضبط و السعة،إذ تتبع فيه ظاهرة التشبيه القرآني في ست و ثلاثين سورة من القرآن،و استخرج من كل سورة آيات التشبيه و أشار إليه،و حقق في معنى الآية،و علاقة التشبيه و وجوهه بما يعد بحق نموذجا راقيا بالنسبة لعصره في استيعاب مظاهر التشبيه القرآني.
و لا بد لنا من رصد هذه الظاهرة القرآنية لموقعها المتميز،من غير استقصاء لأبعادها،فهذا متعذر مع هذا البحث المختصر،و إنما من بعدها النفسي و مسايرتها للكون و مظاهره فحسب،إذ سبق لنا أن سلطنا الضوء على هذا الملحظ في عمل أكاديمي مستقل و الذي يستوقفنا فيهدينا من تشبيهات القرآن الكريم،غورها في أعماق النفس الإنسانية،و سبرها لمظاهر الكون و الطبيعة،و استقطابها لملامح الحس و الإدراك البصري و السمعي،و سبك ذلك كله في صياغة موحدة تنظر إلى هداية الإنسان، و تهيئة ذهنه،بما يحس أمامه و بين يديه،و ما يدركه واعيا في حياته العامة، و بهذا نرى التشبيهات القرآنية ذات قدرة فائقة،و لمحات جديدة؛تلك القدرة و هذه اللمحات قد استوعبا في نماذج كثيرة،مظاهر الكون و الحياة، و عوالم الطبيعة،و هبات المناخ في خضم مشاهد الدنيا.
ص: 101
و في هذا الضوء نلمس التشبيه القرآني ذا صورة دائبة بالحركة و الاستثارة و التلوين،هذه الصور قد هدفت-بضم بعضها إلى البعض الآخر-تقريب الأشياء،و إبراز الحقائق،و استخلاص العظات و البينات فيما تنبته الأرض،و ما يهبط عليها من السماء،و فيما تتقاذفه الرياح،و فيما يطرأ عليها من تقلبات المناخ و تصريف الأجواء،و ما يصاحب ذلك من نور و ظلام،و رعد و برق،و ليل و نهار،و موج و لجج و سحاب و ضباب، و أصداء و أصوات،و ما تثير هذه العوالم مجتمعة أو متفرقة من رعب أو أمن و استقرار (1).
1-هذا المظهر الطبيعي يرصفه القرآن الكريم في تشبيه حالة المنافقين تارة،و حالة الكافرين و أعمالهم تارة أخرى،فالأول قوله تعالى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ(19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20) (2) .
و الثاني يصوره قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ(39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ(40) (3) .0.
ص: 102
أ رأيت كيف استوضحت حالة المنافق في هذه التشبيهات المركبة، مصورا أزمته النفسية في الاضطراب و معاودة الخوف من هذه الظواهر التي يتوقع فيها هلاكه،و معبرا عن أمر الحيرة المقلقة له بخطف البرق للأبصار، و تردده بين الأحجام و الأقدام،و وقوفه القاتل أو السير بلا هدى فهو بين مصير مجهول و تذبذب معلوم.هذا في النموذج الأول،أما في النموذج الثاني،فنرى التشبيه المركب مادة فنية خصبة تسيغها أفهام القوم،فالبدوي الذي يتطلب الماء،فإن أخفق في تحصيله أخفق في حياته و عاد يائسا، و هو في قيض لا يرحم،و ظمأ لا يهدأ،فسكرات الموت حينئذ أقرب إليه من حبل الوريد،و أعمال الكافرين صورة لمتطلب الماء ثم لا يجده،و مثال للسراب الذي يشتد نحوه الظمآن فيفاجأ به و هو يظنه ماء يروي غلته،و إذا به يذهل لفقدان الماء و وجدان اللّه بالمرصاد،و هي مفاجأة أخرى ليست في الحسبان،و حينما يخفق من هذا الالتماع الخلب في السراب الذي حسبه ماء تصدمه الظلمات المتراكبة في بحر شديد الأمواج متراكمها،يعلوه سحاب،فتتكون بذلك طبقات من هذه الفوقيات:الموج فوقه موج من فوقه سحاب،فهو في ظلمات يفقد معها حاستي السمع و البصر،كما فقد حاسة البصيرة من ذي قبل.
2-و بالإضافة إلى التشبيه بالظواهر الطبيعية،و السنن الكونية،عمد القرآن إلى الكائنات الحية من الحيوانات فوجد فيها ملاءمة لضرب الأمثال و تصوير الأحداث،و صدق التشبيه،و مسايرة الواقع المعاصر في الحال و الاستقبال،فاختار أوهنها:لتشبيه ضعف العبادة و وهنها،و هو العنكبوت، و أغباها:لمن يحمل العلم و لا ينتفع به،و هو الحمار،و أضعفها:لمن حالفه العجز و الاستحالة و هو الذباب.و أتعبها:لمن يشتد لهاثه لا إلى غاية مجدية معينة،و هو الكلب.و أصغرها لمن يستنكر ضرب الأمثال بالمخلوقات الضعيفة،و هو البعوض.و هكذا:
و تأتي هذه الكائنات في الاستعمال التشبيهي متقاطرة،و يبرز عملها متناسقا مع التصوير الفني لحقائق الأشياء،و طبيعة الموصوفات،و أوجه الشبه المناسبة،بما يحقق الجانب البلاغي في مطابقة الكلام لمقتضى الحال،و هي على الشكل الآتي:
ص: 103
أ-فهؤلاء العاكفون على أصنامهم،و السادرون بأهوائهم،يسيئون صنعا و يحسبون أنهم محسنون،يبذرون جهودهم في بناء الأوهام،و اتخاذ الأنداد للّه تعالى،فهم في عمل لا جدوى معه،و جهد لا تعويض عنه، فيبرز تشبيههم بالعنكبوت التي تجهد نفسها،و تشغل بيتها،باتخاذ بيت ليست له مقومات البيوت و لا إحكام البناء،فهو نتاج واهن ضعيف، و كذلك عبادتهم في الضعة و الضعف،قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (1) .
ب-و حينما يجد القرآن اليهود،و قد كلفوا ثقل الأمانة و أدركوا سر العقيدة،و تحملوا عبء التوراة،ثم نكصوا على أعقابهم،و تخلوا عن كل ذلك،فهم لا يعملون بمضمونها و لا يصيخون سمعا لندائها، تاركين وراءهم الحق المبين،و الصراط المستقيم،فهم و الحالة هذه على درجة قصوى من الغباء و الضياع؛حينما يلاحظهم هكذا و على هذا المستوى فتشبيههم بالحمار و هو يحمل كتبا نفيسة جاء مطابقا لمقتضى ظروفهم الفعلية التي يحيونها،إذ ليس من شأن الحمار أن يستفيد بمضامين الكتب،و ليس له منها إلا الثقل في الحمل،و كذلك شأنهم حينما تبينوا صدق الرسالة المحمدية بأنباء التوراة عنها ثم خلفوها وراء ظهورهم،و لم يعملوا بما علموا،فالحمار إذن أبلغ تشخيص لهم يمثلون بمجموعة أوضاعه في حالة حمله الأسفار،و فيه إشعار بالمهانة، و تصريح بالتحقير في صورة بائسة مزرية،و كيفية تجلب السخرية و الاستهزاء؛قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ(5) (2) .
ج-و هذا الذي انسلخ من آيات اللّه بعد عرفانه بموضعها،و إدراكه لسرها،قد أخلد إلى الأرض،و اتبع هواه و ضل في غوايته ناصبا لاغبا،5.
ص: 104
وجد له التشبيه أصدق صورة في الكلب اللاهث،يدلع لسانه،و يسيل لعابه،و تخفق جانباه،في حالتي راحته و تعبه،و صورتي إيوائه و إبعاده، فالكلب هنا:أنسب كائن يراعي مقتضى الحال،فالذي انسلخ يكد و يكدح في تحريف كلمات اللّه،فهو جاحد لها،أو رافض لمضمونها،فالحالة هذه تمثله و هو ينوء بعبء لم يستفد منه،و يعاني ثقلا لم ينهض به،و هكذا الكلب في نصبه الكادح بداع و بغير داع،قال تعالى:
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ(175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ... (1) .
و هكذا نجد الكائنات-و فيما ضربناه من أمثلة الكفاية-عنصرا من عناصر التشبيه اقتضته ضرورة الصورة لتحقيق الغرض الفني،فهو لم يرد مستعملا بوصفه تشبيها فحسب،بل بوصفه أسلوبا من أساليب البيان يعتمد عليه النص الأدبي الرفيع في القرآن الكريم لتشخيص الحقيقة من الغموض و الإبهام.
3-و هبات الطبيعة في المناخ و المياه و التربة و الأنبات لمسات تشخيصية للتشبيه القرآني،متجانسة كل التجانس بما يحقق العمق الفني بأرقى مدركات التشبيه الحسية لتقريب المعنى العقلي البعيد فتجعله في متناول الفهم و التخييل عند الإنسان.
أ-فالقرآن الكريم حينما يشبه أمرا معنويا طيبا،و عملا إنسانيا صالحا،و كلمة نزيهة صادقة،يجد في معطيات الطبيعة،و منح الكون، تشخيصا لهذا المدرك العقلي فهو يعده مباركا ثابتا متطاولا،و الشجرة الطيبة في نموها و ظلالها و رسوخها خير مثال له في التشبيه المنتزع من أمور متعددة،و العكس بالعكس في الأمر المعنوي الخبيث في ملاءمته للشجرة الخبيثة في بقعتها و ثمرتها و زعزعتها عن الأرض،و هو بهذا يضفي الظل المحسوس المعاصر للإنسان على ذلك الظل الخفي المعقول الذي لا يدرك6.
ص: 105
إلا بتصويره و تخيله شاخصا،و ذلك قوله تعالى:
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25) وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ(26) (1) .
ب-و هو حينما يريد تشبيه الصدقات التي لا تجلب نفعا،و لا تدفع ضرا،و لا تستنزل رحمة،لأنها امتزجت بما يفسدها من الرياء بين الناس تارة،و اختلطت بما يعكرها من المن و الأذى تارة أخرى،يجد في«الصفوان»الذي يغطيه غشاء شفاف من التراب فيصيبه المطر فيتصلب و يتجمد عليه،فيعود متحجرا صلدا،صورة شاخصة لبلوغ التشبيه ذروته في التجسيد،و ذلك بتخيل هذا الحجر ناتئا بارزا و قد غطي بغلاف خارجي من التراب المبتل بوابل المطر،تعبيرا عن القلب يعود في غشاوة مما داخله من الرياء،أو بما نفث من المن و الأذى، فبدلا من أن يساعد المطر المنصب عليه في إزالة التراب و القذى المتراكم،و إذا به يزيد الحجر قساوة،و يتصلب به هيكلا متحجرا لا ينقد،أنظر ذلك في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ(264) (2) .
بينما تطالعنا الصورة الأخرى لهذا العمل-و الحديث ينصب حول الصدقات-مقترنة بطلب مرضاة اللّه،و تثبيت النفوس،و إذا بها حقيقة أخرى تمثل مغاداة الرحمة و معاودة البركة،و الموضوع نفسه،و لكن الموضع قد تغير فعاد الفرق متميزا،و ذلك قوله تعالى:4.
ص: 106
وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(265) (1) .
فالقلب هنا منجذب بعامل روحي،فانفتح لتلقي التوبات و بذلها على فطرتها،و سبيلها المطلوب،كما تتفتح الأرض في المكان الرحب الفسيح، و الذروة المرتفعة العالية،تباركها النسمات،و تباكرها المزن،فيتضاعف عطاؤها،و يزكو ثمرها.فالصورة التشبيهية مستلة من طبيعة الأرض في قسوتها و بركتها في كلا الموضعين،و ممتزجة بعوامل المناخ في تقلباته و هباته،و لكنها تترصد أيضا مناخ المرء في سلوكه،و تتلبث طبيعة الإنفاق في أسلوبه،فما كان جافا غليظا منهما شبه بمثله و هو الحجر الصلد،و ما جاء متفتحا متبرعما شبه بمثله،و هو البقعة الطيبة في نشز من الأرض، تغاديها السحب،و يراوحها الغيث و الندى (2).
ج-و يحاول التشبيه القرآني أن يقرب صورة تكالب الناس في الحياة الدنيا،و تفاخرهم بما لا يبقى،و تكاثرهم بما يفنى فتتمثل أمامه هيئة الغيث المنقطع عن الزرع بعد إنعاشه له لحظات و لمحات،و إذا به يجف دون إنذار،فيصفر الزرع و يتفتت نتيجة لعدم الموازنة في السقي و الإرواء،ليصبح حطاما تذروه الرياح،و هشيما تتناقله الأجواء،فبينا هو نبات يعجب الزارعين،و إذا به هباء يتطاير من هنا و هناك،و التشبيه يضع هذه الصورة في ملابساتها المتناقضة،و مضاعفاتها غير المترقبة تجاه أمر الدنيا،و حيال المعجبين بزخارفها،و المكاثرين بأوضارها لتكون مثلا لقوله تعالى:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً... (3) .
من خلال ما تقدم قد أدركنا بعمق ظاهر التشبيه الفني في القرآن0.
ص: 107
الكريم مقترنة في أبعاد متعددة بالظواهر الكونية،و الكائنات الحية،كما لمسنا فيها بالذات انتزاع وجه الشبه من أمور متعددة قائمة على مجموعة الصور المستنبطة من اللوحة التصويرية التي يرسمها المشهد التشبيهي،حتى عاد التشبيه التمثيلي المركب سمة بارزة لهذه المظاهر الحية في صوره و ألواحه عند التشخيص.
ص: 108
1-تحديد الاستعارة 2-قيمة التصوير الاستعاري 3-أصول الشبه الاستعاري 4-خفاء الشبه الاستعاري 5-أقسام الاستعارة و أنواعها
ص: 109
ص: 110
للبلاغيين عدة تعريفات متناثرة لتحديد مصطلح الاستعارة،قد تختلف في اللفظ و التعبير،و لكنها قد تتحد في المعنى و المدلول،بيد أن بعضها قد خلط الأصل اللغوي بالمعنى الاصطلاحي،و البعض الآخر قد فصل بينهما،و تحدث عنهما،و هناك من عني بالصيغة الاصطلاحية فحسب.
و فيما يأتي نقدم عرضا ملخصا لتعريفات القوم و نظرياتهم:
1-قال الجاحظ(ت:255 ه)إن«الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (1).
و واضح من تعريفه عنايته بالجانب اللغوي،و إن انطبق على جزء من المعنى الاصطلاحي كما سيأتي.
2-ذهب ابن قتيبة(ت:276 ه)إلى أن:
«العرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاورا لها أو مشاكلا» (2).
و تعريفه أكثر انطباقا على الاصطلاح من تعريف سابقه الجاحظ،و إن شمل المجاز في وجوهه و علاقاته.
ص: 111
3-يرى ثعلب(ت:291 ه)في استعمال الاستعارة:أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه (1).
و هو تعريف موجز جمع إلى جانب الأصل اللغوي شيئا من المعنى الاصطلاحي.
4-و يذهب ابن المعتز(ت:296 ه)إلى أن:«استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف» (2).و هذا معنى عام قد يشمل صنوف البيان كافة،و أنواع المجاز اللغوي.
5-و قد عرفها القاضي الجرجاني(ت:366 ه)بقوله:«الاستعارة ما أكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل،و نقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها.و ملاكها تقريب الشبه و مناسبة المستعار له للمستعار منه، و امتزاج اللفظ؛بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة،و لا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر» (3).
و هذا التعريف أكثر تحديدا من سابقيه،و أدق شمولا لخصائص الاستعارة الفنية،و ملامحها البيانية،و هو أول بادرة متناسبة مع المعنى الاصطلاحي للاستعارة.
6-و يقول الرماني(ت:386 ه):
«الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة» (4).
و قد نقل تعريفه حرفيا ابن سنان الخفاجي(ت:466 ه) (5).ورد عليه العلوي يحيى بن حمزة(ت:749 ه)من عدة وجوه (6).1.
ص: 112
و مع ذلك فإن تعريف الرماني للاستعارة يقارب المعنى الاصطلاحي في عدة اعتبارات بيانية كما سيظهر.
7-و يوضح الحاتمي(ت:388 ه)تعريفها بقوله:
«حقيقة الاستعارة أنها نقل كلمة من شيء قد جعلت له إلى شيء لم تجعل له» (1).
و هو ينظر في ذلك إلى النقل الاستعاري في الاستعمال المجازي.
8-و كان أبو هلال العسكري(ت:395 ه)قد تعامل مع هذا المصطلح معاملة جديدة في حدود كبيرة فقال إنها:«نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض،و ذلك الغرض إما أن يكون شرح المعنى و فضل الإنابة عنه،أو تأكيده و المبالغة فيه،أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ،أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه.و هذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة،و لو لا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا» (2).
9-و التعريفات السابقة و إن تشابهت في إيضاح المصطلح حينا، و بجانبه اللغوي حينا آخر،إلا أننا نميل إلى الكشف العلمي فيما أبانه أبو هلال العسكري،و إن كان قدامة بن جعفر(ت:337 ه)قد علل من ذي قبل ظاهرة الاستعارة عند العرب بزيادة الألفاظ على المعاني عندهم، فعبروا عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة،و ربما كانت مشتركة بينه و بين غيره (3).
و هذا و إن انطبق على الاستعارة فإنه ينطبق على جميع ما توسع فيه العرب من البيان،إلا أن ما أبانه أبو هلال كما أسلفنا بالنسبة للاستعارة ملخصا في النقل للمعنى من لفظ إلى لفظ،و استحداث معنى جديد في اللفظ،و جعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة،و زيادة5.
ص: 113
الفائدة في الاستعمال الاستعاري بدلا عن الاستعمال الحقيقي،سيبقى ما حققه كشفا جديدا يتناسب مع ما أكده فيما ضرب من نموذج قرآني رفيع شاهدا على ذلك بقوله:
«و الشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة،أن قوله تعالى:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ (1) أبلغ و أحسن و أدخل مما قصد له من قوله لو قال:يوم يكشف عن شدة الأمر،و إن كان المعنيان واحدا،أ لا ترى أنك تقول لمن تحتاج إلى الجد في أمره:شمر عن ساقك فيه،و اشدد حيازيمك له،فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك:جد في أمرك» (2).
و ما ذهب إليه أبو هلال متساوق لما وجدنا عليه أرسطو من ذي قبل حينما عد الاستعارة من أعظم الأساليب الفنية،و أنها آية الموهبة التي لا يمكن تعلمها من الآخرين (3).
10-و يرى عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)في الاستعارة:
«أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ،و لكنه يعرفه من معنى اللفظ» (4).
و قد جاء هذا التعقيب له بعد تعريفها من قبله بقوله:
«الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء بالشيء و تظهره و تجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه و تجريه عليه» (5).
و يتضح من تعريف عبد القاهر و تعقيبه،أن هناك لفظا و معنى،و هناك معنى اللفظ،و الاستعارة تختص بالألفاظ،و لكنه قد أشرك المضمون بالإضافة إلى الشكل في جلاء الصورة الاستعارية،أو المعنى في إدراك3.
ص: 114
مؤدى اللفظ بقوله:(معنى اللفظ)،و هذه هي العلاقة التي كشفها عبد القاهر بين اللفظ و المعنى في نظرية النظم،و أكدها في مجالات شتى من معالجاته البلاغية.
11-و قد تعقب عبد القاهر كل من فخر الدين الرازي(ت:606 ه) فنقل تعريفه لها حرفيا (1).و السكاكي حينما قال:
«هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه و تريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به،دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به» (2).
و جاء ابن الأثير(ت:637 ه)مقتفيا خطوات الجرجاني و ما استفاده منه الرازي و السكاكي فقال:
«حد الاستعارة:نقل المعنى من لفظ إلى لفظ لمشاركة بينهما مع طي ذكر المنقول إليه،لأنه إذا احترز فيه هذا الاحتراز اختص بالاستعارة و كان حدا لها دون التشبيه» (3).
و تتبع هذه المعاني و الألفاظ و الإشارات نفسها فيما بعد كل من ابن أبي الأصبع (4).و بدر الدين بن مالك (5)و الخطيب القزويني (6).و أعطوا الدلالات ذاتها.
و قد اتضح مما تقدم أن أبا هلال العسكري كان له فضل السبق في دقة التعريف و التمثيل له،و أن عبد القاهر قد أعطاه الصيغة العلمية و الصفة الاصطلاحية،و تابعه عليه كل من الرازي و السكاكي و ابن أبي الأصبع و ابن مالك و القزويني.8.
ص: 115
و تأسيسا على ما سبق يعد أبو هلال العسكري و عبد القاهر الجرجاني من أوائل من أرسوا دعائم هذا المصطلح فنيا.
الاستعارة فن قولي،قد يجمع بين المتخالفين،و يوفق بين الأضداد، و يكشف عن إيحائية جديدة في التعبير،لا يحس بها السامع في الاستعمال الحقيقي،و هي من أبرز صور البيان العربي،و أروع مشاهد التصوير الفني، جلى فيها القرآن بكثير من مواطنه،و تناولها الحديث في جملة من شذراته، و تداولها الشعر العربي في أوابده و شوارده،و ما عسى أن يعرض الباحث لقيمة التصوير بالاستعارة،و خصائص استعمالاتها البلاغية،بعد أن و شجها عبد القاهر الجرجاني بحلة وصف لا تبلى،و قلدها بوسام شرف لا يفنى، و توجها بمزايا بيان لا تنبو،و وهجها بلآلئ كمال لا تخبو،فقال:
«و هي أمدّ ميدانا،و أشد افتنانا،و أكثر جريانا،و أعجب حسنا و إحسانا،و أوسع سعة و أبعد غورا،و أذهب نجدا في الصناعة و غورا،من أن تجمع شعبها و شعوبها،و تحصر فنونها و ضروبها،نعم و أسحر سحرا، و أملأ بكل ما يملأ صدرا،و يمتع عقلا،و يؤنس نفسا،و يوفر أنسا، و أهدى إلى أن تهدى إليك أبدا عذارى،قد تخير لها الجمال،و عني بها الكمال،و أن تخرج لك من بحرها جواهر،ان باهتها الجواهر مدت في الشرف و الفضيلة باعا لا يقصر،و أبدت من الأوصاف الجليلة محاسن لا تنكر،وردت تلك بصفرة الخجل،و وكلتها إلى نسبتها إلى الحجر،و أن تثير من معدنها تبرا لم تر مثله،ثم تصوغ فيها صياغات تعطل الحلي، و تريك الحلي الحقيقي،و أن تأتيك على الجملة بعقائل يأنس إليها الدين و الدنيا،و فضائل لها من الشرف الرتبة العليا،و هي أجل من أن تأتي الصفة على حقيقة حالها،و تستوفي جملة جمالها.
و من الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا،و توجب له بعد الفضل فضلا،و إنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع و لها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد،و شرف منفرد،و فضيلة مرموقة،و خلابة مرموقة،
ص: 116
و من خصائصها التي تذكر بها و هي عنوان مناقبها أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ،حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، و تجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر،و إذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة،و معها يستحق وصف البراعة،وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها،و تقصر عن أن تنازعها مداها،و صادفتها نجوما هي بدرها،و روضا هي زهرها،و عرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل،و كواعب ما لم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل،فإنك لترى بها الجماد حيا ناطقا،و الأعجم فصيحا،و الأجسام الخرس مبينة، و المعاني الخفية بادية جلية،و إذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها و لا ناصر لها أعز منها،و لا رونق لها ما لم تزنها،و تجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها،إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون،و إن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون،و هذه إشارات و تلويحات في بدائعها،و إنما ينجلي الغرض منها و يبين إذا تكلم على التفاصيل،و أفرد كل فن بالتمثيل...إلخ» (1).
و بعد هذا الوصف المستفيض لخصائص الاستعارة و سماتها، و فلسفتها و أغراضها،و موقعها و كيانها،يتعرض عبد القاهر إلى التفصيل، و يقسمها و ينظر لها بما يعد تجلية لخصائص الاستعارة فنيا،و تحقيقا في قيمتها بلاغيا.
إننا نستطيع أن نلمس في الاستعارة عدة خصائص فنية يمكن إجمالها بالشكل الآتي:
أ-إن الاستعارة تنتقل بالنص من الجمود اللفظي المحدد له إلى السيرورة في التعبير،و المرونة في الاستعمال،أ لا ترى إلى قوله تعالى:
وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (2) .
إنك تقف مبهورا أمام بلاغة التعبير،و دقة المعنى،و سيرورة4.
ص: 117
الألفاظ،فالمستعار منه هو النار،و المستعار له هو الشيب،و قد جمعهما معنى حسي بوجه حسي،و هو التوهج،و إنك لا تجد ذلك في:و ازداد الرأس شيبا،و لا في:شاب رأسي،و لا في غيرهما عند التقدير،فكأن اللفظ بصيغته الاستعارية وضعت لهذا المعنى السيار.
ب-يتجلى في الاستعارة إعطاء صفة الفعل لمن لا يفعل،و إضاءة الكائنات بالتصرف و إن لم تتمكن،أ لا ترى إلى قوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ(7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8) (1)و ما فيه من إضفاء صفة من يعقل إلى ما لا يعقل، و مزية من يعمل إلى من لا يعمل،و فضيلة الفعل إلى من لم يفعل،و يكفي أن أحيلك إلى أبي هلال العسكري ليكشف لك هذا المصدر البياني من جانب آخر بالإضافة إلى ما سبق بقوله:
«حقيقة الشهيق هاهنا الصوت الفظيع،و هما لفظتان،و الشهيق لفظة واحدة،فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان.و تميز:حقيقته تنشق من غير تباين،و الاستعارة أبلغ،لأن التميز في الشيء هو أن يكون كل نوع منه مباينا لغيره،و صائرا على حدته،و هو أبلغ من الانشقاق،لأن الانشقاق قد يحصل في الشيء من غير تباين،و الغيظ:حقيقته شدة الغليان،و إنما ذكر الغيظ،لأن مقدار شدته على النفس مدرك محسوس،و لأن الانتقام منا يقع على قدره،ففيه بيان عجيب،و زجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة» (2).
و فضلا عما سبق إليه أبو هلال نجد الاستعارة قد حققت في الألفاظ الثلاثة:الشهيق،تميز،الغيظ،دلالة لا يمكن استيعابها في الألفاظ الاعتيادية لو استبدلت فيها،و في هذا الاستعمال صوت نار جهنم بصورة هائلة تخيلتها ازددت منها رعبا،و ملئت منها فزعا،و كأنها مخلوق ذو قوة و بطش،و مجهول ذو منظر عبوس.
ج-يتمثل في الاستعارة،تهويل الأمر،و دقة المبالغة،و شدة الوقع، و يمثل هذا الملحظ قوله تعالى:7.
ص: 118
ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) (1) .
فالمراد ذر بأسي،و أترك عذابي و عقوبتي،إلا أن المبالغة في التهديد،و الشدة في الوعيد،اقتضت نسبة ذلك إليه-تعالى-و لو استعمل غير هذا اللفظ لما قام مقامه،و لا أدى دلالته،و لبقيت الصورة المرادة غير ماثلة للعيان كما هو الحال الآن.
د-تريك الاستعارة في تعبيرها إشاعة الحياة في الجماد،و إفاضة الحركة عند الكائنات،و كأنها ناطقة تتكلم،و مكلفة تمتثل،و قادرة تتصرف،كما في قوله تعالى:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ(11) (2) .
