نام كتاب: أسئلة القرآن و أجوبتها
نويسنده: محمد بن ابى بكر الرازى
موضوع: پرسش و پاسخ قرآنى
تاريخ وفات مؤلف: قرن 7
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: المكتبة العصريه
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1423 / 2003
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرّحمن الرحيم هو محمّد بن شمس الدّين أبي بكر بن عبد القادر بن عبد المحسن الرّازي(نسبة إلى الرّي)الحنفي.كنيته:أبو عبد اللّه.و يلقب بزين الدّين.و ذكر له صاحب كتاب روضات الجنات(محمد باقر الخوانساري)-في ذيل ترجمته للفخر الرّازي صاحب التفسير الكبير-لقبا آخر هو«فخر الدّين»؛ثم ردّه.و ذكره مرّة صاحب«كشف الظنون»بلقب«شمس الدين»و مرّة بلقب«زين الدين».
و المؤسف أن مصادر الترجمات شحيحة بأخبار هذا الرّجل؛حيث لا نقف على تاريخ مولده،أمّا تاريخ وفاته فلا يمكن الجزم به.ففي«كشف الظنون»أنه توفي سنة 660 ه؛غير أنه لا يمكن الأخذ بقوله هذا؛لأنّ المترجم له كان قد رحل إلى تركية،و كان حيّا في قونية إلى سنة 666 ه.و ذكر بعضهم أنه في هذه السنة التقى العارف الكبير صدر الدّين القونوي،و أخذ عنه-سماعا-كتاب جامع الأصول لابن الأثير.فإذا صحّ الخبر فإن الرازي يكون قد عاش بعد هذا التاريخ (666 ه)؛لأنه يبعد-عادة-أن ينهى أحد سماع كتاب بحجم جامع الأصول في مدّة وجيزة.
من بين الأخبار القليلة التي وصلتنا عن محمد بن أبي بكر الرازي ذكر أنه أقام بمصر فترة من حياته و أخذ عن بعض علمائها،كما يذكر أنّه زار الشام.غير أنّ المؤكد من أحوال الرّازي أنه كان مشاركا في علوم عدة،على عادة القدامى،تدلنا على ذلك مؤلفاته التي طبع بعضها.
أ-مختار الصحاح.و قد طبع عدة مرّات.و هو أشهر كتبه و به يعرف.
ب-كتاب الأمثال و الحكم.
ج-شرح المقامات الحريرية.
ص: 5
د-حدائق الحقائق.و هو كتاب في المواعظ.
ه-الذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز.
و-تحفة الملوك.و هو كتاب في الفقه.
ز-أسئلة القرآن و أجوبتها.و هو هذا الكتاب.
ح-روضة الفصاحة.و هو كتاب في البلاغة.
و ذكرت له مصنفات أخرى،و لعل له غيرها،كما يذكر الرّازي نفسه في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
أوّل ملاحظة ينبغي أن نسجلها هي تعدّد العناوين التي عرف بها الكتاب الذي نحن بصدده؛و من هذه العناوين ما هو مطوّل و منها ما هو مختصر.و هي:
-أنموذج جليل في أسئلة و أجوبة من غرائب آي التنزيل.
-أسئلة القرآن المجيد و أجوبتها.
-من غرائب آي التنزيل.
-مسائل الرّازي.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بجنس الكتاب؛حيث يمكن أن يدرج باطمئنان في فن الكتابة في معاني القرآن و تفسير غوامضه،و هو فن قديم،و لعلّ أقدم ما وصلنا من الكتب المؤلفة في هذا الباب كتاب معاني القرآن للفرّاء(ت 207 ه).و هذا الجنس من التأليف غرضه بيان ما أشكل من القرآن الكريم،و التصدي لدحض الإشكالات و التشكيكات الموجهة لكتاب اللّه؛سواء كانت واقعة فعلا أو مقدّرة.و بذلك،فإن الرّازي الذي صنّف كتابه هذا في القرن السابع الهجري قد وجد مؤلفات عديدة أفاد منها،بلا أدني شك،كما يصرح هو نفسه في مقدمة كتابه.و عليه،فليس هذا الكتاب (أسئلة القرآن المجيد و أجوبتها)تصنيفا مبتكرا؛فقد سبق أن ألف في هذا الفن(على غرار معاني الآثار و معاني الشعر)أبو عبيدة معمّر بن المثنّى و قطرب بن المستنير و الأخفش و الكسائي و الفرّاء و أبو عبيد و هي أسماء سيكرّر الرّازي ذكرها في هذا الكتاب،تارة مستشهدا و أخرى مناقشا؛إضافة إلى أسماء مفسّرين كالطبري و الزمخشري...أو لغويين كالزّجّاج و الجوهري(زيادة على من تقدم ذكرهم).
لكن،الملاحظة الثالثة جديرة بأن نقف عندها،و فحواها أنّ هنالك كتبا-من بين ما صنّف في معاني القرآن-أقرب إلى غرض الرّازي؛غير أنّنا لا نجد إشارة لها أو لأصحابها.و بهذا الصدد يمكن أن نذكر،مثلا،أنّنا في حين نجد ذكرا،من الرازي،لابن قتيبة صاحب كتاب«تأويل مشكل القرآن»،فإن علماء آخرين يغيب
ص: 6
ذكرهم تماما؛نخصّ بالذّكر منهم،هنا،القاضي عبد الجبّار الذي صنّف في معاني القرآن و مشكلاته كتابين،هما:«متشابه القرآن»و«تنزيه القرآن عن المطاعن»، و الشريف المرتضى صاحب«غرر الفوائد و درر القلائد»الذي يعرف بأمالي المرتضى، و هي عبارة عن مجالس ألقاها حين قفل من الحج.غير أن الأهم من هذا و ذاك،فيما نحسب،هو كتاب الشريف الرضي المسمى«حقائق التأويل في متشابه التنزيل»الذي لم يطبع منه سوى الجزء الخامس،أما باقي أجزاء هذا الكتاب الرّائع فهي مفقودة أو مجهولة المكان،في حدود اطلاعي.و ما يعنينا من ذكر كتاب الرضي هنا،هو الشبه الكبير الذي نجده بينه و بين كتاب الرّازي الذي بين يدي القارئ،و لعل أهم أوجه الشبه هي:
-وحدة الغرض من التصنيف...
-اتفاق الكتابين في الشكل،حيث ينقسم الكتابان إلى فقرات،تتكفل كل فقرة بعرض المسألة(المشكلة)أو السؤال،ثم يردفه بالجواب،و طريقة الشريف الرضي، في ذلك،أن يعرض المسألة أو الإشكال مبتدءا بالقول:«و من سأل عن معنى قوله تعالى...»،ثم يأتي بالجواب،معدّدا الوجوه فيه،بقوله:«فالجواب...»،و هكذا دواليك.أما الرّازي فإنه يعرض المسألة بقوله:«فإن قيل...»،ثم يتبعها الجواب مستهلا إياه بقوله:«قلنا...»على نسق واحد،من بداية الكتاب إلى نهايته.
-تشابه كثير من المسائل و أجوبتها...أو بعض وجوه أجوبتها.
غير أن هناك أكثر من فرق بين الكتابين(كتاب الرضي و كتاب الرّازي).منها:
أن الرضي سعى إلى استقصاء الأقوال،و جمع شتات الآراء،أمّا الرّازي فديدنه الانتقاء و الاختصار.و منها:أن المسحة الأدبية في إنشاء الرضي واضحة،في حين أن أسلوب الرّازي ينحو نحو البساطة،و خال من الاعتناء بجمال اللّغة.
لم يكن الغرض من هذا الاستطراد استيعاب وجوه المقارنة بين الكتابين؛بل التنويه بأثر كبير،و لفت نظر المهتمين إليه(أعني كتاب الرضي).
يبقى أن كتاب الرّازي يكاد يتفرد بميزة نكاد لا نجدها في غيره من الكتب التي صنفت في بيان معاني القرآن و حل مشكلاته،و هي كثرة المسائل التي يعالجها-على صغر حجمه-و هي تزيد على مائتي و ألف سؤال،و سهولة عبارته،و إيجازه؛إضافة إلى وضوحه؛بحيث يكون في متناول فهم أكبر عدد من القراء،سواء في ذلك العالم و المتعلم،أما المسائل الدقيقة التي تتعلق بوجوه الإعراب أو المعاني،و كثير من النكات البلاغية،فإن الرّازي قد تجنب غالبا الخوض فيها.و قد صرح هو نفسه-في مقدمة الكتاب-بالمنهج الذي اختطه،و الغاية التي رامها؛حيث قال:«و لكنّي قصدت اختصار هذا الأنموذج[من أسئلة القرآن]،و تقريبه إلى الأفهام،ليكثر الانتفاع به،و لا
ص: 7
يهجر لدقّته و غموضه.
و أمّا الأسئلة التي تتعلق بوجوه الإعراب،و بالمعاني التي هي أدق على الأفهام و أخفى فإني وضعت لها مختصرا آخر،و أودعته أنموذجا منها أيضا...».
و مؤدّى ذلك،أنّ المؤلف قد التزم بطرح الأسئلة أو المشكلات التي قد تواجه القارئ العادي للقرآن،لا خصوص العلماء؛لذلك فإنه لم يكثر من ذكر الشواهد، التي تغصّ بها كتب التفسير و الغريب و المعاني عادة،و هو ما جعل الكتاب لا يحتاج إلى تعليقات كثيرة.و من ثمّ،فقد كان عملنا لإخراج هذه الطبعة مناسبا لما يحتاجه الكتاب من ترقيم الآيات القرآنية،و تخريج الأحاديث النبويّة و الآثار،و تخريج الأشعار،و شرح المفردات الغريبة؛إضافة إلى مقارنة رأي المؤلّف،في بعض المسائل،بآراء علماء آخرين.
كما قمنا بترقيم فقرات النصّ؛حيث تتضمن كل فقرة المسألة،التي هي موضوع البحث،و جوابها.و جعلنا الإحالة في الحواشي و الفهارس على أرقام الفقرات.و ترجمنا للعلماء الذين يذكرهم المؤلّف.و ذيّلنا الكتاب بفهارس فنّيّة.
أخيرا،نسأل اللّه أن ينفع بهذا الكتاب،إنّه سميع الدّعاء.
نجيب ماجدي
ص: 8
بسم اللّه الرحمن الرحيم قال الفقير إلى رحمة اللّه ربه و مغفرته:محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرّازي،عفا اللّه عنه،و غفر له و لجميع المسلمين:
الحمد للّه ربّ العالمين،هذا مختصر جمعت فيه أنموذجا يسيرا من أسئلة القرآن المجيد و أجوبتها؛فمنه ما نقلته من كتب العلماء إلاّ أني نقحته و لخصته،و منه ما فتح اللّه تعالى عليّ به،بسبب مذاكرة أخ لي من إخوان الصفاء في دين اللّه و محبة كتابه؛ و كان صالحا تقيا سليم الفطرة وقّاد الذهن،جامعا لجملة من مكارم الأخلاق و صفات الكمال الإنساني.أنعم اللّه تعالى عليّ بصحبته و مذاكرته في معاني كتابه.و كان شديد العناية بها،كثير البحث و السؤال عنها؛قد هداه اللّه إليها،و فتح عليه فيها بغرائب لم نسمعها من العلماء،و لا رأيناها في كتبهم.فحملتني فكرته القادحة و نيّته الصالحة على جمع هذه الصبابة (1)؛و هي تزيد على ألف و مائتي سؤال؛و إن كانت بالنّسبة إلى ما في القرآن من العجائب و الغرائب كالقطرة من الدّأماء (2)،و السها (3)من نجوم السماء؛و لكن،قصدت اختصار هذا الأنموذج منها و تقريبه إلى الأفهام،ليكثر الانتفاع به،و لا يهجر لدقّته و غموضه.
و أما الأسئلة التي تتعلّق بوجوه الإعراب،و بالمعاني التي هي أدقّ على الأفهام و أخفى،فإنّي وضعت لها مختصرا آخر،و أودعته أنموذجا منها أيضا،فليطلب ثمّة.
و باللّه أستعين،و عليه أتوكّل،و إليه أتضرع في أن يجعل علمي و عملي خالصا لوجهه الكريم،و يتغمدني و أخي الصالح بمغفرته و رحمته؛إنّه غفور رحيم.
ص: 9
[1] (1) فإن قيل:الرّحمن أبلغ في الوصف بالرّحمة من الرّحيم،بالنقل عن الزّجّاج و غيره،فكيف قدمه؟و عادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى،كقولهم:فلان عالم نحرير؛لأنّ ذكر الأعلى أوّلا،ثمّ الأدنى لا يتجدّد فيه، بذكر الأدنى،فائدة؛بخلاف عكسه؟ قلنا:قال الجوهري و غيره:إنّهما بمعنى واحد،كنديم و ندمان؛فعلى هذا لا يرد السؤال.و على القول الأوّل:إنّما قدّمه؛لأن لفظ اللّه اسم خاص بالباري تعالى.لا يسمّى به غيره.لا مفردا و لا مضافا؛فقدّمه.و الرّحيم يوصف به غيره مفردا و مضافا فأخّره.
و الرحمن يوصف به غيره مضافا و لا يوصف به مفردا إلاّ اللّه تعالى؛فوسّطه.
[2] فإن قيل:كيف قدّم العبادة على الاستعانة،و الاستعانة مقدّمة؛لأنّ العبد يستعين باللّه على العبادة؛فيعينه اللّه تعالى عليها؟ قلنا:الواو لا تدلّ على الترتيب،أو المراد بهذه العبادة التوحيد،و هو مقدّم على الاستعانة على أداء سائر العبادات؛فإنّ من لم يكن موحّدا لا يطلب الإعانة على أداء العبادات.
[3] فإن قيل:المراد بالصراط المستقيم:الإسلام،أو القرآن،أو طريق الجنّة، كما قيل بالنّقل؛و المؤمنون مهتدون إلى ذلك؛فما معنى طلب الهداية لهم بقولهم:
اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛إذا فيه تحصيل الحاصل؟ قلنا:معناه ثبّتنا عليه و أدمنا على سلوكه؛خوفا من سوء الخاتمة،نعوذ باللّه من ذلك،كما تقول العرب للواقف:قف حتّى آتيك،معناه:دم على وقوفك و أثبت
ص: 10
عليه،أو معناه:طلب زيادة الهدى كما قال اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد:17].و قال عزّ و جلّ: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم:76].
[4] فإن قيل:ما فائدة دخول«لا»في قوله تعالى: وَ لاَ الضّالِّينَ و قوله:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و الضّالين كاف في المقصود؟ قلنا:فائدته تأكيد النفي الذي دلّ عليه غير.
ص: 11
[5] فإن قيل:كيف قال: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]على سبيل الاستغراق؟ و كم ضالّ قد ارتاب فيه!و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ؟[البقرة:23].
قلنا:المراد أنه ليس محلا للرّيب،أو معناه:لا ريب فيه عند اللّه و رسوله و المؤمنين،أو هو نفي معناه النهي:أي لا ترتابوا فيه أنه من عند اللّه تعالى.و نظيره قوله تعالى: وَ أَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها [الحج:7].
[6] (1) فإن قيل:كيف قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و المتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيل الحاصل؟ قلنا:إنّما صاروا متّقين بما استفادوا منه من الهدى،أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى و زيادة فيه،أو خصّهم بالذّكر،لأنّهم هم الفائزون بمنافعه،حيث قبلوه و اتّبعوه كقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات:45]أو أراد الفريقين من يتّقي و من لم يتّق،و اقتصر على أحدهما،كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النمل:81].
[7] فإن قيل:المخادعة إنّما تتصوّر في حقّ من يخفى عليه الأمور،ليتمّ الخداع في حقّه.يقال:خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم؛و اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء؛فكيف قال: يُخادِعُونَ اللّهَ ؟ قلنا:معناه يخادعون رسول اللّه،كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ [الفتح:10]،و قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ [النساء:80]؛أو سمّى نفاقهم خداعا لشبهه بفعل المخادع.
[8] فإن قيل:كيف حصر الفساد في المنافقين،بقوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12]،و معلوم أنّ غيرهم مفسد؟ قلنا:المراد بالفساد الفساد بالنّفاق.و هم كانوا مختصّين به.
ص: 12
[9] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15].و الاستهزاء من باب العبث و السخرية.و هو قبيح.و اللّه تعالى منزّه عن القبيح؟ قلنا:سمّي جزاء الاستهزاء استهزاء مشاكلة؛كقوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى:40].فالمعنى:اللّه يجازيهم جزاء استهزائهم.
[10] (1) فإن قيل:ما الفائدة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة:19] و معلوم أنّ الصيّب لا يكون إلاّ من السماء؟ قلنا:فائدته أنه ذكر السماء معرفة و أضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها، لا من أفق واحد،إذ كلّ أفق يسمّى سماء.قال الشّاعر:
و من بعد أرض بيننا و سماء
[11] فإن قيل:كيف قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين أنه لا ندّ له،و لا شريك له؛بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا و شركاء؟ قلنا:معناه و أنتم تعلمون أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية،أو و أنتم تعلمون أنّه ليس في التّوراة و الإنجيل جواز اتّخاذ الأنداد.
[12] فإن قيل:كيف قال: فَاتَّقُوا النّارَ [البقرة:24]،فعرّف النار هنا، و نكّرها في سورة التّحريم؟ قلنا:لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين،و هم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذّهني،و في تلك مع المؤمنين،و الذي يعذّب من عصاتهم بالنّار يكون في جزء من أعلاها،فناسب تنكيرها لتقللها.
و قيل:لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة،قبل هذه الآية،فلم تكن النار التي وقودها..
ص: 13
الناس و الحجارة معروفة،فنكّرها.ثم،نزلت هذه الآية بالمدينة،فعرّفت؛إشارة بها إلى ما عرفوه أوّلا.
[13] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:
42]،ليسا فعلين متغايرين،فينهوا عن الجمع بينهما؛بل أحدهما داخل في الآخر؟ قلنا:هما فعلان متغايران،لأنّ المراد بتلبيسهم الحقّ بالباطل كتابتهم في التّوراة ما ليس منها،و بكتمانهم الحقّ قولهم:لا نجد في التّوراة صفة محمّد صلى اللّه عليه و سلم.
[14] فإن قيل:قوله: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة:46]، ما فائدة الثاني و الأوّل يدلّ عليه و يقتضيه؟ قلنا:قوله: مُلاقُوا رَبِّهِمْ ،أي:ملاقوا ثواب ربّهم،و ما وعدهم على الصبر و الصلاة؛و قوله: وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ،أي موقنون بالبعث؛فصار المعنى:أنهم موقنون بالبعث و بحصول الثّواب الموعود؛فلا تكرار فيه.
[15] (1) فإن قيل:كيف قال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:
59]؛و هم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم؛لأنّهم قيل لهم؛قولوا حطّة،فقالوا حنطة؟ قلنا:معناه فبدّل الّذين ظلموا قولا،قيل لهم.و قالوا قولا،غير الّذي قيل لهم.
[16] (2) فإن قيل:قوله: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]العثو:
الفساد؛فيصير المعنى:و لا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا:معناه و لا تعثوا في الأرض بالكفر،و أنتم مفسدون بسائر المعاصي.
[17] (3) فإن قيل:كيف قال: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة:61]و طعامهم كان المنّ و السلوى و هما طعامان؟ا.
ص: 14
قلنا:المراد أنّه دائم غير متبدّل و إن كان نوعين.
[18] فإن قيل:كيف قال: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]،و قتل النبيين لا يكون إلاّ بغير الحق؟ قلنا:معناه بغير الحقّ في اعتقادهم؛و لأن التّصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم؛و إن كانت تلك الصفة لازمة للفعل،كما في عكسه؛كقوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112]،لزيادة معنى في التّصريح بالصّفة؛و لأن قتل النبيّ قد يكون بحقّ؛كقتل إبراهيم،صلوات اللّه على نبيّنا و عليه،ولده؛لو وجد،لكان بحقّ.
[19] فإن قيل:كيف قال: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة:65]، و انتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟ قلنا:هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب؛فهو من قبيل قوله عزّ و جلّ: كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
[20] (1) فإن قيل:كيف قال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة:68]،و لفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا.فكيف جاز دخولها على ذلك و هو مفرد؟ قلنا:ذلك يشاء به إلى المفرد و المثنى و المجموع؛و منه قوله تعالى: بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]،و قوله تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186]و قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران:14]،إلى قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا .فمعناه عوان بين الفارض و البكر،و سيأتي تمامه في قوله عزّ و جلّ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]،إن شاء اللّه تعالى.د.
ص: 15
[21] فإن قيل:قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ [البقرة:74]كلاهما بمعنى واحد؛فما فائدة الثّاني؟ قلنا:التّفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة،و الثاني يدلّ على نفس الخروج.
و هما متغايران؛فلا تكرار.
[22] فإن قيل:ما الفائدة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة:79]و الكتابة لا تكون إلاّ باليد؟ قلنا:فائدته تحقيق مباشرتهم ذلك التّحريف بأنفسهم؛و ذلك،زيادة في تقبيح فعلهم؛فإنه يقال:كتب فلان كذا،و إن لم يباشره بنفسه؛بل أمر غيره به،من كاتب له و نحو ذلك.
[23] فإن قيل:التّولّي و الإعراض واحد،فكيف قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83].
قلنا:معناه:ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق و العهد،و أنتم معرضون عن الفكر و النظر في عاقبة ذلك.
[24] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96]،ما فائدة قوله تعالى: وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ،و هم من جملة الناس؟ قلنا:إنّما خصّوا بالذّكر بعد العموم؛لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ؛لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
[25] فإن قيل:قوله عزّ و جلّ: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102]يدلّ على أنّ اللّه تعالى أنزل علم السحر على الملكين؛فلم يكن حراما! قلنا:العمل به حرام؛لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه.كما قال اللّه تعالى: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102].نظيره لو سأل إنسان:ما الزّنا؟لوجب بيانه له،ليعرفه،فيجتنبه.
[26] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].كيف أثبت لهما العلم أوّلا،مؤكّدا بلام القسم،ثمّ نفاه عنهم.
قلنا:المثبت لهم أنّهم علموا علما إجماليا أنّ من اختار السحر ماله،في الآخرة،من نصيب؛و المنفي عنهم أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه من تحسّر الآخرة،و لا يكون لهم نصيب منها؛فالمنفي غير المثبت،فلا تنافي.
[27] فإن قيل:كيف قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
ص: 16
يَعْلَمُونَ [البقرة:103]؛و إنّما يستقيم أن يقال:هذا خير من ذلك،إذا كان في كلّ واحد منهما خير؛و لا خير في السحر؟ قلنا:خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلّم السحر خيرا؛نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به.
[28] فإن قيل:كيف قال هنا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة:126].و قال في سورة إبراهيم صلوات اللّه عليه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم:35].
قلنا:في الدّعوة الأولى،كان مكانا قفرا؛فطلب منه أن يجعله بلدا و آمنا؛و في الدّعوة الثّانية،كان بلدا غير آمن؛فعرّفه و طلب له الأمن؛أو كان بلدا آمنا؛فطلب له ثبات الأمن و دوامه.
و كون هذه السورة مدنيّة،و سورة إبراهيم مكّية،لا ينافي هذا؛لأنّ الواقع من إبراهيم،صلوات اللّه عليه،بلغته على الترتيب الذي قلنا؛و الإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب؛أو أنّ المكّيّ،منه،ما نزل قبل الهجرة؛فيكون المدنيّ متأخّرا عنه؛و منه ما نزل بعد فتح مكّة؛فيكون متأخّرا عن المدنيّ؛فلم قلتم إنّ سورة إبراهيم،عليه السلام،من المكّي الّذي نزل قبل الهجرة؟! [29] فإن قيل:أي مدح و شرف لإبراهيم،صلوات اللّه عليه،في قوله تعالى:
وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ [البقرة:130]مع ما له من شرف الرّسالة و الخلّة؟ قلنا:قال الزّجّاج:المراد بقوله: لَمِنَ الصّالِحِينَ ،أي من الفائزين.
[30] فإن قيل:الموت ليس في وسع الإنسان و قدرته؛حتّى تصحّ أن ينهى عنه،على صفة،أو يؤمر به على صفة؛فكيف قال: وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ؟[آل عمران:102].
قلنا:معناه:اثبتوا على الإسلام،حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام.فهو في المعنى أمر بالثّبات على الإسلام و الدّوام عليه،أو نهي عن تركه.
[31] فإن قيل:قوله عزّ و جلّ: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة:137]،إن أريد به اللّه تعالى فلا مثل له،و إن أريد به دين الإسلام فلا مثل له،أيضا؛لأنّ دين الحق واحد؟ قلنا:كلمة مثل زائدة.معناه:فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به،يعني بمن آمنتم به، و هو اللّه تعالى،أو بما آمنتم به،و هو دين الإسلام.و مثل قد تزاد في الكلام،كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]،و قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام:122].و مثل و مثل بمعنى واحد؛و قيل:الباء زائدة،كما في قوله
ص: 17
تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]،أي مثل إيمانكم باللّه أو بدين الإسلام.
[32] فإن قيل:كيف قال: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]،و هو لم يزل عالما بذلك؟ قلنا:قوله لنعلم:أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه أنّه يكون و يوجد،أو أراد بالعلم التّمييز للعباد،كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37].
[33] فإن قيل:كيف قال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة:144]،و هذا يدلّ على أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن راضيا بالتّوجه إلى بيت المقدس؛مع أنّ التّوجه إليه كان بأمر اللّه تعالى و حكمه؟ قلنا:المراد بهذا الرّضا المحبّة بالطّبع،لا رضا التّسليم و الانقياد لأمر اللّه تعالى.
[34] فإن قيل:كيف قال: وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ [البقرة:145]،و لهم قبلتان:
لليهود قبلة،و للنّصارى قبلة؟ قلنا:لمّا كانت القبلتان باطلتين،مخالفتين لقبلة الحقّ؛فكانتا،بحكم الاتّحاد في البطلان،قبلة واحدة.
[35] فإن قيل:كيف يكون للظّالمين من اليهود أو غيرهم حجّة على المؤمنين، حتى قال: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150]؟ قلنا:معناه إلاّ أن يقولوا ظلما و باطلا،كقول الرجل لصاحبه:مالك عندي حقّ إلاّ أن تظلم أو تقول الباطل؛و قيل معناه:و الذين ظلموا منهم؛فإلاّ هنا،بمعنى واو العطف،كما في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ [النمل:10،11]؛ و قيل:إلاّ فيهما بمعنى لكن.و حجتهم أنهم كانوا يقولون لمّا توجه النبيّ،عليه الصلاة و السلام،إلى بيت المقدس:ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه،و كانوا يقولون،أيضا:يخالفنا محمّد في ديننا،و يتبع قبلتنا؛فلمّا حوّله اللّه تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة؛فعادوا يقولون:لم تركت قبلة بيت المقدس؟إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا،و إن كانت حقّا فقد انتقلت عنها؛فهذا هو المراد به بقوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150]؛و قيل:المراد به قولهم:ما ترك محمّد قبلتنا إلاّ ميلا لدين قومه و حبّا لوطنه؛و قيل:المراد به قول المشركين:قد عاد محمّد إلى قبلتنا،لعلمه أنّ ديننا حقّ؛و سوف يعود إلى ديننا.و إنّما سمّى اللّه باطلهم حجّة لمشابهته الحجّة في الصورة،كما قال اللّه تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ [الشورى:
16]،أي باطلة،و قال: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83].
[36] فإن قيل:ما الفائدة في قوله: وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]،بعد قوله:
ص: 18
وَ اشْكُرُوا لِي [البقرة:152]؛و الشّكر نقيض الكفر؛فمتى وجد الشّكر انتفى الكفر؟ قلنا:قوله: وَ اشْكُرُوا لِي معناه:استعينوا بنعمتي على طاعتي،و قوله: وَ لا تَكْفُرُونِ معناه:لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي.و قيل:الأوّل أمر بالشكر.و الثاني أمر بالثّبات عليه.
[37] فإن قيل:كيف قال: وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]،و أهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟ قلنا:المراد بالنّاس المؤمنون فقط؛أو هو على عمومه،و أهل دينه يلعنونه في الآخرة؛قال اللّه تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25]،و قال: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف:38].
[38] فإن قيل:ما الفائدة في قوله: «إِلهٌ» في: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة:
163]؛فهلاّ قال:و إلهكم واحد،فكان أخصر و أوجز؟ قلنا:لو قال:و إلهكم واحد،لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية، يعني لا إله غيره،و لم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته؛بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله.
و الآية إنّما سيقت لإثبات أحديته في ذاته،و نفي ما يقوله النصارى أنّه واحد،و الأقانيم ثلاثة،أي الأصول؛كما أنّ زيدا واحدا،و أعضاؤه متعدّدة.فلمّا قال:إله واحد دلّ على أحديّة الذّات و الصفة.و لقائل أن يقول:قوله:واحد يحتمل الأحديّة في الذّات، و يحتمل الأحديّة في الصفات،سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرّر؛فلا يتمّ الجواب.
[39] فإن قيل:ما وجه صحّة التّشبيه في قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة:171]و ظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:و مثلك يا محمّد،مع الكفّار،كمثل الرّاعي مع الأنعام؛أو تقديره:و مثل الّذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي؛أو و مثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم؛أو مثل الّذين كفروا،في دعائهم الأصنام،كمثل الرّاعي.
[40] فإن قيل:كيف خصّ المنعوق،بأنّه لا يسمع إلاّ دعاء و نداء؛مع أنّ كلّ عاقل كذلك؛أيضا لا يسمع إلاّ دعاء و نداء؟ قلنا:المراد بقوله:لا يسمع أنّه لا يفهم كقولهم:أساء سمعا فأساء إجابة،أي أساء فيهما.
[41] فإن قيل:كيف قال: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة:174]،و قال في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92،93].
قلنا:المنفي كلام التلطّف و الإكرام،و المثبت سؤال التوبيخ و الإهانة؛فلا تنافي.
ص: 19
[42] فإن قيل:كيف قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة:178]،أي فرض؛و القصاص ليس بفرض؛بل الوليّ مخيّر فيه؛بل مندوب إلى تركه؟ قلنا:المراد به فرض على القاتل التّمكين،لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.
[43] فإن قيل:كيف قال: اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ [البقرة:180]،عطف الأقربين على الوالدين،و هما أقرب الأقربين،و العطف يقتضي المغايرة؟ قلنا:الوالدان ليسا من الأقربين؛لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة،كالأخ و العمّ و نحوهما؛و الوالدان ليسا كذلك؛و لو كانا منهم،لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما،كقوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة:98].
[44] فإن قيل:كيف قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]،و صوم هذه الأمّة ليس كصوم أمّة موسى و عيسى،عليهما السلام؟ قلنا:التّشبيه في أصل الصوم،لا في كيفيّته،أو في كيفيّة الإفطار؛فإنّه كان،في أوّل الأمر،الإفطار مباحا،من غروب الشّمس إلى وقت النوم،فقط؛كما كان في صوم من قبلنا؛ثم نسخ بقوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ [البقرة:187]الآية،أو في العدد،أيضا؛على ما روي عن ابن عباس،رضي اللّه عنهما،أنّه قال:فرض على النصارى صوم رمضان بعينه.فقدّموا عشرة،أو أخّروا عشرة؛لئلاّ يقع في الصيف.و جبروا التّقديم و التّأخير،بزيادة عشرين.فصار صومهم خمسين يوما،بين الصيف و الشّتاء.
[45] فإن قيل:ما فائدة قوله: وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ [البقرة:185]، بعد قوله: هُدىً لِلنّاسِ ؟ قلنا:ذكر أوّلا أنّه هدى؛ثمّ ذكر أنّه بيّنات من الهدى،أي من جملة ما هدى اللّه به عبيده،و فرّق به بين الحقّ و الباطل،من الكتب السماويّة الهادية الفارقة بين الحقّ و الباطل؛فلا تكرار.
[46] فإن قيل:ما فائدة إعادة ذكر المريض و المسافر؟ قلنا:فائدته أن الآية المتقدمة نسخ ممّا فيها تخيير الصحيح،و كان فيها تخيير المريض و المسافر،أيضا؛فأعيد ذكرهما لئلاّ يتوهّم أنّ تخييرهما نسخ،كما نسخ تخيير الصحيح.
[47] (1) فإن قيل:قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة:186] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الدّاعين،و نحن نرى كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم؟!2.
ص: 20
قلنا:روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،أنّه قال:«ما من مسلم دعا اللّه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم و لا إثم إلاّ أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث خصال:إمّا أن يعجّل دعوته،و إمّا أن يدّخرها له في الآخرة،و إمّا أن يدفع عنه من السوء مثلها».و لأنّ قبول الدّعاء شرطه الطّاعة للّه تعالى،و أكل الحلال،و حضور القلب،وقت الدّعاء؛فمتى اجتمعت هذه الشّروط،حصلت الإجابة.و لأنّ الدّاعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة،و اللّه تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل،أو في منعه،فيجيبه إلى مقصوده الأصلي و هو طلب المصلحة؛فيكون قد أجيب،و هو يعتقد أنّه منع عنه.
[48] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة:196]؛و معلوم أنّ ثلاثة و سبعة عشرة؟ثمّ،ما فائدة قوله: كامِلَةٌ ،و العشرة لا تكون إلاّ كاملة؛ و كذا جميع أسماء الأعداء لا تصدق على أقلّ من المذكور،و لا على أكثر منه؟ قلنا:فائدة قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ أن لا يتوهّم أن الواو بمعنى أو،كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء:3]،و ألاّ تحلّ التّسع جملة.
فنفى بقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ ظنّ وجوب أحد العددين،فقط؛إمّا الثّلاثة في الحجّ،أو السبعة بعد الرّجوع؛و أن يعلم العددين من جهتين جملة و تفصيلا،فيتأكد العلم به؛ و نظيره فذلكة الحساب و تنصيف الكتاب.و أمّا قوله تعالى: كامِلَةٌ فتأكيد،كما في قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة:233]،أو معناه كاملة في الثّواب؛مع وقوعها بدلا عن الهدى،أو في وقوعها موقع المتتابع؛مع تفرّقها،أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة؛مع وقوع بعضها في غير مكّة؛فالحاصل،أنّه كمال وصفا لا ذاتا.
[49] فإن قيل:ما فائدة تكرار الأمر بالذّكر في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة:198]؟ قلنا:إنّما كرّره تنبيها على أنّه أراد ذكرا مكرّرا،لا ذكرا واحدا؛بل مرّة بعد أخرى؛و لأنه زاد في الثّاني فائدة أخرى،و هي قوله تعالى: كَما هَداكُمْ ،يعني اذكروه بأحديّته،كما ذكركم بهدايته؛أو إشارة إلى أنّه أراد بالذّكر الأول الجمع بين الصلاتين بمزدلفة،و بالثّاني الدّعاء،بعد الفجر،بها،فلا تكرار.
[50] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة:
198].إلى أن قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ [البقرة:199]و أراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف،و بعد المجيء إلى مزدلفة و الذّكر فيها مرّتين،كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.
قلنا:فيه تقديم و تأخير تقديره:من ربّكم.ثم،أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.
ص: 21
[51] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]،و معلوم أن المتعجّل التّارك بعض الرّمي إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخّر الآتي بالرّمي كاملا؟ قلنا:كان أهل الجاهلية فريقين:منهم من جعل المتعجّل آثما،و منهم من جعل المتأخّر آثما؛فأخبر اللّه تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا؛أو معناه لا إثم على المتأخّر، في تركه الأخذ بالرخصة؛مع أنّ اللّه تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه،كما يحبّ أن تؤتى عزائمه؛أو أنّ معناه أنّ انتفاء الإثم عنهما موقوف على التّقوى،لا على مجرّد الرّخصة أو العزيمة في الرّمي.
ثم،قيل:المراد به تقوى المعاصي في الحجّ.و قيل:تقوى المعاصي بعد الحجّ،في بقيّة العمر،بالوفاء بما عاهد اللّه تعالى عليه،بعرفة و غيرها من مواقف الحجّ،من التّوبة و الإنابة.
و المشكل،في هذه الآية،قوله تعالى: فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203]،و التّعجيل المرخّص فيه إنّما هو التّعجيل في اليوم الثّاني،من أيّام التّشريق؛فكيف ذكر لفظ اليومين،و أراد بهما اليوم الثّاني،فقط؟ [52] (1)فإن قيل:كيف قال: وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة:210]و هو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره،كقولهم:رجع إلى فلان عبده و منصبه؟ب.
ص: 22
قلنا:هو خطاب لمن كان يعبد غير اللّه،و ينسب أفعاله إلى سواه؛فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء،يوم القيامة،ردّوا ما أضافوه لغيره؛بسبب كفرهم و ظلمهم؛ و لأنّ رجع يستعمل بمعنى صار و وصل،كقولهم:رجع عليّ من فلان مكروه؛قال الشّاعر:
و ما المرء إلاّ كالشّهاب و ضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
و لأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده؛فلما خلقهم ملّكهم بعضها،خلافة و نيابة؛ ثم،رجعت إليه،بعد هلاكهم؛و منه قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]، و قوله تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان:26].و إنّما قال: وَ إِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة:210]،و لم يقل:إليه،و إن كان قد سبق ذكره مرّة،لقصد التّعميم و التّعظيم؛و ذلك ينافي الإيجاز و الاختصار.
[53] (1) فإن قيل:كيف طابق الجواب السؤال في قوله: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ [البقرة:215]،فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون، و أجيبوا عن بيان المصرف؟ قلنا:قد تضمن قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:215]بيان ما ينفقونه و هو كل خير،ثم زيد على الجواب بيان المصرف و نظيره قوله تعالى: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ [طه:17،18]الآية،و قوله عليه الصلاة و السلام- و قد سئل عن الوضوء بماء البحر-«هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته».
[54] فإن قيل:كيف جاء يسألونك ثلاث مرات بغير واو يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ [البقرة:215-219]ثم جاء ثلاث مرات بالواو: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:
219-222].
قلنا:لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقا،و عن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد،فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.ه.
ص: 23
[55] فإن قيل:كيف قال: وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:227] و عزمهم الطلاق ممّا يعلم لا ممّا يسمع؟ قلنا:الغالب أن العزم على الطلاق و ترك الفيء لا يخلو عن مقاولة و دمدمة و إن خلا عنها فلا بد له أن يحدّث نفسه و يناجيها بما عزم عليه،و ذلك حديث لا يسمعه إلا اللّه تعالى كما يسمع وسوسة الشيطان.
[56] فإن قيل:كيف قال: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ [البقرة:228]،و لا حق للنساء في الرجعة،و أفعل يقتضي الاشتراك؟ قلنا:المراد أن الزوج إذا أراد الرجعة و أبت وجب إيثار قوله على قولها؛لأنّ لها حقّا في الرجعة.
[57] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة:228]و الزوج أحق بالرجعة سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها بتطويل العدة؟ قلنا:المراد أن الرجعة أصوب و أعدل إن أراد الزوج الإصلاح،و تركها أصوب و أعدل إن أراد الإضرار.
[58] فإن قيل:كيف الجمع بين قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة:243]و قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:56].
قلنا:المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل،و بالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل،نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة:56]لأنها كانت إماتة عقوبة،أو كان إحياؤهم آية لنبيهم على ما عرف في قصتهم،فصار كإحياء العزير حين مر على قرية و آيات الأنبياء نوادر مستثناة، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء أو إحياء قوم موسى آية له أيضا فكان هذا جوابا عاما؛مع أن في أصل السؤال نظرا لأن الضمير في قوله لا يَذُوقُونَ للمتقين و قوله فيها للجنات،على ما يأتي بيانه،في سورة الدخان،إن شاء اللّه تعالى،على وجه يندفع به السؤال من أصله.
[59] فإن قيل:كيف قال: وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ [البقرة:247]و اللّه تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟ قلنا:المراد بهذا الملك السلطنة و الرئاسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت،و ليس المراد بأنه يعطي ملكه لأحد؛لأن سياق الآية يمنعه.
[60] فإن قيل:كيف قال في الماء: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ [البقرة:249]و لم يقل و من لم يشربه،و الماء مشروب لا مأكول؟
ص: 24
قلنا:طعم بمعنى أكل و بمعنى ذاق،و الذوق هو المراد هنا و هو يعم.
[61] فإن قيل:كيف خص موسى،و عيسى من بين الأنبياء بالذّكر في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ [البقرة:253]الآية؟ قلنا:لما أوتيا من الآيات الظاهرة و المعجزات الباهرة مع الكتابين العظيمين المشهورين.
[62] فإن قيل:كيف قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ [البقرة:254]،و في يوم القيامة شفاعة الأنبياء،و غيرهم،بدليل قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]،و قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء:28]،و قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23].
قلنا:هذه الآيات لا تدلّ على وجود الشفاعة يوم القيامة؛بل تدلّ على أنّها لا توجد و لا تنفع من غير إذنه؛و لا توجد لغير مرضيّ عنده.و هذا لا ينافي نفي وجودها؛بل المنافي له الإخبار عن وجودها،لا الإخبار عن إمكان وجودها.و لو سلّم،فالمراد به نفي شفاعة الأصنام و الكواكب،التي كانوا يعتقدونها؛و لهذا عرّض بذكر الكفّار،بقوله تعالى: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ .و قيل:المراد أنه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات؛لأنّ الشّفاعة،في الآخرة،في زيادة الفضل لا غير؛و الخطاب، مع المؤمنين،في النفقة الواجبة،و هي الزّكاة.
[63] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ [البقرة:254] على وجه الحصر و غيرهم ظالم أيضا؟ قلنا:لأنّ ظلمهم أشدّ،فكأنّه لا ظالم إلاّ هم؛نظيره: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر:28].
[64] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]بلفظ المضارع؛و لم يقل أخرجهم بلفظ الماضي؛و الإخراج قد وجد؛لأنّ الإيمان قد وجد؟ قلنا:لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج،من اللّه تعالى،في الزّمان المستقبل؛في حقّ من آمن،بزيادة كشف الشبه و مضاعفة الهداية؛و في حق من لم يؤمن،ممّن قضى اللّه أنّه سيؤمن،بابتداء الهداية و زيادتها،أيضا.و لفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.
[65] فإن قيل:متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر،و الكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟
ص: 25
قلنا:الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدّخول؛يقال لمن امتنع عن الدّخول في أمر خرج منه،و أخرج نفسه منه؛و إن لم يكن دخل فيه.فعصمة اللّه تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضّلال إخراج لهم منها،و تزيين قرناء الكفار لهم الباطل الّذي يصدّونهم به عن الحقّ إخراج لهم من نور الهدى.و لأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنّبيّ،عليه الصلاة و السلام،قبل أن يظهر،كان نورا لهم؛و كفرهم به، بعد ظهوره،خروج منه،إلى ظلمات الكفر.و لأنّه لما ظهرت معجزاته،عليه الصلاة و السلام،كان موافقه و متّبعه خارجا من ظلمات الجهل،إلى نور العلم؛و مخالفه خارجا من نور العلم،إلى ظلمات الجهل.
[66] فإن قيل:كيف انتقل إبراهيم،صلّى اللّه عليه و سلّم،إلى حجّة أخرى،و عدل عن نصرة الأولى؛مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود،من قتل أحد المجوسيين و إطلاق الآخر؛فإن إبراهيم،صلّى اللّه عليه و سلّم،ما أراد هذا الإحياء و الإماتة؟ قلنا:إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء و الإماتة التي أضافها إبراهيم،صلّى اللّه عليه و سلّم،إلى اللّه؛حيث عارض معارضة لفظيّة،و عمي عن اختلاف المعنيين؛أو لأنّه علم أنّه فهم الحجّة،لكنّه قصد التمويه و التلبيس على أتباعه و أشياعه؛فعدل إبراهيم إلى أمر ظاهر يفهمه كلّ أحد،و لا يقع فيه تمويه و لا تلبيس.
[67] فإن قيل:كيف طبع اللّه على قلبه،فلم يعارض بالعكس،في طلوع الشمس؟ قلنا:لأنّه لو عارض به لم يأت اللّه بها من المغرب،لأن ذلك أمارة قيام الساعة فلا يوجد إلا قريبا من قيامها،و لأنّه و أتباعه كانوا عالمين أنّ طلوعها من المشرق سابق على وجوده،فلو ادّعاه لكذّبوه.
[68] (1) فإن قيل:كيف قال عزير،عليه السلام،منكرا مستبعدا: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها [البقرة:259]،و هو نبيّ؛و النبيّ لا تخفى عليه قدرة اللّه تعالى على إحياء قرية خربة و إعادة أهلها إليها؟ قلنا:ما قاله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة اللّه تعالى؛بل متعجّبا من عظيم قدرته تعالى أو طلبا لرؤية كيفيّة الإعادة؛لأنّ أنّى بمعنى كيف،أيضا.و قد نقل عن مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك كان رجلا كافرا شاكّا في البعث؛و إن كان الأوّل هو المشهور.ب.
ص: 26
[69] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى لإبراهيم عليه السلام: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260]؛و قد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟ قلنا:ليجيب بما أجاب به؛فتحصل به الفائدة الجليلة للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.
[70] فإن قيل:كيف يجوز أن يكون النبيّ غير مطمئن القلب بقدرة اللّه على إحياء الموتى؛حتّى قال إبراهيم: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ [البقرة:260]؛مع أنّ قلبه مطمئن بقدرة اللّه على الإحياء؟ قلنا:معناه ليطمئنّ قلبي بعلم ذلك عيانا،كما اطمأنّ به برهانا؛أو ليطمئنّ بأنّك اتّخذتني خليلا؛أو بأنّي مستجاب الدّعوة.
و لقائل أن يقول:على الوجه الأول،كيف يزداد يقينا بالمشاهدة،و قد روي عن علي،كرّم اللّه وجهه،أنّه قال:«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»،و إبراهيم صلوات اللّه عليه و سلامه أعظم رتبة و أجلّ؟ و جوابه:أنّ عليّا أراد بذلك قوّة يقينه قبل العيان؛حتّى كأنّ الزّيادة الحاصلة له بالعيان يسيرة لا يعتدّ بها.
[71] فإن قيل:فما فائدة قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260]أي فضمّهنّ، و لفظ الأخذ مغن عنه؟ قلنا:الفائدة فيه تأمّلها،و معرفة أشكالها و صفاتها؛لئلاّ يلتبس عليه بعد الإحياء فيتوهّم أنّه غيرها.
[72] فإن قيل:كيف مدح اللّه المتّقين بترك المنّ؛و نهى عن المنّ،أيضا،مع أنّه وصف نفسه بالمنّان،في نحو قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164].
قلنا:منّ بمعنى أعطى؛و منه المنّان في صفات اللّه تعالى.و قوله: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ؛و قوله: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164]،أي أنعم عليهم؛ و قوله: فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ [محمد:4]،أي إنعاما بالإطلاق،من غير عوض؛و منّ بمعنى اعتد بالنّعمة،و ذكرها،و استعظمها؛و هو المذموم.
[72 م] فإن قيل:قوله:تعالى: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات:
17]من القسم الثاني.
قلنا:ذلك اعتداد بنعمة الإيمان؛فلا يكون قبيحا؛بخلاف نعمة المال.و لأنه يجوز أن يكون من صفات اللّه تعالى ما هو مدح في حقّه،ذمّ في حقّ العبد،كالجبّار، و المتكبّر،و المنتقم،و نحو ذلك.
ص: 27
[73] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ ؛ثم قال له: فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [البقرة:266].
قلنا:لمّا كان النخيل و الأعناب أكرم الشّجر،و أكثرها منافع،خصّهما بالذّكر، و جعل الجنّة منهما؛و إن كان فيها غيرهما؛تغليبا لهما،و تفضيلا.
[74] (1) فإن قيل:قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً [البقرة:273]، يدل بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق؛فكيف قال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273].
قلنا:المراد به نفي السؤال و الإلحاف جميعا،كقوله تعالى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [البقرة:71]و كقول الأعشى:
لا يغمز الساق من أين و لا وصب
معناه:ليس بساقه أين و لا وصب،فيغمزها.
[75] فإن قيل:كيف قال: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [البقرة:275]الآية؛ألحق الوعيد بآكله؛مع أنّ لابسه و مدّخره و واهبه،أيضا؛في الإثم سواء؟ قلنا:لمّا كان أكثر الانتفاع و الهمم بالمال،إنّما هو الأكل؛لأنّه مقصود لا غناء عنه،و لا بدّ منه؛عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل،كما يقال:أكل فلان ماله كله،إذا أخرجه في مصالح الأكل و غيره؟ [76] فإن قيل:كيف خصّ الآكل بذكر الوعيد دون المطعم،و كلاهما آثم؟ قلنا:لأنّ انتفاعه الدّنيوي بالرّبا أكثر من انتفاع المطعم.
[77] فإن قيل:كيف قال: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة:275]،و الكلام إذ ذاك في الرّبا،و مقصودهم تشبيهه بالبيع؛فقياسه:إنّما الرّبا مثل البيع،في حلّه؟ قلنا:جاءوا بالتّمثيل على طريق المبالغة؛و ذلك أنه بلغ من اعتقادهم استحلال الرّبا أنهم جعلوه أصلا في الحلّ،و البيع فرعا،كقولهم:القمر كوجه زيد،و البحر ككفّه،إذا أرادوا المبالغة.ه.
ص: 28
[78] فإن قيل:كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلّدون في النار،و قد قال اللّه تعالى،في حقّ آكل الرّبا: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة:
275].
قلنا:الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء،و إن لم يكن بصفة التأبيد؛يقال:خلّد الأمير فلانا في الحبس،إذا أطال حبسه؛أو أن قوله: فَأُولئِكَ إشارة إلى من عاد إلى استحلال الرّبا،بقوله: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة:275]،بعد نزول آية التحريم؛و ذلك يكون كافرا،و الكافر مخلّد في النار.
[79] فإن قيل:إنظار المعسر فرض بالنصّ،و التصدّق عليه تطوّع؛فيكف قال: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280].
قلنا:كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض،بوصف الزّيادة،كان أفضل من الفرض؛كما أنّ الزّهد في الحرام فرض و في الحلال تطوّع،و الزّهد في الحلال أفضل كما بيّنا؛كذلك،هنا.
[80] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: بِدَيْنٍ [البقرة:282]؛و قوله تعالى:
تَدايَنْتُمْ مغن عنه؟ قلنا:فائدته رجوع الضّمير إليه في قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]إذ لو لم يذكره لقال:فاكتبوا الدّين،فالأوّل أحسن نظما؛أو لأنّ التّداين مشترك بين الإقراض و المبايعة و بين المجازاة،و إنّما يميّز بينهما بفتح الدّال و كسرها؛و منه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]،أي الجزاء يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات:12]فذكر الدّين ليتعيّن أي المعنيين هو المراد.
[81] فإن قيل:كيف شرط السفر في الارتهان بقوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ [البقرة:283]الآية،و جواز الرهن لا يختصّ بالسّفر؟ قلنا:لم يذكره لتخصيص الحكم به؛بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب، و الشّاهد الموثوق بهما،أمر-على سبيل الإرشاد-لحفظ مال المسافرين بأخذ الرّهان.
[82] فإن قيل:ما فائدة ذكر القلب في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة 283]،مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟ قلنا:كتمان الشهادة هو أن يضمرها و لا يتكلم بها؛فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب و مكتسبا له،أسند إليه؛لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها أبلغ؛ كما يقال:هذا ما أبصرته عيني،و سمعته أذني،و وعاه قلبي.
ص: 29
[83] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ [البقرة:284]،و ما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله؛ إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه،في الوسع و الطاقة،أو بالحديث المشهور فيه؟ قلنا:قيل:أريد بالآية العموم ثم نسخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها [البقرة:286].و قيل:لا نسخ فيه؛لأنّه خبر لا أمر أو نهي؛بل العموم غير مراد؛و إنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه،و هو العزم القاطع،و الاعتقاد الجازم؛لا مجرّد حديث النفس و الوسوسة.و لأنّه أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة؛فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا و ما أخفوا،ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك؛ثم يغفر لمن يشاء فضلا،و يعذّب من يشاء عدلا،كما أخبر في الآية.
[84] فإن قيل:أيّ شرف للرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم في مدحه بالإيمان؛مع أنّه في رتبة الرّسالة و درجتها،و هي أعلى من درجة الإيمان؛فما فائدة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:285]؟ قلنا:فائدة أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان؛حيث مدح به خواصّه و رسله؛و نظيره،في سورة الصافات،قوله تعالى،في خاتمة ذكر كلّ نبيّ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:81].
[85] فإن قيل:روي عن ابن عباس،رضي اللّه عنهما،أنّه قرأ:«ملائكته و كتابه»،فسئل عن ذلك،فقال:«كتاب أكثر من كتب»فما وجهه؟ قلنا:قيل فيه أنه أراد أنّ الكتاب جنس و الكتب جمع،و الجنس أكثر من الجمع؛لأنّ حقيقته في الكلّ على ما ذهب إليه بعضهم.و يرد على هذا أن يقال:
الكلام في الجمع المضاف و المفرد المضاف للاستغراق،عرفا و شرعا،كقوله لعبده:
أكرم أصدقائي،و أهن أعدائي؛و قوله:زوجاتي طوالق و عبيدي أحرار؛بخلاف قوله:
صديقي و عدوي و عبدي و امرأتي؛فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر.
[86] فإن قيل:قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]،كيف قال ذلك؛مع أنّ بين لا تضاف إلاّ إلى اثنين فصاعدا،فكيف قال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
قلنا:أحد هنا بمعنى الجمع الذي هو آحاد كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقة:47]فإنّه ثمّ بمعنى الجمع،بدليل قوله تعالى: حاجِزِينَ فكأنه قال:لا نفرق بين آحاد من رسله،كقولك:المال بين آحاد الناس؛و لأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر و المؤنث،و تثنيتهما و جمعهما نفيا و إثباتا،تقول:ما رأيت أحدا إلاّ بني فلان،
ص: 30
أو إلاّ بنات فلان سواء.و تقول:إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي،يستوي فيه الكلّ؛فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم،أو بين جماعة منهم،و منه قوله تعالى:
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب:32].
[87] (1) فإن قيل:من أين دلّ قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:
286]على أنّ الأوّل في الخير و الثّاني في الشّر؟ قلنا:قيل:هو من كسبت و اكتسبت،فإنّ الأوّل للخير و الثّاني للشرّ،و ليس بدليل؛لقوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً [النساء:112]،و قوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]،و قوله: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا [الشورى:34]،و قوله:
وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً [الشورى:23]؛و الاقتراف و الاكتساب بمعنى واحد.
و قيل:هو من اللاّم و على،و ليس بدليل،أيضا؛لقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ [الرعد:25]،و قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء:7]،و قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ [البقرة:
157]؛اللّهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ اللاّم و على،عند الإطلاق،يقتضيان ذلك؛أو لأنّهما يستعملان لذلك،عند تقاربهما،كما في هذه الآية؛لا نفرّق بين ذكر الحسنة و السيئة، أو الحسن و القبيح.و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّ عَلَيْها [الأنعام:
164].أطلقه و أراد به الشرّ؛بديل ما بعده.و قولهم:«الدّهر يومان،يوم لك و يوم عليك».و قولهم:فلان يشهد لك و فلان يشهد عليك.و يقول الرجل لصاحبه:هذا الكلام حجّة عليك لا لك،قال الشاعر:
على أنّني راض بأن أحمل الهوى و أخلص منه لا عليّ و لا ليا
و أمّا قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت:46]،و إن كان مقيّدا،إلا أنّ فيه دلالة أيضا من جهة اللاّم و على؛لأنّ القيد شامل لطرفيه.6.
ص: 31
[88] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ .ثمّ قال تعالى:
وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ [آل عمران:3]؟ قلنا:لأنّ القرآن أنزل منجّما،و التّوراة و الإنجيل نزلا جملة واحدة،كذا أجاب الزّمخشري و غيره.و يرد عليه قوله تعالى،بعد ذلك: وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران:4] فإنّ الزمخشري قال:أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا؛أو أراد به الزّبور؛أو أراد به القرآن،و كرّر ذكره تعظيما.و يرد عليه،أيضا قوله تعالى، بعد ذلك: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمران:7]،و قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]،و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان:32].
و الذي وقع لي فيه-و اللّه أعلم-أنّ التّضعيف،في نزّل،و الهمزة في أنزل، كلاهما للتّعدية؛لأنّ نزل فعل لازم،في نفسه؛و إذا كانا للتّعدية،لا يكونان لمعنى آخر،و هو التّكثير أو نحوه؛لأنّه لا نظير له؛و إنّما جمع بينهما،و المعنى واحد،و هو التّعدية؛جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام،و تصرّفهم فيه،على وجوه شتّى.و يؤيّد هذا قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام:37]و قال،في موضع آخر: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7].
[89] فإن قيل:كيف قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمران:7]،و من للتبعيض؟و قال:في موضع آخر: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود:1]؛و هذا يقتضي كون جميع آياته محكمة؟
ص: 32
قلنا:المراد بقوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمران:7]،أي ناسخات. وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران:7]،أي منسوخات.
و قيل:المحكمات:العقليات؛و المتشابهات:الشرعيات.
و قيل:المحكمات:ما ظهر معناها؛و المتشابهات:ما كان في معناها غموض و دقة.
و المراد بقوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود:1]أنّ جميع القرآن صحيح ثابت، مصون عن الخلل و الزّلل فلا تنافي.
[90] فإن قيل:كيف قال،هنا: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران:7]،جعل بعضه متشابها و قال،في موضع آخر: كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر:23]،وصفه كله بكونه متشابها؟ قلنا:المراد بقوله: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ما سبق ذكره،و المراد بقوله: كِتاباً مُتَشابِهاً أنّه يشبه بعضه بعضا،في الصحة،و عدم التّناقض،و تأييد بعضه بعضا؛فلا تنافي.
[91] فإن قيل:ما فائدة إنزال المتشابهات،بالمعنى الأخير؛و المقصود من إنزال القرآن إنّما هو البيان و الهدى؛و الغموض و الدّقة في المعاني ينافي هذا المقصود،أو يبعده؟ قلنا:لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا،و لا يحتمل غير ظاهره،و إلى ما هو مجاز و كناية و إشارة و تلويح،و المعاني فيه متعارضة متزاحمة، و هذا القسم هو المستحسن عندهم و المستبدع في كلامهم،نزل القرآن بالنّوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز،كأنه قال:عارضوه بأي النوعين شئتم فإنه جامع لهما.و أنزله اللّه، عزّ و جلّ،محكما و متشابها،ليختبر من يؤمن بكلّه،و يردّ علم ما تشابه منه إلى اللّه، فيثيبه،و من يرتاب فيه و يشكّ،و هو المنافق،فيعاقبه؛كما ابتلى عباده بنهر طالوت و غيره.أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنّظر و الاستدلال و البحث و الاجتهاد؛فيثابون على هذه العبادة.و لو كان كلّه ظاهرا جليّا،لاستوى فيه العلماء و الجهال؛و لماتت الخواطر بعدم البحث و الاستنباط؛فإنّ نار الفكر إنّما تقدح بزناد المشكلات.و لهذا قال بعض الحكماء:عيب الغنى أنه يورث البلادة و يميت الخاطر؛ و فضيلة الفقر أنّه يبعث على إعمال الفكر،و استنباط الحيل،في الكسب.
[92] فإن قيل:قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ،أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها؛أو بالعكس،على اختلاف القولين؛و كيفما كان،فهو مناف لقوله تعالى،في سورة الأنفال: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]؛لأنّه يدلّ على أنّ الفئتين تساوتا في استقلال كلّ واحدة منهما للأخرى.فكلّ منهما ترى الأخرى قليلة؟ قلنا:التقليل و التّكثير في حالين مختلفين.قلّل اللّه المشركين في نظر المؤمنين أوّلا،و المؤمنين في نظر المشركين؛حتّى اجترأت كلّ فئة على قتال صاحبتها.فلمّا التقتا،كثّر اللّه المؤمنين في نظر المشركين؛حتّى جبنوا و فشلوا؛فغلبوا.و كثّر اللّه المشركين في نظر المؤمنين،أو أراهم إيّاهم على ما هم عليه،و كانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين،ليعلموا صدق ما وعدهم اللّه تعالى،بقوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]الآية،فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة و هي غزاة بدر.مع أنّهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.
ص: 33
[92] فإن قيل:قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ،أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها؛أو بالعكس،على اختلاف القولين؛و كيفما كان،فهو مناف لقوله تعالى،في سورة الأنفال: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]؛لأنّه يدلّ على أنّ الفئتين تساوتا في استقلال كلّ واحدة منهما للأخرى.فكلّ منهما ترى الأخرى قليلة؟ قلنا:التقليل و التّكثير في حالين مختلفين.قلّل اللّه المشركين في نظر المؤمنين أوّلا،و المؤمنين في نظر المشركين؛حتّى اجترأت كلّ فئة على قتال صاحبتها.فلمّا التقتا،كثّر اللّه المؤمنين في نظر المشركين؛حتّى جبنوا و فشلوا؛فغلبوا.و كثّر اللّه المشركين في نظر المؤمنين،أو أراهم إيّاهم على ما هم عليه،و كانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين،ليعلموا صدق ما وعدهم اللّه تعالى،بقوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]الآية،فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة و هي غزاة بدر.مع أنّهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين.
و قيل:أرى اللّه المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين،و كانوا ثلاثة أمثالهم؛ لكنه قلّلهم في أعين المسلمين؛و أراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنّهم يغلبونهم،لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أنّ المائة،من المؤمنين،يغلبون المائتين،منهم.
[93] (1) فإن قيل:ما فائدة تكرار قوله: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ في قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [آل عمران:18]؟ قلنا:الأوّل قول اللّه عزّ و جلّ،و الثاني حكاية قول الملائكة و أولي العلم.
و قال جعفر الصادق،رحمه اللّه تعالى:الأوّل وصف،و الثّاني تعليم.أي قولوا و اشهدوا،كما شهدت.
[94] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ؛في قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]؛و التّولّي و الإعراض واحد،كما سبق في البقرة؛فلم جمع بينهما؟ قلنا:معناه:يتولّون عن الدّاعي،و يعرضون عمّا دعاهم إليه،و هو كتاب اللّه؛ أو يتولون بأبدانهم،و يعرضون عن الحقّ بقلوبهم؛أو كان الّذين تولّوا علماءهم و الذين أعرضوا أتباعهم.ه.
ص: 34
[95] فإن قيل:كيف قال: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26]؛خصّ الخير بالذّكر،و بيده تعالى الخير و الشرّ،و النفع و الضّرّ،أيضا؟ قلنا:لأنّ الكلام إنّما ورد ردّا على المشركين؛فيما أنكروه،ممّا وعد اللّه تعالى به نبيّه صلّى اللّه عليه و سلّم على لسان جبريل عليه السلام،من فتح بلاد الرّوم و فارس.و وعد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الصحابة بذلك.فلما كان الكلام في الخير خصّه بالذّكر؛باعتبار الحال.أو أراد الخير و الشرّ.فاكتفى بأحدهما،لدلالته على الآخر؛كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81].
و إنّما خصّ الخير بالذّكر؛لأنّه المرغوب فيه،المطلوب للعباد،من اللّه تعالى.
[96] فإن قيل:كيف قال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61]،و إيلاج الشّيء،في الشّيء،يقتضي اجتماع حقيقتهما،بعد الإيلاج؛ كإيلاج الخيط في الإبرة،و الإصبع في الخاتم،و نحوهما؛و حقيقة اللّيل و النهار لا يجتمعان؟ قلنا:الإيلاج قد يكون كما ذكرتم؛و قد يكون مع تبدّل صفة أحدهما،بغلبة صفة الآخر عليه؛مع بقاء ذاته فيه؛كإيلاج يسير من خبز في لبن كثير؛أو بالعكس.
فإنّ الحقيقتين مجتمعتان ذاتا؛و صفة إحداهما غالبة على الأخرى.كذلك اللّيل و النهار،إذا كان اللّيل أربع عشرة ساعة،بالنّسبة إلى زمن الاعتدال.ففيه من النهار ساعتان قطعا؛و كذا على العكس.أو معناه:يولج زمن اللّيل،في زمن النهار، و بالعكس.أو يولج اللّيل،في النهار؛و بالعكس.باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين؛ و بالعكس.أو معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا.و خلق ما هو ممتزج منهما.و هو ما قبيل طلوع الشّمس،و قبيل غروبها.و الجواب الثّالث و الرّابع يعمّان جميع السنة.
[97] فإن قيل:ما فائدة قوله: وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران:36]،و هو معلوم من غير ذكر؟ قلنا:فائدته اعتذارها عمّا قالته ظنّا؛فإنها ظنّت أنّ ما في بطنها ذكر؛و لهذا نذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس.و كان من شريعتهم صحّة هذا النذر في الذّكور،خاصة؛فلمّا وضعت أنثى،استحيت؛حيث خاب ظنّها،و لم يتقبّل نذرها؛ فقالت ذلك معتذرة.تعني ليست الأنثى بصالحة،لما يصلح له الذّكر،في خدمة المسجد؛لا أنّها أرادت أنّ الأنثى ليست كالذّكر صورة أو قوّة،أو نحو ذلك.فلمّا قالت ذلك،منكرة خجلة،منّ اللّه عليها،بتخصيص مريم بقبولها في النذر؛دون غيرها من الإناث.فقال تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37].
[98] (1) فإن قيل:المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر،و حرفن-
ص: 35
التّشبيه على الكامل كقولهم:ليس كالذّهب الفضّة،و ليس العبد كالحرّ،فوزانه:
و ليس الأنثى كالذّكر.
قلنا:لما كان جعل الأصل فرعا،و الفرع أصلا،في التّشبيه،في حالة الإثبات، يقتضي المبالغة في المشابهة،كقولهم:القمر كوجه زيد،و البحر ككفّه،كان جعل الأصل فرعا،و الفرع أصلا،في حالة النفي،يقتضي نفي المبالغة في المشابهة،لا نفي المشابهة؛و ذلك هو المقصود،هنا؛لأنّ المشابهة واقعة بين الذّكر و الأنثى،في أعمّ الأوصاف،و أغلبها؛و لهذا يقاد أحدهما بالآخر؛و إنّما أرادت أمّ مريم نفي المشابهة بينهما في صحّة النذرية،خادما للبيت المقدس؛لا غير.فلذلك عكس.
الثّاني:أن ذلك قوله تعالى،و المعنى ليس الذّكر الّذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت؛لما علم اللّه من جعلها و ابنها آية للعالمين.و هو تفسير للتّعظيم و التّفخيم المجمل في قوله تعالى: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران:36].
و هي لا تعرف مقدار شرفه،و اللاّم في الذّكر و الأنثى للعهد.هذا كلّه قول الزّمخشري،و تمامه في الكشّاف.
و قال الفقيه أبو اللّيث رحمه اللّه تعالى:قال بعضهم:هذا قول اللّه تعالى لمحمّد،عليه الصلاة و السلام.أي وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يا محمّد.و قال بعضهم:هو من كلام أمّ مريم.
[99] فإن قيل:كيف نادت الملائكة زكريّا،و هو قائم يصلّي في المحراب، و أجابها و هو في الصلاة،كما قال اللّه تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي [آل عمران:39]الآية؟ قلنا:المراد بقوله يصلّي:أي يدعو،كقوله تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها [الإسراء:110]أي بدعائك.
[100] فإن قيل:ما فائدة تخصيص يحيى،عليه السلام،بقوله: أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ [آل عمران:39]،و كلّ واحد من المؤمنين مصدّق بجميع كلمات اللّه تعالى؟ قلنا:معناه مصدّقا بعيسى الذي كان وجوده بكلمة من اللّه تعالى؛و هو قوله:
«كُنْ» من غير واسطة أب في الوجود.و كان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كلّ أحد،في الوجود،أو في الرتبة.خ.
ص: 36
[101] فإن قيل:زكريّا سأل الولد بقوله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38]و اللّه تعالى بشّره بيحيى،عليه السلام،على لسان الملائكة؛فكيف أنكر،بعد هذا كلّه،قدرة اللّه تعالى على إعطائه الولد،حتى قال: رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران:40].
قلنا:إنّما قاله على سبيل الاستفهام و التّعجّب من عظيم قدرة اللّه تعالى،لا على طريق الإنكار و الاستبعاد؛أو اشتبه عليه كيف يعطى الولد،و هو شيخ،و امرأته عاقر؛أو تزول عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال.تقديره: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران:40].و لقائل أن يقول:آخر الآية لا يناسب هذا الجواب.
[102] فإن قيل:ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء،في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ [آل عمران:42].
قلنا:الاصطفاء الأوّل:العبادة التي هي خدمة البيت المقدّس،و تخصيصها بقبولها في النذر؛مع كونها أنثى.و الاصطفاء الثّاني:لولادة عيسى،عليه السلام؛أو أعيد ذكر الاصطفاء،ليفيد بقوله: عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ [آل عمران:42]فيندفع و هم أنّها مصطفاة على الرّجال.
[103] فإن قيل:كيف نفى حضور النبيّ،عليه الصلاة و السلام،في زمن مريم بقوله: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]،الآية؛و ذلك معلوم عندهم،لا شكّ فيه،و ترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه و هو الّذي كانوا يتوهّمونه؟ قلنا:كان معلوما،أيضا،عندهم،علما يقينا أنّه ليس من أهل القراءة و الرّواية.
و كانوا منكرين للوحي.فلم يبق إلاّ المشاهدة و الحضور،و هي في غاية الاستحالة؛ فنفيت،على طريق التهكّم بالمنكرين للوحي؛مع علمهم أنّه لا قراءة له و لا رواية.
و نظيره قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [القصص:44-46].
[104] فإن قيل:كيف قال:اسمه المسيح عيسى ابن مريم،و الخطاب مع مريم،و هي تعلم أنّ الولد الّذي بشّرت به يكون ابنها؟ قلنا:لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء،لا إلى الأمهات؛فأعلمت،بنسبته إليها، أنه يولد من غير أب؛فلا ينسب إلاّ إلى أمه.
[105] فإن قيل:أيّ معجزة لعيسى،عليه الصلاة و السلام،في تكليم الناس كهلا؟و أيّ خصوصيّة له في هذا؛حتّى قال: وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً [آل عمران:46]؟ قلنا:معناه و يكلّم الناس،في هاتين الحالتين،بكلام الأنبياء؛من غير تفاوت بين حال الطفوليّة و حال الكهوليّة الّتي يستحكم فيها العقل،و ينبّأ فيها الأنبياء.فكأنه
ص: 37
قال:و يكلّم الناس في المهد،كما يكلّمهم كهلا.و قال الزّجّاج:هذا،خرج مخرج البشارة لمريم أنّه،عليه الصلاة و السلام،سيبقى إلى زمن الكهولة.فهو بشارة لها بطول عمره.و قيل:المقصود منه أنّ الزّمان يؤثّر فيه،كما يؤثّر في غيره،و ينقله من حال إلى حال؛و لو كان إلها لم يجز عليه التغيير.
[106] فإن قيل:كيف قال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:5]؛و اللّه تعالى رفعه و لم يتوفه؟ قلنا:لمّا هدّده اليهود بالقتل،بشّره اللّه بأنه إنّما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل؛ و الواو لا تفيد التّرتيب؛فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه.
الثّاني:أنّ فيه تقديما و تأخيرا،أي أنّي رافعك و متوفيك.
و الثّالث:أنّ معناه:قابضك من الأرض تامّا،وافيا في أعضائك و جسدك،لم ينالوا منك شيئا؛من قولهم:توفّيت حقّي على فلان،إذا استوفيته تامّا وافيا.
الرّابع:أنّ معناه:إنّي متوفّيك في نفسك بالنّوم،من قوله تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر:42]و رافعك إليّ،و أنت نائم؛ حتّى لا تخاف،بل تستيقظ و أنت في السماء.
[107] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:
59]،و آدم خلق من التراب،و عيسى خلق من الهواء؛و آدم خلق من غير أب و أمّ، و عيسى خلق من أمّ.
قلنا:المراد به التّشبيه في وجوده بغير واسطة أب.و التّشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه،بل من بعضها.
[108] فإن قيل:كيف خصّ أهل الكتاب بأنّ منهم أمينا و خائنا،بقوله: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]الآية؛و المسلمون و غيرهم من أهل الملل كذلك،منهم الأمين و الخائن.
قلنا:إنّما خصّهم باعتبار واقعة الحال؛فإنّ سبب نزول الآية أنّ عبد اللّه بن سلام أودع ألفا و مائتي أوقية من الذّهب،فأدّى الأمانة فيها؛و فنحاص بن عازوراء أودع دينارا،فخانه؛و لأنّ خيانة أهل الكتاب المسلمين تكون عن استحلال،بدليل آخر الآية؛بخلاف خيانة المسلم المسلم،فلذلك خصّهم بالذّكر.
[109] فإن قيل:كيف قال: وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً [آل عمران:83]و أكثر الجنّ و الإنس كفرة؟ قلنا:المراد بهذا:الاستسلام و الانقياد لما قضاه اللّه عليهم،و قدّره من الحياة و الموت،و المرض و الصحة،و الشّقاء و السعادة،و نحو ذلك.
ص: 38
[110] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:90]؛و معلوم أن المرتدّ و إن ازداد ارتداده كفرا فإنّه مقبول التّوبة؟ قلنا:الآية نزلت في قوم ارتدّوا،ثم أظهروا التّوبة بالقول،لستر أحوالهم، و الكفر في ضمائرهم؛قاله ابن عباس.
و قيل:نزلت في قوم تابوا من ذنوبهم غير الشّرك.
و قيل:معناه:لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت.
[111] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:
96]و كم من بيت بني قبل الكعبة،من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليه السلام؟ قلنا:معناه أن أول بيت وضع قبلة للنّاس و مكان عبادة لهم؛أو وضع مباركا للنّاس،أو لأنّ ابن عباس قال:أوّل من بناه آدم عليه السلام.لمّا هبط من السماء أوحى اللّه تعالى إليه ابن لي بيتا في الأرض،و اصنع حوله نحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي؛فبناه،و جعل يطوف حوله.
[112] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران:110]و لم يقل أنتم خير أمّة؟ قلنا:معناه كنتم في سابق علم اللّه،أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية؛فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصليّة فيهم،لا عارضة متجددة.أو معناه خلقتم و وجدتم؛ فهي كان التامة؛و خير أمة نصب على الحال؛و تمام الكلام في كان يذكر في قوله تعالى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً [النساء:22].
[113] فإن قيل:كيف قال: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [آل عمران:110]و لا يصح أن يقال:هذا خير من ذلك إلاّ إذا كان في كلّ واحد منهما خير؛مع أنّ غير الإيمان لا خير فيه؛حتى يقال:إنّ الإيمان خير منه؟ قلنا:معناه إيمانهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم مع إيمانهم بموسى و عيسى عليهما السلام،خير من إيمانهم بموسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام فقط.
[114] (1) فإن قيل:كيف قال: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهاخ.
ص: 39
صِرٌّ [آل عمران:117]،الآية؛و المقصود تشبيه نفقة الكفّار و أموالهم،في تحصيل المفاخر،و طلب الصيت و السمعة؛أو ما ينفقونه في الطّاعات،مع وجود الكفر؛أو ما ينفقونه في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد،فأهلكته، فضاع،و لم ينتفع به؛و التّشبيه في الحقيقة بالزّرع،و في لفظ الآية بالرّيح؟ قلنا:فيه إضمار،تقديره:إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ؛أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح؛و نظيره قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [آل عمران:261]الآية؛و قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [آل عمران:171]،الآية.و قال ثعلب:فيه تقديم و تأخير تقديره:كمثل حرث قوم،ظلموا أنفسهم،أصابته ريح فيها صرّ،فأهلكته.
[115] فإن قيل:كيف قال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها [آل عمران:120]فوصف الحسنة بالمسّ و السيئة بالإصابة؟ قلنا:المسّ مستعار،بمعنى الإصابة،توسعة في العبارة؛و إلاّ فكان المعنى واحدا.أ لا ترى إلى قوله تعالى في الفريقين: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].و قوله: *إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:19-21].
[116] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ سارِعُوا [آل عمران:133]؛و النبيّ،عليه أفضل التّحية،يقول:«العجلة من الشّيطان و التأنّي من الرّحمن»؟ قلنا:قد استثنى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خمسة مواضع،فقال:«إلاّ في التّوبة من الذّنب و قضاء الدّين الحال،و تزويج البكر البالغ،و دفن الميّت و إكرام الضّيف إذا نزل».
و المسارعة المأمور بها في الآية هي المسارعة إلى التّوبة و ما في معناها من أسباب المغفرة.
[117] فإن قيل:كيف قال: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]عطف عليه بكلمة أو،و فعل الفاحشة داخل في ظلم النفس؛بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟ قلنا:أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس،و هو الزنا؛أو كلّ كبيرة.فخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه،و أريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.1.
ص: 40
[118] فإن قيل:كيف قال،هنا: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:
135]و قال،في موضع آخر: وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]؛و قال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية:14]؟ قلنا:معناه و من يستر الذنوب من جميع الوجوه إلاّ اللّه،و مثل هذا الغفران لا يوجد إلاّ من اللّه.
[119] فإن قيل:كيف قال: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144]؛و هلاّ اقتصر على قوله: أَ فَإِنْ ماتَ ؛و كان القتل يدخل فيه،فإنه موت؟ قلنا:القتل و إن كان موتا،لكن إذا أطلق الميّت في العرف لا يفهم منه المقتول؛فلذلك عطف أحدهما على الآخر.
[120] فإن قيل:كيف قال: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران:
161]؛و قال،في موضع آخر: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94].
قلنا:معناه يأتي به مكتوبا في ديوانه؛أو يأتي به حاملا إثمه.و معنى فرادى منفردين عن الأموال و الأهل؛أو عن الشّركاء في الغيّ؛أو عن الآلهة المعبودة من دون اللّه.و تمام الآية يشهد للكلّ.
[121] فإن قيل:قد جاء في الصحيحين،عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه صامتا كان أو ناطقا؛هذا معنى الحديث،فاندفع الجواب.
قلنا:على هذا يكون المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال و أهل يعتزّون بهما، و يستنصرون؛و يشهد بصحته تمام الآية.
[122] فإن قيل:كيف قال: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللّهِ [آل عمران:163]و العبيد ليسوا نفس الدرجات؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:هم ذوو درجات أو أهل درجات؛فحذف المراد لعدم الإلباس.
و قيل:المراد بالدرجات الطّبقات؛فلا يكون فيه إضمار،معناه أنّهم طبقات عند اللّه متفاوتون كتفاوت الدّرجات.
[123] فإن قيل:كيف يجعل لكلّ الفريقين درجات،و أحد الفريقين لهم دركات لا درجات؟ قلنا:الدّرجات تستعمل في الفريقين؛بدليل قوله تعالى،في سورة الأحقاف، بعد ذكر الفريقين: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا [الأنعام:132]و تحقيقه أنّ بعض
ص: 41
أهل النار أخفّ عذابا،فمكانه فيها أعلى؛و بعضهم أشدّ عذابا،و مكانه فيها أسفل.
و لو سلّم اختصاص الدّرجات بأهل الدرجات،كان قوله:«هم درجات»راجعا إليهم خاصّة،تقديره:أ فمن اتّبع رضوان اللّه،و هم درجات عند اللّه، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ [آل عمران:162]،و هم دركات!إلاّ أنّه حذف البعض لدلالة المذكور عليه.
[124] فإن قيل: اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران:181]كانوا في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قالوا ذلك لمّا سمعوا قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245]فكيف قال: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ [آل عمران:181]أي و نكتب قتلهم الأنبياء،و هم لم يقتلوا نبيّا قط؟ قلنا:لمّا رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء،كأنهم باشروا ذلك؛فأضيف إليهم.و قد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا.
[125] فإن قيل:كيف قال: وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] و ظلاّم صيغة مبالغة من الظلم؛و لا يلزم من نفي الظلاّم نفي الظّالم؛و على العكس يلزم.فهلاّ قال:ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدّسة؟ قلنا:صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد،لا لكثرة الظّلم؛كما قال اللّه تعالى:
وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]و قال: عالِمُ الْغَيْبِ [الأنعام:73]و عَلاّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78].لمّا أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة.و نظيره قولهم:
زيد ظالم لعبده،و عمرو ظلاّم لعبيده؛فهما في الظّلم سيّان.و كذلك قال اللّه تعالى:
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ [الفتح:27]،فشدّد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل.أو الصيغة هنا للنّسب،أي لا ينسب إليه ظلم؛فالمعنى ليس بذي ظلم.
الثاني:أنّ العذاب من العظيم القدر الكثير العدل،لو لا سبق الجناية،يكون أفحش و أقبح من الظلم ممّن ليس عظيم القدر كثير العدل.فيطلق عليه اسم الظلاّم باعتبار زيادة قبح الفعل منه،لا باعتبار تكرره.
فحاصله،أنّ صيغة المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل،و تارة باعتبار صفته.ففعل الظلم لو وجد من اللّه تعالى و تقدس لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده؛باعتبار زيادة وصف القبح؛و نظيره قوله تعالى: وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.
[126] فإن قيل:في قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [آل عمران:184]من حقّ الجزاء أن يتعقّب الشّرط،و هذا سابق له؟ قلنا:جواب الشّرط محذوف،إذ لا يصلح قوله: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
ص: 42
[آل عمران:184]،جوابا؛لأنه سابق عليه.و معناه:و إن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرّسل قبلك،وضعا للسّبب،و هو تكذيبهم،موضع المسبّب،و هو التأسي بهم.
[127] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لا تَكْتُمُونَهُ ،في قوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]،و الأوّل مغن عن الثّاني؟ قلنا:معناه ليبيّننّه في الحال،و يدومون على ذلك البيان و لا يكتمونه،في المستقبل.
الثاني:أن الضّمير الأوّل للكتاب،و الثاني لنعت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و ذكره،فإنّه قد سبق ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قبيل هذا.
[128] فإن قيل:متى بيّنوا الكتاب لزم من بيانه بيان صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و ذكره؛لأنّه من جملة الكتاب الّذي هو التّوراة و الإنجيل؛فقوله،بعد ذلك،و لا يكتمونه تكرار.
قلنا:على هذا يكون تأكيدا.
[129] (1) فإن قيل:كيف قال: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:
192]،و قال:في موضع آخر: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:
88]؛و يلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة و الخارجيّة؟ قلنا:أخزيته بمعنى أذللته و أهنته،من الخزي و هو الذلّ و الهوان؛و قوله: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:88]من الخزاية و هي النكال و الفضيحة.
فكل من يدخل النار يذلّ.و ليس كل من يدخلها ينكّل به و يفضح.أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة و الخلود،لا إدخال تحلّة القسم المدلول عليها بقوله تعالى:
وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها [مريم:71].أو إدخال التّطهير الّذي يكون لبعض المؤمنين، بقدر ذنوبهم.
و قيل:إن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:88] كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله.ي.
ص: 43
[130] فإن قيل:كيف قال: سَمِعْنا مُنادِياً [آل عمران:193]،و المسموع نداء المنادي لا نفس المنادي؟ قلنا:لما قال مناديا ينادي،صار تقديره:نداء مناد،كما يقال:سمعت زيدا يقول كذا،أي سمعت قول زيد،فمناديا مفعول سمع،و ينادي حال دالّة على محذوف مضاف للمفعول.
[131] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا [آل عمران:193]و تكفير السيئات داخل في غفران الذّنوب؟ قلنا:المعنى مختلف؛لأنّ الغفران مجرد فضل،و التكفير محو السيئات بالحسنات.
[132] فإن قيل:ما فائدة قولهم: وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ [آل عمران:193]؛مع أنّهم لا ينفعهم توفّيهم مع الأبرار؛بل النافع لهم كونهم من الأبرار؛سواء توفّاهم معهم،أو قبلهم،أو بعدهم؟ قلنا:معناه و توفّنا مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم،كما يقال:
أعطاني الأمير مع أصحاب الخلع و الجوائز،أي جعلني من جملتهم؛و إن تقدّم إعطاؤه عنهم أو تأخّر.
[133] فإن قيل:كيف قال: وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران:194]،أي على لسان رسلك.دعوه بإنجاز الوعد،مع علمهم،و قولهم،أيضا:إنه لا يخلف الميعاد؟ قلنا:الوعد من اللّه تعالى على ألسنة الرّسل للمؤمنين عامّ،يحتمل أن يراد به الخصوص،كما في أكثر عمومات القرآن؛فسألوا اللّه تعالى أن يجعلهم من الدّاخلين في حكم الوعد.
الثاني:أنهم سألوا تعجيل النصر الّذي وعدوا؛فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم،غير موقّت بوقت خاصّ.
[134] فإن قيل:كيف يجوز أن يغترّ الرسول بنعم الذين كفروا حتّى نهي عن الاغترار،بقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196]،أي تصرّفهم فيها بالتجارات متنعّمين؟ قلنا:معناه لا يغرنّكم أيّها المؤمنون،فإن رئيس القوم و مقدّمهم يخاطب بشيء، و المراد به أتباعه و جماعته.
الثاني:أنه عليه الصلاة و السلام كان غير مغترّ بحالهم؛فقيل له ذلك تأكيدا
ص: 44
و تثبيتا على الدّوام عليه،كما قيل له: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص:86] وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8].
[135] فإن قيل:كيف ينهى عن التّقلّب و هو ممّا ليس ينهى عنه؟ قلنا:معناه لا تغترّ بتقلّبهم،فيكون تقلّبهم قد غرّك،و هذا من تنزيل السبب منزلة المسبّب؛لأنّ تقلّبهم لو غرّه لاغترّ به،فمنع السبب،و هو غرور تقلبهم إياه، ليمتنع المسبّب،و هو اغتراره بتقلّبهم.
[136] فإن قيل:كيف قال: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:
196]؛و لم يقل لا يغرنك نعمهم و أموالهم؛و الذي يحتمل أن يغرّ الرّسول و المؤمنين النعم و الأموال لا التقلب في البلاد؟ قلنا:المراد بتقلّبهم تصرّفهم في التّجارات و النعم،و التّلذّذ بالأموال؛و الفقير إنّما يتألّم،و ينكسر قلبه،إذا رأى الغنيّ يتقلّب في النعمة،و يتمتع بها،فلذلك ذكر التقلّب.و قيل:معناه لا يغرنّك تقلّبهم في المعاصي،غير مأخوذين بذنوبهم.
[137] فإن قيل:كيف قال: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران:199]؛مع أنّ قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ موضع البشارة بالثّواب؛و سرعة الحساب إنّما تذكر في موضع التّهديد و العقاب؟ قلنا:معناه لا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا،خوفا من حسابه،فإنّه سريع الحساب؛فهو راجع إلى ما قبله.
ص: 45
[138] فإن قيل:قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء:1]إذا كانت حوّاء مخلوقة من آدم،و نحن مخلوقون منه أيضا،تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة الولد؛ لأنها متفرعة منه،فتكون أختا لنا لا أمّا.
قلنا:قال بعض المفسرين:«من»لبيان الجنس لا للتبعيض،معناه:و خلق من جنسها زوجها،كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:128] الثاني:و هو الّذي عليه الجمهور أنّها للتّبعيض؛و لكنّ خلق حوّاء من آدم لم يكن بطريق التوليد،كخلق الأولاد من الآباء؛فلا يلزم منه ثبوت البنتية و الأختية فيها.
[139] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء:4]،و اليتيم لا يعطى ماله حتّى يبلغ اتّفاقا؟ قلنا:المراد به إذا بلغوا؛و إنّما سمّوا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ،باعتبار ما كان،كما تسمّى الناقة عشراء بعد الوضع،و قد يسمّى البالغ يتيما باعتبار ما كان،كما يسمّى الحي ميتا و العنب خمرا،باعتبار ما يكون.قال اللّه تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].و قال: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:36].و منه قولهم للنّبيّ عليه الصلاة و السلام،بعد ما نبّأه اللّه:يتيم أبي طالب.
[140] فإن قيل:أكل مال اليتيم حرام وحده،و مع أموال الأوصياء؛فلم ورد النهي مخصوصا عن أكله معها،لقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء:2] أي معها؟ قلنا:لأنّ أكل مال اليتيم،مع الاستغناء عنه،أقبح؛فلذلك خصّ بالنّهي.
و لأنّهم كانوا يأكلونه،مع الاستغناء عنه.فجاء النهي على ما وقع منهم.
[141] فإن قيل:لمّا قال: مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ [النساء:7]،دخل
ص: 46
فيه القليل و الكثير؛فما فائدة قوله: مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ [النساء:7]؟ قلنا:إنما قال ذلك على جهة التأكيد و الإعلام أنّ كلّ تركة تجب قسمتها،لئلاّ يتهاون بالقليل من التّركات و يحتقر؛فلا يقسم،و ينفرد به بعض الورثة.
[142] فإن قيل:كيف قال: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ [النساء:11]؛مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟ قلنا:الآية وردت لبيان الفرض دون التّعصيب؛و ليس للأب مع البنت بالفرض إلاّ السدس.
[143] فإن قيل:كيف قطع على العاصي الخلود في النار بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [النساء:14]؟ قلنا:أراد به من يعص اللّه بردّ أحكامه و جحودها،و ذلك كفر؛و الكافر يستحق الخلود في النار.
[144] فإن قيل:كيف قال: حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ [النساء:15]و التّوفي و الموت بمعنى واحد؛فصار كأنّه قال:حتّى يميتهن الموت؟ قلنا:معناه حتّى يتوفّاهنّ ملائكة الموت.
الثّاني:معناه:حتّى يأخذهنّ ملائكة الموت،و تتوفّى أرواحهنّ.
[145] فإن قيل:كيف قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ [النساء:17]،و لم يقل:
إنّما التّوبة على العبد؛مع أنّ التّوبة واجبة على العبد؟ قلنا:معناه إنّما قبول التّوبة على اللّه بحذف المضاف.
الثاني:أنّ معنى التّوبة من اللّه رجوعه على العبد بالمغفرة و الرّحمة،لأنّ التّوبة في اللّغة الرّجوع.
[146] فإن قيل:كيف قال: بِجَهالَةٍ [النساء:17]،و لو عمله بغير جهالة،ثم تاب، قبلت توبته؟ قلنا:معناه بجهالة بقدر قبح المعصية و سوء عاقبتها،لا بكونها معصية و ذنبا، و كلّ عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية،معناه أنّه مسلوب كمال العلم به، بسبب غلبة الهوى،و تزيين الشّيطان.
[147] فإن قيل:كيف قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]،مع أنهم لو تابوا بعد الذّنب،من بعيد،قبلت توبتهم؟ قلنا:ليس المراد بالقريب مقابل البعيد إذ حكمهما واحد؛بل معناه قبل معاينة
ص: 47
سلطان الموت،كذا قاله ابن عباس،رضي اللّه عنهما،بقرينة قوله: حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18].
[148] فإن قيل:كيف قال: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء:20]الآية؛ مع أنّ حرمة الأخذ ثابتة،و إن لم يكن قد أعطاها المهر؛بل كان في ذمّته،أو في يده؟ قلنا:المراد بالإيتاء الضّمان و الالتزام،كما في قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة:233]أي ما غنمتم و التزمتم.
[149] ] (1)فإن قيل:كيف قال: أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً [النساء:20]،و أخذ مهر المرأة ظلم و ليس ببهتان؛لأنّ البهتان الكذب؟ قلنا:ابن عباس و ابن قتيبة قالا:المراد بالبهتان الظّلم.و قال الزّجّاج:المراد به الباطل.و المشهور في كتب اللّغة أنّ البهتان أن يقول الإنسان على غيره ما لم يفعله.
قالوا:فالمراد به أنّ الرّجل ربما رمى امرأته بتهمة ليتوصّل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها و يفارقها.و قيل:المراد به إنكاره أن لها مهرا في ذمّته.
[150] فإن قيل:كيف قال: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ، وَ لا تَنْكِحُوا [النساء:22]؛نهى عن الفعل المستقبل،و إلاّ ما قد سلف ماض،فكيف يصحّ استثناء الماضي من المستقبل؟ قلنا:قيل إنّ إلاّ،هنا بمعنى بعد،كما في قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:56].و قيل:هو استثناء من محذوف تقديره:فإنّكم تعذّبون به،إلاّ ما قد سلف.و قيل:فيه تقديم و تأخير،تقديره:إنّه كان فاحشة إلاّ ما قد سلف.
[151] (2) فإن قيل:كيف قال: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [النساء:22]بلفظ الماضي،مع أنّ نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال و في الاستقبال إلى يوم القيامة.
قلنا:كان تارة تستعمل للماضي المنقطع كقوله:كان زيد غنيّا،و كان الخزف3.
ص: 48
طينا،و تارة تستعمل للماضي المستمر المتّصل للحال،كقول أبي جندب الهذلي:
و كنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمّر حتّى ينصف الساق مئزري
أي و إنّي الآن،لأنّه إنّما يتمدح بصفة ثابتة له في الحال،لا بصفة زائلة ذاهبة.
و المضوفة بالفاء:الأمر الّذي يشفق منه،و القاف تصحيف.و منه قوله تعالى: وَ كانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وَ كانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الأحزاب:40،27].و ما أشبه ذلك.
و ما نحن فيه من هذا القبيل؛و سيأتي الكلام في كان،بعد هذا،إن شاء اللّه،في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء؛103].
[152] فإن قيل:كيف قال: وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]؛قيّد التّحريم بكون الرّبيبة في حجر زوج أمّها،و الحرمة ثابتة مطلقا،و إن لم تكن في حجره؟ قلنا:أخرج ذلك مخرج العادة،و الغالب لا مخرج الشّرط و القيد؛و لهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي الدّخول،في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]،فتأمل.
[153] فإن قيل:لمّا قال: مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]،ثم قال في آخر الآية: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:24]،علم من مجموع ذلك أنّ الرّبيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمّها؛فما فائدة قوله: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23].
قلنا:فائدته أن لا يتوهّم أن قيد الدّخول خرج مخرج العادة و الغالب لا مخرج الشّرط كما في الحجر.
[154] فإن قيل:كيف قال،في نكاح الإماء: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:23]؛و المهر ملك المولى؛و إنّما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟ قلنا:لمّا كانت الأمة و ما في يدها ملك المولى،كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى.
الثاني:أنّ معناه:و آتوا مواليهنّ أجورهنّ،بطريق حذف المضاف.
[155] فإن قيل:كيف قال: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]؛ و جوزا نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟ قلنا:فيه إضمار،تقديره:ذلك أصوب و أصلح لمن خشى العنت منكم.فيكون شرطا لما هو الأرشد و الأصلح،كما في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور:33].
ص: 49
[156] فإن قيل:كيف قال: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26]و الإرادة إنّما تقرن بأن يقال:يريد أن يفعل،و قال اللّه تعالى: يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]؟ قلنا:قد ورد في الكتاب العزيز اللاّم بمعنى أنّ كثيرا؛قال اللّه تعالى: وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15].و قال اللّه تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام:
71]،و قال تعالى،في موضع آخر: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصف:8]،فكذلك هذا.
[157] فإن قيل:كيف خصّ التّجارة بالذّكر،في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]؛مع أنّ الهبة،و الصدقة،و الوصيّة،و الضّيافة، و غيرها،تقتضي الحلّ أيضا،كالتجارة؟ قلنا:إنّما خصّها بالذّكر،لأنّ معظم تصرّف الخلق في الأموال إنّما هو بالتّجارة؛أو لأنّ أسباب الرّزق أكثرها متعلق بها.
[158] فإن قيل:قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء:42]،قالوا:معناه أنّهم يتمنون أن يجعلوا يوم القيامة ترابا،كما جاء في آخر سورة النبأ؛و ظاهر اللفظ يعطي أنّهم يتمنون أن تجعل الأرض مثلهم ناسا،كما تقول:سوّيت زيدا بعمرو، و معناه جعلت زيدا و هو المسوى مثل عمرو هو المسوى به.
قلنا:قولهم سويت هذا بهذا له معنيان:
أحدهما:إجراء حكم الثاني على الأوّل،كقولك سويت زيدا بعمرو؛و كما تقول ساويت.
و الثاني:أن يكون المسوى مفعولا و المسوى به آلة،كقولك:سويت القلم بسكين،و الثوب بالمقراض؛بمعنى أصلحته به.قلنا:فقوله: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء:42]يحتمل وجهين:أن يكون بمعنى ساويت و يكون من المقلوب،أي لو يسوون بالأرض بجعلهم ترابا،كقوله تعالى: لَتَنُوأُ [القصص:76]قوله:
وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة:6]؛في قول من لم يجعل الباء زائدة،كقولهم:
أدخلت الخاتم في إصبعي و نحوه،و أن يكون بمعنى الآلة.معناه:ودّوا لو تمهّد بهم الأرض و توطّد،بأن يجعلوا ترابا،و يبثوا في وهادها و حضيضها،لتساوي بقاعها و آكامها،و قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً [طه:107]،انخفاضا و لا ارتفاعا، و إن كان يدلّ على أنّ الأرض يوم القيامة متساوية السطوح،فجعلها متساوية السطوح إن كان قبل البعث،فإذا بعث الموتى من قبورهم خلت منهم قبورهم و حفرهم فحصل في الأرض تفاوت،و إن كان بعد البعث فيجوز أن يكون هذا التّمني سابقا على جعلها متساوية السطوح.
[159] فإن قيل:قولنا هذا خير من ذلك يقتضي أن يكون في كلّ واحد منهما
ص: 50
خير حتّى يصحّ تفضيل أحدهما على الآخر؛لأنّ خيرا،في الأصل،أفعل تفضيل؛ فكيف قال: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ [النساء:46]بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟ قلنا:المراد بالخير هاهنا الخير الّذي هو ضد الشرّ،لا الّذي هو أفعل التفضيل،كما تقول:في فلان خير.
[160] فإن قيل:كيف قال: وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً [النساء:47]،و المفعول مخلوق،و أمر اللّه و قوله غير مخلوق؟ قلنا:ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضدّ للنهي؛بل المراد به ما يحدث من الحوادث،فإن الحادثة تسمّى أيضا أمرا؛و منه قوله تعالى: لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق:1]،و قوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً [يونس:24].
[161] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]؛مع أنّ شرك الساهي و المكره و التّائب مغفور؟ قلنا:المراد به شرك غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج؛أو نقول قيد المشيئة متعلّق بالفعلين المنفي و المثبت،كأنه قال:إن اللّه لا يغفر الشّرك لمن يشاء،و يغفر ما دونه لمن يشاء.
[162] (1) فإن قيل:هذه الآية تدلّ على أنّ غير الشّرك من الذّنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته؛بل ترجى مغفرته،و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [النساء،168،169]،يدلّ على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر و الظلم و هما غير الشرك،فكيف الجمع بينهما؟ قلنا:المراد بالظّلم هنا الشرك،قال مقاتل:و الشّرك يسمّى ظلما؛قال اللّه تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]،فكأنه قال:إن الذين أشركوا.
الثاني:أو قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:48]،ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك،و هو تعليق للمغفرة له بالمشيئة؛ثمّ بيّن بالآية الأخرى أنّ الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له؛فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له؛لأنّه لا واسطة بينهما.
الثالث:أنّه عام خصّ بالآية الثانية،كما خصّ قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53]بالآية الأولى.و يؤيّد هذا إجماع الأمّة على أنّ الكافر و المشركخ.
ص: 51
سواء،في عدم المغفرة و التّخليد في النار،و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البينة:6].
[163] فإن قيل:كيف قال: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ [النساء:49]،ذمّهم على ذلك،و قال أيضا: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم:32]،و قد زكّى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم نفسه فقال:«و اللّه إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض».و يوسف،عليه السلام،قال: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ؟.
قلنا:إنّما قال ذلك حين قال المنافقون:اعدل في القسمة،تكذيبا لهم؛حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل و الأمانة.و أمّا يوسف،عليه السلام،فإنّه إنّما قال ذلك ليتوصّل به إلى ما هو وظيفة الأنبياء،و هو إقامة العدل و بسط الحقّ و إمضاء أحكام اللّه تعالى؛و لأنّه علم أنّه لا أحد،في ذلك الوقت،أقوم منه بذلك العمل؛ فكان متعيّنا عليه؛فلذلك طلبه و أثنى على نفسه.
و مع ذلك كله،فإنّه روي عن النبيّ،عليه الصلاة و السلام،أنّه قال:«رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض،لاستعمله من ساعته؛و لكنّه أخّر ذلك سنة».
[164] (1) فإن قيل:كيف قال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ [النساء:51]إلى أن قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ ،حصر لعنته فيهم؛لأن هذا الكلام للحصر؛و ليست لعنة اللّه منحصرة فيهم؛بل هي شاملة لجميع الكفّار.
قلنا:قوله: أُولئِكَ إشارة إلى القائلين: لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]؛و هذا القول موجود من جميع الكفّار،فكانت اللّعنة شاملة للجميع.
[165] (2) فإن قيل:كيف قال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوارف
ص: 52
اَلْعَذابَ [النساء:56]؛أخبر أنّه يعذّب جلودهم الّتي لم تعص،مكان الجلود العاصية،و تعذيب البريء ظلم؟ قلنا:الجلود المجددة و إن عذبت فالألم بتعذيبها إنّما يحصل للقلوب،و هي غير مجدّدة؛بل هي العاصية باعتقاد الشّرك و نحوه.
الثاني:أنّ المراد بتبديلها إعادة النضيج غير نضيج،و الجلود هي الجلود بعينها؛و إنّما قال غيرها باعتبار صفة النضيج و عدمه،كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ [إبراهيم:48]،و أراد تبديل الصفات،لا تبديل الذات،و كما قال الشاعر:
و ما الناس بالنّاس الّذين عهدتهم و ما الدّار بالدّار الّتي كنت أعهد
[166] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]،و ليس في الجنّة شمس،ليكون فيها حرّ يحتاج بسببه إلى ظلّ ظليل أو غير ظليل؟ قلنا:هو مجاز عن المستقرّ المستلذ المستطاب،جريا على المتعارف بين الناس؛لأنّ بلاد الحجاز شديدة الحرّ؛فأطيب ما عندهم موضع الظل؛فخاطبهم بما يعقلون و يفهمون،كما قال عزّ و جل: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا [مريم:62]و ليس في الجنّة طلوع شمس و لا غروبها،فيكون فيها بكرة و عشيا؛لكن،لما كان في عرفهم تمام نعمة الغذاء و كمال وظيفته أن يكون حاضرا مهيأ في طرفي النهار عبّر عن حضوره و تهيئته بذلك.
[167] فإن قيل:كيف قال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ [النساء:69]،و هذا مدح لمن يطيع اللّه و الرّسول،و عادة العرب في صفات المدح الترقّي من الأدنى إلى الأعلى،و هذا عكسه لأنّه نزول من الأعلى إلى الأدنى! قلنا:هذا ليس من الباب الذي ذكرتموه؛بل هو كلام المقصود منه الإخبار عن كون المطيعين للّه و رسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف و الخواص.ثمّ،كأنّ سائلا سأل،من الأشراف و الخواص،ففصّلوا له،زيادة في الفائدة،بعد تمام المعنى المقصود بالذّكر،بقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]؛و أتى في تفصيلهم بذكر الأشرف فالأشرف و الأخصّ فالأخص،إذ هو الغالب في تعديد الأشراف و الخواص،كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِيب!
ص: 53
اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]،و قوله: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [آل عمران:18]، الآية.و الدّليل على أنّ المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا،أنّه لمّا علّم عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6،7].
[168] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء:76]و قال، في كيد النساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]؛و معلوم أن كيد الشّيطان أعظم من كيد النسوان؟ قلنا:المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة اللّه و حفظه لأوليائه المخلصين من عباده،كما قال اللّه تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر:
42].و قال:حكاية عن إبليس: إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].و المراد بالآية الأخرى أنّ كيد النسوان عظيم بالنسبة إلى الرجال.
الثاني:القائل إنّ كيدكن عظيم هو عزيز مصر لا اللّه تعالى،فلا تناقض و لا معارضة.
[169] فإن قيل:كيف عاب على المشركين و المنافقين قولهم: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]و ردّ عليهم ذلك،بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [النساء:78]؛ثمّ قال،بعد ذلك: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]،و أخبره بعين قولهم المردود عليهم؟ قلنا:قيل إنّ الثّاني حكاية قولهم،أيضا؛و فيه إضمار،تقديره: فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78]فيقولون: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ [النساء:79]،الآية.
و قيل معناه:ما أصابك أيها الإنسان من حسنة،أي رخاء و نعمة،فمن فضل اللّه،و ما أصابك من سيّئة،أي قحط و شدّة،فبشؤم فعلك و معصيتك،لا بشؤم محمّد،عليه الصلاة و السلام،كما زعم المشركون.و يؤيّده قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
[170] فإن قيل:كيف قيل إنّ الشرّ و المعصية بإرادة اللّه،و اللّه تعالى يقول:
وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
قلنا:ليس المراد بالحسنة و السيئة الطاعة و المعصية؛بل القحط و الرّخاء، و النصر و الهزيمة،على ما اختلف فيه العلماء.أ لا ترى أنّه قال: ما أَصابَكَ ،و لم يقل ما عملت من سيّئة.
ص: 54
[171] فإن قيل:قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]؛السؤال فيه من وجهين:
أحدهما:أنّه يدلّ من حيث المفهوم على أنّ في القرآن اختلافا قليلا،و إلاّ لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة؛مع أنّه لا اختلاف فيه أصلا.
الثاني:أنّه إنّما يدلّ عدم الاختلاف الكثير،في القرآن،على أنّه من عند اللّه، أن لو كان كلّ كتاب من عند غير اللّه فيه اختلاف كثير؛و ليس الواقع كذلك؛لأنّ المراد من الاختلاف:إمّا الكذب و التباين في نظمه،و إما التناقض في معانيه،أو التفاوت بين بعضه و بعضه،من الجزالة و البلاغة و الحكمة و كثرة الفائدة.
قلنا:الجواب عن السؤال الأوّل:أنّ التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة،فكأنه قال:لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل؛لكنه من عند اللّه،فليس فيه اختلاف كثير و لا قليل،فكيف يكون من عند غير اللّه؟فهذا هو المقصود من التقييد بوصف الكثرة،لا أنّ القرآن مشتمل على اختلاف قليل.و عن السؤال الثاني:أنّ كلّ كتاب في فنّ من العلوم إذا كان من عند غير اللّه يوجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء؛و القرآن جامع لفنون من علوم شتّى؛فلو كان من عند غير اللّه لوجد فيه بالنسبة إلى كل فنّ اختلاف ما،فيصير مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا.
[172] فإن قيل:كيف قال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً [النساء:83]؛استثنى القليل،على تقدير انتفاء الفضل و الرّحمة؛مع أنّه لو لا فضله بالهداية و العصمة و رحمته لاتّبع الكلّ الشيطان،من غير استثناء؟ قلنا:الاستثناء راجع إلى ما تقدّم؛تقديره:أذاعوا به إلاّ قليلا.
و قيل:لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلاّ قليلا.
و قيل:معناه:و لو لا فضل اللّه عليكم بإرسال الرّسل لاتّبعتم الشّيطان،في الكفر و الضّلال،إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة اللّه تعالى و توحيده،كقسّ بن ساعدة،و ورقة بن نوفل،و نحوهما؛قبل بعث النبيّ عليه الصلاة و السلام.
[173] فإن قيل:على الجواب الأخير إذا كان المراد أنّ من لوازم نفي الفضل و الرّحمة بالطّريق الخاص،و هو بإرسال الرّسل،اتباع الشيطان،و نفي الفضل و الرّحمة بالطّريق الخاص معلوم حقّ في الرّسول؛لأنّه لم يرسل إليه رسول و مع هذا لم يتبع الشّيطان؟ قلنا:لا نسلم أنه لم يرسل إليه رسول،بل أرسل إليه الملك و أنّه رسول.
الثاني:التقييد في الفضل و الرّحمة بتعيين الطّريق يكون في حقّ الأمّة،أمّا في
ص: 55
حقّ الرّسل،و من آمن بغير رسول،يكون اللّفظ باقيا على ظاهره.
[174] فإن قيل:هذه الآية تقتضي وجود فضله و رحمته المانع من اتباع أكثر الناس للشيطان مع أنّ الواقع خلافه؛فإن أكثر الناس كفرة؛يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«الإسلام في الكفر كالشّعرة البيضاء في الثّور الأسود».
قلنا:الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لا لكلّ الناس.
[175] (1) فإن قيل:إذا كان الخطاب خاصّا للمؤمنين فما معنى الاستثناء؟فإنه إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه و يوسوس من المعاصي فأكثر المؤمنين متبعون له في ذلك،و لو في العمر مرّة واحدة في بعض الكبائر،و إن كان المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر فأحد من المؤمنين لم يتبعه في الكفر.
قلنا:معناه و لو لا فضل اللّه عليكم أيها المؤمنون و رحمته بالهداية بالرسول لاتبعتم الشيطان في الكفر و عبادة الأصنام و غير ذلك،إلاّ قليلا منكم،كقس بن ساعدة و ورقة بن نوفل و نحوهما،فإنهم لو لا الفضل و الرحمة بالرسول لما اتبعوا الشيطان؛لفضل و رحمة خصّهم اللّه تعالى بها غير إرسال الرسول،و هو زيادة الهداية و نور البصيرة.
[176] (2) فإن قيل:كيف قال: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً [النساء:87]؛مع أنّه لا تفاوت بين صدق و صدق في كونه صدقا،كما في القول و العلم لا يقال هذا القول أقول،و لا هذا العلم أعلم،و لا هذا الصدق أصدق؛لأنّ الصدق عبارة عن الإخبار المطابق للواقع؛و متى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة و النقصان؟ قلنا:أصدق هنا صفة للقائل لا صفة للقول،و القائلان يتفاوتان في الصدق في نفس الأمر و إن تساويا في قصة واحدة أخبرا بها و كان كل واحد منهما صادقا فيها.و حاصله أن هذا استفهام معناه النفي،كما في قوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:
135]معناه لا أحد يغفرها إلاّ اللّه،فمعناه هنا،لا أحد أصدق في حديثه من اللّه، فيكون ترجيحا للمحدّث على المحدّث في الصدق،لا ترجيحا لأحد الصدقين على الآخر،و لا شك أنه لا أحد أصدق في حديث من اللّه؛لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا،و يقع منه أيضا و لو نادرا،و اللّه تعالى منزه عن الأمرين جميعا.
[177] فإن قيل:قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها [النساء:91]يقال:م.
ص: 56
ركسه و أركسه،أي ردّه،فيصير معناه كلّما ردّوا إلى الفتنة ردّوا فيها و هو تكرار.
قلنا:جوابه أن الفاعل مختلف فانتفى التكرار و صار المعنى:كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردّهم اللّه إليه و قلبهم بشؤم نفاقهم،فالرد الأول بمعنى الدّعاء،و الركس بمعنى الرد و النكس.
[178] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً [النساء:92]؛مع أنه ليس له أن يقتله خطأ.
قلنا:إلا بمعنى و لا،كما في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ، و قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150].
الثاني:معناه أنه ليس له أن يقتله مع تيقن إيمانه؛بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن،و هو في صف المشركين،و إن كان في نفس الأمر مؤمنا.
[179] فإن قيل:كيف يقال إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار و اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء:93].
قلنا:معناه متعمدا قتله بسبب إيمانه،و الذي يفعل ذلك يكون كافرا.
الثاني:أن المراد بالخلود طول المكث،لأن الخلود إذا لم يكن بالأبدية يطلق على طول المكث،كما يقال:خلّد السلطان فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.
[180] فإن قيل:كيف قال: فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:95]،ثم قال: وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ [النساء:
95،96]؟ قلنا:المراد بالأوّل التفضيل على القاعدين عن الغزاة بعذر،فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة و العزيمة و القصد الصالح؛و لهذا قال: وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى [النساء:95]،يعني الجنة،أي من المجاهدين و القاعدين بعذر.و المراد بالثانيظ!
ص: 57
التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر،و أولئك لا فضل لهم؛بل هم مقصرون و مسيئون؛فظهر فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم؟ [181] فإن قيل:كيف صح قولهم: كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ [النساء:97]، جوابا لقول الملائكة؛ فِيمَ كُنْتُمْ ؛مع أنه ليس مطابقا للسؤال،و الجواب المطابق أن يقولوا كنّا في كذا،أو لم نكن في شيء؟ قلنا:معنى فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدّين؛حيث قدروا على المهاجرة و لم يهاجروا فصار قوله:فيم كنتم؟مجازا عن قوله لم تركتم الهجرة؟ فقالوا كنا مستضعفين،اعتذارا عما وبخوا به تعلّلا؛فردت عليهم الملائكة ذلك بقولهم: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء:97]،يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عليكم كنتم قادرين على الخروج من مكّة إلى بعض البلاد القريبة منكم التي تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام.
[182] فإن قيل:كيف قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ [النساء:100]،أي وجب، و العبد لا يستحق على مولاه أجرا؛لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قنّ؟ قلنا:معناه وجب من جهة أنه وعد عباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، و الخلف في وعده عز و جل محال،فالوجوب من هذه الجهة؛مع أن ذلك الوعد ابتداء فضل منه.
[183] فإن قيل:كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [النساء:101]الآية،و القصر جائز مع أمن المسافر؟ قلنا:خرج ذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط،و غالب أسفار رسول اللّه عليه الصلاة و السلام و أصحابه لم تخل من خوف العدو فصار نظير قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور:33].
الثاني:أنّ الكلام قد تم عند قوله تعالى: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ و قوله: إِنْ خِفْتُمْ كلام مستأنف،و جوابه محذوف تقديره:فاحتاطوا أو تأهبوا.
الثالث:أن المراد به القصر من شروطها و أركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع و السجود و النزول عن الدّابة و استقبال القبلة و نحو ذلك،لا من عدد الركعات، و ذلك القصر مشروط بالخوف.
[184] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]،و كان لفظ دال على المضيّ،و الصلاة في الحال و إلى يوم القيامة أيضا على المؤمنين فرض موقت؟
ص: 58
قلنا«كان»في القرآن العزيز على خمسة أوجه:
كان بمعنى الأزل و الأبد،كما في قوله تعالى: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].
و كان بمعنى المضيّ المنقطع،كما في قوله تعالى: وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل:48]،و هو الأصل في معاني كان،كما تقول:كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا و نحو ذلك.
و كان بمعنى الحال،كما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].
و كان بمعنى الاستقبال،كما في قوله تعالى: وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7].
و كان بمعنى صار،كما في قوله تعالى: وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ [ص:74]،أي صار.
[185] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء:104] و الكافرون أيضا يرجون الثواب في محاربة المؤمنين؛لأنهم يعتقدون أن دينهم حق، و أنهم ينصرون دين اللّه و يذبون عنه و يقاتلون أعداءه،كما يعتقد المؤمنون،فالرجاء مشترك؟ قلنا:قيل إن الرجاء هنا بمعنى الخوف،كما في قوله: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً [نوح:13]،و قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ [الجاثية:
14].و قول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
و على قول من قال إنه بمعنى الأمل،تقول:قد بشّر اللّه المؤمنين في القرآن و وعدهم بإظهار دينهم على الدّين كله؛و مثل هذه البشارة و الوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا.ل.
ص: 59
و قيل:الرّجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح و مقدّمات حقة،و الطمع ما يكون مستندا إلى خلاف ذلك؛فالرجاء للمؤمنين،و أما الكافرون فلهم طمع لا رجاء.
[186] (1) فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ،بعد قوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً [النساء:110]،و ظلم النفس من عمل السوء،فلم لم يقتصر على الأول؛مع أنّ الثاني داخل فيه؟ قلنا:«أو»بمعنى الواو،فمعناه و يظلم نفسه بذلك السوء حيث دسّاها بالمعصية.
و قيل:المراد بعمل السوء التلبس بما دون الشرك،و بظلم النفس الشرك.
و قيل:المراد بعمل السوء الذّنب المتعدّي ضرره إلى الغير،و بظلم النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله.
[187] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ [النساء:113]،ظاهره نفي وجود الهم منهم بإضلاله،و المنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله،و زادوا على الهمّ الذي هو القصد القول المضل أيضا.
يعرف ذلك من تفسير أول القصّة،و هو قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَ اسْتَغْفِرِ اللّهَ ؟[النساء:105].
قلنا:قوله لَهَمَّتْ ليس جواب«لو لا»بل هو كلام مقدّم على لو لا،و جوابها في التقدير مقول على طريق القسم،و جواب لو لا محذوف تقديره:لقد همت طائفة منهم أن يضلوك و لو لا فضل اللّه عليك و رحمته لأضلوك.
[188] (2) فإن قيل:النجوى فعل و من اسم،فكيف صح استثناء الاسم من الفعل في قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ [النساء:114]؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:إلا نجوى من أمر بصدقة،فيكون استثناء الفعل من الفعل،و نظيره قوله تعالى: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ [البقرة:177]تقديره:برّ من آمن باللّه.ل!
ص: 60
[189] فإن قيل:كيف قال: إِلاّ مَنْ أَمَرَ [النساء:114]،ثم قال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [النساء:114]؟ قلنا:ذكر الآمر بالخير ليدل به على خيرية الفاعل بالطريق الأولى،ثم ذكر الفاعل و وعده الأجر العظيم إظهارا لفضل الفاعل المؤتمر على الآمر.
الثاني:أنه أراد:و من يأمر بذلك،فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل،و إذا كان الآمر موعودا بالأجر العظيم كان الفاعل موعودا به بالطّريق الأولى.
[190] (1) فإن قيل:كيف قال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً [النساء:117]، أي ما يعبدون من دون اللّه إلاّ اللاّت و العزّى و مناة و نحوها،و هي مؤنثة،ثم قال:
وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً [النساء:117]،أي ما يعبدون إلاّ الشّيطان؟ قلنا:معناه أن عبادتهم للأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان،إمّا لأنّهم أطاعوا الشيطان فيما سوّل لهم و زيّن من عبادة الأصنام بالإغواء و الإضلال،أو لأنّ الشّيطان موكل بالأصنام يدعو الكفّار إلى عبادتها شفاها و يتزيّى للسدنة فيكلمهم ليضلّهم.
[191] فإن قيل:كيف يقال إن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد الإيمان،و اللّه تعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [النساء:57]و قوله: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]و إلا لما كان للتقييد فائدة؟ قلنا:قيل إن المراد بالعمل الصالح الإخلاص في الإيمان،و قيل:الثبات عليه إلى الموت،و كلاهما شرط في كون الإيمان سببا لدخول الجنة.
[192] فإن قيل:كيف قال:و مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123]و التائب المقبول التّوبة غير مجزيّ بعمله،و كذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة،لأنها مذهبة لها و ماحية بنص القرآن؟ قلنا:المراد من يعمل سوءا و يمت مصرا عليه،فإن تاب منه لم يجز به.
الثاني:أن المؤمن يجازى في الدّنيا بما يصيبه فيها من المرض و أنواع المصائب و المحن،كما جاء في الحديث؛و الكافر يجازى في الآخرة.
[193] فإن قيل:كيف خصّ المؤمنين الصالحين بأنّهم لا يظلمون بقوله:د.
ص: 61
وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ [النساء:124]الآية؛مع أن غيرهم لا يظلم،أيضا؟ قلنا:قوله: وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء:124]راجع إلى الفريقين عمال السوء و عمال الصالحات لسبق ذكر الفريقين.
الثاني:أن يكون من باب الإيجاز و الاختصار فاكتفى بذكره عقب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفريقين لدلالته على إضماره عقب ذكر الفريق الآخر،و لا يظلم المؤمنون بنقصان أعمالهم،و لا الكافرون بزيادة عقاب ذنوبهم.
الثالث:أن المراد بالظلم نفي نقصان ثواب الطاعات،و هذا مخصوص بالمؤمنين،لأن الكافرين ليس لهم على أعمالهم ثواب ينقص منه.
[194] فإن قيل:طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل حاصل،فكيف قال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [النساء:136]الآية؟ قلنا:معناه:يا أيها الذين آمنوا بعيسى آمنوا باللّه و رسوله محمد.و قيل:معناه:
يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق آمنوا الآن.و قيل معناه:يا أيها الذين آمنوا علانية آمنوا سرّا.
[195] فإن قيل:قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ [النساء:141]لم سمّى ظفر المؤمنين فتحا،و ظفر الكافرين نصيبا؟ قلنا:تعظيما لشأن المؤمنين و تحقيرا لحظ الكافرين؛لأنّ ظفر المسلمين أمر عظيم؛لأنه متضمن نصرة دين اللّه و عزة أهله؛تفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء اللّه،و ظفر الكافرين ليس إلا حظا دنيئا و عرضا من متاع الدنيا يصيبونه،و ليس بمتضمن شيئا مما ذكرنا.
[196] فإن قيل:كيف قال: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:
141]،و قد نصر الكافرين على المؤمنين يوم أحد،و في غيره أيضا،إلى يومنا هذا؟ قلنا:المراد به السبيل بالحجة و البرهان،و المؤمنون غالبون بالحجة دائما.
[197] فإن قيل:كيف كان المنافق أشد عذابا من الكافر؛حتّى قال اللّه تعالى، في حقهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ [النساء:145]؛مع أنّ المنافق أحسن حالا من الكافر،بدليل أنه معصوم الدم و غيره محكوم عليه بالكفر،و لهذا قال اللّه تعالى في حقهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ [النساء:143]فلم يجعلهم مؤمنين و لا كافرين؟ قلنا:المنافق و إن كان في الظّاهر أحسن حالا من الكافر،إلاّ أنه عند اللّه،في
ص: 62
الآخرة،أسوأ حالا منه،لأنه شاركه في الكفر،و زاد عليه الاستهزاء بالإسلام و أهله، و المخادعة للّه و للمؤمنين.
[198] (1) فإن قيل:الجهر بالسوء غير محبوب للّه تعالى أصلا؛بل المحبوب عنده العفو و الصفح و التجاوز فكيف قال: لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]أي إلا جهر من ظلم.
قلنا:معناه و لا جهر من ظلم،فإلاّ بمعنى و لا،و قد سبق نظيره و شاهده في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً [النساء:92].
[199] فإن قيل:كيف يجوز دخول«بين»على أحد في قوله تعالى: وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء:152]و بين تقتضي اثنين فصاعدا،يقال فرقت بين زيد و عمرو،و بين القوم،و لا يقال فرقت بين زيد؟ قلنا:قد سبق هذا السؤال و جوابه في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة:
68]في آخر سورة البقرة،أيضا.
[200] فإن قيل:ما فائدة إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ [النساء:156]بعد قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ [النساء:155]الآية.
قلنا:لأنه قد تكرر الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى و عيسى عليهما السلام،ثم بمحمد عليه الصلاة و السلام،فعطف بعض كفرهم على بعض.
[201] فإن قيل:اليهود كانوا كافرين بعيسى ابن مريم،عليه الصلاة و السلام، يسمونه الساحر ابن الساحرة،و الفاعل ابن الفاعلة؛فكيف أقرّوا أنّه رسول اللّه بقولهم: إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ [النساء:157]؟ قلنا:قالوه على طريق الاستهزاء،كما قال فرعون:إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
[202] فإن قيل:كيف وصفهم بالشك بقوله: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [النساء:157]،ثم وصفهم بالظّن بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء:157]م.
ص: 63
و الشك تساوي الطرفين،و الظن رجحان أحدهما؛فكيف يكونون شاكين ظانين؛ و كيف استثنى الظن من العلم،و ليس الظن فردا من أفراد العلم؛بل هو قسيمه؟ قلنا:استعمل الظن بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم؛ و أما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجنس،كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً [مريم:62].
و قيل:لأنّ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن،و استثناء الظن من العلم في الآية منقطع؛فإلاّ فيها بمعنى لكن،كما في قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً [الواقعة:25،26]،و ما أشبهه.
[203] فإن قيل:كيف يكون للنّاس على اللّه حجّة قبل الرّسل،و هم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته،حتى قال: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]؟ قلنا:الرسل و الكتب منبهة من الغفلة،و باعثة على النظر في أدلة العقل و مفصّلة لمجمل الدنيا و أحوال التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها،فكان إرسالهم إزاحة للعلة و تتميما لإلزام الحجة،لئلا يقولوا: لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً [طه:134] فيوقظنا من سنة الغفلة و ينبهنا لما وجب الانتباه له.
[204] فإن قيل:كيف قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]و لم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه و قدرته؛مع أن اللّه تعالى لا يفعل إلاّ عن علم و قدرة؟ قلنا:معناه أنزله متلبسا بعلمه:أي عالما به،أو و فيه علمه،أي معلومه أو معلمه من الشرائع و الأحكام.و قيل معناه:أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه.
[205] فإن قيل:كلام اللّه صفة قديمة قائمة بذاته،و عيسى عليه الصلاة و السلام مخلوق و حادث فكيف صح إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى: رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ [النساء:171].
قلنا:معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة اللّه تعالى،و هو قوله: «كُنْ» من غير واسطة أب،بخلاف غيره من البشر سوى آدم.و قيل:المراد بالكلمة الحجة.
[206] فإن قيل:على الوجه الأول،لو كان صحة إطلاق الكلمة على عيسى، صلوات اللّه على نبينا و عليه،لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم عليه الصلاة و السلام لأن هذا المعنى فيه أتم و أكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب و لا أم أيضا.
قلنا:لا نسلم أنه لا يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى،بل يصح.
ص: 64
[207] فإن قيل:لو صح إطلاقها عليه لجاء به القرآن كما جاء في حق عيسى عليه الصلاة و السلام؟ قلنا:خص ذلك بعيسى لأن المجيء في حقّ عيسى،عليه الصلاة و السلام، إنما كان للرد على من افترى عليه و على أمه و نسبه إلى أب؛و لم يوجد هذا المعنى في حقّ آدم،عليه الصلاة و السلام،لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب و لا إلى أم.
ص: 65
[208] فإن قيل:كيف الارتباط و المناسبة بين قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]و قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة:1]؟ قلنا:المراد بالعقود عهود اللّه عليهم في تحليل حلاله و تحريم حرامه،فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة:1]و قوله بعده: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]الآية.
[209] فإن قيل:ما أكله السبع و عدم و تعذر أكله،فكيف يحسن فيه التحريم حتى قال: وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ [آل عمران:5]؟ قلنا:معناه و ما أكل منه السبع،يعني الباقي بعد أكله.
[210] فإن قيل:قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]،يدل من حيث المفهوم عرفا على أنه لم يرض لهم الإسلام دينا قبل ذلك اليوم،و ليس كذلك،فإن الإسلام لم يزل دينا مرضيا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه عند اللّه منذ أرسله عليه الصلاة و السلام.
قلنا:قوله اليوم ظرف للجملتين الأوليين لا للجملة الثالثة؛لأن الواو الأولى للعطف،و الثانية للابتداء؛فالجملة الثالثة مطلقة غير موقتة.
[211] فإن قيل:قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة:4]كيف صلح جوابا لسؤالهم و الطيبات غير معلومة و لا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع و البقاع؟ قلنا:المراد بالطيبات هنا الذبائح،و العرب تسمي الذبيحة طيّبا و تسمي الميتة خبيثا،فصار المراد معلوما لكنه عام مخصوص كغيره من العمومات.
[212] (1) فإذا قيل:ما فائدة قوله: مُكَلِّبِينَ بعد قوله: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ [المائدة:4]و المكلّب هو المعلم من كلاب الصيد؟
ص: 66
قلنا:قد جاء في تفسير المكلّب أيضا أنه المضري للجارح و المغري له فعلى هذا لا يكون تكرارا،و على القول الأول يكون إنما عمم ثم خصص فقال مكلبين بعد قوله: وَ ما عَلَّمْتُمْ [المائدة:4]؛لأن غالب صيدهم كان بالكلاب،فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم.
[213] فإن قيل:ظاهر قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة:5] يقتضي إباحة الجوارح المعلمة و هي حرام.
قلنا:فيه إضمار و تقديره:مصيد ما علمت من الجوارح،يؤيده ما في تمام الكلام من قوله: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4].
[214] فإن قيل:المؤمن به هو اللّه لقوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ [البقرة:
136]فالمكفور به يكون هو اللّه أيضا،و يؤيده قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ [البقرة:28]و إذا ثبت هذا فكيف قال: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ [المائدة:5]مع أنه لا يصح أن يقال آمن بالإيمان فكذلك ضده؟ قلنا:المراد به:و من يرتد عن الإيمان يقال كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه،فكفر بمعنى ارتد؛لأن الردة نوع من الكفر،و الباء بمعنى عن،كما في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج:1]و قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59].
و قيل:المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر،كما في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة:96]،أي مصيده،و قولهم:ضرب الأمير، و نسج اليمن.
[215] فإن قيل:كيف قال: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]و لم يقل:و عملوا السيئات؛مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟ قلنا:كل أحد لا يخلو من سيئة صغيرة أو كبيرة،و إن كان ممن يعمل الصالحات و هي الطاعات،و المعنى:أن من آمن و عمل الحسنات غفرت له سيئاته.
قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود:114].
[216] فإن قيل:كيف قال في آخر قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة:12]الآية، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [المائدة:12]مع أن الذي كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل؟ قلنا:نعم و لكن الضلال بعد ما ذكر من النعم أقبح؛لأن قبح الكفر بقدر عظم النعم المكفورة،فلذلك خصه بالذكر.
ص: 67
[217] فإن قيل:كيف قال: وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى [المائدة:14] و لم يقل و من النصارى؟ قلنا:لأن هؤلاء كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى،و ذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة اللّه تعالى،و هم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار اللّه،ثم اختلفوا بعده نسطورية و يعقوبية و ملكانية أنصارا للشيطان،فقال ذلك توبيخا لهم.
[218] فإن قيل:كيف قال: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:5]مما كتمتموه من الكتاب فلا يظهره و لا يبين كتمانكم إياه،فكيف يجوز للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتبهم؟ قلنا:إنما لم يبين البعض لأنه كان يتبع الأمر و لا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه بل اتباعا للوحي،فما أمر ببيانه بينه،و ما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره ببيانه،و على هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازا عن الترك،فيكون قد أعلمه اللّه به و أطلعه عليه و لم يأمره ببيانه لهم فترك تبيانه لهم.
الثاني:أن ما كان في بيانه إظهار حكم شرعي كصفته و نعته و البشارة به و آية الرجم و نحوها بينه،و ما لم يكن في بيانه حكم شرعي و لكن فيه افتضاحهم و هتك أستارهم فإنه عفا عنه.
الثالث:أن عقد الذمة اقتضى تقريرهم على ما بدلوا و غيروا من دينهم،إلا ما كان في إظهاره معجزة له و تصديق لنبوته من نعته و صفته،أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم و تحاكموا إليه فيه كحكم الزنا و نحوه.
[219] فإن قيل:كيف قال: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ [المائدة:15،16]،مع أنّ العبد ما لم يهده اللّه أولا،لا يتبع رضوانه؛فيلزم الدور؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:يهدي به اللّه من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه،كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت:69]،أي و الذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا.
[220] فإن قيل:لم نر و لم نسمع أن قوما من اليهود و النصارى قالوا نحن أبناء اللّه فكيف أخبر اللّه تعالى عنهم بذلك؟ قلنا:المراد بقولهم أبناء اللّه خاصة اللّه،كما يقال أبناء الدنيا و أبناء الآخرة.
و قيل:فيه إضمار تقديره:أبناء أنبياء اللّه.
ص: 68
[221] فإن قيل:كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18]مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم،و يدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل،و ما يذنبون بالليل يغفر بالنهار.
قلنا:هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوما و هي مدة عبادتهم العجل،في غيبة موسى عليه السلام لميقات ربه؛و لذلك قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [البقرة:80].
و قيل:أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة كما فعل بأصحاب السبت،و خسف الأرض كما فعل بقارون،و هذا لا ينكرونه،و على هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [المائدة:18]و الإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم،كأنه قال:فلم عذب آباءكم.
[222] فإن قيل:قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [المائدة:18]إن أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود و النصارى،و يعذب من يشاء يلزم جواز المغفرة لهم و أنه غير جائز لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] و إن أريد به يغفر لمن يشاء من المؤمنين و يعذب من يشاء لا يصلح جوابا لقولهم.
قلنا:المراد به يغفر لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر.و قيل:يغفر لمن يشاء ممن خلق و هم المؤمنون،و يعذب من يشاء و هم المشركون.
[223] فإن قيل:كيف قيل: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة:20]و لم يكن قوم موسى عليه السلام ملوكا؟ قلنا:المراد جعل فيكم ملوكا،و هم ملوك بني إسرائيل،و هم اثنا عشر ملكا، لاثني عشر سبطا،لكل سبط ملك.
و قيل:المراد به أنه رزقهم الصحّة،و الكفاية،و الزوجة الموافقة،و الخادم، و البيت،فسماهم ملوكا لذلك.
و قيل:المراد به أنه رزقهم المنازل الواسعة التي فيها المياه الجارية.
[224] فإن قيل:من أين علم الرجلان أنهم الغالبون،حتى قالا: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [المائدة:23]؟ قلنا:من جهة وثوقهم بإخبار موسى صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك بقوله: اُدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [المائدة:21].
و قيل:علما ذلك بغلبة الظن،و ما عهداه من صنع اللّه تعالى بموسى عليه الصلاة و السلام في قهر أعدائه.
ص: 69
[224 م] فإن قيل:قوله تعالى: وَ عَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:
23]يدل على أن من لم يتوكل على اللّه لا يكون مؤمنا و إلا لضاع التعليق و ليس كذلك.
قلنا:«إن»هنا بمعنى إذ،فتكون بمعنى التعليل،كما في قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].
[225] فإن قيل:كيف التوفيق بين قوله تعالى: اُدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [المائدة:21]و بين قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26].
قلنا:معناه كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها،فلما أبوا الجهاد قيل:فإنها محرمة عليهم.
الثاني:أن كل واحد منهما عام أريد به الخاص،فالكتابة للبعض و هم المطيعون،و التحريم على البعض و هم العاصون.
الثالث:أن التحريم موقت بأربعين سنة و الكتابة غير موقتة،فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم.و هذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة و جعلها ظرفا؛فأمّا من جعل الأربعين ظرفا لقوله: يَتِيهُونَ [المائدة:26]مقدما عليه فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب؛لأن التقدير عنده:
فإنها محرمة عليهم أبدا،يتيهون في الأرض أربعين سنة؛و هو موضع قد اختلف فيه المفسرون،و الفرّاء من جملة من جوّز نصب الأربعين بمحرمة و يتيهون؛و الزّجّاج من جملة من منع جواز نصبه بمحرمة،و نقل أن التحريم كان مؤبدا،و أنّهم لم يدخلوها بعد الأربعين،و نقل غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقي منهم و ذرية من مات منهم.
و يعضد الوجه الأوّل كون الغالب في الاستعمال تقدّم الفعل على الظرف الذي هو عدد لا تأخّره عنه،يقال:سافر زيد أربعين يوما و ما أشبه ذلك،و قلما يقال على العكس.
[226] (1) فإن قيل:كيف قال: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [المائدة:27]و لم يقل قربانين؛ لأنّ كل واحد منهما قرّب قربانا؟4.
ص: 70
قلنا:أراد به الجنس فعبّر عنه بلفظ الفرد،كقوله تعالى: وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة:17].
الثاني:أن العرب تطلق الواحد و تريد الاثنين،و عليه جاء قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق:17].و قال الشاعر:
فإنّي و قيار بها لغريب
تقديره:فإني بها لغريب و قيار كذلك،كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصّابِئِينَ [البقرة:62]الآية.و قيل:إنما أفرده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد و المثنّى و المجموع.
[227] فإن قيل:كيف صلح قوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] جوابا لقوله: لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]؟ قلنا:لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له ذلك كناية عن حقيقة الجواب و تعريضا،معناه إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا منّي فلم تقتلني؟ [228] (1)فإن قيل:كيف قال هابيل لقابيل: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ [المائدة:29]،أي تنصرف بهما؛مع أن إرادة السوء و الوقوع في المعصية للأجنبي حرام،فكيف للأخ؟ قلنا:فيه إضمار حرف النفي تقديره:إنّي أريد أن لا تبوء بإثمي و إثمك،كما في قوله تعالى: وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النمل:15]،أي أن لا تميد بكم،و قوله تعالى: تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف:85]،و قول امرئ القيس:
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا
الثاني:أن فيه حذف مضاف تقديره:إني أريد انتفاء أن تبوء بإثمي و إثمك،كما في قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93]،أي حبّ العجل.
الثالث:أن معناه،إنّي أريد ذلك إن قتلتني لا مطلقا.
الرابع:أنه كان ظالما،و جزاء الظالم تحسن إرادته من اللّه تعالى فتحسن من العبد أيضا.2.