و في هذا دلالة على التوسع في اللغة،و المبالغة في الإيجاز،و التفنن في التصوير،فإشاعة الحركة في السماء و الأرض تغني عن شرح إطاعتهما و كيفيته بالتقدير أو التسخير،و إضافة هذه المقدرة في الاستماع و الاستجابة تكفي عن البيان المستفيض في الإبداع،و تصورها بهيئة من يعي و يسمع و ينطق تغني عن التمثيل و التشبيه.
ه-يلاحظ في الاستعارة التقريب الوصفي،و مراعاة المناسبة،و لمح الصلة بين الأصل و النقل الاستعاري،و ذلك كقوله تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ... (3).
«و هذا الوصف إنما هو على ما يتلوح للعين لا على حقيقة المعنى، لأن الليل و النهار اسمان يقعان على هذا الجو عند إظلامه لغروب الشمس و إضاءته لطلوعها،و ليسا على الحقيقة شيئين يسلخ أحدهما من الآخر،إلا أنهما في رأي العين كأنهما ذلك،و السلخ يكون في الشيء الملتحم بعضه ببعض،فلما كانت هوادي الصبح عند طلوعه كالملتحمة بإعجاز الليل7.
ص: 119
أجرى عليها اسم السلخ،فكان أفصح من قوله لو قال:نخرج،لأن السلخ أدل على الالتحام المتوهم فيهما من الإخراج» (1).
و كل ما تقدم من خصائص يوحي بأن الاستعارة هي التي لونت هذه الصور،و كشفت أصالة ما يريد القرآن في التعبير عنه بآياته المشتملة على الاستعارة لغرض خاص يمنحها قوة الأمثال من جهة في السيرورة و الانتشار،و الدرجة البلاغية في المتانة و الجودة من جهة أخرى،بحيث يعود لفظ الاستعارة متميزا لا يسد مسدّه لفظ آخر،و لا يشاكله تعبير مقارب،و تلك لمحات فنية مؤثرة،و أسرار جمالية متناهية آثرت التصوير الاستعاري بإضافات تحدت المفهوم الحقيقي للكلمات في أصل اللغة، و بذلك بلغت الاستعارة في القرآن الكريم مرتبة الإعجاز،و فاقت المستوى الحضاري للكلمات في ذروة تطورها و عطائها عند العرب.
يقول الدكتور أحمد بدوي متحدثا عن تأثير الاستعارة القرآنية:
«و إذا أنت مضيت إلى الألفاظ المستعارة رأيتها من هذا النوع الموحي لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس و أوفاه،و تصور المنظر للعين،و تنقل الصوت للأذن،و تجعل الأمر المعنوي ملموسا محسا...فقد يجسم القرآن المعنى،و يهب للجماد العقل و الحياة،زيادة في تصوير المعنى و تمثيله للنفس،و ذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية،و من أروع هذا التجسيم قوله سبحانه:
وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ... (2) .
أ لا تحس بالغضب هنا كأنه إنسان يدفع موسى و يحثه على الانفعال و الثورة،ثم سكت و كف عن دفع موسى و تحريضه» (3).
إن جميع الصور الاستعارية التي تشتمل عليها فقرات جملة من الآيات القرآنية،لا يمكن أن تتجلى على حقيقتها إلا بالاستعارة بحيث2.
ص: 120
يضيق اللفظ الحقيقي عن الإحاطة الشمولية بكنه المراد منها دون الصوت الاستعاري،و ليس هنا مجال الكشف المركز عن هذه الخصائص، و التطويل في الإشارة إليه،و إنما هو التنظير لمعرفة هذه الدقائق و الأسرار، و سيتكفل مجمل البحث بجلاء هذه الصورة و نقائها،من خلال قراءتنا المتأصلة لنماذج الاستعارات في القرآن الكريم.
أجمع البلاغيون أن للاستعارة ثلاثة أركان هي:
1-المستعار منه،و هو المشبه به.
2-المستعار له،و هو المشبه.
3-المستعار،و هو اللفظ المنقول.
أما الأول و الثاني فهما طرفا الاستعارة،و لا بد أن يحذف أحدهما إلى جانب وجه الشبه حتى تصبح الاستعارة،و لما كانت الاستعارة تشبيها حذفت أداته،كان التأكيد للشبه الاستعاري ناجما عن كون التشبيه في هذا الجزء من الاستعارة هو الصورة التي يتخذها الشكل،أو الصيغة التي تمثل النموذج الأدبي،لهذا فلا بد لنا من الالتفات نحو هذه الصيغة و السير معها.و قد أدرك عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)هذه الظاهرة إدراك الخبير المتخصص فقسم مآخذ الشبه الاستعاري و مواطنه إلى أصول:
الأصل الأول:أن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة و المدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة.
الأصل الثاني:أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها،إلا أن الشبه مع ذلك عقلي.
الأصل الثالث:أن يؤخذ الشبه من المعقول للمعقول (1).و الحق أن تقرير عبد القاهر لهذا التقسيم على جانب كبير من الأهمية،إذ يصدر فيه
ص: 121
عن نقاء بلاغي سليم في ترصد مصادر الشبه في الاستعارة،و التي لا تعدو أن تكون وجها من هذه الوجوه:حسيا أخذ لمعنى حسي،أو حسيا أخذ لمعنى عقلي،أو عقليا أخذ لمعنى عقلي.
و نستدرك عليه العقلي الذي أخذ لمعنى حسي،و لعل السبب في إهماله-عنده-يرجع إلى أن حديثه منصب على ما يدرك بالنظرة العقلية فحسب،بدليل حديثه عن الأصل الثاني و هو آخذ الشبه الحسي إلى مثله، فإنه يعقب عليه بقوله:«إلا أن الشبه مع ذلك عقلي» (1)،أو لأن الاستدلال على المعنى الحسي بأمر عقلي خارج عن الأصل،لأن المحسوس أصل، و المعقول فرع،فكأنه استدلال على الأصل بالفرع،أو لأن مهمة الاستعارة تقريب البعيد لا تبعيد القريب،و الاستدلال على المحسوس بالمعقول من هذا الباب،لأن المحسوس أقرب فهما من المعقول الذي يكد الفكر فيه و يكدح،و بوصفه بديهيا لا يحتاج إلى إثبات،و هو نادر الوقوع عادة فأهمل (2).
و لما كان حديثنا عن الاستعارة في تقويم الفن القولي لا يعدو هذه الوجوه،فقد رجحنا أن تكون الأصول العامة في عناصر الشبه الاستعاري التي أوردها عبد القاهر هي الضوء الكاشف عن البعد الفني في الاستعارة لأن فيها اتجاها إلى معرفة روح الاستعارة و جوهرها،و ما هي عليه من التخييل و التمثيل،و هذا ما يهمنا رصده في استعارات القرآن الكريم، بوصفها عنصرا أصيلا من عناصر الصورة الفنية التي أرسى عليها قواعده.
و قد لمست في الاستعمال الاستعاري للقرآن الكريم الميل إلى أخذ الشبه من الشيء المحسوس إلى المعقول في الأغلب،و من ثم وجدت النماذج تميل إلى أخذ الشبه من المحسوس إلى المحسوس،و أخيرا من المعقول إلى المعقول،و هذه هي الأصول الثلاثة التي يستنبط منها وجه التشبيه الاستعاري في القرآن الكريم،و نماذج هذه الأصول كما يأتي؟1.
ص: 122
و هو أخذ الشبه الاستعاري من الحسي إلى العقلي،و هو أكثر أنواع الشبه في القرآن الكريم،و يمكن تجسيده في النماذج الآتية:
1-قوله تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها... (1)فقد استعار كلمة«انسلخ»و عبر بها تعبيرا دقيقا عن مدى التخلي التام عن آيات اللّه تعالى،فهي تصور حالة النزع الشديد في مفارقتها،و تمثل انحسار هذا الضوء الهادي عن قلب هذا الرجل تدريجيا حتى عاد فارغا من الهداية شيئا فشيئا.
و هذه الاستعارة تمثل دورا مهما في رسم المشهد التصويري لحالة هذا الرجل في تلاشي عناصر الخير عنده جملة،و تجرده منها تجردا كاملا يوحي بكيفية تجرد الشاة عن إهابها،و نزعها لردائها أثناء السلخ،في بطء و تدرج و شدة حتى عادت سنخا آخر في الهيكل و الصورة و التحول،و كذلك أمر هذا الرجل إذ استحال إلى حقيقة أخرى جوفاء مترهلة.
و بديهي أن الآيات في إدراك المعرفة أمر عقلي،و أن السلخ أمر مادي،فاستعير هنا المحسوس للتعبير عن المعقول بصورة شاخصة تنبض بالتعبير الحي،فتثبت الحقيقة الواقعة للأمر من المجرد العقلي إلى الإدراك الحسي المتميز (2).
2-قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ(27) (3)فقد استعير النقض،و هو الحل و هو حسي إلى عدم الوفاء بالعهود و هو عقلي، و استعير القطع و هو حسي،إلى ترك البر و هو أمر عقلي«و النهي عن قطع الرحم إنما هو نهي عن قطع صلتها بالبر فهو قطع مجازي،لأن القطع الحقيقي فصل جرم عن جرم» (4).و كذلك بالنسبة إلى نقض الميثاق،
ص: 123
فالنقض الحقيقي:«إزالة التأليف و الالتيام،ثم تشبه به ترك الوفاء بمقتضى العهود و العقود،شبه العهد و العقد بشيء ألف محكما ثم أزيل تأليفه بنقضه مع أن بقاء تأليفه أصون من نقضه،و العهود في نفسها لا تنقض و إنما تنقض أحكامها» (1).
و ما يقال في كلمتي«النقض»و«القطع»يقال في«يوصل»فليس المراد بها وصل الشيء المادي بشيء مثله،كوصل الحبل بالحبل،و القطعة بالقطعة،و البناء بالبناء،بل المراد هو المعنى الاستعاري من اللفظ،و هو البر خلاف القطع في معناه الاستعاري.
و كل هذه الألفاظ في الآية الكريمة،إنما استعيرت من المحسوس لإثبات أمر عقلي في أشكاله كافة.
3-قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ... (2)فقد استعار الذوق،و هو مما يحس في الطعم إلى الخوف و هو مما يدرك في النفس،و إلى الجوع و هو مما يعرف بالعقل،و الجوع و الخوف يدركان، و لا يلبسان،فعبر عن شدة الملابسة لهما باللباس.
و لعل الشريف الرضي(ت:406 ه)من أقدم من كشف حقيقة هذه الاستعارة و شرحها بالتفصيل في قوله:«و هذه استعارة لأن حقيقة الذوق إنما تكون في المطاعم و المشارب،لا في الكساء و الملابس.و إنما خرج هذا الكلام مخرج الخبر عن العقاب النازل بهم،و البلاء الشامل لهم،و قد عرف في لسانهم أن يقولوا لمن عوقب على جريمة،أو أخذ بجريرة:ذق غب فعلك،و أجن ثمرة جهلك،و إن كانت عقوبته ليست مما يحس بالطعم،و يدرك بالذوق،فكأنه سبحانه لما شملهم بالجوع و الخوف على وجه العقوبة حسن أن يقول تعالى:فأذاقهم ذلك،أي أوجدهم مرارته كما يجد الذائق مرارة الشيء المرير،و وخامة الطعم الكريه،و إنما قال سبحانه:
(لباس الجوع)و لم يقل طعم الجوع و الخوف،لأن المراد بذلك-و اللّه أعلم-وصف تلك الحال بالشمول لهم،و الاشتمال عليهم،كاشتمال2.
ص: 124
الملابس على الجلود،لأن ما يظهر منهم عن مضيض الجوع و أليم الخوف،من سوء الأحوال،و شحوب الألوان،و ضئولة الأجسام، كاللباس الشامل لهم،و الظاهر عليهم» (1).
و قد أجرى الشريف الرضي رحمه اللّه هذا الاستعمال الاستعاري على ما استخرجه بذائقته الفنية من طريقة العرب في جريان ذلك على لسانهم في مثل هذه الاستعارات المتمثلة بحديثه،و أبان في ذلك شمول حالة الجوع و الخوف لهم كاشتمال الملابس على الجلود.و جاء من بعده الزمخشري (ت:538 ه)فترجم قوله على شكل اعتراض يفترض فيجاب عنه،و قد أورد صيغته عنده هكذا:
«فإن قلت:الاذاقة و اللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟و الاذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار،فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت:أما الاذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا و الشدائد و ما يمس الناس منها،فيقولون:ذاق فلان البؤس و الضر،و أذاقه العذاب:شبه ما يدرك من أثر الضرر و الألم بما يدرك من طعم المر و البشع.و أما اللباس فقد شبه به لاشتماله على الملابس:ما غشي الإنسان و التبس به من بعض الحوادث،و أما إيقاع الاذاقة على لباس الجوع و الخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يفشى منهما و يلابس،فكأنه قيل:فأذاقه ما غشيهم من الجوع و الخوف» (2).
بل هو تعبير دقيق عن شدة مماسة الجوع و الخوف للإنسان حتى كأنه قد تلبس فيه لبوسا،و مسه مسا فعليا لاذعا،أكثر مما يمس اللباس الجلد.
و هو أخذ الشبه الاستعاري من المحسوس إلى المحسوس،و نماذجه في القرآن أقل توافرا من سابقه،و يرجح عندي أن يكون السبب في ذلك أن الأمر الحسي واضح على العموم،فلا ضرورة ملحة أن يمنحه القرآن
ص: 125
الكريم ما منح الشبه الاستعاري من الذهني إلى الحسي.و بالامكان تقريب هذا الجانب بما يأتي:
1-قوله تعالى: حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ... (1)فالأخذ و التزين عمليتان ماديتان محسوستان،و الأرض لا تأخذ بالزخرف،و لا هي بقابلة للتزين بذاتها،و لكنها الاستعارة التي تهب الحياة للجماد،و تمنح التصرف للموات حتى عدت الأرض:«آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون و اكتستها و تزينت بغيرها من ألوان الزين» (2).فكما تتزين الغادة،و تتجلى الحسناء،تتزين هذه الأرض و تأخذ زخرفها بالمعنى المشار إليه،و كلا الموضعين حسيان.
2-قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ... (3)أخذ فيه الشبه من حسي إلى حسي،قال الرضي:«و هذه استعارة،و المراد،يكاد يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه و شدة التماعه» (4).
فاستعار الخطف،و هو الأخذ بسرعة متناهية للتعبير مقاربة ذهاب البصر بشدة الإيماض،و هما حسيان.
3-عد الشريف الرضي من الاستعارة (5).قوله تعالى: اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ... (6)فالريح ليس بها قوة الاشتداد و الجري،و هما مما يوصف بهما الجسم المتحرك القادر بالإرادة،و لكن استعير هذا اللفظ لحركتها و هبوبها،تسخيرا،و وجه الشبه الاستعاري فيه حسي و هو الاشتداد إلى حسي و هو الريح.
و هو أخذ الشبه الاستعاري من معقول إلى معقول،و هو مقتضب فيما
ص: 126
أحسب،و مرد ذلك يعود إلى أن ممارسة القرآن الكريم الفنية ذات مهمة إيضاحية،و الإيضاح إنما يتم بتمثيل المجرد إلى الحاسة،أما تمثيل العقلي بالعقلي فهو انتقال عن الأصل الموضوع له التصوير الاستعاري، و مع هذا فإننا لا نفقد هذا النوع من الشبه الاستعاري في القرآن الكريم،و لعل أبرز مصاديقه هو تلك الآيات الكثيرة التي تتحدث عن الإيمان و الكفر مقترنة بالموت و الحياة،و كلاهما عقلي،و من ذلك قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ...(122) (1)إذا استعار للإيمان الحياة،و للكفر الموت،و الإيمان أمر عقلي،و الحياة أمر عقلي،و الكفر جانب مثالي، و الموت معنى مثالي،فهما استعارة عقلي لعقلي من هذا الوجه فحسب، على أن الآية قد أوضحت هذين الأمرين العقليين،بما استعارت لمعرفتهما من أمر واقعي محسوس و هو النور للأول،و الظلمات للثاني، و كأن تذييل هذه الاستعارة في هذا الكشف و الإيضاح هو استخراج عنصرين من عناصر الطبيعة و هما الظلمات و النور،لإمكان تطبيقهما على حالتي الحياة و الموت في الإيمان و الكفر،أو الهدى و الضلال،أو العلم و الجهل،و جميعها أمور معنوية عقلية.
و كما ظهر في الأصول الثلاثة المتقدمة وجه الشبه الاستعاري،فقد لا يظهر في الاستعارة وجه الشبه،و يكون إلى الخفاء أقرب،و عن الإدراك أبعد،فيعدونه من أحسن أنواع الاستعارة،و قد يبدو وجه الشبه كما تقدم- إلا أن خفاءه أوقع عند البلاغيين.
و قد عبر عن هذه الظاهرة العلوي(ت:749 ه)في حديثه عن التمثيل،و قد نوافقه في الفكرة،و لكننا نناقشه في النماذج التي اعتمدها أساسا لفكرته،قال:
«ثم إنه[يعني التمثيل]قد يتفاوت في الحسن لأنه يستعمل على وجهين:
ص: 127
أحدهما:أن لا يظهر وجه التشبيه في الاستعارة بل يكون تقدير التشبيه فيها عسرا صعبا،فما هذا حاله بعد من أحسن أنواع الاستعارة، و هذا كقوله تعالى:
فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ... (1) .
فما هذا حاله استعارة لا يظهر فيها وجه التشبيه،فلو أردت التكلف في إظهار وجه المشابهة لخرج الكلام عن حد البلاغة،و كلما ازدادت الاستعارة خفاء ازدادت حسنا و رونقا،و هذا هو مجراها الواسع المطرد.
و ثانيهما:أن يكون هناك مشبه و مشبه به من غير ذكر أداة التشبيه، فما هذا حاله من الاستعارة دون الأولى في الحسن،و التمثيل في القرآن كقوله تعالى:
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18) (2) .
فالآية إنما جاءت مسوقة على أن حال هؤلاء الكفار قد بلغوا في الجهل المفرط و العمى المستحكم في الإصرار و الجحود على ما هم عليه من الكفر و العناد،بمنزلة من هو أصم أبكم أعمى فلا يهتدي إلى الحق، و لا يرعوي عما هو عليه من الباطل» (3).و الحق أن ما ذكره العلوي وارد بالنسبة للشق الأول في التقرير لا في المثال،و ذلك أننا أوضحنا فيما سبق من هذا المبحث أن وجه الشبه الاستعاري في الاذاقة و اللباس حسي إلى معنوي عقلي و هما الجوع و الخوف،إلا أن يريد بوجه التشبيه العلاقة القائمة بين المشبه و المشبه به لا نسبة هذا الشبه،فيكون الأمر كما فرر.
و أما ما أورده في الطرف الثاني فمناقش فيه إذ قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18) (4)من التشبيه البليغ على أسلم الوجوه،لا من الاستعارة كما يتوهم،إذ قد تختلط الاستعارة بالتشبيه البليغ لتوهم اشتمالها8.
ص: 128
على ذكر الطرفين،كما في الآية،فقد عد الآلوسي(ت:1270 ه)فيها ضربا«من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما،و ذكرهما قصدا:حكما أو استعارة-مانع من الاستعارة عندهم» (1).
و هذا رد على من زعم أن في الآية استعارة،و هذا التقرير وارد لأمرين:
الأول:إن الحديث عن المنافقين،و هم يملكون أداة السمع و لكن لا يفقهون قولا،و يحملون آلة النطق و هي اللسان،و لكن لا ينبسون ببنت شفة،و هم يتمتعون بوجود العين،و لكن لا يبصرون شيئا،إذ لم يسخروا هذه الجوارح في طرقها المشروعة بوصفها وسائل للهداية،و دلائل إلى الحق،لهذا وصفوا بالصم و الخرس و العمى،تشبيها بمن لا يمتلك هذه الجوارح،فهو أصم حقيقة،و أبكم واقعا،و أعمى تشخيصا،و لما اشتمل البيان هنا على المشبه و المشبه به عاد تشبيها بليغا لا استعارة.
الثاني:لو قيل أن في الآية استعارة لوجب أن يكون المستعار له غير مذكور،و لما كان المستعار له مذكورا و هو(المنافقون)بأعيانهم حملت الآية على التشبيه البليغ،إلا أن يقال أن المستعار له حال المنافقين لا أشخاصهم فتكون حينئذ الاستعارة تبعية تصريحية (2).«و الاستعارة إنما تطلق حيث يطوي ذكر المستعار له،و يجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه و المنقول إليه» (3).و لما لم يكن هناك نقل و لا طي عن ذكر المستعار له فهو موجود،فلا وجه لتسمية ذلك بالاستعارة،بل هو بالتشبيه البليغ أليق و أولى.
و ليس ما يجري على سنن الاستعارة من طي ذكر المشبه من الاستعارة،بل يرد إلى التشبيه عادة،ففي قوله تعالى:
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ... (4) .9.
ص: 129
تشبيه أشياء بأشياء مع طي ذكر المشبهات،ففيها صيب و ظلمات و رعد و برق،و يجاب عنه:بأن ذكر المشبهات قد جاء مطويا على سنن الاستعارة، إذ المراد شيء واحد من التشبيه و هو المنافق في حالاته و ضلالاته،فكأن القرآن أراد تمثيلا مركبا من عدة أوصاف و حقائق،لموصوف واحد،و حقيقة واحدة حتى تعود الأوصاف كلها بتداخلها و تضامنها شيئا واحدا و هو التشبيه التمثيلي المركب،المنتزع من صور متعددة.
نعم هناك نوع من الاستعارة الدقيقة التي وردت في ألفاظ القرآن الكريم،و كيفيتها«أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومي إليه بذكر شيء من توابعه و روادفه تنبيها عليه...و منه قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ... (1)فنبه بالنقض الذي هو من توابع الحبل و روادفه على أنه استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة بين المتعاهدين» (2).
و هذا ملحظ دقيق للغاية،يمكن أن يقال عنه بأنه داخل تحت هذا الباب إذ سكت فيه عن ذكر المستعار.
لعل عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)من أوائل من قسم الاستعارة إلى قسمين:مفيدة و غير مفيدة.فالمفيدة عنده ما كان لنقلها فائدة و هي مدة هذا الفن و مداره،و غير المفيدة ما لا يكون لها فائدة في النقل، و موضعها حيث يكون اختصاص الاسم بما وضع له من طريق أريد به التوسع في أوضاع اللغة و التنوق في مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها (3).
و أشار أيضا إلى أنها استعارة بالاسم تارة و بالفعل تارة أخرى و لمح إلى التصريحية منها و المكنية (4).
ص: 130
و كان هذا التقسيم مدار البحث البلاغي عند المتأخرين،حتى إذا تلاقفوا هذه التقسيمات،أضافوا إليها،و شققوها إلى أقسام أخر،تتجاوز العشرة من حيث وجوه الشبه و أدوات التشبيه و أطرافه،مما ذهب برونق الاستعارة التصويري،و بهائها الفني فعادت علما جافا لا ينبض بالحياة.
و لا كبير أمر في ذكر جميع هذه الأقسام و الدخول في تفصيلات تلك الأنواع،و التعقيب على هذا و ذاك،و لكننا سنعالج في حدود معينة أهم ما تواضعوا عليه،و أبرز ما ذهبوا إليه،ممثلا له بما في كتاب اللّه تعالى من علائم و سمات و مصاديق:
1-الاستعارة التصريحية:و هي ما صرح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه،أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه،و مثالها من القرآن الكريم قوله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ... (1) .
ففي هذه الآية استعارتان في لفظي:الظلمات و النور،لأن المراد الحقيقي دون مجازهما اللغوي هو:الضلال و الهدى،لأن المراد إخراج الناس من الضلال إلى الهدى،فاستعير للضلال لفظ الظلمات،و للهدى لفظ النور،لعلاقة المشابهة ما بين الضلال و الظلمات؛فكما ترين الظلمات على الآفاق فتحجب الأضواء و الاشعاع فكذلك يرين الضلال على القلوب فيحجب الهداية و الرشاد.و لتشابه النور بالهدى في مجال الإيمان،فكما ينتشر النور في الآفاق فيملؤها سناء و بهاء،فكذلك ينتشر الهدى في القلوب فيملؤها تقوى و إيمانا،هذه العلاقة بين كلا الاستعمالين أدركت عقلا بقرينة حالية أملاها سياق النظم و ترابط المعاني.
و هذا الاستعمال-كما ترى-من المجاز اللغوي لأنه اشتمل على تشبيه حذف منه لفظ المشبه،و أستعير بدله لفظ المشبه به،و على هذا فكل مجاز من هذا السنخ يسمى«استعارة»و لما كان المشبه به مصرحا بذكره سمي هذا المجاز اللغوي،أو هذه الاستعارة«استعارة تصريحية»لأننا قد1.
ص: 131
صرحنا بالمشبه به،و كأنه عين المشبه مبالغة و اتساعا في الكلام.
2-الاستعارة المكنية:و هي ما حذف فيها المشبه به،أو المستعار منه،حتى عاد مختفيا إلا أنه مرموز له بذكر شيء من لوازمه دليلا عليه بعد حذفه.
و مثال ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى:
وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ...(154) (1) .
ففي هذه الآية ما يدل على حذف المشبه به،و إثبات المشبه،إلا أنه رمز إلى المشبه به بشيء من لوازمه،فقد مثلت الآية(الغضب)بإنسان هائج يلح على صاحبه باتخاذ موقف المنتقم الجاد،ثم هدأ فجأة،و غير موقفه، و قد عبر عن ذلك بما يلازم الإنسان عند غضبه ثم يهدأ و يستكين،و هو السكوت،فكانت كلمة(سكت)استعارة مكنية بهذا الملحظ حينما عادت رمزا للمشبه به.
و أظهر من ذلك في الدلالة قوله تعالى:
وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ(18) (2) .
فالمستعار منه هو الإنسان،و المستعار له هو الصبح،و وجه الشبه هو حركة الإنسان و خروج النور،فكلتاهما حركة دائبة مستمرة،و قد ذكر المشبه و هو الصبح،و حذف المشبه به و هو الإنسان،فعادت الاستعارة مكنية.
و هاتان الاستعارتان أعني التصريحية و المكنية نظرا فيهما إلى طرفي التشبيه في الاستعارة،و هما المشبه و المشبه به،فتارة يحذف المشبه فتسمى الاستعارة(تصريحية)و تارة يحذف المشبه به فتسمى الاستعارة(مكنية).
و كان عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)قد أشار-كما أسلفنا-8.
ص: 132
إلى هاتين الاستعارتين ضمنا،فقال عن التصريحية،هي أن تنقل الاسم «عن مسماه الأصلي إلى شيء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه و تجعله متناولا له تناول الصنعة للموصوف» (1).
و قال عن الاستعارة المكنية:«أن يؤخذ الاسم من حقيقته و يوضع موضعا لا يبين فيه شيء يشار إليه،فيقال:هذا هو المراد بالاسم و الذي استعير له و جعل خليفة لاسمه الأصلي و نائبا منا به» (2).
و هذان النوعان أهم أقسام الاستعارة و عمدتها،و هناك تقسيم لها باعتبار لفظها إلى أصلية و تبعية:
3-الاستعارة الأصلية،و هي ما كان اللفظ المستعار في الأسماء غير المشتقة،و هذا هو الأصل في الاستعارة،و مثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ... (3) .
فالاستعارة هنا في كلمتي:(الظلمات و النور)و كلاهما جامد غير مشتق،لأن المراد بهما جنس الظلمات و جنس النور.
4-الاستعارة التبعية،و هي الاستعارة التي تقع في الفصل المشتق أو الاسم المشتق أو الصفة المشتقة،و مثالها من القرآن الكريم قوله تعالى:
فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ... (4) ،فالمستعار هنا هو (اللباس)فقد شبه الجوع و الخوف بشبح يرتدي لباس الفزع،و لما كان متلبسا به من كل جانب،و ملتصقا بكيانه من كل جهة،عاد مما يتذوق ماديا و إن كان أمرا معنويا،ثم أستعير اللفظ الدال على المشبه به و هو اللباس للمشبه و هو الجوع و الخوف من لفظ مشتق و هو«اللبس».
و هناك تقسيم آخر باعتبار اللفظ المستعار مطلقا،إما أن يكون2.
ص: 133
محققا،و إما أن يكون متخيلا،فبرزت استعارتان هما:التحقيقية و التخييلية.
5-الاستعارة التحقيقية:و هي أن يذكر اللفظ المستعار مطلقا بحيث يكون المستعار له أمرا محققا يدرك في الفعل أو الحس،و مثاله قوله تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ... (1).
فإن الاستعارة هنا مفهومه،لأن المراد بالسلخ لغة هو كشط الجلد، و المراد به هنا عقلا هو إزالة الضوء،فالاستعارة محققه الوقوع عقلا و حسا،لأن مفهوم لفظ السلخ بعد صرفه عن معناه الحقيقي لا يتجه إلا إلى إيضاح أمر المستعار و تجلية حقيقته.
6-الاستعارة التخييلية:و هي أن يستعار لفظ دال على حقيقة خيالية تقدر في الوهم،ثم تردف بذكر المستعار له إيضاحا لها أو تعريفا لحالها (2).
و مثال ذلك من القرآن الكريم كل الآيات التي يتوهم منها التشبيه،أو يتخيل فيها التجسيم تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ... (3).
و قوله تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ... (4).
و قوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... (5).
كلها استعارات تخييلية،إذ تخيل اليد و الوجه بالنسبة إليه تعالى إنما يصح على جهة الاستعارة لا الاستعمال الحقيقي.
و هناك أقسام للاستعارة باعتبار الملائم تنقسم إلى مرشحة و مجردة و مطلقة،أعرضنا عن الخوض في تفصيلاتها طلبا لتقليل الأقسام و اختصار الكلام.5.
ص: 134
كما أنها تنقسم من حيث الافراد و التركيب إلى مفردة و مركبة، فالمفردة كما في التصريحية و المكنية،و المركبة كما في الاستعارة التمثيلية التي تستعمل في غير ما وضع تركيبها لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي (1).
و يبدو مما تقدم أن الاستعارة في البيان العربي صيغة من صيغ الشكل الفني في استعمالاته البلاغية الكبرى،تحمل النص ما لا يبدو من ظاهر اللفظ،أو بدائي المعنى،و إنما تؤلف بين هذا و هذا في عملية إبداع جديدة تضفي على اللفظ إطار المرونة و النقل و التوسع،و تضيف إلى المعنى مميزات خاصة نتيجة لهذا النقل الذي قد دل على معنى آخر،لا يتأتى من اللفظ خلال واقعه اللغوي.
فالاستعارة بهذا تنتقل بالنص من الجمود اللفظي المحدد إلى السيرورة في التعبير،و المثلية الذائعة في الاستعمال.
و قد ثبت دون ريب-من خلال نماذج البحث-أن استعارات القرآن الكريم لألفاظه و كلماته،ركن من أركان البلاغة العربية المتطورة،تصقل الشكل،و تضيء الهيكل العام،و لا تستعمل فيه بوصفها استعارة فحسب، بل لأنها أسلوب مشرق من أساليب الصور الفنية التي تجمع إلى جنب العمق في نقل اللفظ و إضافة المعنى-الحس و الحياة في النص الأدبي.2.
ص: 135
ص: 136
1-تعريف الكناية 2-بلاغة الكناية و خصائصها 3-أقسام الكناية 4-الكناية و التعريض 5-الكناية و الرمزية
ص: 137
ص: 138
أ-في نص لغوي نجد ابن منظور(ت:711 ه)متحدثا عن الكناية دون تحديد لتعريفها،و لكنه يومي إليه،فيجمع في ذلك ما شاع لغة،و ما استعمله النحاة،و يدور حول المصطلح بعناية،فيقول:«الكناية أن تتكلم بشيء و تريد غيره،و كنى عن الأمر بغيره يكني كناية،يعني:إذا تكلم بغيره،مما يستدل عليه،و استعمل سيبويه الكناية في علامة المضمر» (1).
ب-و في الموروث الحضاري للبيان العربي يبدو كل من أبي عبيدة (ت:209 ه)و الجاحظ(ت:255 ه)و المبرد(ت:285 ه)قد تناول الحديث عن الكناية بمعنى دون آخر،على الوجه الآتي:
1-أبو عبيدة معمر بن المثنى،يشير إلى أن الكناية هو ما فهم من سياق الكلام من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة (2).
2-أبو عثمان الجاحظ،يشير إلى الكناية و التعريض،و يذكر أنهما لا يعملان في العقول عمل الإفصاح و الكشف (3).و يقول أيضا:رب كناية تربي على إفصاح (4).
3-محمد بن يزيد المبرد،يرى أن الكناية تقع على ثلاثة أضرب:
ص: 139
أحدها:التعمية و التغطية،و ثانيها:الرغبة عن الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره.
ثالثها التفخيم و التعظيم،و منه اشتقت الكنية (1).
هؤلاء الأعلام الثلاثة أشاروا مجتمعين إلى بعض جوانب الكناية دون التمحض للتعريف،و وضع الحد الاصطلاحي الدقيق،فأبو عبيدة يدور حوله موليا للكناية مهمة النحويين في الإضمار و عدم الإظهار،و الجاحظ يعدها في الأساليب البلاغية ليس غير،و المبرد يتحدث عن مميزاتها و الهدف منها،و طريقة استعمالها.
ج-و في جانب آخر نلحظ كلا من أبي هلال العسكري(ت:395 ه)و أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني(ت:456 ه)خالطين بين الكناية و التعريض تارة،و بين الكناية و الإشارة تارة أخرى.فأبو هلال يقول:«الكناية و التعريض أن يكنى عن الشيء و يعرض به و لا يصرح،على حسب ما عملوا باللحن و التورية عن الشيء» (2).و ابن رشيق أدخل الكناية في باب الإشارة لأنها نوع من أنواعها كالتفخيم و الإيماء و التعريض و الكناية و التمثيل و الرمز و اللحن و اللغز و التعمية و الحذف و التورية (3).
فهي عنده قسيم لا أساس،و فرع لا أصل.
د-و جاء عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)ليضع للكناية حدا اصطلاحيا و بعدا بيانيا تبعه عليه من لحقه و اقتفى أثره فيه من أتى بعده، فلقد تناول الكناية في عدة مواضع من معالجاته البلاغية موجزا و مفصلا و مدللا.
قال في تعريفها:«المراد بالكناية هاهنا:أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني،فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة،و لكن يجيء إلى معنى هو تاليه و ردفه في الوجود،فيومئ به إليه،و يجعله دليلا عليه» (4).0.
ص: 140
و يدلل عبد القاهر على صحة هذا الرأي،و يضيف إليه أن معرفة المعاني الكنائية إنما تتأتى عن طريق العقل لا اللفظ فيقول:«و إذا نظرت إلى الكناية وجدت حقيقتها و محصول أمرها:إنها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ:أ لا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم:هو كثير رماد القدر،و عرفت ذلك من اللفظ،و لكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت إنه كلام قد جاء عنهم في المدح،و لا معنى للمدح بكثرة الرماد،فليس إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد أنه تنصب له القدور الكثيرة و يطبخ فيها للقرى و الضيافة،و ذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها،و إذا كثر إحراق الحطب تحتها كثر الرماد لا محالة.و هكذا السبيل في كل ما كان كناية» (1).
و هناك شذرات من آرائه تدور حول هذا المركز،و قد تتعلق ببلاغة الكناية،و قد توحي بالتعريف:«أ لا ترى أنك إذا قلت:هو كثير رماد القدر،أو قلت:طويل النجاد،أو قلت في المرأة:نؤوم الضحى:فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ،و لكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره،ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا هو غرضك» (2).
و كأن عبد القاهر يريد بالكناية المعنى الثانوي الذي يستفاد من المعنى الأولي للفظ لا من اللفظ نفسه،و من جميع ما ذكره يتجلى تعريفه للكناية بإثبات معنى من المعاني لا يستفاد من اللفظ الموضوع له في اللغة،و لكن من معنى المعنى الذي يستند إليه المعنى الأولي بما أومي به إليه،و جعله دليلا عليه.
ه-و جاء من بعد عبد القاهر من نسج على منواله،و أفاد من استدلاله على الوجه الآتي:
1-فخر الدين الرازي(ت:606 ه)و قد عرف الكناية بقوله:«اعلم أن اللفظة إذا أطلقت و كان الغرض الأصلي غير معناها فلا يخلو إما أن3.
ص: 141
يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالا على ذلك الغرض الأصلي،و إما أن لا يكون،فالأول هو الكناية و الثاني هو المجاز» (1).
و لا جديد فيما أبداه الرازي كما ترى.
2-و قال السكاكي(ت:626 ه)«هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما هو ملزومه لينتقل من المذكور إلى المتروك» (2).
3-و قال ابن الأثير(ت:637 ه):«أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز بوصف جامع بين الحقيقة و المجاز» (3).
4-و قد نقل ابن الزملكاني(ت:651 ه)تعريف عبد القاهر نصا و لم يزد عليه (4).
5-و قال القزويني(ت:739 ه)«الكناية:لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذ» (5).
6-و اختار العلوي(ت:749 ه)أنها«اللفظ الدال على معنيين مختلفين حقيقة و مجازا من غير واسطة لا على جهة التصريح» (6).
7-و أعاد الزركشي(ت:794 ه)تعريف الجرجاني (7).
8-و كان شهاب الدين النويري(ت:733 ه)و هو معاصر للقزويني و العلوي قد أفاض في الحديث عن الكناية في عدة مجالات لها قيمتها التطبيقية،و كأنه بذلك قد حصر ما سبق إليه البلاغيون،و جمع شتات آرائهم،و نماذج تمثيلاتهم،و قدمها بلاغيا على الوجه الآتي:2.
ص: 142
أولا:عرف النويري الكناية عند علماء البيان بما يأتي«فالكناية عند علماء البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني لا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة،و لكن يجيء إلى معنى هو تاليه و ردفه في الوجود فيومي به إليه،و يجعله دليلا عليه،و من ذلك قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ...(90) (1) .
كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر (2).
و ما أبداه النويري عبارة عن نقل حرفي لرأي عبد القاهر لم يزد عليه شأنه بذلك شأن من تقدمه.
ثانيا:عد النويري الكناية من الاستعمالات الحقيقية لا المجازية فقال:«و اعلم أن الكناية ليست من المجاز لأنك تعتبر في ألفاظ الكناية معانيها الأصلية،و تفيد بمعناها معنى ثانيا هو المقصود،فتريد بقولك:كثير الرماد حقيقة و تجعل ذلك دليلا على كونه جوادا،فالكناية ذكر الرديف، و إرادة المردوف» (3).
و هو بهذا عيال في التمثيل و الاستنباط على عبد القاهر أيضا.
ثالثا:و أشار النويري إلى موضع الكناية فقال:
«و الكنايات لها مواضع،فأحسنها العدول عن الكلام القبيح إلى ما يدل على معناه في لفظ أبهى منه.و من ذلك أن يعظم الرجل فلا يدعى باسمه و يكنى بكنيته أو يكنى باسم ابنه صيانة لاسمه،و قد ورد في ذلك كثير من آي القرآن،فمنها قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً (4)أي كنياه.
و
قد كنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم علي بن طالب عليه السّلام بأبي تراب (5).3.
ص: 143
و يبدو أن لا علاقة للكناية بالجزء الأخير من حديثه إذ هو يتعلق بالكنية لا الكناية.
رابعا:و أبان النويري الهدف من الكناية فقال«و من عادة العرب و شأنهم استعمال الكنايات في الأشياء التي يستحيى من ذكرها،قصدا للتعفف باللسان،كما يتعفف سائر الجوارح،قال اللّه-عزّ و جلّ-تأديبا لعباده:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ (1) فقرن عفة البصر بعفة الفرج.
و في القرآن كنايات عدل بها عن التصريح تنزيها عن اللفظ المستهجن كقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ... (2)(3).
و يبدو أن النويري و هو من المتأخرين قد عنى بالكناية تعريفا و تقويما و تمثيلا.
هذه هي جملة التعريفات للكناية،تختلف في اعطاء المفهوم الحقيقي للمصطلح الكنائي شدة و ضعفا،مطابقة و مخالفة،حتى اختلطت بفنون أخرى،و شاركت مصطلحات مختلفة.
و يبدو لي أن عبد القاهر كان أكثر تركيزا أو أصوب في تحديد المعنى الاصطلاحي،و الأمر كما رأيت.
تتصدر الكناية مرتبة متميزة في كيان البيان العربي،فالتعبير بالكناية له منزلة التصوير بالاستعارة،فكل منهما يصدر عن ذائقة فنية،و قيمة بلاغية تتعلق بفن القول.
يقول عبد القاهر الجرجاني:«قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ
ص: 144
من الإفصاح،و التعريض أوقع من التصريح و أن للاستعارة مزية و فضلا، و أن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة،إلا أن ذلك و إن كان معلوما على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل،في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته،و حتى يتغلغل الفكر إلى زواياه،و حتى لا يبقى عليه موضع شبهة، و مكان مسألة...و اعلم أن سبيلك أولا:أن تعلم أن ليست المزية التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره،و المبالغة التي تدعى لها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره،و لكنها في طريق إثباته لها و تقريره إياها...أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم-إذا رجع إلى نفسه-أن إثبات الصفة بإثبات دليلها،و إيجابها بما هو شاهد في وجودها آكد و أبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فثبتتها هكذا ساذجا غفلا،و ذلك أنك لا تدعي شاهد الصفة و دليلها إلا و الأمر ظاهر معروف،و بحيث لا يشك فيه،و لا يظن بالمخبر التجوز و الغلط» (1).
و لا يكتفي عبد القاهر في بيان مزايا الكناية و خصائصها عند هذا الحد بل يزيد الفكرة شرحا،و ينورها إيضاحا فيقول:«فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره و المبالغة التي تحسها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها، و لكنها في طريق إثباته لا،و تقريره إياها إنك إذا سمعتهم يقولون:إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزية و فضلا،و توجب لها شرفا و نبلا،و أن تفخمها في نفوس السامعين:لا،فإنهم لا يعنون أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها كالقرى و الشجاعة و التردد في الرأي،و إنما يعنون إثباتها لما تثبت له و يخبر بها عنه،فإذا جعلوا للكناية مزية على التصريح لم يجعلوا تلك المزية في المعنى المكنى عنه،و لكن في إثباته للذي ثبت له،و ذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغير في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها،و يترك أن تذكر الألفاظ التي هي لها في اللغة،و من هذا الذي يشك أن معنى طول القامة و كثرة القرى لاا.
ص: 145
يتغيران بأن يكنى عنهما بطول النجاد،و كثرة رماد القدر،و تقدير التغيير فيهما يؤدي إلى أن لا تكون الكناية عنهما و لكن بغيرهما» (1).
و لعل أسلوب الكناية من بين أساليب البيان هو الأسلوب الوحيد الذي يستطيع به المرء أن يتجنب التصريح بالألفاظ الخسيسة أو الكلام الحرام...و العبارات المستهجنة التي تدخل في دائرة الكلام الحرام قد يكون باعثها الاشمئزاز،و قد يكون باعثها الخوف،الخوف من اللوم و النقد و التعنيف و الخوف من أن يدفع المرء بالخروج عن آداب المجتمع الذي يعيش فيه لكل ذلك كانت الكناية هي الوسيلة الوحيدة التي تيسر للمرء أن يقول كل شيء،و أن يعبر بالرمز و الإيحاء عن كل ما يجول بخاطره (2).
ان اللغة المهذبة مصدر إيحائي من مصادر الفكر العربي و القرآني، و قد كان القرآن الكريم حريصا كل الحرص على إيصال مفاهيمه إلى الجميع دون جرح العواطف أو خدش المشاعر،أو اشمئزاز النفوس،و كان الطريق إلى ذلك هو الكناية بما تمتلك من قدرة على التعبير الموحي و المهذب بوقت واحد،و أضافت إلى ذلك الاتساع في الكلام،و المبالغة في النكير، و المحافظة على الأدب الراقي الممتاز،و حسبك في النماذج الآتية دليلا على ما نقول:
أ-حينما يريد القرآن الكريم التعبير عن مبدأ الموازنة في الانفاق و القصد في المعاش،يرسم لنا صورة فنية،رائعة لحالتين متناقضتين حالة البخل إلى درجة الشح،و حالة الكرم إلى درجة التبذير،و يجد خير مثال لذلك اليد المغلولة إلى العنق التي لا تستطيع أن تتصرف،و لا تستطيل إلى التكرم فهي جامدة منقطعة مشلولة مقيدة،للتعبير عن حالة البخل و التقتير، و نفس هذه اليد مبسوطة لا تقبض على الشيء،و لا يستقر بها شيء للتعبير عن الإفراط و التبذير إلى حد السفه،و لقد كانت هذه الصور مما يطرب لها العرب،و يهزهم بها حسن الكناية و جودتها حتى عادت مثلا من الأمثال سيرورة و ذيوعا و انتشارا،و ذلك قوله تعالى:4.
ص: 146
وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً(29) (1) .
ب-و حينما يريد القرآن الكريم للكلمة المهذبة أن تشيع،و للعبارة المؤدبة أن تنتشر يعمد إلى مجموعة الألفاظ التي تتعلق بالجنس فيعبر عنها تعبيرا موحيا،تفهم من ضم بعضه إلى بعض مراد اللّه به بعبارة مؤدبة من غير حذر أو إحراج فيقول سبحانه و تعالى:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (2) .
و يقول تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (3)و في ذلك من التهذيب و التأديب و حسن المأخذ ما فيه.
ج-و حينما يريد اللفظ أن يرتفع بمستواه،و للكلمة أن تسمو بعطائها،يتكلم باللازم،و يكنى عن نتائج ذلك بما يذكره من اللفظ الظاهر فيقول عن المسيح و أمه: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (4)و هو كناية عن الحاجة.و كذلك قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (5).
فإن المراد ليس المكان المرتفع من الأرض و لكن ما يؤتى عليه فيه عند قضاء الحاجة،بوصفه لازما له.
د-و حينما يريد القرآن الكريم تهذيب النفس و الارتفاع بمستواها إلى درجة المسئولية فإنه يمنع عليها الاغتياب بتكثيف ظله بأن يعمد إلى صيغة الكناية للتعبير عن هذا الهدف الكبير،فيصوره تصويرا يدعو إلى اشمئزاز النفوس و كرب القلوب فيقول تعالى:
وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ... (6) .2.
ص: 147
فعدل سبحانه عن ذكر مادة الاغتياب مكررة و كنى عنها بأكل لحم الأخ،و لم يكتف بذلك حتى جعله ميتا،فكان هذا التشبيه التمثيلي الممض،و التجسيم الكنائي المشمئز داعية إلى العرب من جهة،و إلى تأنيب الضمير من جهة أخرى.
إن هذه المعاني التي أثارها القرآن الكريم،و هو يصوغها كنائيا تدل دلالة قاطعة على عدة جوانب نفسية توخى القرآن الكريم مراعاتها و الحفاظ عليها،تكريما للألفاظ و احتراما للكلمات،و مراعاة لأدب النفوس،و كل ذلك يدل على أهمية الكناية و جليل منزلتها في التعبير المثلي في القرآن و عند العرب.
يستفاد من تقسيم البلاغيين المتأخرين،أن للكناية ثلاثة أقسام باعتبار المكنى عنه،فقد يكون المكنى عنه صفة،فتجيء الكناية لطلب نفس الصفة،و قد يكون المكنى عنه موصوفا فتجيء الكناية لطلب نفس الموصوف،و قد يكون المكنى عنه نسبة،فتجيء الكناية لطلب النسبة بين الصفة و الموصوف.
و للوقوف على أبعاد هذا التقسيم نرصده بالشكل الآتي:
و هي التي يطلب بها نفس الصفة،و المراد بالصفة،الصفة المعنوية، كالجود،و الكرم،و الإباء و الشجاعة و أمثال ذلك،لا النعت المعبر عنه بالصفة في اصطلاح النحويين (1).
أ-فأنت إذا نظرت إلى قوله تعالى:
وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً(29) (2) .
ص: 148
فسترى أن الحديث في الآية و قد جاء منصبا حول صفتين معنويتين هما البخل و التبذير،و لكن أدب القرآن العظيم لم يذكرهما بالاسم بل عبر عنهما بالكناية بتصويره الفني الدقيق،فترك التصريح إلى التلميح،و الذكر إلى الإشارة،فقرن البخل باليد المغلولة إلى العنق التي لا تستطيع حولا و لا طولا،فهي مقيدة لا تتصرف،و محجورة لا تتحرك.و قرن التبذير و الإسراف باليد المبسوطة التي لا تقبض شيئا،و لا يستقر عليها شيء.
لقد كان حديث الآية منصبا حول هاتين الصفتين المعنويتين فعبر عنهما بهذا المعيار البلاغي السليم،و هو الكناية.
2-و العرب حينما تتخلى عن التعبير المباشر إلى التعبير غير المباشر،فإنها تضع لذلك ألفاظا و تصطلح كلمات،تدل على المراد بالكناية،و من ذلك أنهم يكنون عن المرأة بالشجرة و النخلة و البيضة و النعجة،و قد أشار إلى ذلك ابن رشيق القيرواني،فعدّ من الكناية قول اللّه عزّ و جلّ في إخباره عن خصم داود عليه السلام:
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ (1) (2) .
3-قال الخطيب القزويني(ت:739 ه):و من لطيف هذا القسم قوله تعالى: وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ... (3).
أي:و لما اشتد ندمهم و حسرتهم على عبادة العجل،لأن من شأن من اشتد ندمه و حسرته،أن يعض يده غما،فتصير يده مسقوطا فيها،لأن فاه قد وقع فيها (4).
و هي التي يطلب بها نفس الموصوف،و الكناية هنا تختص بالمكنى عنه:
ص: 149
1-قال تعالى:
وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللّهِ إِلَى النّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19) حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ(20) (1) .
فقد عبر بالكناية عما لا يحسن ذكره أدبا بجلودهم،و في ذلك إضاءة مشرقة للتعبير المهذب،بما يدل على المعنى المراد،دون الدخول بنبو الألفاظ،و عنت الكلام.
2-و قد يرغب عن اللفظ الفاحش بالتعبير المؤدب الذي يدل على معناه كما حملوا على ذلك قوله تعالى:
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ...(75) (2) فإن في ذلك كما يزعمون كناية عما لا بد لآكل الطعام منه.
و يراد بها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه،و قد عبر عنه ابن الزملكاني بقوله:
«أن يأتوا بالمراد منسوبا إلى أمر يشتمل عليه من هي له حقيقة» (1).
و المراد بهذه الكناية تخصيص الصفة بالموصوف لا عن طريق إثبات الصفة تصريحا بل عن طريق الكناية و خير مثال على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى:
اَلْقارِعَةُ(2) مَا الْقارِعَةُ(3) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ(3) (4) .
فقد أراد التعبير عن يوم القيامة لا بصريح اللفظ،بل بنسبة أوصافها و تأكيدها بالقارعة،كناية عن القيامة،فقد أثبت أمرا لأمر،و هي أن القيامة
ص: 150
تقرع القلوب بأهوالها و أصدائها و وقعها،و ذلك تفخيم لمعنى القيامة و تعظيم لشأنها،و هنا تخصص الصفة بالموصوف بوساطة طرف آخر، فالصفة القرع،و الموصوف القيامة،و الطرف الثالث،هو القارعة فيما يبدو لي،و ذلك هو كناية النسبة.
هذه التقسيمات للكناية هي التي أشار إليها عبد القاهر في مباحثه البلاغية كما منّ (1).
إلا أن المتأخرين كالسكاكي و القزويني هم الذين حددوا هذه المعالم بالتسمية و التدقيق.
هناك لمح صلة متقارب من وجه،و مفترق من وجه بين الكناية و التعريض،حتى قال السكاكي:«متى كانت الكناية عرضية كان إطلاق اسم التعريض عليها مناسبا» (2).
و يبدو من هذا أن التعريض من فصائل الكناية،في حين كان ابن رشيق كما سبق قد فصل بين التعريض و الكناية فعدها نوعا من أنواع الإشارة (3).
و قد كشف ابن الأثير(ت:637 ه)الفروق المميزة بين الأسلوبين فقال:«و قد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض و لم يفرقوا بينهما،و لا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه بل أوردوا لهما أمثلة من النظم و النثر و أدخلوا أحدهما في الآخر فذكروا للكناية أمثلة من التعريض و للتعريض أمثلة من الكناية» (4).
و عنده أن التعريض:«هو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي و لا المجازي» (5).
ص: 151
و هو بهذا التعريف يثير مسألة هامشية بالنسبة للكناية فهل هي من أقسام المجاز أو الحقيقة،أو أنها تحمل على الحقيقة و المجاز،و كل منهما يحقق المعنى المراد،و يفهم من كلامه أن هناك فروقا مميزة بين التعريض و الكناية تتلخص بما يأتي:
أ-أن الكناية عنده تقع في المجاز،و أن التعريض ليس منه بشيء، لأنه يفهم من جهة القرينة العرضية فلا علاقة له باللفظ في حقيقته و مجازه.
ب-أن الكناية تقع في المفرد و المركب بينما يختص التعريض بوقوعه في المركب فحسب.
ج-أن التعريض أخفى من الكناية،لأن دلالة الكناية تعرف عن طريق اللفظ،و التعريض يفهم عن طريق الإشارة،و ما دل عليه اللفظ يكون أوضح مما لا يدل عليه اللفظ و إن علم بدلالة أخرى (1).
و الحق أن ابن الأثير قد أثبت الفرق الظاهر بين الكناية و التعريض بهذه الوجوه،فإنك لو نظرت إلى قوله تعالى: قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ(63) (2)لعرفت أن دلالة التعريض في الآية قد وصلت إلى ذهنك من جهة المفهوم لأن هدف إبراهيم إقامة الحجة و البرهان على قومه،بأن هؤلاء لا يضرون و لا ينفعون،فهم لا ينطقون،و أبسط مظاهر توقع النفع أو الضر أن يعي الشيء و يتكلم ليحقق ما يريد،و الحجر لا يعي و لا يتكلم فسلب عنه حينئذ أبسط مظاهر الضر و النفع.
و في قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ(27) (3).
تعريض بأن اللّه لو أرسل بشرا رسولا،لاختارنا دونك،لاعتبارات7.
ص: 152
في مقاييسهم تقتضي أحقيتهم النبوة كما يتخيلون.
و هذا الأسلوب جار بما جرى عليه العرب في استعمالاتهم لأنه أبلغ من التصريح بلوغا للمراد،و تلطفا في الغاية.
و في قوله تعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ(10) (1).