ص: 71
[229] (1) فإن قيل:قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ [المائدة:31]،يدل على أنّ قابيل كان تائبا،لقوله عليه الصلاة و السلام:«الندم توبة»؛فلا يستحق النار.
قلنا:لم يكن ندمه على قتل أخيه؛بل على حمله على عنقه سنة،أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلّمه من الغراب،أو على فقد أخيه لا على المعصية،و لو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه،و لكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعتهم، بل في شريعتنا،أو نقول:التّوبة تؤثر في حقوق اللّه تعالى لا في حقوق العباد،و الدّم من حقوق العباد،فلا تؤثر فيه التّوبة.
[230] (2) فإن قيل:كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل،و إحياء الواحد كإحياء الكل و الدليل يأباه من وجهين:
أحدهما:أن الجناية كلما تعددت و كثرت كانت أقبح فتناسب زيادة الإثم و العقوبة،هذا هو مقتضى العقل و الحكمة.
الثاني:أن المراد بهذا التشبيه إما أن يكون تساوي قتل الواحد و الكل في الإثم و العقوبة،أو تقاربهما،و إنما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثاني أو الثالث و هلم جرا أن لا يكون عليه إثم آخر،و لا يستحق عقوبة أخرى؛لأنه أثم إثم قتل الكل،و استحق عقوبة قتل الكل بمجرد قتل الأول،أو الأول و الثاني؛لأن قتل الواحد إذا كان يساوي قتل الكل أو يقاربه،فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل و عقوبة قتل الكل؛فكيف يزداد بعد ذلك بقتل الثالث و الرابع و هلم جرا،و لو قتل الكل لما ازداد عن قتل الكل و عقوبة قتل الكل،و لا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل،و بقتل الكل إثم قتل الكل! قلنا:أقرب ما قيل فيه أن المراد من قتل نفسا واحدة بغير حقّ كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن له ولي،و في الآخرة مطلقا،لأنهم من أب و أم واحدة.
و قيل:معناه من قتل نفسا نبيا و إماما عادلا فهو كمن قتل الناس جميعا من حيث إبطال المنفعة على الكل؛لأن منفعتهما عامة للكل.
و قيل:المراد بمن قتل هو قابيل،فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم قتل الكل؛لأنه أول من سن القتل؛فكل قتل يوجد بعده يلحقه شيء من وزره بغلبة التسبب،لقوله عليه الصلاة و السلام:«من سنّ سنّة حسنة»الحديث؛و هذا أحسن في المعنى؛و لكن اللفظ لا يساعد عليه،و هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما [المائدة:
32]؛لأنّ هذا المعنى إذا أريد به قابيل لا تختص كتابته ببني إسرائيل.4.
ص: 72
[231] فإن قيل:كيف وجه قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ [المائدة:33]الآية،و حقيقة المحاربة بين العبد و الرب ممتنعة؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:يحاربون أولياء اللّه.و قيل:أراد بالمحاربة المخالفة.
[232] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة:36]و لم يقل بهما،و المذكور شيئان؟ قلنا:قد سبق جواب مثله قبيل هذا في قوله: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً [المائدة:27]، و هنا جواب آخر و هو أن يكون وضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك،و ذلك يشار به إلى الواحد و الاثنين و الجمع.
[233] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]و حال النبي عليه الصلاة و السلام مع أهل الكتاب لا يخلو عن هذين القسمين؛لأنه إما أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟ قلنا:فائدته تخيير النبي،عليه الصلاة و السلام،بين الحكم بينهم و عدمه،ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه؛ و قيل:إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ [المائدة:
48]و هو القرآن يدل عليه أول الآية وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة:48]في الحكم بالتوراة.
[234] فإن قيل:لما أنزل اللّه القرآن صار الإنجيل منسوخا به،فكيف قال:
وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ [المائدة:47]؟ قلنا:هو عام مخصوص،أي ما أنزل اللّه فيه من صدق نبوة محمد،عليه الصلاة و السلام،بعلاماته المذكورة في الإنجيل،و ذلك غير منسوخ.
[235] فإن قيل:كيف قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة:49]؛مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟ قلنا:أراد به عقوبتهم في الدنيا،و هو ما عجله من إجلاء بني النضير و قيل بني قريظة و ذلك جزاء بعض ذنوبهم لأنه جزاء منقطع،و أما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا.
و قيل:أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن،و إنما أبهمه تفخيما له و تعظيما.
[236] فإن قيل:حسن حكم اللّه و صحته أمر ثابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين و غير الموقنين،فكيف قال: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]؟
ص: 73
قلنا:لما كان الموقنون أكثر انتفاعا به من غيرهم،بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير كانوا أخص به،فأضيف إليهم لذلك،و نظيره:قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات:45].
[237] فإن قيل:قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب و صادقهم كافرا و ليس كذلك لقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8]الآية.
قلنا:المراد بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ [المائدة:51]المنافقون،لأنها نزلت في شأنهم و هم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا و اعتقادا،و معناه أنه منهم في الآخرة جزاء و عقابه أشد.
[238] فإن قيل:كيف قال: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ [المائدة:51]،و كم من ظالم هداه اللّه تعالى فتاب و أقلع عن ظلمه؟ قلنا:معناه لا يهديهم ما داموا مقيمين على ظلمهم.
الثاني:أن معناه:لا يهدي من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا.
الثالث:أن معناه:لا يهدي القوم الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة،أي المشركين.
[239] فإن قيل:كيف قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54]و لم يقل أذلة للمؤمنين،و إنما يقال ذل له لا ذل عليه؟ قلنا:لأنه ضمن الذل معنى الحنوّ و العطف فعدّاه تعدّيته،كأنه قال:حانين على المؤمنين عاطفين عليهم.
[240] فإن قيل:كيف قال: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة:56]و كم مرة غلب حزب اللّه تعالى في زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و بعده إلى يومنا هذا؟ قلنا:المراد به الغلبة بالحجة و البرهان لا بالدولة و الصولة،و حزب اللّه هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا.
[241] فإن قيل:المثوبة مختصة بالإحسان،فكيف قال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ [المائدة:60]الآية؟ قلنا:لا نسلم أن الثواب و المثوبة مختص بالإحسان؛بل هو الجزاء مطلقا بدليل قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36]،أي هل جوزوا،و قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]و هو كلفظ البشارة لا اختصاص له
ص: 74
لغة بالخبر السار؛بل هو عام شامل للشر؛قال اللّه تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].
[242] فإن قيل:ما فائدة إرسال الكتاب و الرسول إلى أولئك الكثيرين الذين قال في حقهم: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً [المائدة:64]؟ قلنا:فائدته إلزام الحجة عليهم.
الثاني:تبجيل الكتاب و الرسول فإنّ الخطاب بالكتاب إذا كان عامّا،و الرّسول إذا كان مرسلا إلى الخلق كلهم،كان ذلك أفخم و أعظم للرسول و المرسل.
[243] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ [المائدة:66] الآية،يقتضي تعلق الرخاء و سعة الرزق بالإيمان بالكتاب و العمل بما فيه،و ليس كذلك،فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ممّا لم ينسخ،عيشهم في الدنيا منكد،و رزقهم مضيّق.
قلنا:هذا التعليق خاص في حقّ أهل الكتاب؛لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا: يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]فأخبرهم اللّه تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم و كفرهم،و اللّه تعالى يجعل ضيق الرزق و تقديره نعمة في حق بعض عباده،و نقمة في حقّ بعضهم و كذلك الرخاء و السعة فيعاقب بهما على المعصية،و يثيب بهما على الطاعة،و يختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص،فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام.و لا من تضييقه الإهانة و لا يلزم عكسه أيضا،و لهذا رد اللّه تعالى ذلك بقوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ [الفجر:15]إلى قوله تعالى:
كَلاّ [الفجر:17]،أي ليس الأمر كما ظن الإنسان و زعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة و تضييقه دليل الإهانة،بل دليل الكرامة هو الهداية و التوفيق للطاعات، و دليل الإهانة هو الإضلال و حرمة التوفيق.
[244] (1) فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة:67]و معلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلّغ الرسالة؟م.
ص: 75
قلنا:المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود و مثالبهم.فالمعنى بلغ الجميع،فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم و المخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل.
و قيل:أمر بتعجيل التبليغ كأنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه،إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه و حذرا؛مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال،فأمر بتعجيل التبليغ،يؤيد هذا القول قوله تعالى: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة:67].
[245] فإن قيل:كيف ضمن اللّه تعالى لرسوله العصمة بقوله: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة:67]ثم إنه شجّ وجهه يوم أحد و كسرت رباعيته؟ قلنا:المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى،فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة و السلام؛لأنهم جامعون مكارم الأخلاق و من أشرف مكارم الأخلاق تحمّل الأذى.
الثاني:أن هذه الآية نزلت بعد أحد؛لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن.
[246] فإن قيل:كيف قال: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة:270]؛مع أن بعض الظالمين و هم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟ قلنا:المراد بالظالمين هنا المشركون،يعلم ذلك من أول الآية و وسطها.
[247] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة:
77]،بعد قوله: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ [المائدة:77]؟ قلنا:المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الإنجيل،و بالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن.
[248] فإن قيل:قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:
79]و النهي عن المنكر بعد فعله و وقوعه لا معنى له؟ قلنا:فيه إضمار حذف مضاف تقديره:كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه،أو عن منكر أرادوا فعله،كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق و آلاته تسوّى و تهيّأ فينكر،و يجوز أن يريد بقوله: لا يَتَناهَوْنَ لا ينتهون و لا يمتنعون عن منكر فعلوه،بل يصرون عليه و يداومون،يقال:تناهى عن الأمر و انتهى عنه بمعنى واحد:أي امتنع عنه و تركه.
[249] فإن قيل:كيف قال: وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ [المائدة:81] و المراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين و كلهم فاسقون؟ قلنا:المراد به فسقهم بموالاة المشركين و دسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق، و ذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم،و هم المذكورون في أوّل الآية في قوله:
ص: 76
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ [المائدة:80]الآية لا شامل لجميعهم.
[250] فإن قيل:كيف قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة:90]و هذه الأعيان كلها مخلوقات للّه تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:إنما تعاطي الخمر و الميسر إلى آخره أو مباشرته إلخ.
[251] فإن قيل:مع هذا الإضمار كيف قال من عمل الشيطان،و تعاطي الخمر و القمار و نحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟ قلنا:إنما أضيف إلى الشيطان مجازا؛لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطته و وسوسته و تزيينه ذلك للفساق فصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من عملك.
[252] فإن قيل:كيف جمع الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام في الآية الأولى،ثم خص الخمر و الميسر في الآية الثانية؟ قلنا:لأن العداوة و البغضاء بين الناس تقع كثيرا بسبب الخمر و الميسر و كذلك يشتغلون بهما عن الطاعة،بخلاف الأنصاب و الأزلام فإن هذه المفاسد لا توجد فيها، و إن كانت فيها مفاسد أخر.
و قيل:إنما كرّر ذكر الخمر و الميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين؛بدليل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:94]و هم إنما يتعاطون الخمر و الميسر فقط،و إنما جمع الأربعة في الآية الأولى إعلاما للمؤمنين أن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية، و إنه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك باللّه تعالى بدعوى علم الغيب،و بين من شرب الخمر أو قامر مستحلا لهما.
[253] فإن قيل:كيف يحسن أن يفعل اللّه تعالى فعلا يتوسل به إلى تحصيل علم حتى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]؟ قلنا:معناه ليميز اللّه الخائف من غير الخائف عند الناس.و قيل:معناه ليعلم عباد اللّه من يخافه بالغيب و هو قريب من الأول.و قيل:معناه ليعلم الخوف واقعا كما علمه منتظرا.
[254] (1) فإن قيل:كيف قال: وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِس.
ص: 77
[المائدة:95]و وصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء،فإنه لو قتله ناسيا أو مخطئا وجب الجزاء أيضا؟ قلنا:عند ابن عباس و جماعة من الصحابة و التابعين رضي اللّه عنهم وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء،فلا يرد عليهم السؤال،و أما على قول الجمهور فإنما قيده بوصف العمدية؛لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية كانت عمدا على ما يروى عن الصحابة أنه اعترض حمار وحش بالحديبية و هم محرمون،فطعنه أبو اليسر برمحه فقطعه فنزلت الآية،فخرج وصف العمدية مخرج الواقع لا مخرج الشرط.
و قال الزهري:نزل الكتاب بالعمد،و وردت السنة بالوجوب في الخطأ.
[255] فإن قيل:كيف قال: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]؛مع أن الشرط بلوغه إلى الحرم لا غير؟ قلنا:لما كان المقصود من بلوغ الهدي إلى الحرم تعظيم الكعبة ذكر الكعبة تنبيها على ذلك.و قيل:معناه بالغ حرم الكعبة.
[256] فإن قيل:قوله تعالى: *جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]أي دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم اللّه تعالى بما في السموات و ما في الأرض و أنه بكل شيء عليم؟ قلنا:ذلك إشارة إلى كل ما سبق ذكره من الغيوب في هذه السورة من أحوال الأنبياء و المنافقين و اليهود لا إلى المذكور في هذه الآية:
الثاني:أن العرب كانت تسفك الدماء و تنهب الأموال،فإذا دخل الشهر الحرام أو دخلوا إلى البلد الحرام كفوا عن ذلك،فعلم اللّه تعالى أنه لو لم يجعل لهم زمانا أو مكانا يقتضي كفهم عن القتل و نهب الأموال لهلكوا،فظهرت المناسبة.
[257] (1) فإن قيل:كيف قال: ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ [المائدة:103]و الجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف:ب.
ص: 78
189]و قوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام:1]و خالق هذه الأشياء هو اللّه تعالى؟ قلنا:المراد بالجعل هنا الإيجاب و الأمر:أي ما أوجبها و لا أمر بها.و قيل:
المراد بالجعل التحريم.
[258] فإن قيل:قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] يدل على عدم وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هما واجبان؟ قلنا:معنى قوله أنفسكم:أي أهل دينكم كما قال تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:29]أي أهل دينكم.
و قيل:المراد به آخر الزمان عند فساد الزمان و تعذر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو زماننا هذا.
[259] فإن قيل:كيف يقول الرسل لا عِلْمَ لَنا [المائدة:109]إذا قال اللّه تعالى لهم: ما ذا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]و هم عالمون بما ذا أجيبوا؟ قلنا:هذا جواب الدهشة و الحيرة حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم نعوذ باللّه تعالى منها،و مثله لا يفيد نفي العلم و لا إثباته.
الثاني:أنهم قالوا ذلك تعريضا بالتشكي من قومهم و إظهارا للالتجاء إلى اللّه تعالى في الانتقام منهم،كأنهم قالوا:أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق و التكذيب.
الثالث:معناه:لا علم لنا بحقيقة ما أجابونا به؛لأنا نعلم ظاهره و أنت تعلم ظاهره و مضمره،و يؤيده ما بعده.
[260] فإن قيل:أيّ معجزة لعيسى صلّى اللّه عليه و سلّم في تكليم الناس كهلا حتى قال:
تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً [المائدة:110]؟ قلنا:قد سبق جوابه في سورة آل عمران مستقصى.
[261] فإن قيل:كيف قال الحواريون هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة:112]شكوا في قدرة اللّه تعالى على بعض الممكنات و ذلك كفر، و وصفوه بالاستطاعة و ذلك تشبيه؛لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح،و الحواريون خلص أتباع عيسى عليه السلام و المؤمنون به بدليل قوله تعالى حكاية عنهم قالُوا آمَنّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة:111].
قلنا:هذا استفهام عن الفعل لا عن القدرة،كما يقول الفقير للغني القادر:هل تقدر أن تعطيني شيئا،و هذا يسمى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة،أو المعنى:
ص: 79
هل يسهل عليك أن تسأل ربك؟كقولك لآخر:هل تستطيع أن تقوم معي؟و أنت تعلم استطاعته لذلك.
[262] فإن قيل:لو كان المراد هذا المعنى فلم أنكر عليهم عيسى عليه السلام بقوله: قالَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:112]؟ قلنا:إنكاره عليهم إنما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته و إن كانوا لم يريدوه.
[263] فإن قيل:كيف قال عيسى عليه السلام وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة:
116]و كل ذي نفس فهو ذو جسم؛لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير،و اللّه تعالى منزه عن الجسم؟ قلنا:النفس تطلق على معنيين:أحدهما هذا و الثاني حقيقة الشيء و ذاته،كما يقال:نفس الذهب و الفضة محبوبة،أي ذاتهما،و المراد به في الآية ثانيا هذا المعنى.
[264] فإن قيل:كيف قال عيسى عليه السلام: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117]الآية،مع أنه قال لهم كثيرا من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟ قلنا:معناه ما قلت لهم فيما يتعلق بالإله.
[265] فإن قيل:إذا كان عيسى لم يمت و إنما هو حي في السماء فكيف قال فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي [المائدة:117]؟ قلنا:أراد بالتوفّي إتمام مدة إقامته في الأرض،و إتمامه قد سبق في قوله تعالى:
إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]و السؤال إنما يتوجه على قول من قال:إن السؤال و الجواب و جدا يوم رفعه إلى السماء،و أما من قال:إن السؤال إنما يكون يوم القيامة،و عليه الجمهور،فالجواب مطابق و لا إشكال فيه.
[266] فإن قيل:لو قال عيسى عليه السلام:إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم،و إن تغفر لهم فإنهم عبادك،كان أظهر مناسبة؟ قلنا:معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك،و تصرف المالك المطلق الحقيقي في عبيده مباح:أي تصرف كان،و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم الذي لا ينقص من عزه شيء بترك العقوبة و الانتقام ممن عصاه،الحكيم في كل ما يفعله من العذاب أو المغفرة.
[267] فإن قيل:كيف قال: يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]يعني يوم القيامة،و الصدق نافع في الدنيا و الآخرة،و لفظ الآية في قوة الحصر؟ قلنا:لما كان نفع الصدق في الآخرة هو الفوز بالجنة و النجاة من النار و نفعه في
ص: 80
الدنيا دون ذلك،كان كالعدم بالنسبة إلى نفعه في الآخرة فلم يقيد به في مقابلته.
[268] (1) فإن قيل:قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]إن أراد به صدقهم في الآخرة فالآخرة ليست بدار عمل،و إن أراد به صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه،و هو الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلنا:أراد به الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم و آخرتهم و عن قتادة رحمه اللّه:متكلمان صدقا يوم القيامة،فنفع أحدهما صدقه دون الآخر:أحدهما إبليس قال: إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم:22]الآية،و صدق يومئذ فلم ينفعه صدقه؛لأنه كان كاذبا قبل ذلك.و الآخر عيسى عليه السلام كان صادقا في الدنيا و الآخرة فنفعه صدقه.
[269] فإن قيل:ما في السموات و الأرض العقلاء و غيرهم،فهلاّ غلّب العقلاء فقال:للّه ملك السموات و الأرض و من فيهن؟ قلنا:لأن كلمة«ما»تتناول الأجناس كلها تناولا عامّا بأصل الوضع و«من»لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع،فكان استعمالا«ما»في هذا الموضع أوفى.ر.
ص: 81
[270] فإن قيل:كيف جمع الظلمة دون النور في قوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام:1]؟ قلنا:ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه،كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [الأنعام:1].
الثاني:أن الظلمة اسم و النور مصدر،نقله المفضل،و المصادر لا تجمع.
[271] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ جَهْرَكُمْ [الأنعام:3]بعد قوله:
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام:3]و معلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟ قلنا:إنما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]في بعض الوجوه.
[272] فإن قيل:كيف خص السكون بالذكر دون الحركة في قوله: وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ [الأنعام:13]على قول من فسره بما يقابل الحركة؟ قلنا:لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان و الجماد،و لأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا من المتحرك،أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون من غير عكس،أو لأن السكون هو الأصل و الحركة حادثة عليه و طارئة.و قيل:فيه إضمار تقديره:ما سكن و تحرك فاكتفى بأحدهما اختصار لدلالته على مقابله،كما في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]أي و البرد.
[273] فإن قيل:كيف قال: وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [الأنعام:14]و لم يقل و هو ينعم و لا ينعم عليه،و هذا أعم لتناوله الإطعام و غيره؟ قلنا:لأن الحاجة إلى الرزق أمس فخص بالذكر.
و الثاني:أن كون المطعم آكلا متغوطا أقبح من كونه منعما عليه،فلذلك ذكره.
[274] (1) فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّهُ [الأنعام:19]يقتضي
ص: 82
أن يسمى اللّه تعالى شيئا،و لو صح ذلك لصح نداؤه به كالحي القيوم و نحوهما؟.
قلنا:صحة ندائه تعالى مخصوصة بما يدل على المدح و صفة الكمال كالحي و القيوم و نحوهما،لا بكل ما يصح إطلاقه عليه؛أ لا ترى أن الموجود و الثابت يصح إطلاقه عليه سبحانه و تعالى لا يصح نداؤه به؟كذا ذكروا.
[275] فإن قيل:استشهاد المدعي باللّه لا يكفي في صحة دعواه و ثبوتها شرعا حتى لو قال المدعى اللّه شاهدي لا يكفي هذا،فكيف صح ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حيث قال: قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ [الأنعام:19]؟ قلنا:إنما لم يصح ذلك من غير النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لأنه لا يقدر على إقامة الدليل على أن اللّه تعالى يشهد له،و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أقام الدليل على ذلك بقوله: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ [الأنعام:19]لأنه معجز.
[276] فإن قيل:في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور،و قد بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات:9،10]؟ قلنا:المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه و بما يضره لعدم التمييز بسبب الحيرة و الدهشة،كحال المبتلى المعذب في الدنيا يكذب على نفسه و على غيره،و يتكلم بما يضره،أ لا تراهم يقولون ربنا أخرجنا منها و قد أيقنوا بالخلود فيها،و قالوا: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف:77]و قد علموا أنه لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر:36].
[277] فإن قيل:كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله تعالى: وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء:42]؟ قلنا:القيامة مواقف مختلفة؛ففي بعضها لا يكتمون،و في بعضها يحلفون كاذبين،كما قال عزّ و جلّ: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]و قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:39]و قيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم، وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء:42]يكون بعد شهادتها عليهم.
[278] فإن قيل:كيف قال: وَ لَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]و هو خير لغير المتقين أيضا كالأطفال و المجانين؟ قلنا:إنما خصهم بالذكر لأنهم الأصل فيها من حيث أن درجتهم أعلى و غيرهم تبع لهم.
ص: 83
[279] (1) فإن قيل:كيف قال لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام:35] فخاطبه بأفحش الخطابين،و قال لنوح عليه السلام: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود:46]فخاطبه بألين الخطابين مع أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أعظم رتبة و أعلى منزلة منه؟ قلنا:لأن نوحا عليه الصلاة و السلام كان معذورا في جهله بمطلوبه؛لأنه تمسك بوعد اللّه تعالى في إنجاء أهله،و ظن أن ابنه من أهله.و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم ما كان معذورا؛لأنه كبر عليه كفرهم؛مع علمه أن كفرهم و إيمانهم بمشيئة اللّه تعالى،و أنهم لا يهتدون إلا أن يديهم اللّه.
[280] فإن قيل:إذا بعث اللّه تعالى الموتى من قبورهم فقد رجعوا إلى اللّه بالحياة بعد الموت،فما فائدة قوله تعالى: وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:
36]؟ قلنا:المراد به وقوفهم بين يديه للحساب و الجزاء،و ذلك غير البعث و هو إحياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه.
[281] فإن قيل:قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام:37]لو صح من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم هذا الجواب لصح لكل من ادعى النبوّة و طولب بآية أن يقول إن اللّه قادر على أن ينزل آية؟ قلنا:إذا ثبتت نبوته بما شاء اللّه من المعجزة يصح له أن يقول ذلك،بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته،و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان قد ثبتت نبوته بالقرآن و انشقاق القمر و غيرهما.
[282] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الأنعام:38] و الدابة لا تكون إلا في الأرض؛لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض؛ و ما فائدة وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام:38]و الطير لا يكون إلا بالجناح؟ قلنا:فيه فوائد:
الأولى:للتأكيد كقولهم:هذه نعجة أنثى،و قولهم كلمته بلساني،و مشيت إليه برجلي،و كما قال اللّه تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]و قال تعالى:
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11].م.
ص: 84
الثانية:نفي توهم المجاز فإنه يقال:طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه،و طار الفرس إذا أسرع الجري.
الثالثة:زيادة التعميم و الإحاطة،كأنه قال جميع الدواب الدابة و جميع الطيور الطائرة.
[283] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ [الأنعام:40]إلى أن قال: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ [الأنعام:41]و من جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة و هو لا يكشف عن المشركين؟ قلنا:لم يخبر عن الكشف مطلقا؛بل مقيدا بشرط المشيئة و عذاب الساعة لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه.
[284] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]،كيف ذكر القول في الجملة الأولى و الثالثة و ترك ذكره في الجملة الثانية؟ قلنا:لما كان الإخبار بالغيب كثيرا مما يدّعيه البشر،كالكهنة و المنجمين و واضعي الملاحم،ثم إن كثيرا من الجهال يعتقدون صحة أقاويلهم و يعملون بمقتضى أخبارهم بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الإلهية و الملكية،فإن انتفاءهما عنه و عن غيره من البشر ظاهر فاكتفى في نفيهما بنفي القول،إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر و لا في زعم الناس،بخلاف علم الغيب فافترقا، و المراد بقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللّهِ [الأنعام:50]أي لا أدعي الإلهية، كذا قاله بعض المفسرين.
[285] فإن قيل:قوله تعالى: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]كيف ذكر سبيل المجرمين و لم يذكر سبيل المؤمنين و كلاهما محتاج إلى بيانه؟ قلنا:لأنه إذا ظهر سبيل المجرمين ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة إذ السبيل سبيلان لا غير.
[286] فإن قيل:كيف قال: وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [المائدة:60]أي ما كسبتم،و هو يعلم ما جرحوا ليلا و نهارا؟ قلنا:لأن الكسب أكثر ما يكون بالنّهار لأنه زمان حركة الإنسان،و الليل زمان سكونه لقوله تعالى: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:
72]بعد قوله: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [القصص:72].
[287] فإن قيل:كيف قال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام:62]يعني
ص: 85
مولى جميع الخلائق.و قال،في موضع آخر: وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد:11].
قلنا:المولى الأول بمعنى المالك أو الخالق أو المعبود،و المولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي بينهما.
[288] فإن قيل:كيف خص كون قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ [الأنعام:73]بيوم القيامة،فقال: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]؛مع أن قوله الحق في كل وقت و له الملك في كل زمان؟ قلنا:لأن ذلك اليوم ليس لغيره فيه ملك بوجه من الوجوه،و في الدنيا لغيره ملك خلافة عنه أو هبة منه و إنعاما بدليل قوله تعالى في حقّ داود عليه السلام:
وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ [البقرة:251]و قوله: وَ اللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ [البقرة:247]و قوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد،و لا يشك فيه شاكّ من أهل العناد،لانكشاف الغطاء فيه للكل،و انقطاع الدعاوى و الخصومات، و نظيره قوله تعالى: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ [الانفطار:19]و إن كان الأمر له في كل زمان،و كذا قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ [289] فإن قيل:كيف قال تعالى في معرض الامتنان: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ [الأنعام:84]و لم يذكر إسماعيل؛مع أنه كان هو الابن الأكبر؟ قلنا:لأن إسحاق وهب له من حرة و إسماعيل من أمة،و إسحاق وهب له من عجوز عقيم؛فكانت المنّة فيه أظهر.
[290] فإن قيل:كيف قال في وصف القرآن: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الأنعام:92]و كثير ممن يؤمن بالآخرة من اليهود و النصارى و غيرهم لا يؤمن به؟ قلنا:معناه و الذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله لما بشر به موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام،أو اتباعا له بعد إنزاله و الأمر كذلك،فإنّ من لم يصدق موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام في بشارتهما بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بالقرآن أو كان بعد بعثه و لم يؤمن به فإيمانه بالآخرة غير معتدّ به و لا معتبر.
[291] فإن قيل:كيف أفرد قوله تعالى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الأنعام:93]بالذكر بعد قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً [الأنعام:21]و ذلك أيضا افتراء؟ قلنا:لأن الأول عام و الثاني خاص،و المقصود الإنكار فيهما،و لا يلزم من وجود العام وجود الخاص،و لكن يلزم من الذم على العام و إنكاره الذم على الخاص و إنكاره لا محالة،و ما نحن فيه من هذا القبيل.و الجواب المحقق أن يقال:إن هذا
ص: 86
الخاص لما كان مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه و الإثم.
[292] فإن قيل:قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [الأنعام:101]الآية، ما فائدة قوله: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102]بعد قوله: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام:101]؟ قلنا:ذكره أولا استدلالا به على نفي الولد،ثم ذكره ثانيا توطئة و تمهيدا لقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ [المائدة:201]فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة و الطاعة،فكانت الإعادة لفائدة جديدة.
[293] فإن قيل:في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام:103]كيف خص الأبصار بإدراكه لها و لم يقل و هو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟ قلنا:لوجهين:
أحدهما:مراعاة المقابلة اللفظية فإنه نوع من البلاغة.
الثاني:أن هذه الصفة خاصة بينه و بين الأبصار أنه يدركها،بمعنى الإحاطة بها و هي لا تدركه،فأما غيره مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا،فلهذا خصّها بالذّكر.
[294] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]و لم يقل و هو الذي أنزل إليّ؛مع أن اللّه تعالى قال: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة:8].
قلنا:لما كان إنزاله إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ليبلغه إلى الخلق،و يهديهم به،كان في الحقيقة منزلا إليهم،لكن بواسطة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فصلح إضافة الإنزال إليه و إليهم.
[295] فإن قيل:في قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ [الأنعام:118]كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها، و الكون من المؤمنين حاصل و إن لم تؤكل الذّبيحة أصلا؟ قلنا:المراد اعتقاد الحل لا نفس الأكل؛فإن بعض من كان يعتقد حلّ الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة.
[296] فإن قيل:كيف أبهم فاعل التزيين هنا،فقال: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122]و قال في آية أخرى زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل:4]، و قال في آية أخرى وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل:24]فمن هو مزين الأعمال للكفار في الحقيقة؟
ص: 87
قلنا:التزيين من الشّيطان بالإغواء و الإضلال و الوسوسة و إيراد الشبه،و من اللّه تعالى بخلق جميع ذلك فصحت الإضافتان.
[297] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]،و الرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟ قلنا:المراد برسل الجنّ هم الذين سمعوا القرآن من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ثم ولّوا إلى قومهم منذرين،كما قال تعالى: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29]الآية.
الثاني:أنه كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ [الرحمن:22]و المراد من أحدهما؛لأنه إنما يخرج من الملح.
و الثالث:أنّه بعث إليهم رسل منهم،قاله الضّحّاك و مقاتل.
[298] فإن قيل:كيف ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ [الأنعام:130]الآية،و المعنى فيهما واحد؟ قلنا:المعنى المشهود به متعدد و إن كان في الشهادة واحدا،إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل و إنذارهم،و في الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر و هما متغايران.
[299] فإن قيل:كيف أقروا في هذه الآية بالكفر و شهدوا على أنفسهم به و جحدوه في قولهم: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].
قلنا:مواقف القيامة و مواطنها مختلفة،ففي بعضها يقرون و في بعضها يجحدون،أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حين يختم على أفواههم كما قال تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65].
[300] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:140]و السفه لا يكون إلا عن جهل؟ قلنا:معنى قوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ بغير حجة.
و قيل:بغير علم بمقدار قبحه،و مقدار العقوبة فيه؛و على الوجهين لا يكون مستفادا من الأوّل.
[301] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140] بعد قوله: قَدْ ضَلُّوا [الأنعام:140]؟ر.
ص: 88
قلنا:فائدته الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى،فإن من الناس من يضل ثم يهتدي بعد ضلاله.
[302] (1) فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: إِذا أَثْمَرَ [الأنعام:141]بعد قوله:
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الأنعام:141]و معلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟ قلنا:فائدته نفي توهم توقف الإباحة على الإدراك و النضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر.
[303] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ [الأنعام:145]الآية، و في القرآن تحريم أكل الربا و مال اليتيم و مال الغير بالباطل و غير ذلك؟ قلنا:محرما مما كانوا يحرمونه في الجاهلية،و قيل:مما كانوا يستحلون فيها.
[304] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ [الأنعام:147]و الموضع موضع العقوبة،فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة و نحو ذلك؟ قلنا:إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته،و ذلك أبلغ في التهديد معناه:لا تغتروا بسعة رحمته،فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم.
و قيل معناه:فقل ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين،و لا يرد عذابه عن العاصين.
[305] فإن قيل:كيف قال: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:
151]،ثم فسره بعشرة أحكام،خمسة منها واجبة،و التّلاوة وصف للفظ لا للمعنى كيلا يقال أضدادها محرمة؟ قلنا:قوله: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم و تلا غيره أيضا.
الثاني:أن فيه إضمارا تقديره:أتل ما حرم ربكم عليكم و أوجب.
[306] فإن قيل:كيف خص مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن و مال البالغ أيضا كذلك؟ قلنا:إنما خصه بالنهي لأن طمع الطامعين فيه أكثر لضعف مالكه و عجزه و قلة الحافظين له و الناصرين،بخلاف مال البالغ...
ص: 89
الثاني:أن التخصيص لمجموع الحكمين و هما النهي عن قربانه بغير الأحسن، و وجوب قربانه بالأحسن،أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه؛و مجموع الحكمين مختص بمال اليتيم،و هذا هو الجواب عن كونه مغيّا ببلوغ الأشد؛لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم الثاني.و قيل إن الغاية لمحذوف تقديره:
حتّى يبلغ فسلموه إليه.
[307] فإن قيل:كيف خص العدل بالقول فقال: وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:
152]و لم يقل:و إذا فعلتم فاعدلوا،و الحاجة إلى العدل في الفعل أمس؛لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلي أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟ قلنا:إنما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء:23]و لم يقل:و لا تشتمهما و لا تضربهما لما قلنا.
[308] فإن قيل:كيف الجمع بين قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام:164]و بين قوله: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت:13]، و قوله: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]و قد جاء في الحديث المشهور:«من عمل سيّئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
قلنا:المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبب لتحقيق إضافته إلى غيرها على الكمال،أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره.
و قيل معناه:لا تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:ارجع إلى ديننا و نحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك.و قول الذين كفروا للذين آمنوا:
اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت:12]إلى قوله تعالى: عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]و معنى باقي النّصوص أنّنا نحمله كرها فلا تنافي بينهما.
ص: 90
[309] فإن قيل:النهي في قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2]متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلنا:هو من باب قولهم لا أرينك هنا،معناه:لا تقم هنا فإنك إن أقمت رأيتك،فمعنى الآية،فكن على يقين منه و لا تشك فيه؛لأن المراد بالحرج الشك.
[310] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف:4] و الإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس و هو العذاب؟ قلنا:معناه أردنا إهلاكها كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]و قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ [النحل:98].
[311] فإن قيل:ميزان القيامة واحد فكيف قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الأعراف:8،9]؟ قلنا:إنما جمعه لأنه أراد بالميزان الموزونات من الأعمال.
و قيل:إنما جمعه لأنه ميزان يقوم مقام موازين و يفيد فائدتها؛لأنه يوزن به ذرات الأعمال و ما كان منها في عظم الجبال.
[312] (1) فإن قيل:كيف توزن الأعمال و هي أعراض لا ثقل لها و لا جسم، و الوزن من خواص الأجسام؟ قلنا:الموزون صحائف الأعمال.
الثاني:أنه قد ورد أن اللّه تعالى يحيلها في جواهر و أجسام،فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة،و أعمال العاصين في صورة قبيحة،ثم يزنها و اللّه على كل شيء قدير.
[313] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:11]و كلمة ثم للترتيب،و خطاب الملائكة عليهم السلام بالسجود سابق على خلقنا و تصويرنا؟
ص: 91
قلنا:المراد و لقد خلقنا أباكم ثم صورناه بطريق حذف المضاف.
و قيل:المراد:و لقد خلقنا أباكم ثم صوّرناكم في ظهره.و القول الأول أظهر.
[314] فإن قيل:كيف قال تعالى لإبليس فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها [الأعراف:13]،أي في السماء،و ليس له و لا لغيره أن يتكبر في الأرض أيضا؟ قلنا:لما كانت السماء مقر الملائكة المطيعين الذين لا توجد منهم معصية أصلا كان وجود المعصية منهم أقبح،فلذلك خص مقرهم بالذكر.
[315] فإن قيل:كيف أجيب إبليس إلى الإنظار،و إنما طلب الإنظار ليفسد أحوال عباد اللّه تعالى و يغويهم؟ قلنا:لما في ذلك من ابتلاء العباد،و لما في مخالفته من عظم الثواب،و نظير ذلك ما خلقه اللّه تعالى في الدنيا من أصناف الزخارف و أنواع الملاذ و الملاهي،و ما ركّبه في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
[316] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما [الأعراف:20]و لم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما؛بل إخراجهما من الجنة،و يؤيده قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ [البقرة:36]؟ قلنا:اللاّم في ليبدي لام العاقبة و الصيرورة،لا لام كي،كما في قوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8]و قول الشاعر:
لدوا للموت و ابنوا للخراب فكلّكم يصير إلى التّراب
[317] فإن قيل:أي آية للّه تعالى في اللباس و الكسوة حتّى قال تعالى في آية اللباس و الكسوة ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ [الأعراف:26]؟ قلنا:معناه أن اللباس و الكسوة للإنسان خاصة علامة من العلامات الدالة على أن اللّه تعالى فضله على سائر الحيوانات،و قيل معناه:ذلك من نعم اللّه.
[318] فإن قيل:كيف قال تعالى في حقّ إبليس: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [الأعراف:27]و نازع لباسهما هو اللّه تعالى؟ قلنا:لما كان ذلك السبب بسبب وسوسته و إغوائه أضيف النزع إليه،كما يقال:
أشبعني الطعام و أرواني الشراب،و المشبع و المروي في الحقيقة إنما هو اللّه تعالى و هما سبب.اب
ص: 92
[319] فإن قيل:كيف قال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]،و هو بدأنا أولا نطفة،ثم علقة،ثم مضغة،ثم عظاما،ثم لحما،كما ذكر؛و نحن لا نعود عند الموت،و لا عند البعث بعد الموت،على ذلك الترتيب؟ قلنا:معناه كما بدأكم أولا من تراب كذلك تعودون ترابا.
و قيل معناه:كما أوجدكم أولا بعد العدم كذلك يعيدكم بعد العدم،فالتشبيه في نفس الإحياء و الخلق لا في الكيفية و الترتيب.
و قيل معناه:كما بدأكم سعداء و أشقياء،كذلك تعودون،و يؤيده تمام الآية.
و قيل معناه:كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام:94]الآية.
[320] فإن قيل:كيف قال تعالى مخبرا عن الزينة و الطيبات: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الأعراف:32]مع أن الواقع المشاهد أنها لغير الذين آمنوا أكثر و أدوم؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا؛لأن المشركين شاركوهم فيها؛خالصة للمؤمنين في الآخرة.
[321] فإن قيل:كيف قال: وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]و الميراث عبارة عما ينتقل من ميت إلى حي و هو مفقود هنا؟ قلنا:هو على تشبيه أهل الجنة و أهل النار بالوارث و بالموروث عنه.و ذلك أن اللّه تعالى خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الإيمان،فمن لم يؤمن منهم جعل منزله لأهل الجنة.
الثاني:أن نفس دخول الجنة بفضل اللّه و رحمته من غير عوض،فأشبه الميراث،و إن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.
[322] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ [الأعراف:54]،أما الخلق بمعنى الإيجاد و الإحداث فظاهر أنه مختص به سبحانه و تعالى،و أما الأمر فلغيره أيضا بدليل قوله تعالى: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [التوبة:71]و قوله: وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]،و قوله: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه:132]؟ قلنا:المراد بالأمر هنا قوله تعالى: كُنْ عند خلق الأشياء،و هذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به كالخلق.
الثاني:أن المراد بالخلق و الأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية،و هو خلق السموات و الأرض،و أمر تسخير الشمس و القمر و النجوم كما ذكر،و ذلك مخصوص به عز و جل.
ص: 93
[323] فإن قيل:لم قال نوح عليه الصلاة و السلام:ليس بي ضلالة بالتاء،و لم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به،و ذلك أشد مناسبة ليكون نافيا عين ما أثبتوه؟ قلنا:الضّلال أقل من الضلال،فكان نفيها أبلغ في نفي الضّلال عنه،كأنه قال:
ليس بي شيء من الضلال،كما لو قيل:أ لك ثمر فقلت:ما لي ثمرة؟كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر.
[324] فإن قيل:كيف وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود دون قصة نوح عليهما السلام؟ قلنا:لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم عند هذا القول،فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين: إِنّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الأعراف:66]بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم: إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60] فكان كل الملأ قائلين ذلك،هكذا أجاب بعض العلماء،و هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح عليه السلام فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا [هود:27] و كذا في سورة المؤمنين،و جواب هذا النقض أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين، و المرة الثانية بعد إيمان بعضهم.
[325] فإن قيل:كيف قال صالح عليه السلام لقومه،بعد ما أخذتهم الرجفة و ماتوا: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحِينَ [الأعراف:
79]و لا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟ قلنا:هذا مستعمل في العرف،فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب و مر به ناصحه فإنه يقول له:كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتى أصابك هذا.
و فائدة هذا القول حث السامعين له على قبول النصيحة ممن ينصحهم لئلاّ يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة حتى هلك.
[326] فإن قيل:لم قال شعيب عليه السلام لقومه: وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الأعراف:56]و هم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟ قلنا:بعد أن أصلحها اللّه تعالى بالأمر بالعدل و إرسال الرسل.
و قيل:معناه بعد أن أصلح اللّه تعالى أهلها بحذف المضاف.و قيل:معناه بعد الإصلاح فيها،أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء و أتباعهم العاملين بشرائعهم،فإضافته كإضافة قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ [سبأ:33]يعني بل مكرهم في الليل و النهار.
[327] فإن قيل:كيف خاطبوا شعيبا عليه السلام بالعود في الكفر بقولهم:
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف:88]و هو أجابهم
ص: 94
بقوله: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْها [الأعراف:89]و هو لم يكن في ملتهم، قط؛لأن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لا يجوز عليهم شيء من الكبائر خصوصا الكفر؟ قلنا:العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء،و منه قوله تعالى: حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39].
الثاني:أنهم قالوا ذلك على طريق تغليب الجماعة على الواحد؛لأنهم عطفوا على ضميره الذين آمنوا منهم بعد كفرهم،فجعلوهم عائدين جميعا إجراء للكلام على حكم التغليب،و على ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه،و مراده عود قومه المعطوفين عليه.
[328] فإن قيل:لم قال فرعون: فَأْتِ بِها [الأعراف:106]بعد قوله: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ [الأعراف:106]؟ قلنا:معناه إن كنت جئت بآية من عند اللّه فأتني بها،أي أحضرها عندي.
[329] فإن قيل:كيف قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف:109]و في سورة الشعراء: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء:34] فنسب هذا القول إلى فرعون؟ قلنا:قاله هو و قالوه هم،فحكى قوله ثمّ و قولهم هنا.
[330] فإن قيل:السحرة إنما سجدوا للّه تعالى طوعا،لما تحققوا معجزة موسى عليه السلام؛فكيف قال تعالى: وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الأعراف:120]؟ قلنا:لما زالت كل شبهة لهم بما عاينوا من آيات اللّه تعالى على يد نبيه اضطرهم ذلك إلى مبادرة السجود،فصاروا من غاية المبادرة كأنهم ألقوا إلى السجود تصديقا للّه و الرسول.
[331] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا و عن فرعون: قالُوا آمَنّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف:121]إلى قوله: وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه و سورة الشعراء بزيادة و نقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم،و هذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة،فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟ قلنا:الجواب عنه أنهم إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا بلغة العربية،و حكى اللّه ذلك عنهم باللغة العربية مرارا لحكمة اقتضت التكرار و الإعادة نبينها في سورة الشعراء إن شاء اللّه تعالى،فمرة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للّفظ،و بعد ذلك
ص: 95
حكاه بالمعنى جريا على عادة العرب في التفنن في الكلام و المخالفة بين أساليبه،لئلا يمل إذا تمحض تكراره.
[332] فإن قيل:كيف قالوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها [الأعراف:132] سموها آية،ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلنا:ما سموها آية لاعتقاد أنها آية؛بل حكاية لتسمية موسى عليه السلام على طريق الاستهزاء و السخرية.
[333] فإن قيل:كيف الجمع بين قوله تعالى: وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]أي أهلكنا،و قوله تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء:57-59]؟ قلنا:معنى و دمرنا:أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون و قومه من المكر و المكيدة في حقّ موسى عليه السلام: وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته إلى السماء.
و قيل:هو على ظاهره؛لأن اللّه تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدة ثم دمره جميعه.
[334] فإن قيل:قوله تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49]قوله تعالى:
وَ فِي ذلِكُمْ إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء؛بل هو محض نعمة،و إن كان إشارة إلى القتل و الأسر فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى: وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49]أشد مناسبة لسياق الآية و هو الامتنان،و لهذا قال:يقتلون و يستحيون،فأضاف إليهم الفعلين.
قلنا:البلاء مشترك بين النعمة و المحنة؛لأنه من الابتلاء و هو الاختبار،يقال بلاه و ابتلاه،أي اختبره؛و اللّه تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة و يختبر صبرهم بالمحنة،يؤيده قوله تعالى: وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ [الأعراف:168]و قوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]فمعنى الآية و في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربكم عليكم.
[335] فإن قيل: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ [الأعراف:142] المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد،فكيف ذكر الليالي مع أنها ليست محلا للصوم؛بل يقع في القلب أن ذكر الأيام أولى؛لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟
ص: 96
قلنا:العرب في أغلب تواريخها إنما تذكر الليالي،و إن كان مرادها الأيام؛لأن الليل هو الأصل في الزمان،و النهار عارض؛لأنّ الظلمة سابقة في الوجود على النور.
و قيل:إنه كان في شريعة موسى عليه السلام جواز صوم الليل؟ [336] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]و قد علم مجموع الميقات من قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ؟ قلنا:فيه فوائد:
إحداها:التأكيد.
الثانية:أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات.
الثالثة:أن لا يتوهم أن العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين، يعني كانت عشرين و أتمت بعشر،كما في قوله تعالى: وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ [فصلت:10]على ما نذكره مشروحا في حم السجدة.
[337] (1) فإن قيل:لم قال موسى عليه الصلاة و السلام: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]و قد كان قبله كثير من المؤمنين،و هم الأنبياء و من آمن بهم؟ قلنا:معناه و أنا أول المؤمنين بأنك يا اللّه لا ترى بالحاسة الفانية من الجسد الفاني في دار الفناء.
و قيل معناه:و أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل في زماني.
و قيل:أراد بالأول الأقوى و الأكمل في الإيمان،يعني لم يكن طلبي للرؤية لشك عندي في وجودك أو لضعف في إيماني؛بل لطلب مزيد الكرامة.
[338] فإن قيل:كيف قال: وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف:145]أي التوراة؛و هم مأمورون بالعمل بكل ما في التوراة؟ل.
ص: 97
قلنا:معناه بحسنها و كلها حسن.
الثاني:أنهم أمروا فيها بالخير و نهوا عن الشر،ففعل الخير أحسن من ترك الشر.
الثالث:أن فيها حسنها و أحسن كالاقتصاص و العفو،و الانتصار و الصبر، و الواجب و المندوب و المباح،فأمروا بالأخذ بالعزائم و الفضائل و ما هو أكثر ثوابا.
[339] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الأعراف:148]و اتخاذهم العجل كان في زمن موسى عليه السلام بالنقل،و في سياق الآية ما يدل على ذلك.
قلنا:معناه من بعد ذهابه إلى الجبل.
و قيل:من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير اللّه.
[340] فإن قيل:كيف عبر عن الندم بالسقوط في اليد في قوله تعالى: وَ لَمّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الأعراف:149]و أي مناسبة بينهما؟ قلنا:لأنّ من عادة من اشتد ندمه و حسرته على فائت أن يعض يده غما،فتصير يده مسقوطا فيها؛لأن فاه قد وقع فيها؛و سقط مسند إلى قوله في أيديهم،و هو من كنايات العرب كقولهم للنائم:ضرب على أذنه.
[341] فإن قيل: غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف:150]و هما متقاربان في المعنى؟ قلنا:لأنّ الآسف الحزين،و قيل:الشديد الغضب،ففيه فائدة جديدة.
[342] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ [الأعراف:154]و لم يقل و فيها،و إنما يقال نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل،فأما أول مكتوب فلا يسمى نسخة،و الألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟ قلنا:لمّا ألقى الألواح،قيل إنه انكسر منها لوحان،فنسخ ما فيهما في لوح ذهب و كان فيهما الهدى و الرحمة،و في باقي الألواح تفصيل كل شيء.و قيل:إنما قال: وَ فِي نُسْخَتِها [الأعراف:154]؛لأن اللّه تعالى لقّن موسى عليه السلام التوراة ثم أمره بكتابتها،فنقلها من صدره إلى الألواح فسماها نسخة.
[343] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف:
157]،أي مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يعني القرآن،و القرآن إنما أنزل مع جبريل عليه السلام على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
قلنا:معه،أي مقارنا لزمانه.
و قيل:معه،أي عليه.
ص: 98
و قيل:معه،أي إليه.
و يجوز أن يتعلق معه باتبعوا لا بأنزل،معناه:و اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و العمل بسنته،أو و اتبعوا القرآن كما اتبعه هو مصاحبين له في اتباعه.
[344] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الأعراف:162].و هم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم؛لأنهم قيل لهم: وَ قُولُوا حِطَّةٌ [الأعراف:161].فقالوا:حنطة؟ قلنا قد سبق هذا السؤال و جوابه في سورة البقرة.
[345] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف:
166]و انتقالهم من صورة البشر إلى صورة القردة ليس في وسعهم؟ قلنا:قد سبق هذا السؤال و جوابه في سورة البقرة.
[346] فإن قيل:الحلم من صفات اللّه تعالى فكيف قال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ و سرعة العقاب تنافي صفة الحلم؛لأن الحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على العصاة؟ قلنا:معناه شديد العقاب.
و قيل:معناه سريع العقاب،إذ جاء وقت عقابه،لا يردّه عنه أحد.
[347] فإن قيل:التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة،و منها إقامة الصلاة فكيف قال تعالى: وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ [الأعراف:170]؟ قلنا:إنما خصها بالذكر إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين بالحديث،و ناهية عن الفحشاء و المنكر بالآية.
[348] فإن قيل:قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الأعراف:176]تمثيل لحال بلعام،فكيف قال بعده: ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأعراف:177]و المثل لم يضرب إلا لواحد؟ قلنا:المثل في الصورة و إن ضرب لبلعام و لكن أريد به كفار مكة كلهم؛لأنهم صنعوا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و سلّم بسبب ميلهم إلى الدنيا و شهواتها من الكيد و المكر ما يشبه فعل بلعام مع موسى عليه السلام.
الثاني:أن ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ راجع إلى قوله تعالى: مَثَلاً الْقَوْمُ [الأعراف:
177]لا إلى أول الآية.
[349] فإن قيل:كيف قال: إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] و هو صلّى اللّه عليه و سلّم كان بشيرا و نذيرا للناس كافة،كما قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ:28]؟
ص: 99
قلنا:المراد بقوله: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون،و إنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالإنذار و البشارة دون غيرهم؛فكأنه نذير و بشير لهم خاصة،كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات:45].
و يجوز أن يكون متعلق النذير محذوفا تقديره:إن أنا إلا نذير للكافرين و بشير لقوم يؤمنون؛فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر،كما استغنى بالجملة عن التفصيل في تلك الآية؛لأن المعنى:و ما أرسلناك إلا كافة للنّاس بشيرا للمؤمنين و نذيرا للكافرين.
[350] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى حكاية عن آدم عليه السلام،و حواء، رضي اللّه عنها: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ،و قال عزّ و جل: فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]و الأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟ قلنا:المراد بقوله: جَعَلا لَهُ أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف.و كذا قوله تعالى: فِيما آتاهُما أي فيما آتى أولادهما،و يؤيد هذا قوله تعالى: فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]حيث ذكر ضمير الجمع و لم يقل يشركان،و معنى إشراك أولادهما فيما آتاهم اللّه تعالى تسميتهم أولادهم بعبد العزى و عبد مناة و عبد شمس و نحو ذلك،مكان عبد اللّه و عبد الرحمن و عبد الرحيم.
و قيل:الضمير جعلا للولد الصالح و هو السليم الخلق،و إنما قال جعلا لأن حواء كانت تلد في بطن ذكرا و أنثى.
و قيل:المراد بذلك تسميتهما إياه عبد الحارث.و الحارث اسم إبليس في الملائكة،و سبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية،و إنما قال شركاء إقامة للواحد مقام الجمع،و لم يذهب آدم و حواء إلى أن الحارث ربه؛بل قصد أنه كان سبب نجاته.
و قال جمهور المفسرين:قوله تعالى: فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] في مشركي العرب خاصة،و هو منقطع عن قصة آدم و حواء عليهما السلام.
ص: 100
[351] فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]إلى آخر الآيتين،يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات لا يكون مؤمنا؛لأن كلمة إنما للحصر.
قلنا:فيه إضمار تقديره:إنما المؤمنون إيمانا كاملا،و إنما الكاملون في الإيمان،كما يقال:الرجل من تصبّر على الشدائد،يعني الرجل الكامل.
[352] فإن قيل:قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74]ينفي إرادة ما ذكرتم.
قلنا:معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقا.
و قيل:إنّ حقا متعلق بما بعده لا بما قبله،و المؤمنون تمام الكلام.
[353] فإن قيل:كيف يقال:إن الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان،و قد قال تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال:2]؟ قلنا:المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة و اليقين و الخشية و نحو ذلك؛لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد و ثبوتا،فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق و الإقرار بوحدانية اللّه تعالى.و كما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة و النقصان،فكذا الإقرار بها.
[354] فإن قيل:قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال:5] تشبيه،فأين المشبه و المشبه به؟ قلنا:معناه أمض على ما رأيته صوابا من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم و إن كرهوا،كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحق و هم كارهون.
و قيل معناه:فاتقوا اللّه و أصلحوا ذات بينكم فهو خير لكم و إن كرهتم،كما كان إخراجك من بيتك بالحق.
[355] فإن قيل:كيف قال تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ [الأنفال:8] و كلاهما متعذر،لأنه تحصيل الحاصل؟ قلنا:المراد بالحق الإيمان،و الباطل الشرك،فاندفع السؤال.
ص: 101
[356] فإن قيل:ما فائدة التكرار في قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ [الأنفال:7،8]؟ قلنا:إنما ذكر أولا لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة التي كانت فيها الغنيمة،و إرادة اللّه تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين.فذكره أولا للتمييز بين الإرادتين،ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
[357] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى [الأنفال:17]و معلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار و رماهم النبي عليه الصلاة و السلام بكف من حصا الوادي في وجوههم و قال:شاهت الوجوه،فلم يبق مشرك إلا وقع في عينيه شيء من ذلك،فشغلوا بعيونهم و انهزموا، فتبعهم المؤمنون يقتلون و يأسرون؟ قلنا:لما كان السبب الأقوى في قتلهم إنما هو مدد الملائكة و إلقاء الرعب في قلوب الكافرين و تثبيت قلوب المؤمنين و أقدامهم،و ذلك كله فعل اللّه تعالى،نفى الفعل عنهم و نسبه إليه،يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني، فسبيلكم الشكر دون العجب و الفخر،و كذلك الرمية أثبتها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛لأن صورتها وجدت منه،و نفاها عنه؛لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر فعل اللّه تعالى،و نظير هذا قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه بتسليط من هو أعلى رتبة منه:هذا ليس قولك و لا فعلك.
و قيل:معنى قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17]و ما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم و لكن اللّه رمى الرعب في قلوبهم.
و لأهل الحقيقة في هذه الآية و في نظائرها من الكتاب و السنة مباحث لا يحتملها هذا المختصر،و هي مستقصاة في كتب التصوف.
[358] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الأنفال:20]ثنّى في الأمر ثم أفرد في النهي؟ قلنا:كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد و يراد به الاثنان و الجمع،فكذلك يذكر ضمير المفرد و يراد به ضمير الاثنين كقولهم:إنعام فلان و معروفه يغشيني، و الإنعام و المعروف لا ينفع مع فلان،و عليه جاء قوله تعالى: وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62]،أي يرضوهما،فكذا هنا،معناه:و لا تولوا عنهما.ا.
ص: 102
الثاني:أنه إنّما أفرد باعتبار عود الضمير إلى اللّه وحده لأنه الأصل،مع أن طاعة اللّه و طاعة رسوله متلازمان،قال اللّه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ [النساء:80]،و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ [الفتح:10]فكان الإعراض عن الرسول إعراضا عن اللّه تعالى فاكتفى بذكره.
الثالث:أن معناه:و لا تولوا عن هذا الأمر و عن أمثاله،فالضمير للأمر لا للرسول عليه الصلاة و السلام.
الرابع:أنّه إنما لم يقل و لا تولوا عنهما لئلاّ يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي عليه الصلاة و السلام عند نهيه للكفار في قرانه بين اسمه و اسم اللّه تعالى في ذكرهما بلفظ واحد من غير تقديم اسم اللّه،كما روي:أن خطيبا خطب فقال:من أطاع اللّه و رسوله فقد رشد،و من عصاهما فقد غوى،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:«بئس خطيب القوم أنت!هلاّ قلت:و من عصى اللّه و رسوله فقد غوى»؟ [359] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23]الآية؟ قلنا:معناه و لو علم اللّه فيهم تصديقا و إيمانا في المستقبل لأسمعهم سماع فهم و قبول،أو لأنطق لهم الموتى يشهدون بصدق نبوتك كما طلبوا.
و قيل:معنى لأسمعهم:لرزقهم الفهم و البصيرة،و أسمعهم و حالهم هذه الحال،و هو أنه لم يعلم فيهم الخير،لتولوا و هم معرضون،لعنادهم و جحودهم الحق بعد ظهوره.
[360] فإن قيل:التولي و الإعراض واحد،فما فائدة قوله: لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:32].
قلنا:معناه لتولوا عن الإيمان و أعرضوا عن البرهان فلا تكرار.
[361] فإن قيل:فما فائدة ذكر السماء في قوله تعالى: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال:32]و المطر إنما يكون من السماء؟ قلنا:المطر المطلق.إنما يكون من السماء،و لكن المطر المضاف هنا و هو مطر الحجارة قد يكون من رءوس الجبال و من حيطان المساكن و القصور و سقوفها،فكان ذكر السماء مفيدا لأن الحجارة إذا نزلت من المساء كانت أشد نكاية و أكثر ضررا.
الثاني:أنه لما كانت الحجارة المسومة للعذاب و هي السجيل معهودة النزول من السماء ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة،كأنه قال:فأمطر علينا حجارة من سجيل،فوضع قوله من السماء موضع قوله من سجيل كما تقول:صب عليه مسرودة من حديث،يعني درعا.
ص: 103
[362] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]و يوم بدر عذبهم اللّه تعالى بالقتل و الأسر و هو فيهم؟ قلنا:معناه و أنت مقيم فيهم بمكة،و كان كذلك؛لأن النبي عليه الصلاة و السلام ما دام بمكة لم يعذبوا،فلما أخرجوه من مكة و خرجوا لحربه عذبوا.
و قيل معناه:و ما كان اللّه ليعذبهم عذاب الاستئصال و أنت فيهم.
و قيل معناه:و ما كان اللّه ليعذبهم العذاب الذي طلبوه و هو إمطار الحجارة و أنت فيهم.
[363] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى أولا: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]الآية،ثم قال: وَ ما لَهُمْ أَلاّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ [الأنفال:34]الآية،و هو يوهم التناقض؟ قلنا:معناه و ما لهم أن لا يعذبهم اللّه بعد خروجك من بينهم و خروج المؤمنين و المستغفرين.
و قيل:المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال،و بالثاني عذاب غير الاستئصال.
و قيل:المراد بالأول عذاب الدنيا،و بالثاني عذاب الآخرة.
[364] (1) فإن قيل: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً [الأنفال:
35]و المكاء الصفير،و التصدية التّصفيق،و هما ليسا بصلاة؟ قلنا:معناه أنهم أقاموا المكاء و التّصدية مقام الصلاة،كما يقول القائل:زرت فلانا،فجعل الجفاء صلتي،أي أقام الجفاء مقام صلتي،و منه قول الفرزدق:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
أراد بالأداهم القيود،و بالمحدرجة السياط،و وضعهما موضع العطاء.
[365] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا [الأنفال:38]و هم لم ينتهوا عن الكفر،فكيف قال: وَ إِنْ يَعُودُوا ؛و العود إلى الشيء إنما يكون بعد تركه و الإقلاع عنه؟ر.
ص: 104
قلنا:معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و محاربته يغفر لهم ما قد سلف من ذلك،و إن يعودوا إلى قتاله و عداوته فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر،أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية.
و قيل معناه:إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان يغفر لهم ما قد سلف من الكفر و المعاصي،كما قال النبي،عليه الصلاة و السلام:«الإسلام يجبّ ما كان قبله».و إن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا فقد مضت سنة الأولين من الأمم من أخذهم بعذاب الاستئصال.
[366] فإن قيل:الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة،و هي زوال الرعب من قلوب المؤمنين و تثبيت أقدامهم و زيادة اجترائهم على القتال،فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار حتى قال اللّه تعالى: وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين و تثبيت أقدامهم و اجترائهم على القتال؟ قلنا:فائدته أن لا يستعد الكفار كل الاستعداد،فيجترئوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم،ثم تفجئهم الكثرة فيدهشوا و يتحيروا،و أن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق إذا رأوا المؤمنين مع قلتهم في أعينهم منصورين عليهم.
و في التقليل من الطرفين معارضة تعرف بالتأمل.
[367] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46] يدل على حرمة المنازعة و الجدال أيضا؛لأنه منازعة،فكيف تجوز المناظرة و هي منازعة و جدال؟ قلنا:المراد بالمنازعة هنا،المنازعة في أمر الحرب و الاختلاف فيه،لا المنازعة في إظهار الحق بالحجّة و البرهان.و الدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال اللّه تعالى: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]؛و لكن للجواز شروط يندر وجودها في زمننا هذا،أحدها أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين،كما كانت مناظرة السلف؛و علامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه أكثر مما يفرح بظهوره على لسان خصمه.
[368] فإن قيل:كيف قال إبليس إِنِّي أَخافُ اللّهَ [الأنفال:48]و هو لا يخاف اللّه،لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟ قلنا:قال قتادة:صدق عدوّ اللّه في قوله: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال:48] يعني جبريل و الملائكة عليهم السلام معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر، و كذب في قوله: إِنِّي أَخافُ اللّهَ [الأنفال:48].و اللّه ما به مخافة اللّه،و لكن علم أنه لا قوة له بهم.
ص: 105
و قيل:لما رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره،فيحل به العذاب الموعود.
و قيل:معنى أخاف اللّه:أعلم صدق وعده لنبيه بالنصر،و قد جاء الخوف بمعنى العلم،و منه قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ [البقرة:229].
و يحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به من الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك.
ثم،أقول:كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة،و هو أفسق الفسقة،و أكفر الكفرة؛ فلا عجب في كذبه و إنما العجب في صدقه! [369] فإن قيل:أي مناسبة بين الشرط و الجزاء في قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
قلنا:لما أقدم المؤمنون و هم ثلاث مائة و بضعة عشر على قتال المشركين و هم زهاء ألف متوكلين على اللّه،و قال المنافقون:غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثر.قال اللّه تعالى ردّا على المنافقين و تثبيتا للمؤمنين وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ [الأنفال:49]،أي غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي و ينصره عليه،حكيم في جمع أفعاله.
[370] فإن قيل:كيف قال وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال:51]و لم يقل ليس بظالم،و هو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟ قلنا:قد سبق هذا السؤال و جوابه في سورة آل عمران.
[371] فإن قيل:قوله عزّ و جلّ: ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53]و ذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة و آل فرعون و لم تكن لهم حال مرضية غيروها؟ قلنا:كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها و أسوأ،و أولئك كانوا قبل بعث الرسول إليهم عباد أصنام،فلما بعث الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم إليهم بالآيات البينات فكذبوه و عادوه و سعوا في قتله غيروا حالهم إلى أسوأ منها،فغير اللّه تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال و عاجلهم بالعذاب.
[372] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]بعد قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:55]؟ قلنا:مراده أن يبين أن شر الكفار الذين كفروا و استمروا على الكفر إلى وقت الموت.
ص: 106
[373] فإن قيل:ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة لأكثر منها قبل التخفيف و بعده في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]إلى قوله: وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ [الأنفال:66]؟ قلنا:فائدته الدلالة على أن الحال مع القلة و الكثرة واحدة لا تتفاوت؛بل كما ينصر اللّه تعالى العشرين على المائتين ينصر المائة على الألف،و كما ينصر المائة على المائتين ينصر الألف على الألفين.
[374] فإن قيل:كيف أخبر اللّه تعالى عن هذه الغلبة و نحن نشاهد الأمر بخلافها،فإن المائة من الكفار قد تغلب المائة من المسلمين؛بل المائتين في بعض الأحوال؟ قلنا:إنما أخبر اللّه عز و جل عن هذه الغلبة بشرط الصبر الذي هو الثبات في موقف الحرب،أو الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا و باطنا؛فمتى وجد الشرط تحققت الغلبة للمسلمين مع قلتهم لا محالة.و لقائل أن يقول إن هذه الغلبة مخصوصة بطائفة كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أحدهم،و سياق الآية يدل عليه.
[375] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى وَ اللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال:67]مع أنه يريد الدّنيا أيضا؛لأنه لو لا إرادته إياها لما وجدت،فما فائدة هذا التخصيص؟ قلنا:المراد بالإرادة هنا الاختيار و المحبة،لا إرادة الوجود و الكون،فالمعنى أ تحبون عرض الحياة الدنيا و تختارونه،و اللّه يختار ما هو سبب الجنة و هو إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل.
ص: 107
[376] فإن قيل:لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة بخلاف سائر السور؟ قلنا:لما تشابهت هي و الأنفال و اختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة تركت بينهما فرجة عملا بقول من قال هما سورتان،و تركت البسملة بينهما عملا بقول من قال هما سورة واحدة،و ممن قال بذلك قتادة رحمه اللّه.
الثاني:أن اسم اللّه تعالى سلام و أمان،و براءة فيها قتل المشركين و محاربتهم فلا يناسب كتابتها.
[377] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12]خص الأمر بالقتال بأئمة الكفر،مع أن النكث و الطعن ليس مخصوصا بهم؛بل هو مسند إلى جميع المشركين؟ قلنا:المراد بأئمة الكفر رءوس المشركين و قادتهم.و قيل:كفار مكة؛لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر،فكأن النكث و الطعن لم يوجد إلا منهم لما كانوا هم الأصل فيه،فلذلك خصهم بالذكر.
[378] فإن قيل:كيف قال: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [التوبة:30]و نحن نسأل اليهود و النصارى عن ذلك فينكرونه و يجحدونه؟ قلنا:طائفة من اليهود و طائفة من النصارى هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم،فالألف و اللام للعهد لا للجنس و لا للاستغراق،أو أطلق اسم الكل و أراد البعض،كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران:42]و إنما قال لها جبريل وحده.
[379] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة:30] و قول كل أحد إنما يكون بفمه.
قلنا:معناه أنه قول لا تعضده حجة و برهان،إنما هو مجرد لفظ لا أصل له.
و قيل:ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم و الإنكار لقولهم،كما يقول الرجل لغيره:
أنت قلت لي ذلك بلسانك.
ص: 108
[380] فإن قيل:دين الحق هو جملة الهدى فما فائدة عطفه على الهدى في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]؟ قلنا:المراد بالهدى هنا القرآن،و بدين الحق الإسلام و هما متغايران.
الثاني:أنه و إن كان داخلا في جملة الهدى و لكنه خصه بالذكر تشريفا له و تفضيلا كما في قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة:238] و قوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة:98].