في هذه الآية دلالة خاصة حملها الزمخشري على التعريض فقال:
«و في طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة(عائشة و حفصة)و ما فرط منهما من التظاهر على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم بما كرهه،و تحذيرهما على أغلظ وجه و أشده...و أن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول اللّه،فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين» (2).
إن التعريض في القرآن الكريم أسلوب مشرق من الأساليب النيابية يحتمه الأدب القرآني،و تدعو إليه لغته المهذبة،تقويما للخلق،و صيانة للنفس الإنسانية من العبث و الغيظ و الإثارة المؤذية.
الصلة بين الكناية و الرمز شبيهة بصلة الكناية بالتعريض فكلاهما ينبع من أصل واحد،و هو إرادة غير ظاهر المعنى،و دلالة اللفظ الأولية،فلقد استعمل الرمز عند العرب في موضع إشارة و التلميح حينا،و في مجال الإيحاء و التأثير النفسي حينا آخر.و على هذا فالرمز عند العرب ما مثل أفكارا تؤثر في النفس،و تنطلق إلى الخارج بغير ألفاظها المعهودة،فاللفظ أداة لا تعبر عن المعنى المراد بدلالتها،و إنما يستفاد المعنى من تلويح و إشارة ذلك اللفظ.
و قد استعمل القدماء الرمز فعبروا عنه بالإشارة مرة،و باللمح مرة
ص: 153
أخرى،و باللحن تارة ثالثة،و حملوا عليه قول الشاعر: (1)
منطق صائب و تلحن أحيانا و خير الحديث ما كان لحنا
فكأنهم أرادوا باللحن الانتقال في الكلام إلى غير وجهه الظاهري، و التوجه به في نحو جديد يلتبس على السامع و هو الرمز.
و قد جاء في تعريف النقاد القدامى للرمز ما يأتي:
«و أصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يفهم،ثم استعمل حتى صار كالإشارة» (2).
و هذا التعريف غير كاف لأن يأخذ المفهوم الرمزي صيغته الاصطلاحية،و إن كان التعبير لا يختلف عن تعريف المحدثين له إلا أنهم وسعوا المفهوم فصار حدا لما لا يفهم من الكلام في لفظه و معناه.
و الرمز بعد هذا وسيلة من وسائل التعبير لبث ما في النفس من شجا و ألم،و كشف لما تكنه من لوعة و أسى و حرمان،و لو أردنا مثالا توضيحيا على ذلك لأخذنا بما فسره الدكتور طه حسين من قصيدة المتنبي التي يبدؤها بقوله: (3)
ليالي بعد الظاعنين شكول طوال،و ليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده و يخفين بدرا ما إليه سبيل
فهو يحلل الصورة الرمزية في القصيدة بما يخالف تأدية الألفاظ، و لكنها لما كانت صورة رمزية للتعبير عن حس داخلي بدأها بهذا الغناء الحزين،فكان في القصيدة كما يرى الدكتور طه حسين«حزن دفين يصدر أحيانا عن نفس الشاعر التي لم تدرك من آمالها شيئا أو لم تكد تدرك منها شيئا،و يصدر أحيانا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تبلي فتحسن البلاء،و تجاهد فتحسن الجهاد،و لكنها حيث هي لا تتقدم خطوة و لعلها تتأخر خطوات...حياته متشابهة كحياة المسلمين و كحياة الأمير،و إذن3.
ص: 154
فهذه الليالي المتشابهة في الطول،المتشابهة في أنها تبدي له البدر الذي لا يريده،و تخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى،و يطمح إليه كل الطموح،و لا يجد إليه مع ذلك سبيلا،هذه الليالي المتشابهة التي أمضته و ثقلت عليه لتشابهها،لم لا تكون رمزا لهذه الحياة المتشابهة التي تمض و تثقل بتشابهها؟..
لم لا يكون هذا البدر شيئا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسنة و الرماح؟لم لا يكون البدر رمزا لهذه الآمال النائية،و هذه الهموم البعيدة التي تاقت إليها نفس الشاعر منذ أن أحس الحياة،و قدر على النشاط،و التي أنفق ما أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها» (1).
و قد يبدو هذا التفسير الكاشف عن دقائق الأمور غريبا.و لكن النص -دون أدنى شك-يتحمل هذا التفسير،و نفسية المتنبي تتم عن هذا الرمز، إشارة كما تقدم،و تصريحا كما في قوله مخاطبا كافورا الإخشيدي: (2)
و غير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكا للعراقين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
و هو يضرب على هذا الوتر و يلوح إليه مرارا كما في قوله في خطاب كافور الإخشيدي أيضا: (3)
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغني منذ حين و تشرب
وهبت على مقدار كف زماننا و نفسي على مقدار كفك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني،و شغلك يسلب
فإذا أضفنا إلى هذين شخصية المفسر نفسه،كالدكتور طه حسين حصلت لنا القناعة التامة و توصلنا إلى مدلول الصورة الرمزية التي حاولها أبو الطيب المتنبي:
و من خلال فهمنا للرمز بالإضافة إلى ما تقدم يلحظ أن اللغة الرمزية7.
ص: 155
لا علاقة لها بالمعاني العابرة التي يوحي بها اللفظ،و لا بالألفاظ الدالة على تلك المعاني،و أن شيئا ثالثا في الاعتبار يرمي إليه الشاعر،قد يفهمه غيره من خلال معرفة نفسية الشاعر و دراسة جوانبه في آماله و آلامه...إلا أن الألفاظ وسيط يلوّح لهذه الحقائق.
و الرمز بعد هذا وسيلة لجأ إليها المعذبون في الأرض،ممن كمت أفواههم،أو خنقت عواطفهم،فما استطاعوا التعبير الحي المباشر، فعمدوا إلى هذا التلويح نتيجة الخوف و الحذر و التصريح،تنفيسا عن اتجاهات داخلية تنبعث من الضمير،و تنطلق من الحنايا،متخذة قوالب و أسماء و اصطلاحات و رموزا قد لا يتنبه لها خلي النفس (1).
و لكن استعمال الرمز في القرآن يختلف بظاهرته عن هذا المفهوم البشري،فالقرآن يستطيع أن يعبر عن كل حقيقة صراحة دون حذر أو تردد، و لكنه يتخذه وسيلة مهذبة من وسائل التعبير الفني،دون تجريح أو تقريع أو لوم أو تعنيف،بما يؤثر شعورا غامضا بالنفس أو أسى داخليا في المشاعر و العواطف،و إنما يمس النفس مسا رفيقا،و يداعب العواطف مداعبة هادفة.
لقد وردت مادة الرمز في القرآن مرة واحدة في قوله تعالى:
قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً... (2) فيما اقتص اللّه تعالى من خبر زكريا،و قد فسروه بأنه الإيماء تارة و تحريك الشفتين تارة أخرى،و قد يستعمل في الإيماء بالحاجب و العين و اليد (3).
و قد يزداد تعجبك من بلاغة القرآن و دقة إشارته إذا علمت أنه لم يستعمل هذه المادة إلا في هذا الموضع،و هو بذلك يشير إلى مصطلح الرمزية الحديث،فيعبر عنه«رمزا»إلى حبس اللسان على الشكر فقط بما أشار إليه الزمخشري:«كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر،قيل:آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر،و أحسن الجواب و أوقعه ما كان مشتقا منا.
ص: 156
السؤال و منتزعا منه» (1)و في هذه الآية إيحاء رمزي بأن سؤاله الولد قد أجيب،و جعلت لذلك آية،و الآية حبس اللسان عن الكلام.
و التعبير الرمزي في القرآن لا يقف عند حد،و إنما تجده متناثرا في أغلب سوره بما يمكن حمله على إرادة الرمزية بمعناها الدقيق و حسبك أن تكون الحروف المقطعة في أوائل السورة القرآنية.بمختلف تفاسيرها رموزا على ما يراد منها واقعا عند اللّه تعالى على تضارب الأقوال في تفسيرها.
و هذه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي يتوهم فيها الكثير التشبيه و التجسيم لم لا تكون رموزا على قدرة اللّه و عظمته و إرادته و سعة تدبيره و جلال استطاعته و تصرفه المطلق في العوالم العلوية و السفلية المرئية و غير المرئية.
و لم لا نقف عند المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللّه،فنعده رمزا إلى حقائق عالية،و تعبيرا عن إرادات استعمالية لا يهتدي لها إلا الراسخون في العلم،و كذلك الرمز لا يصل إلى مؤداه إلا من امتلك ثقافة تقويمية راقية تؤهله للاكتشاف و الاستنباط و دلالة الإيحاء.
إذا عرفنا هذا جملة أدركنا مدى استعمال الرمزية في القرآن بهذا المنظور الذي طرحناه جملة في كثير من الأبعاد،و إذا علمنا ذلك أدركنا أن الشواهد عليه لا تنحصر،و إن إدراكه متميز في حنايا جميع السور القرآنية المباركة.فإذا تركنا هذا الجانب،و وقفنا بإزاء القضايا المفردة في القرآن فسوف نستوحي منها الرمزية بمعناها الدقيق و انظر على سبيل المثال إلى قوله تعالى:-فيما اقتص من خبر يوسف عليه السّلام في ختام قصته المثيرة- رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ(101) (2).
أ لا ترى في هذا الدعاء الذي صورته الآية القرآنية حكاية عن يوسف عليه السّلام،صورا لما مرّ به يوسف من الفجائع،و صفحة لعناوين تلك1.
ص: 157
الأحداث المروعة التي رافقته في حياته من حسد أخوته،و تآمرهم عليه بإلقائه في الجب،و ابتياع السيارة له،و استخدامه في بيت العزيز،و مراودة امرأة العزيز له عن نفسه،و إلقائه في السجن،و تعبيره في السجن للرؤيا، و استخراجه منه و تمكنه عند الملك،و إقامته على خزائنه،و ملاحظته لأخوته و أخذه شقيقه من بينهم،و تصور حالة أبيه،و معرفة أخوته له بعد نكرانهم، و مجيء أخوته و أبويه له من البدو إلى الحاضرة،و رفعه لأبويه على العرش و سجودهم...إلخ.أ لا ترى في كل هذا المناخ الموحي صورة رمزية مشرقة للمعاناة من جهة،و للطيبة من جهة أخرى،و للصفح الجميل من جهة ثالثة،و أن سلسلة هذه الأحداث قد انتهت به من غلام مضاع إلى ملك مطاع،و أن النهاية هي الموت،فطلب ذلك أو الاستمرار في البقاء على الإسلام حتى الموت و الالتحاق بالسلف الصالح.
و أية صورة رمزية مشرقة كهذه الصورة التي عبر عنها جزء من آية كريمة فجمع شتات القصة و متفرقاتها،بنهاية رمزية موحية،تكاد تعبر عن جميع خفايا النفس،و خبايا الضمير،و هل الرمز إلا ذلك؟و هل الرمزية إلا التعبير الموحي عن خلجات النفوس،و مكنونات العواطف.
إنني أرى في نهاية قصة يوسف المتمثلة في الآية القرآنية السابقة، هذه الرمزية الفائقة التي عرضها القرآن بأسلوبه المشرق قبل أن يبتدع أهل الرمزية مصطلحها نظريا و تطبيقيا بعدة قرون.
و انظر إلى قوله تعالى:
وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ...(22) (1) و ذلك فيما اقتص اللّه تعالى من محاججة موسى عليه السّلام مع فرعون،أ لا ترى في هذه الإثارة الانكارية تصورا للحال الذي كان عليه بنو إسرائيل في المناخ الفرعوني،و ما يدور في ذهن موسى عليه السّلام من استعراض الحوادث التي مرت بقومه،من استحياء النساء،و قتل الرجال،و ذبح الأبناء،و تسخير الناس،دون مسوغ من عرف أو شرع أو قانون،أ لا ترى في هذه العبارة2.
ص: 158
القرآنية ما يغنيك عن سرد القصص،و ضرب الأمثلة،و استخلاص النماذج، أ لا ترى عصارة الألم و مرارة الحزن صادرة عن قلب موسى،أ لا ترى صيغة الاستفهام الاحتجاجي بادية على لسانه،فعبر عن جميع ذلك بهذه الكلمات الموحية،و هي ترمز إلى هذا المسلسل الطويل من الظلم و الاستعباد و التشريد.و أي تعبير يدل على الرمزية في الإرادة كهذا التعبير، و أية رمزية تصور مكنونات النفس الإنسانية كهذه الرمزية.
لا أريد بهذه الصفحات القليلة أن أستوعب رمزية القرآن الكريم،بل أردت التدليل عليها فقط،و لقد قال الزمخشري:«و أسرار التنزيل و رموزه في كل باب بالغة من اللطف و الخفاء حدا يدق عن تفطن العالم،و يزل عن تبصره» (1).
عسى اللّه عزّ و جلّ أن يوفق لأفراد هذا المبحث المهم بعمل مستقل في مستقبل الأيام،و ما توفيقي إلا باللّه العلي العظيم عليه توكلت و إليه أنيب و هو حسبي و نعم الوكيل.4.
ص: 159
ص: 160
بعد هذه المسيرة المثمرة في رحاب البيان العربي،أستطيع أن ألخص أهم النتائج العلمية التي توصلت إليها في البحث على شكل نقاط رئيسة تشير إلى مواطن الجدة و مظاهر الاجتهاد:
1-تم في الفصل الأول استيحاء القيمة البيانية في التراث العربي الأصيل،و إقرار مفهومه لغة و اصطلاحا بما يميزه عن معناه العام،و صيغته الفضفاضة إلى الاستقرار و الاصطلاح بين تطوره التأريخي،و جذوره الأولى،مع بيان أثر السابقين و جهود اللاحقين،و استقراء موقعه من البلاغة العربية بتحديد معالمه في كل من المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية،مما يتفق مع مسيرة البيان في طور التجديد البلاغي الذي تحتاجه البلاغة ذاتها في أصالتها و جمالها و مرونتها،مخالفين في ذلك جمهرة من البلاغيين في التحديد و الموضوعات و الفصول.
2-و تكامل في الفصل الثاني إرساء المجاز على قاعدة ثابتة في اللغة،و بنية متوازنة في الاصطلاح بحيث لا يختلط بفنون البلاغة الأخرى، لما بينها و بينه من فروق و مميزات خاصة،و تحدثنا عن أصالة الاستعمال المجازي في لغة العرب بوصف العربية لغة مجاز،و ألقينا الضوء الكاشف على حاجة العرب الفنية إلى المجاز،و على توافره في القرآن خلافا لمن أنكر ذلك،و عددنا التشبيه و الاستعارة بملحظ ما جزءين من المجاز،ثم فصلنا القول في المجاز العقلي و المرسل،متوجهين باستقرار الوجوه لكل منهما بهدي القرآن و تقسيماته،و منظمين أمثلته بآياته و عباراته،اقتصارا عليه لا غير.
ص: 161
3-و أنجز في الفصل الثالث،حد التشبيه،و أهميته في البيان العربي،و خصائصه المتميزة به،و أقسامه في وجه الشبه و اعتبار طرفيه المشبه و المشبه به دون الدخول بالأصناف الوافدة،و التقسيمات المضنية، و تركز الحديث باتجاهين مهمين هما:وجوه التشبيه الفني،و تشبيهات القرآن العظيم،فظهرت بذلك روعة القرآن،و أصالته التشبيهية بما يعد مجالا رحبا للتحدي و الإعجاز بهذا الفن فضلا عن سواه.
4-و تحرر في الفصل الرابع تقويم الحد الاستعاري،و بيان قيمة التصوير الاستعاري،و تحديد أصول الشبه الاستعاري،و متابعة خفاء الشبه الاستعاري،و الحديث عن أقسام الاستعارة بأنواعها بما لمسنا فيه الجدة و الأصالة و التطوير و الاستغناء عن التقسيم المكثف كما جرى عليه الأوائل.
5-و قد توافر في الفصل الخامس تحديد الكناية في الاصطلاح، و التركيز على بلاغتها،و التحدث عن خصائصها،و النظر في أقسامها،و من ثم أعطينا مقارنة سليمة بين الكناية و التعريض،و حددنا وجهة النظر الإيحائية فيما استعمل العرب من رمز،يبحث مؤصل عن الرمزية عند العرب و في القرآن الكريم،مع الكشف عن علاقة ذلك بالكناية.
إن هذه الدراسة بنتائجها الأولية،إضمامة ذات بعد موضوعي لتراثنا الحضاري،قصدنا فيه تذليل العقبات،و رصد المصاعب،و حصرها في إطار من اليسر و المرونة.
ص: 162
ص: 163
ص: 164
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
علم المعاني قسيم لعلم البيان عند البلاغيين العرب القدامى و هما ركنان من الهرم الثلاثي لقواعد البلاغة العربية بالمفهوم التقليدي:المعاني، البيان،البديع.
و لقد لمسنا في هذا التقسيم تجوزا فضفاضا لا يلائم طبيعة المباحث البلاغية المتخصصة،و كان علينا الخوض في أبعاد هذا التقسيم،و مناقشة مصداقيته في النظرية و التطبيق.
إن المنهج الموضوعي يقتضى الفصل بين هذه العلوم الثلاثة و إن تداخلت بعض المفاهيم فيها بسبب من الأسباب أو التقت في بعض المقاييس في جملة منها بوجه من الوجوه.
التركيب البلاغي في هيئة علم البيان متناسق الأجزاء متراصف الحلقات،و هو ما ينهض به لأن يتبوأ مقعد الصدارة في بناء البلاغة المتماسك.
و البعد النحوي في بنية علم المعاني،واضح السمات متميز الأصول، و هو ما يجب أن يلتحق بمباحث النحو العربي جزءا متمما لموضوعات متداخلة في صلبه،و هي من جوهره في حال من الأحوال.
ص: 165
و علم البديع مزيج من هذا و ذاك تارة،و مادة خصبة لموضوع جرس الألفاظ و وقعها تارة أخرى،فهو مستقل عن المعاني و البيان في كثير من الملاحظ الفنية.
و هذه الدراسة المختصرة بسبيل توضيح هذه المسائل إجمالا، و التأكيد على كشف الوجه الحقيقي لعلم المعاني و هو يتأرجح بين الأصل النحوي و الموروث البلاغي و ضرورة عودته إلى جذوره الأولى ليحتل مكانه في النحو العربي.
إن هذه الدراسة«علم المعاني بين الأصل النحوي و الموروث البلاغي»عبارة عن محاولة جادة و متواضعة في وقت واحد،جادة فيما تحاوله من أمر،و متواضعة فيما تقدمه من نتائج،قد أكون موفقا،و قد أكون مجانبا للصواب،و مهما يكن من أمر فقد اخترتها بين عناء الاستنتاج و وحشة الطريق.
و كانت طبيعة مصادر الموضوع و مراجعه تتناوب بين أصول البلاغة و النحو و اللغة قديمها و حديثها،نستعين بهذا،و نسترشد بذاك،و نناقش هذا و ذاك مستخلصين زبدة الموضوع،قاصدين إلى بلورة البحث،هادفين إلى بيان النظرية،و استجلاء الأمر،فكان نتيجة لذلك أن نكون هذا البحث من ثلاثة فصول كالآتي:
الفصل الأول:و كان بعنوان(علم المعاني-تعريفا و تقسيما)بدأناه بعرض منهجي للبلاغة في مقياسها الفني،و تقسيم الكلام على ألفاظ و معاني،و أشتات تعريفات البلاغة بمعناها العام،و تقسيمها إلى علمين أصليين هما المعاني و البيان و إيجاد البلاغيين علما ثالثا لهما يعنى بالشئون الهامشية للألفاظ و المعاني.
و عرضنا للمعاني لغة و المعاني في الاصطلاح،و تداول علم المعاني منذ عهد مبكر لدى السابقين لعصري السكاكي(ت:626 ه)و القزويني (ت:736 ه)بعدة قرون،و خلصنا إلى سيرورة استعمال مسميات علم المعاني في القرنين الرابع و الخامس من الهجرة النبوية المباركة.
و طرحنا التقسيم التقليدي لمباحث المعاني متأثرا بمتاهات عصره في
ص: 166
علم الكلام،و جزئيات المنطق و الفلسفة باعتبارها صورة تجسد ما ساد المناخ البلاغي من إقحام أبحاث لا علاقة لها بالبلاغة بوجه عام،و انتهينا إلى ضرورة التجديد لمباحث علم المعاني على أساس تصور أولي يعنى بالجملة العربية في شتى الاستعمالات كخطوة تعنى بصقل الجهد الإنساني للموروث الحضاري بعيدا عن الإيهام.
الفصل الثاني:و كان بعنوان«تأصيل علم المعاني»و الهدف من هذا الفصل يوحي بأن مفردات علم المعاني أقدم عصرا و أعرق تاريخا مما عرفه السكاكي،و أوضحه القزويني،و كانت هذه النظرة ميدانا لثلاثة مباحث، تمثل ثلاثة أدوار تواكب مسيرة علم المعاني متقلبة بين الواقع النحوي، و الموروث البلاغي و كان المبحث الأول:المعاني عند سيبويه.
المبحث الثاني:المعاني من ابن قتيبة إلى ابن فارس.
و المبحث الثالث:المعاني عند عبد القاهر الذي وجدناه مطور هذا الفن وفق الذائقة الأدبية.
و الفصل الثالث:و كان بعنوان«المعاني بين النحو و البلاغة»و تدور فكرة هذا الفصل حول فصل معاني النحو عن معاني البلاغة،و استخلاص الرأي في مناهج المعاني،و هو جوهر الموضوع،فكانت مباحثه:معاني النحو و معاني البلاغة،و رأي في مناهج المعاني خلصنا فيه إلى جدولة مفردات المعاني،فما كان نحويا أرجعناه إلى النحو،و ما هو بلاغي ألحقناه بالبلاغة مما وجدناه فرزا ضروريا لا مناص عنه.
و ما توفيقي إلا باللّه العلي العظيم،عليه توكلت و إليه أنيب،و هو حسبنا و نعم الوكيل.
النجف الأشرف/كلية الفقه الجامعة المستنصرية الدكتور محمد حسين علي الصغير
ص: 167
ص: 168
1-عرض منهجي 2-المعاني في اللغة 3-المعاني في الاصطلاح 4-تقسيم لمباحث المعاني
ص: 169
ص: 170
يبدو أن الإمام علي عليه السّلام أول من أعطى من العرب للبلاغة مقياسها الفني في ثلاثة مؤشرات تحدث فيها عن العمق البلاغي في أصول رصينة لم أجد بحسب تتبعي أقدم منها زمنا،أو أعرق أصالة لأنها ممتدة الجذور إلى المناخ العربي الصليب في بدء الرسالة الإسلامية.
المؤشر الأول:قوله عليه السلام:«البلاغة إفصاح قول عن حكمة مستغلقة،و إبانة عن مشكل» (1).
و هذا المؤشر تعريف منهجي للبلاغة يتناسب مع الكشوف العلمية اللاحقة له بعد عدة قرون،و تلك الكشوف تكاد لا تتعدى هذا المفهوم في خطوطه الأولى،و هذا المفهوم ذو بعدين؛الأول يتعلق بالإفصاح،و الثاني يتحدث عن الإشكال،و قد يبدو تصورهما لأول مرة بعدا واحدا،و لكن التدقيق بهما يجلو الحقيقة عنهما،فالإفصاح:الاعراب و البيان و الكشف عما يتجلجل في الصدر،أو يدور في الذهن من المعاني و الحكم و الآراء و التعبير عنها بألفاظها المحددة لها يعتبر فتحا لأغلافها و سبرا لأغوارها فهو أمر يتعلق بالألفاظ و المعاني دفعة واحدة،و بتفكير جملي منظم ينحدر تلقائيا في لحظة زمنية معينة دون تردد أو إحباط.و الإبانة عن المشكل ترجمة فعلية لاشتراط ائتلاف المعاني،و تناسق العبارات و تراصف فن
ص: 171
القول بعيدا عن التعقيد المعنوي و اللفظي،و التنافر في الكلمات و المضامين إذ لا قيمة لأي نص مغلق أو تعبير مشكل.
المؤشر الثاني:وصفه عليه السلام لأداة البليغ بقوله:«ما رأيت بليغا قط إلا و له في القول إيجاز،و في المعاني إطالة» (1).و هو بهذا يقسم الكلام على ألفاظ و على معان،و يعتبرهما قسيمين متقابلين و متعادلين بوقت واحد،فهما متقابلان لأنهما أداة الكلام و قوامه،أي ركناه،و هما متعادلان،لأن الكلام لا ينتظم إلا بهما مجتمعين،و هو ما أدركه بعد حين ابن رشيق القيرواني(ت:456 ه)حينما قال:
«اللفظ جسم،و روحه المعنى،و ارتباطه كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه،و يقوى بقوته» (2).
أضف إلى ما تقدم اعتبار الإمام؛الإيجاز أصل البلاغة و هو رأي يذهب إليه جملة من البلاغيين في عصور لاحقة (3).
المؤشر الثالث،قوله عليه السلام:«لو لا أن الكلام يعاد لنفد» (4)، و مراده كما يفهم أن البيان ذو كلمات واحدة في اللغة الواحدة و لكن هذه الكلمات تتمايز في التركيب،و تتفاوت في التنظيم الجملي،و يعبر عنها كل أحد بما تسيغه ذائقته البلاغية،و إلا لضاقت اللغة عن المراد،و هو ما عبر عنه البيانيون بإيراد المعنى الواحد بصور مختلفة،و هو علم البيان.
و هناك أشتات متفرقة لتعريف البلاغة عند الأمم سردها أبو عثمان الجاحظ(ت:255 ه) (5).
و أما عند العرب،فقد نقل عنهم النويري(ت:733 ه)أنها«ما فهمته العامة و رضيته الخاصة» (6).7.
ص: 172
و يميل أكثر البلاغيين القدامى و المحدثين إلى أنها:
مطابقة الكلام لمقتضى الحال أو مناسبة المقال للمقام» (1).
و لقد كان علم البيان الذي يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة،و أداؤه بصور متعددة،هو القانون الذي تعرف به هذه المطابقة، و تلك المناسبة» (2).
و لقد كان علم المعاني هو القانون الذي تعصم مراعاته عن الخطأ في تأدية المعنى المراد،و الاحتراز عن التعقيد المعنوي (3).
و قد أودع البلاغيون كلا من المعاني و البيان جملة من الأبحاث، نهض البيان منها بعناصر الصورة الفنية للكلام العربي،فكان منه المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية،و كان من المعاني البحث عن قضايا الإسناد و متعلقات الفعل،و الخبر و الإنشاء و فروعهما،و متعلق الإسناد بقصر،أو بغير قصر و باب في الفصل و الوصل و آخر في تمييز الكلام البليغ في زيادته و إيجازه و مساواته و هو باب الإيجاز و الإطناب و المساواة (4).
ثم شاء البلاغيون أن يوجدوا لهذين العلمين علما ثالث يعنى بالشئون الهامشية للألفاظ و المعاني،فكان ذلك«علم البديع»في بحثه المحسنات اللفظية و المعنوية،فكان من المحسنات اللفظية:الجناس و السجع و الترصيع و الموازنة ورد العجز على الصدر و لزوم ما لا يلزم...إلخ، و كان من المحسنات المعنوية:المقابلة و المطابقة و المبالغة و مراعاة النظير و المذهب الكلامي و حسن التعليل و التورية و الاستطراد و تجاهل العارف تأكيد المدح بما يشبه الذم،و تأكيد الذم بما يشبه المدح...إلخ.
و هذا العلم فيما يبدو لي بحاجة ماسة إلى صقل و تهذيب مضنيين، و إلى عرض جديد بأسلوب جديد يعود بأغلب مباحثه إلى«جرس الألفاظ».