[381] فإن قيل:كيف قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]و لم يقل على الأديان كلها؛مع أنه أظهره على الأديان كلها؟ قلنا:المراد بالدين هنا اسم الجنس،و اسم الجنس المعرف باللام يفيد معنى الجمع،كما في قولهم:كثر الدرهم و الدينار في أيدي الناس.
[382] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:34] و المذكور الذهب و الفضة،فأعاد الضمير على أحدهما؟ قلنا:أعاد الضمير على الفضة؛لأنها أقرب المذكورين،أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس،فيكون كنزها أكثر،و نظيره قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ [البقرة:54].
الثاني:أنه أعاد الضمير على المعنى؛لأن المكنوز دنانير و دراهم و أموال، و نظيره قوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:49]لأن كل طائفة مشتملة على عدد كثير،و كذا قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] يعني المؤمنين و الكافرين.
الثالث:أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما،استغناء بذكره عن ذكر الآخر؛لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى.
و منه قول حسان بن ثابت:
إنّ شرخ الشّباب و الشّعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا
و لم يقل ما لم يعاصيا.و قول الآخر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإنّي و قيّار بها لغريبم.
ص: 109
و لم يقل لغريبان،و منه قوله تعالى: وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62] و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ [الأنفال:20]و ليس قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:26]و قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء:112]من هذا القبيل؛لأن الإضمار ثم عن أحدهما لوجود لفظة أو،و هي لإثبات أحد المذكورين،فمن جعله نظير هذا فقد سها؛إلا أن يثبت أن أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو.
و في هاتين الآيتين لطيفة و هي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة،و إن كانت أبعد،و مؤنثة أيضا؛لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة اللّه تعالى من اللهو؛لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو،أو لأنها أكثر نفعا من اللهو،أو لأنها كانت أصلا و اللهو تبعا؛لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية،و أعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب و التذكير.
[383] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التوبة:36]و هي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة سواء كانت الشهور قمرية أو شمسية؟ قلنا:فائدته أن يعلم أن هذا التقسيم و العدد ليس مما أحدثه الناس و ابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم؛و إنما هو أمر أنزله اللّه في كتبه على ألسنة رسله.
[384] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] خص الأربعة الحرم بذلك و ظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟ قلنا:قال ابن عباس،رضي اللّه عنهما،الضّمير في قوله تعالى: فِيهِنَّ راجع إلى قوله: اِثْنا عَشَرَ شَهْراً لا الأربعة الحرم فقط،فاندفع السؤال.
الثاني:أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط،إما لأنها أقرب،أو لما قاله الفراء:إن العرب تقول في العشرة و ما دونها لثلاث ليال خلون و أيام خلون و هن و هؤلاء،فإذا جاوزت العشرة قالت خلت و مضت،للفرق بين القليل و هو العشرة فما دونها،و بين الكثير و هو ما زاد عليها،و لهذا قال في الاثني عشر:منها،و قال في الأربعة:فيهن.فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر إما لمزيد فضلها و حرمتها عندهم في الجاهلية فيكون ظلم النفس فيها أقبح،و نظيره قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]و إن كان ذلك منهيا عنه في غير الحج أيضا،أو لأن المراد بالظلم النسيء،و هو كان مخصوصا بها،أو قتال الكفار فيها ابتداء،أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا و كل ذلك مخصوص بها؟
ص: 110
[385] فإن قيل:الشهر مذكر فقياسه فيها؟ قلنا:الضمير بالهاء و النون لا يختص بالمؤنث،و لو اختص فالمراد بقوله فِيهِنَّ ساعات الأشهر و هي مؤنثة.
[386] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ و الإنسان لا يظلم نفسه؛بل يظلم غيره؟ قلنا:لا نسلم أنه لا يظلم نفسه قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء:110]و قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
الثاني:أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ [البقرة:84]و قال تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:
54]و قال تعالى: وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات:11].
الثالث:أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الآخرة بالمعصية،فإن من عصى فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها و توجيه العقاب و الذم إليها،و إليه الإشارة بقوله تعالى:
وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
الرابع:أن كل ظالم لغيره فهو ظالم لنفسه في الحقيقة؛لأن ضرر ظلمه في حق المظلوم ينقطع عن قريب؛لأنه لا يتعدى الدنيا،و ضرر ظلمه في حقّ نفسه يراه في الآخرة حيث لا ينقطع،أو يكون أشد و أدوم.
[387] (1) فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]يدل على قبول الكفر للزيادة و النقصان،فكذلك الإيمان الذي هو ضده،فيكون حجة للشافعي رحمة اللّه عليه في قوله:الإيمان يقبل الزيادة و النقصان.
قلنا:معناه زيادة معصية في الكفر.
[388] فإن قيل:قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:44]إن كان نهيا فأين الجزم؟و إن كان نفيا فقد وقع المنفي؛لأن كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلف عن الجهاد لعذر،و يعضده قوله تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62]فقيل إن المراد به كل أمر طاعة اجتمعوا عليه كالجهاد و الجمعة و العيد و نحوها؟خ.
ص: 111
قلنا:هو نهي بصيغة النفي كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
الثاني:قال ابن عباس،رضي اللّه عنهما،هي منسوخة بقوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ .
الثالث:أن المراد بقوله: يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ الآية،الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر،و كذا المراد بالآية التي بعدها،و بقوله: لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إباحة الاستئذان في التخلف عن الأمر الجامع لعذر فلا نسخ لإمكان العمل بالآيتين؛ لأنّ محل الحكم مختلف،و هو وجود العذر و عدمه.
[389] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة:46] أخبر أنهم أمروا بالقعود،و ذمهم على القعود و التخلف عن الخروج للجهاد و الاستئذان في القعود؟ قلنا:ليس في الآية ما يدل على أن اللّه تعالى هو الآمر لهم،فقيل:الآمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة و التزيين.
الثاني:أن بعضهم أمر بعضا.
الثالث:أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لهم ذلك غضبا عليهم.
الرابع:أنه أمر توبيخ و تهديد من اللّه تعالى لهم كقوله تعالى: اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:40]يعضده قوله تعالى: مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع النساء و الصبيان و الزمنى الذين شأنهم القعود و الجثوم في البيوت.
[390] فإن قيل:إذا كان اللّه تعالى علم أن المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلا خبالا:أي فسادا،و لأوضعوا خلالهم،أي و لأسرعوا السعي بينهم بالنمائم،فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين؟ قلنا:أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجة و لإظهار نفاقهم.
[391] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ [التوبة:53]يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟ قلنا:المراد بالفسق هنا الفسق بالكفر و النفاق لا مطلق الفسق،و ذلك محبط للطاعات و مانع من قبولها؛و يعضده قوله عزّ و جلّ: وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التوبة:54]الآية.
[392] فإن قيل:لم عدل في آية الصدقات عن اللام إلى«في»في المصارف الأربعة الأخيرة؟
ص: 112
قلنا:للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره؛لأن«في» للظرفية و الوعاء،فنبه بها على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات و يجعلوا مصبا لها،لما ورد في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر و في فك الغارمين عن الدين من التخليص و الإنقاذ،و لجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر و مثل هذه العبادة الشاقة،و كذلك ابن السبيل جامع بين الفقر و الغربة عن الأهل و المال،و لا يرد المؤلفة قلوبهم؛لأن بعضهم كفار و بعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام،فكيف يعارض بهم من ذكرنا،أو لأن اللّه تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ،فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف.
[393] فإن قيل:لم كرر«في»في الأربعة الأخيرة و لم يكرر اللام في الأربعة الأولى؟ قلنا:للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب و الغارمين من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة تأكيد كقولك مررت بزيد و بعمرو.
[394] فإن قيل:لم عدّى فعل الإيمان إلى اللّه تعالى بالباء و إلى المؤمنين باللام في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]؟ قلنا:لأنه قصد التصديق باللّه الذي هو ضد الكفر به،فعدّاه بالباء،كما يعدّى ضده بها،و قصد التسليم و الانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به لكونهم صادقين عنده، فعداه بما يعدّى به التسليم و الانقياد،و يعضده قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنّا صادِقِينَ [يوسف:17]و قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75] و قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83]و قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]و أما قوله تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:
71]فمشترك الدلالة؛لأنه قال في موضع آخر قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123].و قال ابن قتيبة،في الجواب عن أصل السؤال:إن الباء و اللاّم زائدتان،و المراد بالإيمان التصديق،فمعناه يصدّق اللّه و يصدّق المؤمنين.
[395] فإن قيل:قوله تعالى: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها [التوبة:63]يدل على تخليد أصحاب الكبائر في النار؛لأن المراد بالمحادة المخالفة و المعاداة؟ قلنا:قوله تعالى: أَ لَمْ يَعْلَمُوا خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم،فيكون المراد به المحادة بالكفر و النفاق،و ذلك موجب للتخليد في النار.
[396] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة:64]،و سور القرآن إنما تنزل على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا على المنافقين؟
ص: 113
قلنا:معناه أن تنزل فيهم،فعلى هنا بمعنى في كما في قوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة:102]و قولهم كان ذلك على عهد فلان.
الثاني:أن الإنزال هنا بمعنى القراءة؛فمعناه أن تقرأ عليهم.
[397] فإن قيل:الحذر في هذه الآية واقع منهم على إنزال السورة،فكيف قال تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة:64]؟ قلنا:قوله تعالى: مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم بإنزال السورة،و هو مناسب لقوله تعالى: تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة:64].
الثاني:أن معناه مظهر و مبرز ما تحذرون من إنزال السورة.
[398] فإن قيل:كيف قال تعالى: تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ و إنباؤهم بما في قلوبهم تحصيل الحاصل؛لأنّهم عالمون به فما فائدته؟ قلنا:معناه تنبئهم بأن أسرارهم و ما كتموه من النفاق شائعة ذائعة؛و تفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم و لا يطلع عليه سواهم،و هذا ليس تحصيل الحاصل.
[399] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: اَلْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:67]و قال بعده وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة:71]و كلمة«من» أدل على المشابهة و المجانسة من حيث أنها تقتضي الجزئية و البعضية،فكانت بالمؤمنين أولى و أحرى؛لأنهم أشد تشابها و تجانسا في الصفات و الأخلاق؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضهم على دين بعض،أي على عادتهم و خلقهم بإضمار لفظة الدين أو الخلق و نحوه؛لأن«من»تأتي بمعنى على،و منه قوله تعالى: وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء:77]و قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [البقرة:226]،أي يحلفون على وطء نسائهم،و هذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة و السلام:«فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»و قوله عليه الصلاة و السلام:«من غشّنا فليس منّا»،و المراد بقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ،أي أنصارهم و أعوانهم في الدين،و كل واحدة من العبارتين صالحة للفريقين،إلا أنه خص المنافقين بتلك العبارة تكذيبا لهم في حلفهم السابق في قوله تعالى: وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة:56]و تقريرا لقوله تعالى: وَ ما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]؟ [400] فإن قيل:أيّ فائدة في قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ [التوبة:69] مع أن قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ2.
ص: 114
[التوبة:69]بوضع الظاهر موضع الضمير مغن عنه،كما قال تعالى: وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة:69]من غير تكرار؟ قلنا:فائدته تصدير التشبيه بذم المشبه بهم باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا و اشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية و طلب الفلاح في الآخرة،و تهجين حالهم و تقبيح صفتهم؛ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبهين بأولئك الأولين،كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول:أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حقّ و يظلم و يفسق و أنت تفعل مثل فعله.
و أما قوله تعالى: وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فإنه لما كان معطوفا على ما قبله و هو التشبيه المصدّر بتلك المقدمة أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدمة المذكورة للتقبيح و التهجين.
[401] فإن قيل:قوله تعالى: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ [التوبة:69]حبوط العمل إن كان عبارة عن بطلان ثوابه فذلك إنما يكون في الآخرة، و إن كان عبارة عن بطلان منفعته فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة؛ لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم و أموالهم و جريان أحكام المسلمين عليهم؟ قلنا:المراد بالأعمال إن كانت نوعي أعمالهم الدينية و الدنيوية،فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية و هي كيدهم و مكرهم و خداعهم و نفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور اللّه تعالى و رفع آياته و بيناته و يأبى اللّه إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون،فلم ينالوا من ذلك ما أملوه و قصدوه عن إبطال دين اللّه تعالى و ستر نبوة محمد عليه الصلاة و السلام،و الحبوط في الآخرة راجع إلى أعمالهم الدينية و هي عباداتهم و طاعاتهم؛لأنهم فعلوها نفاقا و رياء فبطل ثوابها في الآخرة؛و إن كان المراد بأعمالهم مجرد الأعمال الدينية فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها؛لأنّ اللّه تعالى يقبل العبادة في الدنيا ثم يثيب عليها في الآخرة،و المراد بحبوطها في الدنيا عدم قبولها و عدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها،كالعبادة و القربة و الحسنة و نحو ذلك،و هذا ضد قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ [العنكبوت:27]فدل على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا غير الأجر المؤجل إلى الآخرة،و هو القبول و حسن الثناء و الذكر و إلقاء المحبة في قلوب الخلق،كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم:96]قيل معناه:يحبهم و يحببهم إلى عباده من غير سبب بينه و بينهم يوجب المحبة،و كذلك على العكس حال العصاة و الفساق يبغضهم و يبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه و بينهم يوجب البغض.
[402] فإن قيل:قوله تعالى: وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [التوبة:74]
ص: 115
لم خص الأرض بالنفي؛مع أن المنافقين ليس لهم ولي و لا نصير من عذاب اللّه في الأرض و لا في السماء،في الدنيا و لا في الآخرة؟ قلنا:لما كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية و لا يصدقون بالآخرة،كان اعتقادهم وجود الولي و النصير مقصورا على الدنيا،فعبّر عن الدنيا،بالأرض، و خصها بالذكر لذلك.
الثاني:أنه أراد بالأرض أرض الدنيا و الآخرة فكأنه قال:و ما لهم في الدنيا و الآخرة من ولي و لا نصير.
[403] فإن قيل:لم خص السبعين بالذكر في قوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [التوبة:80]مع أن اللّه تعالى لا يغفر للمنافقين و لو استغفر لهم الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم ألف مرة بدليل قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [المنافقون:6]و لأنهم مشركون،و اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به؟ قلنا:جرت عادة العرب بضرب المثل في الآحاد بالسبعة،و في العشرات بالسبعين،و في المئات بسبعمائة استعظاما لها و استكثارا،لا أنهم يريدون بذكرها الحصر،فكأنه قال:إن تستغفر لهم أعظم الأعداد و أكثرها فلن يغفر اللّه لهم،و يعضده ما ذكره بعد ذلك من بيان الصارف عن المغفرة في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [التوبة:80].
[404] فإن قيل:لو كان ما ذكرتم لما خفي ذلك على النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هو أفصح العرب و أعلمهم بأساليب الكلام و تمثيلاته؛حتّى قال،لما نزلت هذه الآية:إن اللّه تعالى قد رخص لي فسأزيد على السبعين.و في رواية أخرى:فسأستغفر لهم أكثر من السبعين لعل اللّه أن يغفر لهم؟ قلنا:لم يخف عليه ذلك و إنما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته و رأفته بمن بعث إليهم،كما وصفه اللّه تعالى بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:
128]الآية و في إظهار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الرأفة و الرحمة لطف لأمته،و حث لهم على التراحم، و شفقة بعضهم على بعض،و هذا دأب الأنبياء عليهم الصلاة و السلام،أ لا ترى إلى قول إبراهيم صلوات اللّه عليه وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].
[405] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91]و المغفرة و الرحمة إنما تكون للمسيئين لا للمحسنين؟ قلنا:معناه و اللّه غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا،فهو متعلق بمحذوف لا بالمحسنين؛لأنهم قد سدوا بإحسانهم طريق العقاب و الذم؛فليس عليهم سبيل فيهما.
ص: 116
الثاني:أن المحسن من الناس و إن تناهى في إحسانه لا يخلو عن إساءة بينه و بين اللّه تعالى،أو بينه و بين الناس،لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر غفر اللّه له صغائر سيئاته و رحمه،كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31] [406] فإن قيل:قوله تعالى: فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ [التوبة:105]أي سيعلم؛لأن السين للاستقبال،و الرؤية من اللّه تعالى بمعنى العلم،و اللّه تعالى عالم بعملهم حالا و مآلا؟ قلنا:معناه في حقّ اللّه أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا؛لأن اللّه تعالى يعلم كل شيء على ما هو عليه،فيعلم المنتظر منتظرا و يعلم الواقع واقعا،و أما في حق الرسول عليه الصلاة و السلام فهو على ظاهره.
[407] فإن قيل:إن اللّه تعالى قد وصف العرب بالجهل في القرآن بقوله تعالى:
وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة:97]فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم و أشعارهم على كتاب اللّه و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قلنا:هذا وصف من اللّه لهم بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه،و نحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام؛بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ؛لأن القرآن و السنة جاءا بلغتهم.
[408] فإن قيل:كيف قال تعالى في صفة المنافقين: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101]و قال في موضع آخر وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]؟ قلنا:هذه الآية نزلت قبل تلك الآية فلا تناقض؛لأنه نفى علمه لهم في زمان ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر.
[406] فإن قيل:قوله تعالى: خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً [التوبة:102]قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فأين المخلوط به؟ قلنا:كل واحد مخلوط و مخلوط به؛لأن معناه:خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك:خلطت الماء و اللبن،تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه،و فيه من المبالغة ما ليس في قولك:خلطت الماء باللبن،لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا و اللبن مخلوطا به،و بالواو جعلت الماء و اللبن مخلوطين و مخلوطا بهما،كأنك قلت:
خلطت الماء باللبن و اللبن بالماء؛و يجوز أن تكون الواو بمعنى الباء كقولهم:بعت شاة و درهما،يعنون شاة بدرهم.
[410] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:112] بالواو و ما قبلها من الصفات بغير واو؟
ص: 117
قلنا:لأنها صفة ثامنة،و العرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد،فإن السبعة عندهم هي العقد التام كالعشرة عندنا،فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه،و نظيره قوله تعالى: وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:
22]بعد ما ذكر العدد مرتين بغير واو،و قوله تعالى في صفة الجنة وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر:73]بالواو لأنها ثمانية.و قال في صفة النار نعوذ باللّه منها فتحت أبوابها بغير واو لأنها سبعة،و ليس قوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً [التحريم:5]من هذا القبيل،لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى لتناقض الصفتين.و قيل:إنما دخلت الواو على الناهين عن المنكر إعلاما بأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره بالمعروف، فهما صفتان متلازمتان بخلاف باقي الصفات المذكورة فإنها ليست متلازمة،و لا ينقض هذا بقوله تعالى: اَلرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ [التوبة:112]؛لأنهما ليستا صفتين متلازمتين؛لأن السجود يلزم الرّكوع،أما الرّكوع فلا يلزم السجود بدليل سجود التلاوة و سجود الشكر،و الزمخشري لم يتكلم على هذه الواو.
[411] فإن قيل:كيف قال تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:121]أي بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر،مع أنهم يجزون بحسنة أيضا لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7]؟ قلنا:معناه بحسن الذي كانوا يعملون،و هو الطاعات كلها،لا بسيئة و هو المعاصي،فالأحسن هنا بمعنى الحسن،و سيأتي في سورة الرّوم في قوله تعالى:
وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]ما يوضح هذا إن شاء اللّه تعالى.
الثاني:أنّ معناه ليجزيهم اللّه أحسن من الذي كانوا يعملون.
[412] فإن قيل:قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً [التوبة:124] يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟ قلنا:قال مجاهد:معناه فزادتهم علما؛لأن العلم من ثمرات الإيمان فجعل مجازا عنه،و اللّه أعلم.
ص: 118
[413] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5] و اللّه تعالى فصل الآيات للعلماء و الجهال أيضا.
قلنا:لما كان يقع تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء و انتفاعهم بالتفصيل أكثر أضاف التفصيل إليه و خصهم به.
[414] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس:10]مع أن أقوال أهل الجنة و أحوالهم لا آخر لها،لأن الجنّة دار الخلود؟ قلنا:معناه و آخر دعائهم في كل مجلس دعاء أو ذكر أو تسبيح،فإن أهل الجنة يسبحون و يذكرون للتنعم و التلذذ بالذكر و التسبيح.
[415] فإن قيل:قد أنكر اللّه تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته في قوله تعالى: لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا [الأنعام:148]و لهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه بقوله لو شاء اللّه ما فعلت هذه المعصية فلا تقيموا عليّ حدها:فكيف قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:لو شاء اللّه ما تلوته عليكم؟ قلنا:النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال هذه الجملة بأمر اللّه تعالى،لأن اللّه عزّ و جلّ قال له: قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [يونس:16]و للعبد أن يحتج بمشيئة اللّه إذا أمره اللّه أن يحتج بها،أما ما ليس كذلك فليس له أن يحتج بمجرد المشيئة،و ما أوردتموه كذلك.
[416] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:23]و البغي لا يكون إلا بغير الحق؛لأن البغي هو التعدي و الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد،كذا قاله الأصمعي،فما فائدة التقييد؟ قلنا:قد يكون الفساد بالحق كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار و هدم دورهم و إحراق زروعهم و قطع أشجارهم،كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ببني قريظة.
[417] فإن قيل:كيف شبه اللّه تعالى الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض
ص: 119
فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس:24]؟ قلنا:لأن ماء السماء و هو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه و لا حيلة للعبد في زيادته و نقصانه،كما أن الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها و نقصانها.
الثاني:أن ماء السماء يستوي فيه جميع الخلائق،الوضيع و الشريف،و الغني و الفقير و الحيوان و غيره كالمدر و الحجر و الشوك و الثمر،كما أن الحياة كذلك،فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة و مطابقة.
[418] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ [يونس:28].و قال في موضع آخر: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة:174]؟ قلنا:يوم القيامة مواقف و مواطن،ففي موقف لا يكلمهم،و في موقف يكلمهم،و نظيره قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:39] و قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:15].
الثاني:المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام؛بل كلام توبيخ و تقريع.
[419] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [يونس:31] إلى آخر الآية يدل على أنهم معترفون أن اللّه تعالى هو الخالق و الرازق و المدبر لجميع المخلوقات،فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟ قلنا:كانوا يعتقدون في عبادة الأصنام أنهم يتقرّبون بها إلى عبادة اللّه؛فطائفة كانت تقول نحن لا نتأهل لعبادة اللّه تعالى بغير واسطة لعظمة إجلاله و نقصنا و حقارتنا،فجعلوا الأصنام وسائط ،كما قال تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى [الزمر:3]و طائفة كانت تقول:نتخذ أصناما على هيئة الملائكة و نعبدهم لتشفع لنا الملائكة عند اللّه ليقربونا إلى اللّه،و طائفة كانت تقول:الأصنام قبلة لنا في عبادة اللّه،كما أن الكعبة قبلة في عبادته،و طائفة و هي الأكثر كانت تقول:على كل صنم شيطان موكل به من عند اللّه،فمن عبد الصنم حقّ عبادته قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده بأمر اللّه،و من قصر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر اللّه، فكل الطوائف من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة اللّه و التقرب إليه و لكن بطرق مختلفة.
[420] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس:34]و هم غير معترفين بوجود الإعادة أصلا لا من اللّه و لا من غيره؟ قلنا:لما كانت الإعادة ظاهرة الوجود لظهور برهانها و هو القدرة على ابتداء
ص: 120
الخلق،و الإعادة أهون بالنسبة إلينا لزمهم الاعتراف بها،فصاروا كأنهم مسلّمون وجودها من حيث ظهور الحجة و وضوحها.
[421] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ [يونس:46]رتب كونه شهيدا على أفعالهم على رجوعهم إليه في القيامة،مع أنه شهيد على أفعالهم في الدنيا و الآخرة؟ قلنا:ذكر الشهادة و أراد مقتضاها و نتيجتها و هو العقاب و الجزاء،فكأنه قال:ثم اللّه يعاقب على ما يفعلون أو مجاز على ما يفعلون.كما قال تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [البقرة:197]و نظائره في القرآن العزيز كثيرة.
[422] فإن قيل:كيف قال تعالى: بَياتاً أَوْ نَهاراً [يونس:50]و لم يقل ليلا أو نهارا و هو أظهر في المطابقة استعمالا مع النهار في القرآن العزيز و غيره؟ قلنا:لأن المعهود المألوف في كلام العرب عند ذكر البطش و الإهلاك و الوعيد و التهديد ذكر لفظ البيات سواء قرن به النهار أو لا،فلذلك لم يقل ليلا.
[423] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:50] أي ما ذا يستعجلون منه،و أول الآية للمواجهة؟ قلنا:أراد بذكر المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال و هو الإجرام، لأن من حقّ المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه و يفزع من مجيئه،و إن أبطأ فضلا عن أن يستعجله.
[424] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:
58]و لم يقل فبذينك،و المشار إليه اثنان الفضل و الرحمة.
قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة البقرة في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة:68].
[425] فإن قيل:قوله تعالى: وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [يونس:60]تهديد؛لأن فيه محذوفا تقديره:و ما ظنهم أن اللّه فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم،فكيف يناسبه قوله تعالى بعده إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ [البقرة:243]؟ قلنا:هو مناسب لأن معناه أن اللّه لذو فضل على الناس حيث أنعم عليهم بالعقل و الوحي و الهداية و تأخر العذاب و فتح باب التوبة،فكيف يفترون على اللّه الكذب مع توافر نعمه عليهم؟ [426] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [يونس:61]فأفرد ثم قال: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يونس:61]فجمع،و الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم؟
ص: 121
قلنا:قال ابن الأنباري:إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أنّ الأمة داخلون مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الفعلين الأولين.و قال غيره:المراد بالفعل الثالث أيضا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم وحده،و إنّما جمع تفخيما له و تعظيما كما في قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75]على قول ابن عباس،رضي اللّه عنهما،و كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون:51]و المراد به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،كذا قاله ابن عباس و الحسن و غيرهما،و اختاره ابن قتيبة و الزّجّاج.
[427] فإن قيل:كيف قدم الأرض على السماء في قوله تعالى: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [يونس:61]و قدم السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3]؟ قلنا:حق السماء أن تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف،لكنه كما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شئون أهل الأرض و أقوالهم و أعمالهم ثم أردفه بقوله: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [يونس:61]ناسب ذلك تقديم الأرض على السماء.
الثاني:أن العطف بالواو نظير التثنية و حكمه حكمها،فلا يعطى رتبة كالتثنية.
[428] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [يونس:65]و قال في موضع آخر[ وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]؟ قلنا:أثبت الاشتراك في نفس العزة التي هي في حقّ اللّه تعالى القدرة و الغلبة،و في حق الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم علو كلمته و إظهار دينه،و في حقّ المؤمنين نصرهم على أعدائهم،و قوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [يونس:65]أراد به العزة الكاملة التي يندرج فيها عزة الإلهية و الخلق و الإماتة و الإحياء و البقاء الدائم و ما أشبه ذلك فلا تنافي.
[429] فإن قيل:إذا كانت السموات و الأرض و ما فيهما من المخلوقات و ما وراءهما كل ذلك للّه تعالى ملكا و خلقا،فما فائدة التخصيص في قوله تعالى: مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس:66]؟ قلنا:إنما خص العقلاء المميزين بالذكر و هم الملائكة و الثقلان،ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا له و هو ربهم،و لا يصلح أحد منهم للربوبية و لا للشركة معه،فما وراءهم مما لا يعقل كالأصنام و الكواكب و نحوهما أحق أن لا تكون له ندا و شريكا.
[430] فإن قيل:كيف قال لهم موسى عليه السلام: أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا [يونس:77]على طريق الاستفهام،و هم إنما قالوا ذلك على طريق الإخبار أو التحقيق المؤكد بإن و اللام لا على طريق الاستفهام،قال اللّه تعالى: فَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يونس:76].
ص: 122
قلنا:فيه إضمار تقديره:أ تقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين.ثم قال أ سحر هذا إنكارا لما قالوه،فالاستفهام من قول موسى عليه السلام لا مفعول لقولهم.
[431] فإن قيل:كيف نوّع الخطاب في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87] فثنى أولا،ثم جمع،ثم أفرد؟ قلنا:خوطب أولا موسى و هارون أن يتبوءا لقومهما بيوتا و يختاراها للعبادة، و ذلك مما يفوض إلى الأنبياء عليهم الصلاة و السلام،ثم سبق الخطاب عاما لهما و لقومهما باتخاذ المساجد و الصلاة فيها،لأن ذلك واجب على الجمهور،ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة تعظيما لها أو تعظيما له عليه السلام.
[432] فإن قيل:كيف قال تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [يونس:89]أضافها إليهما،و الدعوة إنما صدرت من موسى عليه السلام،قال اللّه تعالى: وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً [يونس:88]إلى آخر الآية؟ قلنا:نقل أن موسى عليه السلام كان يدعو و هارون كان يؤمن على دعائه؛ و التأمين دعاء في المعنى فلهذا أضاف الدعوة إليهما.
الثاني:أنه يجوز أن يكون هارون دعا أيضا مع موسى،إلا أن اللّه تعالى خص موسى بالذكر؛لأنه كان أسبق بالدّعوة أو أحرص عليها أو أكثر إخلاصا فيها.
[433] فإنه قيل:لو كان كذلك لقال تعالى دعوتاكما بالتثنية؟ قلنا:لما كانت الدعوة مصدرا اكتفى بذكرها في موضع الإفراد و التثنية و الجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر،و نظيره قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة:7].
[434] فإنه قيل:كيف قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس:94] و إن إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود،و شك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في القرآن منتف قطعا؟ قلنا:الخطاب ليس للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم بل لمن كان شاكّا في القرآن و في نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فكأنه قال:«فإن كنت أيها الإنسان في شك».
[435] فإن قيل:قوله تعالى: مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس:94]يدل على أن الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم لا لغيره.
قلنا:لا يدل،قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء:174]و قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التوبة:64].
الثاني:أن الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المراد غيره كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ [الأحزاب:1]و يعضده قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:94]و يعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يونس:104].
ص: 123
الثاني:أن الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المراد غيره كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ [الأحزاب:1]و يعضده قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:94]و يعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يونس:104].
الثالث:أن تكون إن بمعنى ما،تقديره:فما كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل.المعنى لسنا نأمرك أن تسأل أحبار اليهود و النصارى عن صدق كتابك،لأنك في شك منه،بل لتزداد بصيرة و يقينا و طمأنينة.
الرابع:أن الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم مع انتفاء الشك منه قطعا أو المراد به إلزام الحجة على الشاكين الكافرين كما يقول لعيسى عليه السلام: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ [المائدة:116]و هو عالم بانتفاء هذا القول منه لإلزام الحجة على النصارى.
[436] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99]ما فائدة ذكر «جَمِيعاً» بعد قوله «كُلُّهُمْ» و هو يفيد الشمول و الإحاطة؟ قلنا:كل يفيد الشمول و الإحاطة،و لا يدل على وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع.
و جميعا يدل على وجوده منهم في حالة واحدة،كما تقول جاءني القوم جميعا،أي مجتمعين،و نظيره قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر:30].
[437] فإن قيل:قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [يونس:101] كيف يصح هذا الأمر؛مع أنّا لا نعلم جميع ما فيهما و لا نراه؟ قلنا:هو عام أريد ما ندركه بالبصر مما فيهما،كالشمس و القمر و النجوم و الجبال و البحار و المعادن و الحيوانات و النبات و نحو ذلك مما يدل على وجود الصانع و توحيده و عظيم قدرته،فيستدل به على ما وراءه.
[438] فإن قيل:قوله تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ [الأنعام:17]الآية ما الحكمة في ذكر المس في الضر و الإرادة في الخير؟ قلنا:لاستعمال كل من المس و الإرادة في كل من الضر و الخير،و أنه لا مزيل لما يصيب به منهما و لا رادّ لما يريده فيهما،فأوجز الكلام بأن ذكر المس في أحدهما و الإرادة في الآخر ليدل بما ذكر على ما لم يذكر؛مع أنّه قد ذكر المس فيهما في سورة الأنعام.و إنما عدل هنا عن لفظ المس المذكور في سورة الأنعام إلى لفظ الإرادة،لأن الجزاء هنا قوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]و الرد إنما يكون فيما لم يقع بعد،و المس إنما يكون فيما وقع،فلهذا قال ثم وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]و معناه فإن شاء أدام ذلك الخير،و إن شاء أزاله،فلا يطلب دوامه و زيادته إلا منه تعالى.
ص: 124
[439] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:3]مع أن التوبة مقدمة على الاستغفار؟ قلنا:المراد استغفروا ربكم من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة،كذا قاله مقاتل.
و هذا الاستغفار مقدّم على هذه التّوبة.
الثاني:أن فيه تقديما و تأخيرا.
الثالث:قال الفراء:ثم هنا بمعنى الواو،و هي لا تفيد ترتيبا فاندفع السؤال.
[440] فإن قيل:من لم يستغفر و لم يتب فإن اللّه يمتعه متاعا حسنا إلى أجله، أي يرزقه و يوسع عليه كما قال ابن عباس،أو يعمره كما قال ابن قتيبة،فما فائدة قوله تعالى: وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود:3]؟ قلنا:قال غيرهما المتاع الحسن المشروط بالاستغفار و التوبة هو الحياة في الطاعة و القناعة،و مثل هذه الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقي.
[441] فإن قيل:قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [هود:6]كيف لم يقل على الأرض؛مع أنه أشد مناسبة لتفسير الدابة لغة فإنها ما يدب على وجه الأرض؟ قلنا:في هنا بمعنى على،كما في قوله تعالى: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:
71]و قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:38].
الثاني:أن لفظة«في»أعم و أشمل،لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض و كل دابة في باطن الأرض بخلاف على.
[442] فإن قيل:كيف خص الدّابة بذكر ضمان الرزق،و الطير كذلك رزقه على اللّه تعالى،و هو غير الدّابة،بدليل قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام:38]؟ قلنا:إنما خص الدابة بالذكر؛لأنّ الدواب أكثر من الطيور عددا،و فيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من أفراد الطير كالفيل و الحوت،فيكون أحوج إلى الرزق، فلذلك خصه بالذكر.
[443] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها [هود:6]و على
ص: 125
للوجوب،و اللّه تعالى لا يجب عليه شيء و إنما يرزقها تفضلا منه و كرما.
قلنا:على هنا بمعنى من،كما في قوله تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:2].
الثاني:أنه ذكره بصيغة الوجوب ليحصل للعبد زيادة سكون و طمأنينة في حصوله.
[444] فإن قيل:كيف قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] و الخطاب عام للمؤمنين و الكافرين،فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية،و أعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى أحسن و أحسن،فأما أعمال الفريقين فتفاوتها إلى حسن و قبيح.
قلنا:قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ [هود:7]عام أريد به الخاص و هو المؤمنون؛ تشريفا لهم و تخصيصا؛فصح قوله أحسن عملا.
[445] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود:12]و لم يقل و ضيّق؟ قلنا:ليدل على أن ضيقه عارض غير ثابت،لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان أفسح الناس صدرا،و نظيره قولك:زيد سائد و جائد،فإذا أردت وصفه بالسيادة و الجود الثابتين المستقرين قلت:زيد سيد و جواد،كذا قال الزمخشري.
[446] فإن قيل:قال تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود:13]أمرهم بالإتيان بمثله و ما يأتون به لا يكون مثله،لأن ما يأتون به مفترى و القرآن ليس بمفترى.
قلنا:أراد به مثله في البلاغة و الفصاحة و إن كان مفترى.و قيل معناه:
مفتريات،كما أن القرآن مفترى في زعمكم و اعتقادكم فيتماثلان.
[447] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا [هود:13]فأفرد في قوله «قُلْ» ثم جمع فقال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا [هود:14]؟ قلنا:الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في الكل،و لكنه جمع في قوله: لَكُمْ فَاعْلَمُوا [هود:
14]تفخيما له و تعظيما.
الثاني:أن الخطاب الثاني للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه،لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه كانوا يتحدونهم بالقرآن،و قوله تعالى في موضع آخر فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص:
50]يعضد الوجه الأول.
الثالث:أن يكون الخطاب في الثاني و الثالث للمشركين،و الضمير في يستجيبوا لمن استطعتم؛يعني فإن لم يستجب لكم من تدعونه المظاهرة على معارضته لعجزهم فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم اللّه،و هذا وجه لطيف.
[448] فإن قيل:قوله تعالى: وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها [هود:16]يدل على
ص: 126
بطلان عملهم،فما فائدة قوله بعده وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها [هود:16]أي بطل ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]من الرياء.
[449] فإن قيل:كيف قال نوح عليه السلام: وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ [هود:
29]بالواو و قال هود عليه السلام: يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ [هود:51]بغير الواو؟ قلنا:لأن الضمير في قولهما عليه لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين،و لكن في قصة نوح عليه السلام وقع الفصل بين الضمير و بين ما هو عائد عليه بكلام آخر،فجيء بواو الابتداء.و في قصة هود عليه السلام لم يقع بينهما فصل فلم يحتج إلى واو الابتداء،هذا ما وقع لي فيه،و اللّه أعلم.
[450] (1) فإن قيل:قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ [هود:43]لا يناسبه المستثنى في الظاهر و هو قوله: إِلاّ مَنْ رَحِمَ [هود:43]لأن المرحوم معصوم، فظاهره يقتضي لا معصوم إلا من رحم،أي لا معصوم من الغرق بالطوفان إلا من رحمة اللّه بالإنجاء في السفينة؟ قلنا:عاصم هنا بمعنى معصوم،كقوله تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق:6] مدفوق،و قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة:21]،أي مرضية،و قول العرب:
سر كاتم،أي مكتوم.
الثاني:أن معناه:لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلا من رحم،أي إلا الرّاحم و هو اللّه تعالى،و ليس معناه المرحوم،فكأنه قال:لا عاصم إلا اللّه.
الثالث:أن معناه:لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلا مكان من رحم اللّه من المؤمنين9.
ص: 127
و نجاهم و هو السفينة،و يناسب هذا الوجه قوله تعالى: *وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود:41]و هذا لأن ابن نوح عليه السلام لما جعل الجبل عاصما من الماء رد نوح عليه السلام ذلك،و دله على العاصم و هو اللّه تعالى، أو المكان الذي أمر اللّه بالالتجاء إليه و هو السفينة.
[451] فإن قيل:كيف صح أمر السماء و الأرض بقوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي [هود:44]و هما لا يعقلان،و الأمر و النهي إنما يكون لمن يعقل و يفهم الخطاب؟ قلنا:الخطاب لهما في الصورة،و المراد به الخطاب للملائكة الموكلين بتدبيرهما.
الثاني:أن هذا أمر إيجاب لا أمر إيجاد،و أمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل و الفهم،لأن الأشياء كلها بالنسبة إلى أمر الإيجاد مطيعة منقادة للّه تعالى،و منه قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]و قوله تعالى:
فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت:11]كل ذلك أمر إيجاد.
[452] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود:45] بالفاء،و قال في قصة زكريا عليه الصلاة و السلام: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ [مريم:3،4].
قلنا:أراد بالنداء هنا إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية،فإن إرادة النداء سبب للنداء،فكأنه قال:و أراد نوح نداء ربه فقال كيت و كيت،و أراد به في قصة زكريا عليه الصلاة و السلام حقيقة النداء،فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية.
[453] فإن قيل:هود عليه الصلاة و السلام كان رسولا و لم يظهر معجزة:
و لهذا قال له قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود:53]فبأي شيء لزمتهم رسالته؟ قلنا:إنما يحتاج إلى المعجزة من الرسل من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمته لشريعته، فإن في كل شريعة أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها إلى معجزة لتشهد بصحة صدقه،فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة و لا يأمر إلا بالعقليات فلا يحتاج إلى معجزة؛ لأن الناس ينقادون إلى ما يأمرهم به لموافقته للعقل،و هود كان كذلك.
الثاني:أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر فإنها كانت سخرت له.
[454] فإن قيل:على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه و كذبوه و نسبوه إلى الجنون بقولهم: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود:53]إلى قوله: بِسُوءٍ [هود:54].
قلنا:إنما صدر ذلك القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين،كما
ص: 128
قيل ذلك لكل رسول،بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات و الآيات الباهرات.
[455] فإن قيل:هلا قال:إنّي أشهد اللّه و أشهدكم،ليتناسب الجملتان.
قلنا:لأن إشهاد اللّه تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح مفيد تأكيد التوحيد و شد معاقده،و أما إشهادهم فما هو إلا تهكم بهم و تهاون و دلالة على قلة المبالاة؛لأنهم ليسوا أهلا للشهادة،فعدل به عن اللفظ الأول و أتى به على صورة التهكم و التهاون،كما يقول الرجل لصاحبه إذا لاحاه:أشهد إني لأحبك،تهكما به و استهانة له.
[456] فإن قيل:قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [هود:57]؛جعل التولي شرطا،و الإبلاغ جزاء،و الإبلاغ كان سابقا على التولي.
قلنا:ليس الإبلاغ جزاء التولي،بل جزاؤه محذوف تقديره:فإن تولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ أو تقصير فيه،و دلّ على الجزاء المحذوف قوله: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف:93].
الثاني:قال مقاتل تقديره:فإن تولوا فقل لهم قد أبلغتكم.
[457] فإن قيل:ما فائدة تكرار التنجية في قوله تعالى: وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود:58]؟ قلنا:أراد بالتنجية الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود،و هو سموم أرسلها اللّه تعالى عليهم فقطعتهم عضوا عضوا،و أراد بالتنجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذي استحقه قوم هود بالكفر و لا عذاب أغلظ منه و لا أشد.
[458] (1) فإن قيل: بُعْداً [هود:60]معناه عند العرب الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم.
قلنا:معناه الدلالة على أنهم مستأهلون له و حقيقون به،و نقيضه قول الشاعر:
إخوتي لا تبعدوا أبدا و بلى و اللّه قد بعدوا
أراد بالدعاء لهم بنفي الهلاك،بعد هلاكهم،الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلين له و لا حقيقين به.
[459] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ [هود:84]نهى عن النقص فيهما،و النهي عن النقص أمر بالإيفاء معنى،فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ [هود:85]؟2.
ص: 129
قلنا:صرح أولا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه و تغييرهم إياه،ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا لزيادة الترغيب فيه و الحث عليه.
[460] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]و العثو الفساد،فيصير المعنى:و لا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا:قد سبق هذا السؤال و جوابه في سورة البقرة.و جواب آخر معناه:و لا تعثوا في الأرض بالكفر،و أنتم مفسدون بنقص المكيال و الميزان.
[461] فإن قيل:كيف قال: بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود:86] فشرط الإيمان في كون البقية خيرا لهم،و هي خير لهم مطلقا؛لأن المراد ببقية اللّه ما يبقى لهم من الحلال بعد إيفاء الكيل و الوزن و ذلك خير لهم و إن كانوا كفارا؛لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس و التطفيف؟ قلنا:إنما شرط الإيمان في خيرية البقية؛لأن خيريتها و فائدتها مع الإيمان أظهر،و هو حصول الثواب مع النجاة من العقاب،و مع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر الذي هو أشد العذاب.
الثاني:أن المراد إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم و أنصح.
[462] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود:89] و لم يقل ببعيدين و القوم اسم لجماعة الرجال،و ما جاء فى القرآن الضمير العائد إليه إلا ضمير جماعة،قال اللّه تعالى: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ [نوح:1]و قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:11].
قلنا:فيه إضمار تقديره:و ما هلاك قوم لوط أو مكان قوم لوط،و مكان قوم لوط كان قريبا منهم،و إهلاكهم أيضا كان قريبا من زمانهم.
الثاني:أن فعيلا يستوي فيه الواحد و الاثنان و الجمع،قال الجوهري:يقال ما أنتم منا ببعيد،و قال اللّه تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]،و قال: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق:17].
[463] فإن قيل:قولهم: وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود:91] كلام واقع فيه و في رهطه و أنهم الأعزة عليهم دونه،فكيف صح قوله: أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ [هود:92]؟ قلنا:تهاونهم به و هو نبي اللّه تهاون باللّه،فحين عز رهطه عليهم دونه كان رهطه أعز عليهم من اللّه،أ لا ترى إلى قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ
ص: 130
[النساء:80]و قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ [الفتح:10].
[464] فإن قيل:قد ذكر عملهم على مكانتهم و عمله على مكانته،ثم أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه و منهم،فكان المطابق و الموافق في ظاهر الفهم أن يقول:من يأتيه عذاب يخزيه؛حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم،و من هو صادق إليه.
قلنا:القياس ما ذكرت،و لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال:و من هو كاذب، يعني في زعمكم و دعواكم تجهيلا لهم.
[465] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ [هود:102] و القرى لا تكون ظالمة؛لأن الظلم من صفات من يعقل أو من صفات الحيوان دون الجماد؟ قلنا:هو من الإسناد المجازي،و المراد به أهلها،كما قال تعالى،في موضع آخر: أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها [النساء:75]؛لكن لما أمن اللبس أسند الظلم إلى القرية لفظا كما في قوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82].
[466] فإن قيل:كيف التوفيق بين قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ [هود:105]و قوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل:111] و قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35،36]فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن،و تناقض الآيتين جميعا بنفي النطق! قلنا:أما التوفيق بين الآيتين الأوليين فظاهر؛لأن معناه تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان،و أما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الأولى بنفي الإذن،إن قلنا إن الاستثناء من النفي ليس بإثبات؛لأن الآية الأولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ؛بل تقتضي نفي الكلام عند انتفاء الإذن،فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى،و لا تناقض الآيتين بنفي النطق؛لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف و مواطن؛ففي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه،و في بعضها يؤذن لهم فيتكلمون،و في بعضها يختم على أفواههم و تتكلم أيديهم و تشهد أرجلهم،و هذا جواب عام عن مثل هذه الآيات و يرد على هذا أن يقال قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات:35]نفي النطق عنهم يوم القيامة،فيقتضي انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم النفي،كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا لا وجود لزيد في الدار،فاندفع الجواب باختلاف المواقف و المواطن،فيكون الجواب أن الآية الثالثة أريد بها طائفة خاصة غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض.
[467] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ [هود:105]و كلمة من للتبعيض،و معلوم أن الناس كلهم إما شقي أو سعيد،فما معنى التبعيض؟
ص: 131
قلنا:التبعيض هنا على حقيقته؛لأن أهل القيامة ثلاثة أقسام:قسم شقي و قسم سعيد و هم أهل النار و الجنة كما ذكر في هذه الآية مفصلا،و قسم لا شقي و لا سعيد و هم أهل الأعراف.
الثاني:أن معنى الكلام:فمنهم شقي و منهم سعيد،و هذا يقتضي أن يكون الشقي بعض الناس و السعيد بعض الناس،و الأمر كذلك،و لا يقتضي أن يكون الشقي و السعيد كلاهما بعض الناس؛بل كل واحد منهما بعض،و كلاهما كل كما تقول من الحيوان إنسان،و من الحيوان غير إنسان،و كل الحيوان إما إنسان أو غير إنسان.
[468] فإن قيل:كيف قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [هود:107]و أراد به بيان دوام الخلود،مع أن أهل الجنة و أهل النار مخلدون فيهما خلودا لا نهاية له،و السموات و الأرض و دوامهما منقطع لأنهما يوم القيامة ينهدمان، قال اللّه تعالى: كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر:21]و قال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار:1]و قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]و نظائره كثيرة مما يدل على خراب السموات و الأرض؟ قلنا:للعرب في معنى الأبد ألفاظ تعبر بها عن إرادة الدوام دون التأقيت منها، هذا،يقولون:لا أفعل كذا ما اختلف الليل و النهار،و ما دامت السماء و الأرض،و ما أطمت الإبل،و يريدون بذلك لا أفعله أبدا مع قطع النظر عن كون المؤقت به له نهاية أولا نهاية له.
الثاني:أنه خاطبهم على معتقدهم أن السموات و الأرض لا تزول و لا تتغير.
الثالث:أنه أراد به كون الفريقين في قبورهم إما منعمين أو معذبين،كما جاء في الحديث أن«القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».و من كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة،و من كان في حفرة من حفر النار فهو في النار،فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت بدوام السموات و الأرض مدة الخلود إلى يوم القيامة.
الرابع:أن المراد بها سماوات الآخرة و أرضها،قال اللّه تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ [إبراهيم:48]و تلك دائمة لا تزول و لا تفنى،و لأنه لا بد لأهل الجنة مما يقلهم و يظلهم،إما سماء يخلقها اللّه تعالى،أو العرش،كما جاء في الأخبار أن أهل الجنة تحت ظل العرش،و كل ما أظلك فهو سماء،و جاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة أن ترابها من زعفران،فدل أن لها أرضا،و المراد تلك السموات و تلك الأرض.
[469] فإن قيل:إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما لا آخر له،
ص: 132
فكيف يصح الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود:107]؟ قلنا:قال الفراء«إلا»هنا بمعنى غير و سوى،فمعناه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [هود:107]سوى ما شاء اللّه تعالى من الخلود و الزيادة؛فكأنه قال:خالدين فيها قدر مدة الدنيا غير ما شاء اللّه من الزيادة عليها إلى غير نهاية،و هذا الوجه إنما يصح إذا كان المراد سماوات الدنيا و أرضها.قال ابن قتيبة:و مثله في الكلام قولك:لأسكننك في هذه الدّار حولا إلا ما شئت،يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول.
الثاني:أنه استثناء لا يفعله كما تقول:لأهجرنك إلا أن أرى غير ذلك،و عزمك على هجرانه أبدا و هو معنى قول ابن عباس رضي اللّه عنهما،إلا ما شاء ربك و قد شاء أن يخلدوا فيها.
قال الزجاج:و فائدة هذا الاستثناء إعلامنا أنه لو شاء أن لا يخلدهم لما خلدهم،و لكنه ما شاء إلا خلودهم.
الثالث:أنه استثناء لزمان البعث و الحشر و الوقوف للعرض و الحساب،فإن الأشقياء و السعداء في ذلك الزمان كله ليسوا في النار؛و لا في الجنة.
الرابع:أن«ما»بمعنى من،و المستثنى من يدخل النار من الموحدين فيعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار و يدخل الجنة،و هذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط.
الخامس:أن المستثنى زمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة،و هذا الوجه يختص بالاستثناء من السعداء،لأنهم لم يدخلوا النار؛لأن مصيرهم إلى الخلود في الجنة.
السادس:أنه استثناء من الخلود في عذاب النار و من الخلود في نعيم الجنة، الأشقياء لا يخلدون في عذاب النار بل يعذبون بالزمهرير و غيره من أنواع العذاب سوى النار و هو سخط اللّه عليهم فإنه أشد،و كذلك السعداء لهم سوى نعيم الجنة ما هو أجل منها،و هو الزيادة التي وعدهم اللّه تعالى إياها بقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [يونس:26]و رضوان اللّه كما قال تعالى: وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] و قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]فهو المراد بالاستثناء، و يعضد هذا الوجه قوله تعالى،بعد ذكر الاستثناء: إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:107] و قوله تعالى بعد ذكر السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:107]،يعني أنه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب،و يعطي أهل الجنة أنواع العطاء الذي لا انقطاع له،فاختلاف المقطعين يؤكد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا،فتأمل كيف يفسر القرآن بعضه بعضا.
[470] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:109]بعد قوله:
ص: 133
وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ [هود:109]و التوفية و الإيفاء إعطاء الشيء وافيا،أي تاما، نقله الجوهري و غيره،و التام لا يكون منقوصا؟ قلنا:هو من باب التأكيد.
[471] (1) فإن قيل:قوله تعالى: وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119]إشارة إلى ما ذا؟ قلنا:هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حالي الاختلاف و الرحمة،فمعناه أنه خلق أهل الاختلاف للاختلاف و أهل الرحمة للرحمة،و قد فسره ابن عباس،رضي اللّه تعالى عنهما،فقال:خلقهم فريقين:فريقا رحمهم فلم يختلفوا،و فريقا لم يرحمهم فاختلفوا.
و قيل:هو إشارة إلى معنى الرحمة و هو الترحم،و على هذا يكون الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا.
و قيل:هو إشارة إلى الاختلاف و الضمير في خلقهم للمختلفين،و اللام على الوجه الأول و الثالث لام العاقبة و الصيرورة لا لام كي و هي التي تسمى لام الغرض و المقصود؛لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة،و نظير هذه اللاّم قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8]و قول الشاعر:
لدوا للموت و ابنوا للخراب فكلّكم يصير إلى التّراب
و قيل:إنها لام التمكين و الاقتدار كما في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس:67]و قوله تعالى: وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل:8] و التمكن و الاقتدار حاصل و إن لم يسكن بعض الناس في الليل و لم يركب بعض هذه الدواب،و معنى التمكين و الاقتدار هنا أنه سبحانه و تعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف و مكنهم منه.
و قيل:اللام هنا بمعنى على،كما في قوله تعالى: وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:
103]و قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً [الإسراء:107].
[472] (2) فإن قيل:كيف الجمع بين قوله تعالى: وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ [هود:120]و قوله تعالى: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]؟ قلنا:معناه و كل نبأ نقصه عليك من أنباء الرسل هو ما نثبت به فؤادك فما في موضع رفع خبر لمبتدإ محذوف،فلا يقتضي اللفظ قص أنباء جميع الأنبياء،فلا تناقض بين الآيتين.2.
ص: 134
الثاني:أن المراد بالكل هنا البعض،كما في قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً [البقرة:260]و قوله تعالى: وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس:22] و قوله تعالى: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]و قوله تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]و قول لبيد الشاعر:
ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل و كلّ نعيم لا محالة زائل
و كثير من الأشياء غير اللّه تعالى حقّ،كالنبي عليه الصلاة و السلام و الإيمان و الجنة و غير ذلك،و كذلك نعيم الجنة و الآخرة ليس بزائل،و لبيد صادق في هذا البيت لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد»:
ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل
إلى آخره.
[473] فإن قيل:ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى: وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ [هود:120]مع أنّ الحق جاء في كل سور القرآن؟ قلنا:قالوا فائدة تخصيص هذه السورة بذلك زيادة تشريفها و تفصيلها مع مشاركة غيرها إياها في ذلك كما في قوله تعالى: وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ [الجن:18]و قوله تعالى:
وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة:98]بعد قوله: وَ مَلائِكَتِهِ [البقرة:98]و قوله تعالى:
وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة:238]بعد قوله: اَلصَّلَواتِ [البقرة:238]و وجه المشابهة بينهما أنه حمل قوله تعالى: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة:98]على التشريف و التفضيل عند تعذر حمله على تعليق العداوة به لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل،و كذا في المثال الأخير تعذر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا،و هنا تعذر حمله على حقيقته و هو الجنس بأن حقيقته انحصار كل حقّ في هذه السورة و هو منتف،أو حمل الحق على معهود سابق و هو منتف،و حمله على بعض الحق يلزم منه وصف هذه السورة بوصف مشترك بينها و بين كل السور،و أنه لا يحسن كما لو قال:و جاءك في هذه الحق آيات اللّه أو كلام اللّه أو كلام معجز،فجعل مجازا عن التفضيل و التشريف.
و قيل:الإشارة بهذه إلى الدنيا لا إلى السورة،و الجمهور على القول الأول.
و لا يقال إنما خصت هذه السورة بذلك؛لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى:
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]و الاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين،لأنا نقول الأمر بالاستقامة جاء أيضا في سورة حمعسق قال اللّه تعالى وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [الشورى:15]و لا يصلح هذا علة للتخصيص،و اللّه أعلم.
ص: 135
[474] فإن قيل:كيف قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ [يوسف:
4]و لم يقل ثلاثة عشر كوكبا و هو أوجز و أخصر،و الذي رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس و القمر؟ قلنا:قصد عطفهما على الكواكب تخصيصا لهما بالذكر و تفضيلا لهما على سائر الكواكب لما لهما من المزية و الرتبة على الكل،و نظيره تأخير جبريل و ميكائيل عن الملائكة عليهم السلام ثم عطفهما عليهم،إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملائكة، و كذا قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة:238]إن قلنا إنّها غير مرادة بلفظ الصلوات.
[475] فإن قيل:ما فائدة تكرار رأيت؟ قلنا:قال الزمخشري:ليس ذلك تكرارا؛بل هو كلام مستأنف وضع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليه السلام،كأنه قال له بعد قوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ [يوسف:4]كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟فقال مجيبا له رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف:4]و قال الزّجاج:إنّما كرر الفعل تأكيدا لما طال الكلام كما في قوله تعالى:
وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم:7] وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ [الأعراف:45]و قال غيره، إنما كرره تفخيما للرؤية و تعظيما لها.
[476] فإن قيل:كيف أجريت مجرى العقلاء في قوله: رَأَيْتُهُمْ ،و في قوله:
ساجِدِينَ ،و أصله رأيتها ساجدة؟ قلنا:لما وصفها بما هو من صفات من يعقل و هو السجود أجرى عليها حكمه كأنها عاقلة،و هذا شائع في كلامهم أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة المقارنة،و نظيره قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا [النمل:18]و قوله تعالى،في وصف السماء و الأرض: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت:11].
[477] فإن قيل:كيف قال: يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ [يوسف:12]و كانوا عاقلين بالغين و أنبياء أيضا في قول البعض،و كيف رضي يعقوب عليه السلام لهم بذلك؟
ص: 136
قلنا:على قراءة الياء لا إشكال،لأن يوسف عليه السلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب،و على قراءة النون نقول كان لعبهم المسابقة و المناضلة ليعودوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا للهو و ذلك جائز بالشرع،و يعضد هذا قولهم إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ [يوسف:17]و إنما سمّوه لعبا لأنه في صورة اللّعب.و يرد على أصل السؤال أن يقال:كيف يتورعون عن اللعب و هم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب و أشد و هو إلقاء أخيهم في الجب على قصد القتل.
[478] فإن قيل:كيف اعتذر إليهم يعقوب عليه السلام بعذرين أحدهما: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف:13]لأنه كان لا يصبر عنه ساعة واحدة،و الثاني:
خوفه عليه من الذنب،فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟ قلنا:حبه إياه و إيثاره له و عدم صبره على مفارقته هو الذي كان يغيظهم و يؤلمهم فأضربوا عنه صفحا و لم يجيبوا عنه.
[479] فإن قيل:كيف قال: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ [يوسف:15]و هو يومئذ لم يكن بالغا،و الوحي إنما يكون بعد الأربعين؟ قلنا:المراد به وحي الإلهام لا وحي الرسالة الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين؛و نظيره قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]و قوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68].
[480] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً [يوسف:
22]،و قال في حقّ موسى عليه السلام: وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً [القصص:14].
قلنا:المراد ببلوغ الأشد دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره،و المراد بالاستواء بلوغ الأربعين أو الستين،و كان إيتاء كل واحد منهما الحكم و العلم في ذلك الزمان فأخبر عنه كما وقع.
[481] فإن قيل:كيف وحد الباب في قوله وَ اسْتَبَقَا الْبابَ [يوسف:25] بعد جمعه في قوله: وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يوسف:23].
قلنا:لأن إغلاق الباب للاحتياط لا يتم إلا بإغلاق جميع أبواب الدار،سواء كانت كلها في جدار الدار أو لا؛و أما هربه منها إلى الباب فلا يكون إلا إلى باب واحد إن كانت كلها في جدار الدار،و لأن خروجه في وقت هربه لا يتصور إلا من باب واحد منها،و إن كان بعض الأبواب داخل بعض فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه،و لأن الخروج من الباب الأوسط و الباب الأقصى موقوف على الخروج من الباب الأدنى فلذلك وحد الباب.
ص: 137
[482] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف:26] و لم يكن قوله شهادة؟ قلنا:لما أدى معنى الشهادة في ثبوت قول يوسف عليه السلام و بطلان قولها سمي شهادة،فالمراد بقوله شهد:أعلم و بيّن و حكم.
[483] فإن قيل: قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ [يوسف:28]يدل على أنها كاذبة و أنها هي التي تبعته و جذبت قميصه من خلفه فقدّته،و أما قدّه من قبل فكيف يدل على أنها صادقة؟ قلنا:يدل من وجهين:
أحدهما:أنه إذا كان طالبها و هي تدفعه عن نفسها بيدها أو برجلها فإنها تقد قميصه من قبل بالدفع.
الثاني:أنه يسرع خلفها و هي هاربة منه فيعثر في مقادم قميصه فيشقه.و يرد على الوجه الثاني أنه مشترك الدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع؛لأنه يحتمل أن يكون إسراعا في الهرب منها و هي خلفه فيعثر فينقد قميصه من قبل.
[484] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف:31]،و إنما يقال خرجت إلى السوق و طرقت عليه الباب فخرج إلي؟ قلنا:إذا كان الخروج بقهر و غلبة أو بجمال و زينة أو بآية و أمر عظيم فإنما يعدّى بعلى،و منه قولهم خرج علينا في السفر قطّاع الطريق،و قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79]و قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مريم:11].
[485] فإن قيل:كيف شبهن يوسف عليه السلام بالملك فقلن: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]و هن ما رأين الملائكة قط؟ قلنا:إن كن ما رأين الملائكة فقد سمعن وصفها.
الثاني:أن اللّه تعالى قد ركز في الطباع حسن الملائكة كما ركز فيها قبح الشيطان،و لذلك يشبه كل متناه في الحسن بالملك،و كل متناه في القبح بالشيطان.
[486] فإن قيل:كيف قال يوسف عليه السلام: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [يوسف:37]و ترك الشيء إنما يكون بعد ملابسته و الكون فيه،يقال ترك فلان شرب الخمر و أكل الربا و نحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه، و يوسف عليه السلام لم يكن على ملة الكفار قط؟ قلنا:الترك نوعان:ترك بعد الملابسة و يسمى ترك انتقال،و ترك قبل الملابسة و يسمى ترك إعراض كقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ [الأعراف:127]و موسى عليه السلام ما لابس عبادة فرعون و لا عبادة آلهته في وقت
ص: 138
من الأوقات و ما نحن فيه من النوع الثاني،و سيأتي نظير هذا السؤال في سورة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف:88].
[487] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [يوسف:40]فسر الأمر بالنهي أو بما جزؤه النهي و هما ضدان؟ قلنا:فيه إضمار أمر آخر تقديره أمر أمرا اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه و هو قوله تعالى: فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
الثاني:أن فيه إضمار نهي تقديره:أمر و نهي،ثم فسر الأمرين بقوله تعالى:
أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [يوسف:40].
الثالث:أن قوله تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا [يوسف:40]و إن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ فهو موافق له من حيث المعنى،فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة،و يوافقه معنى غير جائز.و بيان موافقته معنى من وجهين:
أحدهما:أن النهي عن الشيء أمر بضده،و عبادة اللّه ضد عبادة غير اللّه.
الثاني:أن معنى مجموع قوله تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [يوسف:40] اعبدوه وحده فيكون تفسيرا للأمر المطلق بفرد من أفراده و أنه جائز.
[488] فإن قيل:الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس زهدا في الدّنيا و رغبة في الآخرة،فكيف قال يوسف،عليه السلام: اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [يوسف:55]؛ طلب أن يكون معتمدا على الخزائن متوليا لها و هو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا:إنما طلب ذلك ليتوصل به إلى إمضاء أحكام اللّه تعالى و إقامة الحق و بسط العدل و نحوه مما يبعث له الأنبياء،و لعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء لوجه اللّه تعالى و سعيا لمنافع العباد و مصالحهم لهم لا لحب الملك و الدنيا،و نظيره قوله تعالى: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188]يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا،لا للحرص؛لكن لأتمكن من إعانة الضعفاء و الفقراء وقت الضرورة و المضايقة،و يحتمل أن يكون علم تعينه بذلك العمل فكان طلبه واجبا عليه.
[489] فإن قيل:كيف جاز ليوسف عليه السلام،أن يأمر المؤذّن أن يقول:
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف:70]و ذلك بهتان و تسريق بالصّواع لمن لم يسرقه،و تكذيب للبريء و اتهام من لم يسرق بأنه سرق؟ قلنا قوله: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ تورية عما جرى منهم مجرى السرقة،و تصور بصورتها،من فعلهم بيوسف ما فعلوه أولا.
ص: 139
الثاني:أن ذلك القول كان من المؤذن بغير أمر يوسف عليه السلام،كذا قاله بعض المفسرين.
الثالث:أن حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح و منافع دينية،كقوله تعالى لأيوب عليه السلام: وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ [ص:44]و قول إبراهيم،عليه السلام،في حق زوجته هي أختي لتسلم من يد الكافر،و ما أشبه ذلك.
[490] فإن قيل:كيف تأسف يعقوب عليه السلام على يوسف دون أخيه بقوله:
يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف:84]و الرزء الأحدث أشد على النفس و أعظم أثرا؟ قلنا:إنما يكون أشد إذا تساوت المصيبتان في العظم و لم يتساويا هنا،بل فقد يوسف كان أعظم عليه و أشد من فقد أخيه،فإنما خصه بالذكر ليدل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده ما زال غضا طريا.
[491] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يوسف:84] و الحزن لا يحدث بياض العين لا طبا و لا عرفا؟ قلنا:قال ابن عباس،أي من البكاء؛لأن الحزن سبب البكاء،فأطلق اسم السبب و أراد به المسبب.و كثرة البكاء قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد، و هكذا حدث ليعقوب عليه السلام.
و قيل:إذا كثرت الدموع محقت سواد العين و قلبته إلى بياض كدر.
[492] فإن قيل:كيف قال يعقوب عليه السلام: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف:87]مع أن من المؤمنين من ييأس من روح اللّه،أي من فرجه و تنفيسه أو من رحمته،على اختلاف القولين؛إما لشدة مصيبته أو لكثرة ذنوبه،كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه و يذروا رماده في البر و البحر ففعلوا به ذلك،ثم إن اللّه غفر له كما جاء مشروحا في الحديث المشهور، و هو من الصحاح؛مع أنه يئس من رحمة اللّه تعالى،و ضم إلى يأسه ذنبا آخر و هو اعتقاده أنه إذا أحرق و ذري رماده لا يقدر اللّه على إحيائه و تعذيبه،و مع هذا كله يغفر له،فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟ قلنا:إنما ييأس من روح اللّه الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية،و كل مؤمن يتحقق منه اليأس من روح اللّه فهو كافر في الحال حتى يعود إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح اللّه،و أما الرّجل المغفور له في الحديث فلا نسلم أنه لم يكفر،ثم إن اللّه تعالى لما أحياه في الدنيا عاد إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح اللّه تعالى فلذلك غفر له،و قد يكون قد عاد إلى رجاء روح اللّه تعالى قبل موتته الأولى،و لم يتسع له الزمان
ص: 140
أن يرجع عن وصيته التي أوصى بها أهله؛فمات مسلما،فلذلك غفر له.
[493] فإن قيل:في قوله تعالى: وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف:100]كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير اللّه تعالى؟ قلنا:لعله كان السجود عندهم تحية و تكرمة كالقيام و المصافحة عندنا.و قيل:
كان انحناء كالركوع و لم يكن بوضع الجبهة على الأرض،إلا أن قوله تعالى:
وَ خَرُّوا يأبى ذلك،لأن الخرور عبارة عن السقوط،و لا يرد عليه قوله تعالى:
وَ خَرَّ راكِعاً [ص:24]لأنهم قالوا أراد به ساجدا فعبر عن السجود بالركوع كما عبر عن الصلاة في قوله تعالى: وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ [البقرة:43]أي صلوا مع المصلين.
و قيل له:أي لأجله،فاللام للسببية لا لتعدية السجود إلى يوسف عليه السلام، فالمعنى و خروا لأجل يوسف سجدا للّه تعالى شكرا على جمع شملهم به.و قيل:
الضمير في له يعود إلى اللّه تعالى،و هذا الوجه يدفعه قوله تعالى: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف:100].
[494] فإن قيل:كيف ذكر يوسف عليه السلام نعمة اللّه تعالى عليه في إخراجه من السجن فقال: وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100]و لم يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجب و هو أعظم نعمة؛لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطرا؟ قلنا:إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة لوجوه:
أحدهما:أن محنة السجن و مصيبته كانت أعظم لطول مدتها،فإنه لبث فيه بضع سنين و ما لبث في الجب إلا مدة يسيرة.
الثاني:أنه إنما لم يذكر الجب كيلا يكون في ذكره توبيخ و تقريع لإخوته عند قوله لهم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92].