و كان كتابنا«أصول البيان العربي»و قد عرض لكثير من مشاكل الفنف.
ص: 173
البلاغي و حصر أبعاده في كل من المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية كأصول ثابتة للمعيار الأصيل في القرآن الكريم و عند العرب.
و جاء هذا البحث مؤصلا لعلم المعاني فأرجع ما يختص منه بمعاني النحو إلى النحو العربي،و ما يستفاد فيه حسا بلاغيا إلى البلاغة،فكان الإسناد و قضاياه كافة،و الخبر و الإنشاء،و متعلقات الفعل و القصر و الحذف و التقدير،و التقديم و التأخير،من حصة النحو العربي و كان الفصل و الوصل و الإيجاز و الإطناب بسبيل من البلاغة العربية التي ترتفع إلى مستوى الأصول البلاغية الأربعة المتقدمة.
و كان الاستدلال المنهجي رائدنا في هذه الدراسة و الاستنباط القائم على أساس الفكر و التجرد طريقنا إلى اكتشاف المجهول،و استقراء الحقائق.
و ما توفيقي إلا باللّه العلي العظيم،عليه توكلت و إليه أنيب،و هو حسبنا و نعم الوكيل.
المعاني جمع المعنى،و المعنى في أصله اللغوي كما عند الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت:175 ه)ما نصه:
«و معنى كل شيء محنته و حاله الذي يصير إليه» (1).و عنه نقله ابن منظور(ت:711 ه) (2).
و روى الأزهري عن أبي العباس،أحمد بن يحيى،(ثعلب)(ت:
291 ه)،قال:«المعنى و التفسير و التأويل واحد» (3).
و معنى كل كلام مقصده (4).
ص: 174
و عند الراغب(ت:502 ه)المعنى إظهار ما تضمنه اللفظ...و هو يقارن التفسير و إن كان بينهما فرق. (1)
و عند الطريحي(ت:1085 ه)معنى الشيء و فحواه و مقتضاه و مضمونه كل ما يدل عليه اللفظ...و قولهم هذا بمعنى هذا،و في معنى هذا:أي مماثل له أو مشابه» (2).
و يتضح مما سبق أن للمعنى عدة مؤشرات:
الأول:يعنى بمصير الشيء و حاله و محنته،و لا علاقة لهذا بمعنى اللفظ أو القول أو الكلام إلا على جهة المجاز،بلحاظ أن معنى اللفظ هو حاله التي يصير إليها على سبيل التجوز كما أسلفنا،و ذلك إذا أريد من الحال ما يؤول إليه.
الثاني:إن المعنى يعني بالبيان و الإظهار و الكشف و الرجوع و هو رأي ثعلب(ت:291 ه)،و هو يلتقي بمضمونه بالمؤشر الثالث.
الثالث:يعني بدلالة اللفظ على المضمون و المحتوى و إظهار ما تضمنه اللفظ من مراد،و هو رأي الراغب(ت:502 ه)و ابن منظور(ت:
711 ه)و فخر الدين الطريحي(ت:1085 ه)،و هو ما نأنس له في تحديد المعنى لغة.
و على هذا فالمعاني لغة:تعني بدلالة الألفاظ على مضامينها و مقاصدها،و ما يظهر منها لغة عند التبادر في الإطلاق لدى العرف العربي العام.و هو أجنبي عن المصطلح الفني للمعاني التي يعرف بها حال اللفظ العربي في مطابقته لمقتضى الحال لا في دلالته على معنى معين كما سترى.
المعاني في الاصطلاح:
يشكك الدكتور أحمد مطلوب بوضوح مصطلح المعاني أو البيان عند1.
ص: 175
كل من سبق أبا يعقوب السكاكي(ت:626 ه)و هو لا يستطيع أن يتبين مفهوم البيان و المعاني بدقتهما الاصطلاحية قبل السكاكي الذي عدّه:
«أول من قسم البلاغة إلى معان و بيان و محسنات و أنه أول من أطلق على الموضوعات المتعلقة بالنظم مصطلح«علم المعاني» (1).
و قد عرف السكاكي علم المعاني بأنه:«هو تتبع خواص تركيب الكلام في الإفادة و ما يتصل بها من الاستحسان و غيره ليحرز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره» (2).
و قد رفض الخطيب القزويني(ت:736)تعريف السكاكي لعلم المعاني لأن التتبع ليس بعلم،و لا صادق عليه،فلا يصح تعريف شيء من العلوم به (3).
لهذا فهو يختار تعريفا آخر له،و يصوغه على النحو التالي:
«و هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال» (4).
و قد انتصر لهذا التعريف سعد الدين التفتازاني(ت:791 ه)منبسطة بالشرح و التعليل،فقال:«أي هو علم يستنبط إدراكات جزئية و هي معرفة كل فرد من جزئيات الأحوال المذكورة التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال احترازا عن الأحوال التي ليست بهذه الصفة مثل الإعلال و الإدغام و الرفع و النصب و ما أشبه مما لا بد منه في تأدية أصل المعنى،و كذا المحسنات البديعية...و المراد أنه علم تعرف به هذه الأحوال من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال لظهور أن ليس علم المعاني عبارة عن تصور معاني التعريف و التنكير،و التقديم و التأخير و الإثبات و الحذف،و غير ذلك» (5).5.
ص: 176
و القدر الجامع بين تعريفي السكاكي و القزويني هو غاية هذا العلم في مراعاة الكلام لمقتضيات الحال،و هو أمر بلاغي،لا علاقة له بتوجهها النحوي في تبويب مباحث المعاني غالبا إذ مهمة المعاني عندهما مراعاة المقال لمناسبة الحال،فلا تكلم العالم بلغة الجاهل،و لا السوقي بلهجة البدوي،و لا تضع الظاهر موضع المضمر،و لا المخاطب مكان المتكلم، و لا من حقه التعريف منكرا،و لا من موقعه التقديم مؤخرا،و هو ما يختلط به علم المعاني بعلم البيان بوجه من الوجوه،لأن مقتضيات الحال تجري في التشبيه و الاستعارة و المجاز و التمثيل و الكناية كما تجري في قضايا الإسناد و موارد الخبر و الإنشاء و سواهما،و لكن علم البيان يخرج هنا لأن البحث فيه لا عن أحوال اللفظ من حيث تقديمه و تأخيره،أو تعريفه و تنكيره،أو قصره و حصره،أو حذفه و إثباته،و إنما عن تأدية المعنى الواحد بصور متعددة و بقوالب مختلفة كما هو تعريفه.
أما بالنسبة لسبق السكاكي لمصطلح علم المعاني و كونه أول من قسم البلاغة إلى معان و بيان و محسنات فهنا تجب الإشارة إلى أن جار اللّه الزمخشري(ت:538 ه)قد ذكر مصطلحي علم البيان و المعاني نصا في حديثه عن آداب التفسير فقال:
«و لا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن و هما علم المعاني و علم البيان...» (1).
و هذا ما حدا بالدكتور شوقي ضيف أن يعد الزمخشري أول من ميز بين المصطلحين،و قسم البلاغة إلى علمين هما المعاني و البيان (2).
و جاء فخر الدين الرازي(ت:606 ه)فتحدث عن الخبر متعرضا لذكر مصطلحي المعاني و البيان تصريحا فقال:
«و لكن الخبر هو الذي يتصور بالصورة الكثيرة،و تظهر فيه الدقائق العجيبة و الأسرار الغريبة من علم المعاني و البيان» (3).6.
ص: 177
و الذي يبدو لي أن تقلب هذين المصطلحين فيما أبداه الزمخشري و الرازي يقتضي كونهما معروفين دون ريب،إذ أرسلاهما إرسال الأمر المسلم الذي لا يتنازع فيه اثنان و سيتضح فيما بعد أن مصطلح المعاني قد استعمل في حال من الأحوال النحوية أو البلاغية عند كل من أبي سعيد السيرافي(ت:368 ه)و أحمد بن فارس(ت:395 ه)و عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)الذي تخصص بتعيين مباحثه الكبرى مبوبة،جملة و تفصيلا كما سيأتي ذلك.
و يمكن الاستدلال على صحة تداول المعاني بما أورده السكاكي نفسه إذ استعمل بديهيا العبارات التالية:
1-علماء علم المعاني.
2-صناعة علم المعاني.
3-أئمة علم المعاني (1).
فما هي دلالة هذه التعبيرات لو لم يكن لعلم المعاني علماء و صناعة و أئمة،و قد أفاد منهم السكاكي،و سار على خطاهم،لم لا يكون السكاكي بالذات قد أشار بهذا إلى من تقدمه كالسيرافي و ابن فارس و عبد القاهر و الزمخشري و الرازي و أضرابهم ممن استعملوا هذا المصطلح و هم يعنون ما يقولون ما دامت البلاغة مقسمة عند الزمخشري و الرازي إلى معان و بيان، و ما دامت المعاني قد بحثت عند سواه في أصول النحو أو نظرية النظم مجالات الخبر و الإنشاء لما أبداه الدكتور أحمد مطلوب لدى تعقيبه على عبارات السكاكي إذ قال:
«و لم يحدد-يعني السكاكي-معاني هذه العبارات،و لا ندري ما المقصود بها،و من أئمة علماء المعاني و أئمته؟لأننا لم نعثر في تاريخ البلاغة قبل السكاكي على علماء اختصوا بالمعاني و بحثوه كما بحثه السكاكي و حدّد موضوعاته و لم تكن البلاغة مقسمة إلى معان و بيان و بديع» (2).2.
ص: 178
و ليس الأمر كذلك فقد قسمها كل من الزمخشري و الرازي و بحثها بأصولها دون بعض مسمياتها عبد القاهر الجرجاني.و الأمر الذي أريد الوقوف عنده هنا وقفة يسيرة،إن هؤلاء الاعلام الثلاثة لم يعرضوا للمعاني و البيان على المستوى النظري فحسب بل لقد سبق بعضهم إلى التطبيق الفعلي بالمسميات المحددة لأصناف هذين العلمين،فالزمخشري مثلا لم يكتف بالإشارة إلى مهمة المفسر باستقراء المعاني و البيان،بل بحثهما ضمن الكشاف تفصيليا،و بكثير من العناية في التخصيص دون التعميم،فهو حينما يبحث وجوه البلاغة في قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ(44) (1)،فإنما يبحث ذلك في جزئيات علمي البيان و المعاني بشكل دقيق و متميز،فيذكر الاستعارة و المجاز،و الخبر و الإنشاء و التقديم و التأخير،و يختم ذلك بقوله:«و لما ذكرنا من المعاني و النكت استفصح علماء البيان هذه الآية و رقصوا لها رءوسهم» (2).
و في هذا دلالة-على الأقل-على سيرورة استعمال هذه المسميات و التخريجات-بلاغية أو نحوية-في علمي المعاني و البيان.
استقر البلاغيون في تقسيم مباحث المعاني على ما أبداه كل من السكاكي(ت:626 ه)و من بعده القزويني(ت:739 ه)حتى عادت هذه المباحث في تقسيمها مدار علم المعاني،و محور نظامها الرتيب الذي لا يطاوله أحد.
و لقد كان هذا التقسيم التقليدي معلما من سيماء العصر في تقلبه بمتاهات علم الكلام،و تقسيمات المنطق و الفلسفة،و اقتفى أثرهما بهاء الدين السبكي(ت:733 ه)،و سعد الدين التفتازاني(ت:791 ه)و من اتبعهما من الشارحين و المختصرين«لمفتاح العلوم»و من تابعهم جميعا من
ص: 179
البلاغيين القدامى في المختصرات و المطولات و التلخيصات و نتيجة لمسيرة هذا الركب في هذا الاتجاه المقيد،فقد أوقع بالبلاغة العربية في معالم جافة لا تمت إلى الذوق الفني بصلة،بل اعتمدت الشكليات الفجة، و التقسيمات المملة،فأخضعت لأقيسة أصولية و اصطلاحات منطقية،حتى عادت شبيهة بالألغاز المعماة،لا مسحة لجمال فيها،و لا أصالة لفن معها،مما دعا بعض العابثين أن يسم هذا التراث العربي الإسلامي المحض بالأثر اليوناني تارة،و الأعجمي تارة أخرى،نظرا لعقم الجدل المثار في تصانيف هؤلاء القوم (1).
إن التقسيمات المعقدة التي ألحقت بعلم المعاني بتفريعاتها المضنية، و ضروبها المتشعبة مرده إلى ما أفاده الأستاذ أمين الخولي بأنه«صورة لما ساد دراسة تلك البلاغة من نزعات فلسفية و كلامية،و منطقية،أقحمت فيها كثير من أبحاث لا علاقة لها بالغرض الأدبي،و ضيقت دائرتها الفنية، و أفاضت عليها جمودا و جفافا أعجزها عن أن تترك أثرا أدبيا في ذوق دارسها (2).
و يأتي السكاكي(ت:626 ه)في طليعة هؤلاء المصنفين على طريقته الخاصة في التقسيم و التقعيد فيضع مباحث علم المعاني في قوالب جامدة تنتهي به إلى قوانين،و القوانين إلى فنون،و الفنون إلى مباحث على الشكل الآتي:
القانون الأول،و يتعلق بالخبر،و القانون الثاني و يتعلق بالطلب.
و قسم القانون الأول إلى أربعة فنون:
الأول:في الإسناد الخبري،و تفصيل اعتباراته و تبيين أنواعه، و عرض أغراضه،و استخراج مؤكداته،و خروجه عن مقتضى الظاهر.
الثاني:في تفصيل اعتبارات المسند إليه،و بيان وجوه حذفه و ذكره، و مباحث تعريفه و تنكيره،و إضماره،و وجوه تعريفه بالموصولية و الإشارة، و الألف و اللام،و الإضافة...إلخ.4.
ص: 180
الثالث:في تفصيل اعتبارات المسند،و تناول فيه متعلقات الاسم و الفعل،و بحث الاسم في حذفه و ذكره،و إفراده،و تقييده،و تنكيره، و تخصيصه و تعريفه،و تقديمه و تأخيره،و فيما يتعلق بالفعل فقد بحث ذكره، و حذفه،و إضمار فاعله و إظهاره،و ترك مفعوله و إثباته،و تقييده بالشرط.
الرابع:في تفصيل اعتبارات الفصل و الوصل،و الإيجاز و الإطناب و المساواة،و القصر.
و قسم القانون الثاني إلى خمسة فنون هي:
التمني،الاستفهام،الأمر،النهي،النداء.و اتبع كل ذلك باستعمال الخبر موضع الطلب،و الطلب موضع الخبر،و ألحق في الخاتمة أسلوب الحكيم.
و يعقب الدكتور أحمد مطلوب على هذا التقسيم بقوله:
«الواقع أنه لم ينجح في هذا التقسيم الذي بناه على المنطق،فحصر به موضوعات المعاني حصرا مزقها تمزيقا،أفقدها كل روح،و باعد بينها و بين ما يتطلبه الفن الأدبي الذي ينبغي أن يعتمد أول ما يعتمد على الذوق» (1).
و قد حصر الخطيب القزويني(ت:739 ه)مباني علم المعاني في ثمانية أبواب هي:
1-أحوال الإسناد الخبري.
2-أحوال المسند إليه.
3-أحوال المسند.
4-أحوال متعلقات الفعل.
5-القصر.
6-الإنشاء.ا.
ص: 181
7-الفصل و الوصل.
8-الإيجاز و الإطناب و المساواة (1).
و هذا التقسيم في مباحث المعاني إلى القصد أقرب،و بجزء من البلاغة ألصق،و إن اختلط بعلم النحو من وجوه كما سيأتي.
و وجه حصر مباحث المعاني بهذه الأبواب عنده:
«إن الكلام إما خبر أو إنشاء،لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه،أو لا يكون لها خارج.الأول الخبر و الثاني الإنشاء،ثم الخبر لا بد له من إسناد و مسند إليه و مسند،و أحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا،أو متصلا به،أو في معناه،كاسم الفاعل و نحوه،و هذا هو الباب الرابع ثم الإسناد و التعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر،و هذا هو الباب الخامس،و الإنشاء هو الباب السادس،ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى،و إما غير معطوفة و هذا هو الباب السابع،و لفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد، و هذا هو الباب الثامن» (2).
و واضح أن الصنعة الكلامية،و الصبغة المنطقية بينه السمات على هذا النص تأثرا ببيئة العصر الكلامية و متطلبات البحث الاحتجاجي في الجدل و الرد و الافتراض.
و قد كان قرب هذا المناخ من المدرسة اليونانية،و تأثره بالمزاج الإغريقي مما يلي هذا التقسيم في تكلفه،و مجانبته للذائقة الفنية في جملة من الأبعاد.
لهذا فإن ما قدمه القزويني نموذج متطابق في أغلب الحيثيات الرئيسية لما أفاده السكاكي من ذي قبل مع شيء من التحوير.
و لو أردنا لعلم المعاني التجديد،و لمباحثه الجمع و لمّ الشتات5.
ص: 182
و لأوصاله التوقيع بعد التمزيق،لكان علينا أن نجمل مباحثه بعيدة عن التكرار في كل باب،و الإعادة في كل فصل،و الاختلاط في كل فن، و لرجعنا بعلم المعاني إلى عهد عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)في توحيد المتشابهات و حصر الموضوعات.
و مع أن مهمتنا هي البحث عن أصول المعاني في إعادة جملة من مباحثها إلى علم النحو،و هو ما تهدف إليه هذه الرسالة،إلا أننا في ضوء ما سبق نستطيع أن نعطي تقسيما أوليا لمباحث المعاني،و فيه كثير من الاعتدال و مواكبة للمنهجية الموضوعية بحدود الإدراك القاصر و ذلك على شكل فصول قابلة للتصحيح و التنقيح أو التقديم و التأخير،أو الحذف و الإضافة بغض النظر عن كونها مما يلتحق بالبلاغة أو النحو فلذلك حديث خاص به سيأتي بإذن اللّه (1).
و هذا التصور الأولي لمباحث المعاني يصاغ على النحو التالي:
1-الجملة العربية:و تبحث بها قضايا التركيب الجملي في الإسناد و قضاياه العامة.
2-الخبر و الإنشاء،و يبحث فيه أنواع الخبر،و أساليب الإنشاء بقدر جامع لا إفراط فيه و لا تفريط.
3-التعريف و التنكير،و يشتمل على بحث مواطنهما في الفن القولي.
4-التقديم و التأخير،و تبحث مزيتهما بعامة،بعيدا عن التفصيلات المضنية،و الجزئيات المعقدة.
5-الذكر و الحذف،و يشتمل على بيان مواردها و فوائدهما و عائديتهما على الكلام.
6-القصر و الحصر،و بأدواتهما و ملامحهما النحوية و البلاغية.
7-الفصل و الوصل.ة.
ص: 183
8-الإيجاز و الإطناب و المساواة.
و هذا المنهج قريب من منهج عبد القاهر بل هو امتداد له في حصر الموضوعات و جمع متفرقاتها،فإن بحث هذه المواضيع بحثا نحويا أمكن ذلك،و إن بحثت بحثا بلاغيا كان كذلك على أن الفصول الستة الأولى مكثفة المعالم في معاني النحو،و الفصلان الأخيران متماثلان مع فنون البلاغة العربية كما سيأتي التفصيل فيما بعد.
لقد سبق لنا القول:إن التفريعات و التعريفات المستمدة من مدرسة الإيهام و الإبهام،معالم مضللة لا تلتقي و الذوق الفني و مظاهر متخلفة تدعو إلى النفرة و الاشمئزاز،و لا ذنب للبلاغة في ذلك بل للمتصرفين في أصنافها،و الداعين إلى تعقيدها حتى عادت كالطلاسم المبهمة.و ليس ما ذهب إليه جمع من قدامى الباحثين ممن تأثروا بمفاهيم عصورهم...ثقافة أجنبية،و سليقة أعجمية،ليس ما ذهبوا إليه نصوصا مقدسة غير قابلة للنقاش،و لا هي تعليمات دينية غير قابلة للرد،بل هي آراء بشرية تقبل النقض و الرفض،و تتعرض للسهو و الخطأ كما تتقبل الرضا و القبول،و ليس تقويمها خروجا على التراث،بل هو تهذيب و صقل للجهد الإنساني و تطوير للموروث الحضاري.
ص: 184
1-بين يدي هذا الفصل 2-المعاني عند سيبويه 3-المعاني من ابن قتيبة إلى ابن فارس 4-المعاني عند عبد القاهر
ص: 185
ص: 186
نود أن نشير هنا أن مفردات علم المعاني هي أقدم عصرا،و أعرق تأريخا،مما عرفه السكاكي(ت:626 ه)و أوضحه القزويني(ت:739 ه)،بل هي أوسع دائرة بالمعنى العام مما خطط له عبد القاهر(ت:471 ه)أو ذكره الزمخشري(ت:538 ه)أو أبانه الرازي(ت:606 ه)، و أريد بسعة دائرتها،تداولها بين العلماء و لكن بتطبيقاتها الدلالية،لا بمعانيها الاصطلاحية،أو تسمياتها الحدودية كما هو شأن السكاكي أو منهج القزويني عند تدقيقهما في الرسوم.
ولدى تتبعي لظاهرة شيوع المعاني متقلبة بين الواقع النحوي، و الموروث البلاغي،رأيتها تتبلور في ثلاثة أدوار متميزة،يمثل الدور الأول سيبويه،و الدور الثاني يمتد من ابن قتيبة(ت:276 ه)حتى ابن فارس(ت:395 ه)و الدور الثالث يتمثل في عبد القاهر الجرجاني(ت:
471 ه)باعتباره مطور هذا الفن وفق مواصفات الجمال الأدبي المتوافرة في أي أثر نصي،و الصور الفنية المتجددة في هيئة الكلام و محتواه.
و سأقف عند هذه الأدوار الثلاثة وقفة عرض و بيان مقتضب،لا وقفة استيعاب و نقد مستفيض،تبعا لطبيعة هذا البحث المختصرة،و ذلك لاعتباري هذه الأدوار مترابطة تمثل تأصيل علم المعاني قبل استقرار مصطلحه التقليدي عند السكاكي و القزويني و رواد مدرستيهما البلاغية بشكل عام.
ص: 187
الاضطلاع بدور سيبويه(ت:180 ه)في بناء النحو العربي و تقديم النصوص اللغوية،و صيانة اللغة الفصحى مهمة شاقة تتطلب تخصصا و جهدا متميزين،و سبر أغوار كتابه مما يتواكب مع هذين الملحظين،و حينما نقول سيبويه و الكتاب،فإننا نريده و نريد الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت:175 ه)من ذي قبل،فهو أستاذه و الموصل لعلمه،و علم العربية،و لا نريد الاستدلال على هذه الحقيقة بأكثر من الإشارة إلى مئات المرات التي روى فيها سيبويه عن الخليل أو حكى قول الخليل،أو شرح رأي الخليل فإذا أضفنا إلى ذلك قول ابن النديم،محمد بن إسحاق البغدادي(ت:385 ه):«قرأت بخط أبي العباس ثعلب:اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان و أربعون إنسانا منهم سيبويه و الأصول و المسائل للخليل» (1).
و إذا وجدنا نصر بن علي الجهضمي يروي:«لما أراد سيبويه أن يؤلف كتابه قال لأبي:تعال نحيي علم الخليل» (2)،علمنا أن ما بحثه سيبويه هو جزء ممّا بحثه أستاذه الخليل حتى قال أحد الدراسين المعاصرين:«و أما بحوث علم المعاني فأكثر ما ورد منها في هذه الفترة مبثوث في كتب النحاة،و كان فارس ميدانه-أو على الأقل من عرفناه- هو الخليل بن أحمد» (3).
و ما سوف نلاحظه من تضلع سيبويه في مهمة علم المعاني لا يمكن أن تضاف إليه دون الخليل كما سيتضح فيما بعده.
و مهما يكن من أمر فمنذ هذا العهد المبكر و هو القرن الثاني للهجرة نجد في الكتاب حديثا متكاملا عن قضايا الإسناد في مختلف الصيغ و الأحوال النحوية،مما يعني أن نشوء علم المعاني كان في أحضان علم النحو،ففي الكتاب.
1-نجد سيبويه يتحدث عن تعريف المسند إليه في شتى صنوف
ص: 188
التعريف و يتعرض لتنكيره،ثم يذكر الخبر،و يعتبر المسند إليه أصل الكلام،و يعالج مسألة تقديمه و تأخيره،و يدعو إلى التمعن و إجالة الفكر في قضية تنكيره...إلخ» (1).
و هذا الباب الذي أفرده سيبويه للمسند إليه و الخبر هو الباب الأول، و هو نفسه الباب الثاني و الثالث عند السكاكي،و تختلط به أبواب أخرى.
2-و يستعرض سيبويه-بيسر و سماح-مباحث التقديم و التأخير فيعرض لتقديم ما حقه أن يتأخر،و لتأخير ما شأنه أن يتقدم في جملة من مباحث الكتاب،و ما قصد في كل ذلك من الاهتمام في الكلام،أو تنبيه المخاطب،و هو لا يعني بمسألة التقديم و التأخير نحويا بل يعللها بلاغيا فيما تعورف عليه فيما بعد عند البلاغيين في وجه من الوجوه (2).
3-و بحوث الخبر و الإنشاء منتشرة في الكتاب بشكل يلفت النظر فمباحث الخبر و هي محددة المعالم يستوفي الكتاب مظاهرها و الإنشاء يستوعب جزءا من جوانبه بصور دقيقة:كالاستفهام و الطلب و النداء و التمني و الأمر و النهي...» (3).
4-و يتمثل سيبويه حديث الحذف و الذكر فيما ينقله عن أستاذه الخليل بإطناب ينتج فيه أغلب مباحث علم المعاني (4).
5-و أما الحديث عن الفصل و الوصل و الزيادة و يريد بها الإطناب عادة-فنجده منتشرا في طيات الكتاب (5).
و هذا لا يعني أن سيبويه كان معنيا بالدراسات البلاغية بل هو معني بالمباحث النحوية و الشئون اللغوية و ذلك مما يقرب لنا وجهة النظر القائلة بأن مباحث المعاني نحوية و الشيء الثمين في الموضوع قرب الصلة بين ما خطط له سيبويه من مباحث علم المعاني و بين ما استقر عليه علماء البلاغة3.
ص: 189
فيما بعد،و قد تولى الإسناد الأستاذ الدكتور علي النجدي ناصف-رحمه اللّه-:«بيان تلك الصلة في كتابه عن(سيبويه إمام النحاة)فيرى أن هناك رحما ماسة،و صلة شديدة،بين منهج سيبويه في كتابه،و بين منهج علماء البلاغة المتأخرين في علم المعاني.فالفكرة التي كان سيبويه يرعاها و يصدر عنها تنويع مباحث النحو و ترتيب أبوابه كما تمثلت لي بالنظر و المراجعة في الكتاب،و مدارها العامل أولا و أخيرا:نظر في الجملة حين تكلم عن المسند و المسند إليه،فإذا هي فعلية و اسمية...ثم تكلم عن الفعل المحذوف و الفعل المذكور و المتعلقات ثم صار إلى الجملة الاسمية فتكلم عن الابتداء و نواسخه...و يبدو أن النسق الذي أخذ به سيبويه هو الذي ألهم علماء المعاني فكرة انحصار مباحثه في أبوابه الثمانية المعروفة و ليس يسع المرء و هو يقرأ كلامهم في ذلك إلا أن يبين اقتباسهم منه، و اقتداءهم بهداه» (1).