الثالث:أن خروجه من السجن كان مقدمة لملكه و عزه فلذلك ذكره،و خروجه من الجب كان مقدمة الذل و الرق و الأسر فلذلك لم يذكره.
الرابع:أن مصيبة السجن كانت أعظم عنده لمصاحبة الأوباش و الأراذل و أعداء الدين،بخلاف مصيبة الجب فإنه كان مؤنسه فيه جبريل و غيره من الملائكة عليهم السلام.
[495] فإن قيل:كيف قال يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يوسف:101]و هو يعلم أنّ كلّ نبي لا يموت إلاّ مسلما؟ قلنا:يجوز أن يكون دعا بذلك في حالة غلبة الخوف عليه غلبة أذهلته عن ذلك العلم في تلك الساعة.
ص: 141
الثاني:أنه دعا بذلك مع علمه إظهارا للعبودية و الافتقار و شدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة و تعليما للأمة و طلبا للثواب.
[496] فإن قلنا:كيف يجتمع الإيمان و الشرك و هما ضدان؛حتّى قال تعالى:
وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]؟ قلنا:معناه و ما يؤمن أكثرهم بأن اللّه تعالى خالقه و رازقه و خالق السموات و الأرض قولا إلا و هو مشرك بعبادة الأصنام فعلا.
الثاني:أن المراد بها المنافقون يؤمنون بألسنتهم قولا و يشركون بقلوبهم اعتقادا.
الثالث:أن المراد بها تلبية العرب،كانوا يقولون:لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك؛فكانوا يؤمنون بأول تلبيتهم بنفي الشريك،و يشركون بآخرها بإثباته.
[497] (1) فإن قيل:هذه التلبية توحيد كلها و لا شرك فيها؛لأن معنى قولهم إلاّ شريكا هو لك:إلا شريكا هو مملوك لك موصوفا بأنك تملكه و تملك ما ملك، و اللام هنا للملك لا لعلاقة الشركة،و هذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيا و يحتمل أن يكون مجازيا،بيان الأول أنا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها و هو الاختصاص يكون قولهم:لا شريك لك،عاما في نفي كل شريك يضاف إلى اللّه تعالى بجهة اختصاص ما،فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية،و هو شريك زيد و عمرو و نحوهما ثم يقطع عليه الاستثناء فيكون استثناء حقيقيا،و إن قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة في موارد استعمالها و هي الملك و الاستحقاق،و يقال الاختصاص و العلية،فقولهم:لا شريك لك يكون عاما أيضا عند من يجوز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر،و أما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته و هو علاقة الشركة،فيكون الاستثناء بعده مجازيا،من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم،و هو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان،و شاهده قول الشاعر:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
معناه:إن كان هذا عيبا ففيهم عيب،و هذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب، فكذا هنا،معناه:إن كان الشريك المملوك لك يصلح شريكا فلك شريك،و هو لا يصلح شريكا لك،فلا يكون لك شريك؛لأنّ كل ما يدّعى أنه شريك لك فهو مملوكر.
ص: 142
لك،و هذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم:28] الآية.
قلنا:على الوجه الأول إنه ليس بصحيح؛لأنه لو جعلنا اللام حقيقة في المعنى العام و هو الاختصاص يلزم منه الكفر حيث وجد نفي الشريك من غير استثناء،لأنه يلزم منه نفي ملكه تعالى شريك زيد و عمرو و نحوهما و هو كفر،و اللازم منتف؛لأنه إيمان محض بلا خلاف.
[498] فإن قيل:إنما لم يكن كفرا مع عمومه؛لأنّ الحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء نفي كل شريك يضاف إلى اللّه تعالى بعلاقة الشريك،لا نفي كل شريك يضاف إليه بجهة ما فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء.
و الجواب عن أصل السؤال أنه سؤال حسن محقق،و أن هذه التلبية توحيد محض على التقديرين،فإن صح النقل أن النبي عليه الصلاة و السلام نهى عنها،فإنما نهى عنها لأنها توهم إثبات الشريك لمقتضى الاستثناء عند قاصري النظر و هم عوام الناس،فلهذه المفسدة نهى عنها.
ص: 143
[499] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد:10]و لم يقل و من هو سارب بالنهار،ليتناول معنى الاستواء المستخفي و السارب،و إلا فقد تناول واحدا هو مستخف و سارب،أي ظاهر،و ليتناسب لفظ الجملة الأولى و الثانية،فإنه قال في الجملة الأولى: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد:10]؟ قلنا:قوله تعالى: وَ سارِبٌ معطوف على«من»لا على مستخف،فيتناول معنى الاستواء اثنين.
الثاني:أنه و إن كان معطوفا على مستخف إلا أن من هنا في معنى التثنية كقوله:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فكأنه قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل و سارب بالنهار.
[500] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ [الرعد:14]أي في ضياع و بطلان،و الكفار يدعون اللّه تعالى في وقت الشدائد و الأهوال و مشارفتهم الغرق في البحر فيستجيب لهم؟ قلنا:المراد:و ما عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال،و يعضده قوله تعالى:
وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [الرعد:14]أي يعبدون.
[501] فإن قيل:كيف طابق قولهم: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد:27] قوله: قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [الرعد:27]؟ قلنا:هو كلام جرى مجرى التعجب من قولهم؛لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول اللّه عليه الصلاة و السلام لم يؤتها نبي قبله،و كفى بالقرآن وحده آية
ص: 144
وراء كل آية،فإذا جحدوا آياته و لم يعتدّوا بها و جعلوه كأنّ آية لم تنزل عليه قط كان موضعا يتعجب منه،فكأنه قيل لهم:ما أعظم عنادكم و ما أشد تصميمكم على كفركم.
[502] فإن قيل:كيف المطابقة بين قوله تعالى: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد:33]و قوله: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ [الرعد:33].
قلنا:فيه محذوف تقديره:أ فمن هو رقيب على كل نفس صالحة و طالحة يعلم ما كسبت من خير و شر،و يعد لكل جزاء كمن ليس كذلك و هو الصنم،ثم ابتدأ فقال: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ [الرعد:33]،أو تقديره:أ فمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه و جعلوا له شركاء،أو التقدير:أ فمن كان بهذه الصفة يغفل عن أهل مكة و أقوالهم و أفعالهم و جعلوا للّه شركاء.
[503] فإن قيل:كيف اتصل قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ [الرعد:
36]بما قبله و هو قوله تعالى: وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الرعد:36]؟ قلنا:هو جواب للمنكرين معناه:قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد اللّه و لا أشرك به،فإنكارهم لبعضه إنكار لعبادة اللّه تعالى و توحيده،كذا أجاب به الزمخشري، و فيه نظر.
[504] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرعد:42]أثبت لهم مكرا ثم نفاه عنهم بقوله تعالى: فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً [الرعد:42]؟ قلنا:معناه أن مكر الماكرين مخلوق له و لا يصير إلا بإرادته،فبهذه الجهة صحة إضافة مكرهم إليه.
الثاني:أنه جعل مكرهم كلا مكر،بالإضافة إلى مكره؛لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون،فيعكس مكرهم عليهم.فإثباته لهم باعتبار الكسب،و نفيه عنهم باعتبار الخلق.
ص: 145
[505] فإن قيل:كيف قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]هذا في حق غير النبيّ عليه الصلاة و السلام من الرسل مناسب؛ لأن غيره لم يبعث إلى الناس كافة،بل إلى قومه فقط،فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة و لا تبقى لهم حجة بأنا لم نفهم رسالتك،فأما النبيّ عليه الصلاة و السلام فإنه بعث إلى الناس كافة،قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ [سبأ:28]فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجة العرب،فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن الباقية،و إن لم يكن لغير العرب حجة أن لو نزل القرآن بلسان غير العرب يكن للعرب الحجة.
قلنا:نزوله على النبيّ عليه الصلاة و السلام بلسان واحد كاف؛لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله لجميع الألسن،و يكفي مئونة التطويل كما جرى في القرآن العزيز.
الثاني:أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف و التبديل،و أسلم من التنازع و الخلاف.
الثالث:أنه لو نزل بألسنة كل الناس و كان معجزا في كل واحد منها،و كلم الرسول العربي كل أمة بلسانها،كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر و الإلجاء،و بعثة الرسل لم تبن على القسر و الإلجاء؛بل على التمكين من الاختيار،فلما كان نزوله بلسان واحد كافيا كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه و أفهم عنه.
[506] فإن قيل: يُذَبِّحُونَ [البقرة:49]و في سورة الأعراف: يُقَتِّلُونَ [الأعراف:141]بغير واو فيهما،و قال هنا وَ يُذَبِّحُونَ [إبراهيم:6]بالواو و القصة واحدة؟ قلنا:حيث حذف الواو و جعل التذبيح و التقتيل تفسيرا للعذاب،و بيانا له، و حيث أثبتها جعل التذبيح كأنه جنس آخر غير العذاب؛لأنه أوفى على بقية أنواعه و زاد عليها زيادة ظاهرة،فعلى هذا يكون إثبات الواو أبلغ.
ص: 146
[507] فإن قيل:ما معنى التبعيض في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [إبراهيم:10]؟ قلنا:ما جاء هذا إلا في خطاب الكافرين كقوله تعالى في سورة نوح عليه السلام:
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح:4]و قوله تعالى،في سورة الأحقاف: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف:31]و قال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصف: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف:10]إلى قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]و قال تعالى،في آخر سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:70،71]،و كذا باقي الآيات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها،و ما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد مع اختلاف رتبتهما،لا لأنه يغفر للكفار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم،و الذي يؤيد ما ذكرناه من العلة أنه في سورة نوح عليه السلام و في سورة الأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان مطلقا.و قيل:معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم و بينه لا ما بينهم و بين العباد من المظالم و نحوها.
و قيل:«من»زائدة.
[508] فإن قيل:كيف كرر تعالى الأمر بالتوكل و كيف قال أوّلا وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم:11]و قال ثانيا: وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12]؟ قلنا:الأمر الأول لاستحداث التوكل،و الثاني لتثبيت المتوكلين على ما استحدثوا من توكلهم فلهذا كرره،و قال أولا المؤمنون و ثانيا المتوكلون.
[509] فإن قيل:كيف قالوا لرسلهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [إبراهيم:13] و الرسل لم يكونوا على ملة الكفار قط،و العود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟ قلنا:العود في كلام العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة،يقولون:عاد فلان يكلمني،و عاد لفلان مال و أشباه ذلك،و منه قوله تعالى: حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39].
الثاني:أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد و اعتقادهم أن الرسل كانوا أولا على ملل قومهم ثم انتقلوا عنها.
الثالث:أنهم خاطبوا كل رسول و من آمن به فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد،و نظير هذا السؤال ما سبق في سورة الأعراف من قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [إبراهيم:13]و في سورة يوسف عليه السلام من قوله تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يوسف:37]الآية.
ص: 147
[510] فإن قيل:كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَ بَرَزُوا لِلّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللّهُ لَهَدَيْناكُمْ [إبراهيم:21].
قلنا:لما كان قول الضعفاء توبيخا و تقريعا و عتابا للذين استكبروا على استتباعهم إياهم و استغوائهم،أحالوا الذنب على اللّه تعالى في ضلالهم و إضلالهم، كما قالوا: لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا [الأنعام:148]و لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولون في الدنيا، كما حكى اللّه تعالى عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18]الآية.
و قيل:معنى جوابهم:لو هدانا اللّه في الآخرة طريق النجاة من العذاب لهديناكم،أي لأغنينا عنكم و سلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة في الدنيا.
[511] فإن قيل:كيف اتصل و ارتبط قولهم: سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [إبراهيم:21]بما قبله؟ قلنا:اتصاله به من حيث إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه و قلقا من ألم العذاب،فقال لهم رؤساؤهم: لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]يريدون أنفسهم و إياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين عليها في الدنيا،كأنهم قالوا للضعفاء:ما هذا الجزع و التوبيخ، و لا فائدة فيه كما لا فائدة في الصبر،فإن الأمر أعظم من ذلك و أعم.
[512] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم:22] عبر عنه بلفظ الماضي،و ذلك القول من الشيطان لم يقع بعد و إنّما هو مترقب منتظر يقوله يوم القيامة؟ قلنا:يجوز وضع المضارع موضع الماضي،و وضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس،قال اللّه تعالى: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة:102] أي ما تلت،و قال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللّهِ [البقرة:91]و قال الحطيئة الشاعر:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أنّ الوليد أحقّ بالغدر
فقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة:102]نفى اللبس،و كذا قوله تعالى: مِنْر.
ص: 148
قَبْلُ [البقرة:25]و قول الحطيئة يوم يلقى ربه،و قوله تعالى: لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم:22]لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة.
[513] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ [إبراهيم:27] و قد رأينا كثيرا من الظالمين هداهم اللّه بالإسلام و بالتوبة و صاروا من الأتقياء؟ قلنا:معناه أنه لا يهديهم ما داموا مصرين على الكفر و الظلم معرضين عن النظر و الاستدلال.
الثاني:أن المراد منه الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل أنه يموت على الظلم،فاللّه تعالى يثبته على الضلالة لخذلانه،كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت و هو كلمة التوحيد.
الثالث:أن معناه:أن يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة.
[514] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ جَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [إبراهيم:30]و الضلال و الإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد و هي الأصنام، و إنما عبدوها لتقربهم إلى اللّه تعالى،كما حكى اللّه تعالى عنهم ذلك بقوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى [الزمر:3]؟ قلنا:قد شرحنا ذلك في سورة يونس عليه السلام إذ قلنا هذه لام العاقبة و الصيرورة لا لام الغرض،و المقصود كما في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص:8]و قول الشاعر:
لدوا للموت و ابنوا للخراب
و قول الآخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدّهر تبنى المساكن
و المعنى فيه أنّهم لمّا أفضى بهم اتخاذ الأنداد إلى الضّلال أو الإضلال صار كأنّهم اتخذوها لذلك،و كذا الالتقاط و الولادة و البناء،و نظائره كثيرة في القرآن العزيز و في كلام العرب.
[515] فإن قيل:كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة و إنفاق المال وصف اليوم بأنه لا بيع فيه و لا خلال؟ قلنا:معناه قل لهم يقدمون من الصلوات و الصدقة متجرا يجدون ربحه يوم لام.
ص: 149
تنفعهم متاجر الدنيا من المعاوضات و الصدقات التي يجلبونها بالهدايا و التحف لتحصيل المنافع الدنيوية،فجاءت المطابقة.
[516] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [إبراهيم:31]،أي لا صداقة،و في يوم القيامة خلال لقوله تعالى: اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]و لقوله عليه الصلاة و السلام:«المرء مع من أحبّ»؟ قلنا:لا خلال فيه لمن لم يقم الصلاة و لم يؤد الزكاة.فأمّا المقيمون الصلاة و المؤتون الزّكاة فهم الأتقياء،و بينهم الخلال يوم القيامة،لما تلونا من الآية.
[517] فإن قيل:كيف قال: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ [إبراهيم:33]و المسخّر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرّفه كيف شاء في أمره و نهيه كالدّابة و العبد و الفلك،كما قال تعالى: وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف:13]،و قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، و قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ [إبراهيم:32].و يقال:فلان مسخّر لفلان إذا كان مطيعا له و ممتثلا لأوامره و نواهيه؟ قلنا:لمّا كان طلوعهما و غروبهما و تعاقب اللّيل و النهار لمنافعنا متّصلا مستمرا اتصالا لا تنقطع علينا فيه المنفعة و لا تنخرم،سواء شاءت هذه المخلوقات أم أبت، أشبهت المسخّر المقهور في الدنيا،كالعبد و الفلك و نحوهما.
و الثّاني:أنّ معناه أنّها مسخّرة للّه لأجلنا و منافعنا.فإضافة التّسخير إلى اللّه تعالى،بمعنى أنّه فاعل التسخير،و إضافة التّسخير إلينا بمعنى عود نفع التّسخير إلينا، فصحّت الإضافتان.
[518] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم:
34]و اللّه تعالى لم يعطنا كل ما سألناه و لا بعضا من كل فرد مما سألناه؟ قلنا:معناه:و آتاكم بعضا من جميع ما سألتموه لا من كلّ فرد فرد.
[519] فإن قيل:لا يصح هذا المحمل لوجهين:
أحدهما:أنه لا يحسن الامتنان به.
الثّاني:أنه لا يناسبه قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم:34]؟ قلنا:إذا كان البعض الّذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه و هو الأصلح و الأنفع لنا في معاشنا و معادنا بالنّسبة إلى البعض الذي منعه عنّا لمصلحتنا،أيضا؛لا يحسن الامتنان به،و يكون مناسبا لما بعده.1.
ص: 150
و جواب آخر:عن أصل السؤال:أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كلّ فرد مما سأله جميعهم،و بهذا المقدار يصح الإخبار في الآية و إن لم يعط كل واحد من السائلين بعضا من كل فرد مما سأله ذاك،و إيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا مما سأله ذاك،و أعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة و المصلحة في حقهما،كما أعطي النبيّ عليه الصلاة و السلام الرؤية ليلة المعراج و هي مسئول موسى عليه السلام و ما أشبه ذلك.
[520] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم:
34]و الإحصاء و العد بمعنى واحد كذا نقله الجوهري،فيكون المعنى و إن تعدوا نعمة اللّه لا تعدوها،و هو متناقض كقولك:إن تر زيدا لا تبصره،إذ الرؤية و الإبصار واحد؟ قلنا:بعض المفسرين فسّر الإحصاء بالحصر،فإن صحّ ذلك لغة،اندفع السؤال.و يؤيّد ذلك قول الزّمخشري لا تحصوها،أي لا تحصروها و لا تطيقوا عدها و بلوغ آخرها،و على القول الأول فيه إضمار تقديره:و إن تريدوا عد نعمة اللّه لا تعدوها.
[521] فإن قيل:كيف قال تعالى: لا تُحْصُوها [إبراهيم:34]و هو يوهم أن نعم اللّه غير متناهية،و كل نعمة ممتن بها علينا فهي مخلوقة،و كل مخلوق متناه؟ قلنا:لا نسلم أنه يوهم أنها لا تتناهى،و ذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنا لا نطيق عدّها أو حصر عددها،و يجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه،و الإنسان لا يطيق عدّه كرمل القفار و قطر البحار و ورق الأشجار و ما أشبه ذلك.
[522] فإن قيل:كيف قال إبراهيم عليه السلام: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم:35]و عبادة الأصنام كفر،و الأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمة،فكيف حسن منه هذا السؤال؟ قلنا:إنما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم؛لأن الأنبياء عليهم السلام أعلم الناس باللّه فيكونون أخوفهم منه فيكون معذورا بسبب ذلك.
و قيل إن في حكمة اللّه تعالى و علمه أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر بشرط أن يكون متضرعا إلى ربه طالبا منه ذلك،فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة.
[523] فإن قيل:كيف قال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ [إبراهيم:36] جعل الأصنام مضلة.و المضل ضار.و قال في موضع آخر: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ [يونس:18]،و نظائره كثيرة فكيف التوفيق بينهما؟
ص: 151
قلنا:إضافة الإضلال إليها مجاز بطريق المشابهة.و وجهه أنهم لما ضلوا بسببها فكأنها أضلتهم،كما يقال فتنتهم الدنيا و غرتهم،أي افتتنوا بسببها و اغتروا،و مثله قولهم:دواء مسهل،و سيف قاطع،و طعام مشبع،و ماء مرو و ما أشبه ذلك.و معناه:
حصول هذه الآثار بسبب هذه الأشياء،و فاعل الآثار هو اللّه تعالى.
[524] فإن قيل:كيف قال: أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ [إبراهيم:37]و لم يقل أفئدة الناس،و قوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله قلوبا من الناس؟ قلنا:قال ابن عباس،رضي اللّه تعالى عنهما،لو قال إبراهيم عليه السلام في دعائه أفئدة الناس،لحجت جميع الملل و ازدحم عليه الناس حتى لم يبق لمؤمن فيه موضع،مع أن حج غير الموحدين لا يفيد،و الأفئدة هنا القلوب في قول الأكثرين، و قيل:الجماعة من الناس.
[525] فإن قيل:إذا كان اللّه تعالى قد ضمن رزق العباد،فلم سأل إبراهيم عليه السلام الرزق لذريته فقال: وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم:37]؟ قلنا:اللّه تعالى ضمن الرزق و القوت الذي لا بد للإنسان منه ما دام حيا و لم يضمن كونه ثمرا أو حبا أو نوعا معينا،فالسؤال كان لطلب الثمر عينا.
[526] فإن قيل: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ [إبراهيم:
39]شكر على نعمة الولد،فكيف يناسبه بعده إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [إبراهيم:39]؟ قلنا:لما كان قد دعا ربه لطلب الولد بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ [الصافات:
100]فاستجاب له،ناسب قوله بعد الشكر: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [إبراهيم:39]أي لمجيبه من قولهم:سمع الملك قول فلان إذا أجابه و قبله،و منه قولهم في الصلاة «سمع اللّه لمن حمده»أي أجابه و أثابه.
[527] فإن قيل:كيف قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ [نوح:28]استغفر إبراهيم لوالديه و كانا كافرين،و الاستغفار للكافرين لا يجوز،و لا يقال إن هذا موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [التوبة:114]الآية، لأن المراد بذلك استغفاره لأبيه خاصة بقوله: وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ [الشعراء:86]و الموعدة التي وعدها إيّاه إنما كانت له خاصة بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]و لهذا قال تعالى: إِلاّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4]؟ قلنا:هذا الاستغفار لهما كان مشروطا بإيمانهما تقديرا،كأنه قال و لوالدي إن آمنا.
الثاني:أنه أراد بهما آدم و حواء صلوات اللّه عليهما،و قرأ ابن مسعود و أبي
ص: 152
و النخعي و الزهري رضي اللّه عنهم«و لوالدي»يعني إسماعيل و إسحاق،و يعضد هذه القراءة سبق ذكرهما،و لا إشكال على هذه القراءة.
و قيل:إن هذا الدّعاء على القراءة المشهورة كان زلة من إبراهيم صلوات اللّه عليه،و إليها أشار بقوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:28].
[528] فإن قيل:اللّه تعالى منزه و متعال عن الغفلة،و النبي عليه الصلاة و السلام أعلم الناس بصفات جلاله و كماله،فكيف يحسبه النبي عليه الصلاة و السلام غافلا و هو أعلم الخلق باللّه حتى نهاه عن ذلك بقوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ [إبراهيم:42]؟ قلنا:يجوز أن يكون هذا نهيا لغير النبيّ عليه الصلاة و السلام ممن يجوز أن يحسبه غافلا لجهله بصفاته،و قوله تعالى،بعده: وَ أَنْذِرِ النّاسَ [إبراهيم:44]،لا يدل قطعا على أن الخطاب الأول للنّبيّ عليه الصلاة و السلام،لجواز أن يكون ذلك النهي لغيره مع أن هذا الأمر له.
الثاني:أنه مجاز معناه:و لا تحسبن اللّه مهمل الظالمين و تاركهم سدى،أي لكون هذا من لوازم الغفلة عنهم.
الثالث:أن النهي و إن كان حقيقة و الخطاب للنّبيّ عليه الصلاة و السلام فالمراد به دوامه و ثباته على ما كان عليه من أنه لا يحسب اللّه غافلا كقوله تعالى: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص:87]و قوله تعالى: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ [الشعراء:213]و نظير هذا النهي من الأمر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [النساء:136]و قول بعض المفسرين:إن معنى الآية يا أيها الذين آمنوا بموسى أو بعيسى آمنوا بمحمّد عليه الصلاة و السلام لا يخرج الآية عن كونها نظيرا؛ لأنّ الاستبدال بالإيمان باللّه باق،فتأمّل.
ص: 153
[529] فإن قيل:كيف قالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:
6]اعترفوا بنبوته،إذ الذّكر هو القرآن الّذي نزل عليه،ثم وصفوه بالجنون؟ قلنا:إنّما قالوا ذلك استهزاء و سخرية،لا تصديقا و اعترافا؛كما قال فرعون لقومه: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]و كما قال قوم شعيب،عليه السلام: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]،و نظائره كثيرة.
الثاني:أنّ فيه إضمارا تقديره:يا أيها الّذي تدّعي أنك نزل عليك الذّكر.
[530] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ [الحجر:
23]و الوارث هو الّذي يتجدّد له الملك بعد فناء المورث،و اللّه تعالى إذا مات الخلائق لم يتجدّد له ملك؛لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه و من فيه؟ قلنا:الوارث في اللغة عبارة عن الباقي بعد فناء غيره،سواء تجدّد له من بعده ملك أو لا؛و لهذا يصح أن يقال لمن أخبر أنّ زيدا مات و ترك ورثة،هل ترك لهم مالا أو لا؟فيكون معنى الآية:و نحن الباقون بعد فناء الخلائق.
الثاني:أنّ الخلائق لمّا كانوا يعتقدون أنّهم مالكون يسمون بذلك،أيضا،إمّا مجازا أو خلافة عن اللّه تعالى،كالعبد المأذون و المكاتب.و يدل عليه قوله تعالى:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران:26]فإذا مات الخلائق كلهم سلمت الأملاك كلّها للّه تعالى عن ذلك القدر من التعلق،فبهذا الاعتبار كانت الوراثة،و نظير هذا قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]و الملك له أزلا و أبدا.
[531] (1) فإن قيل:قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ [الحجر:30]دلّ على
ص: 154
الشمول و الإحاطة و أفاد التوكيد؛فما فائدة قوله: أَجْمَعُونَ [الحجر:30]؟ قلنا:قال سيبويه و الخليل:هو توكيد بعد توكيد،فيفيد زيادة تمكين المعنى و تقريره في الذّهن،فلا يكون تحصيل الحاصل؛بل تكون نسبة أجمعون كنسبة كلهم إلى أصل الجملة.و قال المبرد:قوله تعالى: أَجْمَعُونَ [الحجر:30]يدل على اجتماعهم في زمان السجود،و كلهم يدل على وجود السجود من الكل،فكأنّه قال:
فسجد الملائكة كلهم معا في زمان واحد.و اختار ابن الأنباري هذا القول،و اختار الزّجّاج و أكثر الأئمة قول سيبويه و قالوا:لو كان الأمر كما زعم المبرد لكان أجمعون حالا لوجود حد الحال فيه،و ليس بحال لأنه مرفوع و لأنه معرفة كسائر ألفاظ التوكيد.
[532] فإن قيل:ما وجه ارتباط قوله تعالى: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الحجر:51]بما قبله من قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي [الحجر:49]الآيتين؟ قلنا:لما أنزل اللّه عز و جل: نَبِّئْ عِبادِي [الحجر:49]الآيتين و لم يعين أهل المغفرة و أهل العذاب غلب الخوف على الصحابة رضي اللّه عنهم،فأنزل اللّه تعالى بعد ذلك قصة ضيف إبراهيم عليه السلام ليزول خوف الصحابة و تسكن قلوبهم،فإن ضيف إبراهيم عليه السلام جاءوا ببشارة للولي و هو إبراهيم،و عقوبة للعدو و هم قوم لوط عليه السلام و كذلك تنزل الآيتين المتقدمتين على الولي و العدو لا على الولي وحده.
الثاني:أن وجه الارتباط أن العبد و إن كان كثير الذنوب و الخطايا غير طامع في المغفرة،لا يبعد أن يغفر اللّه تعالى له على يأسه،كما رزق إبراهيم الولد على يأسه بعد ما شاخ و بلغ مائة سنة أو قريبا منها.
[533] فإن قيل:كيف قالت الملائكة: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر:
60]أي قضينا،و القضاء للّه تعالى لا لهم؟ قلنا:إسناد التقدير للملائكة هو مجاز،كما يقول خواص الملك،دبرنا كذا و أمرنا بكذا و نهينا عن كذا،و يكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك لا هم،و إنما يظهرون بذلك مزيد قربهم و اختصاصهم بالملك.
[534] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر:خ.
ص: 155
80]و أصحاب الحجر قوم صالح،و الحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين،و قوم صالح لم يرسل إليهم غير صالح فكيف يكذبون المرسلين؟ قلنا:من كذب رسولا واحدا فكأنما كذب الكل؛لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد اللّه تعالى.
[535] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92،93]،و قال في سورة الرحمن: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:39]؟ قلنا:الجواب عنه من وجهين:
أحدهما:قد ذكرناه في مثل هذا السؤال في سورة هود.
و الثاني:أن المراد هنا أنهم يسألون سؤال توبيخ و هو سؤال لم فعلتم؟و المراد ثم إنهم لا يسألون سؤال استعلام و استخبار و هو سؤال هل فعلتم؟ أو يقال:إن في يوم القيامة مواقف،ففي بعضها يسألون،و في بعضها لا يسألون،و تقدم نظيره.
ص: 156
[536] فإن قيل:لم قدمت الإراحة و هي مؤخرة في الواقع على السروح و هو مقدم في الواقع في قوله تعالى: حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6]؟ قلنا:لأن الأنعام في وقت الإراحة و هي ردها عشيا إلى المراح تكون أجمل و أحسن،لأنها تقبل ملأى البطون حاملة الضروع متهادية في مشيها يتبع بعضها بعضا، بخلاف وقت السروح و هو إخراجها إلى المرعى فإن كل هذه الأمور تكون على ضد ذلك.
[537] فإن قيل:قوله تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل:7]إن أريد به لم تكونوا بالغيه عليها إلا بشق الأنفس فلا امتنان فيه،و إن أريد به لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بشق الأنفس فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلا بشق الأنفس،فما فائدة ذلك؟ قلنا:معناه و تحمل أثقالكم،أي أجسامكم و أمتعتكم معكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها بأنفسكم من غير أمتعتكم إلا بجهد و مشقة،فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟و المراد بالمشقة:المشقة التي تنشأ من المشي،أو من المشي مع الحمل على الظهر لا مطلق مشقة السفر،و هذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهر فائدة ذلك.
[538] فإن قيل:قوله تعالى: وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً [النحل:
5]يقتضي حرمة أكل الخيل كما اقتضاه في البغال و الحمير من حيث أنه لم ينص على منفعة أخرى فيها غير الركوب و الزينة،و من حيث أن التعليل بعلة يقتضي الانحصار فيها كقولك:فعلت هذا لكذا،فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره أوله مع غيره؛إلا إذا كان أحدهما جهة في الآخر.
قلنا:ينتقض بالحمل عليها و الحراثة بها،فإن ذلك مباح؛مع أنه لم ينص عليه.
[539] فإن قيل:إنما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام،فإنه منصوص عليه فيها بقوله تعالى: وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ [النحل:5]و المراد به كل منفعة معهودة منها عرفا لا كل منفعة،فثبت مثل ذلك في الخيل و البغال و الحمير.
ص: 157
قلنا:لو كان ثبوته فيها بالقياس على ثبوته في الأنعام لثبت حل الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام أيضا،و لو ثبت حل الأكل في الخيل بالقياس لثبت في البغال و الحمير،كما ثبت الحمل و الحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام.
و الجواب عن الجهة الثانية في أصل السؤال أن هذه اللام ليست لام التعليل بل لام التمكين،كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ و مع هذا يجوز في الليل غير السكون.
[540] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى في وصف ماء السماء يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النحل:11]و لم يقل كل الثمرات؛مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟ قلنا:كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة،و إنما ينبت في الدنيا بعض منها أنموذجا و تذكرة،فالتبعيض بهذا الاعتبار،فيكون المراد بالثمرات ما هو أعم من ثمرات الدنيا،و من يجوّز زيادة«من»في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
[541] فإن قيل:قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]المراد بمن لا يخلق الأصنام بدليل قوله تعالى بعده: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]فكيف جيء بمن المختصة بأولي العلم و العقل؟ قلنا:خاطبهم على معتقدهم؛لأنهم سموها آلهة و عبدوها فأجروها مجرى أولي العلم،و نظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف:
195]الآية،فأجرى عليهم ضمير أولي العلم و العقل لما قلناه.
و يرد على هذا الجواب أن يقال:إذا كان معتقدهم خطأ و باطلا فالحكمة تقتضي أن ينزعوا عنه و يقلعوا،لا أن يبقوا عليه و يقروا في خطابهم على معتقدهم إيهاما لهم أن معتقدهم حقّ و صواب.
و جوابه:أن الغرض من الخطاب الإفهام،و لو خاطبهم على خلاف معتقدهم و مفهومهم فقال:أ فمن يخلق كما لا يخلق،لاعتقدوا أن المراد من الثاني غير الأصنام من الجماد.
الثاني:قال ابن الأنبازي:إنما جاز ذلك لأنها ذكرت مع العالم فغلب عليها حكمه في اقتضاء«من»كما غلب على الدواب في قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور:45]الآية،و كما في قول العرب:اشتبه عليّ الراكب،و جمله:فما أدري من ذا و من ذا.
ص: 158
[542] فإن قيل:هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام و سموها آلهة تشبيها باللّه فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق،فظاهر الإلزام يقتضي أن يقال لهم:أ فمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلنا:لما سووا بين الأصنام و خالقها سبحانه و تعالى في تسميتها باسمه و عبادتها كعبادته فقد سووا بينها و بين خالقها قطعا،فصح الإنكار بتقديم أيهما كان،و إنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق،إما لأنه أشرف،أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام تنزيها له و إجلالا و تعظيما.
[543] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى في وصف الأصنام غَيْرُ أَحْياءٍ [النحل:
21]بعد قوله تعالى: أَمُوتُ [النحل:21]؟ قلنا:فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة احترازا عن أموات يعقب موتها حياة.كالنطف و البيض و الأجساد الميتة،و ذلك أبلغ في موتها،كأنه قال:أموات في الحال غير أحياء في المآل.
الثاني:أنه ليس وصفا لها بل لعبادها؛معناه:و عبادها غير أحياء القلوب.
الثالث:أنه إنما قال غير أحياء،ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال،لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
[544] فإن قيل:كيف عاب الأصنام و عبادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث فقال تعالى: وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21]و المؤمنون الموحدون كذلك؟ قلنا:معناه و ما يشعر الأصنام متى يبعث عبادها،فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ أو معناه:و ما يشعر عبادها وقت بعثهم لا مفصلا و لا مجملا؛لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا أنه يوم القيامة و إن لم يشعروه مفصلا.
[545] فإن قيل:قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل:24]كيف يعترفون بأنه من عند اللّه تعالى بالسؤال المعاد في ضمن الجواب ثم يقولون هو أساطير الأولين؟ قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة الحجر في قوله تعالى: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6].
[546] فإن قيل:كيف قال هنا لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]و قال في موضع آخر: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام:164]؟
ص: 159
قلنا:معناه و من أوزار إضلال الذين يضلونهم،فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة و وزر كفر من أضلوهم تسببا،فقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً [النحل:25]يعني أوزار الذنوب التي باشروها.و أما قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام:164]فمعناه:وزر لا مدخل لها فيه و لا تعلق له بها مباشرة و لا تسببا،و نظير هاتين الآيتين الآيتان الأخريان في قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت:12]إلى قوله تعالى: وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت:13]و جوابهما مثل جواب هاتين الآيتين.
[547] فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ [النحل:40]الآية، يدل على أن المعدوم شيء،و يدل على أن خطاب المعدوم جائز،و الأول منتف عند أكثر العلماء،و الثاني منتف بالإجماع؟ قلنا:أما تسميته شيئا فمجاز باعتبار ما يئول إليه،و نظيره قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]و قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] و أما الثاني فإن هذا خطاب تكوين يظهر به أثر القدرة فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب،لأنّه إنما يكون بالخطاب فلا يسبقه،بخلاف خطاب الأمر و النهي.
[548] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [النحل:49]كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على غيرهم كما في قوله تعالى:
وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور:45]الآية،بل أولى لأنه ثم وصف ما لا يعقل بخصوصه بلفظ«من»و هو الحية و الأنعام،و هنا لو قال من في السموات و من في الأرض لا يلزم وصف ما لا يعقل بخصوصه و تعيينه بلفظة«من»بل المجموع؟ قلنا:لأنه أراد عموم كل دابة و شمولها،فجاء بما التي تعم النوعين و تشملهما، و لو جاء بمن لخصّ العقلاء.
[549] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61]يقتضي أنه لو آخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس، و لأهلك جميع الدواب غير الناس،و مؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم لا يحسن بالحكيم؟ قلنا:المراد بالظلم هنا الكفر،و بالدابة الظالمة و هي الكافر،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما.
و قيل معناه:لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.
ص: 160
الثاني:يجوز أن يهلك الجميع بشؤم ظلم الظالمين مبالغة في إعدام الظلم و نفي وجود أثره حتى لا يوجد بعد ذلك من بقية الناس ظلم موجب للإهلاك،كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم،و دليل جواز ذلك ما وجد في زمن نوح عليه السلام،فإنه أهلك بشؤم ظلم قوم نوح جميع دواب الأرض،و ما نجا إلا من في السفينة و لم يبق على ظهر الأرض دابة،و لذا قال تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]ثم إذا فعل ذلك للحكمة و المصلحة التي اقتضت فعله عوّض البريء في الآخرة ما هو خير و أبقى.
الثالث:أن كل إنسان مكلف فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره؛لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير،فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدّواب أيضا؛لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس و إذا عدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها.
[550] فإن قيل:لا نسلم أن غير الإنسان من الحيوان مخلوق لمصالح الإنسان،و مستنده أنه كان مخلوقا قبل خلق الإنسان بالنقل عن الكتب الشرعية و غيرها،و قد جاء مصرحا به في الحديث في باب الخلق من جامع الأصول سلمنا أنه مخلوق لمصلحة الإنسان،لكن هلاك غير الإنسان معه يخفف عنه ألم المصيبة،لا سيما إذا كان الهالك معه من جنسه،و لهذا قيل:المصيبة إذا عمت طابت.سلمنا أن إهلاك غيره معه مؤلم له،لكن لو كان إهلاكه معه لأنه خلق لمصلحته أ فنهلك تبعا له لاستغنائه عنه أو لزيادة الإيلام فالبار أيضا خلق لمصلحته على قولكم،فلم كان إهلاك الحيوان عقوبة للإنسان أولى من إهلاك النبات،و لم يقل:ما ترك عليها من دابة و نبات أو من شيء؟ قلنا:الجواب عن الأول قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:
29]و خلقه قبل الإنسان لا ينفي خلقه لمصلحة الإنسان،كما يعد عظماء الناس الدور و القصور و الخدم و الحشم و الدواب و الثياب لأولادهم و أولاد أولادهم قبل وجودهم.
و عن الثاني أنا لا ندّعي أنه يهلك مع الإنسان بل قبله لتألمه بمشاهدة هلاك محبوبه و مألوفه.و عن الثالث أن المراد ما ترك عليها من دابة بواسطة منع المطر فيعدم النبات،ثم يعدم بواسطة عدمه غير الإنسان من الحيوان،ثم يعدم الإنسان،كذا جاء في تفسير هذه الآية و الآية التي في آخر سورة فاطر،و هذا الترتيب أبلغ في العذاب و أعظم في العقاب من تقديم إهلاك الحيوان على النبات؛لأن الإنسان إذا بقي حيوانه بلا علف كان أوجع مما إذا بقي علفه بلا حيوان.
[551] فإن قيل:كيف قال تعالى: مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ [النحل:68]و لم يقل في الجبال و في الشجر،و الاستعمال و إنما هو بفي يقال اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء أو نحو ذلك؟
ص: 161
قلنا:قال الزمخشري رحمه اللّه:إنما أتى بلفظة من لأنه أراد معنى البعضية، و أن لا تبنى بيوتها في كل جبل و كل شجر و لا في كل مكان من الجبل و الشجر.و أنا أقول:إنما ذكره بلفظه«من»لأنه أراد كون البيت بعض الجبل و بعض الشجر كما نشاهد و نرى من بيوت النحل،لأنه يتخذ من طين أو عيدان في الجبل و الشجر كما تتخذ الطيور،فلو أتى بلفظة«في»لم تدل على هذا المعنى،و نظيره قوله تعالى:
وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء:149].
[552] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل:72]و أزواجنا لسن من أنفسنا،لأنهن لو كنّ من أنفسنا لكنّ حراما علينا،فإن المتفرعة من الإنسان لا يحل له نكاحها؟ قلنا:المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء،كما قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء:1].
الثاني أن المراد من خلقكم كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:128].
[553] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ [النحل:73]فعبر بالواو و النون و هما من خواص من يعقل؟ قلنا:كان فيمن يعبدونه من دون اللّه من يعقل كالعزير و عيسى و الملائكة عليهم الصلاة و السلام فغلبهم.
[554] فإن قيل:لم أفرد في قوله تعالى: ما لا يَمْلِكُ ثم جمع في قوله:
وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ؟[النحل:73].
قلنا:أفرد نظرا إلى لفظ ما،و جمع نظرا إلى معناها،كما قال تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [النحل:12،13]أفرد الضمير نظرا إلى لفظها،و جمع الظهور نظرا إلى معناها.
[555] فإن قيل:ما فائدة نفي استطاعة الرزق بعد نفي ملكه و المعنى واحد؛ لأن نفي ملك الفعل هو نفي استطاعته،و الرزق هنا اسم مصدر بدليل إعماله في «شيئا»؟ قلنا ليس في يستطيعون ضمير مفعول هو الرزق؛بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقا؛معناه لا يملكون أن يرزقوا،و لا استطاعة لهم أصلا في رزق أو غيره لأنهم جماد.
ص: 162
الثاني:أنه لو قدر فيه ضمير مفعول على معنى و لا يستطيعونه كان مفيدا أيضا على اعتبار كون الرزق اسما للعين؛لأن الإنسان يجوز أن لا يملك الشيء و لكن يستطيع أن يملكه بخلاف هؤلاء فإنهم لا يملكون و لا يستطيعون أن يملكوا.
[556] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: مَمْلُوكاً بعد قوله: عَبْداً و ما فائدة قوله: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بعد قوله: مَمْلُوكاً [النحل:75]؟ قلنا:لفظ العبد يصلح للحر و المملوك؛لأن الكل عبيد اللّه تعالى،قال اللّه تعالى: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ [ص:30]فقال مملوكا لتمييزه عن الحر، و قال: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل:75]؟لتمييزه عن المأذون و المكاتب فإنهما يقدران على التصرف و الاستقلال.
[557] فإن قيل:المضروب به المثل اثنان و هما المملوك و المرزوق رزقا حسنا فظاهره أن يقال هل يستويان،فكيف قال تعالى: يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟ قلنا:لأنه أراد جنس المماليك و جنس المالكين لا مملوكا معيّنا و لا مالكا معينا.
الثاني:أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع.
الثالث:أن«من»تقع على الجمع،و لقائل أن يقول على الوجه الثالث يلزم منه أن يصير المعنى ضرب اللّه مثلا عبدا مملوكا و جماعة مالكين هل يستوون،إنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل.
[558] فإن قيل:«أو»في الخبر للشك،و الشك على اللّه تعالى محال،فما معنى قوله: إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]؟ قلنا:قيل«أو»هنا بمعنى بل كما في قوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]و قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [النحل:74]و قوله:
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم:9]و يرد على هذا أن بل للإضراب،و الإضراب رجوع عن الإخبار و هو على اللّه محال.
و قيل:هي بمعنى الواو في هذه الآيات.
و قيل:أو للشك في الكل لكن بالنسبة إلينا لا إلى اللّه تعالى،و كذا في قوله:
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم:9]يعني بالنسبة إلى نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قال الزّجّاج:ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر؛و لكن المراد وصف قدرة اللّه على سرعة الإتيان بها متى شاء.
ص: 163
[559] (1) فإن قيل،كيف قال تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، و لم يقل و البرد؛مع أن السرابيل و هي الثياب تلبس لدفع الحر و البرد و هي مخلوقة لهما؟ قلنا:حذف ذكر أحدهما لدلالة ضده عليه كما في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26]و لم يقل و الشر،و كما قال الشاعر:
و ما أدري إذا يمّمت أرضا أريد الخير أيّهما يليني
أي أريد الخير لا الشر،أو أريد الخير و أحذر الشر.
[560] فإن قيل:لم كان ذكر الخير و الحر أولى من ذكر الشر و البرد؟ قلنا:لأن الخير مطلوب العباد من ربهم و مرغوبهم إليه،أو لأنه أكثر وجودا في العالم من الشر،و أما الحر فلأن الخطاب بالقرآن أول ما وقع مع أهل الحجاز، و الوقاية من الحر أهم عنده لأن الحر في بلادهم أشد من البرد.
[561] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ [النحل:83]مع أن كلهم كافرون؟ قلنا:قال الزمخشري:الأحسن أن المراد بالأكثر هنا الجمع،و في هذا نظر؛لأن بعض الناس لا يجوز إطلاق اسم البعض على الكل؛لأنه ليس لازما له بخلاف عكسه.
[562] فإن قيل:ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [النحل:86]و اللّه تعالى عالم بذلك؟ قلنا:لما أنكروا الشرك بقولهم وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]عاقبهم اللّه تعالى بإصمات ألسنتهم و أنطق جوارحهم،فقالوا عند معاينة آلهتهم رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا [النحل:86]أي قد أقررنا بعد الإنكار و صدقنا بعد الكذب طلبا للرحمة و فرارا من الغضب،فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم.
الثاني:أنهم لما عاينوا عظيم غضب اللّه تعالى و عقوبته قالوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا [النحل:86]رجاء أن يلزم اللّه الأصنام ذنوبهم؛لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل و التمييز فيخف عنهم العذاب.ا.
ص: 164
[563] فإن قيل:لم قالت الأصنام للمشركين إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل:86] و كانوا صادقين فيما قالوا؟ قلنا:إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم،و ذلك أن الأصنام كانت جمادا لا تعرف من يعبدها،فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا فظهرت فضيحتهم حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم،و نظير هذا قوله تعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [النحل:81،82].
[564] فإن قيل:قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:
89]فإذا كان القرآن تبيانا لكل شيء من أمور الدين،فمن أين وقع بين الأمة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟ قلنا:إنما وقع الخلاف بين الأئمة لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الدين ليس مبينا في القرآن نصا،بل بعضه مبين و بعضه مستنبط بيانه منه بالنظر و الاستدلال، و طريق النظر و الاستدلال مختلفة فلذلك وقع الخلاف.
[565] (1) فإن قيل:كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصا و لا استنباطا كعدد ركعات الصلاة،و مقادير باقي الأعضاء،و مدة السفر و المسح و الحيض،و مقدار حد الشرب،و نصاب السرقة و ما أشبه ذلك مما يطول ذكره؟ قلنا:القرآن تبيان لكل شيء من أمور الدين؛لأنه نص على بعضها،و أحال على السنة في بعضها في قوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]و قوله تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم:3]و أحال على الإجماع أيضا بقوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]الآية،و أحال على القياس أيضا بقوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر:2]و الاعتبار النظر و الاستدلال،فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها،و كلها مذكورة في القرآن فصح كونه تبيانا لكل شيء.
[566] فإن قيل:كيف وحّدت القدم و نكّرت في قوله تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [النحل:94]و لم يقل القدم أو الأقدام،و هو أشد مناسبة لجمع الإيمان؟ قلنا:وحّدت و نكّرت في قوله تعالى لاستعظام أن تزل قدم واحدة على طريق الجنة فكيف بأقدام كثيرة؟ [567] فإن قيل:«من»تتناول الذكر و الأنثى لغة،و يؤيده قوله تعالى: مَنْ جاءَف!
ص: 165
بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:160]الآية،و قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:
7]الآية،و قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]و نظائره كثيرة، فكيف قال تعالى هنا: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [النحل:97]؟ قلنا:إنما صرح بذكر النوعين هنا لسبب اقتضى ذلك،و هو أن النساء قلن:ذكر اللّه تعالى الرجال في القرآن بخير و لم يذكر النساء بخير،فلو كان فينا خير لذكرنا به، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ [الأحزاب:35]الآية، و أنزل مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]فذهب عن النساء و هم تخصيصهن عن العمومات.
[568] فإن قيل:كيف قال تعالى: يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ [النحل:79]و قد رأينا كثيرا من الصلحاء و الأتقياء قطعوا أعمارهم في المصائب و المحن و أنواع البلايا باعتبار الأمثل فالأمثل إلى الأنبياء؟ قلنا:المراد بالحياة الطيبة الحياة في القناعة.و قيل:في الرزق الحلال.و قيل:
في رزق يوم بيوم.و قيل:التوفيق للطاعات.و قيل:في حلاوة الطاعات.و قيل:في الرضا بالقضاء.و قيل المراد به الحياة في القبر،كما قال تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]و قيل:المراد به الحياة في الدار الآخرة،و هي الحياة الحقيقية لأنها حياة لا موت بعدها دائمة في النعيم المقيم، و الظاهر أن المراد به الحياة في الدنيا لقوله تعالى: وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [النساء:134] وعدهم اللّه ثواب الدنيا و الآخرة كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران:148].
[569] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [النحل:107]و كثير من الصحابة و غيرهم كانوا كافرين فهداهم اللّه تعالى إلى الإيمان؟ قلنا:المراد من هذا الكافرون الذين علم اللّه تعالى أنهم يموتون على الكفر و يؤيده ما بعد ذلك من الآيتين.
[570] فإن قيل:ما معنى إضافة النفس إلى النفس في قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل:111]و النفس ليس لها نفس أخرى؟ قلنا:النفس اسم للروح و للجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير.
و قيل:هي اسم لجملة الإنسان لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]و قول تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]و النفس
ص: 166
أيضا اسم لعين الشيء و ذاته،كما يقال:نفس الذهب و الفضة محبوبة،أي عينهما و ذاتهما.فالمراد بالنفس الأولى الإنسان و بالثانية ذاته،فكأنه يوم يأتي كل إنسان يجادل عن نفسه،أي ذاته لا يهمه شأن غيره،كل يقول نفسي نفسي،فاختلف معنى النفسين.
[571] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَأَذاقَهَا اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ [النحل:
112]و الإذاقة لا تناسب اللباس و إنما تناسبه الكسوة؟ قلنا:الإذاقة تناسب المستعار له و هو الجوع من حيث أن الجوع يقتضي الأكل فيقتضي الذوق،و إن كانت لا تناسب المستعار و هو اللباس و الكسوة تناسب المستعار و هو اللباس،و لا تناسب المستعار له و هو الجوع،و كلاهما من دقائق علم البيان، يسمى الأول تجريد الاستعارة،و الثاني ترشيح الاستعارة فجاء القرآن العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة،و قد ذكرنا تمام هذا في كتابنا«روضة الفصاحة».و لباس الجوع و الخوف استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع و الخوف من الصفرة و النحول،فهو كقوله تعالى: وَ لِباسُ التَّقْوى [الأعراف:26]استعار اللباس لما يظهر على المتقي من أثر التقوى.
و قيل:إن فيه إضمارا تقديره:فأذاقها اللّه طعم الجوع،و كساها لباس الخوف.
ص: 167
[572] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]،و لم يقل بنبيه أو برسوله أو بحبيبه أو بصفيه و نحو ذلك،مع أن المقصود من ذلك الإسراء تعظيمه و تبجيله؟ قلنا:إنما سماه عبدا في أرفع مقاماته و أجله و هو هذا،و قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم:10]،كيلا يغلط فيه أمته و تضل به كما ضلت أمة المسيح به فدعته إلها.
و قيل:كيلا يتطرق إليه العجب و الكبر.
[573] فإن قيل:الإسراء لا يكون إلا بالليل،فما فائدة ذكر الليل؟ قلنا:فائدته أن ذكر منكرا ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء و الرجوع،مع أنه كان من مكة إلى بيت المقدس مسيرة أربعين ليلة،و ذلك لأن التنكير يدل على البعضية،و يؤيده قراءة عبد اللّه و حذيفة من الليل،أي بعض الليل كقوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]فإنه أمر بالقيام في بعضه.
[574] فإن قيل:أي حكمة في نقله صلّى اللّه عليه و سلّم من مكة إلى بيت المقدس،ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء،و هلا عرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟ قلنا:لأن بيت المقدس محشر الخلائق،فأراد اللّه تعالى أن يطأها قدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم عليها ببركة أثر قدمه صلّى اللّه عليه و سلّم.
الثاني:أن بيت المقدس مجمع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة و السلام،فأراد اللّه تعالى أن يشرفهم بزيارته صلّى اللّه عليه و سلّم.
الثالث:أنه أسرى به إلى البيت المقدس ليشاهد من أحواله و صفاته ما يخبر به كفار مكّة صبيحة تلك الليلة،فيدلهم إخباره بذلك مطابقا لما رأوا و شاهدوا على صدقه في حديث الإسراء.
[575] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: بارَكْنا حَوْلَهُ [الإسراء:1]و لم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه،مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد و حوله خصوصا المسجد الأقصى؟
ص: 168
قلنا:أراد البركة الدنيوية بالأنهار الجارية و الأشجار المثمرة و ذلك حوله لا فيه.
و قيل:أراد البركة الدينية فإنه مقر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و متعبدهم و مهبط الوحي و الملائكة،و إنما قال: بارَكْنا حَوْلَهُ ليكون بركته أعم و أشمل،فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض بلاد الشام و ما قاربه منها،و ذلك أوسع من مقدار بيت المقدس،و لأنه إذا كان هو الأصل و قد بارك في لواحقه و توابعه من البقاع كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى،بخلاف العكس.
و قيل:المراد البركة الدنيوية و الدينية و وجههما ما مرّ.
و قيل:المراد باركنا حوله من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض،فإن مياه الأرض كلها أصل انفجارها من تحت الصخرة التي في بيت المقدس(!) [576] فإن قيل:ما وجه ارتباط قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء:3]بما قبله و مناسبته له؟ قلنا:معناه لا تتخذوا من دوني ربّا فتكونوا كافرين،و نوح كان عبدا شكورا و أنتم ذرية من آمن به و حمل معه،فتأسوا به في الشكر كما تأسى به آباؤكم.
[577] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء:7]و لم يقل:
فعليها،كما قال اللّه تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [الإسراء:46]؟ قلنا:اللام هنا بمعنى على كما في قوله تعالى: وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] و قوله تعالى: وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء:109].
و قيل:معناه:فلها رجاء بالرحمة،أو فلها مخلص بالتوبة و الاستغفار.
و الصحيح أنّ اللام هنا على بابها؛لأنّها للاختصاص،و كل عامل مختص بجزاء عمله حسنة كانت أو سيئة،و قد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة في قوله تعالى:
لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286].
[578] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى،هنا: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء:12]،و قال في قصة مريم و عيسى عليهما السلام وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:91] وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:23]مع أن عيسى صلّى اللّه عليه و سلّم كان وحده آيات شتى؛حيث كلّم الناس في المهد،و كان يحيى الموتى،و يبرئ الأكمه و الأبرص،و يخلق الطير و غير ذلك،و أمه وحدها كانت آية حيث حملت من غير فحل؟ قلنا:إنما أراد به الآية التي كانت مشتركة بينهما و لم تتم إلا بهما،و هي ولادة ولد من غير فحل،بخلاف الليل و النهار و الشمس و القمر.
ص: 169
الثاني:أن فيه آية محذوفة إيجازا و اختصارا تقديره:و جعلناها آية و ابنها آية، و جعلنا ابن مريم آية و أمه آية.
[579] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:
12]و الإبصار من صفات ما له حياة،و المراد بآية النهار إما الشمس أو النهار نفسه؛ و كلاهما غير مبصر؟ قلنا:المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة،نقله الجوهري.
و قال غيره:معناه بينة واضحة،و منه قوله تعالى: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]،أي آية واضحة مضيئة،و قوله تعالى: فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل:13].
الثاني:معناه:مبصرا بها إن كانت الشمس،أو فيها إن كانت النهار،و منه قوله تعالى: وَ النَّهارَ مُبْصِراً [يونس:67]أي مبصرا فيه،و نظيره قولهم:ليل نائم و نهار صائم:أي ينام فيه و يصام فيه.
الثالث:أنه فعل رباعي منقول بالهمزة عن الثلاثي الذي هو بصر بالشيء،أي علم به،فهو بصير،أي عالم معناه أنه يجعلهم بصراء،فيكون أبصره بمعنى بصره،و على هذا حمل الأخفش قوله تعالى: فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أي تبصّرهم فتجعلهم بصراء.
الرابع:أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة و بصر و قدرة،و هو متحرك بإرادته امتثال أمر اللّه تعالى كما يتحرك الإنسان! [580] فإن قيل:ما الفائدة في ذكر عدد السنين؛مع أنّه لو اقتصر على قوله لتعلموا الحساب دخل فيه عدد السنين إذ هو من جملة الحساب؟ قلنا:العدد كله موضوع الحساب كبدن الإنسان فإنه موضوع الطب،و أفعال المكلفين موضوع الفقه،و موضوع كل علم مغاير له و ليس جزءا منه،كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب،و لا أفعال المكلفين جزءا من الفقه؛فكذا العدد ليس جزءا من الحساب،و إنما ذكر عدد السنين و قدمه على الحساب،لأن المقصود الأصلي من محو الليل و جعل آية النهار مبصرة علم عدد الشهور و السنين،ثم يتفرع من ذلك علم حساب التاريخ و ضرب المدد و الآجال.خ.
ص: 170
[581] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى هنا: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14]و قال في موضع آخر وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء:47]؟ قلنا:مواقف القيامة مختلفة،ففي موقف يكل اللّه حسابهم إلى أنفسهم و علمه محيط به،و في موقف يحاسبهم هو.
و قيل:هو الذي يحاسبهم لا غيره،و قوله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها عالم بذلك،فهو توبيخ و تقريع لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه.
و قيل:من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه،و من يريد مسامحته فيه يكل حسابه إليه.
[582] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الإسراء:15]يرد ما جاء في الأخبار أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب و المديون و يزاد في حسنات رب الدّين و الشخص الذي اغتيب،فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما،و كذلك جاء هذا في سائر المظالم؟ قلنا:المراد من الآية أنها لا تحمله اختيارا ردا على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت:12]الآيتين،و المراد من الخبر أنها تحمله كرها فلا تنافي،و قد سبق هذا مرة في آخر سورة الأنعام.
[583] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الإسراء:16] و قال في آية أخرى قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف:28]؟ قلنا:فيه إضمار تقديره أمرناهم بالطاعة ففسقوا.و قال الزّجّاج:و مثله قولهم أمرته فعصاني،و أمرته فخالفني؛لا يفهم الأمر بالمعصية و لا الأمر بالمخالفة.
الثاني:أن معناه كثرنا مترفيها،يقال أمرته و آمرته بالمد و القصر يعني كثرته، و قد قرئ بهما،و منه الحديث:«خير المال مهرة مأمورة و سكّة مأبورة»،أي كثيرة النتاج و النسل.
الثالث:أن معناه أمرنا مترفيها بالتشديد،يقال أمرت فلانا بمعنى أمرته:أي جعلته أميرا،فمعنى الآية سلطانهم بالإمارة،و يعضد هذا الوجه قراءة من قرأ أمرنا بالتشديد.ة.
ص: 171
و قال الزمخشري رحمه اللّه:لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؛لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز،فكيف يقدر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه؛و ذلك لأن قوله: فَفَسَقُوا يدل على أن المأمور به المحذوف هو الفسق و هو كلام مستفيض،يقال:أمرته فقام و أمرته فقعد و أمرته فقرأ،لا يفهم منه إلا أن المأمور به القيام و القعود و القراءة،بخلاف قولهم أمرته فعصاني و أمرته فخالفني؛حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية و المخالفة؛لأن ذلك مناف للأمر مناقض له،و لا يكون ما يناقض الأمر و ينافيه مأمورا به،فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منوي،و المتكلم بمثل هذا لا ينوي لأمره مأمورا به؛بل كأنه قال:كان مني أمر فلم تكن منه طاعة،أو كانت منه مخالفة،كما تقول:مر زيدا يطعك،و كما تقول:فلان يأمر و ينهى،و يعطي و يمنع،و يصل و يقطع،و يضر و ينفع،فإنك لا تنوي مفعولا.
[584] فإن قيل:على هذا حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا،و هذا لا يكون من اللّه،فلا يقال يقدر الفسق محذوفا و لا مأمورا به.
قلنا:الفسق المحذوف المقدر مجاز عن إترافهم و صب النعم عليهم صبا أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصي و وسيلة إلى اتباع الشهوات،فكأنهم أمروا بذلك لما كان السبب في وجوده الإتراف و فتح باب النعم.
[585] فإن قيل:لم لا يكون ثبوت العلم بأن اللّه لا يأمر بالفحشاء،و إنما يأمر بالطاعة و العدل و الخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
قلنا:لو جاز مثل هذا الإضمار و التقدير لكان المتكلم مريدا من مخاطبه علم الغيب؛لأنّه أضمر ما لا دلالة عليه في اللفظ بل أبلغ؛لأنّه أضمر في اللفظ ما يناقضه و ينافيه،و هو قوله: فَفَسَقُوا ؛فكأنه أظهر شيئا و ادعى إضمار نقيضه،فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز هو الوجه.هذا كله كلام الزمخشري،و لا أعلم أحدا من أئمة التفسير صار إليه غيره؛ثم إنه أيّده فقال:و نظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده تقول:لو شاء فلان لأحسن إليك،و لو شاء لأساء إليك،تريد لو شاء الإحسان لأحسن و لو شاء الإساءة إليك لأساء،فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت و تعني و لو شاء الإساءة لأحسن إليك،و لو شاء الإحسان لأساء إليك،و تقول قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان دائما و من أهل الإساءة دائما،فيترك الظاهر المنطوق به و يضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم تكن على سداد.
[586] فإن قيل:على الوجه الأول لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة.
كان مخصوصا بالمترفين،لأن أمر اللّه تعالى بالطاعة عام للمترفين و غيرهم.
قلنا:أمر اللّه بالطاعة و إن كان عاما،و لكن لما كان صلاح الأمراء و الرؤساء
ص: 172
و فسادهم مستلزما لصلاح الرعية و فسادها غالبا خصّهم بالذّكر،و يؤيد هذا ما جاء في الخبر:«صلاح الوالي صلاح الرّعيّة،و فساد الوالي فساد الرّعيّة».
[587] فإن قيل:قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ [الإسراء:18]الآية،يدل على أن من لم يزهد في الدنيا و لم يتركها كان من أهل النار،و الأمر بخلافه.
قلنا:المراد من كان يريد بإسلامه و طاعته و عبادته الدنيا لا غير،و مثل هذا لا يكون إلا كافرا أو منافقا،و لهذا قال ابن جرير:هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد،و أما من أراد من الدنيا قدر ما يتزود به إلى الآخرة فكيف يكون مذموما،مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلية و عن جميع ما فيها لا يتصور في حق البشر و لو كانوا أنبياء،فعلم أن المراد ما قلنا.
[588] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] أي ممنوعا،و نحن نرى و نشاهد في الواقع أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة و آخر منعه العطاء حتى الدانق و الحبة؟ قلنا:المراد بالعطاء هنا الرزق،و اللّه تعالى سوّى في ضمان الرزق و إيصاله بين البر و الفاجر و المطيع و العاصي،و لم يمنع الرزق عن العاصي بسبب عصيانه،فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق،و إنما التفاوت بينهم في مقادير الأملاك.
[589] فإن قيل:كيف منع اللّه تعالى الكفار التوفيق و الهداية و لم يمنعهم الرزق؟ قلنا:لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا و صار ذلك حجة لهم يوم القيامة،بأن يقولوا لو أمهلتنا و رزقتنا لبقينا أحياء فآمنا.
الثاني:أنه لو أهلكهم بمنع الرزق لكان قد عاجلهم بالعقوبة،فيتعطل معنى اسمه الحليم عن معناه؛لأنّ الحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.
الثالث:أن منع الطعام و الشراب من صفات البخلاء الأخساء،و اللّه تعالى منزه عن ذلك.
و قيل:إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل،و عدل اللّه عام،وهبته التوفيق و الهداية فضل،و إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء.
[590] فإن قيل:ما فائدة قوله:«عندك»في قوله تعالى: إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الإسراء:23].
قلنا:فائدته أنهما يكبران في بيته و كنفه و يكونان كلاّ عليه لا كافل لهما غيره، و ربما تولى منهما من المشاقّ ما كانا يتوليان منه في حال الطفولية.
ص: 173
[591] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء:32]و لم يقل و لا تزنوا؟ قلنا:لو قال و لا تزنوا كان نهيا عن الزنا لا عن مقدماته كاللمس و المعانقة و القبلة و نحو ذلك،و لما قال: وَ لا تَقْرَبُوا كان نهيا عنه و عن مقدماته،لأن فعل المقدمات قربان للزنا.
[592] فإن قيل:الإشارة بقوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ [الإسراء:38] على ما ذا تعود؟ قلنا:الإشارة إلى كل ما هو منهي عنه من جميع ما ذكر من قوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء:23]إلى هذه الآية؛لا إلى جميع ما ذكر فإن فيه حسنا و سيئا.
و قال أبو علي:هو إشارة إلى قوله: وَ لا تَقْفُ [الإسراء:36]و ما بعده؛لأنه لا حسن فيه.
[593] فإن قيل:كيف قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ [الإسراء:44]فقوله و من فيهن يتناول أهل الأرضين كلهم،و المراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:
44]و التسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بصفات جلاله و كماله،و الكفار يضيفون إليه الزوج و الولد و الشريك و غير ذلك،فأين تسبيحهم؟ قلنا:الضمير في قوله تعالى: وَ مَنْ فِيهِنَّ راجع إلى السموات فقط.
الثاني:أنه راجع إلى السموات و الأرض،و المراد بقوله تعالى: وَ مَنْ فِيهِنَّ يعني من المؤمنين،فيكون عاما أريد به الخاص،و على هذا يكون المراد بالتسبيح إلى من فيهن التسبيح بلسان المقال.
الثالث:أن المراد به التسبيح بلسان الحال حيث تدل على وجود الصانع و عظيم قدرته و نهاية حكمته،فكأنها تنطق بذلك و تنزهه عما لا يجوز عليه و ما لا يليق به من السوء،و يؤيده قوله تعالى بعده وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ و التسبيح العام لجميع الموجودات إنّما هو التسبيح بلسان الحال.
[594] (1) فإن قيل:لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال لما قال: وَ لكِنْ لاة.
ص: 174
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]؛لأنّ التسبيح بلسان الحال مفقوه لنا،أي مفهوم و معلوم؟ قلنا:الخطاب بقوله تعالى: وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للكفار،و هم مع تسبيحهم بلسان الحال لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير؛لأنّهم لما جعلوا للّه شركاء و زوجا و ولدا دل ذلك على عدم فهمهم التسبيح للموجودات و تنزيهها و عدم إيضاح دلائل الوحدانية لهم؛لأن اللّه تعالى طبع على قلوبهم.
[595] (1) فإن قيل: وَ مَنْ فِيهِنَّ و هم الملائكة و الثقلان يسبحون حقيقة و السموات و الأرض و الجمادات تسبح مجازا،فكيف جمع بين إرادة الحقيقة و المجاز من لفظ واحد و هو قوله: تُسَبِّحُ ؟ قلنا:التّسبيح المجازي بلسان الحال حاصل من الجميع،فيحمل عليه دفعا لما ذكرتم من المجاز.
[596] (2) فإن قيل:كيف قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء:
52]،و المستعمل الشائع دعاه فاستجاب لأمره أو بأمره،أي أجاب؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:المراد بقوله تعالى: بِحَمْدِهِ بأمره.
و قال سعيد بن جبير رضي اللّه عنه:إذا دعا اللّه الخلائق للبعث يخرجون من قبورهم و هم ينفضون التراب عن رءوسهم و يقولون:سبحانك اللهم و بحمدك.و قال غيره و هم يقولون:الحمد للّه الذي صدقنا وعده،فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون:20]و قوله تعالى: وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه:
130].
[597] فإن قيل:كيف أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الإسراء:55]ثم خص داود بالذكر فقال: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [الإسراء:17].
قلنا:لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء،و هو الرسالة و الكتابة و الخطابة و الخلافة و الملك و القضاء في زمن واحد،قال اللّه تعالى: وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ [ص:20]و قال: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص:26].ه.
ص: 175
الثاني:أن قوله تعالى: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ إشارة إلى تفضيل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم،و قوله: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً دلالة على وجه تفضيله و هو أنه خاتم الأنبياء و أن أمته خير الأمم؛لأن ذلك مكتوب في زبور داود عليه الصلاة و السلام،و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ [الأنبياء:105]يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و أمته.
[598] فإن قيل:لم نكر الزبور هنا و عرفه في قوله تعالى: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105]؟ قلنا:يجوز أن يكون الزّبور من الأعلام التي تستعمل بالألف و اللام و بغيرهما كالعباس و الفضل و الحسن و نحوها.
الثاني:أنه نكره هنا لأنه أراد و آتينا داود بعض الزبور و هي الكتب.
الثالث:أنه نكره لأنه أراد به ما ذكر فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الزبور،فسمى ذلك زبورا؛لأنه بعض الزبور،كما سمى بعض القرآن قرآنا،فقال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ [الإسراء:106]الآية،و قال: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]و أراد به سورة يوسف عليه السلام،و قال: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]أي القرآن المتلو في صلاة الفجر.
[599] (1) فإن قيل:قوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الإسراء:48] كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الإسراء:56]مغن عن قوله تعالى: وَ لا تَحْوِيلاً [الإسراء:56]لأنهم إذا لم يستطيعوا كشف الضر لا يستطيعون تحويله،لأن تحويل الضر نقله من محل و إثباته في محل آخر،و منه تحويل الفراش و المتاع و غيرهما،و كشف الضر مجرد إزالة،و من لا يقدر على الإزالة وحدها فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟و المراد بالآية كشف الضر و المرض و القحط و نحوها؟ قلنا:التحويل له معنيان:أحدهما ما ذكرتم.و الثاني التبديل،و منه قولهم:
حوّلت القميص قباء،و الفضة خاتما؛و أريد بالتبديل هنا الكشف؛لأن في الكشف المنفي في الآية تبديلا؛فإن المرض متى كشف يبدل بالصحة،و الفقر متى كشف يبدل بالغنى،و القحط متى كشف يبدل بالخصب،و كذا جميع الأضداد،فأطلق التبديلظ!
ص: 176
و أراد به الكشف،إلا أنه لم يرد به كشف الضر لئلاّ يلزم التكرار،بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإزالة،يعني فلا يستطيعون كشف الضر عنكم و لا كشفا ما،و لهذا لم يقل و لا تحويله.و هذا الجواب مما فتح اللّه عليّ به من خزائن جوده،و نظيره ما ذكرناه في سورة النحل في قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ [النحل:73].
[600] فإن قيل:قوله تعالى: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء:59]الآية فيها أسئلة:
أولها:أنّ اللّه تعالى لا يمنعه عما يريده مانع،فإن أراد إرسال الآيات فكيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟و إن لم يرد إرسالها كان وجود تكذيبهم و عدمه سواء.
و كان عدم الإرسال لعدم الإرادة.
الثاني:أن الإرسال يتعدى بنفسه،قال اللّه تعالى: إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح:1]فأيّ حاجة إلى الباء؟ الثالث:أن المراد بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من جعل الصفا ذهبا،و إزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة،و إنزال مكتوب من السماء و نحو ذلك،و هذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين و لا شاهدوها فكيف كذبوا بها؟ الرابع:أن تكذيب الأولين لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون.
الخامس:أيّ مناسبة و ارتباط بين صدر الآية و قوله تعالى: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً ؟ السادس:ما معنى وصف الناقة بالإبصار؟ السابع:أن الظلم يتعدى بنفسه؛قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء:110]،فأيّ حاجة إلى الياء؛و هلاّ قال فظلموها يعني العقر و القتل؟ الثامن:أن قوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً [الإسراء:59]يدل على الإرسال بها،و قوله تعالى: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الإسراء:59]يدل على عدم الإرسال بها؟ قلنا:الجواب عن الأوّل:أن المنع مجاز عبر به عن ترك الإرسال بالآيات،كأنه تعالى قال:و ما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.
و عن الثاني:أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به لا إلى المرسل،لأن المرسل محذوف و هو الرسول،تقديره:و ما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات،و الإرسال يتعدى إلى
ص: 177
المرسل بنفسه،و إلى المرسل به بالباء،و إلى المرسل إليه بإلى،قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ [هود:96،97].
و عن الثالث:أن الضمير في قوله تعالى بها عائد إلى جنس الآيات المقترحة لا إلى هذه الآيات المقترحة،كأنه تعالى قال:و ما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة،يريد المائدة و الناقة و نحوهما مما اقترحه الأولون على أنبيائهم.
و عن الرابع:أن سنة اللّه تعالى في عباده أنّ من اقترح على الأنبياء آية و أتوه بها فلم يؤمن عجل اللّه هلاكه،و اللّه تعالى لم يرد هلاك مشركي مكة؛لأنه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن،أو لأنه قضى و قدّر في سابق علمه بقاء من بعث إليهم محمد صلّى اللّه عليه و سلّم إلى يوم القيامة،فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها فلم يؤمنوا لأهلكهم،و حكمته اقتضت عدم إهلاكهم،فلذلك لم يرسلها،فيصير معنى الآية:و ما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون فأهلكوا،فربما كذب بها قومك فأهلكوا.
و عن الخامس:أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة عيّن منها واحدة و هي ناقة صالح عليه السلام؛لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم و واردهم.
و عن السادس:أن معنى مبصرة دالة،كما يقال الدليل مرشد و هاد.و قيل:
مبصرا بها،كما يقال:ليل نائم و نهار صائم:أي ينام فيه و يصام فيه.و قيل:معناه مبصرة،يعني أنها تبصّر الناس صحة نبوة صالح عليه السلام،و يعضد هذا قراءة من قرأ(مبصرة)بفتح الميم و الصاد:أي تبصرة.و قيل:مبصرة صفة لآية محذوفة، تقديره:آية مبصرة:أي مضيئة بينة.
و عن السابع:أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة؛بل معناه:فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها.و قيل:الظلم هنا الكفر،فمعناه:فكفروا بها؛فلما ضمن الظلم معنى الكفر عداه تعديته.
و عن الثامن:أن المراد بالآيات ثانيا العبر و الدلالات لا الآيات التي اقترحها أهل مكة.
[601] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60] و ليس في القرآن لعن شجرة ما؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:و الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن.
ص: 178
الثاني:أن معناه:الملعون آكلوها و هم الكفرة.
الثالث:أن الملعونة يعني المذمومة كذا قال ابن عباس رضى اللّه عنهما،و هي مذمومة في القرآن بقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43، 44]و بقوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات:65].
الرابع:أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون،و في القرآن الإخبار عن ضررها و كراهتها.
الخامس:أن اللعن في اللغة الطرد و الإبعاد،و الملعون هو المطرود عن رحمة اللّه تعالى المبعد،و هذه الشجرة مطرودة مبعدة عن مكان رحمة اللّه تعالى و هو الجنة لأنها في قعر جهنم و هذا الإبعاد و الطرد مذكور في القرآن بقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]و قال ابن الأنباري:سميت ملعونة لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل.
[602] فإن قيل:كيف خص أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ [الإسراء:71]و لم خصهم بنفي الظلم عنهم بقوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء:71]مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم و لا يظلمون أيضا؟ قلنا:إنما خص أصحاب اليمين بذكر القراءة؛لأن أصحاب الشمال إذا رأوا ما في كتبهم من الفضائح و القبائح أخذهم من الحياء و الخجل و الخوف ما يوجب حبسة اللسان و تتعتع الكلام و العجز عن إقامة الحروف،فتكون قراءتهم كلا قراءة؛فأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك،لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة و أبينها،و لا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة:19]و أما قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً فهو عائد إلى كل الناس لا إلى أصحاب اليمين.
الثاني:أنه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة،و إنما خصصهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون،و يعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون،و يعضد هذا الوجه قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً [طه:112].
[603] (1) فإن قيل:كيف قال موسى عليه السلام لفرعون لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِي.
ص: 179
[الإسراء:102]يعني الآيات إِلاّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ [الإسراء:102]يعني بينات و حججا واضحات،و فرعون لم يعلم ذلك؛لأنه لو علم ذلك لم يقل لموسى عليه السلام إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [الإسراء:101]أي مخدوعا أو قد سحرت أو ساحرا مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال،بل كان يؤمن به؛و كيف يعلم ذلك و قد طبع اللّه على قلبه و أضله و حال بينه و بين الهدى و الرشاد،و لهذا قرأ عليّ كرم اللّه وجهه لَقَدْ عَلِمْتَ بضم التاء و قال:و اللّه ما علم عدو اللّه و لكن موسى عليه السلام هو الذي علم.و اختار الكسائي و ثعلب قراءة علي رضي اللّه عنه و نصراها بأنه لما نسبه إلى أنه مسحور أعلمه بصحة عقله بقوله: لَقَدْ عَلِمْتَ ؟ قلنا:معناه لقد علمت لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجة و البرهان،و لكنك معاند مكابر تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني،فكان فرعون ممن أضله اللّه على علم،و لهذا بلغ ابن عباس قراءة عليّ رضي اللّه عنهم و يمينه فاحتج بقوله تعالى:
وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا [النمل:14].
[604] فإن قيل:كيف قال موسى عليه السلام وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102]و موسى عليه السلام كان عالما بذلك لا شك عنده فيه؟ قلنا:قال أكثر المفسرين:الظن هنا بمعنى العلم كما في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:46]و إنما أتى بلفظ الظن ليعارض ظن فرعون بظنه، كأنه قال:إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك مثبورا و المثبور الهالك و المصروف عن الخيرات أو الملعون و الخاسر.
[605] فإن قيل:كيف كرر تعالى الإخبار بالخرور؟ قلنا:كرره ليدل على تكرار الفعل منهم.
الثاني:أنه كرره لاختلاف الحالين و هما خرورهم في حال كونهم ساجدين و في حال كونهم باكين.
الثالث:أنه أراد بالخرور الأول الخرور في حالة سماع القرآن و قراءته، و بالخرور الثاني الخرور في سائر الحالات و باقيها.
[606] فإن قيل:الحمد إنما يكون على نعمة أنعم اللّه تعالى بها على العبد، كما في قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34] اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف:43] اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [الأنعام:1]لأن فيها من المنافع لنا ما لا يعد و لا يحصى،فأي نعمة حصلت لنا من كون اللّه تعالى لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لا ناصر حتى قال: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء:111]الآية؟
ص: 180
قلنا:النعمة في ذلك أن الملك إذا كان له ولد و زوج فإنما ينعم على عبيده بما يفضل عن ولده و زوجته،و إذا لم يكن له ولد و زوج كان جميع إنعامه و إحسانه مصروفا إلى عبيده،فكان نفي اتخاذ الولد مقتضيا مزيد الإنعام عليهم،و أما نفي الشريك فلأنه يكون أقدر على الإنعام على عبيده لعدم المزاحم،و أما نفي النصير فلأنه يدل على القوة و الاستغناء،و كلاهما يقتضي القدرة على زيادة الإنعام،و اللّه أعلم و أحكم.
ص: 181
[607] فإن قيل:قوله تعالى: قَيِّماً يعني مستقيما،و قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف:1]مغن عن قوله قيما لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة؛لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان،و المراد به هنا نفي الاختلاف و التناقض في معانيه،و أنه لا يخرج منه شيء عن الصواب و الحكمة.و قيل:في الآية تقديم و تأخير تقديره:الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا.
قلنا:قال الفرّاء:معنى قوله: قَيِّماً قائما على الكتب السماوية كلها مصدقا لها شاهدا بصحتها ناسخا لبعض شرائعها،فعلى هذا لا تكرار فيه،و على القول المشهور يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء قدر قيما مقدما أو أقر في مرتبته،و نصب بفعل مضمر تقديره:و لكن جعله قيما.و لا بد من هذا الإضمار أو من التقديم و التأخير و إلا يصير المعنى:و لم يجعل له عوجا مستقيما و العوج لا يكون مستقيما.
[608] فإن قيل:اتخذ اللّه تعالى ولدا محال،فكيف قال: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الكهف:5]و إنما يستقيم أن يقال فلان ما له علم بكذا إذا كان ذلك الشيء مما يعلمه غيره أو مما يصح أن يعلم،كقولنا زيد ماله علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر و نحو ذلك.
قلنا:معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته،و هذا لأن انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه،و تارة يكون لاستحالة العلم به؛لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به.و ما نحن فيه من هذا القبيل.
[609] فإن قيل:كيف قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الكهف:12]و هو عالم بذلك في الأزل؟ قلنا:معناه لنعلم ذلك علم مشاهدة كما علمناه علم غيب.
[610] فإن قيل:كيف قال فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ [الكهف:19]و لم يقل واحدكم؟ قلنا:لأنه أراد فردا منهم أيهم كان،و لو قال واحدكم لدلّ على بعث رئيسهم و مقدمهم،فإن العرب تقول:رأيت أحد القوم،أي فردا منهم و لا تقول:رأيت واحدا لقوم إلا إذا أردت المقدم المعظم.
ص: 182
[611] فإن قيل:كيف جاء تعالى بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف:22]الآية؟ قلنا:أراد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأول بمقتضى العطف،فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا و اقتصارا كما تقول:زيد قد يخرج و يركب،تريد و قد يركب.
[612] (1) فإن قيل:كيف دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأولين و هي قوله:
وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22].
قلنا:قال بعض المفسرين هي واو الثمانية.و قد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة.
و قال الزّجاج:دخول هذه الواو و خروجها سواء في صفة النكرة،و جاء القرآن بهما.
و قال غيره:الواو مرادة في الجملتين الأوليين و إنما حذفت فيهما تخفيفا،و أتى بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما.و يرد على هذا القول،أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى،محذوفة في الجملة الثانية و الثالثة،ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك،كما سبق في سين الاستقبال.
و قال الزمخشري و غيره:هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة،تقول:جاءني رجل و معه آخر، و مررت بزيد و في يده سيف،و منه قوله تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر:4]و فائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف،و الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر،و هذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة و ثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، و الدليل عليه أن اللّه تعالى أتبع القولين الأولين قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف:22] و أتبع القول الثالث قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ [الكهف:22].
و قال ابن عباس:وقعت الواو لقطع العدد:أي لم يبق بعدها عدد عاد يلتفت إليه،و يثبت أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و البتات.
و قال الثعلبي:هذه واو الحكم و التحقيق،كأنّ اللّه تعالى حكى اختلافهم فتمي.
ص: 183
الكلام عند قوله سبعة،ثم حكى بأن ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام،فحقق ثبوت العدد الأخير؛لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة،فعلى هذا يكون قوله: وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]من كلام اللّه تعالى حقيقة أو تقديرا.
و يرد على هذا أن قوله تعالى بعد هذه الواو قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22] و قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلاّ قَلِيلٌ [الكهف:22]يدل على بقاء الإبهام و عدم زوال اللبس بهذه الواو.
[613] فإن قيل:كيف قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ [الأنعام:115]و قال في موضع آخر: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل:101]و يلزم من تبديل الآية بالآية تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟ قلنا:معنى الأول لا مغير للقرآن من البشر،و هو جواب لقولهم للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:ائت بقرآن غير هذا أو بدله.
الثاني:أن معناه لا خلف لمواعيده و لا مغير لحكمه،و معنى الثاني النسخ و التبديل من اللّه تعالى فلا تنافي بينهما.
[614] فإن قيل:قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] إباحة و إطلاق للكفر؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما معناه:فمن شاء ربكم فليؤمن و من شاء ربكم فليكفر،يعني لا إيمان و لا كفر إلا بمشيئته.
الثاني:أنه تهديد و وعيد.
الثالث:أن معناه لا تنفعون اللّه بإيمانكم و لا تضرونه بكفركم،فهو إظهار للغنى لا إطلاق للكفر.
[615] فإن قيل:لبس الأساور في الدنيا عيب للرّجال،و لهذا لا يلبسها من يلبس الذهب و الحرير من الرجال،فكيف وعدها اللّه تعالى المؤمنين في الجنّة في قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31]؟ قلنا:كانت عادة ملوك الفرس و الروم لبس الأساور و التيجان مخصوصين بها دون من عداهم،فلذلك وعدها اللّه تعالى المؤمنين؛لأنهم ملوك الآخرة.
[616] فإن قيل:كيف أفرد اللّه تعالى الجنة بعد التثنية فقال: وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]؟ قلنا:أفردها ليدل على الحصر،معناه:و دخل ما هو جنته لا جنة له غيرها و لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون،بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير،و لم يقصد جنة معينة منهما بل جنس ما كان له.
ص: 184
[617] فإن قيل:كيف قال الأخ المؤمن لأخيه لكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:38]و هذا تعريض بأن أخاه مشرك و ليس في كلام أخيه ما يقتضي الشرك بل الكفر و هو قوله وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً [الكهف:36]؟ قلنا:إشراك أخيه الذي عرض له به هو اعتقاده أن زكاة جنته و نماءها بحوله و قوته،و لهذا قال له: وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ [الكهف:39] و لهذا قال هو أيضا لما أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها و هي خاوية على عروشها يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42]فاعترف بالشرك.
[618] فإن قيل:ما فائدة أنا في قوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ [الكهف:39]؟ قلنا:أنا في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه،و منه قوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12]و قوله: إِنِّي أَنَا اللّهُ [القصص:30]و نظائره كثيرة.
[619] فإن قيل:ما معنى قوله: وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ [الكهف:
43]و كذلك كل ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم:81] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الشورى:6] وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [البقرة:107]و كيف تحقيق معناه؟ قلنا:«دون»يستعمل في كلام العرب بمعنى غير،كقولهم:لفلان مال دون هذا،و من دون هذا،أي غير هذا.و نظيره قوله تعالى: وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ [المؤمنون:63]أي من غيره،و تستعمل أيضا بمعنى قبل،كقولهم المدينة دون مكة، أي قبلها،و من دونه خرط القتاد.و لا أقوم من مجلسي دون أن تجيء،و لا أفارقك دون أن تعطيني حقي،و ما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى قبل بل بمعنى غير فقط.
[620] فإن قيل:كيف قال: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]يعني في يوم الآخرة أو في يوم القيامة،و الولاية بكسر الواو السلطان و الملك،و بفتح الواو التولي و النصرة،و كل ذلك للّه تعالى في الدنيا و الآخرة يعز من يشاء و يذل من يشاء،و ينصر من يشاء،و يخذل من يشاء،و يتولى من يشاء بحراسته و حفظه،فما فائدة تخصيص يوم القيامة؟ قلنا:فائدته أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا و يوم القيامة تنقطع كلها، و يسلم الملك للّه تعالى عن كل منازع،و قد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73].
ص: 185
[621] فإن قيل:كيف قال تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً [الكهف:44]أي عاقبة،و غير اللّه تعالى لا يثيب ليكون اللّه خيرا منه ثوابا؟ قلنا:هذا على الفرض و التقدير معناه:لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، و لكانت طاعته أحمد عاقبة و خيرا من طاعة غيره.
[622] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ حَشَرْناهُمْ [الكهف:47]بلفظ الماضي و ما قبله مضارعان و هو قوله تعالى: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف:47]أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟ قلنا:للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير و قبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال و العظائم كأنه قال:و حشرناهم قبل ذلك.
[623] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها [الكهف:49]مع أنه أخبر أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر بقوله تعالى:
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء:31]؟ قلنا:الآية الأولى في حقّ الكافرين بدليل قوله تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ [الكهف:49]و المراد بهم هنا الكافرون،كذا قال مجاهد،و قال غيره:كل مجرم في القرآن فالمراد به الكافر،و الآية الثانية المراد بها المؤمنون؛لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحققا مع وجود الكفر.
الثاني:لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب لم يلزم التناقض لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ثم تكفر عنه فيعلم قدر نعمة العفو فإن أكثر ذنوب العبد ينساها خصوصا الصغائر.
[624] فإن قيل:قوله تعالى: إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]يدل على أنه من الجن و قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ [الكهف:50]يدل على أنه من الملائكة،فكيف الجمع بينهما؟ قلنا:فيه قولان:
أحدهما:أنه من الجن حقيقة عملا بظاهر هذه الآية،و لأن له ذرية قال تعالى:
أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الكهف:50]و الملائكة لا ذرية لهم،و لأنه أكفر الكفرة و أفسق الفسقة،و الملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل اللّه،و عن المعاصي مطلقا لأنهم عقول مجردة بغير شهوة،و لا معصية إلا عن شهوة،و يؤيده قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]و قال تعالى:
وَ مَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19]يعني الملائكة: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19،20]فكيف يكون إبليس منهم و يؤمر بالسجود فيمتنع،فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس؛أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود لا من جنس الملائكة،و يكون التقدير:و إذ قلنا للملائكة و إبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كما تقول:أمرت إخوتي و عبدي بكذا فأطاعوني إلا عبدي،و العبد ليس من الإخوة و لا داخلا فيهم إلا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم،فهذا كذلك.
ص: 186
وَ مَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19]يعني الملائكة: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19،20]فكيف يكون إبليس منهم و يؤمر بالسجود فيمتنع،فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس؛أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود لا من جنس الملائكة،و يكون التقدير:و إذ قلنا للملائكة و إبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كما تقول:أمرت إخوتي و عبدي بكذا فأطاعوني إلا عبدي،و العبد ليس من الإخوة و لا داخلا فيهم إلا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم،فهذا كذلك.
القول الثاني:أنه كان من الملائكة قبل أن يعصي اللّه تعالى،فلما عصاه مسخه شيطانا.روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،فيكون معنى قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]لمخالفته،فتكون كان بمعنى صار.و قيل معناه:أنه كان من الجن في سابق علم اللّه تعالى و هذان القولان يدلان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية.و روي عنه أيضا أنه كان من خزان الجنة،و هم جماعة من الملائكة يسمون الجن،فعلى هذا يكون قوله تعالى: مِنَ الْجِنِّ [الكهف:50]أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50]بمخالفته فيكون استثناء من الجنس.و قال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ [الكهف:50]هو استثناء متصل،لأنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم،فغلبوا عليه في قوله: فَسَجَدُوا قلت:و في هذا التعليل نظر؛ثم قال بعده:و يجوز أن يجعل منقطعا.
[625] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [الكهف:50]و الأولياء:الأصدقاء و الأحباب و هم ضد الأعداء،و يؤيده قوله تعالى:
وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]و ليس من الناس أحد يحب إبليس و ذريته و يصادقهم؟ قلنا:المراد بالموالاة هنا إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي و يوسوسون في صدورهم و طاعتهم إياهم،فالموالاة مجاز عن هذا لأنه من لوازمها.
[626] فإن قيل:قال تعالى هنا: وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الكهف:52]أي فلم يجب الأصنام المشركين،فنفى عن الأصنام النطق،و قال تعالى في سورة النحل: وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل:86]يعني فكذبتهم الأصنام فيما قالوا،فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟ قلنا:المراد بقوله هنا: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الكهف:52]أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم،فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك،فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة و دفع العذاب عنهم،و في سورة النحل أثبت لهم النطق
ص: 187
بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم،فلا تناقض بين المنفي و المثبت.
[627] فإن قيل:كيف قال تعالى: شُرَكائِيَ [الكهف:52]و قال في سورة النحل شُرَكاءَهُمْ [النحل:86]؟ قلنا:قوله تعالى: شُرَكائِيَ [الكهف:52]معناه في زعمكم و اعتقادكم،و لهذا قال: شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [الكهف:52]و أخرجه مخرج التهكم بهم،كما قال المشركون للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]و قوله تعالى:
شُرَكاءَهُمْ [النحل:86]يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء،فإضافتها إلى اللّه تعالى لجعلهم إياها شركاء،و الإضافة تصح بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية فصحت الإضافتان.
[628] فإن قيل:كيف قال تعالى: نَسِيا حُوتَهُما [الكهف:61]و الناسي إنما كان يوشع وحده بدليل قوله لموسى عليه الصلاة و السلام معتذرا فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف:
63]أي قصة الحوت و خبره وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]؟ قلنا:أضيف النسيان إليهما مجازا،و المراد أحدهما.قال الفراء:نظيره قوله تعالى:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ [الرحمن:22]و إنما يخرج من الملح لا من العذب.
و قيل:نسي موسى عليه السلام تفقد الحوت و نسي يوشع أن يخبره خبره،و ذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل قد تزوّداه،فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيى و انسل،و كان قد ذهب لقضاء حاجة فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت، فلما جاء موسى نسي أن يخبره،و نسي موسى تفقد الحوت و السؤال عنه.
[629] فإن قيل:هذا التفسير يدل على أن النسيان من يوشع أو منهما كان بعد حياة الحوت و ذهابه في البحر،و ظاهر الآية يدل على أنّ النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر متصلا ببلوغ مجمع البحرين لقوله تعالى: فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً [الكهف:61].
قلنا:في الآية تقديم و تأخير تقديره:فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا فنسيا حوتهما.
[630] فإن قيل:كيف نسي يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة في مدة يسيرة؛ بل في لحظة؛و استمر به النسيان يومه ذلك و ليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثاني؛ و مثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان كيف و قد كان اللّه تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر عليه السلام،على ما نقل أن موسى عليه السلام سأل اللّه تعالى علامة على موضع وجدانه،فأوحى إليه أن خذ معك حوتا في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم؟ قلنا:سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى عليه السلام
ص: 188
و استأنس بها فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات سببا لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة و عدم اكتراثه لها.
[631] فإن قيل:كيف قال تعالى: حَتّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الكهف:
71]بغير فاء و حَتّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ [الكهف:74]بالفاء؟ قلنا:جعل خرقها جزءا للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك إذا ركب زيد الفرس عقره،و جعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء و الجزاء قال أقتلت، كقولك:إذا ركب زيد الفرس فعقره،قال له صاحبه أ عقرته؟ [632] فإن قيل:كيف خولف بين القصتين؟ قلنا:لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب،و قتل الغلام تعقب لقاءه.
[633] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى في قصة الغلام: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]و في قصة السفينة لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:74].
قلنا:قيل إمرا معناه نكرا،فعلى هذا لا فرق في المعنى؛لأن الإمر و النكر بمعنى واحد.
و قيل:الإمر العجب أو الداهية و خرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة، لأن في الأول هلاك كثيرين.
و قيل:النكر أعظم من الإمر فمعناه:جئت شيئا أنكر من الأول؛لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسد و هذا لا يمكن تداركه.
[634] فإن قيل:كيف قال تعالى،في قصّة السفينة: أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الكهف:
72]و في قصة الغلام: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ [الكهف:75]؟ قلنا:لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصية مرة ثانية و التنبيه على تكرر ترك الصبر و الثبات.
[635] فإن قيل:ما فائدة إعادة ذكر الأهل في قوله: اِسْتَطْعَما أَهْلَها [الكهف:77]و هلاّ قال استطعماهم،لأنه قد سبق ذكر الأهل مرّة؟ قلنا:فائدة إعادته التأكيد لا غير.
[636] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77]نسب الإرادة إلى الجماد و هي من صفات من يعقل؟7.
ص: 189
قلنا:هذا مجاز بطريق المشابهة؛لأنّ الجدار بعد مشارفته و مداناته للانقضاض و للسقوط شابه من يعقل،و يريد في تهيئه للسقوط فظهر منه هيئة السقوط كما تظهر ممّن يعقل،و يريد،فنسبت إليه الإرادة مجازا بطريق المشابهة في الصّورة.و قد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازا قال الشاعر:
يريد الرّمح صدر أبي براء و يعدل عن دماء بني عقيل
و قال حسان:
إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان
و من أمثاله«تمرّد مارد،و عزّ الأبلق»و منه قوله تعالى: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:154]و قوله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد:21]و قوله: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت:11]و نظائره كثيرة.
[637] (1) فإن قيل:لأي سبب لم يفارقه الخضر عليه السلام عند الاعتراض الأول و الثاني و فارقه عند الثالث؟ قلنا:لوجهين:
أحدهما:أن موسى عليه السلام شرط على الخضر ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث و قد وجد،فكان راضيا به.
الثّاني:أنّ اعتراض موسى،عليه السلام،في المرة الأولى و الثّانية كان تورّعا و صلابة في الدّين،و اعتراضه في المرّة الثّالثة لهوى نفسه و شهوة بطنه فأعقبه هواه هوانا.
[638] فإن قيل:قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف:79]علّته خوف الغصب، فكان حقه أن يتأخر عن علّته فلم قدم عليها؟ قلنا:هو متأخر عنه؛لأن علّة تعييبها أو علّة إرادته تعييبها خوف الغصب، و خوف الغصب سابق؛لأنّه الحامل للخضر عليه السلام على ما فعله.و في قراءة أبيّ و عبد اللّه رضي اللّه عنهما«كل سفينة صالحة»و لا بد من إضمار هذه الزيادة على قراءة الجمهور و إلاّ لم يفد الخرق.
[639] فإن قيل:الشّمس في السماء الرابعة و هي بقدر كرة الأرض مائة و ستين مرة، و قيل مائة و خمسين،و قيل مائة و عشرين،فكيف تسعها عين في الأرض حتى أخبر اللّه تعالىم!
ص: 190
عن ذي القرنين أنّه وجدها تغرب في عين حمئة أو حامئة على اختلاف القراءتين؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: وَجَدَها أي في زعمه و ظنه،كما يرى راكب البحر إذا لجّ فيه و غابت عنه الأطراف و السواحل أن الشمس تطلع من البحر و تغرب فيه، فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة المغرب فوجد عينا حمئة واسعة عظيمة فظن أن الشمس تغرب فيها.
[640] فإن قيل:ذو القرنين كان نبيا أو تقيا حكيما على اختلاف القولين، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في الظن المستحيل الذي لا يقبله العقل؟ قلنا:الأنبياء و الأولياء و الحكماء ليسوا معصومين عن ظن الغلط الخطأ،و إن كانوا معصومين عن الكبائر.أ لا ترى إلى ظن موسى عليه السلام فيما أنكره على الخضر عليه السلام في القضايا الثلاث،و ظنه أنه يرى اللّه تعالى في الدنيا و هو من كبار الأنبياء،و كذلك يونس عليه السلام على ما أخبر اللّه تعالى بقوله: وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]و كان الواقع بخلاف ظنه.
الثاني:أن اللّه تعالى قادر على تصغير جرم الشمس و توسيع العين الحمئة و كرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس،فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك و لم نعلم به لقصور علمنا عن الإحاطة بذلك!! [641] فإن قيل:قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف:86]،يدل على أنه كان نبيا،لأن اللّه تعالى خاطبه.
قلنا:من قال إنه ليس نبيا يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النّبيّ الموجود في زمانه كما في قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة:49]و ما أشبه.
[642] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى هنا،في حقّ الكفار: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف:105]،أي فلا ننصب لهم ميزانا؛لأنّ الميزان إنما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيئات،و الكافر لا حسنة له و لا طاعة لقوله تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]و قال في موضع آخر: وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة:8،9]أي فمسكنه النار فأثبت له ميزانا.
قلنا:معنى قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف:105]أي لا يكون لهم عندنا قدر و لا خطر لخستهم و حقارتهم،و لو كان معناه ما ذكرتم يكون المراد بقوله تعالى: وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة:8،9]من غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين فإنه يستكين في النار،و لكن لا يخلد فيها بل بقدر ما يمحص عنه ذنوبه فلا تنافي بينهما.
ص: 191
[643] فإن قيل:النداء الصوت و الصياح،يقال ناداه نداء،أي صاح به،فكيف وصفه تعالى بكونه خَفِيًّا [مريم:3]؟ قلنا:النداء هنا عبارة عن الدّعاء،و إنّما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص،أو لئلا يلام على طلبه الولد بعد الشّيخوخة،أو لئلاّ يعاديه بنو عمّه و يقولوا:كره أن نقوم مقامه بعده فسأل ربه الولد لذلك.
[644] (1) فإن قيل:كيف قال: يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:6]و النّبيّ لا يورّث،لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«نحن معاشر الأنبياء لا نورّث،ما تركناه صدقة»؟ قلنا:المراد بقوله يرثني:أي يرثني العلم و النّبوّة،و يرث من آل يعقوب الملك.و قيل الأخلاق،فأجابه اللّه تعالى إلى وراثته العلم و النّبوّة و الأخلاق دون الملك،و المراد بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا نورث»المال و يؤيده قوله:«ما تركناه صدقة» و يعقوب هنا أبو يوسف عليهما السلام.و قيل لا؛بل هو أخو زكريا.و قيل لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم.
[645] فإن قيل:كيف قال: يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:6]فعدّى الفعل في الأوّل بنفسه و الثّاني بحرف الجر و هو واحد؟ قلنا:يقال ورثه و ورث منه،فجمع بين اللغتين.و قيل:«من»هنا للتبعيض لا للتعدية،لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء و لا علماء.
[646] فإن قيل:كيف طلب الولد بقوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5] أي ولدا صالحا،فلما بشره اللّه تعالى بقوله: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ [مريم:7]الآية
ص: 192
استبعد ذلك و تعجب منه و أنكره بقوله: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران:40]؟ قلنا:لم يقل ذلك على طريق الإنكار و الاستبعاد،بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الوالد و هو قوله تعالى: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم:7]فيزداد الموقنون إيقانا و يرتدع المبطلون،و إلا فمعتقد زكريا أولا و آخرا كان على منهاج واحد في أن اللّه تعالى غني عن الأسباب.
و الثاني:أنه قال ذلك تعجب فرح و سرور،لا تعجب إنكار و استبعاد.
الثالث:قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه اللّه تعالى فيها الولد، هل يهبه في حال الشيخوخة أم يرده إلى حالة الشباب ثم يهبه و لكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا عليه السلام بعد استفهامه.
[647] فإن قيل:كيف قال: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [مريم:10]و الآية العلامة،فطلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشره اللّه تعالى به،أ كان عنده شك بعد بشارة اللّه تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟ قلنا:إنما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر و يتعجل السرور، فإن الحمل لا يظهر في أول العلوق بل بعد مدة،فأراد معرفته أول ما يوجد،فجعل اللّه آية وجود الحمل عجزه عن الكلام و هو سوي الجوارح ما به خرس و لا بكم.
[648] (1) فإن قيل:كيف قالت مريم: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مريم:18]؛و إنّما يتعوذ من الفاسق لا من التقي.
قلنا:معناه إن كنت ممن يتّقي اللّه و يخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك.فمعنى أعوذ أحصل على ثمرة التعوّذ.
و عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي،و لم يكن تقيّا بل كان فاجرا،فظنته إياه فتعوذت منه.و القول الأول هو الذي عليه المحققون.
و قيل:هو على المبالغة معناه:إني أعوذ منك إن كنت تقيّا فكيف يكون حالي في القرب منك إلى اللّه تعالى إذا لم تكن تقيّا؟قالوا:و نظير هذا ما جاء في الخبر:
«نعم العبد صهيب،لو لم يخف اللّه لم يعصه».معناه:أنه إذا كان بحال لو لم يخف اللّه تعالى لا يوجد منه عصيان،فكيف يكون حاله إذا خاف اللّه تعالى.و في قراءة أبي رجاء و ابن مسعود إلا أن تكون تقيا .
[649] فإن قيل:اتفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة و لم يرسل جبريله.
ص: 193
عليه السلام برسالة إلى امرأة قط،و لهذا قالوا في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]أنه كان وحي إلهام،و قيل:وحي منام؛فكيف قال تعالى هنا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مريم:17]و قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم:19]؟ قلنا:لا نسلم أن الوحي لم ينزل على امرأة قط،فإن مقاتلا قال في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]أنه كان وحيا بواسطة جبريل عليه السلام،و إنما المتفق عليه بين العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بوحي الرّسالة على امرأة لا بمطلق الوحي،و هنا لم ينزل على مريم بوحي الرسالة؛بل بالبشارة بالولد،و لهذا جاء على صورة البشر فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم:17].
[650] فإن قيل:ما وجه قراءة الجمهور لِأَهَبَ لَكِ [مريم:19]و الواهب للولد هو اللّه تعالى لا جبريل عليه السلام؟ قلنا:قال ابن الأنباري:معناه إنّما أنا رسول ربك بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك،فيكون حكاية عن اللّه تعالى لا عن قول جبريل عليه السلام،فيكون فعل الهبة مسندا إلى اللّه تعالى لا إليه.
الثاني:أن معناه لأكون سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع،فالإضافة إليه بواسطة السببية.
[651] (1) فإن قيل:كيف قالت: وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]و لم تقل بغية؛مع أنه وصف مؤنث؟ قلنا:قال ابن الأنباري:لما كان هذا الوصف غالبا على النساء،و قلما تقول العرب رجل بغي،لم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض و عاقر.و قال الأزهري:لا يقال رجل بغيّ،بل هو مختص بالمؤنث،و لام الكلمة ياء يقال بغت تبغي.و هي فعول عند المبرد أصلها بغويّ قلبت الواو ياء و أدغمت و كسرت الغين اتباعا،فهو كصبور و شكور في عدم دخول التاء.و قال ابن جني في كتابه التمام:هي فعيل،و لو كان فعولا لقيل بغو،كما قيل هو نهو عن المنكر.ثم قيل:هي فعيل بمعنى فاعل،فهي كقوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:
56].و قال الأخفش:هي مثل ملحفة جديد فجعلها بمعنى مفعول.و قيل:إنما لم يقل بغية مراعاة لبقية رءوس الآيات.خ.
ص: 194
[652] فإن قيل:ما كان حزن مريم و قولها: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا [مريم:23]أ لفقد الطعام و الشراب حتى تسلي بالسري و الرّطب،أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟.
قلنا:كان حزنها لمجموع الأمرين،و هو ما ذكرتم،و جدب مكانها الذي ولدت فيه،فإنه لم يكن فيه طعام و لا شراب و لا ماء تتطهر به،و كان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء،و إخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن،أما دفع الجدب فظاهر،و أما دفع حزن التهمة فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها و براءتها من السوء و أن اللّه تعالى قد خصها بأمور إلهية خارجة عن العادة خارقة لها،فتبين لهم أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها و لا بعيد في قدرة اللّه تعالى،المخرج في لحظة واحدة الرطب الجنيّ من النخلة اليابسة،و المجري للماء بغتة في مكان لم يعهد فيه.
[653] فإن قيل:كيف أمرها جبريل عليه السلام إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت بقوله: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم:26]الآية،و ذلك خلف في النذر؟ قلنا:إنما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها،فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يندرج فيه الكف عن الذكر و التسبيح و الدعاء و نحوها،بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس،و إذا كان تمام نذرها بقولها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26]لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.
[654] فإن قيل:كيف قال تعالى: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]و كل أحد كان،في المهد صبيا؟ قلنا:كان هنا زائدة،و صبيا منصوب على الحال لا على أنه خبر كان تقديره:
كيف نكلم من في المهد في حال صباه.و قيل:كان بمعنى وقع و وجد،و صبيا منصوب على الوجه الذي مرّ.
[655] فإن قيل:خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز و القدرة على فعل المأمور به،و عيسى عليه السلام كان رضيعا في المهد فكيف خوطب بالصلاة و الزكاة حتى قال: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]؟ قلنا:تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ و غيرها إنما كان ليحصل العقل و التمييز، و عيسى عليه السلام كان واجد العقل و التمييز التام في تلك الحالة فتوجّه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك،و لهذا قيل:إنه أعطي النّبوّة في صباه أيضا.
ص: 195
[656] فإن قيل:الزكاة إنما تجب على الأغنياء،و عيسى عليه السلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض،و علم اللّه تعالى ذلك من حاله،فكيف أوصاه بالزكاة؟ قلنا:المراد بالزكاة هنا تزكية النفس و تطهيرها من المعاصي لا زكاة المال!! [657] فإن قيل:كيف جاء السلام في قصة يحيى عليه السلام منكرا،و في قصة عيسى عليه السلام معرفا؟ قلنا:قد قيل إن النكرة و المعرفة في مثل هذا سواء لا فرق بينهما في المعنى.
الثاني:أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه السلام مرة فلما أعيد ذكره أعيد معرفا كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15،16]كأنه قال ذلك السلام الموجه إلى يحيى عليه السلام في المواطن الثلاثة موجه إليّ.
[658] فإن قيل:كيف تكون الألف و اللام في السلام للعهد،و الأول سلام من اللّه تعالى على يحيى عليه السلام،و الثاني سلام من عيسى على نفسه؟ قلنا:التعريف راجع إلى ماهية السلام و مواطنه لا إلى كونه واردا من عند اللّه تعالى.
[659] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ [مريم:41] و ما أشبهه،و مثل هذا إنما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر و عدمه،كما تقول لصاحبك و هو يكتب كتابا اذكرني في الكتاب،أو اذكر فلانا في الكتاب؛ و النبي عليه السلام ما كان على سبيل من الزيادة و النقصان في الكتابة ليوصى بمثل ذلك؟ قلنا:هذا على طريق التأكيد في الأمر بالإبلاغ،كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة و تخصيصها بالأمر بالإبلاغ.
[660] فإن قيل:الاستغفار للكافر لا يجوز،فكيف وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]مع أنّه كافر؟ قلنا:معناه:سأسأل اللّه تعالى لك توبة تنال بها مغفرته،يعني الإسلام.
و الاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز،و هو أن يقال:اللهم وفقه للإسلام أو اللهم تب عليه و اهده و أرشده و ما أشبه ذلك.
الثاني:أنه وعده ذلك بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام.
الثالث:أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر،فإن تحريم ذلك قضية شرعية إنما تعرف بالسمع لا عقلية،فإن العقل لا يمنع ذلك.
ص: 196
[661] فإن قيل:الطور و هو الجبل ليس له يمين،و لا شمال،فكيف قال تعالى: مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم:52]؟ قلنا:خاطب اللّه تعالى العرب بما هو معروف في استعمالهم،فإنهم يقولون عن يمين القبلة و شمالها،يعنون ما يلي يمين المستقبل لها و شماله؛لأن القبلة لا بدّ لها لتكون لها يمين و شمال.و هذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللبس.فالمراد بالأيمن هنا ما عن يمين موسى عليه السلام من الطور؛لأن النداء جاءه من قبل يمينه،هذا إن كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين،و إن كان من اليمن و هو البركة من قولهم:يمن فلان قومه فهو يامن،أي كان مباركا عليهم.فلا إشكال؛لأنّه يصير معناه:من جانب الطور المبارك.
[662] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] و هارون كان أكبر من موسى عليهما السلام فما معنى هبته له؟ قلنا:معناه أن اللّه تعالى أنعم على موسى عليه الصلاة و السلام بإجابة دعوته فيه حيث قال: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي [طه:29 و 30]الآية فقال: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص:35]فالمراد بالهبة أنه جعله عضدا له و ناصرا و معينا كذا فسره ابن عباس رضي اللّه عنهما.
[663] فإن قيل:كيف وصف اللّه تعالى النبيين المذكورين في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم:58]الآية بقوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا [مريم:58]و المراد بآيات الرحمن القرآن،و القرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟ قلنا:آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن؛بل كل كتاب أنزله اللّه تعالى ففيه آياته،و لو سلمنا أن المراد بها القرآن فنقول:إن المراد بقوله: وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا [مريم:58]محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و أمته.
[664] فإن قيل:قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ [مريم:59،60]يدل على أن ترك الصلاة و إضاعتها كفر؛لأنه شرط في توبة مضيعها الإيمان؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة و شربوا الخمر و استحلوا نكاح الأخت من الأب.
[665] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:61]و لم يقل آتيا،كما قال تعالى: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134]؟
ص: 197
قلنا:المراد بوعده هنا موعده و هو الجنة،و هي مأتية يأتيها أولياؤه.
الثاني:أن مفعولا هنا بمعنى فاعل،كما في قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء:45].أيا ساترا.
[666] فإن قيل:قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم:
63]و قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] يدل من حيث المفهوم أن غير المتقين لا يدخلون الجنة؟ قلنا:المراد بالتقوى هنا التقوى من الشرك،و كل المؤمنين سواء في ذلك.
[667] فإن قيل:ما معنى انفطار السموات و انشقاق الأرض و خرور الجبال من دعوتهم الولد للّه تعالى،و من أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلنا:معناه أن اللّه تعالى يقول:كدت أفعل هذا بالسماوات و الأرض و الجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا على قائلها لو لا حلمي و إمهالي و أن لا أعجّل العقوبة، كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41]يعني أن تخر على المشركين و تنشق الأرض بهم،و يدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر:41].
الثاني:أن يكون استعظاما لقبح هذه الكلمة و تصويرا لأثرها في الدين و هدما لأركانه و قواعده و أن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه و تنشق و تخر.
[668] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا،في صفة الشرك: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم:90]و هذا يدل على قوة كلمة الشرك و شدّتها،و قال تعالى في سورة إبراهيم،صلوات اللّه عليه،في صفة كلمة الشرك:
وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم:26] و المراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما،أو بالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل،كذا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و هذا يدل على ضعف كلمة الشرك و تلاشيها و اضمحلالها،فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا:وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم عليه السلام بالضعف و هنا بالقبح، فهي في غاية الضعف و في غاية القبح و الفظاعة فلا تنافي بينهما.
[669] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:94] و الإحصاء العد على ما نقله الجوهري،أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير،ل.
ص: 198
كما سبق ذكره في سورة إبراهيم صلوات اللّه عليه في قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم:34]فإن كان الإحصاء العد فهو تكرار،و إن كان الحصر فذكره مغن عن ذكر العد؛لأن الحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد؟ قلنا:الإحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا،و منه قوله تعالى: وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن:28]أي علم عدد كل شيء،قال الشاعر:
و كن للذي لم تحصه متعلّما و أما الّذي أحصيت منه فعلّم
و هو المراد هنا،فيصير المعنى لقد علمهم،أي علم أفعالهم و أقوالهم و كل ما يتعلق بذواتهم و صفاتهم و عددهم،فلا تكرار و لا استغناء عن ذكر العد.
ص: 199
[670] فإن قيل:قوله تعالى: وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً [طه:9،10] الآية؛كيف حكى اللّه تعالى قول موسى عليه السلام لأهله عند رؤية النار في هذه السورة و في سورة النمل و في سورة القصص بعبارات مختلفة،و هذه القضية لم تقع إلا مرة واحدة،فكيف اختلفت عبارة موسى عليه السلام فيها؟ قلنا:قد سبق في سورة الأعراف في قصة موسى عليه السلام مثل هذا السؤال و الجواب المذكور،ثم هو الجواب هنا.
[671] فإن قيل:قوله تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها [طه:16]ظاهر اللفظ نهي من لا يؤمن بالساعة عن صد موسى عن الإيمان بها،و المقصود هو نهي موسى عن التكذيب بها،فكيف تنزيله.
قلنا:معناه كن شديد الشكيمة في الدين،صليب المعجم لئلا يطمع في صدك عن الإيمان بها من لا يؤمن بها،و هذا كقولهم:لا أرينك هاهنا؛معناه:لا تدن مني و لا تقرب من حضرتي لئلا أراك؛ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبب،و المراد به النهي عن السبب،و هو القرب منه و الجلوس بحضرته فإنه سبب رؤيته،و كذلك لين موسى عليه السلام في الدين و سلاسة قياده سبب لصدهم إياه.
[672] فإن قيل:ما فائدة السؤال في قوله تعالى: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه:17]و هو أعلم بما في يده جملة و تفصيلا؟ قلنا:فائدته تأنيسه و تخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب و هيبة الإجلال وقت التكلم معه،كما يرى أحدنا طفلا قد داخلته هيبة و إجلال و خوف و في يده فاكهة أو غيرها فيلاطفه و يؤانسه بقوله ما هذا الذي في يدك؟مع أنه عالم به.
الثاني:أنه أراد بذلك أن يقر موسى عليه السلام و يعترف بكونها عصا و يزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه فلا يحوم حوله شك إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا ثم انقلبت ثعبانا بقدرة اللّه تعالى،و أن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه و المقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة،و نظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد و يقول لك ما هذه؟فتقول زبرة من حديد،ثم يريك بعد أيام درعا سابغة مسرودة و يقول:
هذه تلك الزبرة صيرتها إلى ما تراه من عجيب الصنعة و أنيق السرد.
ص: 200
[673] فإن قيل:كيف زاد موسى على حرف الجواب و ليس ذلك من شيمة البلغاء خصوصا في مخاطبة الملك الأعلى؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما إنه لما قال عصاي سئل سؤالا ثانيا،فقيل ما تصنع بها؟فأجاب بباقي الآية.
الثاني:أنه إنما عدد فوائدها و بين حاجته إليها خوفا من أن يؤمر بإلقائها كما أمر بإلقاء النعلين!! الثالث:أنه ذكر ذلك لئلا ينسب إلى العبث في حملها.
[674] فإن قيل:قد نقل أنها كانت تضيء له بالليل و تدفع عنه الهوام،و تثمر له إذا اشتهى الثمار فيغرسها في الأرض فتثمر من ساعتها،و يركزها فينبع الماء من مركزها،فإذا رفعها نضب،و كان يستقي بها فتطول بطول البئر و تقصر بقصرها،فهلا عدد هذه المنافع.
قلنا:كره أن يشتغل عن سماع كلام اللّه تعالى بتفصيل منافعها،ففصل البعض و أجمل الباقي بقوله: وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه:18]و اللّه أعلم بما أجمله.
الثاني:أنه ذكر المنافع التي هي ألزم له و حاجته إليها أمس،و إن كانت المنافع التي أجملها أعجب و أغرب.
[675] (1) فإن قيل:قد ذكر اللّه تعالى عصا موسى عليه السلام بلفظ الحية و الثعبان و الجان،و بين الثعبان و الجان تناف؛لأن الجان الحية الصغيرة كذا قاله ابن عرفة، و الثعبان الحية العظيمة،كذا نقله الأزهري عن الزجاج و قطرب.
قلنا:أراد أنها في صورة الثعبان العظيم و خفة الحية الصغيرة و حركتها و يؤيد قوله: فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل:10].
الثاني:أنها كانت في أوّل انقلابها تنقلب حية صغيرة صفراء دقيقة ثم تتورم و يتزايد جرمها حتى تصير ثعبانا،فأريد بالجان أول حالها،و بالثعبان مآلها.خ.
ص: 201
[676] فإن قيل:ما فائدة قول تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى [طه:38] و هذا لا بيان فيه،لأنه مجمل،فما فائدته؟ قلنا:فائدته الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور مما يوحى إلى النساء كالنبوة و نحوها؛بل بعضها.
الثاني:أنه للتأكيد كقوله تعالى: فَغَشّاها ما غَشّى [النجم:54]كأنه قال:إذ أوحينا إلى أمك إيحاء.
الثالث:أنه أبهمه أولا للتفخيم و التعظيم،ثم بينه و أوضحه بقوله تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ [طه:39]الآية.
[677] فإن قيل:كيف قدم هارون على موسى عليهما السلام في قوله تعالى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى [طه:70]و هارون كان وزيرا لموسى عليهما السلام و تبعا له،قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً [الفرقان:35].
قلنا:إنما قدمه ليقع موسى مؤخرا في اللفظ فيناسب الفواصل أعني رءوس الآيات.
[678] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى [طه:74] و الموت و الحياة صفتان من صفات الإنسان و هما نقيضان،فكيف يرتفعان؟ قلنا:المراد لا يموت فيها موتا يستريح به،و لا يحيا حياة تنفعه و يستلذ بها.
الثاني:أن المراد لا يموت فيها موتا متصلا و لا يحيا حياة متصلة؛بل كلما مات من شدة العذاب أعيد حيّا؛ليذوق العذاب هكذا سبعين مرة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا.
[679] فإن قيل:الخوف و الخشية واحد في اللغة،فكيف قال تعالى: لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى [طه:77]؟ قلنا:معناه لا تخاف دركا:أي لحاقا من فرعون،و لا تخشى غرقا في البحر، كما تقول:لا تخاف زيدا و لا تخشى عمرا،و لو قلت و لا عمرا صح و كان أوجز، و لكن إذا أعدت الفعل كان آكد.و أما في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكورا ذكر الفعل ثانيا ليكون دليلا عليه،و خولف بين اللفظين رعاية للبلاغة.
و قيل معناه:لا تخاف دركا على نفسك،و لا تخشى دركا على قومك.و الأول عندي أرجح.
[680] فإن قيل:قوله تعالى: وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ [طه:79]يغني عن قوله تعالى: وَ ما هَدى [طه:79]و مفيد فوق فائدته فكيف ذكر معه؟
ص: 202
قلنا:معناه:و ما هداهم بعد ما أضلهم،فإن المضل قد يهدي بعد إضلاله.
الثاني:أن معناه:و أضل قومه و ما هدى نفسه.
الثالث:أن معناه:و أضل فرعون قومه عن الدين و ما هداهم طريقا في البحر.
الرابع:أن قوله: وَ ما هَدى [طه:79]تهكم به في قوله لقومه وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر:40].
[681] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه:80]أضاف المواعدة إليهم،و المواعدة إنما كانت لموسى عليه السلام،واعده اللّه تعالى جانب الطور الأيمن لإتيانه التوراة؟ قلنا:المواعدة و إن كانت لموسى عليه السلام و لكنها لما كانت لإنزال كتاب بسبب بني إسرائيل،و فيه بيان شريعتهم و أحكامهم و صلاح معاشهم و معادهم، أضيفت إليهم المواعدة بهذه الملابسة و الاتصال.
[682] فإن قيل:قوله تعالى: *وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه:83] سؤال عن سبب العجلة،فإن موسى عليه السلام لما واعده اللّه تعالى بإنزال التوراة عليه بجانب الطور الأيمن و أراد الخروج إلى ميعاد ربه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك المكان ثم سبقهم شوقا إلى ربه و أمرهم بلحاقه،فعوتب على ذلك و كان الجواب المطابق أن يقول:طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك و تنجيز وعدك،فكيف قدم ما لا يطابق السؤال و هو قوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه:84]؟ قلنا:ما واجهه ربه به تضمن شيئين:إنكار العجلة في نفسها و السؤال عن سببها،فبدأ موسى عليه السلام بالاعتذار عما أنكره تعالى عليه بأنه لم يوجد منه إلا تقدم يسير لا يعتد به في العادة،كما يتقدم المقدم جماعته و أتباعه،ثم عقب العذر بجواب السؤال عن السبب بقوله: وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه:84].
[683] (1) فإن قيل:أ ليس أن أئمة اللغة قالوا:العوج بالكسر في المعاني،و بالفتحخ.
ص: 203
في الأعيان،و لهذا قال ثعلب:و تقول في الأمر و الدين عوج و في العصا و نحوها عوج،كالجبال و الأرض،فكيف صح فيها المكسور في قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً [طه:107]؟ قلنا:قال ابن السكيت:كل ما كان مما ينتصب كالحائط و العود قيل فيه عوج بالفتح،و العوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش،فعلى هذا لا إشكال.
الثاني:أنه أراد به نفي الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسي و لا يدرك بحاسة البصر،و ذلك اعوجاج لاحق بالمعاني،فلذلك قال فيه عوج بالكسر،و مما يوضح هذا أنك لو سويت قطعة أرض غاية التسوية بمقتضى نظر العين بموافقة جماعة من البصراء،و اتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط،ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس الهندسية وجد فيها عوجا في غير موضع؛و لكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر.فنفى اللّه تعالى ذلك العوج لما لطف و دق عن الإدراك،فكان لدقته و خفائه ملحقا بالمعاني.
[684] (1) فإن قيل:إن اللّه تعالى أخبر أن آدم عليه السلام نسي عهد اللّه و وصيته، و أكل من الشجرة بقوله تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه:115]و إذا كان فعل ذلك ناسيا فكيف وصفه بالعصيان و الغواية بقوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه:121]فعاقبه عليه بأعظم أنواع العقوبة،و هو الإخراج من الجنة؟ قلنا:النسيان هنا بمعنى الترك كما في قوله تعالى: إِنّا نَسِيناكُمْ [السجدة:
14]أي تركناكم في العذاب،و قوله تعالى: نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]فمعناه أنه ترك عهد اللّه و وصيته،فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر،و قد جرى بينه و بين إبليس من المجادلة و المناظرة في أكل الشجرة فصول كثيرة منها قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ [الأعراف:20]الآية فكيف يبقى مع هذا نسيان؟ [685] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه:
117]و لم يقل فتشقيا،و الخطاب لآدم و حواء عليهما السلام؟ قلنا:لوجوه:
أحدها:أن الرجل قيم أهله و أميرهم،فشقاؤه يتضمن شقاءهم كما أن معاداته تتضمن معاداتهم،فاختصر الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها لما كان متضمنا له.
الثاني:أنه إنما أسنده إليه دونها للمحافظة على الفاصلة.ه.
ص: 204
الثالث:أنه أراد بالشقاء:الشقاء في طلب القوت و إصلاح المعاش،و ذلك وظيفة الرجل دون المرأة،قال سعيد بن جبير أهبط إلى آدم عليه السلام ثور أحمر فكان يحرث عليه و يمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه.
[686] فإن قيل:هل يجوز أن يقال:كان آدم عاصيا غاويا أخذا من قوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه:121]؟ قلنا:يجوز أن يقال عصى آدم كما قال اللّه تعالى،و لا يجوز أن يقال كان آدم عاصيا،لأنه لا يلزم من جواز إطلاق الفعل جواز إطلاق اسم الفاعل؛أ لا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك اللّه،و لا يجوز أن يقال اللّه تبارك و يجوز أن يقال تاب اللّه على آدم،و لا يجوز أن يقال اللّه تائب،و نظائره كثيرة.
[687] فإن قيل:أسماء اللّه تعالى و صفاته توقيفية لا مدخل للقياس فيها؛و لهذا يقال اللّه عالم،و لا يقال علامة؛و إن كان هذا اللفظ أبلغ في الدلالة على معنى العلم، فأما أسماء البشر و صفاتهم فقياسية؛فلم لا يجرى فيها على القياس المطرد؟ قلنا:هذا القياس ليس بمطرد في صفات البشر أيضا أ لا ترى أنّهم قالوا ذره و دعه بمعنى اتركه،و فلان يذر و يدع،و لم يقولوا منهما وذر و لا واذر،و لا ودع و لا وادع،فاستعملوا منها الأمر و المضارع فقط.
و لقائل أن يقول:هذا شاذ في كلام العرب و نادر،فلا يترك لأجله القياس المطرد،بل يجري على مقتضى القياس.
[688] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه:124]أي عن موعظتي أو عن القرآن فلم يؤمن به و لم يتبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124]أي حياة في ضيق و شدة،و نحن نرى المعرضين عن الإيمان و القرآن في أخصب معيشة و أرغدها؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:المراد بالمعيشة الضنك الحياة في المعصية و إن كان في رخاء و نعمة.و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنها عذاب القبر.
الثاني:أن المراد بها عيشته في جهنم في الآخرة.
الثالث:أن المراد بها عيشة مع الحرص الشديد على الدنيا و أسبابها،و هذه الآية في مقابلة قوله في سورة النحل: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل:97]فكل ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيبة فضده وارد في المعيشة الضنك.
[689] (1) فإن قيل:أي الكلمات التي سبقت من اللّه فكانت مانعة من تعذيب هذه2.
ص: 205
الأمة في الدنيا عذاب الاستئصال،حتّى قال تعالى: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [طه:129].
قلنا:قيل هي قوله تعالى:«سبقت رحمتي غضبي»و يرد عليه أنه لا اختصاص لهذه الأمة بهذه الكلمة،و قيل هي قوله تعالى للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]و قيل في قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107]يعني لعالمي أمته بتأخير العذاب عنهم،و قيل في الآية تقديم و تأخير تقديره:و لو لا كلمة سبقت من ربك و أجل مسمّى،و هو الأجل الذي قدر اللّه تعالى بقاء العالم و أهله إلى انقضائه لكان العذاب لزاما،أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم.
[690] فإن قيل:أصحاب الصراط السوي و المهتدون واحد،فما فائدة التكرار في قوله تعالى: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى [طه:135].
قلنا:المراد بأصحاب الصراط السوي السالكون الصراط المستقيم السائرون عليه،و المراد بالمهتدين الواصلون إلى المنزل.و قيل:أصحاب الصراط السوي هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم،و المهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم ثم صاروا عليه.و قيل:المراد بأصحاب الصراط السوي أهل دين الحق في الدنيا،و المراد بمن اهتدى المهتدون إلى طريق الجنة في العقبى؛فكأنه قال:
فستعلمون من المحق في الدنيا و الفائز في الآخرة.
ص: 206
[691] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء:1] وصفه بالقرب و قد مضى من وقت هذا الإخبار أكثر من ستمائة عام،و لم يوجد يوم الحساب بعد؟ قلنا:معناه أنه قريب عند اللّه تعالى و إن كان بعيدا عند الناس،كما قال تعالى:
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً [المعارج:6،7]و قال تعالى: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
الثاني:أن معناه أنه قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى كمثل خيط في ثوب».
الثالث:أن المراد به قرب حساب كل واحد في قبره إذا مات،و يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«من مات فقد قامت قيامته».
الرابع:أن كل آت قريب و إن طالت أوقات استقباله و ترقبه،و إنما البعيد الذي وجد و انقرض،و لهذا يقول الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد بعد ما ولوا ظهورهم البلد الأول:البلد الثاني أقرب و إن كان أبعد مسافة.
[692] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2]و الذكر الآتي من اللّه تعالى هو القرآن و هو قديم لا محدث؟ قلنا:المراد محدث إنزاله.
الثاني:أن المراد به ذكر يكون غير القرآن من مواعظ الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و غيره؛ و نسب إلى اللّه تعالى؛لأن موعظة كل واعظ بإلهامه و هدايته.
الثالث:أن المراد بالذكر الذاكر و هو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم،و يؤيده قوله تعالى،في سياق الآية: هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]و على هذا يكون معنى قوله:
إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ [الأنبياء:2]أي إلا استمعوا ذكره و موعظته.
[693] فإن قيل:النجوى المسارّة،فما معنى قوله تعالى: وَ أَسَرُّوا النَّجْوى [طه:62]؟
ص: 207
قلنا:معناه بالغوا في إخفاء المسارة بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم و مسارتهم تفصيلا و لا إجمالا،فإن الإنسان قد يرى اثنين يتساران فيعلم من حيث الإجمال أنهما يتساران،و إن لم يعلم تفصيل ما يتساران به،و قد يتساران في مكان لا يراهما أحد.
[694] فإن قيل:كيف قال تعالى لمشركي مكة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [الأنبياء:
7]يعني فسئلوا أهل الكتاب عمن مضى من الرسل،هل كانوا بشرا أم ملائكة؟مع أن المشركين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ:31]؟ قلنا:هم و إن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب،و لكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضية العقلية يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم و لمن لا يؤمن به.
[695] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء:19]و الاستحسار مبالغة في الحسور و هو الإعياء،فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور أو مطلقه لا أقصاه؟ قلنا:إنما ذكر الاستحسار إشارة إلى أن ما هم فيه من التسبيح الدائم و العبادة المتصلة يوجب غاية الحسور و أقصاه.
[696] فإن قيل:قوله تعالى في وصف الملائكة: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]إلى قوله تعالى: مُشْفِقُونَ يدل على أنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم، فإذا كانوا لا يعصون اللّه تعالى فلم يخافون حتى قال تعالى: وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]؟ قلنا:لما رأوا ما جرى على إبليس و على هاروت و ماروت من القضاء و القدر خافوا من مثل ذلك.
الثاني:أن زيادة معرفتهم باللّه و قربهم في محل كرامته يوجب مزيد خوفهم، و لهذا قال أهل التحقيق:من كان باللّه أعرف كان من اللّه أخوف،و من كان إلى اللّه أقرب كان من اللّه أرهب.و قال بعضهم:يا عجبا من مطيع آمن و من عاص خائف.
[697] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء:30]و هم لم يروا ذلك؟ قلنا:معناه أولم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه،و نظيره قوله تعالى للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [النور:41]و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور:43]الآية، و نظائره كثيرة.
[698] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:
30]؛مع أن الملائكة أحياء و الجن أحياء،و ليسوا مخلوقين من الماء بل من النور
ص: 208
و النار كما قال تعالى: وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن:15]و كذا آدم مخلوق من التراب و ناقة صالح مخلوقة من الحجر؟ قلنا:المراد به البعض و هو الحيوان كما في قوله تعالى: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]و قوله تعالى: وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يونس:22]و نظائره كثيرة.
الثاني:أن الكل مخلوقون من الماء،و لكن البعض بواسطة و البعض بغير واسطة،و لهذا قيل إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء،و خلق الجن من نار خلقها من الماء،و خلق آدم من تراب خلقه من الماء.
[699] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]بعد قوله:
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]و كأنه تكليف بما لا يطاق؟ قلنا:هذا كما ركب فيه الشهوة و أمره أن يغلبها،لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة و ترك العجلة.
[700] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ [الأنبياء:45]؛مع أن الصمّ لا يسمعون الدّعاء إذا ما يبشرون أيضا؟ قلنا:اللام في الصم إشارة للمنذرين السابق ذكرهم بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45]فهي لام العهد لا لام الجنس.
[701] فإن قيل:كيف قال إبراهيم صلوات اللّه عليه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء:63]أحال كسر الأصنام على الصنم الكبير،و كان إبراهيم هو الكاسر لها؟ قلنا:قاله على طريق الاستهزاء و التهكم بهم،لا على طريق الجد.
الثاني:أنه لما كان الحامل له على كسرها اغتياظه من رؤيتها مصفوفة مرتبة للعبادة مبجلة معظمة،و كان اغتياظه من كبيرها أعظم لمزيد تعظيمهم له أسند الفعل إليه كما أسند إلى سببه،و إلى الحامل عليه.
الثالث:أنه أسنده إليه معلقا بشرط منتف،لا مطلقا؛تقديره:فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم.
[702] فإن قيل:كيف صح مخاطبة النار بقوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء:69]و الخطاب إنما يكون مع من يعقل؟ قلنا:خطاب التحويل و التكوين لا يختص بمن يعقل،قال اللّه تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10]و قال تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت:11] و قال تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ [هود:44].
[703] فإن قيل:كيف وصف اللّه تعالى الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بكونهم
ص: 209
من الصالحين بقوله تعالى: وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ [الأنبياء:85]الآية،مع أن أكثر المؤمنين صالحون خصوصا في الزمن الأول؟ قلنا:معناه أنهم من الصالحين للإدخال في الرحمة التي أريد بها النبوة على ما فسره مقاتل،أو الجنة على ما فسره ابن عباس،رضي اللّه عنهما؛و يؤيد ذلك قول سليمان صلوات اللّه عليه: وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ [النمل:19]أي الصالحين للعمل المرضيّ الذي سبق سؤاله.
[704] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء:91]و قال في سورة التحريم: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم:12]؟ قلنا:حيث أنّث أراد النفخ في ذاتها،و إن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد أو جيب درعها على اختلاف القولين،لأنه فرجة،و كل فرجة بين شيئين تسمى فرجا في اللغة،و هذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها مما لا يحل كانت لنفسها أمنع،و حيث ذكّر فظاهر.
[705] (1) فإن قيل:قوله تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]بدل على أنه يجب أن يرجعوا،لأن كل ما حرم أن لا يوجد وجب أن يوجد فكيف معنى الآية؟ قلنا:معناه و واجب على أهل قرية عزمنا على إهلاكهم أو قدّرنا إهلاكهم أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان،أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا،فالحرام هنا بمعنى الواجب،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما،و يؤيده قول الشاعر:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا على شجوة إلاّ بكيت على عمرو
و قيل لفظ الحرام على ظاهره،و لا زائدة،و المعنى ما سبق ذكره،و الحرمة هنا بمعنى المنع كما في قوله تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]و قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [الأعراف:50].
[706] فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]و قال في موضع آخر: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها [مريم:71] و واردها يكون قريبا منها لا بعيدا.
قلنا:معناه مبعدون عن ألمها و عذابها مع كونهم وارديها،أو معناهو.
ص: 210
مبعدون عنها بعد ورودها بالإنجاء المذكور بعد الورود،فلا تنافي بينهما.
[707] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
107]مع أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن رحمة للكافرين الذين ماتوا على كفرهم بل نقمة؛لأنه لو لا إرساله إليهم لما عذبوا بكفرهم لقوله تعالى: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
قلنا:بل كان رحمة للكافرين أيضا من حيث أن عذاب الاستئصال أخر عنهم بسببه.
الثاني:أنه كان رحمة عامة من حيث أنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه،و من لم يتبعه فهو الذي قصر في حقّ نفسه وضيع نصيبه من الرّحمة؛و مثله صلّى اللّه عليه و سلّم كمثل عين ماء عذبة فجرها اللّه تعالى،فسقى ناس زروعهم و مواشيهم منها فأفلحوا،و فرّط ناس في السقي منها فضيعوا، فالعين في نفسها نعمة من اللّه تعالى للفريقين و رحمة،و إن قصر البعض و فرطوا.