بل لقد ذهب الدكتور عبد القادر حسين إلى أكثر من هذا فعدّ سيبويه ممن أنار الطريق بين يدي عبد القاهر للاستقلال بنظرية النظم فقال:«فإذا كان عبد القاهر هو الذي ينسب إليه ابتكار نظرية النظم،لأنه بسطها و فصلها و طبقها على أبواب جمة من البلاغة.فإن سيبويه هو الذي أمسك المصباح بكلتا يديه و أنار الطريق أمام عبد القاهر،و هداه إلى الغاية المنشودة أو بعبارة أخرى إذا كان النظم قد أصبح على يد عبد القاهر بمثابة شجرة عظيمة شاهقة،متعددة الأغصان،مثقلة بالثمار،فإن سيبويه هو الذي ألقى البذرة قبل أن تبرز الشجرة أمام العيون بمئات السنين» (2).
فإذا علمنا أن نظرية النظم تعني بمعاني النحو،و أن معاني النحو هي الأصل في علم المعاني،تبين لنا فضل سيبويه و أستاذه الخليل على هذا الفن.0.
ص: 190
فإذا تجاوزنا عصر الخليل و سيبويه،و محصنا الأمر خلال قرنين من الزمن وجدنا مباحث علم المعاني مدرجة ضمن الحلقات الموسوعية لعلمائنا القدامى،فأمامنا الفراء(ت:207 ه)في معاني القرآن،و أبو عبيدة(ت:209-210 ه)في مجاز القرآن،و الجاحظ(ت:255 ه)في الحيوان و البيان و التبيين،و ابن قتيبة(ت:276 ه)في تأويل مشكل القرآن.و المبرد(ت:285 ه)في الكامل،و ثعلب(ت:291 ه)في قواعد الشعر،و ابن المعتز(ت:296 ه)في البديع،و قدامة بن جعفر (ت:337 ه)في النقدين،و القاضي الجرجاني(ت:366 ه)في الوساطة،و الحسن بن بشر الآمدي(ت:370 ه)في الموازنة بين الطائيين،و الرماني(ت:386 ه)في النكت،و الخطابي(ت:388 ه) في بيان القرآن،و الحاتمي(ت:388 ه)في الرسالة الموضحة،و ابن جني(ت:392 ه)في الخصائص و سر صناعة الأعراب،و أبو هلال العسكري(ت:395 ه)في الصناعتين،و الشريف الرضي(ت:406 ه) في تلخيص البيان،و المجازات النبوية،و ابن رشيق(ت:456 ه)في العمدة،و ابن سنان الخفاجي(ت:466 ه)في سر الفصاحة و إضرابهم من العلماء المتخصصين ممن يطول ذكرهم،فلكل من هؤلاء يد على المعاني بالمعنى الاصطلاحي،فقد جاءت جهودهم متناثرة بين كتب النحو و البلاغة و النقد الأدبي،و لكنك تظفر بما تريد من علم المعاني،مزيجا بالنحو،أو مستلا من اللغة أو مسايرا للبلاغة،بيد أنا نريد أن نقف عن بعض المؤشرات الأصيلة عند كل من ابن قتيبة(ت:276 ه)و أبي سعيد السيرافي(ت:368 ه)و أحمد بن فارس(ت:395 ه)فقد استوعب الأول جملة من مباحث علم المعاني منذ عهد مبكر،و قد استعمل الثاني عبارة معاني النحو و قد أكد ابن فارس على معاني الكلام في مفردات علم المعاني و بذلك نلمس شيوع المفردات عند أهل الفن من جهة،و استقلال مصطلح المعاني من جهة أخرى.
فمن أطرف ما أورده أبو محمد عبد اللّه بن مسلم ابن قتيبة(ت:
276 ه)جمعه لمادتي علمي المعاني و البيان في صدر كتابه«تأويل مشكل
ص: 191
القرآن»بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون من عصره و أن استخدام المجاز بمفهومه العام للدلالة على علمي المعاني و البيان بصورة عامة على طريقة الأوائل،و لكنه في النص التالي يضع حجر الأساس لأسماء المصطلحات التي توسع فيها السكاكي أو لخصها و شرحها و اختصرها القزويني،يقول ابن قتيبة:
«و للعرب المجازات في الكلام و معناها طرق القول و مآخذه ففيها الاستعارة و التمثيل و القلب،و التقديم و التأخير و الحذف و التكرار و الإخفاء و الإظهار،و التعريض و الإفصاح،و الكناية و الإيضاح،و مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع،و الجميع خطاب الاثنين،و القصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم و بلفظ العموم لمعنى الخصوص،مع أشياء كثيرة في أبواب المجاز» (1).
و هكذا شأن كل ما هو مبتكر و أصيل،أن يعطيك الدقة و الشمولية و الاستقصاء فيما يتصل بطريقة التعبير عن المعاني و البيان (2).
فابن قتيبة هنا قد حصر أبحاث علم المعاني و جردها من قبل أن تتبلور فكرتها و بالمعنى الذي أراده اصطلاحا و المصطلحات التي استعملها حصرا في النص المتقدم لعلم المعاني الآتي:
1-التقديم و التأخير.
2-الحذف و التكرار.
3-الإخفاء و الإظهار.
4-مخاطبة الواحد مخاطبة الجميع.
5-مخاطبة الجميع خطاب الواحد.
6-مخاطبة الواحد و الجميع خطاب الاثنين.
7-إرادة العموم بلفظ الخصوص.5.
ص: 192
8-إرادة الخصوص بلفظ العموم.
و لم يكتف بهذا القدر الكبير من مباحث علم المعاني حتى أضاف إليها قوله:مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز،فأحال إلى المباحث الأصل دون المقدمة.
و هناك إشارة لأبي سعيد السيرافي(ت:368 ه)تؤكد مضنة التماسه لعلم المعاني بمعاني النحو بقولين:
(معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ و سكناته،و بين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها،و بين تأليف الكلام بالتقديم و التأخير» (1).
و يتضح من هذا النص أن للسيرافي فضل السبق في هذا التعبير (معاني النحو)دون الخصوص في تطبيقاتها الفنية الرتيبة كما فعل عبد القاهر فيما بعد.
و يستوقفنا حقا ما أفاده أحمد بن فارس(ت:395 ه)حينما عقد بابا في الصاحبي و سماه(معاني الكلام)و هي:«عند أهل العلم عشرة:
خبر و استخبار،و أمر و نهي،و دعاء و طلب،و عرض و تحضيض،و تمن و تعجب» (2).
فهو يضع بين أيدينا عبارة(معاني الكلام)في قبال(ألفاظ الكلام) و هو يضع مباحث الخبر و الإنشاء فيها و هي طليعة مباحث علم المعاني، و أهم أبوابه و فصوله.
و باستقراء ما تقدم يتجلى دور هؤلاء الاعلام في إرساء المصطلح و إثارة المفردات.
و لا يفوتنا التنويه أن أبا هلال العسكري(ت:395 ه)يشاركهم في استنباط جملة صالحة من مباحث المعاني يجب أن لا نغض عنها طرفا،2.
ص: 193
فقد بحث في الصناعتين/الفصل الخامس،شذرات من مباحث الإيجاز و الإطناب و المساواة في مجال التعريف و التطبيق (1).
و قد أشار إلى الخبر و الوصف في صورة الاستفهام (2).
و قد أقام أصول القول في الفصل و الوصل تنقيحا و تحقيقا و شواهد و أمثلة (3).
هذا كله عدا جملة من الجزئيات في الأمر و النهي و معاني الحروف و نظائر ذلك.
فإذا وقفنا عند عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)وجدناه بحق مؤسس هذا العلم و مشيد أركانه،و لمسناه مطور مباحثه و مجدد معالمه، فالمستقري لكتابه«دلائل الإعجاز»يلحظ فصوله و مقتطفاته منصبة حول علم المعاني بكل تفريعاته الجمالية و الأسلوبية،حتى كانت الحيثيات التي أثارها،و الفصول التي خاض غمارها،تعد بلا ريب أوضح و أمرن و أسلم ما توصل إليه علم المعاني في جمال الأسلوب،و عرض المنهج،لهذا فليس أمرا مبالغا فيه أن نعتبره-في المستوى التطبيقي على الأقل- المخطط لعلم المعاني بين دلالته البلاغية،و مصدره النحوي،مما يقتضي رصد هذه الظاهرة في أبعادها العامة.
المعاني عند عبد القاهر:
لا شك أن عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)في جهوده الفنية بإرساء فكرة النظم و كشف مجاهلها و تأكيد ارتباطها بسبب و آخر بمعاني النحو،ما كان يهدف فيها إلا التمهيد الطبيعي لما تواضع على تسميته البلاغيون ب(علم المعاني)،فهو حينما يتحدث عن الفصل و الوصل، و التقديم و التأخير،و الحذف و الذكر،و الإظهار و الإضمار،و التعريف و التنكير و المسند و المسند إليه،و الخبر و الإنشاء،و الإيجاز و الإطنابا.
ص: 194
و إضراب ذلك،فإنما يتحدث عن علم المعاني،و إن لم يقل أن هذه هي مادة علم المعاني،فهو أمر مفروغ عنه في تأكيده المعاني في أصل نظريته و دلالته عليها في جملة مباحثه و معالجاته الفنية و تناسق فكرة النظم لديه بحيال معاني النحو مشققا على ذلك و مفرعا عنه بما لا مزيد عليه (1).
و لا ريب في أن الفضل في ابتكار هذا العلم يعود إلى عبد القاهر وحده،فإن مسائل هذا العلم لم تدرس قبله و لم تعالج على هذا النحو...
و لعل تمعن عبد القاهر في الحديث عن معاني النحو،و أن النظم ليس شيئا إلا توخي المعاني،هو الذي أوحي بتسمية هذا العلم«بعلم المعاني» (2).
و لقد سبر عبد القاهر أغوار الفن البلاغي شرحا و إيضاحا و تطبيقا، و اعتنى في«دلائل الإعجاز»باللباب من علم المعاني و أكد الجانبي الحي النابض،و ابتعد عن الفهم الساذج،و الإبهام المفتعل و تحاشا الفصل بين النظرية و التطبيق و لم يعتن بالحدود و الرسوم و التعريفات،بل كان يؤثر الحديث عن الأصل الفني للمعاني دون الخوض في تعقيد التعريف أو جفاف القواعد،فقد كتب كتابه هذا لمن تفرغ لهذا العلم،فعليه إذن أن يعطي ثمرته يانعة باسقة متراصفة،فلا غرابة أن نعده مبتكرا و مؤصلا لهذا العلم،عرضا و أسلوبا و نتائج،أما مجال التطبيق عنده فالقرآن الكريم.
و سنن العرب في كلامهم،شواهد و شوارد و أمثالا،و الشعر الرصين المختار.
و لقد أفاد عبد القاهر من ثقافته الموسوعية فصبها قالبا متميزا يتمكن من القلوب و يستهوي النفوس،و لعله أول من أشاد إلى تعلق هذه المعاني بعلم النفس و ربطها به مما أثبتته الدراسات الحديثة فيما بعد (3).
و لعله أبلغ من فرع تلك الأصول المغلقة إلى فن تسيغه الذائقة، و تتقبله الأفئدة،يعيدك إلى التراث،و يوقفك على المأثور،دون غلطة في التعبير،أو تهافت في الحجة،أو تشادق في الكلام.و ما ضره أن يبتعد9.
ص: 195
عن نهج المناطقة،و يتحاشى مناخ الفلاسفة فيقربك بيسر من الثقافة الأم دون اجترار.
و في هذا الضوء فليس جديدا ما أبداه السكاكي أو القزويني في علم المعاني من حيث المباحث و المفردات،فعبد القاهر قد سبق إلى بحث تفصيلات و دقائق هذه المسميات محققا و منورا و مبرمجا،فلا يكاد يبحث في موضوع من التقديم و التأخير إلا و قد اتبعه بتوضيح عن الحذف و الذكر، مشبعا الأول في ضوء الثاني و مفصلا في الثاني بسبيل مما بحثه في الأول، و لا خاض في مجاهل التعريف و التنكير إلا و عرج على الفصل و الوصل، و لا بحث في القصر إلا و أبان الحصر،و لا فلسف الإيجاز إلا ذكر مزية الإطناب كل ذلك بسبيل من علم النحو المبين بقوله:
«و اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو،و تعمل على قوانينه و أصوله،و تعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها،و تحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها،و ذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب و فروقه،فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك:
زيد منطلق.
زيد ينطلق.
و ينطلق زيد.
و منطلق زيد.
و زيد المنطلق.
و المنطلق زيد.
و زيد هو المنطلق.
و زيد هو منطلق.
و في الشرط و الجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك.
إن تخرج اخرج.
ص: 196
و إن خرجت خرجت.
و إن تخرج فأنا خارج.
و أنا خارج إن خرجت.
و أنا إن خرجت خارج.
و في الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك:
جاءني زيد مسرعا.
و جاءني يسرع.
و جاءني و هو مسرع أو هو يسرع.
و جاءني قد أسرع.
و جاءني و قد أسرع.
فيعرف لكل من ذلك موضعه،و يجيء به حيث ينبغي له و ينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى،فيضع كلا من ذلك في خاص معناه،نحو:أن يجيء بما في نفي الحال و بلا إذا أراد نفي الاستقبال،و بأن فيما يترجح بين أن يكون و أن لا يكون،و بإذا فيما علم أنه كائن.و ينظر في الجمل التي سترد.فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء،و موضع الفاء من موضع ثم،و موضع أو من موضع أم،و موضع لكن من موضع بل.و يتصرف في التعريف و التنكير و التقديم و التأخير في الكلام كله،و في الحذف و التكرار و الإضمار و الإظهار،فيضع كلا من ذلك مكانه و يستعمله على الصحة و على ما ينبغي له.
هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجح صوابه إن كان صوابا، و خطؤه إن كان خطأ إلى النظم،و يدخل تحت هذا الاسم إلا و هو معنى من معاني النحو التي قد أصيب به موضعه و وضع في حقه،أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه،و استعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية و فضل فيه،
ص: 197
إلا و أنت تجد مرجع تلك الصحة و ذلك الفساد و تلك المزية و ذلك الفضل إلى معاني النحو و أحكامه،و وجدته يدخل في أصل من أصوله،و يتصل بباب من أبوابه.
هذه جملة لا تزداد فيها نظرا،إلا ازدادت لها تصورا،و ازدادت عندك صحة و ازدادت بها ثقة،و ليس من أحد تحركه لأن يقول في أمر النظم شيئا إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها،و وافق فيها درى ذلك أو لم يدر (1).
فنظرية النظم عند عبد القاهر في استجلاء معاني النحو ترتبط بالمسند و المسند إليه و قضاياهما،و تستوعب مباحث الفصل و الوصل على ما يفيده المعنى من كل حرف من حروف العطف و تشتمل على الحذف و القصر و التكرار و تترصد الإضمار و الإظهار و التقدير مضافا إلى التعريف و التنكير، و هذه أهم مباحث علم المعاني.
و هنا يجب التنبه أن نظرية النظم عند عبد القاهر تنظر إلى النحو نظرة خاصة و متطورة،تتعدى حدوده التعريفية و علاماته الإعرابية إلى خصائصه الفنية:«و لا يقصد بالنحو معناه الضيق الذي فهمه المتأخرون،و إنما يريد المعاني الإضافية التي يصورها النحو.و بذلك رسم في«دلائل الإعجاز» طريقا جديدا للبحث النحوي تجاوزا أواخر الكلمة،و علامات الإعراب، و بين أن للكلام نظما،و أن رعاية هذا النظم و اتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة و الإفهام» (2).
لهذا نجده يعير التركيب و سلامته،و ارتباط النظم و تعلق بعضه ببعض،و تشابك العبارة و صلتها بما قبلها و ما بعدها أهمية كبيرة يؤكد عليها في موضع أثر موضع،و يناقشها في فصل بعد فصل،و يحررها في جزء ليكملها في جزء آخر،و هكذا ديدنه..يكر على الأمر و يبحث أمرا موازيا له و يعود إليه،و يحيل إلى ما يأتي،و يشير إلى ما سبق،و يتناول ما هو بين يديه.و الرجل قوي الحجة،صليب البرهان،فلا يكاد ينتهي من عرض إلا8.
ص: 198
أشبعه بعرض آخر،تمحضا للموضوع و تأهبا للأمر في استكناه نظرية النظم التي تستجلى منها المعاني في سبيل العبارات و تراصف الجمل فيقول:
«و اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم،و لا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض،و يبنى بعضها على بعض، و تجعل هذه بسبب من تلك هذا ما لا يجهله عاقل و لا يخفى على أحد من الناس» (1).
و واضح أنه يتحدث هنا عن قضايا الإسناد في تركيب الجملة و أنها أصل ذلك،و قضية الإسناد بشقيها في ارتباط بعضها ببعض،من أصول المعاني لدى البلاغيين و هي أصولها عنده في نظرية النظم،و هو يؤكد ذلك بعد كد و كدح و استقصاء و شواهد فيقول:«و إذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو و على الوجوه و الفروق التي من شأنها أن تكون فيه،فاعلم أن الفروق و الوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها،و نهاية لا تجد لها ازديادا بعدها،ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها و من حيث هي على الإطلاق،و لكن تعرض بسبب المعاني و الأغراض التي يوضع لها الكلام ثم يحسب موقع بعضها من بعض،و استعمال بعضها مع بعض» (2).
و هو هنا يتكلم عن معاني النحو في فروقها و مميزاتها و وجوهها و يريد بذلك التعريف و التنكير و التقديم و التأخير،و الذكر و الحذف،و لا حدود لذلك لديه،و لا نهاية لها عنده،و الفضل ليس لها في هذا المقياس،و لكنه للموقع من الجملة بحسب معانيها و أغراضها،و دقة استعمالها و تسخيرها، هو يعاود هذه الفكرة فيقول:«و اعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر و يغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتخذ أجزاء الكلام، و يدخل بعضها في بعض،و يشتد ارتباط ثان بأول،و أن يحتاج في الجملة أن تضعها في النفس وضعا واحدا،و أن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع يساره هناك» (3).1.
ص: 199
و حينما ينتهي عبد القاهر من نظرية النظم بعد ربطها بمعاني النحو، يأتي على المستوى التطبيقي للموضوع فيبحث هذه المسائل بحث المدرب الخبير،فيعقد فصلا للقول في التقديم و التأخير (1)يبحث فيه جميع مواطن ذلك دون استثناء من كل الوجوه بلا تشويه للأمر،و لا استئثار بإخراج الكلام عن وجه المعاني إلى سبل الفلسفة و المنطق و الأصول،كما فعل السكاكي و القزويني و التفتازاني فيما بعد،بل هو يستنكر في هذا السياق التصور الأولي لدى علماء المعاني في التأكيد منه على التقديم و التأخير و الحذف و التكرار و الإظهار و الإضمار و الفصل و الوصل دون الخوض في التفصيلات المضنية التي لا تقود إلى استكناه النص الأدبي بل على أساس من العناية في التطلع إلى مزية القول كما فعل في مجال التقديم بقوله:
«و قد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال أنه قدم للعناية،و لأن ذكره أهم،من غير أن يذكر أين كانت تلك العناية،و لم كان أهم، و لتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم و التأخير في نفوسهم،و هونوا الخطب فيه حتى أنك لترى أكثرهم يرى تتبعه و النظر فيه ضرب من التكلف،و لم تر ظنا أزرى على صاحبه من هذا و شبهه،و كذلك صنعوا في سائر الأبواب فجعلوا لا ينظرون في الحذف و التكرار و الإظهار و الإضمار،و الفصل و الوصل،و لا في نوع من أنواع الفروق و الوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك» (2).
فهو لا يذكر أبواب المعاني هنا فحسب بل و ينعى على من تخلف في البحث بمستواها التقويمي و التعليمي مع بيان الحجة و كشف المميزات.
و لا غرابة أن نجد عبد القاهر مستوعبا لجميع مباحث هذا الفن فهو يبحثها نقطة نقطة،و يدرسها جزئية جزئية،و كذلك صنع في باب الحذف (3).
و عقد عبد القاهر عدة فصول في باب الحذف تتناول مباحثه كافة فيا.
ص: 200
مقام الاسم و الفعل و الخبر تعريفا و تنكيرا قصرا و فروقا تحقيقا في معاني المبتدأ و الخبر،و هو نفسه في باب الفصل و الوصل (1).
و نجد هذا التفصيل بعينه في باب القصر و الاختصاص الذي بين فيه مشكلات الموضوع تبينا لم يسبق إليه (2).
و ختما ببيان كون النظم بتوخي معاني النحو فيما بين الكلم و أن نظريته هذه قد بلغت من الوضوح و الظهور و الانكشاف إلى أقصى الغاية.
و لا ينسى عبد القاهر أن يشير إلى أهم موضوعات علم المعاني و هو بسبيل إنهاء الحديث عن دلائل الإعجاز القرآني فيعقد بحثا للإسناد، و تحقيق معنى الخبر،و حقيقته في الإثبات و النفي،و يشير في بحث بعده إلى متعلقات الفعل و كونها تغير معنى الجملة،و هذان بابان من أبواب المعاني بحسب تقسيم السكاكي و القزويني (3).
و الطريف أن يبين الجرجاني أهميتهما من قبل أن يبين السكاكي و القزويني أساسهما على ما أفاده بقوله:
«اعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين، و الأصل و الأول هو الخبر،و إذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع» (4).
و زيادة على هذا فإنه لا ينسى المهمة الأم في هذه المباحث،و هي إثبات إعجاز القرآن من خلال نظرية النظم فيقول عودا على بدء مع ثبت النتائج:
فإذا ثبت الآن أن لا شك و لا مرية في أن ليس للنظم شيئا غير توخي معاني النحو و أحكامه فيما بين معاني الكلم،ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو و أحكامه و وجوهه0.
ص: 201
و فروقه،و لم يعلم أنها معدنه و معانه و موضعه و مكانه و أنه لا مستنبط له سواها و أن لا وجه لطلبه فيما عداها،غار نفسه بالكاذب من الطمع، و مسلم لها إلى الخدع و أنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزا بنظمه و لزمه أن يثبت شيئا آخر يكون معجزا به (1).
و الذي يعنينا من هذا النص أن دليل الإعجاز يطلب في معاني النحو، و هذه المباحث التي أثارها في علم المعاني هي معاني النحو،و هذا ما نريد إثباته أو التحقيق فيه على الأقل.3.
ص: 202
1-معاني النحو 2-معاني البلاغة 3-رأي في مناهج المعاني
ص: 203
ص: 204
لو استعرضت كتب النحو بعامة القديم منها و الحديث الموصل فيها و المجدد،لوجدت كلمتي(معنى و معاني)متواكبة مع قضايا النحو في استعمال معنى الشيء و معنى الدلالات و معاني الإعراب في الأسماء و الأفعال و الحروف و لو رجعت إلى أيام دراستك لوجدت ما هو عالق بذهنك على الشكل الآتي:
معنى المعنى.
إفادة معنى الحال.
إفادة معنى الاستقبال.
إفادة معنى الزمن.
إفادة معنى الجملة.
إفادة معنى الأمر.
إفادة معنى الطلب.
إفادة معنى النهي.
إفادة معنى الدعاء.
إفادة معنى التمني.
إفادة معنى الترجي.
ص: 205
إفادة معنى التعجب.
إفادة معنى الاستفهام.
إفادة معنى الشرط.
إفادة معنى الجزم.
إفادة معنى الحدث.
إفادة معنى التحقيق.
إفادة معنى التعليل.
إفادة معنى الوصف.
إفادة معنى الظرفية.
مضافا إلى العبارات التالية:معنى الأسماء،معاني الأفعال،معاني الحروف،معاني الصرف،حروف المعاني،أسماء المعاني...إلخ.
إن هذا السيل من استعمال المعاني في معاني النحو خاصة لا سبيل إلى تجاهله،و لم يكن ذلك كذلك لو لم يكن علم المعاني على حقيقة من علم النحو،أن المباحث التي تفرغ لها علم النحو في المعاني هي بعينها التي أشبعها البلاغيون بحثا أسموه:بعلم المعاني،إلا أن نظرة فاحصة إلى الموضوع تقتضي التدبر و الفصل في الموضوع على أساس علمي رصين، فهي مباحث نحوية عليها مسحة بلاغية،أو فقل هي معان نحوية حسنها البلاغيون بتتمات بيانية،و حاولوا إخراجها بصيغة جديدة يصلح أن تسمى في ضوء ما حققوه:«معاني النحو البلاغية»فلو أعدت النظر في هذا مرة ثانية،لوجدت النحويين أنفسهم قد قصروا في مجال معاني النحو فتركوها على علاتها جامدة دون تزيد بياني أو صقل أسلوبي،أو معنى إضافي،مما شجع علماء البلاغة على استغلال هذا الجانب في استيفاء حقه المضاع، فعاد من حصة البلاغة و هو جزء مقتطع من النحو،فكأن مهمة النحو القوقعة و الجمود و الفظاظة،فإذا طرأ عليه سحر أسلوبي،أو روح تعبيري خرج إلى شيء آخر،هذا ما دعا الدكتور الجواري إلى القول:-و هو بإزاء دراسة نحو الفصل-«و ثمة أمر آخر لا بد من توكيده على كل حال،ذلك
ص: 206
هو توكيد العناية بالمعاني،و أعني بها معاني النحو التي استقلت عند علماء العربية بعلم من علوم البلاغة،حتى جعلت من النحو ما يصح بأن يوصف بأنه هياكل لا تنصرف العناية بدراسة ما تشتمل عليه من حياة و حركة، و حتى صار الإعراب هو دليل المعاني،يدرس بمعزل من تلك المعاني، فلا يوصل بها و لا يستعان به على إدراكها،أو يستعان بها على فهمه و استيعاب مسائله و قضاياه» (1).
و هو ينحو باللائمة على علماء النحو إذ قصروا في بيان العمق الدلالي لمباحث المعاني،حتى جعلوها تتحول بطبيعة البحث التفصيلي إلى علماء البلاغة،و هو حينما يبحث قضايا الإسناد في الجملة يعقب على ظاهرتي الخبر و الإنشاء فيها،و هما من صلب النحو-يعني عدم تحرير هذه المسائل من ربقة الجمود اللفظي إلى رحاب التعبير الدلالي من وجوهه كافة فيقول:«ثم يأتي من بعد ذلك تقسيم آخر يتناول الجملة من حيث وجود مدلولها في الخارج أو عدم وجوده،و هذا هو الذي اصطلح علماء البلاغة على تسميته بالخبر و الإنشاء،فجملة الأمر،و النهي،و الدعاء،و التمني، و الترجي و الاستفهام،و نحو ذلك من أساليب الإنشاء تتوزعها أبواب النحو تبعا للاعراب و حركة آخر الكلمة.و قلما يخوض النحاة في التفريق بين هذه الأساليب و أساليب الخبر،و في ذلك ما فيه من تحيف للمعاني،و خلط بين التراكيب دون الاعتبار بما تؤديه من المعاني،و هذا هو العلم الذي يسلم النحو إلى حال بعيدة عن وظيفته من دراسة التراكيب و فهم طبيعتها،بحيث تثمر تلك الدراسة التراكيب و فهم طبيعتها،بحيث تثمر تلك الدراسة قدرة على الفهم الدقيق و الذوق السليم لأساليب العربية من جهة،و قدرة على التعبير الصحيح المصيب عن الأفكار و المشاعر على النحو الذي نحاه العرب،القصد الذي قصدوا إليه» (2).