الثالث:أن المراد بالرحمة الرحيم؛و هو صلّى اللّه عليه و سلّم كان رحيما للفريقين؛أ لا ترى أنهم لما شجّوه يوم أحد و كسروا رباعيته حتى خر مغشيا عليه،فلما أفاق قال:اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون؟ [708] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ [الأنبياء:109]مع إخباره تعالى إياهم بقرب الساعة بقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللّهِ [النحل:1]و قوله تعالى: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ [القمر:1]و نحوهما؟ قلنا:معناه ما أدري أن العذاب الذي توعدونه و تهدون به ينزل بكم عاجلا أو آجلا،و ليس المراد به قيام الساعة.و يرد على هذا الجواب أنه قريب على كل تقدير؛ لأنه إن كان قبل قيام الساعة فظاهر،و إن كان بعد قيام الساعة فهو كالمتصل بها لسرعة زمن الحساب،فيكون قريبا أيضا.
[709] فإن قيل:إذا كان المؤمنون يعتقدون أن اللّه تعالى لا يحكم إلا بالحق،فما فائدة الأمر و الإخبار المتعلق بهما بقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112]؟ قلنا:ليس المراد بالحق هنا ما هو نقيض الباطل؛بل المراد به ما وعده اللّه تعالى إياه من نصر المؤمنين و خذلان الكافرين،و وعده لا يكون إلا حقا،فكأنه قال:
عجل لنا وعدك و أنجزه،و نظيره قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف:89].
الثاني:أنه تأكيد لما في التصريح بالصفة من المبالغة و إن كانت لازمة للفعل، و نظيره في عكسه من صفة الذم قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:
112].
ص: 211
[710] فإن قيل:قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]يدل على أن المعدوم شيء.
قلنا:لا نسلم،و مستنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئا لا أنها شيء الآن،و يؤيد هذا قوله تعالى: عَظِيمٌ مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم.
[711] فإن قيل:كيف قال تعالى أوّلا: يَوْمَ تَرَوْنَها [الحج:2]بلفظ الجمع،ثم أفرد فقال: وَ تَرَى النّاسَ [الحج:2]؟ قلنا:لأن الرؤية أوّلا علقت بالزلزلة،فجعل الناس كلهم رائين لها و علقت آخرا بكون الناس على هيئة السكارى،فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
[712] فإن قيل:كيف قال تعالى في حقّ النضر بن الحارث وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللّهِ [الحج:3]إلى أن قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ [الحج:9]و هو ما كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل اللّه،فكيف علل جداله به و ما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلنا:هذه لام العاقبة و الصيرورة،و قد سبق ذكرها غير مرة،و لما كان الهدى معرّضا له فتركه و أعرض عنه و أقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.
[713] فإن قيل:النفع و الضر منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين،فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا:معناه يعبد من دون اللّه ما لا يضره بنفسه إن لم يعبده،و لا ينفعه بنفسه إن عبده،ثم قال:يعبد من يضره اللّه بسبب عبادته،و إنما أضاف الضرر إليه لحصوله بسببه.
[714] فإن قيل:قوله تعالى: أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج:13]يدل على أن في عبادة الصنم نفعا و إن كان فيها ضرر؟ قلنا:معناه أقرب من النفع المنسوب إليه في زعمهم،و هو اعتقادهم أنه يشفع لهم.
ص: 212
[715] فإن قيل:كيف قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:
39]أي بسبب كونهم مظلومين،و لم يبيّن ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟ قلنا:تقديره:أذن للذين يقاتلون في القتال،و إنما حذف لدلالة يقاتلون عليه و لدلالة الحال أيضا،فإن كفار مكة كانوا يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى و هم يستأذنون النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في قتالهم،فيقول:لم يؤذن لي في ذلك،حتى هاجر إلى المدينة فنزلت هذه الآية،و هي أول آية نزلت في الإذن في القتال،فنسخت سبعين آية ناهية عن القتال،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما؛فكان المأذون فيه ظاهرا لكونه مترقبا منتظرا.
[716] فإن قيل:كيف قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الحج:39]مع أنهم ما كانوا يقاتلون قبل نزول هذه الآية؟ قلنا:معناه أذن للذين يريدون أن يقاتلوا،سماهم مقاتلين مجازا باعتبار ما يئولون إليه كما في النظائر،و قرئ: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بفتح التاء،و لا إشكال على تلك القراءة.
[717] (1) فإن قيل:كيف صح الاستثناء في قوله تعالى: اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ [الحج:40]؟ قلنا:هو استثناء منقطع تقديره:لكن أخرجوا بقولهم ربنا اللّه.
الثاني:أنه بمنزلة قول الشاعر:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
تقديره:إن كان فيهم عيب فهو هذا،و ليس بعيب فلا يكون هذا فيهم عيبا.
[718] فإن قيل:أي منّة على المؤمنين في حفظ الصوامع و البيع و الصلوات، أي الكنائس عن الهدم حتى امتن عليهم بذلك في قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الحج:40]الآية؟ قلنا:المنة في ذلك أن الصوامع و البيع و الكنائس في حرم المسلمين و حراستهم و حفظهم،لأن أهلها ذمة للمسلمين.
الثاني:أن المراد به لهدمت صوامع و بيع في زمن عيسى صلّى اللّه عليه و سلّم،و صلوات،أي كنائس في زمن موسى صلّى اللّه عليه و سلّم،و مساجد في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة لا على المؤمنين خاصة.م.
ص: 213
[719] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ كُذِّبَ مُوسى [الحج:44]و لم يقل و قوم موسى،كما قال اللّه تعالى فيما قبله؟ قلنا:لأن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنو إسرائيل،و إنما كذبه غير قومه و هم القبط.
الثاني:أن يكون التنكير و الإبهام للتفخيم و التعظيم كأنه قال تعالى بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم:و كذب موسى أيضا مع وضوح آياته و عظم معجزاته فما ظنك بغيره.
[720] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]؟ قلنا:فائدته المبالغة في التأكيد كما في قوله تعالى: وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام:38]و قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ [الفتح:11]و ما أشبه ذلك.
الثاني:أن القلب هنا يستعمل بمعنى العقل،و منه قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37]أي عقل في أحد القولين،فكان التقييد احترازا على قول من زعم أن العقل في الرأس.
[721] (1) فإن قيل:المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات لا لمن يعمل الصالحات و الحسنات،فكيف قال تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [فاطر:7]؟ قلنا:المراد بالعمل الصالح هنا الإخلاص في الإيمان.قال الكلبي:كل موضع جاء في القرآن اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ [البقرة:82]فالمراد به الإخلاص في الإيمان،فيصير المعنى:فالذين آمنوا عن إخلاص تغفر لهم سيئاتهم.
[722] (2) فإن قيل:ما الفرق بين الرّسول و النبي؛مع أن كليهما مرسل بدليل قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ [الحج:52].
قلنا:الفرق بينهما أن الرّسول من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام من جمع له بينر.
ص: 214
المعجزة و أنزل الكتاب عليه،و النبي فقط من لم ينزل عليه كتاب،و إنما أمر أن يدعو أمته إلى شريعة من قبله.و قيل:الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام،و النبي من لم تكن له منهم معجزة،و في هذا نظر.و قيل:الرسول من كان مبعوثا إلى أمة،و النبي فقط من لم يكن مبعوثا إلى أحد مع كونه نبيا.و الجواب عن الآية على هذا القول أن فيه إضمارا تقديره:و ما أرسلنا من رسول و لا نبأنا من نبي أو و لا كان من نبي،و نظيره قول الشاعر:
و رأيت زوجك في الوغى متقلّدا سيفا و رمحا
أي و متعلقا رمحا أو حاملا رمحا.
[723] فإن قيل:أين المثل المضروب في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73]و المذكور بعده و هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ [الحج:73]إلى آخره ليس بمثل،بل هو كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟ قلنا:الصفة و القصة الغريبة أو المستحسنة تسمى مثلا،و منه قوله تعالى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة:17]فالمعنى يثبت بصفة،و هي عجز الصنم عن خلق الذباب و استنقاذ ما يسلبه،و قيل:هو إشارة إلى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت:41]و إنما أبهمه هنا لأنهم كانوا لا يصغون إلى سماع القرآن،و لهذا قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ [فصلت:41]و كانوا يحبون الأمثال،فذكر لفظ المثل استدراجا لهم إلى سماع القرآن و الإصغاء إليه.
[724] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:
78]مع أن قطع اليد التي تساوي خمسة آلاف درهم بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين؛و كذا رجم المحصن بسبب الوطء مرة واحدة،و وجوب صوم شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد من رمضان بوطء،و المخاطرة بالنفس و المال في الحج و العمرة،كل ذلك حرج بيّن؟ قلنا:المراد بالدين كلمة التوحيد،فإنها تكفر شرك سبعين سنة،و لا يتوقف تأثيرها على الإيمان و الإخلاص سبعين سنة،و لا على أن يكون الإتيان بها في بيت اللّه تعالى أو في زمان أو مكان معين.و قيل:المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب و المعاصي يجد له مخرجا في الشرع بتوبة أو كفارة أو رخصة.و قيل:المراد به فتح باب التوبة للمذنبين،و فتح أبواب الرخص للمعذورين،و شروع الكفارات و الأروش و الديات.و قيل:المراد به نفي الحرج الذي كان على بني إسرائيل من الإصر و التشديد.
ص: 215
[725] فإن قيل:كيف قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج:78]و إبراهيم صلوات اللّه عليه لم يكن أبا للأمة كلها؟ قلنا:هو أبو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان أبا لأمته!لأن أمة الرسول بمنزلة أولاده من جهة العطف و الشفقة،هذا إن كان الخطاب لعامة المسلمين،و إن كان للعرب خاصة فإبراهيم أبو العرب قاطبة.
[726] فإن قيل:متى سمانا إبراهيم صلوات اللّه عليه المسلمين من قبل حتى قال اللّه تعالى: هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]؟ قلنا:وقت دعائه عند بناء الكعبة حيث قال: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]فكل من أسلم من هذه الأمة فهو ببركة دعوة إبراهيم عليه السلام،و هذا السؤال سئلت عنه في المنام و أجبت بهذا الجواب في المنام إلهاما من اللّه سبحانه و تعالى.
ص: 216
[727] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون:5،6]و حفظ الفرج إنما يعدى بعن لا بعلى،يقال فلان يحفظ فرجه عن الحرام،و لا يقال على الحرام؟ قلنا:«على»هنا بمعنى عن،كما في قول الشاعر:
إذا رضيت عليّ بنو قشير لعمر اللّه أعجبني رضاها
الثاني:أنه متعلق بمحذوف تقديره:فلا يرسلونها إلا على أزواجهم.
[728] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون:6]و لم يقل أو من ملكت أيمانهم،مع أن المراد من يعقل؟ قلنا:لأنه أراد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء و هم الإناث.
[729] فإن قيل:قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15،16]كيف خص الإخبار عن الموت الذي لم ينكره الكفار بلام التأكيد دون الإخبار عن البعث الذي أنكروه،و الظاهر يقتضي عكس ذلك؟ قلنا:لما كان العطف يقتضي الاشتراك في الحكم استغنى به عن إعادة لفظ اللام الموجبة لزيادة التأكيد،فإنها ثابتة معنى بقضية العطف،و لا يلزم على هذا عدم إعادة أن لأنها الأصل في التأكيد،و لأنها أقوى و الحاجة إليها أمس.
[730] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [المؤمنون:
20]و المراد بها شجرة الزيتون.و هي تخرج من الجبل الذي يسمى طور سيناء و من غيره؟ قلنا:قيل إن أصل شجرة الزيتون من طور سيناء:ثم نقلت إلى سائر المواضع.
و قيل:إنما أضيفت إلى ذلك الجبل لأن خروجها فيه أكثر من خروجها في غيره من المواضع.
ص: 217
[731] فإن قيل:قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ خبر عن كفار مكة،فكيف قال تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي بالتوحيد أو بالقرآن وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [المؤمنون:70]و لم يقل و كلهم،مع أن كلهم كانوا للتوحيد كارهين بدليل قولهم بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون:70] قلنا:كان فيهم من ترك الإيمان به أنفة و استنكافا من توبيخ قومه؛لئلا يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق،كما يحكى عن أبي طالب و غيره.
[732] فإن قيل:كيف جمع فقال: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]و لم يقل ارجعني،و المخاطب واحد و هو اللّه تعالى؟ قلنا:هو جمع للتفخيم و التعظيم كقوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [يس:
12]و أشباهه.
[733] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون:101]و قال،في موضع آخر: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ؟[الصافات:27].
قلنا:يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة،ففيه أحوال مختلفة،ففي بعضها يتساءلون،و في بعضها لا ينطقون لشدة الهول و الفزع.
ص: 218
[734] فإن قيل:كيف قدّمت المرأة في آية حدّ الزنا،و قدّم الرجل في حد السرقة؟ قلنا:لأن الزنا إنما يتولد من شهوة الوقاع،و شهوة المرأة أقوى و أكثر،و السرقة إنما تتولد من الجسارة و الجراءة و القوة،و ذلك في الرجل أكثر و أقوى.
[735] فإن قيل:كيف قدم الرجل في قوله تعالى: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3].
قلنا:لأن الآية الأولى سبقت لعقوبتهما على ما جنيا،و المرأة هي الأصل في تلك الجناية لما ذكرنا.و الآية الثانية سبقت لذكر النكاح،و الرجل هو الأصل فيه عرفا؛لأنه هو الراغب و الخاطب و البادئ بالطلب،بخلاف الزنا فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.
[736] فإن قيل:كيف قال تعالى: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ،أي لا يتزوج وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3]و نحن نرى الزاني ينكح العفيفة و المسلمة،و الزانية ينكحها العفيف و المسلم؟ قلنا:قال عكرمة نزلت هذه الآية في بغايا موسرات كنّ بمكة،و كانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المرضية،و كان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة،أو مشرك من أهل الأوثان،فأراد جماعة من فقراء المهاجرين أن ينكحوهن فنزلت هذه الآية زجرا لهم عن ذلك.
[737] (1) فإن قيل:ما فائدة دخول«من»في غض البصر دون حفظ الفرج في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30].
ص: 219
قلنا:فائدته الدلالة على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج،و لهذا يحل النظر في ذوات المحارم و الإماء المستعرضات إلى عدة من أعضائهن،و لا يحل شيء من فروجهن.
[738] فإن قيل:ما حكمة ترك اللّه ذكر الأعمام و الأخوال في قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني الزينة الخفية إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]الآية،و هم من المحارم و حكمهم حكم من استثنى في الآية؟ قلنا:سئل الشعبي عن ذلك فقال:لئلا يصفها العم عند ابنه و هو ليس بمحرم لها،و كذا الحال فيفضي إلى الفتنة،و المعنى فيه أن كل من استثنى يشترك هو و ابنه في المحرمية،إلا العم و الخال،و هذا من الدلالة البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن.و لقائل أن يقول:هذه المفسدة محتملة في آباء بعولتهن،لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الآخر،و هو ليس بمحرم لها،و أبو البعل أيضا نقض على قولهم إن كل من استثني يشترك هو و ابنه في المحرمية.
[739] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور:33]مع أن إكراههن على الزنا حرام في كل حال؟ قلنا:لأن سبب نزول الآية أن الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا مع إرادتهن التحصن،فورد النهي على السبب و إن لم يكن شرطا فيه.
الثاني:أنه تعالى إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن،لأن الأمة إذا لم ترد التحصن فإنها تزني بالطبع؛لأن إرادتها الجماع مستمرة في جميع الأحوال طبعا،و لا بد له من أحد الطريقين.
الثالث:أن«إن»بمعنى إذ كما في قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278]و قوله تعالى: وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:
139].
الرابع:أنّ في الكلام تقديما و تأخيرا تقديره:و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم إن أردن تحصنا و يبقى قوله: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النور:
33]مطلقا غير معلق.
[740] فإن قيل:كيف مثل اللّه تعالى نوره،أي معرفته و هداه في قلب المؤمن بنور المصباح في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور:35]و لم يمثله بنور الشمس،مع أن نورها أتم و أكمل؟ قلنا:المراد تمثيل النور في القلب،و القلب في الصدر،و الصدر في البدن
ص: 220
بالمصباح:و هو الضوء أو الفتيلة في الزجاجة،و الزجاجة في الكوة التي لا منفذ لها، و هذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر.
الثاني:أن نور المعرفة له آلات يتوقف على اجتماعها كالذهن و الفهم و العقل و اليقظة و انشراح القلب و غير ذلك من الخصال الحميدة،كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل و الزيت و الفتيلة،و غير ذلك.
الثالث:أن نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي لا إلى العالم العلوي، و نور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي كنور المصباح.
الرابع:أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار و نور المعرفة يشرق بالليل و النهار كنور المصباح.
الخامس:أن نور الشمس يعم جميع الخلائق،و نور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم كنور المصباح الموصوف.
[741] فإن قيل:إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم فكيف لم يمثله بنور الشمع مع أنه أتم و أكمل و أشرق من نور المصباح؟ قلنا:إنما لم يمثله بنور الشمع لأن في الشمع غشا لا محالة بخلاف الزيت الموصوف،و لو مثله تعالى بنور الشمع لتطاول المنافق المغشوش إلى استحقاق نصيب في المعرفة.
الثاني:أنه تعالى إنما لم يمثله بنور الشمع لأنه مخصوص بالأغنياء،بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء أغلب.
[742] فإن قيل:التجارة تشمل الشراء و البيع،فما فائدة عطف البيع عليها في قوله تعالى: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ [النور:37].
قلنا:التجارة هي الشراء و البيع الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح، و هو حرفة الشخص الذي يسمى تاجرا،و البيع أعم من ذلك.و قيل:المراد بالتجارة هنا مبادلة الآخرة بالدنيا،كما في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة:16]و المراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا كما في قوله تعالى:
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].و قيل:إنما عطف البيع على التجارة لأنه أراد بالتجارة الشراء إطلاقا لاسم الجنس على النوع.و قيل:إنما عطف عليها للتخصيص و التمييز من حيث أنه أبلغ في الإلهاء؛لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح،بخلاف الشراء الرابح فإن الربح فيه مظنون مع كونه مترقبا منتظرا.و قيل:
التجارة مخصوصة بأهل الجلب بخلاف البيع.
ص: 221
[743] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور:45] و بعض الدواب ليس مخلوقا من الماء كآدم عليه السلام و ناقة صالح و غيرهما؟ قلنا:المراد بهذا الماء:الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات،و ذلك أن اللّه تعالى خلق قبل خلق الإنسان جوهرة و نظر إليها نظر هيبة فاستحالت ماء،فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات،و قد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى: مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا [الأنبياء:30].
[744] فإن قيل:إذا كان الجواب هذا فما فائدة تخصيص الدابة بالذكر أو تخصيص الشيء الحي؟ قلنا:إنما خص الدابة بالذكر؛لأن القدرة فيه أظهر و أعجب منها في الجماد و غيره.
[745] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ و قال تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور:45]و هي مما لا يعقل؟ قلنا:لما كان اسم الدابة يتناول المميّز و غيره غلب المميّز على غيره فأجرى عليه لفظه.
[746] فإن قيل:كيف قال تعالى: مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور:45]و ذلك إنما يسمى زحفا لا مشيا،و لا يسمى مشيا إلا ما كان بالقوائم.
قلنا:هو مجاز بطريق المشابهة،كما يقال:مشى هذا الأمر،و فلان لا يتمشى له أمر،و فلان ماشي الحال.
[747] فإن قيل:كيف أمر اللّه تعالى بالاستئذان للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58]أي من الأحرار؟ قلنا:هو في المعنى أمر للآباء و الأمهات بتأديب الأطفال و تهذيبهم لا للأطفال.
[748] فإن قيل:كيف أباح تعالى للقواعد من النساء و هن العجائز التجرد من الثياب بحضرة الرجال بقوله تعالى: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [النور:60]الآية.
قلنا:المراد بالثياب هنا الجلباب و الرداء و القناع الذي فوق الخمار لا جميع الثياب،و قوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]أي غير قاصدات بوضع الثياب الظاهرة إظهار زينتهن و محاسنهن؛بل التخفيف،ثم أعقبه بأن التعفف بترك الوضع خير لهن.
[749] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ6.
ص: 222
[النور:61]مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم لا شك فيه و لا شبهة؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]أي من بيوت أولادكم، لأن ولد الرجل بعضه و حكمه حكم نفسه،فلهذا عبر عنه به،و في الحديث:«إنّ أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه،و إنّ ولده من كسبه».و يؤيد ذلك أنه ذكر بيوت جميع الأقارب و لم يذكر بيوت الأولاد.و قيل:المراد بقوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]،أي من مال أولادكم و أزواجكم الذين هم في بيوتكم و من جملة عيالكم.و قيل:المراد بقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور:61]البيوت التي يسكنونها و هم فيها عيال لغيرهم،كبيت ولد الرجل و زوجته و خادمه و نحو ذلك.
[750] فإن قيل:معنى السلام هو السلامة و الأمن،فإذا قال الرجل لغيره السلام عليك؛كان معناه سلمت مني و أمنت،فما معنى قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ؟[النور:61].
قلنا:المراد به فإذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم و عيالكم.و قيل:معناه إذا دخلتم المساجد أو بيوتا ليس فيها أحد فقولوا السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين،يعني من ربنا.
[751] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:
63]و إنما يقال خالف أمره؟ قلنا:«عن»زائدة؛كذا قاله الأخفش.
الثاني:أن فيه إضمارا تقديره:فليحذر الذين يخالفون اللّه تعالى و يعرضون عن أمره،أو ضمّن المخالفة معنى الإعراض فعدي تعديته.
ص: 223
[752] فإن قيل:الخلق هو التقدير؛و منه قوله تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة:110]،أي تقدر؛فما معنى قوله تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]؛فكأنّه تعالى قال:و قدر كل شيء فقدره تقديرا؟ قلنا:الخلق سن اللّه تعالى بمعنى الإيجاد و الإحداث،فمعناه:و أوجد كل شيء مقدرا مسوى مهيأ لما يصلح له،لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة و المصلحة؛و لا ناقصا عن ذلك.
الثاني:أن معناه:و قدر له ما يقيمه و يصلحه؛أو قدر له رزقا و أجلا و أحوالا تجري عليه.
[753] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف الجنة: اَلْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً [الفرقان:15]و هي ما كانت بعد و إنما تكون كذلك بعد الحشر و النشر؟ قلنا:إنما قال كانت لأن ما وعده اللّه تعالى فهو في تحققه كأنه قد كان؛أو معناه كانت في علم اللّه مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم و مصيرهم.
[754] فإن قيل:ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان:43]و الأصل اتخذ الهوى إلها كما تقول:اتخذ الصنم معبودا؟ قلنا:هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به،كما تقول علمت منطلقا زيدا،لفضل عنايتك بانطلاقه.
[755] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ؟ [الفرقان:44].
قلنا:قد مر مثل هذا السؤال و جوابه في قوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [المؤمنون:70].
[756] فإن قيل:كيف شبههم سبحانه و تعالى بالأنعام في الضلال بقوله تعالى:
إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ [الفرقان:44]مع أن الأنعام تعرف اللّه سبحانه و تعالى و تسبحه بدليل قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] و قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ؟[الجمعة:1].
ص: 224
قلنا:المراد تشبيههم بالأنعام في الضلال عن فهم الحق و معرفة اللّه تعالى بواسطة دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
الثاني:أن المراد تشبيههم في الضلال و العمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها و عماها عن أمر الدين.
[757] فإن قيل:إن كانوا كالأنعام في الضلال؛فكيف قال تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]و إن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ [الفرقان:44]و إن كانوا كالأنعام في الضلال و أضل منها أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ [الفرقان:44]التشبيه في أصل الضلال لا مقداره.و الثاني:بيان لمقداره.و قيل:المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا؛و لكن المراد بالأول طائفة و بالثاني طائفة أخرى،و وجه كونهم أضل من الأنعام أن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها و تتعهدها،و تعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها،و تطلب ما ينفعها و تجتنب ما يضرها،و هؤلاء لا ينقادون لربهم و لا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم،و لا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع،و لا يتقون العذاب الذي هو أشد المضار و المهالك،و لا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني و العذب الرّوي.
[758] فإن قيل:قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان:48،49]كيف ذكر الصفة و الموصوف مؤنث و لم يؤنثها كما أنثها في قوله تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس:33].
قلنا:إنما ذكرها نظرا إلى معنى البلدة و هو البلد و المكان لا إلى لفظها.
[759] فإن قيل:قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً [الفرقان:48،49]،فإنزاله موصوفا بالطهورية، و تعليل ذلك بالإحياء و السقي يشعر بأنّ الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة، كما تقول:حملني الأمير على فرس سابق لأصيد عليه الوحش و ليس كذلك.
قلنا:وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسي الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء،و إتماما للمنة و النعمة عليهم،لا لكونه شرطا في تحقق تلك المصالح و المنافع،بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية؛لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها.
[760] فإن قيل:كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟
ص: 225
قلنا:لأن الوحش و الطير تبعد في طلب الماء و لا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام.
الثاني:أن الأنعام قنية الأناسي و عامة منافعهم متعلقة بها،فكأن الأنعام يسقي الأنعام،كالأنعام يسقي الأناسي،فلذلك خصها بالذكر.
[761] فإن قيل:كيف قدم تعالى إحياء الأرض و سقي الأنعام على سقي الأناسي؟ قلنا:لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم و أنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم و معاشهم.
الثاني:أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.
[762] فإن قيل:ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ؟[الفرقان:57].
قلنا:هو استثناء منقطع تقديره:لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك و أهديه إليه.و قيل تقديره:لكن من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك.
[763] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:
57]،أي أجرا؛لأن«من»لتأكيد النفي و عمومه.و قال في آية أخرى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الفرقان:23]فأثبت سؤال الأجر عليه؟ قلنا:هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ [سبأ:47]رواه مقاتل و الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.و الصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة؛بل هو استثناء من غير الجنس تقديره:لكن أذكركم المودة في القربى.
[764] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان:74] و لم يقل أئمة؟ قلنا:مراعاة لفواصل الآيات،و قيل تقديره:و اجعل كل واحد منا إماما.
[765] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً [الفرقان:75] و هما بمعنى واحد و يؤيده قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44] و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«تحيّة أهل الجنّة في الجنّة سلام».4.
ص: 226
قلنا:قال مقاتل:المراد بالتحيّة سلام بعضهم على بعض أو سلام الملائكة عليهم،و المراد بالسلام أن اللّه تعالى سلمهم مما يخافون و سلّم إليهم أمرهم.
و قيل:التّحية من الملائكة أو من أهل الجنة،و السلام من اللّه تعالى عليهم لقوله تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].و قيل:التحية من اللّه تعالى لهم بالهدايا و التحف و السلام بالقول.و قيل:التحية الدعاء بالتعمير،و السلام الدعاء بالسلامة فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم من بعض،أو يلقون ذلك من اللّه تعالى،فيعطون البقاء و الخلود مع السلامة من كل آفة.
ص: 227
[766] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء:4] و الأعناق لا تخضع؟ قلنا:قيل أصل الكلام:فظلوا لها خاضعين فاقتحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع و ترك الكلام على أصله،كقولهم ذهبت أهل اليمامة،كأنّ الأهل غير المذكور،و مثله قول الشاعر:
رأت مرّ السنين أخذن منّي كما أخذ السرار من الهلال
أو لما وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو من صفات العقلاء جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف:4].و قيل:الأعناق رؤساء الناس و مقدموهم شبهوا بالأعناق،كما قيل لهم الرءوس و النواصي و الوجوه.
و قيل:الأعناق الجماعات؛يقال:جاءني عنق من الناس،أي جماعة.و قيل:إن ذلك لمراعاة الفواصل.
[767] (2) فإن قيل:كيف قال تعالى: فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء:16] فأفرد،و قال تعالى في موضع آخر إِنّا رَسُولا رَبِّكَ [طه:47]فثنّى؟ قلنا:الرسول يكون بمعنى المرسل فيلزم تثنيته،و يكون بمعنى الرسالة التي هي المصدر فيوصف به الواحد و الاثنان و الجماعة كما يوصف بسائر المصادر،و الدليل على أنه يكون بمعنى الرسالة قول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ و لا أرسلتهم برسول
أي برسالة.
الثاني:أنهما لاتفاقهما في الأخوة و الشريعة و الرسالة جعلا كنفس واحدة.
الثالث:أن تقديره:إن كل واحد منا رسول رب العالمين.
الرابع:أن موسى عليه السلام كان الأصل،و هارون عليه السلام كان تبعا له، فأفرد إشارة إلى ذلك.
ص: 228
[768] فإن قيل:كيف قال موسى عليه السلام معتذرا عن قتل القبطي فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضّالِّينَ [الشعراء:20]و النبيّ لا يكون ضالا؟ قلنا:أراد به و أنا من الجاهلين،و كذا قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه و قيل:
أراد من المخطئين،لأنه ما تعمد قتله،كما يقال:ضل عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ.و قيل:من الناسين كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة:282].
[769] فإن قيل:كيف قال فرعون وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء:23]و لم يقل و من رب العالمين؟ قلنا:هو كان أعمى القلب عن معرفة اللّه سبحانه و تعالى،منكرا لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن«من»إلى«ما».
الثاني:أن«ما»لا تختص بغير المميّز؛بل تطلق عليهما،قال اللّه تعالى:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:3]و قال اللّه تعالى: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:109].
[770] فإن قيل:كيف قال موسى عليه السلام: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24]علق كونه تعالى رب السموات و الأرض و ما بينهما بشرط كون فرعون و قومه موقنين،و هذا الشرط منتف و الربوبية ثابتة فكيف صح التعليق؟ قلنا:معناه إن كنتم موقنين أن السموات و الأرض و ما بينهما موجودات و هذا الشرط موجود.
الثاني:أن«إن»نافية لا شرطية.
[771] فإن قيل:كيف ذكر السموات و الأرض و ما بينهما قد استوعب ذكر المخلوقات كلها فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:
26]و قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ [الشعراء:28].
قلنا:أعاد ذكرها تخصيصا لها و تمييزا،لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه و من ولد منه و ما شاهد و عاين من الدلائل على الصانع و النقل من هيئة إلى هيئة و حال إلى حال من وقت ولادته إلى وقت وفاته،ثم خص المشرق و المغرب؛لأن طلوع الشمس من أحدهما و غروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة و حساب مستو من أظهر ما يستدل به على وجود الصانع،و لظهوره انتقل خليل اللّه صلوات اللّه عليه و سلامه إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء و الإماتة فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258].
ص: 229
[772] فإن قيل:كيف قال أولا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24]و قال آخرا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:28].
قلنا:لاينهم و لاطفهم أوّلا،فلمّا رأى عنادهم و إصرارهم خاشنهم و عارض قوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:72]بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .
[773] فإن قيل:قوله:لأسجننك أخصر من قوله: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]فكيف عدل عنه؟ قلنا:كان مراده تعريف العهد،فكأنه قال لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني،و كان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدا مظلمة وحده لا يبصر فيها و لا يسمع،فكان ذلك أوجع من القتل و أشد نكاية.
[774] فإن قيل:قصة موسى عليه السلام مع فرعون و السحرة ذكرت في سورة الأعراف ثم في سورة طه ثم في هذه السورة،فما فائدة تكرارها و تكرار غيرها من القصص؟ قلنا:فائدته تأكيد التّحدي و إظهار الإعجاز،كما أن المبارز إذا خرج من الصف قال:«نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز»مكررا ذلك،يقال:و لهذا سمى اللّه تعالى القرآن مثاني؛لأنه ثنيت فيه الأخبار و القصص.
الثاني:أن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان بعضهم حاضرين و بعضهم غائبين في الغزوات،و كانوا يحبون حضور مهبط الوحي،و كانوا إذا رجعوا من غزوهم أكرمهم اللّه تعالى في بعض الأوقات بإعادة الوحي تشريفا لهم و تفصيلا.
[775] فإن قيل:كيف كرر اللّه تعالى ذكر قصة موسى عليه السلام أكثر من قصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام؟ قلنا:لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من أحوال غيره منهم في إقامته الحجج و إظهاره المعجزات لأهل مصر و إصرارهم على تكذيبه و الجفاء عليه كما كان حال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مع أهل مكّة.
[776] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الشعراء:61]و الترائي تفاعل من الرؤية،فيقتضي وجود رؤية كل جمع الجمع الآخر و المنقول أنهم لم ير بعضهم بعضا،فإن اللّه تعالى أرسل غيما أبيض فحال بين العسكرين حتى منع رؤية بعضهم بعضا؟ قلنا:الترائي يستعمل بمعنى التداني و التقابل أيضا،كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«المؤمن و الكافر لا يتراءيان»،أي لا يتدانيان،و يقال:دورنا تتراءى،أي تتقارب و تتقابل.
ص: 230
[777] فإن قيل:كيف قال: وَ إِذا مَرِضْتُ [الشعراء:80]و لم يقل و إذا أمرضني،كما قال،قبله:(خلقني و يهدين)؟ قلنا:لأنه كان في معرض الثناء على اللّه تعالى و تعديد نعمه،فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب،و إن كان الكل مضافا إليه،و نظيره قول الخضر عليه السلام فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف:79]و قوله: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف:82].
[778] فإن قيل:هذا الجواب يبطل بقوله: وَ الَّذِي يُمِيتُنِي [الشعراء:81] و بقول الخضر فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما [الكهف:81].
قلنا:إنما أضاف الموت إلى اللّه تعالى؛لأنه سبب لقائه إياه و انتقاله إلى دار كرامته،فكان نعمة من هذا الوجه.و قيل:إنما أضاف المرض إلى نفسه؛لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه و مشاربه.
[779] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ [الشعراء:88] و المال الذي أنفق في طاعة اللّه تعالى و سبيله ينفع،و الولد الصالح ينفع،و الولد الذي مات صغيرا يشفع،و شواهد ذلك كثيرة من الكتاب و السنة خصوصا قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلاّ من ثلاث»الحديث؟ قلنا:المراد بالآية أنهما لا ينفعان غير المؤمن،فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر،أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة اللّه تعالى و ولد بالغ غير صالح.
[780] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90]أي قربت،و الجنة لا تنقل من مكانها و لا تحول؟ قلنا:فيه قلب معناه:و أزلفت المتقون إلى الجنّة،كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا.و قيل معناه:أنها كانت محجوبة عنهم،فلما رفعت الحجب بينهم و بينها كان ذلك تقريبا لها.
[781] فإن قيل:كيف جمع الشافع و وحد الصديق في قوله: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100،101].
قلنا:لكثرة الشفعاء في العادة و قلة الصديق،و لهذا روي أن بعض الحكماء سئل عن الصديق؟فقال:هو اسم لا معنى له،أراد بذلك عزة وجوده،و يجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو.
[782] فإن قيل:كيف قرن بين الأنعام و البنين في قوله: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ [الشعراء:133]؟1.
ص: 231
قلنا:لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم،و كان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها و القيام عليها،فلهذا قرن بينهما.
[783] فإن قيل:قوله تعالى:( أَ وَعَظْتَ أو لم تعظ)أخصر من قوله: أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشعراء:136]فكيف عدل عنه؟ قلنا:مرادهم سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا،و هذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولهم أو لم تعظ.
[784] فإن قيل:قوله تعالى: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ [الشعراء:157،158]كيف أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم،و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم:«الندم توبة»؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:ندموا حين رأوا العذاب،و ذلك ليس وقت التوبة كما قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النساء:18] الآية.و قيل:كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم.
[785] فإن قيل:كيف طلب لوط عليه السلام تنجيته من اللواطة بقوله:
رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169]و اللواطة كبيرة،و الأنبياء معصومون من الكبائر؟ قلنا:مراده رب نجني و أهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه،و الدليل على ذلك ضمه أهله إليه في الدعاء،و استثناء اللّه تعالى امرأته من قبول الدعوة.
[786] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى في قصة شعيب عليه السلام إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الشعراء:177]و لم يقل أخوهم،كما قال تعالى في حقّ غيره هنا،و كما قال في حقه في موضع آخر؟ قلنا:لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة و هو لم يكن منهم،و إنما كان من نسل مدين،كذا قال مقاتل.و في الحديث أن شعيبا عليه السلام أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة.و قال ابن جرير الطبري:أهل مدين هم أصحاب الأيكة،فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا.
[787] فإن قيل:ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح عليه السلام و إثباتهاة.
ص: 232
في قصة شعيب في قولهم: ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا [الشعراء:154] وَ ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا [الشعراء:186]؟ قلنا:الفرق بينهما أنه عند إثبات الواو المقصود معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم التسخير و البشرية،و عند حذف الواو المقصود معنى واحد مناف لها و هو كونه مسخرا ثم قرروا التسخير بالبشرية،كذا أجاب الزمخشري رحمه اللّه.
[788] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف الكهنة و المتنبئة كشق و سطيح و مسيلمة وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشعراء:223]بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم،و الأفاك الكذاب،و الأثيم الفاجر،و يلزم من هذا أن يكون كلهم كذابين؟ قلنا:الضمير في قوله: وَ أَكْثَرُهُمْ عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفاك.
ص: 233
[789] فإن قيل:ما فائدة تنكير الكتاب في قوله تعالى: وَ كِتابٍ مُبِينٍ [النمل:1]؟ قلنا:فائدته التفخيم و التعظيم كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].
[790] (1) فإن قيل:العطف يقتضي المغايرة،فكيف عطف الكتاب المبين على القرآن و المراد به القرآن؟ قلنا:قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ،فعلى هذا لا إشكال؛ و على القول الآخر فنقول:العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا و إما معنى؛بدليل قول الشاعر:
فألفى قولها كذبا و مينا
و قولهم:جاءني الفقيه و الظريف،و المغايرة لفظا ثابتة.
[791] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل:4]و قال تعالى في موضع آخر وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل:24].
قلنا:تزيين اللّه تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة و الهوى و تركيبها فيهم،و تزيين الشيطان بالوسوسة و الإغواء و الغرور و التمنية،فصحت الإضافتان.
[792] فإن قيل:كيف قال هنا سَآتِيكُمْ [النمل:7]و قال في سورة طه لَعَلِّي آتِيكُمْ [طه:10]و أحدهما قطع و الآخر ترجّ و القصة واحدة؟ قلنا:قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا،و سيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
[793] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ [النمل:8]مع أنه لم
ص: 234
يكن في النار أحد،بل لم يكن المرئي نارا،و إنما كان نورا في قول الجمهور،و قيل:
كان نارا ثم انقلب نورا؟ قلنا:قال ابن عباس و الحسن رضي اللّه عنهما:معناه قدس من ناداه من النار و هو اللّه عزّ و جلّ،لا على معنى أن اللّه تعالى يحل في شيء؛بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه.
الثاني:أن من زائدة؛و التقدير بورك في النار و فيمن حولها،و هو موسى عليه السلام و الملائكة.
الثالث:أن معناه بورك من في طلب النار؛و هو موسى عليه السلام.
[794] فإن قيل:إنما يقال بارك اللّه على كذا،و لا يقال بارك اللّه كذا؟ قلنا:قال الفراء:العرب تقول باركه اللّه و بارك فيه و بارك عليه بمعنى واحد، و منه قوله تعالى: وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ [الصافات:113]و لفظ التحيات:و بارك على محمد و على آل محمد.
[795] فإن قيل:ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ [النمل:10،11]الآية؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه استثناء منقطع بمعنى لكن.
الثاني:أنه استثناء متصل،كذا قاله الحسن و قتادة و مقاتل رحمهم اللّه،و معناه:
إلا من ظلم منهم بارتكاب الصّغيرة كآدم و يونس و داود و سليمان و إخوة يوسف و موسى و غيرهم صلوات اللّه و سلامه عليهم،فإنه يخاف مما فعل مع علمه أني غفور رحيم،فيكون تقدير الكلام:إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم؛و لهذا قال بعضهم:إن هنا وقفا على قوله: إِلاّ مَنْ ظَلَمَ و ابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا.
الثالث:أن«إلا»بمعنى و لا كما في قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150]أي و لا الذين ظلموا منهم.
الرابع:أن تقديره:أني لا يخاف لديّ المرسلون و لا غير المرسلين إِلاّ مَنْ ظَلَمَ الآية.
[796] فإن قيل:كيف قال سليمان عليه السلام عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا [النمل:16]بنون العظمة و هو من كلام المتكبّرين؟ قلنا:لم يرد به نون العظمة،و إنما أراد به نون الجمع و عنى نفسه و أباه.
ص: 235
الثاني:أنه كان ملكا مع كونه نبيا فراعى سياسة الملك و تكلم بكلام الملوك.
[797] فإن قيل:كيف حل له تعذيب الهدهد حتّى قال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النمل:21]؟ قلنا:لعل ذلك أبيح له خاصة كما خص بفهم منطق الطير و تسخيره له و غير ذلك.
[798] فإن قيل:كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان عليه السلام حتى قال و لها عرش عظيم؟ قلنا:يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة إلى حال سليمان،فاستعظم لها ذلك العرش.
الثاني:أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله و إن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله.
[799] فإن قيل:كيف قال الهدهد وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]مع قول سليمان صلوات اللّه و سلامه عليه وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:16]فكأنه سوّى بينهما؟ قلنا:بينهما فرق؛و هو أن الهدهد أراد به،و أوتيت من كلّ شيء من أسباب الدنيا؛لأنه عطف على الملك،و سليمان أراد به و أوتينا من كل شيء من أسباب الدين و الدنيا و يؤيد ذلك عطفه على المعجزة و هي منطق الطير.
[800] فإن قيل:كيف سوّى الهدهد بين عرشها و عرش اللّه تعالى في الوصف بالعظم حتى قال: وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]،و قال: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26]؟ قلنا:بين الوصفين بون عظيم؛لأنّه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك،و وصف عرش اللّه تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات و الأرض و ما بينهما.
[801] فإن قيل:قوله تعالى: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ [النمل:
28]إذا تولى عنهم،فكيف يعلم جوابهم؟ قلنا:معناه ثم تول عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ما ذا يرجعون.
الثاني:أن فيه تقديما و تأخيرا تقديره:فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم.
[802] فإن قيل:كيف استجاز سليمان عليه السلام تقديم اسمه في الكتاب على اسم اللّه تعالى حتى كتب فيه إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل:30].
ص: 236
قلنا:لأنه عرف أنها لا تعرف اللّه تعالى و تعرف سليمان،فخاف أن تستخف باسم اللّه تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه،فجعل اسمه وقاية لاسم اللّه تعالى.
و قيل:إن اسم سليمان كان على عنوانه،و اسم اللّه تعالى كان في أول طيه.
[803] فإن قيل:كيف يجوز أن يكون آصف و هو كاتب سليمان عليه السلام و وزيره و ليس بنبي يقدر على ما لا يقدر عليه النبي،و هو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلنا:يجوز أن يخص غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول،كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة و زكريا لم يرزق منها،و كما أن سليمان صلوات اللّه عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي،فقال لقومه:ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم،و لم يلزم من ذلك فضلها على سليمان.و قد نقل أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين و الأنصار:ادعوا لنا بالنصرة،فإن اللّه تعالى ينصرنا بدعائكم،و لم يكونوا أفضل منه صلّى اللّه عليه و سلّم، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع.قالوا:و العلم الذي كان عنده هو اسم اللّه الأعظم،فدعا به فأجيب في الحال،و هو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي اسم اللّه.
ثم،قيل:هو يا حي يا قيوم،و قيل:يا ذا الجلال و الإكرام،و قيل:يا اللّه يا رحمن، و قيل:يا إلهنا و إله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت،فمن أخلص النية و دعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.
[804] فإن قيل:كيف قالت: وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [النمل:44] و هي إنما أسلمت بعده على يده لا معه؛لأنّه كان مسلما قبلها؟ قلنا:إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة،فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له بإسلامها على يده و إن كان الواقع كذلك.
[805] فإن قيل:كيف يكونون صادقين و قد جحدوا ما فعلوا،فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلنا:كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين ثم قالوا: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [النمل:49]يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين،لأنهم شهدوا مهلكه و مهلك أهله.
[806] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ [النمل:65]و نحن نعلم الجنة و النار و أحوال القيامة و كلها غيب؟ قلنا:معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا اللّه أو بلا معلم إلا اللّه،أو جميع الغيب إلا اللّه.و قيل معناه:لا يعلم ضمائر السموات و الأرض إلا اللّه.
ص: 237
[807] (1) فإن قيل:قوله تعالى: بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النمل:66]أو أدرك على اختلاف القراءتين،هل مرجع الضمير فيه و فيما قبله واحد أم لا؟و كيف مطابقة الإضراب لما قبله،و مطابقته لما بعده من الإضرابين؟و كيف وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى؟ قلنا:مرجع الضمير في قوله تعالى: بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ هو الكفار فقط،و فيما قبله جميع من في السموات و الأرض،و قوله تعالى: بَلِ ادّارَكَ معناه بل تتابع و تلاحق و اجتمع كقوله تعالى: حَتّى إِذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف:38]و أصله تدارك،فأدغم التاء في الدال،و قوله تعالى: (بَلِ ادّارَكَ) معناه بل كمل و انتهى.قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الآخرة.و قال السدّي:يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا و لم يختلفوا.و قال مقاتل:يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه و عموا عنه في الدنيا،و قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها [النمل:66]معناه:بل هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ [النمل:66]جمع عم و هو أعمى القلب.و مطابقة الإضراب الأول لما قبله أن الذين لا يشعرون وقت البعث لما كانوا فريقين:فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة و هم المؤمنون،و فريق منهم لا يعلمون وقته لإنكارهم أصل وجوده أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى: بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا،كأنه تعالى قال:بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا،ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم و تلاحقه بحقيقة البعث في الآخرة إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث و الساعة؛مع قيام الأدلة الشرعية على وجودها لا محالة،و أما وصفهم بنفي الشعور ثمّ بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى فلا تناقض فيه،لاختلاف الأزمنة،أو لاختلاف متعلقات تلك الأمور الأربعة،و هي الشعور و العلم و الشك و العمى.
[808] فإن قيل:قضاء اللّه تعالى و حكمه واحد فما معنى قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ [النمل:78]و هو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.
قلنا:معناه بما يحكم به و هو عدله المعروف المألوف؛لأنه لا يقضي إلا بالحق و بالعدل،فسمى المحكوم به حكما.و قيل:معناه بحكمته؛و يدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.ث.
ص: 238
[809] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً [النمل:86]و لم يراع المقابلة بقوله تعالى: وَ النَّهارَ مُبْصِراً فيه؟ قلنا:راعى المقابلة المعنوية دون اللفظية؛لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه،و قد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59].
[810] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل:
86]؛مع أن في ذلك علامات على وحدانية اللّه تعالى لجميع العقلاء؟ قلنا:إنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم.
[811] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [النمل:87]و لم يقل فيفزع و هو أظهر مناسبة؟ قلنا:أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع و ثبوته و أنه كائن لا محالة؛لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت و التحقق قطعا.
[812] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل:87]أي صاغرين أذلاء بعد البعث،مع أن النبيين و الصديقين و الشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟ قلنا:المراد به صغار العبودية و الرّق و ذلهما لا ذل الذنوب و المعاصي،و ذلك يعم الخلق كلهم،و نظيره قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم:93].
ص: 239
[813] فإن قيل:ما فائدة وحي اللّه تعالى إلى أم موسى عليه السلام بإرضاعه و هي ترضعه طبعا سواء أمرت بذلك أم لا؟ قلنا:أمرها بإرضاعه ليألف لبنها فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون، فلو لم يأمرها بإرضاعه ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت ذلك المقصود.
[814] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي [القصص:7]و الشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدق مع كل واحد منهما وحده، فيئول هذا إلى صدق قوله:فإذا خفت عليه فلا تخافي،و أنه يشبه التناقض.
قلنا:معناه فإذا خفت عليه من القتل فألقيه في اليم و لا تخافي عليه من الغرق، و لا تناقض بينهما.
[815] فإن قيل:ما الفرق بين الخوف و الحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي [القصص:7]؟ قلنا:الخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل،و الحزن غم يصيبه لأمر قد وقع و مضى.
[816] (1) فإن قيل:كيف جعل موسى عليه السلام قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان،و سمى نفسه ظالما و استغفر منه؟ قلنا:إنما جعله من عمل الشيطان لأنه قتله قبل أن يؤذن له في قتله،فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله.قال ابن جريج:ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر.
[817] فإن قيل:إن موسى عليه السلام ما سقى لابنتي شعيب عليه السلام طلبا للأجر،فكيف أجاب دعوتها لما قالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا [القصص:25]؟
ص: 240
قلنا:يجوز أن يكون قد أجاب دعوتها و دعوة أبيها لوجه اللّه تعالى على سبيل البر و المعروف ابتداء لا على سبيل الإجزاء و إن سمته هي إجزاء،و يؤيد هذا ما روي أنه لما قدم إليه الطعام امتنع و قال:إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا،و لا نأخذ على المعروف أجرا حتى قال له شعيب عليه السلام:هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.
[818] فإن قيل:كيف قال له شعيب عليه السلام: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [القصص:27]و مثل هذا النكاح لا يصح لجهالة المنكوح،و النبي عليه السلام لا ينكح نكاحا فاسدا،و لا يعتد به؟ قلنا:إنما كان ذلك وعدا بنكاح معينة عند الواعد و إن كانت مجهولة عند الموعود و مثله جائز،و يكون التعيين عند إنجاز الوعد كما وقع منه.
[819] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [القصص:32]فجعل الجناح هنا مضموما و قال في سورة طه وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه:22]فجعل الجناح هناك مضموما إليه و القصة واحدة؟ قلنا:المراد بالجناح المضموم هنا هو اليد اليمنى،و المراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى فلا تناقض بينهما.
[820] (1) فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ؟ قلنا:لما رهب من الحية أمره اللّه تعالى أن يضم إليه جناحه ليذهب عنه الفزع، و إنما قال تعالى: مِنَ الرَّهْبِ ؛لأنه جعل الرهب الذي أصابه علة و سببا لما أمر به من ضم الجناح.قال مجاهد:كل من فزع من شيء فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع.و قيل:حقيقة ضم الجناح غير مرادة؛بل هو مجاز عن تسكين الروع و تثبيتيك
ص: 241
الجأش.قال أبو علي:لم يرد به الضم بين شيئين،و إنما أمر بالعزم و الجد في الإتيان بما طلب منه،و مثله قولهم:
اشدد حيازيمك للموت ......................
فليس فيه شد حقيقة.
و قيل:في الآية تقديم و تأخير تقديره:ولّى مدبرا من الرّهب.
[821] فإن قيل:أيّ فائدة في تصديق هارون لموسى عليهما السلام؛حتّى قال: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص:34]؟ قلنا:ليس مراده بقوله ردءا يصدقني أن يقول له صدقت في دعوى الرسالة فإن ذلك لا يفيده عند فرعون و قومه الذين كانوا لا يصدقونه مع وجود تلك الآية الباهرة و المعجزات الظاهرة؛بل مراده أن يلخص حججه بلسانه،و يبسط القول فيها ببيانه، و يجادل عنه بالحق،فيكون ذلك سببا لتصديقه.أ لا ترى إلى قوله: وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص:34].و فضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لما قلنا لا لقوله صدقت،فإن سحبان وائل و باقلا في ذلك سواء.
[822] فإن قيل:قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص:44]أي أحكمنا إليه الوحي مغن عن قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ مِنَ الشّاهِدِينَ [القصص:44]أي من الحاضرين عند ذلك؟ قلنا:معناه و ما كنت من الشاهدين قصته مع شعيب عليه السلام فاختلفت القضيتان.
[823] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ [القصص:
50]و كم رأينا من الظالمين بالكفر و الكبائر من قد هداه اللّه للإسلام و التوبة؟ قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة المائدة.
[824] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ [القصص:
64]و إنما يرى العذاب من كان ضالا لا مهتديا.
قلنا:جواب لو محذوف تقديره و رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم أو لما رأوا العذاب.
[825] فإن قيل:كيف قال تعالى في آخر آية الليل بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71]و قال في آخر آية النهار بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [القصص:72]؟ قلنا:السماع و الإبصار المذكوران لا تعلق لهما بظلمة الليل و لا بضياء النهار، فلذلك لم يقرن الإبصار بالضياء؛و بيانه أن معنى الآيتين أ فلا يسمعون القرآن سماع
ص: 242
تأمل و تدبر فيستدلوا بما فيه من الحجج على توحيد اللّه تعالى،أ فلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ و الضلالة.
[826] فإن قيل:كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]؟ قلنا:قال الفراء:هو استثناء منقطع تقديره رحمة من ربك،أي للرحمة.
ص: 243
[827] فإن قيل:قال تعالى: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت:
12]ثم قال: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت:13]؟ قلنا:معناه و ما الكافرون بحاملين شيئا من خطايا المؤمنين التي ضمنوا حملها، و ليحملن الكافرون أثقال أنفسهم و هي ذنوب ضلالهم،و أثقالا مع أثقالهم و هى ذنوب إضلالهم غيرهم من الكفار،لا خطايا المؤمنين التي نفى عنهم حملها؛و قد سبق نظير هذا في قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام:164]في سورة الأنعام و في سورة بني إسرائيل.
[828] فإن قيل:ما فائدة العدول عن قوله«تسعمائة و خمسين عاما»إلى قوله:
أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت:14]مع أن عادة أهل الحساب هو اللفظ الأول؟ قلنا:لما كانت القصة مسوقة لتسلية النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته و كابده من طول مصابرتهم،كان ذكر أقصى العدد الذي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد أفخم و أعظم إلى الغرض المقصود،و هو استطالة السامع مدة صبره.
و فيه فائدة أخرى و هي نفي و هم إرادة المجاز بإطلاق لفظ التسعمائة و الخمسين على أكثرها،فإن هذا الوهم مع ذكر الألف و الاستثناء منتف أو هو أبعد.
[829] فإن قيل:كيف جاء المميز أولا بلفظ السنة و الثاني بلفظ العام؟ قلنا:لأن تكرار اللفظ الواحد مجتنب في مذهب الفصحاء و البلغاء إلا أن يكون لغرض تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك.
[830] فإن قيل:كيف نكر الرزق ثم عرفه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17]؟ قلنا:لأنه أراد أنهم لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق فابتغوا عند اللّه الرزق كله،فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره.
[831] فإن قيل:كيف أضمر اسمه تعالى في قوله عز و جل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20]ثم أظهره في قوله تعالى: ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت:20]و كان القياس كيف بدأ اللّه الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلنا:إنما عدل إلى ما ذكر لتأكيد الإخبار عن الإعادة التي كانت هي المنكرة عندهم بالإفصاح باسمه تعالى في ذكرها و جعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها؟ [832] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [العنكبوت:27] في معرض المدح أو في معرض الامتنان عليه،و أجر الدنيا فإن منقطع،بخلاف أجر الآخرة فإنه النعيم المقيم الباقي،فكان الأولى بالذكر؟ قلنا:المراد به:و آتيناه أجره في الدنيا مضموما إلى أجره في الآخرة من غير أن ينقص من أجر الآخرة شيئا.قال ابن جرير:و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ [العنكبوت:27]يعني له في الآخرة جزاء الصالحين وافيا كاملا.
ص: 244
[831] فإن قيل:كيف أضمر اسمه تعالى في قوله عز و جل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20]ثم أظهره في قوله تعالى: ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت:20]و كان القياس كيف بدأ اللّه الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلنا:إنما عدل إلى ما ذكر لتأكيد الإخبار عن الإعادة التي كانت هي المنكرة عندهم بالإفصاح باسمه تعالى في ذكرها و جعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها؟ [832] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [العنكبوت:27] في معرض المدح أو في معرض الامتنان عليه،و أجر الدنيا فإن منقطع،بخلاف أجر الآخرة فإنه النعيم المقيم الباقي،فكان الأولى بالذكر؟ قلنا:المراد به:و آتيناه أجره في الدنيا مضموما إلى أجره في الآخرة من غير أن ينقص من أجر الآخرة شيئا.قال ابن جرير:و إليه الإشارة بقوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ [العنكبوت:27]يعني له في الآخرة جزاء الصالحين وافيا كاملا.
و أجره في الدنيا،قيل:هو الثناء الحسن من الناس و المحبة من أهل الأديان.و قيل:
هي البركة التي بارك اللّه فيه و في ذريته.
[833] فإن قيل:كيف قالوا: إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت:31] يعنون مدينة قوم لوط عليه السلام،و لم يقولوا تلك القرية،مع أن مدينة قوم لوط كانت بعيدة عن موضع إبراهيم صلوات اللّه و سلامه عليه،غائبة عند وقت هذا الخطاب؟ قلنا:إنما قالوا هذه القرية لأنها كانت قريبة حاضرة بالنسبة إليهم و إن كانت بعيدة بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام.
[834] فإن قيل:كيف قالوا: أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت:31]و لم يقولوا أهل هذه القرى؟مع أن مدائن قوم لوط كانت خمسا فأهلكوا منها أربعا؟ قلنا:إنما اقتصروا في الذكر على قرية واحدة لأنها كانت أكبر و أقرب و هي سدوم مدينة لوط عليه السلام،فجعلوا ما وراءها تبعا لها في الذكر.
[835] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:38]أي ذوي بصائر،يقال فلان مستبصر:إذا كان عاقلا لبيبا صحيح النظر،و لو كانوا كذلك لما عدلوا عن طريق الهدى إلى طريق الضلال؟ قلنا:معناه و كانوا مستبصرين في أمور الدنيا،و قيل:معناه و كانوا عارفين الحق بوضوح الحجج و الدلائل؛و لكنهم كانوا ينكرونه متابعة للهوى؛لقوله تعالى:
وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا [النمل:14].و قيل:معناه و كانوا مستبصرين لو نظروا نظر تدبر و تفكر.
ص: 245
[836] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]و كل أحد يعلم أن أضعف بيوت يتخذها الهوام بيت العنكبوت؟ قلنا:معناه لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأصنام أولياء من دون اللّه مثل اتخاذ العنكبوت بيتا لما اتخذوها.
[837] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]و كل أهل الكتاب ظالمون؛لأنهم كافرون،و لا ظلم أشد من الكفر،و يؤيده قوله تعالى: وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ [البقرة:254].
قلنا:المراد بالظلم هنا الامتناع عن قبول عقد الذمة و أداء الجزية أو نقض العهد بعد قبوله.
الثاني:أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:29]الآية.
[838] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [48] ؟ قلنا:فائدته تأكيد النفي،كما يقال في الإثبات للتأكيد.هذا الكتاب مما كتبه فلان بيده و بيمينه،و رأيت فلانا بعيني،و سمعت هذا الحديث بأذني و نحو ذلك.
[839] فإن قيل:كيف لم يؤكد سبحانه و تعالى في التلاوة و لم يقل و ما كنت تتلو من قبله من كتاب بلسانك؟ قلنا:الأصل في الكلام عدم الزيادة،و كل ما جاء على الأصل لا يحتاج إلى العلة؛إنما يحتاج إلى العلة ما جاء على خلاف الأصل.
[840] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]و معلوم أن المجاهدة في دين اللّه تعالى أو في حقّ اللّه تعالى مع النفس الأمارة بالسوء أو مع الشيطان أو مع أعداء الدين؛كل ذلك إنما يكون بعد تقدم الهداية من اللّه تعالى،فكيف جعل الهداية من ثمرات المجاهدة؟ قلنا:معناه و الذين جاهدوا في طلب التعلم لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام و حقائقها.و قيل:معناه لنهدينهم طريق الجنة.و قيل:معناه و الذين جاهدوا لتحصيل درجة لنهدينّهم إلى درجة أخرى أعلى منها.و حاصله:لنزيدنهم هداية و توفيقا للخيرات كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد:17]و قوله تعالى: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم:76].و قال أبو سليمان الداراني رحمة اللّه عليه:
معناه و الذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا.و عن بعض الحكماء:من عمل بما علم وفق لما لا يعلم.و قيل:إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم هو من تقصيرنا فيما نعلم.
ص: 246
[841] فإن قيل:كيف ذكر الضمير في قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:
27]،و المراد به الإعادة لسبق قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]؟ قلنا:معناه و رجعه أو و ردّه أهون عليه،فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ،كما في قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان:49]أي بلدا أو مكانا.
[842] فإن قيل:كيف أخرت الصلة في قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]و قدمت في قوله تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:21]؟ قلنا:لأنّ هناك قصد الاختصاص و هو يحسن الكلام،فقيل هو عليّ هين و إن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين همّ و عاقر،و أما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على أصله،و الأمر مبني على ما يعقل الناس من أن الإعادة أسهل من الابتداء،فلو قدمت الصلة لتغير المعنى.
[843] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]،و الأفعال كلها بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى في السهولة سواء،و إنما تتفاوت في السهولة و الصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟ قلنا:معناه و هو هين عليه،و قد جاء في كلام العرب أفعل بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل،و منه قولهم في الأذان اللّه أكبر،أي اللّه كبير في قول بعضهم،و قال الفرزدق:
إنّ الّذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعزّ و أطول
أي عزيزة طويلة،و قال معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أدري و إني لأوجل على أيّنا تعدو المنية أوّل
ص: 247
أي و إني لوجل.و قال آخر:
أصبحت أمنحك الصّدود و إنّني قسما إليك مع الصّدود لأميل
أي لمائل،و قال آخر:
تمنّى رجال أن أموت و إن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد.
الثاني:أن معناه،و هو أهون عليه في تقديركم و حكمكم؛لأنكم تزعمون و تعتقدون فيما بينكم أن الإعادة أهون من الابتداء،كيف و أن الابتداء من ماء و الإعادة من تراب،و تركيب الصورة من التراب أهون عندكم.
الثالث:أن الضمير في قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]راجع إلى المخلوق لا إلى اللّه تعالى،معناه:أنه لا صعوبة على المخلوق فيه و لا إبطاء؛لأنه يعاد دفعة واحدة بقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]و في الابتداء خلق نطفة، ثم نقل إلى مضغة،ثم إلى عظام،ثم إلى كسوة اللحم.
الرابع:أن الابتداء من قبيل التفضل الذي لا مقتضي لوجوبه،و الإعادة من قبيل الواجب؛لأنها لا بدّ منها لجزاء الأعمال.و جزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه و تعالى.
[844] فإن قيل:ما معنى قوله: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً [الروم:39]،الآية؛على اختلاف القراءتين بالمد و القصر.
قلنا:قال الحسن رحمه اللّه:المراد به الربا المحرم و الخطاب لدافعي الربا لا لآخذيه.معناه:و ما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربو و تزكو في أموالهم فلا تزكو عند اللّه و لا يبارك فيها،و نظيره قوله تعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة:276] لا فرق بينهما.و قال ابن عباس رضي اللّه عنهما و الجمهور:المراد به أن يهب الرجل غيره هبة أو يهدي إليه هدية على قصد أن يعوّضه أكثر منها.و قالوا:و ليس في ذلك أجر و لا وزر،و إنما سماه ربا لأنه مدفوع لاجتلاب الربا و هو الزيادة فكان سببا لها فسمي باسمها،و معنى قراءة المد ظاهر،و أما قراءة القصر فمعناها:و ما جئتم،أي و ما فعلتم من إعطاء ربا،كما تقول أتيت خطأ و أتيت صوابا،أي فعلت؛و قوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]أي ذوو الأضعاف من الحسنات،و هو التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
[845] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ [الروم:49]بعد قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ [الروم:49]؟ قلنا:فائدته التأكيد كما في قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
ص: 248
[الحجر:30].و قيل:الضمير لإرسال الرياح أو السحاب فلا تكرار.
[846] فإن قيل:كيف قال تعالى: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم:54] و الضعف صفة الشيء الضعيف،فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة؛مع علمنا أنه خلق من عين و هو الماء أو التراب لا من صفة.
قلنا:أطلق المصدر و هو الضعف،و أراد به اسم الفاعل و هو الضعيف كقولهم رجل عدل،أي عادل و نحوه؛فمعناه من ضعيف و هو النطفة.و قيل:معناه على ضعف،فمن بمعنى على،كما في قوله تعالى: وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأنبياء:77]و المراد به ضعف جثة الطفل حال طفوليته.
[847] فإن قيل:كيف قال تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم:56]و هم إنما لبثوا في الأرض في قبورهم؟ قلنا:معناه لقد لبثتم في قبوركم على ما في علم كتاب اللّه أو في خبر كتاب اللّه.و قيل:معناه في قضاء اللّه.و قيل:فيه تقديم و تأخير تقديره:و قال الذين أوتوا العلم في كتاب اللّه الذين علموه و فهموه،و ذلك كقوله تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
[848] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم:57]و قال في موضع آخر وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]فجعلهم مرّة طالبين الإعتاب و مرة مطلوبا منهم الإعتاب؟ قلنا:معنى قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم:57]أي و لا هم يقالون عثراتهم بالرد إلى الدنيا،و معنى قوله تعالى: وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:24]،أي و إن يستقيلوا فما هم من المقالين،هذا ملخص الجواب و حاصله،و قد أوضحنا معناه في شرح غريب القرآن.
ص: 249
[849] فإن قيل:كيف يحل الغناء بعد قوله: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6]الآية،و قد قال الواحدي في تفسير وسيطه:أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء.و روى هو أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«و الّذي نفسي بيده ما رفع رجل قطّ عقيرته يتغنّى إلاّ ارتدّ فيه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره و صدره حتّى يسكت».و قال سعيد بن جبير و مجاهد و ابن مسعود رضي اللّه عنهم:لهو الحديث هو و اللّه الغناء و اشتراء المغني و المغنية بالمال.و روى أيضا حديثا آخر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مسندا«أنه قال في هذه الآية: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6]اللّعب و الباطل كثير النفقة سمح فيه؛لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به».
و روى أيضا حديثا آخر مسندا عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«من ملأ سمعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الرّوحانيين يوم القيامة.قيل:و ما الرّوحانيون؟قال:قرّاء أهل الجنّة».
قال أهل المعاني:و يدخل في هذا كلّ من اختار اللهو و اللعب و المزامير و المعازف على القرآن و إن كان اللفظ ورد بالاشتراء،لأنّ هذا اللفظ يذكر في الاستبدال و الاختيار كثيرا.و قال قتادة رحمه اللّه:حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.هذا كله نقله الواحدي رحمه اللّه،و كان من كبار السلف في العلم و العمل.
و قال غيره:قال ابن عباس و ابن مسعود و مجاهد و سعيد بن جبير و عكرمة و قتادة:المراد بلهو الحديث الغناء.و عن الحسن رحمه اللّه تعالى أنه كل ما ألهى عن اللّه تعالى.و في معنى يشتري قولان:أحدهما:أنه الشراء بالمال.و الثاني،أنه الاختيار كما مرّ.
و قيل:الغناء منفدة للمال،مفسدة للقلب،مسخطة للرب.
قلنا:جوابه أنهم يؤولون هذه الآية و نظائرها،و هذه الأحاديث و نظائرها، فيصرفونها عن ظاهرها متابعة للهوى و ميلا إلى الشهوات،و لو نظروا بعقولهم فيما ينشأ عن جمعيات السماع في زماننا هذا من المفاسد لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين،فإن شروط إباحة السماع عند من أباحه لا تجتمع في زماننا هذا على ما هو
ص: 250
مسطور في كتب المشايخ و أرباب الطريق،و لو اشتغلنا بتفصيل مفاسده و عدد شروطه عند من أباحه لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا.
[850] فإن قيل:كيف وقع قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [لقمان:14] الآيتين،في أثناء وصية لقمان لابنه،و ما الجامع بينهما؟ قلنا:هي جملة وقعت معترضة على سبيل الاستطراد تأكيدا لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك.
[851] (1) فإن قيل:قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان:
14]كيف اعترض بين الوصية و مفعولها؟ قلنا:لما وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة و تعانيه من المشاق و المتاعب تخصيصا لها بتأكيد الوصية و تذكير تعظيم حقها بإفرادها بالذّكر،و من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لمن قال له:من أبر؟قال:«أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك»،ثم قال بعد ذلك«ثمّ أباك».
[852] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:
19]فجمع الأصوات و أفرد صوت الحمير.