قدم البلاغيون-فيما يبدو-على مادة ضخمة و لكنها أولية في التصنيف،فنقحوها و ألحقوها بالمباحث البلاغية دون الجنوح إلى القول3.
ص: 207
بأنها أصول نحوية قالبا و أسلوبا و تعبيرا.
إن مسحا احصائيا لما أورده عبد القاهر في«دلائل الإعجاز»و تأكيده على تسمية مباحثه هذه«معاني النحو»يوصلنا إلى حقيقة الأصل النحوي بعلم المعاني،و إن كان هذا الأصل مزيجا بلمسات بلاغية حينما أدخل عليه التعبير المرن،و السبك الرصين بأسلوب كأسلوب عبد القاهر ممن أوتوا نصيبا كبيرا من الذائقة الفنية.
فلو قمنا بجهد استقرائي لهذه المباحث على أساس تقسيم السكاكي (ت:626 ه)و القزويني(ت:739 ه)و لو اخترنا القزويني في حسن تنظيمه و ترتيبه و تصنيفه لوجدنا أحوال الإسناد الخبري،و أحوال المسند إليه،و أحوال المسند،و هي ثلاثة أبواب من مباحث علم المعاني عنده لوجدناها جميعا تدور حول الجملة الاسمية و الفعلية فحسب،فالمسند إليه اسم دائما،و المسند:إما اسم،و إما فعل،و إما ظرف و إما جار و مجرور و هما الجملة العربية التي يصح عليها السكوت،و ما بحثه من التنكير و التعريب،و الذكر و الحذف،و التقديم و التأخير،فإنما هي عوامل إعرابية تشخص المراد في أهميته،أو تعظيمه،أو تحقيره،أو تخصيصه أو عمومه،و هي مباحث لا تتعدى النحو إلا تجوزا.
و أما الباب الرابع،و هو،أحوال متعلقات الفعل فهو باب نحوي في جميع جزئياته و شتات حيثياته،كالفعل في حالة مع الفاعل و المفعول به، و الفعل المتعدي الذي حذف مفعوله،و الغرض من إثبات المعنى في ذاته للفاعل،أو الغرض من إفادة تعلقه بمفعول ما،و القصد إلى التعميم في المفعول،و أمر الحذف و عدمه،و تقديم المفعول و نحوه،و كون التخصيص لازما للتقديم،و إفادة التقديم للاهتمام مع التخصص،و كذلك تقديم بعض معمولات الفعل على بعض،و تقديم الفاعل على المفعول...إلخ.
و لا يشك أحد أن هذه التفريعات من أصول النحو في وجوه،و إن كانت من فروع البلاغة و علم الأصول من وجه آخر و هذا الوجه غير مسلم به إلا على سبيل التوسع في المعاني بالتماس جماليات النص،أو دلالات الألفاظ.
ص: 208
و القول في القصر لا يعد ما سبق تحقيقه إلا في إفادة المخاطب بعض الحالات،كقصر الصفة على الموصوف،أو التعيين و إلا فطرقه نحوية كالعطف و النفي و الاستثناء،نعم قد تستفاد بعض الشذرات البلاغية من القصر كتنزيل المجهول منزلة المعلوم كما في قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (1).
قال القزويني:(ادعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جلي و لذلك جاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (2)للرد عليهم مؤكدا بما ترى:من جعل الجملة اسمية،و تعريف الخبر باللام،و توسيط الفعل،و التصدير بحرف التنبيه،ثم ب«إن» (3).
و لكنها شذرات بلاغية مستفادة من استعمال نحوي لا تنهض أن تكون الأصل و النحو فرعها،بل هي الفرع و النحو أصلها،و كذلك الحال بالنسبة لتنزيل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب كما في قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (4).(أي أنه صلى اللّه عليه و آله و سلم مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الهلال،نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم و إياه» (5).
أما قصر الفاعل على المفعول،و قصر المفعول على الفاعل، فعنوانهما يدل عليهما في وضوح تعلقهما بمادة النحو جملة و تفصيلا.
و أما باب الإنشاء بشقيه الطلبي و غير الطلبي.فيعتمد أدوات الاستفهام،و لو،و ما،و من،و كم،و أي،و كيف و أين،و أنى،و متى، و أيّان،و هي تبحث في حروف المعاني أو معاني الحروف،و قد استقل في ذلك مضافا إلى علماء النحو علماء الأصول فحققوا في موضوع المعنى الحرفي بما لا مزيد عليه،حينما تستعمل هذه الألفاظ في غير معانيها9.
ص: 209
الموضوعة لها،أو في معانيها بالذات و في دلالاتها كافة (1).
و أما الأمر باعتباره من أنواع الإنشاء،فإنما يستعمل أصلا في النحو للدلالة على الطلب،و منارا في استنباط الأحكام الشرعية عند الأصوليين في دلالته على الوجوب تارة،و على الاستحباب تارة أخرى،أما هذه الوجوه التحسينية الأخرى،كاستعمال الأمر في غير صيغة الطلب،للرجاء أو التهديد،أو التعجيز أو التسخير،أو الإهانة،أو التسوية،أو التمني، أو الدعاء،أو الالتماس...إلخ.فإنما دلت على ذلك بطبيعة صيغتها النحوية و دلالتها الاستعمالية كما تفيده فرائس الأحوال (2).
و ما يقال عن الأمر يقال عن النهي بجزئياته عامة.بقي عندنا من مباحث علم المعاني بابان هما:
الباب السابع في الفصل و الوصل،و الباب الثامن في الإيجاز و الإطناب و المساواة.
و الحق أن هذين البابين يشتملان على مباحث بلاغية مهمة و إن كانت عليهما بعض السمات النحوية،لذا يبدو أن إلحاقهما بعلم البيان هو أولى بالعربية فلتكن الأبواب الستة السابقة معاني النحو و ليكن باب الوصل و الفصل،و باب الإيجاز و الإطناب و المساواة ملحقين بأركان البيان الأربعة،و هي:المجاز و التشبيه و الاستعارة و الكناية لتعود أبواب البيان ستة أيضا.و بذلك تتكافأ أبواب المعاني كأصول نحوية فيها لمسات بلاغية بستة أبواب،و أبواب البيان كأصول بلاغية عليها مسحات نحوية بستة أبواب.
إن هذا المنحى يعود بأصول كل فن إلى العلم المتوجه إليه،و يضعه موضعه المناسب،و ليس في ذلك خروج على قواعد منصوصة أو نصوص مفروضة،بل العكس هو الصحيح في عائدية كل شيء إلى ينابيعه الأولى دون تزيد أو إضافة.
و لما كانت أبواب المعاني الستة السابقة،قد بحثت آنفا،و وجدناها9.
ص: 210
متأصلة المناخ مع النحو،فإن بابي الوصل و الفصل،و الإيجاز و الإطناب و المساواة،يحتاجان إلى بسط القول لإلحاقهما بأصول البلاغة عسى أن يكون ما قدمناه مقاربا إلى القصر و الاعتدال منه إلى التفريط و الإسفاف.
إن مبحث الوصل و الفصل من المباحث المهمة التي تتحكم البلاغة بمواضعها المتأطرة بإطار مقتضيات المقام،فلا يوصل بموضع الفصل،و لا يفصل بمحل الوصل،«و تمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر،صعب المسلك،دقيق المأخذ،لا يعرفه على وجهه،و لا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي فهم كلام العرب طبعا سليما،و رزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا،و لهذا قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل،و ما قصرها عليه لأن الأمر كذلك، و إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه،و أن أحدا لا يكمل فيه الأكمل في سائر فنونها،فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه من البيان» (1).
هكذا يقول القزويني(ت:739 ه)و قوله هذا ينم عن التصاق هذا الفن بالذات بعلم البلاغة من جهة،و هو امتداد لآراء علمائنا السابقين من جهة أخرى.
فالجاحظ(ت:255 ه)قد أورد أن البلاغة(معرفة الفصل من الوصل) (2).
و أبو هلال العسكري(ت:395 ه)أورد عن المأمون:أن يكون البليغ بصيرا بمقاطع الكلام،و مواضع وصوله و فصوله،فإن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل و الوصل كانت كالآلي بلا نظام (3).
ص: 211
و أورد أيضا:قف عند مقاطع الكلام و حدوده،و إياك أن تخلط المرعي بالمهمل،و من حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل و الوصل (1).
و أقدم ما وصلنا من نص في هذا المعنى،أن أكثم بن صيفي إذا كاتب مملوك الجاهلية،يقول لكتابه:«افصلوا بين كل معنى منقض، و صلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض» (2).
و لا نريد أن نطيل بعرض آراء القوم بالفصل و الوصل و علاقتهما الأكيدة بالبلاغة،بقدر ما تزيده من التحقق في هذه الدعوى من خلال مباحث الفصل و الوصل.
و لعل عبد القاهر الجرجاني(ت:471 ه)هو المجلي في هذا المضمار،و الفارس المتقدم في هذا الميدان و هو يضع الفصل و الوصل في موضع الندوة من الفن البلاغي فيقول:«اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض،أو ترك العطف فيها،و المجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد أخرى،من أسرار البلاغة،و مما لا يتأبى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص،و الأقوام طبعوا على البلاغة،و أوتوا فنا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد،و قد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدا للبلاغة...و ذلك لغموضه و دقة مسلكه و أنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة» (3).
أوضح عبد القاهر في هذا النص عدة ملامح:
1-أن الوصل هو عطف الجمل بعضها على بعض.
2-أن الفصل هو ترك العطف فيها و المجيء بها منثورة.
3-أن العلم بهذا الفن من أسرار البلاغة.
4-أن إدراك هذه الأبعاد متكاملة،من مميزات العرب الأقحاح ممن طبعوا على البلاغة فطريا.9.
ص: 212
5-أن الذائقة الفنية عند العرب هي التي جعلتهم متخصصين في معرفة الفصل و الوصل.
6-أن الخبرة في الفصل و الوصل و مواقعهما من المسالك الدقيقة و المسائل الغامضة التي تحتاج إلى خبرة و نظر.
7-أن العرب اعتبروا الفصل و الوصل حدا للبلاغة.
8-أن الأسبقية و إحراز الفضيلة فيهما تعني اكتمال سائر معاني البلاغة.
هذه الملامح جلية في أن معرفة الفصل و الوصل شيء،و وضعهما في موضعهما من التركيب الجملي شيء آخر.الوصل هو العطف،و الفصل هو ترك العطف،و معرفة العطف و تركه ليس مما يستدعي هذا البيان في وصف الفصل و الوصل،و إنما هناك أمر آخر ذو أهمية بلاغية،الأمر الآخر هو الخبرة بموقعهما من الكلام و التمرس بصياغتهما في فن القول و لا يراد بذلك جهة الإعراب فهو أمر ساذج،فالمعطوف على المرفوع مرفوع، و على المنصوب منصوب و على المجرور مجرور،و حكم المفرد،و حكم الجملة فيه مشتركان،أما على المعطوف أو على المحل كما هو مزبور في كتب النحو.
إذن هناك ميزة أخرى هي التي جعلت عبد القاهر و هو يتحدث عن معاني النحو أن ينتقل إلى أسرار البلاغة في معرفة الوصل من الفصل، و كأنه يشير إلى أن التركيب إفراديا كان أو جمليا في عطفه أو تركه يجب أن يخضع لمواصفات يتحكم فيها الذوق السليم،و الفطرة البكر،في اكتشاف سر الوصل و كنه الفصل،أما الاشتراك في الاعراب بالواو أو الفاء و غيرهما فهي مسألة نحوية ليست ذات بال،و أما الاستئناف دون عطف فيعني عدم الاشتراك في الحكم و الاتيان بحكم جديد مستقل،و هذان ملحظان نحويان لا تعقيد بهما،و لا جمال باستقرائهما،بينما نجد هذا المبحث مرتبطا بفهم خاص،و استطلاع جلي،يكشف خفاءه و يستقري مبهماته لذا نجد عبد القاهر نفسه يقول:
«و اعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول أنه فيه خفي
ص: 213
غامض،و دقيق صعب،إلا و علم هذا الباب أغمض و أخفى و أدق و أصعب و قد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف:أن الكلام قد استؤنف و قطع عما قبله لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك و لقد غفلوا غفلة شديدة» (1).
هناك إذن-ما هو أهم من هذا،و هو أن الكلام العربي حينما يصاغ و يأخذ موقعه في العبارات و الجمل،فإننا نخلص فيه إلى بيان حال من الأحوال،أو ريادة حقيقة من الحقائق،و ذلك مما لا يتأتى بالاستقلال في المعاني التي يراد طرحها،و هذه المعاني على سبيل من الذائقة أكثر مما هو علامة إعرابية،أو مسألة شكلية تتعلق بالمؤشرات الخارجية،و موقع الوصل و مقتضى الفصل هو الذي يحقق ذلك،فأنى نتوصل إلى هذا الموقع و ذلك المقتضى،و متى يستعملان ليكسبا النص سلامة و عذوبة و ذائقة لا نلتمسها من خلال النحو و تفصيلاته بل من خلال التركيب الفني و تناسقه،فإن شئت رددته إلى معاني النحو،و إن شئت رددته إلى مدارج البلاغة،و لكنه بالبلاغة أوصل،و إلى معانيها أنسب،و نقول ببساطة:إن كان هنالك جامع بين الأمرين،فالوصل هو المتعين،و إن لم يكن هناك جامع بينهما فالفصل هو المتعين،هذا هو الأغلب،و قد يكون العكس في بعض الحالات، و اكتشاف هذا الجامع من مهمة البلاغي لا النحوي و إن كان الأمران متصلين تماما أو منفصلين تماما فالفصل هو المرجح و إن كانا منزلة بين منزلتين،أو حالا بين حالين فالعطف سبيلهما.
مهمة البلاغي هنا توحيد النص فيما يناسب مقتضى الحال و مهمة النحوي هناك إشراكهما في الحكم،و الأول يقتضي أعمال الفكر و تمحض الفطرة،و الثاني استيعاب أحكام الاعراب،و الفضيلة للأول استنادا إلى الخبرة و الذائقة،و لا مزية للثاني لأنه مبني على قواعد ثابتة.
خذ مثالا رائعا للوصل في سورة التكوير:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم»5.
ص: 214
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ(3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ(4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ(6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ(11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ(14) (1) .
فستجد القرآن في هذه الآيات المباركة،قد جمع أشتاتا و عوالم كثيرة،و كائنات متعددة للتعبير عن دقائق التغيير الكوني و الجمع الكلى لحيثيات متنوعة في يوم واحد.و هو يوم القيامة الذي يضم موضوعا واحدا و هو يحشر الخلائق على صعيد واحد،و من هنا نجد الفرق بينه و بين مثال الفصل الذي اختاره عبد القاهر من القرآن الكريم،قال تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ(23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ(25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ(26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ(31) (2).
فهذه العبارات المتطاولة على حسن تناسقها الفني و تراصفها البياني جاءت منفصلة بترك العطف،لأنها تمثل مناخا نصيا خالصا للدلالة على استقلالية كل جملة بذاتها،و تماسك كل آية بمعنى من المعاني الخاص بها و قد تعلق الجميع برباط قولي متناسب فيه حذف و إضمار و تقدير في السؤال و الجواب و الترصد،فجاءت كل عبارة علما للدلالة على ذلك المخزون البلاغي في الصيغ و الإشارات،بخلاف الوصل الذي يجمع بين الأمرين و يوحد بين المشتركين،لذا نجد القزويني معترفا بهذه الحقيقة في احتياج صاحب علم المعاني إلى التنبه لأنواع المقادير الجامعة في حالة الوصل، ناظرا إلى طبيعة الأشياء في تحقيق التقاء الأمرين اللذين بينهما البعد الكبير،كالإبل و السماء و الجبال و الأرض في قوله تعالى:1.
ص: 215
أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) (1) .
و بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جلّ انتفاعهم في معاشهم من الإبل، فتكون عنايتهم مصروفة إليها،و انتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى و تشرب و ذلك بنزول المطر،فيكثر تقلب وجوههم في السماء.ثم لا بدّ لهم من مأوى يأويهم،و يحصن يتحصنون به،و لا شيء لهم في ذلك كالجبال،ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها،فإذا فتش البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور» (2).
و ما كان هذا شأنه فإن الانقطاع لا يلائم مقتضياته البيانية و الانفصال لا يستقيم له،فكان الاتصال سبيله فنا بلاغيا،لا قاعدة نحوية.و من هنا ندرك ما استنبطه عبد القاهر في هذا المجال،إذ قسم الجمل على ثلاثة أضرب:جملة لا يستقيم معها عطف،و جملة حقها العطف،و جملة حقها ترك العطف«و ترك العطف يكون:إما للاتصال إلى الغاية،أو الانفصال إلى الغاية و العطف لما هو واسطة بين الأمرين،و كان له حال بين حالين» (3).
و أما الإيجاز و الإطناب فهما مبحثان بلاغيان من خلال التماس روافدهما البيانية،لأن أثرهما الخارجي ينصب حول الشكل في النص الأدبي،في تأديته للمعنى المراد،إذ يدور حول زيادة الألفاظ في الإطناب،و اختزالها في الإيجاز،و هذان المدركان بطبيعتهما الاستعمالية بعيدان عن معاني الاعراب.
فالإيجاز كما حدده الرماني(ت:386 ه):«تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى،و إذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة و يمكن أن3.
ص: 216
يعبر عنه بألفاظ قليلة،فالألفاظ القليلة إيجاز» (1).
و قال عبد القاهر(ت:471 ه):«لا معنى للإيجاز إلا أن يدل بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى» (2).
و على هذا فالألفاظ الكثيرة أطناب في مقابل اختصار الكلام و قصره على المعنى المراد بالألفاظ التي وضعت أزاءه مع إمكان زيادتها و تكثيرها و ذلك هو الإيجاز و بحصر مفهوم الإيجاز بقلة الألفاظ،و مفهوم الإطناب بكثرتها،يظهر مفهوم المساواة أيضا...بملائمة الألفاظ لمعانيها دون زيادة أو نقصان:فقد قال الخطيب القزويني(ت:739 ه):«و المراد بالمساواة:
أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا بحذف أو غيره...و لا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض» (3).
فإذا كان الإيجاز أداء للمعاني بعبارات أقل،و الإطناب أداء لها بعبارات أكثر،و المساواة قصر الألفاظ على المعاني بلا قلة و لا كثرة، فالمسألة إذن مسألة بلاغية لا علاقة لها بمعاني النحو.
و ما يؤيد هذا الاتجاه اهتمام البلغاء و الحكماء بالإيجاز في سياق التأكيد على قيمته البلاغية.
فلقد أشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الإيجاز بلفتة بارعة حينما سمع رجلا يقول لرجل:«كفاك اللّه ما أهمك»
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه البلاغة» (4).
فعبارة:كفاك اللّه ما أهمك،موجزة بالتعبير عن المعنى المراد بقصر اللفظ على المعاني،و هي جامعة مانعة كما يقول المناطقة،و يبدو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم-إن صح الخبر-قد أعجب بها بل بإيجازها لاشتمالها على المعنى الكثير باللفظ القليل،فقال:هذه البلاغة.
و قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام:9.
ص: 217
«ما رأيت بليغا قط إلا و له في القول إيجاز،و في المعاني إطالة» (1).
و هذا النص تقسيم دقيق للكلام باعتباره حقيقتين تكوينيتين هما:
الألفاظ و المعاني منذ عهد مبكر،و تحديد للإيجاز بأنه اختصار في القول و تطويل للمعاني،و بذلك يكون الإمام علي سباقا إلى هذين المفهومين:
المفهوم النقدي الأول،و المفهوم البلاغي الثاني.
و هناك شذرات متناثرة هنا و هناك في هذا المعنى يتعاقب عليه الخلف عن السلف.
قال ابن المقفع:«الإيجاز هو البلاغة» (2).
و قال غيره:«البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة،و الغزارة عند الإطالة» (3).
و هو جمع بين أداءين للإيجاز و الإطناب.
و يكاد يجمع الحكماء أن البلاغة هي الإيجاز،و هناك جملة من التعبيرات المختلفة عن هذا الملحظ بمعنى واحد.
1-البلاغة قول يسير يشتمل على معنى خطير.
2-البلاغة حكمة تحت قول وجيز.
3-البلاغة علم كثير في قول وجيز (4).
4-و قيل لبعضهم ما البلاغة،فقال:الإيجاز،قيل و ما الإيجاز،قال حذف الفضول و تقريب البعيد.
5-و قال أصحاب الإيجاز:الإيجاز قصور على الحقيقة،و ما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل داخل في باب الهذر و الخطل (5).9.
ص: 218
و لا يعني هذا التأكيد على الإيجاز،فرز الإطناب من دائرة البلاغة أو ذم المساواة،بل قد يراد الإطناب في مواضع التحذير و الوعد و الوعيد كما صنع القرآن الكريم في تحذير المنافقين،و أهل الكتاب و المسلمين أنفسهم في فصول مسهبة من القرآن،حذرهم من أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة و الأقوام البائدة من عذاب الاستئصال.
و كما وعد المتقين بالجنات و أطنب في صفاتها و نعيمها،و ظلالها و أشجارها و أنهارها،و استقرارها و دوامها،و أكلها و شرابها...إلخ و كما أوعد المجرمين بالنار و وصف سمومها،و حميمها و غسّاقها،و شجرها و ماءها،و أهوالها و أخطارها،بما يعد إطنابا في المواضع التي فيها الإطناب أليق.و كذلك ساوى بين الألفاظ و المعاني بمختلف الصيغ و التراكيب البيانية،و هذا هو الأصل المتوافر لكلام اللّه تعالى في كتابه المجيد،إيجازا في موضع الإيجاز،و إطنابا بمراصد الإطناب،و مساواة بين الأمرين.
إذن فكما تحتاج البلاغة في الكلام إلى الإيجاز فإنها تحتاج إلى الإطناب،فليس الإطناب من منافيات البلاغة،و لا الإيجاز-وحده- أساس البلاغة،فوضع الألفاظ في موضعها المناسب من البيان بحسب مقتضيات الخطاب هو البلاغة سواء أ كان في تلك الألفاظ تطويل ليعود الكلام مطنبا أم تقليل ليكون الكلام موجزا،فكما يحتاج البليغ في تأدية المعنى إلى لفظ موجز،فهو بحاجة إلى تأديته بألفاظ متعددة ليبلغ بذلك الكلام كماله على الوجه المراد.
و كما يحتاج البليغ إلى الإيجاز في موضع،و إلى الإطناب في موضع فإنه يحتاج إلى المساواة في الكلام بقصر الألفاظ على المعاني، بل بتساوي اللفظ لمعناه،بعيدا عن الإيجاز المخل،أو الإطناب الممل كما يقال.
قال أبو هلال العسكري(ت:395 ه):
«و القول القصد أن الإيجاز و الإطناب يحتاج إليهما في جميع الكلام و كل نوع منه،و لكل واحد منهما موضع،فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه،فما أزال التدبير في ذلك عن جهته،
ص: 219
و استعمل الإطناب في موضع الإيجاز و استعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ» (1).
فمن خلال هذه المفاهيم المتقدمة،بارتباط المعنى باللفظ قلة و كثرة أو مساواة،يظهر أن مباحث الإيجاز و الإطناب و المساواة لا علاقة لها بمعاني النحو في وجه من الوجوه،فإذا لاحظنا-عن كثب-موضوعات و مضامين هذه الجزئيات خرجنا بنتيجة ضرورة إلحاق هذه المباحث بالبلاغة لا بالنحو دون سائر المعاني المتقدمة.
فمباحث الإيجاز تشتمل على ما يلي:
أ-إيجاز القصر،و هو ما ليس بحذف.
ب-إيجاز الحذف،و هو ما يكون بحذف.
و المحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة (2).
أما إيجاز العصر،فهو قصر اللفظ على المعنى المراد،باختصار عباراته و اختزال حروفه،و قد مثلوا له بقوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ (3).و بقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ(199) (4).
و هاتان الآيتان من أمثلة إيجاز القصر عند أغلب البلاغيين،و لا يتعلق بهما موضوع بمعاني النحو.
و إنما تبحث الأولى على أساس عدة حروفها،و تصريحها بالمطلوب و ما يفيده تنكير«حياة»للتعظيم و اطرادها،و سلامتها من التكرار، و استغناؤها عن الحذف،و الطباق في عبارتها،و جعل القصاص كالمنبع و المعدن للحياة (5).ا.
ص: 220
و هذه المحاسن تتعلق بسلامة النص،و خلوصه من التعقيد و التكرار، و قلة حروفه!و أدائه المراد بإيجاز،و حسن وقعه في النفوس للاطراد و الطباق و موازنة الحياة للقصاص،و كلها اعتبارات بلاغية تقرب النص من النفس الإنسانية جودة و سلاسة و مرونة مع وضوح و دقة و إيجاز.
بقي تنكير«حياة»و لم ينظر إليه بموقعه النحوي بقدر ما نظر إليه بتعيين نوعية الحياة الهادئة،و تعظيم شأن الحياة الخالية من الاعتداء الهزؤ و الجبروت و هو ملحظ بياني يقرب الوقع الموسيقى في اللفظ إلى الذائقة الفطرية عند المتلقي،كما أنه طريقة من طرق أداء المعنى المراد بصور متعددة فيما يبدو.
و أما الآية الثانية،فإنها جمعت مكارم الأخلاق من أطرافها،في الأخذ بأفضلها،و الأمر بأسماها،و الاعراض عن الجهلة،قال القزويني:
«و لهذا
قال جعفر الصادق عليه السلام(ت:148 ه)فيما روي عنه: أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكارم الأخلاق،و ليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية» (1).
و وقع هذه الآية من النفس الإنسانية المطمئنة موقع الماء من ذي الغلة الصادي،و لا يعود هذا الأثر فيها لتركيب نحوي،أو وضع أعرابي،بقدر ما يعود إلى الأثر النفسي العائد إلى بلاغتها و سلامتها من الحشو و التطويل و الإخلال.
و أما إيجاز الحذف،فقد يحذف فيه المضاف و قد يحذف الموصوف، و قد تحذف الصفة،و قد يحذف جواب الشرط،و قد يحذف جزء من أجزاء الجملة،و قد يحذف غير ذلك،فيكون الإيجاز موسوما بحذف مضمون الجملة،بالمسبب بعد ذكر السبب،أو بالسبب بعد ذكر المسبب،و قد يكون الإيجاز بحذف أكثر من جملة (2).
و لو دققت النظر في هذا الحذف،و تسلمت الإيجاز في هذه الأحوال كافة،لوجدت المزية فيه لما أفاده من معنى بلاغي،في لفظ موجز،و بيان1.
ص: 221
مقتضب،استوى كل ذلك على الوجه المراد،و لوجدت تحقيق القوم فيه دائرا حول تخير ألفاظه،أو دقة استعارته أو جودة كفايته،و لم يتعرض أحد لموقعه الأعرابي و تأثيره هذا الوقع وحده-في تخير هذا الإيجاز.
لقد أطال كل من السكاكي و القزويني و من قبلهما الزمخشري في بيان وجه بلاغة قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (1).
فقد عدّه السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز ذاهبا إلى أنه و إن اشتمل على بسط فإن انقراض الشباب و إلمام الشيب جديران بأبسط منه،ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها عن النظر في أصل المعنى و مرتبته الأولى (2).
و أفاض القزويني بإيراد بلاغة الآية في خمسة عشر ملحظا بلاغيا دقيقا تحدث فيها بإسهاب عن الجمال التركيبي و المعنوي و اللفظي للآية بما لا مزيد عليه،ثم عاد إلى طريقته فقال:«و اعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات من أزاهير القبول في القلوب:هو أن مقدمة هاتين الجملتين و هي «رب»اختصرت ذلك الاختصار،بأن حذفت كلمة النداء،و هي«يا» و حذفت كلمة المضاف إليه،و هي ياء المتكلم،و اقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب،و هي المنادى،و المقدمة للكلام-كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة-نازلة منزلة الأساس للبناء،فكما أن البناء الحاذق،لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه،كذا البليغ يصنع بمبدإ كلامه،فمتى رأيته قد اختصر المبدأ،فقد آذنك باختصار ما يورد» (3).
و كان السكاكي قد ارجع جميع ما انفتحت به قريحته إلى موضع الحذف لحرف النداء و ياء المتكلم،و هو خلاف ما أبانه حديثه من سمات بلاغية و خصائص فنية اشتمل عليها النص القرآني و أضاف إليه القزويني تحقيقا في اختيار كلمة«العظم»و كلمة«الشيب»و أبان موقعهما البلاغي، و أحال على الزمخشري بيان محاسن الاختيار فقال:6.
ص: 222
(فالوجه في ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن و توحيده ما ذكره الزمخشري قال:إنما ذكر العظم لأنه عمود البدن به قوامه،و هو أصل بنائه،و إذا وهن تداعى و تساقطت قوته،و لأنه أشد ما فيه و أصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن،و وحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية و قصده:إلى هذا الجنس-الذي هو العمود و القوام،و أشد ما تركب منه الجسد-قد أصابه الوهن،و لو جمع لكان إلى معنى آخر و هو أنه لم يهن منه بعض عظامه و لكن كلها» (1).
و ما أفاض عنه بالحديث كل من الزمخشري،و السكاكي و القزويني، لا يمت إلى معاني النحو بصلة،بقدر صلته الماسة بالمعاني البيانية و تخير الألفاظ،و أصول البلاغة.
و أما الإطناب،فقد ذكروا له بعض المحسنات البيانية التي تتعلق بالنص تارة،و بالمتلقي تارة أخرى،و بجرس الألفاظ سواهما.
فقد يأتي الإطناب للإيضاح بعد الإبهام أو التوشيح أو بذكر الخاص بعد العام،و إما أن يأتي بالتكرير لنكتة ما،أو بالإيغال أو بالتذييل،و إما التكميل،و إما بالاعتراض،و إما بغير ذلك (2).
و لم أجد في هذه التقسيمات-التي أساءت إلى مبحث الإطناب أكثر من إحسانها إليه-أية علاقة بمعاني النحو،و إنما ينطلق أغلب مباحثها بموقع النص عند المتلقي،فقد تزداد نفسه إقبالا عليه،و قد يبين له فيه المعنى بعد الإجمال،و قد يوضح بعد الإيهام كما صرح بذلك القزويني نفسه بقوله:«فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال و الإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفعيل و الإيضاح،فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك،فإذا ألقي كذلك تمكن فيه فضل تمكن،و كان شعورها به أتم.
أو لتكمل اللذة بالعلم به،فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم1.
ص: 223
يتقدم حصول اللذة به ألم،و إذا حصل الشعور به من وجه دون وجه، تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول،فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، و بسبب حرمانها عن الباقي ألم،ثم إذا حصل لها العلم به:حصلت لها لذة أخرى و اللذة عقب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم» (1)فهو يتحدث عن الأثر النفسي للإطناب،و الشعور باللذة بعد الألم، و أين هذا من معاني النحو؟نعم قد تفيد مباحث الإطناب التنبيه على ذكر الخاص بعد العام و ذلك للتأكيد على الأمر،و بيان فضله و أولويته و سابقته، و هو تعبير بلاغي ذو وقع موسيقي و تفصيل إيضاحي كما في قوله تعالى:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (2) .
فقد ذكر الصلاة الوسطى و هي خاص بالنسبة لعموم الصلوات،و ذلك لبيان أهميتها في التشريع،و منزلتها من بين الصلوات،و هذا يرجع إلى الإفاضة في دلالة الألفاظ البيانية لا إلى النحو.
و موارد الإطناب في القرآن عديدة تتقاطر بحسب الحاجة إليها في بيان المشكل،و استقراء المجهول،و كشف الغيب،و هي أكثر من أن تحصر،و كان مما أطنب في ذكره القرآن،و أفاض فيه بكثير من التفصيل حال المنافقين،نظرا للدور المهم الذي لعبه هؤلاء في التصدي للإسلام و التعدي على المسلمين،و بغية أن يحذرهم المؤمنون في كل طور و دور بكل زمان و مكان جاء تمثيلهم بآيات البقرة(17-20)بكثير من التفصيل لأحوالهم النفسية،و واقعهم المرير،ذلك لتصوير الحالة المتأرجحة لهم بين الغلاف الحاجز المبطن و الإرهاب المستعار،و بين الظاهر المستقيم و الوجه الصالح الذي يتراءون به،و كشف هذا المناخ المكثف يحتاج إلى وصف شاف و بيان مستفيض (3).
و لست بحاجة في هذا البيان الذي طرحه القرآن في صفة المنافقين و أعمالهم،و مصائرهم،إلا للذائقة الفنية التي تميز بين هذه الأوصاف9.
ص: 224
المختلفة المتشعبة في مناخ مظلم مكفهر يسلمك إلى الرهبة و الفزع و التوقع و ما ذاك إلا للتأثير البلاغي في النفس.
و المساواة في المباحث البلاغية توصف بمجالها الخاص بأنها تأتي احترازا من التطويل،و تفاديا للإضافات غير المجدية،و ذلك بموافقة اللفظ للمعنى المحدد له،و لا علاقة لهذه الظاهرة بمعاني النحو كعلاقتها بكيفية عرض البيان سليما من الحشو و اللغو و الهذر.و من أبرز أمثلة المساواة قوله تعالى: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ (1).
فلم تزد في اللفظ على المعنى،و لم تنقص من دلالته عليه و ذلك ينظر إليه في مجال دلالة الألفاظ على المعاني المحددة لها من وجهة نظر نقدية و بلاغية بعيدة عن عالم النحو.
إذن،فالمباحث هذه-فيما يبدو لي-أعني الفصل و الوصل، و الإيجاز الإطناب و المساواة،ينبغي أن تقتطع من مباحث معاني النحو لتضاف إلى مباحث البيان في منهجة البلاغة العربية،لقربها منها و لصوقها بها،لما أقمناه من دلائل توضيحية ترجح هذا الرأي،و تدعم هذا الموقف.
و المباحث المتقدمة،أعني:قضايا الإسناد،بأبوابها الثلاثة:أحوال الإسناد الخبري،و أحوال المسند إليه،و أحوال المسند،و أحوال متعلقات الفعل،و القصر و الإنشاء ينبغي أن توصل بعلم النحو،فهي معاني النحو لا شك في ذلك لما بيناه آنفا.
نعم مباحث الفصل و الوصل و الإيجاز و الإطناب و المساواة و إن كانت لا تخلو من لمسات نحوية،و ملامح اعرابية إلا أنها مباحث بلاغية، و مباحث الإسناد،و متعلقات الفعل،و قضايا التقديم و التأخير و الحذف و الإظهار و الإضمار و التقدير،و القصر و الحصر،و الخبر و الإنشاء،و إن
ص: 225
كانت لا تخلو من رصد بياني أحيانا إلا أنها مباحث نحوية.
إذن فمن الخير للعربية،و من الصيانة للتراث أن نرجع بالفنون إلى أصولها،فما غلب من منحى على فن ما،ألحق به و ما تميز بخصائص نؤصله باتجاه متميز،اختص به،و ليس في ذلك شطط،بل فيه دقة و موضوعية،الدقة في التغليب،و الموضوعية في المنهجة،و إلا فالفنون العربية متداخلة الأبعاد في أجزاء من مباحثها،فالنقد الأدبي ذو لمحة بلاغية،و البلاغة ذات سمة نحوية،و النحو ذو صلة لغوية،و اللغة ذات أقيسة منطقية،و المنطق ذو مسحة فلسفية،و الفلسفة ذات سحنة أصولية، و الأصول ذو تفريعات كلامية و هكذا دواليك بالنسبة لفنون العربية الأخرى (1).
لا غبار أن مباحث البيان الأصلية أعني:المجاز،التشبيه، الاستعارة،الكناية،هي الأساس في بلاغة العرب،و لكن لا مانع أن تتوج بالوصل و الفصل،و الإيجاز و الإطناب،و المساواة فهذه مباحث لها رحم ماسة،و وشائج متصلة بالبلاغة العربية دون ريب.و ان مباحث المعاني المتقدمة في موضوعات الإسناد،و الخبر،و الإنشاء،و متعلقات الفعل، و صيغ التقديم و التأخير،و الإضمار،و التقدير هي الأساس في معاني النحو،فلما ذا لا تقتطع من البلاغة و تعود إليه،كما اقتطعت منه-من ذي قبل-و ألصقت بالبلاغة،و هي أقرب إلى النحو موضوعا و بحثها من مهمات النحويين لا غير.
و لقد حمّل أستاذنا الدكتور الجواري النحاة مسئولية هذا التهاون «لأنهم ألزموا أنفسهم باستيعاب المعاني و صرفها إلى ما سمي علوم البلاغة،و هي في الحق معاني النحو التي لا يستقيم النحو إلا بها،و لا تستقر قواعده إلا عليها،و هذا أمر تنبه له غير واحد من الباحثين في مسائل النحو و نقد منهجه،و لعل أولهم في عصرنا هذا المرحوم الأستاذ إبراهيم مصطفى في كتابه الجليل احياء النحو» (2).3.
ص: 226
فإذا أضفنا لذلك مذهب الدكتور المخزومي في «مدرسة الكوفة»و في «النحو العربي»الدكتور عبد القادر حسين في أثر النحاة في البحث البلاغي و الدكتور عبد السلام عبد الحفيظ في«مناهج البحث البلاغي في الدراسات العربية»و المؤلف في«أصول البيان العربي»و الدكتور أحمد مطلوب في «القزويني و شروح التلخيص»و«مصطلحات بلاغية»،و الدكتور الجواري نفسه في«نحو القرآن»و«نحو الفعل»و تأكيده لذلك منتقدا وضع النحاة، و هو يتناول الفعل المضارع في وروده بمعنى الأمر«و مثل هذا التصرف في الأسلوب،تضيف به قواعدهم،و لا يتسع له فهمهم لقضايا التركيب و مسائله،و هو أدخل في علم المعاني الذي سلخوه من النحو أو سلخوا النحو منه،فأحالوه يبسا لا ماء فيه و لا رواء» (1).
أقول و قد استقرينا مجمل هذه الآراء المعاصرة،مع ما قدمناه من مقارنة و أدلة و براهين،يكون الرأي صالحا في الدعوة إلى إلحاق جملة فنون علم المعاني-باستثناء الفصل و الوصل و الإيجاز و الإطناب و المساواة بمعاني النحو،و إعادتها إلى النحو،و لا يكون ذلك أمرا نحن ابتدعناه، و لا ملحظا نحن بدأناه و إنما هي سنة البحث العلمي في وضع الحق في نصابه و من اللّه التوفيق.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.1.
ص: 227
ص: 228
1-خير ما نبتدئ به(القرآن الكريم).
2-الألوسي،أبو الفضل،شهاب الدين،محمود الألوسي البغدادي (ت:1270 ه)روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني،إدارة المطبعة المنيثرية،القاهرة(د.ت).
3-الآمدي،أبو القاسم،الحسن بشر(ت:37 ه)الموازنة بين الطّائيين.تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد،مطبعة السعادة، القاهرة 1959 ه.
4-ابن الأثير،أبو السعادات،المبارك بن محمد(ت:606 ه)النهاية في غريب الحديث و الأثير،القاهرة(د.ت).
5-ابن الأثير،أبو الفتح،ضياء الدين،نصر اللّه بن محمد(ت:637 ه)المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر.تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد،مطبعة مصطفى البابي،القاهرة،1939 م.
6-أرسطوطاليس:فن الشعر،ترجمة:الدكتور شكري عياد،دار الكتاب العربي،القاهرة،1967 م.
7-ابن أبي الأصبح المصري،عبد العظيم بن عبد الواحد(ت:654 ه) بديع القرآن،تحقيق الدكتور حفني محمد شرف،مطبعة الرسالة القاهرة،1957 م.
8-امرؤ القيس،حندج بن حجر(شاعر جاهلي)،ديوان امرئ القيس
ص: 229
تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،دار المعارف بمصر،القاهرة 1969 م.
9-الباقلاني،أبو بكر،محمد بن الطيب(ت:403 ه)إعجاز القرآن، تحقيق الدكتور السيد أحمد صقر،دار المعارف بمصر،القاهرة، 1954 م.
10-التفتازاني،سعد الدين،مسعود بن عمر الهروي(ت:793 ه) مختصر المعاني،طبعة مصورة.
11-التوحيدي،أبو حيان،عليّ بن محمّد بن العباس(كان حيّا 400 ه).
الإمتاع و المؤانسة،تحقيق أحمد أمين و أحمد الزين،القاهرة.
12-ثعلب،أبو العباس،أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني(ت:291 ه) قواعد الشعر،تحقيق:محمد عبد المنعم الخفاجي،مطبعة مصطفى البابي الحلبي،القاهرة،1948 م.
13-الجاحظ،أبو عثمان،عمرو بن بحر(ت:255 ه)البيان و التبين، تحقيق:حسن السندوبي،المطبعة الرحمانية،القاهرة،1932 م.
14-الجاحظ:الحيوان،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،دار إحياء الكتب العربية،القاهرة،1957 م.
15-الجرجاني،عبد القاهر بن عبد الرحمن(ت:471 ه)أسرار البلاغة،تحقيق:الدكتور هلموت ريتر،مطبعة وزارة المعارف استانبول،1954 م.
16-الجرجاني،عبد القاهر،دلائل الإعجاز،تصحيح:محمد عبده و محمد محمود التركزي الشنقيطي،مطبعة المنار،القاهرة،1321 ه.
17-ابن جني،أبو الفتح،عثمان بن جني(ت:392 ه)الخصائص دار الكتب المصرية،القاهرة،1953 م.
18-ابن الجوزي،أبو الفرح،عبد الرحمن بن علي القرشي البغدادي (ت:597 ه)زاد المسير في علم التفسير.المكتب الإسلامي للطباعة و النشر،دمشق 1965 م.
ص: 230
19-الحاتمي،أبو علي،محمد بن الحسن بن المظفر البغدادي(ت:
388 ه)الرسالة الموضحة،تحقيق الدكتور محمد يوسف نجم، بيروت،1965 م.
20-الخطيب القزويني،أبو المعالي،محمد بن عبد الرحمن الشافعي(ت:
739 ه)الإيضاح في علوم البلاغة،مطبعة صبيح،القاهرة،1971 م.
21-الخطيب القزويني.التلخيص في علوم البلاغة.شرح:عبد الرحمن البرقوقي،المكتبة التجارية الكبرى،القاهرة 1932 م.
22-الخفاجي،أبو محمد،عبد اللّه بن محمد بن سنان الخفاجي(ت:
466 ه)سر الفصاحة،تحقيق:عبد المتعالي الصعيدي،مطبعة محمد علي صبيح،القاهرة،1969 م.
23-ابن خلكان،أحمد بن محمد بن أبي بكر(ت:681 ه)وفيات الأعيان،و أنباء أبناء الزمان.تحقيق:الدكتور محمد عبد الغني حسن،دار احياء الكتب العربية القاهرة،1955 م.
24-الخليل بن أحمد الفراهيدي(100-175 ه).كتاب العين.تحقيق الدكتور مهدي المخزومي و إبراهيم السامرائي دار الرشيد،بغداد، 1980.
25-الرازي،فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين(ت:606 ه)نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز.مطبعة الآداب و المؤيد،القاهرة، (1317 ه).
26-الراغب الأصبهاني،الحسين بن محمد بن المفضل(ت:502 ه) المفردات في غريب القرآن.تحقيق:محمد سيد كيلاني،مطبعة مصطفى البابي،القاهرة 1961 م.
27-ابن رشيق،الحسن بن رشيق القيرواني(ت:456 ه)العمدة في محاسن الشعر و آدابه و نقده.تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل،بيروت،1972 م.
28-الرماني،أبو الحسن،علي بن عيسى الرماني(ت:386 ه)النكت في إعجاز القرآن،ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،تحقيق
ص: 231
الدكتور محمد خلف اللّه،و الدكتور محمد زغلول سلام،دار المعارف،القاهرة،1976 م.
29-الزبيدي،أبو بكر،محمد بن الحسن(ت:379 ه) طبقات النحويين و اللغويين،تحقق محمد أبو الفضل إبراهيم،دار المعارف بمصر،القاهرة،1973 م.
30-الزركشي،بدر الدين،محمد بن عبد اللّه(ت:794 ه)البرهان في علوم القرآن.تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة عيسى البابي الحلبي،القاهرة،1954.
31-الزمخشري،جار اللّه،محمود بن عمر الخوارزمي(ت:538 ه) الكشاف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل،دار المعرفة،بيروت (د.ت).
32-ابن الزملكاني،كمال الدين،عبد الواحد بن عبد الكريم(ت:
651 ه)البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن.تحقيق:الدكتور أحمد مطلوب،و الدكتورة خديجة الحديثي،مطبعة العاني، بغداد)،1974 م.
33-السكاكي،أبو يعقوب،يوسف بن أبي بكر(ت:626 ه)مفتاح العلوم،المطبعة الأدبية،القاهرة،1317 ه.
34-سيبويه(ت:180 ه)الكتاب،المطبعة الأميرية،القاهرة،(د.ت).
35-السيوطي،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر(ت:911 ه) الإتقان في علوم القرآن.تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة المشهد الحسيني،القاهرة 1967.
36-السيوطي:معترك الإقران في إعجاز القرآن.تحقيق:علي محمد البجادي،دار الثقافة العربية للطباعة القاهرة،1969 م.
37-الشريف الرضي،محمد بن الحسين الموسوي(ت:406 ه) تلخيص البيان في مجازات القرآن.تحقيق:الدكتور محمد عبد الغني حسن،دار احياء الكتب العربية،القاهرة،1955 م.
ص: 232
38-الطبرسي،أبو علي،الفضل بن الحسين(ت:548 ه)مجمع البيان في تفسير القرآن.مطبعة العرفان،صيدا،333 ه).
39-الطريحي،فخر الدين بن محمد عليّ بن أحمد النجفي(ت:
1085 ه)مجمع البحرين للّه،تحقيق:أحمد الحسيني،مطبعة الآداب النجف الأشراف،1961 م.
40-الطوسي،أبو جعفر،محمد بن الحسن الطوسي(ت:460 ه) التبيان في تفسير القرآن.تحقيق:أحمد حبيب القصير،المطبعة العلمية،النجف الأشرف،1957.
41-ابن عبد السلام،عز الدين بن عبد السلام الشافعي(ت:660 ه) الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز،دار الطباعة المعاصرة استانبول،1312 ه.
42-أبو عبيدة،معمر بن المثنى التميمي(ت:210 ه)مجاز القرآن، تحقيق:الدكتور محمد فؤاد سزكين مطبعة السعادة 1970.
43-العسكري أبو هلال،الحسن بن عبد اللّه(ت:395 ه)كتاب الصناعتين،تحقيق:علي محمد البنجادي و محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة 1971 م.
44-العلوي:يحيى بن حمزة(ت:749 ه).الطراز المتضمن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز.مطبعة المقتطف،القاهرة،1914 م.
45-ابن فارس،أبو الحسين،أحمد بن فارس بن زكريا(ت:395 ه).
الصاحبي في فقه اللغة و سنن العرب في كلامها،تحقيق:مصطفى الشويمي.
46-الفراء أبو زكريا،يحيى بن زياد(ت:207 ه)معاني القرآن،تحقيق:
أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار دار الكتب القاهرة،1955 م.
47-القاضي الجرجاني،علي بن عبد العزيز(ت:366 ه)الوساطة بين المتنبي و خصومه.تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة عيسى البابي،القاهرة 1966 م.
ص: 233
48-ابن قتيبة،أبو محمد،عبد اللّه بن مسلم(ت:276 ه)تأويل مشكل القرآن،تحقيق:الدكتور السيد أحمد صقر،مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة،1373 ه.
49-قدامة بن جعفر،الكاتب البغدادي(ت:337 ه).نقد الشعر، تحقيق:البروفسور.س.أ.بونباكر،مطبعة بريل،ليدن،1956 م.
50-قدامة بن جعفر:نقد النثر،تحقيق:الدكتور العميد طه حسين و عبد الحميد العبادي،مطبعة دار الكتب المصرية،القاهرة،1933 م.
51-القزويني،أبو المعالي،جلال الدين محمد بن عبد الرحمن (ت:739 ه).
الايضاح في علوم البلاغة،محمد عبد المنعم خفاجي.دار الكتاب اللبناني،الطبعة الخامسة،بيروت،1980 م.
52-ابن قيم الجوزية،أبو عبد اللّه،محمد بن أبي أيوب(ت:751 ه) كتاب الفوائد،مطبعة السعادة،القاهرة،1327 ه.
53-ابن مالك،محمد بن جمال الدين المعروف بابن الناظم(ت:686 ه)المصباح(تلخيص القسم الثالث من مفتاح العلوم للسكاكي) القاهرة،1341 ه.
54-المبرد،أبو العباس،محمد بن يزيد(ت:285 ه)الكامل في اللغة و الأدب،مكتبة المعارف،بيروت(د.ت).
55-المتنبي،أبو الطيب،أحمد بن الحسين المتنبي(ت:354 ه)شرح ديوان المتنبي وضع عبد الرحمن البرقوقي،(طبعة مصورة نشر دار الكتاب العربي،بيروت(د.ت).
56-المرتضى،علم الهدى،علي بن الحسين الموسوي(ت:436 ه) أمالي المرتضى(غرر الفوائد و درر القلائد).تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم،مطبعة عيسى البابي،القاهرة،1954.
57-ابن المعتز،عبد اللّه بن المعتز(ت:296 ه).البديع،تحقيق المستشرق الروسي:كراتشوفسك،مطبوعات جب التذكارية،لندن، 1935 م.
ص: 234
58-ابن منظور،جمال الدين،محمد بن مكرم الأنصاري(ت:711 ه) لسان العرب،طبعة مصورة عن مطبعة بولاق القاهرة(د.ت).
59-ابن ناقيا البغدادي،عبد اللّه بن محمد بن الحسين(ت:485 ه) الجمان في تشبيهات القرآن.تحقيق:الدكتور أحمد مطلوب و الدكتورة خديجة الحديثي دار الجمهورية،بغداد،1968 م.
60-ابن النديم،أبو الفرج،محمد بن إسحاق البغدادي(ت:385 ه).
الفهرست،نشر الأستاذ فلوجل لا يبرج،1871-1872 م.
61-النسفي،أبو البركات،عبد اللّه بن أحمد(ت:710 ه)مدارك التنزيل،و حقائق التأويل.المطبعة الأميرية،القاهرة،1931.
62-النويري،شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب(ت:733 ه)نهاية الأرب في فنون الأدب.نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، القاهرة،(د.ت).
63-أبو هلال العسكري،الحسن بن عبد اللّه(ت:395 ه).
كتاب الصناعتين،تحقيق علي محمد البجاوي،و محمد أبو الفضل، مطبعة البابي الحلبي،القاهرة 1971 م.
64-الدكتور أحمد أحمد بدوي.
عبد القاهر الجرجاني و جهوده في البلاغة العربية،مكتبة مصر، القاهرة(د.ت).
65-الدكتور أحمد أحمد بدوي،من بلاغة القرآن،الطبعة الثالثة،مكتبة النهضة مصر،القاهرة 1950.
66-الدكتور أحمد عبد الستار الجواري نحو.
القرآن،مطبعة المجمع العلمي العراقي،بغداد،1974 م.
67-الدكتور أحمد مطلوب:فنون بلاغية،دار البحوث العلمية،الكويت، 1975.
ص: 235
68-الدكتور أحمد مطلوب:مصطلحات بلاغية،بغداد،1965.
69-أحمد مطلوب(الدكتور).القزويني و شروح التلخيص،بغداد، 1967 م.
70-الخوئي،السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي.البيان في تفسير القرآن،مطبعة الآداب،النجف الأشرف.
71-أمين الخولي.مادة بلاغة(بحث)في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية،ترجمة الدكتور عبد الحميد يونس و جماعته،أوفست، 1933 م.
72-أمين الخولي:مناهج تجديد في النحو و البلاغة و التفسير و الآداب مطابع الطناني،القاهرة،1961 م.
73-الدكتور بدوي طبانة:علم البيان،دراسة تاريخية فنية في أصول البيان العربي،المطبعة الفنية،الحديثة،القاهرة،1967 م.
74-الدكتور حقي محمد شرف:الصور البيانية،مطبعة نهضة مصر، القاهرة،1965 م.
75-داود سلوم:النقد المنهجي عند الجاحظ،مطبعة المعارف،بغداد، 1960 م.
76-الدكتور شوقي ضيف:البلاغة تطوير و تاريخ،دار المعارف، القاهرة،1965 م.
77-الدكتور طه حسين:مع المتنبي،مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر،القاهرة 1936 م.
78-الدكتور طه حسين:مقدمة نقد النثر المنسوب لقدامة بن جعفر.
مطبعة دار الكتب المصرية،1933 م.
79-عباس محمود العقاد:اللغة الشاعرة،مزايا الفن و التبصير،في اللغة العربية،المكتبة العصرية،بيروت،صيدا(د.ت).
80-عبد الأعلى الموسوي السبزواري(المرجع الديني في النجف).
تهذيب الأصول،مطبعة الآداب،النجف،1979 م.
ص: 236
81-عبد السلام عبد الحفيظ(الدكتور).مناهج البحث البلاغي في الدراسات العربية،دار الفكر العربي،القاهرة،1978.
82-عبد العزيز البشري.
83-الدكتور عبد العزيز عتيق:علم البيان،دار النهضة العربية،بيروت 1974 م.
84-الدكتور عبد القادر حسين:أثر النحاة في البحث البلاغي،مطبعة النهضة مصر،القاهرة،1975.
85-الدكتور عز الدين اسماعيل:الأسس الجمالية في النقد العربي، الطبعة الأولى،القاهرة،1955.
86-عليّ النجدي ناصف:سيبويه إمام النحاة.مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة،1953 م.
87-الدكتور فتحي أحمد عامر:فكرة النظم بين وجوه الإعجاز في القرآن الكريم،مطابع الأهرام،القاهرة،1975.
88-محمد أبو زهرة:القرآن المعجزة الكبرى،دار الفكر العربي،القاهرة 1970 م.
89-الدكتور محمد المبارك:دراسة أدبية لنصوص من القرآن،دار الفكر، بيروت،1973 م.
90-الدكتور محمد حسين علي الصغير:الصورة الأدبية في الشعر الأموي.
91-الدكتور محمد حسين علي الصغير:الصورة الفنية في المثل القرآني /دراسة نقدية و بلاغية رسالة دكتوراه في الآداب،شركة المطابع النموذجية،دار الرشيد بغداد،1981.
92-محمد كلانتر رئيس جامعة النجف الدينية:دراسات في أصول الفقه، مطبعة النجف،النجف الأشراف.
ص: 237