قلنا:ليس المراد ذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس،حتّى يجمع،و إنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق و غيره له صوت؛و أنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس؛فوجب إفراده لئلاّ يظن أن الاجتماع شرط في ذلك.
[853] فإن قيل:قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27] يطابقه و ما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه إلى قوله: وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27]؟ قلنا:استغنى عن ذكر المداد بقوله يمده،لأنه من قولك مد الدواة و أمدها:أي زادها مدادا،فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة،و الأبحر السبعة مملوءة مدادا تصب فيه أبدا صبا لا ينقطع،فصار نظير ما ذكرتم،و نظيره قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف:109]الآية.
[854] فإن قيل:كيف قال: مِنْ شَجَرَةٍ [لقمان:27]و لم يقل من شجر؟ قلنا:لأنه أراد تفصيل الشجر و تقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا و قد بريت أقلاما.5.
ص: 251
[855] فإن قيل:الكلمات جمع قلّة و المقصود التفخيم و التعظيم،فكان جمع الكثرة و هو الكلم أشد مناسبة؟ قلنا:جمع القلّة هنا أبلغ فيما ذكرتم من المقصود؛لأن جمع القلة إذا لم يفن بتلك الأقلام و ذلك المداد،فكيف يفنى جمع الكثرة.
[856] فإن قيل:في قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ [لقمان:1.5،]الآية كيف أضاف فيها العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيبات،و نفى العلم عن العباد في الأمرين الآخرين،مع أنه الأمور الخمسة سواء في اختصاص اللّه تعالى بعلمها و انتفاء علم العباد بها؟ قلنا:إنما خص الأمور الثلاثة الأول بالإضافة إليه تعظيما لها و تفخيما؛لأنها أجل و أعظم،و إنما خص الأمرين و الآخرين بنفي علميهما عن العباد،لأنهما من صفاتهم و أحوالهم،فإذا انتفى علم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة أولى.
[857] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] و لم يقل بأي وقت تموت و كلاهما غير معلوم،بل نفي العلم بالزمان أولى،لأن من الناس من يدّعي علمه و هم المنجمون،بخلاف المكان فإن أحد لا يدعي علمه؟ قلنا:إنما خص المكان بنفي علمه لوجهين:
أحدهما:أن الكون في مكان دون مكان في وسع الإنسان و اختياره،فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف الزمان.
الثاني:أن للمكان تأثيرا في جنب الصحة و السقم بخلاف الزمان،أو تأثير المكان في ذلك أكثر.
ص: 252
[858] فإن قيل:كيف قال تعالى،هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]،و قال تعالى،في سورة المعارج: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]؟ قلنا:المراد بالأول مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا و ذلك ألف سنة،خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء و الأرض و خمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا،و المراد بالثاني مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى العرش.
الثّاني:أن المراد به في الآيتين يوم القيامة،و مقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا لقوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ [الحج:47]و معنى قوله تعالى: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]،أي لو تولى فيه حساب الخلق غير اللّه تعالى.
الثّالث:أنه كألف سنة في حقّ عوام المؤمنين،و الخمسين ألف سنة في حق الكافرين لشدة ما يكابدون فيه من الأهوال و المحن،و كساعة من أيام الدنيا في حق خواص المؤمنين.و يؤيده ما روي أنه قيل:«يا رسول اللّه يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله،فقال:و الذي نفسي بيده ليخفف على المؤمنين حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».و روي أن ابن عباس رضي اللّه عنهما سئل عن هاتين الآيتين؟فقال:يومان ذكرهما اللّه تعالى في كتابه،و إني أكره أن أقول في كتاب اللّه بما لا أعلم.
[859] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]أو كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7]على اختلاف القراءتين،و مقتضى القراءتين أن لا يكون في مخلوقات اللّه تعالى شيء قبيح و الواقع خلافه،و لو لم يكن إلا الشرور و المعاصي فإنها مخلوقة للّه تعالى عند أهل السنة و الجماعة مع أنها قبيحة؟
ص: 253
قلنا:أحسن بمعنى أحكم و أتقن،و هذا الجواب يعم القراءتين.
الثاني:أن فيه إضمارا تقديره:أحسن إلى كل شيء خلقه.
الثالث:أن أحسن بمعنى علم كما يقال فلان لا يحسن شيئا:أي لا يعلم شيئا.
و قال علي كرّم اللّه وجهه:«قيمة كلّ امرئ ما يحسنه»،أي ما يعلمه؛فمعناه أنه علم خلق كل شيء،أو علم كل شيء خلقه و لم يتعلمه من أحد؛و هذان الجوابان يخصّان بقراءة فتح اللام.
[860] فإن قيل:كيف قال تعالى،هنا: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة:8]، و قال،في موضع آخر: مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12].
قلنا:المذكور هنا صفة ذرية آدم،و المذكور هناك صفة آدم عليه السلام يعلم ذلك من أول الآيتين فلا تنافي.
[861] فإن قيل:كيف قال.اللّه تعالى: وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9] و اللّه تعالى منزه عن الروح؟ قلنا:معناه نفخ فيه من روح مضافة إلى اللّه بالخلق و الإيجاد لا بوجه آخر.
[862] فإن قيل:كيف قال تعالى،هنا: قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:
11]،و قال تعالى:في موضع آخر: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام:61]،و قال تعالى:في موضع آخر: اَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر:42]؟ قلنا:اللّه تعالى هو المتوفي بخلق الموت و أمر الوسائط بنزع الروح،و الملائكة المتوفون أعوان ملك الموت،و هم يجذبون الروح من الأظفار إلى الحلقوم،و ملك الموت يتناول الروح من الحلقوم،فصحت الإضافات كلها.
[863] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً [السجدة:15]الآية،و ليس المؤمنون منحصرين فيمن هو موصوف بهذه الصفة و لا هذه الصفة شرط في تحقق الإيمان؟ قلنا:المراد بقوله تعالى: ذُكِّرُوا بِها [السجدة:15]أي وعظوا،و المراد بالسجود الخشوع و الخضوع و التواضع في قبول الموعظة بآيات اللّه تعالى،و هذه الصفة شرط في تحقق الإيمان.و نظيره قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً [الإسراء:107]الآية.
الثاني:أن معناه إنما يؤمن بآياتنا إيمانا كاملا من اتصف بهذه الصفة،و قيل المراد بالآيات فرائض الصلوات الخمس،و المراد التذكير بها بالأذان و الإقامة.
[864] فإن قيل:قوله تعالى: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]يدل على أن الفاسق لا يكون مؤمنا؟
ص: 254
قلنا:الفاسق هنا بمعنى الكافر بدليل قوله تعالى بعده وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:20]و التقسيم يقتضي كون الفاسق المذكور هنا كافرا،لا كون كل فاسق كافرا،و نظيره قوله تعالى: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:
35]و قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ [الجاثية:21]و لم يلزم من ذلك أن كلّ مجرم كافر،و لا أن كلّ مسيء كافر.
[865] فإن قيل:ما فائدة العدول عن قوله تعالى: فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ [الزخرف:41]في قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ [السجدة:22]الآية؟ قلنا:لما جعله أظلم الظلمة ثم توعد كل المجرمين بالانتقام منه دل على أن الأظلم يصيبه النصيب الأوفر من الانتقام،و لو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
[866] فإن قيل:قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ [السجدة:28]سؤال عن وقت الفتح،و هو يوم القضاء بين المؤمنين و الكافرين،يعني يوم القيامة،فكيف طابقه ما بعده جوابا؟ قلنا:لما كان سؤالهم سؤال تكذيب و استهزاء بيوم القيامة لا سؤال استفهام أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب و الاستهزاء لا ببيان حقيقة الوقت.
[867] فإن قيل:على قول من فسر الفتح بفتح مكة أو بفتح يوم بدر،كيف وجه الجواب عن قوله: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا [السجدة:29]الآية،و قد نفع بعض الكفار إيمانهم في ذينك اليومين و هم الطلقاء الذين آمنوا؟ قلنا:المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل،كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق.
ص: 255
[868] فإن قيل:كيف قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:28]و لم يقل يا محمد كما قال تعالى يا موسى،يا عيسى،يا داود و نحوه؟ قلنا:إنما عدل عن ندائه باسمه إلى ندائه بالنبي و الرسول إجلالا له و تعظيما كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم:1] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة:67].
[869] فإن قيل:لو كان ذلك كما ذكرتم لعدل عن اسمه إلى نعته في الإخبار عنه كما عدل في النداء في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ [الفتح:29]و قوله تعالى:
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144].
قلنا:إنما عدل عن نعته في هذين الموضعين لتعليم الناس أنه رسول اللّه و تلقينهم أن يسموه بذلك و يدعوه به،و لذلك ذكره بنعته لا باسمه في غير هذين الموضعين من مواضع الإخبار،كما ذكره في النداء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة:128] وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ [الفرقان:30] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62] اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ النَّبِيِّ [المائدة:81]و نظائره كثيرة.
[870] فإن قيل:ما فائدة ذكر الجوف في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]؟ قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة الحج في قوله تعالى: وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
[871] فإن قيل:ما معنى قولهم:أنت عليّ كظهر أمي؟ قلنا:أرادوا أن يقولوا أنت عليّ حرام كبطن أمي،فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب ذكره ذكر الفرج،و إنما كنوا عن البطن بالظهر لوجهين:
أحدهما:أنه عمود البطن،و يؤيّده قول عمر رضي اللّه تعالى عنه:«يجيء به أحدهم على عمود بطنه»أي على ظهره.
ص: 256
الثاني:إتيان المرأة من قبل ظهرها كان محرما عندهم،و كانوا يعتقدون أنّها إذا أتيت من قبل ظهرها جاء الولد أحول،فكان المطلق في الجاهلية إذا قصد تغليظ الطلاق قال أنت عليّ كظهر أمي.
[872] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب:33]جعل أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بمنزلة أمهات المؤمنين حكما،أي في الحرمة و الاحترام و ما جعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بمنزلة أبيهم حتى قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب:
40]؟ قلنا:أراد اللّه بقوله تبارك و تعالى: وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب:6]أن أمته يدعون أزواجه بأشرف الأسماء،و أشرف أسماء النساء الأمّ و أشرف أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم رسول اللّه لا الأب.
الثاني:أنّه تعالى جعلهن أمهات المؤمنين تحريما لهن،إجلالا و تعظيما له صلّى اللّه عليه و سلّم كيلا يطمع أحد في نكاحهن بعده.فلو جعل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أبا للمؤمنين لكان أبا للمؤمنات أيضا،فلم يجعل له نكاح امرأة من المؤمنات؛بل يحرمن عليه،و ذلك ينافي إجلاله و تعظيمه.و قد جعله أعظم من الأب في القرب و الحرمة بقوله تعالى: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]فجعل صلّى اللّه عليه و سلّم أقرب إليهم من أنفسهم،و كثير من الآباء يتبرأ من ابنه و يتبرأ منه ابنه أيضا،و ليس أحد يتبرأ من نفسه.
[873] فإن قيل:كيف قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على نوح و من بعده في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]؟ قلنا:لأن هذا العطف من باب عطف الخاص على العام الذي هو جزء منه لبيان التفضيل و التخصيص بذكر مشاهير الأنبياء و ذراريهم؛فلما كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أفضل هؤلاء المفضلين قدم عليهم.و في الميثاق المأخوذ قولان:
أحدهما:أنه تعالى أخذ منهم الميثاق يوم أخذ الميثاق بأن يصدق بعضهم بعضا.
و الثاني:أخذ منهم الميثاق أن يوحدوا اللّه تعالى و يدعوا إلى توحيده و يصدق بعضهم بعضا.
[874] فإن قيل:فكيف قدم نوح عليه السلام في نظير هذه الآية و هي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى:13]؟ قلنا:لأن تلك الآية سيقت لوصف دين الإسلام بالأصالة و الاستقامة،كأنه قال:
شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح عليه السلام في العهد القديم،و بعث عليه محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في العهد الحديث،و بعث عليه من توسطهما من الأنبياء المشاهير،
ص: 257
فكان تقديم نوح عليه السلام أشد مناسبة بالمقصود من سوق الآية.
[875] فإن قيل:ما فائدة إعادة أخذ الميثاق في قوله تعالى: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب:7]؟ قلنا:فائدته التأكيد و وصف الميثاق المذكور أوّلا بالجلالة و العظم استعاذة من وصف الأجرام به.و قيل:إن المراد بالميثاق الغليظ اليمين باللّه تعالى على الوفاء بما حملوا،فلا إعادة لاختلاف الميثاقين.
[876] فإن قيل:كيف قال تعالى وصف حال المؤمنين التي امتن عليهم فيها:
وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب:10]،و لو بلغت القلوب الحناجر لماتوا و لم يبق للامتنان وجه؟ قلنا:قال ابن قتيبة:معناه كادت القلوب تبلغ الحناجر من الخوف،فهو مثل في اضطراب القلوب و وجيبها.و رده ابن الأنباري فقال:العرب لا تضمن كاد و لا تعرف معناه ما لم تنطق به.و قال الفراء:معناه أنهم جبنوا و جزعوا،و الجبان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته فرفعت قلبه إلى حنجرته،و هي جوف الحلقوم و أقصاه؛و كذلك إذا اشتد الغضب أو الغم،و هذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما،و من هنا قيل للجبان:انتفخ منخره.
[877] فإن قيل:كيف علّق اللّه تعالى عذاب المنافقين بمشيئته بقوله تعالى:
وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ [الأحزاب:24]و عذابهم متيقن مقطوع به لقوله تعالى:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ [النساء:145]؟ قلنا:إن شاء تعذيبهم بإماتتهم على النفاق.و قيل:معناه إن شاء ذلك و قد شاءه.
[878] فإن قيل:ما حقيقة قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]؟ قلنا:فيه وجهان:
أحدهما:أنه نفسه أسوة حسنة،أي قدوة،و الأسوة اسم للمتأسى به،أي المقتدى به،كما تقول:في البيضة عشرون منّا حديدا،أي هي في نفسها هذا المقدار.
الثاني:أن فيه خصلة من حقها أن يتأسّى بها و تتبع،و هي مواساته بنفسه أصحابه و صبره على الجهاد و ثباته يوم أحد حين كسرت رباعيته و شجّ وجهه.
[879] فإن قيل:كيف أظهر تعالى الاسمين؛مع تقدم ذكرهما في قوله تعالى:
وَ لَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ [الأحزاب:22]؟
ص: 258
قلنا:لئلا يكون الضمير الواحد عائدا على اللّه تعالى و غيره.
[880] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف بني قريظة: وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب:27]و اللّه تعالى إنما ملكهم أرضهم بعد ما وطئوها و ظهروا عليها؟ قلنا:معناه و يورثكم بطريق وضع الماضي موضع المستقبل مبالغة في تحقيق الموعود و تأكيده.
الثاني:أن فيه إضمارا تقديره:و أرضا لهم تطئوها سيورثكم إياها،يعني أرض مكة،و قيل أرض فارس و الروم،و قيل أرض خيبر،و قيل كل أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة.
الثالث:أن معناه و أورثكم ذلك كله في الأزل بكتابته لكم في اللّوح المحفوظ.
[881] فإن قيل:كيف خص اللّه تعالى نساء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بتضعيف العقوبة على الذنب و المثوبة على الطاعة في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الأحزاب:30]الآية؟ قلنا:أما تضعيف العقوبة فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهد غيرهن.
الثاني:أن في معصيتهن أذى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ذنب من آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أعظم من ذنب غيره،و المراد بالفاحشة النشوز و سوء الخلق،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما.و أما تضعيف المثوبة فلأنهن أشرف من سائر النساء بقربهن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فكانت الطاعة منهن أشرف كما كانت المعصية منهن أقبح،و نظير ذلك الوزير و النواب في طاعتهما للملك و معصيتهما.
[882] فإن قيل:كيف قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب:32]و لم يقل كواحدة من النساء؟ قلنا:قد سبق نظير هذا مرة في آخر سورة البقرة في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285].
[883] فإن قيل:كيف أمر اللّه تعالى نساء النبيّ بالزكاة في قوله تعالى: وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ [الأحزاب:33]و لم يملكن نصابا حولا كاملا؟ قلنا:المراد بالزكاة هنا الصدقة النافلة،و الأمر أمر ندب.
[884] فإن قيل:ما الفرق بين المسلم و المؤمن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ [الأحزاب:35]مع أنهما متحدان شرعا؟
ص: 259
قلنا:المراد بالمسلم الموحد بلسانه،و بالمؤمن المصدق بقلبه.
[885] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب:
40]،مع أنه كان أبا للطاهر و الطيب و القاسم و إبراهيم عليهم السلام؟ قلنا:قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب:40]يخرجهم من حكم النفي من وجهين:
أحدهما:أنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال بل ماتوا صبيانا.
و الثاني:أنه أضاف الرجال إليهم،و هم كانوا رجاله لا رجالهم.
[886] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]و عيسى عليه السلام ينزل بعده و هو نبي؟ قلنا:معنى كونه خاتم النبيين أنه لا يتنبأ أحد بعده،و عيسى ممن نبّئ قبله؛ و حين ينزل ينزل عاملا بشريعة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مصليا إلى قبلته كأنّه بعض أمته؟ [887] فإن قيل:قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [الأحزاب:43]معناه يرحمكم و يغفر لكم فما معنى قوله تعالى: وَ مَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43]و الرحمة و المغفرة منهم محال؟ قلنا:جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة بالرحمة و المغفرة كأنهم فاعلو الرحمة و المغفرة،و نظيره قولهم:حياك اللّه،أي أحياك و أبقاك،و حيا زيد عمرا:أي دعا له بأن يحييه اللّه اتكالا منه على إجابة دعوته،و مثله قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56].
[888] فإن قيل:قد فهم من قوله تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللّهِ [الأحزاب:45،46]أنه مأذون له في الدعاء إلى اللّه تعالى،فما فائدة قوله تعالى: بِإِذْنِهِ ؟ قلنا:معناه بتسهيله و تيسيره،و قيل:معناه بأمره لا أنك تدعوهم من تلقاء نفسك.
[889] فإن قيل:كيف شبه اللّه تعالى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالسّراج دون الشمس،و الشمس أتم و أكمل في قوله تعالى: وَ سِراجاً مُنِيراً [الأحزاب:46]؟ قلنا:قيل إن المراد بالسراج هنا الشمس كما في قوله تعالى: وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح:16]و قيل:إنما شبه بالسراج لأن السراج يتفرع و يتولد منه سرج لا تعد و لا تحصى بخلاف الشمس،و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تفرع منه بواسطة إرشاده و هدايته جميع العلماء من عصره إلى يومنا هذا،و هلم جرا إلى يوم القيامة.و قيل:إنما شبهه بالسراج لأنه بعثه في زمان يشبه الليل بظلمات الكفر و الجهل و الضلال.
ص: 260
[890] فإن قيل:كيف شبهه بالسراج دون الشمع،و الشمع أشرف و نوره أتم و أكمل؟ قلنا:قد سبق الجواب عن مثل هذا في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور:35].
[891] فإن قيل:كيف خص تعالى المؤمنات بعدم وجوب العدة في الطلاق قبل المسيس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:49]الآية،مع أن حكم الكتابية كذلك أيضا؟ قلنا:هذا خرج مخرج الأغلب و الأكثر لا تخصيص.
[892] فإن قيل:كيف أفرد سبحانه العم و جمع العمات،و أفرد الخال و جمع الخالات في قوله تعالى: وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ [الأحزاب:50]؟ قلنا:لأن العم اسم على وزن المصدر الذي هو الضم و نحوه،و كذا الخال على وزن القال و نحوه،فيستوي فيه المفرد و التثنية و الجمع،بخلاف العمّة و الخالة، و نظيره قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة:7].
[893] فإن قيل:هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة النور: أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ [النور:61]؟ قلنا:العم و الخال ليسا مصدرين حقيقة،بل على وزن المصدر،فاعتبر هنا شبههما بالمصدر،و هناك حقيقتهما عملا بالجهتين؛بخلاف السمع،فإنه لما كان مصدرا حقيقة ما جاء قط في الكتاب العزيز إلا مفردا.
[894] فإن قيل:كيف ذكر الأقارب في قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الأحزاب:55]الآية،و لم يذكر العم و الخال و حكمهما حكم من ذكر في رفع الجناح؟ قلنا:سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة النور في قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31]فالأولى أن تستتر المرأة عن عمّها و خالها لئلاّ يصف محاسنها عند ابنه فيفضي إلى الفتنة.
[895] فإن قيل:السادة و الكبراء بمعنى واحد،فكيف عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا [الأحزاب:67]؟ قلنا:هو من باب عطف اللفظ على اللفظ المغاير له؛مع اتحاد معناهما، كقولهم:فلان عاقل لبيب،و هذا حسن جميل،و قول الشاعر:
معاذ اللّه من كذب و مين
ص: 261
[896] فإن قيل:المراد بالإنسان آدم عليه الصلاة و السلام في قوله تعالى:
وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب:72]فكيف قال سبحانه إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]و فعول من أوزان المبالغة فيقتضي تكرار الظلم و الجهل منه و أنه منتف؟ قلنا:لما كان عظيم القدر رفيع المحل كان ظلمه و جهله لنفسه أقبح و أفحش، فقام عظيم الوصف مقام الكثرة،و قد سبق نظير هذا في سورة آل عمران في قوله تعالى: وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182].و قيل:إنما سماه ظلوما جهولا لتعدّي ضرر ظلمه و جهله إلى جميع الناس،فإنهم أخرجوا من الجنة بواسطته و تسلط عليهم إبليس و جنوده.
ص: 262
[897] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ [سبأ:9]و لم يقل إلى ما فوقهم و ما تحتهم من السماء و الأرض؟ قلنا:ما بين يدي الإنسان هو كل شيء يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه،و ما خلفه هو كل شيء لا يقع نظره عليه حتى يحول وجهه إليه فكان اللفظ المذكور أتم مما ذكر.
[898] فإن قيل:هلا ذكر سبحانه الأيمان و الشمائل هنا كما ذكرها في قوله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف:17]؟ قلنا:لأنه وجد هنا ما يغني عن ذكرها،و هو لفظ العموم و ذكر السماء و الأرض و لا كذلك ثمة.
[899] فإن قيل:كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التماثيل و هي التصاوير؟ قلنا:قيل إن عمل الصور لم يكن محرما في شريعته،و يجوز أن يكون صور غير الحيوان كالأشجار و نحوها،و ذلك غير محرم في شريعتنا أيضا.
[900] فإن قيل:كيف قال تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ [سبأ:
15]و لم يقل آيتان جنتان،و كل جنة كانت آية،أي علامة على توحيد اللّه تعالى؟ قلنا:لما تماثلتا في الدلالة و اتحدت جهتهما فيها جعلهما آية واحدة،و نظيره قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:50].
[901] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ [سبأ:
22]،أي الذين زعمتموهم آلهة من دون اللّه،مع أن المشركين ما زعموا غير اللّه إلها دون اللّه،بل مع اللّه على وجه الشركة؟ قلنا:النصّ لا يدل على زعمهم حصر الآلهة في غير اللّه نصّا،بل يوهم ذلك،و لو دل فنقول:فيه تقديم و تأخير تقديره:ادعوا الذين من دون اللّه زعمتم أنهم شركاء للّه.
[902] فإن قيل:ما معنى التشكيك في قوله تعالى: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]؟
ص: 263
قلنا:قيل إن«أو»هنا بمعنى الواو في الموضعين،فيصير المعنى:نحن على الهدى و أنتم في الضلال.و قيل معناه:و إنا لضالون أو مهتدون و إنكم لكذلك،و هو من التعريض بضلالهم كما يقول الرجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه:و اللّه إن أحدنا لكاذب،و يعني به صاحبه.
[903] فإن قيل:كيف قالت الملائكة عليهم السلام في حقّ المشركين بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41]و لم ينقل عن أحد من المشركين أنه عبد الجن؟ قلنا:معناه كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا أكثرهم بهم مؤمنون:أي أكثر المشركين مصدقون بالشّياطين فيما يخبرونهم به من الكذب أن الملائكة بنات اللّه تعالى اللّه،عن ذلك؛فالمراد بالجن الشياطين.
ص: 264
[904] فإن قيل:قوله تعالى: وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فاطر:9]كيف جاء فتثير مضارعا دون ما قبله و ما بعده؟ قلنا:هو مضارع وضع موضع الماضي،كما في قوله تعالى: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:37].
[905] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ [فاطر:11]؟ قلنا:معناه و ما يعمر من أحد،و إنما سماه معمرا بما هو سائر إليه.
[906] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر:24] و كم من أمة كانت في الفترة بين عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يخل فيها نذير؟ قلنا:إذا كان آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس و حين اندرست آثار نذارة عيسى بعث محمد عليهما الصلاة و السلام.
[907] فإن قيل:كيف اكتفى سبحانه و تعالى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد سبق ذكرهما في أولها؟ قلنا:لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة استغنى بذكر أحدهما عن الآخر بعد سبق ذكرهما.
[908] فإن قيل:ما الفرق بين النصب و اللغوب حتى عطف أحدهما على الآخر؟ قلنا:النصب المشقة و الكلفة،و اللغوب الفتور الحاصل بسبب النصب فهو نتيجة النصب،كذا فرق بينهما الزمخشري رحمه اللّه.و يرد على هذا أن يكون انتفاء الثاني معلوما من انتفاء الأول.
[909] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ [فاطر:37]مع أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه، و هم ما عملوا صالحا قط؛بل سيئا؟ قلنا:هم كانوا يحسبون أنّهم على سيرة صالحة،كما قال تعالى: وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104]؛فمعناه غير الّذي كنا نحسبه صالحا فنعمله.
ص: 265
[910] فإن قيل:كيف قال تعالى،أولا: إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]،و قال سبحانه،ثانيا: إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:16]؟ قلنا:لأنّ الأول ابتداء إخبار فلم يحتج إلى التأكيد باللاّم؛بخلاف الثاني،فإنّه جواب بعد الإنكار و التّكذيب فاحتاج إلى التأكيد.
[911] فإن قيل:كيف أضاف الفطر إلى نفسه بقوله: فَطَرَنِي [يس:22]، و أضاف البعث إليهم بقوله: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83]،مع علمه أنّ اللّه تعالى فطره و فطرهم،و سوف يبعثه و يبعثهم،فهلا قال فطرنا و إليه نرجع أو فطركم و إليه ترجعون؟ قلنا:لأنّ الخلق و الإيجاد نعمة من اللّه تعالى توجب الشّكر،و البعث بعد الموت و عيد و تهديد،يوجب الزّجر؛فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر، و إضافته البعث إليهم أبلغ في الزّجر.
[912] فإن قيل:كيف قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس:30]و التّحسّر على اللّه تعالى محال؟ قلنا:هو تحسير للخلق،معناه:قولوا يا حسرتنا على أنفسنا،لا تحسّر من اللّه تعالى.
[913] فإن قيل:كيف نفى اللّه سبحانه و تعالى الإدراك عن الشمس للقمر دون عكسه و هو:و لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس؟ قلنا:لأنّ سير القمر أسرع،فإنّه يقطع فلكه في شهر و الشمس لا تقطع فلكها إلاّ في سنة؛فكانت الشمس جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها،و القمر خليقا بأن توصف بالسّبق لسرعة سيره،هذا سؤال الزمخشري رحمه اللّه و جوابه.و يرد عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفي الإدراك عنه؛لأنه إذا قيل:لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس،مع سرعة سيره،علم بالطّريق الأولى أن الشّمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها،فأمّا إذا قيل:لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أمكن أن يقال إنّما لم تدركه لبطء سيرها،فأمّا القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره.
[914] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ آيَةٌ لَهُمْ [يس:41]أي لأهل مكة
ص: 266
أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ [يس:41]أي ذرية أهل مكة أو ذرية قوم نوح عليه السلام فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]و الذرية اسم للأولاد،و المحمول في سفينة نوح عليه الصلاة و السلام آباء أهل مكة لا أولادهم؟ قلنا:الذرية من أسماء الأضداد تطلق على الآباء و الأولاد بدليل قوله تعالى:
*إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:33،34]،وصف جميع المذكورين بكونهم ذرية،و بعضهم آباء،و بعضهم أبناء؛ فمعناه حملنا آباء أهل مكة أو حملنا أبناءهم؛لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين.
[915] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس:48]يعنون الوعد بالبعث و الجزاء و الوعد كان واقعا لا منتظرا؟ قلنا:معناه متى إنجاز هذا الوعد و صدقه،بحذف المضاف أو بإطلاق اسم الوعد على الموعود،كضرب الأمير و نسج اليمن.
[916] فإن قيل:قولهم: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس:52]سؤال عن الباعث فكيف طابقه ما بعده جوابا؟ قلنا:معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث و أنبأكم به الرسل؛إلا أنه جيء به على هذه الطريقة تبكيتا لهم و توبيخا.
[917] فإن قيل:كيف قال تعالى،في صفة أهل الجنّة هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ [يس:56]و الظل إنما يكون حيث تكون الشمس،و لهذا لا يقال لما في الليل ظل و الجنة لا يكون فيها شمس لقوله تعالى: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً [الإنسان:13]؟ قلنا:ظل أشجار الجنة من نور العرش لئلاّ تبهر أبصار أهل الجنة فإنه أعظم من نور الشمس،و قيل:من نور قناديل العرش.
[918] فإن قيل:كيف سمّى سبحانه و تعالى نطق اليد كلاما و نطق الرجل شهادة في قوله: وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65]؟ قلنا:لأنّ اليد كانت مباشرة و الرجل حاضرة،و قول الحاضر على غيره شهادة، و قول الفاعل على نفسه ليس بشهادة؛بل إقرار بما فعل.قلت:و في الجواب نظر.
[919] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس:69]مع أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قد روي عنه ما هو شعر،و هو قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب
و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
هل أنت إلاّ إصبع دميت و في سبيل اللّه ما لقيت
ص: 267
قلنا:هذا ليس بشعر،لأنّ الخليل لم يعد مشطور الرجز شعرا،و قوله:«هل أنت إلا إصبع دميت»من مشطور بحر الرجز؛كيف و قد روي أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:دميت و لقيت بفتح الياء و سكون التاء و على هذا لا يكون شعرا،و إنّما الراوي حرّفه فصار شعرا.
الثاني:أن حدّ الشعر قول موزون مقفّى مقصود به الشعر،و القصد منتف فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و سلّم،فكان كما يتّفق وجوده في كل كلام منثور من الخطب و الرّسائل و محاورات الناس،و لا يعده أحد شعرا.
[920] فإن قيل:كيف قال تعالى: مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس:71]و اللّه تعالى منزه عن الجارحة؟ قلنا:هو كناية عن الانفراد بخلق الأنعام و الاستبداد به بغير شريك،كما يقال في الحب و غيره من أعمال القلب هذا مما عملته يداك،و يقال لمن لا يد له يداك أو يديك،و كذا قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75].
[921] فإن قيل:كيف سمى قوله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [يس:78] مثلا،و ليس بمثل،و إنما هو استفهام إنكار؟ قلنا:سماه مثلا لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل،و هو إنكار الإنسان قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى؛مع أن العقل و النقل كلاهما يشهد بقدرة اللّه على ذلك.
ص: 268
[922] فإن قيل:كيف جمع تعالى المشارق هنا و ثناهما في سورة الرحمن،و كيف اقتصر هنا على ذكر المشارق و ذكر ثمة المغربين أيضا و ذكر المغارب مع المشارق، مجموعين في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40]و ذكرهما مفردين في قوله تعالى: قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:28]؟ قلنا:لأن القرآن نزل بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم و فنونه، و من أساليب كلامهم و فنونه الإجمال و التفصيل و البسط و الإيجاز،فأجمل تارة بقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]أراد مشرقي الصيف و الشتاء و مغربيهما على الإجمال،و فصل تارة بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40] أراد جمع مشارق السنة و مغاربها و هي تزيد على سبعمائة،و بسط مرة بقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40]و أوجز و اختصر مرة بقوله تعالى: وَ رَبُّ الْمَشارِقِ [الصافات:5]لدلالة المذكور و هي المشارق على المحذوف و هو المغارب،و كانت المشارق أولى بالذكر لأنها أشرف إما لكون الشروق سابقا في الوجود على الغروب،أو لأن المشارق منبع الأنوار و الأضواء.
[923] فإن قيل:كيف خص سبحانه و تعالى سماء الدنيا بقوله تعالى: إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات:6]مع أن غير سماء الدنيا مزينة بالكواكب أيضا؟ قلنا:إنما خصها بالذكر لأنا نحن نرى سماء الدنيا لا غير.
[924] (1) فإن قيل:كيف وجه قراءة الضم في قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ [الصافات:12]و هي قراءة علي و ابن مسعود و ابن عباس رضي اللّه عنهم و اختيار الفرّاء،و التعجّب روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء،و اللّه تعالى لا تجوز عليه الروعة؟
ص: 269
قلنا:أراد بالتعجب الاستعظام و هو جائز من اللّه تعالى،كما استعظم كيد النساء،و إنكار الكفار معجزات الأنبياء عليهم السلام.
الثاني:أن معناه قل يا محمد بل عجبت،و كان شريح يقرأ بالفتح يقول:إنّ اللّه تعالى لا يعجب من شيء و إنّما يعجب من لا يعلم،فقال إبراهيم النخعي:إنّ شريحا كان يعجبه علمه و عبد اللّه أعلم منه.و كان يقرأ بالضمّ يريد عبد اللّه ابن مسعود.
قال الزّجّاج:و إنكار هذه القراءة غلط،لأنّ العجب من اللّه تعالى خلاف العجب من الآدميين،و نظيره قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ [آل عمران:54]و قوله:
سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79]و ما أشبهه،و في الّذي وقع منه العجب قولان:أحدهم كفرهم بالقرآن.و الثاني:إنكارهم البعث.
[925] فإن قيل:كيف مدح سبحانه نوحا عليه السلام بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:81]؛مع أن مرتبة الرّسل فوق مرتبة المؤمنين؟ قلنا:إنما مدحه بذلك تنبيها لنا على جلالة محل الإيمان و شرفه،و ترغيبا في تحصيله و الثّبات عليه و الإزدياد منه،كما قال تعالى،في مدح إبراهيم عليه السلام:
وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ [العنكبوت:27].
[926] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88]، و النظر إنما يعدّى بإلى،قال اللّه تعالى: وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] و قال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللّهِ [الروم:50].
قلنا:«في»هنا بمعنى إلى كما في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم:9].
الثاني:أن المراد به نظر الفكر لا نظر العين،و نظر الفكر إنما يعدّى بفي قال اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [الأعراف:185]،فصار المعنى ففكر في علم النجوم أو في حال النجوم.
[927] (1) فإن قيل:كيف استجاز إبراهيم عليه السلام أن يقول: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]و لم يكن سقيما؟ قلنا:معناه سأسقم،كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر:30]فهو من معاريض الكلام قاله ليتخلف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم فيكيد أصنامهم.و قال ابن الأنباري:أعلمه اللّه تعالى أنه يمتحنه بالسقم إذا طلع نجم كذا،فلما رآه علم أنه سيسقم.و قيل معناه:إنّي سقيم القلب عليكم إذ عبدتم الأصنام و تكهنتم بنجوم لاة.
ص: 270
تضر و لا تنفع.و قيل:إنه عرض له مرض و كان سقيما حقيقة.و قال الزمخشري:قد جوز بعض الناس الكذب في المكيدة في الحرب و التقية و إرضاء الزوج و الصلح بين المتخاصمين و المتهاجرين.قال:و الصحيح أن الكذب حرام إلا إذا عرّض و ورّى، و إبراهيم صلوات اللّه عليه عرّض بقوله و ورّى،فإنه أراد أن من في عنقه الموت سقيم،كما قيل في المثل:«كفى بالسلامة داء».و قال لبيد:
و دعوت ربي بالسّلامة جاهدا ليصحّني فإذا السلامة داء
و روي أن رجلا مات فجأة فاجتمع عليه الناس و قالوا مات و هو صحيح.فقال أعرابي:أ صحيح من الموت في عنقه؟ [928] فإن قيل:لم لا يجوز النظر في علم النجوم؛مع أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام قد نظر فيه و حكم منه؟ قلنا:إذا كان المنجّم كإبراهيم في أن اللّه تعالى أراه ملكوت السموات و الأرض أبيح له النظر في علم النجوم و الحكم منه.
[929] فإن قيل:قوله تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ [الصافات:
93،94]أي يسرعون،يدل على أنهم عرفوا أنه هو الكاسر لها،و قوله تعالى في سورة الأنبياء قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء:59]و ما بعده يدل على أنهم ما عرفوا أنه الكاسر لها،فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا:يجوز أن يكون الذي عرفه و زفّ إليه بعضهم،و الّذي جهله و سأل عنه بعض آخر،و يجوز أنّ الكلّ جهلوه و سألوا عنه،فلمّا عرفوا أنّه الكاسر لها زفوا إليه كلهم.
[930] فإن قيل:ما معنى قوله صلوات اللّه عليه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات:
99]؟ قلنا:معناه إلى حيث أمرني ربّى بالمهاجرة و هو الشام.و قيل:إلى طاعة ربي و رضاه.و قيل:إلى أرض ربّي؛و إنّما خصها بالإضافة إلى اللّه تعالى تشريفا لها و تفضيلا؛لأنها أرض مقدسة مبارك فيها للعلمين،كما في قوله تعالى: وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ [الجن:18]،و قوله تعالى: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63].
[931] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: سَيَهْدِينِ [الصافات:99]و هو كان مهتديا؟ قلنا:معناه:سيثبتني على ما أنا عليه من الهدى و يزيدني هدى.و قيل:معناه:
ص: 271
سيهدين إلى الجنة.و قيل:إلى الصواب في جميع أحوالي،و نظيره قول موسى عليه الصلاة و السلام: كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
[932] فإن قيل:كيف شاور إبراهيم ولده عليهما السلام في ذبحه بقوله:
فَانْظُرْ ما ذا تَرى [الصافات:102]مع أنه كان حتما على إبراهيم لأنه أمر به،لأن معنى قوله: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]أنه أمر بذبحه في المنام، و رؤيا الأنبياء حقّ فإذا رأوا شيئا من المنام فعلوه في اليقظة كذا قاله قتادة؛و الدّليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح قوله: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ [الصافات:102]؟ قلنا:لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك،و لكن ليعلم ما عنده من الصبر فيما نزل به من بلاء اللّه تعالى،فيثبت قدمه إن جزع،و يأمن عليه الزّلل إن صبر و سلّم، و ليعلم القصّة فيوطن نفسه على الذّبح،و يهونه عليها فيلقى البلاء و هو كالمستأنس به، و يكتسب الثواب بالانقياد و الصبر لأمر اللّه تعالى قبل نزوله،و ليكون سنة في المشاورة،فقد قيل:لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة لما فرط منه ذلك.
[933] فإن قيل:كيف قيل له: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105]و إنما يكون مصدقا لها لو وجد منه الذبح و لم يوجد؟ قلنا:معناه قد فعلت غاية ما في وسعك مما يفعله الذابح من إلقاء ولدك و إمرار الشفرة على حلقه؛و لكن اللّه تعالى منع الشفرة أن تقطع.و قيل:إن الذي رآه في المنام معالجة الذّبح فقط لا إراقة الدّم،و قد فعل ذلك في اليقظة فكان مصدّقا للرؤيا.
[934] (1) فإن قيل:أين جواب«لما»في قوله تعالى: فَلَمّا أَسْلَما ؟[الصافات:
103].
قلنا:قيل هو محذوف تقديره:استبشرا و اغتبطا و شكرا اللّه تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء؛أو تقديره:سعدا،أو أجزل ثوابهما.و قيل:الجواب هو قوله تعالى: نادَيْناهُ [الصافات:104]و الواو زائدة كما في قول امرئ القيس:
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ و انتحى بنا بطن خبت ذي خفاف عقنقل
أي فلما أجزنا ساحة الحيّ انتحى،كذا نقله ابن الأنباري في شرحه.
[935] فإن قيل:كيف قال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام كَذلِكَ نَجْزِيع.
ص: 272
اَلْمُحْسِنِينَ [الصافات:110]و في غيرها من القصص قبلها و بعدها إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:80].
قلنا:لما سبق في قصة إبراهيم عليه السلام مرة إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:80]طرحه في الثاني تخفيفا و اختصارا و اكتفاء بذكره مرة،بخلاف سائر القصص.
[936] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ [الصافات:133،143]و هو كان من المرسلين قبل زمان التنجية؟ قلنا:قوله: إِذْ نَجَّيْناهُ [الصافات:134]لا يتعلق بما قبله بل يتعلق بمحذوف تقديره:و اذكر لهم يا محمّد إذ نجيناه أو أنعمنا عليه إذ نجيناه،و كذا السؤال في قوله تعالى: وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات:139،140].
[937] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]و«أو»كلمة شك و الشك على اللّه محال؟ قلنا:قيل أو هنا بمعنى بل فلا شك،و قيل بمعنى الواو كما في قوله تعالى:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء:43]و قوله تعالى: عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات:6].
و قيل:معناه أو يزيدون في تقديركم،فلو رآهم أحد منكم لقال هم مائة ألف أو يزيدون،فالشك إنّما دخل في حكاية قول المخلوقين،و نظيره قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم:9].
[938] فإن قيل:ما فائدة تكرار الأمر بالتولية و الإبصار في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّى حِينٍ وَ أَبْصِرْهُمْ [الصافات:174،175]الآيات؟ قلنا:فائدته تأكيد التهديد و الوعيد.
[939] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَبْصِرْهُمْ [الصافات:175]ثم قال ثانيا:
وَ أَبْصِرْ [الصافات:179].
قلنا:طرح ضمير المفعول تخفيفا و اختصارا و اكتفاء بسبق ذكره مرّة،و قيل معنى الأول:و أبصرهم إذا نزل بهم العذاب،و معنى الثاني:و أبصر العذاب إذا نزل بهم، فلا فرق بينهما في المعنى.
ص: 273
[940] فإن قيل:أين جواب القسم في قوله تعالى: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]؟ قلنا:فيه وجوه:أحدها:أنه لما ذكر حرفا من حروف المعجم على سبيل التّحدي و التنبيه على الإعجاز كما قيل في كل سورة مفتتحة بحرف أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه،كأنه قال:و القرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز، و كذلك إذا كان الحرف مقسما به كأنه قال:أقسمت بص و القرآن ذي الذكر إن هذا الكلام معجز.
الثاني:أن ص خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم للسورة،كأنه قال هذه ص، يعني هذه السورة التي أعجزت العرب و القرآن ذي الذكر،كما تقول:هذا حاتم و اللّه، تريد هذا هو المشهور بالسخاء و اللّه.
الثالث:أن جواب القسم كم أهلكنا،و أصله لكم أهلكنا،فلمّا طال الكلام حذفت اللام تخفيفا،كما في قوله تعالى: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [الشمس:
1،9].
الرابع:أن قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ [ص:64]و هو قول الكسائي.و قال الفرّاء:و هذا لا يستقيم في العربية لتأخره جدا عن القسم.
[941] فإن قيل:ما وجه المناسبة و الارتباط بين قوله تعالى: اِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ و بين قوله تعالى: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ؟[ص:17].
قلنا:وجه المناسبة بينهما أنه أمر أن يتقوى على الصبر بذكر قوة داود عليه السلام على العبادة و الطاعة.
الثاني:أن المعنى عرفهم أن داود عليه السلام مع كرامته و شهرة طاعته و عبادته التي منها صوم يوم دون يوم،و قيام نصف الليل،كان شديد الخوف من عذابي،لا يزال باكيا مستغفرا.فكيف حال هؤلاء مع أفعالهم؟ [942] فإن قيل:كيف قال الملكان لما دخلا على داود عليه السلام خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص:22]و الملائكة لا يوجد منهم البغي و الظلم،و كيف قال:
ص: 274
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً [ص:23]إلى آخره،و لم يكن كما قال؟ قلنا:إنما قالا ذلك على سبيل الفرض و التصوير للمسألة،و مثل ذلك لا يعد كذبا كما تقول في تصوير المسائل،زيد له أربعون شاة و عمرو له أربعون و أنت تشير إليهما،فخلطاها و حال عليها الحول،كم يجب فيها و ليس لهما شيء،و تقول لي أربعون شاة و لك أربعون فخلطناها و ما لكم شيء.
[943] فإن قيل:كيف حكم داود عليه السلام على المدعى عليه بكونه ظالما قبل أن يسمع كلامه؟ قلنا:لم يحكم عليه إلا بعد اعترافه كذا نقله السدّي،إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة اختصارا لدلالة الحال عليه،كما تقول العرب:أمرته بالتجارة فكسب الأموال،أي فاتجر فكسب الأموال.
[944] (1) فإن قيل:ما معنى تكرار الحبّ في قوله عليه السلام: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص:32]و ما معنى تعديته بعن و ظاهره أحببت حبا مثل حب الخير،كما تقول أحببت حب زيد،أي أحببت حبا مثل حب زيد؟ قلنا:أحببت في الآية بمعنى آثرت،كما يقول المخيّر بين شيئين:أحببت هذا، أي آثرته،و قد جاء استحب بمعنى آثر،قال اللّه تعالى: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي آثروه:لأن من أحب شيئا فقد آثره على غيره،و عن بمعنى على كما في قوله تعالى: وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]فيصير المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربّي.
الثاني:و هو اختيار الجرجاني صاحب معاني القرآن أن أحببت بمعنى قعدت و تأخرت مأخوذ من أحب الجمل إذا برك،و منه قول الشاعر:
دعتك إليها مقلتاها و جيدها فملت كما مال المحب على عمد
فالمحب هنا الجمل،و العمد علة تكون في سنام الجمل،و كل من ترك شيئا و تجنب أن يفعله فقد قعد عنه،فتأويل الآية:إني قعدت عن ربي لحب الخير،فيكون انتصاب حب على أنه مفعول له.
[945] فإن قيل:كيف قال سليمان عليه السلام: وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْه.
ص: 275
بَعْدِي [ص:35]و هذا أشبه بالحسد و البخل بنعم اللّه تعالى على عبيده بما لا يضر سليمان عليه السلام؟ قلنا:قال الحسن و قتادة رحمهما اللّه:المراد به لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي كما فعله الشيطان الذي لبس خاتمه و جلس على كرسيه.
الثاني:أن اللّه تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك، فاقتضت حكمته تخصيصه به فألهمه أن يسأله تخصيصه به.
الثالث:أنه أراد بذلك ملكا عظيما فعبر عنه بتلك العبارة،و لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان:ما ليس لأحد مثله من الفضل أو من المال، و تريد بذلك عظم فضله أو ماله،و إن كان في الناس أمثاله.
[946] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً [ص:44]مع أن الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى على ما قيل،و هو قد شكا؟ قلنا:الشكوى إلى اللّه لا تنافي الصبر و لا تسمى جزعا،لما فيها من إظهار الخضوع و العبودية للّه تعالى و الافتقار إليه،و يؤيده قول يعقوب عليه السلام قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى [يوسف:86]مع قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18]و قولهم:
الصبر ترك الشكوى،يعني إلى العباد.
الثاني:أنه صلّى اللّه عليه و سلّم إنما طلب الشفاء من اللّه تعالى بعد ما لم يبق منه إلا قلبه و لسانه خيفة على قومه أن يفتنهم الشيطان بما كان يوسوس إليهم به و يقول إنه لو كان أيوب نبيا لما ابتلي بما هو فيه و لدعا اللّه تعالى بكشف ضره.و روي أنه عليه الصلاة و السلام قال في مناجاته:إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي،و لم يتبع قلبي بصري، و لم يلهني ما ملكت يميني،و لم آكل إلاّ و معي يتيم،و لم أبت شبعان و لا كاسيا و معي جائع أو عريان،فكشف اللّه تعالى ضره.
[947] فإن قيل:قوله تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]يدل على أن غاية لعنة اللّه لإبليس يوم القيامة ثم تنقطع؟ قلنا:كيف تنقطع و قد قال تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يعني يوم القيامة أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ [الأعراف:44]و إبليس أظلم الظلمة،و لكن مراده في الآية أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا،فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب ما تنسى عنده اللغة و كأنها انقطعت.
ص: 276
[948] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ [الزمر:3]،و كم من كاذب كفار قد هداه اللّه تعالى فأسلم و صدق؟ قلنا:معناه لا يهديه إلى الإيمان ما دام على كفره و كذبه.و قيل معناه:لا يهديه إلى حجة يلزم بها المؤمنين.
[949] فإن قيل:كيف يصلح قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر:4]،ردا لقول من ادّعى أن له ولدا و إبطالا لذلك؛مع أنه كل من نسب إليه ولدا قال إنه اصطفاه من خلقه بجعله ولدا،فاليهود يدّعون أنه عزير، و النصارى يدّعون أنه المسيح عليهما السلام،و طائفة من مشركي العرب يدّعون أن الملائكة بنات اللّه تعالى؟ قلنا:هذا إن جعل ردا على اليهود و النصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملائكة لا من البشر؛لأن الملائكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود و لا بين النصارى،و إن كان ردا على مشركي العرب كان معناه لاصطفى له ولدا من جنس يخلق كل شيء يريده،ليكون ولدا موصوفا لصفته،و لم يصطف من الملائكة الذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة و لا يرد على هذا خلق عيسى عليه السلام الطير؛لأنه ليس بعام.أو لأن معنى خلقه التقدير من الطين،ثم اللّه تعالى يخلقه حيوانا بنفخ عيسى عليه السلام و إظهارا لمعجزته.
[950] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزمر:6]و خلق حواء من آدم عليه السلام سابق على خلقنا منه،فكيف عطفه عليه بكلمة ثم؟ قلنا:ثم هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد،كما تقول لصاحبك أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر منه،أي ثم أخبرك بكذا،و منه قول الشاعر:
إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
ص: 277
الثاني:أن ثم متعلقة بمعنى واحدة و عاطفة عليه لا على خلقكم،فمعناه خلقكم من نفس واحدة،و أفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج.
الثالث:أن ثم على ظاهرها،لأن اللّه تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذر،و أخذ عليهم الميثاق ثم ردهم إلى ظهره ثم خلق منه حواء،فالمراد بقوله تعالى خلقكم خلقا يوم أخذ الميثاق دفعة واحدة؛لأنّ هذا الخلق الذي نحن فيه بالتوالد و التناسل.
[951] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر:
6]مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض لا منزلة من السماء؟ قلنا:قيل إن اللّه تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنة ثم أنزلها على آدم عليه السلام بعد إنزاله.
الثاني:أن اللّه تعالى أنزل الماء من السماء،و الأنعام لا توجد إلا بوجود النبات،و النبات لا يوجد إلا بوجود الماء،فكأن الأنعام منزلة من السماء،و نظيره قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف:26]،و إنما أنزل الماء الذي لا يوجد القطن و الكتان و الصوف إلا به.
[952] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف الذي جاء بالصدق و صدق به لِيُكَفِّرَ اللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر:
35]؛مع أنه سبحانه و تعالى يكفر عنهم سيئ أعمالهم و يجزيهم بحسنها أيضا؟ قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في سورة التّوبة.
[953] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر:44]؛مع أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء و العلماء و الشهداء و الأطفال شفاعة يوم القيامة؟ قلنا:معناه أن أحدا لا يملكها إلا بتمليكه،كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]و قال تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء:28].
[954] فإن قيل:كيف ذكر الضمير في أوتيته و هو للنعمة في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا و قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ؟[الزمر:49].
قلنا:إنما ذكره نظرا إلى المعنى؛لأن معنى نعمة شيئا من النعمة و قسما منها، أو لأن النعمة و الإنعام بمعنى واحد.
[955] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]و القرآن كله حسن؟ قلنا:معناه اتبعوا أحسن وحي أو كتاب أنزل إليكم من ربكم و هو القرآن كله.
ص: 278
و قيل:أحسن القرآن الآيات المحكمات.و قيل:أحسنه كلّ آية تضمنت أمرا بطاعة أو إحسان و قد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى: وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف:145]و الأجوبة المذكورة ثمّ تصلح هنا،و كذا الأجوبة المذكورة هنا تصلح ثمة إلا الجواب الأول.
[956] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الزمر:65]،مع أن الموحى إليهم جماعة،و لما أوحى إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟ قلنا:معناه و لقد أوحى إلى كل واحد منك و منهم لئن أشركت.
الثاني:أنّ فيه إضمارا تقديره:و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك التوحيد، ثم ابتدأ فقال لئن أشركت.
الثالث:أنّ فيه تقديما و تأخيرا تقديره:و لقد أوحي إليك لئن أشركت،و كذلك أوحي إلى الذين من قبلك.
[957] فإن قيل:كيف عبّر سبحانه عن الذّهاب بأهل الجنة و النار بلفظ السوق في قوله تعالى: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الزمر:71]الآيتين و فيه نوع إهانة؟ قلنا:المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان و العنف كما يفعل بالأسارى و الخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل،و المراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثّا و إسراعا بهم إلى دار الكرامة و الرضوان كما يفعل بمن يشرف و يكرم من الوافدين على السلطان،فشتان ما بين السوقين.
[958] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف النار فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر:71] بغير واو و قال:في صفة الجنة: وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر:75]بالواو؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنها زائدة قاله الفراء و غيره.
الثاني:أنها واو الثمانية و أبواب الجنة ثمانية.
الثالث:أنها واو الحال معناه:جاءوها و قد فتحت أبوابها قبل مجيئهم؛بخلاف أبواب النار،فإنها إنّما تفتح عند مجيئهم؛و الحكمة في ذلك من وجوه:
أحدها:أن يستعجل أهل الجنة الفرح و السرور إذا رأوا الأبواب مفتحة،و أهل النار يأتون النار و أبوابها مغلقة ليكون أشدّ لحرها.
الثاني:أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل و هوان،فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار.
الثالث:أن الكريم يعجل المثوبة و يؤخر العقوبة،فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثر انتظار فتحه في كمال الكريم؛بخلاف أهل النار.
ص: 279
[959] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4]،مع أن الذين آمنوا يجادلون أيضا فيها،هل هي منسوخة أم محكمة؟و هل فيها مجاز أم كلها حقيقة؟و هل هي مخلوقة أم قديمة و غير ذلك؟ قلنا:المراد الجدال فيها بالتكذيب و دفعها بالباطل و الطعن بقصد إدحاض الحق و إطفاء نور اللّه تعالى،و يدل عليه قوله تعالى عقيبه وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر:5].
[960] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى،في وصف حملة العرش: وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7]؛و لا يخفى على أحد أنّ حملة العرش يؤمنون باللّه تعالى؟ قلنا:فائدته إظهار شرف الإيمان و فضله و الترغيب فيه،كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالصلاح و الإيمان فى غير موضع من كتابه لذلك،و كما عقب أعمال الخير بقوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17].
[961] فإن قيل:في قوله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟ قلنا:هذا كما تقول:سبحان من صغر جسم البعوضة و كبر جسم الفيل،و كما تقول للحفار:ضيق فم الركية و وسع أسفلها،و ليس فيهما نقل من كبر إلى صغر و من صغر إلى كبر،و لا من سعة إلى ضيق و لا من ضيق إلى سعة،و إنما أردت الإنشاء على تلك الصفات،و السبب في صحته أن الصغر و الكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما،و كذلك الضيق و السعة،و إذا اختار الصانع أحد الجائزين و هو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر،فجعل صرفه عنه كنقله منه.
[962] فإن قيل:قوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16]بيان و تقرير لبروزهم في قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ [غافر:16]و اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء برزوا أو لم يبرزوا؟ قلنا:معناه لا يخفى على اللّه منهم شيء في اعتقادهم أيضا،فإنهم كانوا في الدنيا يتوهمون إذا تستروا بالحيطان و الحجب لا يراهم اللّه،و يؤيده قوله تعالى:
ص: 280
وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22].
[963] (1) فإن قيل:كيف قال المؤمن،في حقّ موسى عليه السلام: وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]؛مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول و في نفس الأمر أيضا،و يلزم من ذلك أنّ يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أن لفظة بعض صلة.
الثاني:أنها بمعنى«كل»كما في قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا
و منه قول لبيد:
أو لم تكن تدري نوار بأنني وصّال عقد حبائل جذّامها
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
قلنا:و لقائل أن يقول:إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها،و كنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه كأنه قال:أتركها إلى أن أموت،و كذا فسره ابن الأنباري.
على أن أبا عبيدة قال:إنّ بعض في الآية بمعنى كل؛و استدل ببيت لبيد،و أنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير.على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى، حكاية عن عيسى عليه السلام لأمته: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف:
63]،أن بعضا فيه بمعنى كل.
الثالث:أنها على أصلها.ثم في ذلك وجهان:خ.
ص: 281
أحدهما:أنه وعدهم النجاة إن آمنوا و الهلاك إن كفروا،فذكر لفظة بعض؛ لأنهم على إحدى الحالتين لا محالة.
الثاني:أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا و العذاب في الآخرة،و كان هلاكهم في الدّنيا بعضا،فمراده يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم.
الرابع:أنه ذكر البعض بطريق التنزل و التلطف و إمحاض النصيحة من غير مبالغة و لا تأكيد ليسمعوا منه و لا يتّهموه؛فيردّوا عليه،و ينسبوه إلى ميل و محاباة لموسى عليه السلام،كأنه قال:أقل ما يصيبكم البعض و فيه كفاية،و نظيره قول الشاعر:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته و قد يكون من المستعجل الزّلل
كأنه يقول أقل ما يكون في التأني إدراك بعض المطلوب،و أقل ما يكون في الاستعجال الزلل،فقد بان فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه و رده.و الوجه الرابع هو اختيار الزمخشري رحمة اللّه عليه.
[964] فإن قيل:التّولي و الإدبار واحد فما فائدة قوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ؟[غافر:33].
قلنا:هو تأكيد،كقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:26] و نظائره كثيرة.
الثاني:أنه استثارة لحميتهم و استجلاب لأنفتهم لما في لفظ«مدبرين»من التّعريض بذكر الدّبر،فيصير نظير قوله تعالى: وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45].
[965] فإن قيل:ما فائدة التكرار في قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غافر:36،37]و هلاّ قال:أبلغ أسباب السموات؟أي أبوابها و طرقها.
قلنا:إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه و تعظيما لمكانه،فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها.
[966] فإن قيل:مثل السيئة سيئة فما معنى قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها [غافر:40]؟ قلنا:معناه أن جزاء السيئة له حساب و تقدير لا يزيد على المقدار المستحق، فأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير حساب،كما قال تعالى في آخر الآية.
[967] فإن قيل:قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام:160] ينافي ذلك.
قلنا:ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة،كما قال اللّه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [يونس:26].
ص: 282
[968] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ [غافر:
49]و لم يقل:و قال الذين في النار لخزنتها مع أنّه أخصر؟ قلنا:لأنّ في ذكر جهنّم تهويلا و تفظيعا.و قيل:إن جهنّم هي أبعد النار قعرا، و خزنتها أعلى الملائكة الموكلين بالنّار مرتبة،فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدّعاء منهم لذلك.
[969] فإن قيل:كيف قال المشركون: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غافر:
74]؛مع قولهم: هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ [النحل:86].
قلنا:معناه أن الأصنام التي كنا نعبدها لم تكن شيئا؛لأنها لا تنفع و لا تضر.
الثاني:أنهم قالوا كذبا و جحودا كقولهم: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23].
[970] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر:80]و لم يقل:
و في الفلك تحملون،كما قال تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود:40]؟ قلنا:معنى الوعاء و معنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك؛لأنه وعاء لمن يكون فيه و حمولة لمن يستعليه،فلما صح المعنيان استقامت العبارتان معا.
ص: 283
[971] فإن قيل:ما فائدة زيادة«من»في قوله تعالى: وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:5]مع أن المعنى حاصل بقوله تعالى: بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:5]؟ قلنا:لو قيل كذلك لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين،و أما بزيادة من فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا و منك،فالمسافة المتوسطة بيننا و بينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
[972] فإن قيل:قوله تعالى: أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]إلى قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12]يدل على أن السموات و الأرض و ما بينهما خلقت في ثمانية أيام.و قال تعالى في سورة الفرقان: اَلَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ [الفرقان:59]فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا:معنى قوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ [فصلت:10]في تتمة أربعة أيام،لأنّ اليومين اللذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة،أو معناه كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض و ما ذكر بعدها فصار المجموع ستة،و هذا لا اختلاف فيه بين المفسرين.
[973] فإن قيل:السموات و ما فيها أعظم من الأرض و ما فيها بأضعاف مضاعفة فما الحكمة في أن اللّه خلق الأرض و ما فيها في أربعة أيام،و السموات و ما فيها في يومين؟ قلنا:لأن السموات و ما فيها من عالم الغيب و من عالم الملكوت و من عالم الأمر؛و الأرض و ما فيها من عالم الشهادة و الملك.و خلق الأول أسرع من الثاني، و وجه آخر و هو أنه فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج و التمهيل في الأرض و ما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة؛بل كان لمصالح لا تحصل إلا بذلك، و لهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام،و العالم الأصغر و هو الإنسان في ستة أشهر.
[974] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف أهل النار: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:24]مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار و جزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم.على كل حال،و لا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا،و لهذا قيل الصبر مفتاح الفرج،و قيل من صبر ظفر.
ص: 284
[974] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف أهل النار: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:24]مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار و جزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم.على كل حال،و لا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا،و لهذا قيل الصبر مفتاح الفرج،و قيل من صبر ظفر.
الثاني:أن هذا جواب لقول المشركين في حث بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص:86]فقال اللّه تعالى فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا فالنار مثوى لهم في العقبى.
[975] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف الكفار: وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:27]أي بأسوإ أعمالهم،مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟ قلنا:قد سبق نظير هذا السؤال في آخر سورة التوبة،و الجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا.
[976] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لا لِلْقَمَرِ [فصلت:37]بعد قوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ [فصلت:37]و هو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟ قلنا:فائدته ثبوت الحكم بأقوى الدليلين و هو النص،و اللّه أعلم.
ص: 285
[977] فإن قيل:كيف قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الشورى:
3]بلفظ المضارع،و الوحي إلى من قبل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ماض؟ قلنا:قال الزمخشري:قصد بلفظ المضارع كون ذلك عادة و سنة للّه تعالى، و هذا لا يوجد في لفظ الماضي.قلت:و يحتمل أن يكون باعتبار وضع المضارع موضع الماضي،كما في قوله تعالى: قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ [الجاثية:26]،أو بإضمار و أوحى إلى الذين من قبلك.
[978] فإن قيل:إلى ما ذا يرجع الضمير في قوله تعالى: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [الشورى:11]،أي يكثركم،و قيل يخلقكم،و قيل يعيشكم فيه؟ قلنا:معناه في هذا التدبير أو في الجعل المذكور،و قيل في الرّحم الذي دل عليه ذكر الأزواج.
[979] فإن قيل:كيف قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] و ظاهره يقتضي إثبات المثل و نفي مثل المثل،كما يقال:ليس كدار زيد دار.فإنه يقتضي وجود الدار لزيد؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أن المثل في لغة العرب كناية عن الذات،و منه قولهم:مثلي لا يقال له كذا،و مثلك لا يليق به كذا،فمعناه ليس كهو شيء.
الثاني:أن الكاف زائدة للتأكيد،و المعنى ليس كمثله شيء.
الثالث:أن مثل زائدة،فيصير المعنى ليس كهو شيء كما مر في الوجه الأول، و الفرق بين الوجهين أن المثل في الوجه الأول كناية عن الذات،و في الوجه الثالث زائد مطروح كأنه لم يذكر.
[980] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى:23]و لم يقل إلا مودة القربى:أي القرابة،أو إلا المودة للقربى.
قلنا:جعلوا محلاّ للمودة و مقرا لها للمبالغة،كأنه قال:إلا المودة الثابتة المستقرة في القربى،كما يقال،في آل فلان مودة،ولي فيهم هوى و حب شديد.
ص: 286
[981] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الشورى:29]و الدواب إنما هي في الأرض فقط؟ قلنا:فيهما بمعنى فيها،باعتبار إطلاق لفظ التثنية على المفرد كما في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ [الرحمن:55]و إنما يخرج من أحدهما و هو الملح.و قيل:إن الملائكة لهم دبيب مع طيرانهم أيضا و هم مبثوثون في السماء، و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الأنعام:38]فتقييده بالأرض يدل على وجود الدابة في غير الأرض من حيث المفهوم.
[982] فإن قيل:كيف قدم سبحانه و تعالى الإناث على الذكور في قوله تعالى:
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]مع تقدمهم عليهن،ثم رجع فقدمهم عليهن،و لم نكر الإناث و عرف الذكور؟ قلنا:إنما قدم الإناث لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمة ملكه و نفاذ مشيئته،و أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء عبيده،فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه عبيده أهم،و الأهم واجب التقديم،فلما قدمهن و أخر الذكور لذلك المعنى تدارك تأخيرهم،و هم أحقاء بالتقديم بتعريفهم؛لأن التعريف تنويه و تشهير،كأنه قال:
و يهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المشهورين الذين لا يخفون على أحد،ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم و التأخير،فعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن و لكن لمقتض آخر فقال تعالى: ذُكْراناً وَ إِناثاً [الشورى:50]كما قال تعالى: إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى [الحجرات:13]و قال: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة:
39].
[983] فإن قيل:قوله: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى:51]الآية؛كيف يقال إن اللّه تعالى كلم محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة المعراج مواجهة بغير حجاب و لا واسطة،و قد خص اللّه تعالى تكليمه للبشر في طريق الوحي و هو الإلهام،كما كلم أم موسى،و الإسماع من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام، و إرسال الرسول كما كلم الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام،و كما كلم الأمم بواسطة الرسل؟ قلنا:قيل المراد بالوحي الأول هنا الإشارة،و منه قولهم وحي العين و وحي الحاجب،أي إشارتهما،و منه قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا [مريم:11] فتكليمه لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة المعراج كان مواجهة بالإشارة.
[984] فإن قيل:قوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ [الشورى:
52]كيف كان لا يعلم الإيمان قبل أن يوحى إليه،و الإيمان هو التصديق بوجود
ص: 287
الصانع و توحيده،و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام كلهم كانوا مؤمنين باللّه قبل أن يوحى إليهم بأدلة عقولهم؟ قلنا:المراد بالإيمان هنا شرائع الإيمان و أحكامه،كالصّلاة و الصوم و نحوهما.
و قيل المراد به الكلمة التي بها دعوة الإيمان و التّوحيد و هي لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه،و الإيمان بهذا التفسير إنّما علمه بالوحي كما علم الكتاب و هو القرآن لا بالعقل.
ص: 288
[985] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف:3]و لم يقل قلناه أو أنزلناه،و القرآن ليس بمجعول،لأن الجعل هو الخلق،و منه قوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام:1]و قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى [القيامة:39]؟ قلنا:الجعل أيضا يأتي بمعنى القول،و منه قوله تعالى: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ [النحل:57]و قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً [إبراهيم:30]أي قالوا و وصفوا،لا أنهم خلقوا كذلك هنا.
[986] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف:45]و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ما لقيهم حتى يسألهم؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:و اسأل أتباع من،أو أمة من أرسلنا من قبلك.
الثاني:أنه مجاز عن النظر في أديانهم و البحث عن مللهم هل فيها ذلك.
الثالث:أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حشر له الأنبياء عليهم السلام ليلة المعراج،فلقيهم و أمّهم في مسجد بيت المقدس،فلما فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية و الأنبياء حاضرون،فقال:لا أسأل قد كفيت،و قيل إنه خطاب له و المراد به أمته.
[987] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الزخرف:48]يعني الآيات التسع التي جاء بها موسى صلّى اللّه عليه و سلّم،فإن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر ممّا سواها لزم أن يكون كل واحدة فاضلة و مفضولة.و إن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر من أخت معينة لها فأيتها هي الكبرى،و أيتها هي الصغرى؟ قلنا:المراد بذلك أنهن موصوفات بالكبرى لا يكدن يتفاوتن فيه،و نظيره بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
ص: 289
[988] فإن قيل:كيف قال عيسى عليه السلام لأمته: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف:63]؟ قلنا:كانوا يختلفون فيما يعنيهم من أمر الديانات و فيما لا يعنيهم من أمور أخرى،فكان يبين لهم الشرائع و الأحكام خاصة،و قيل:إن البعض هنا بمعنى الكل كما سبق في سورة المؤمن في قوله تعالى: وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28].
[989] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بعد قوله: بَغْتَةً [الزخرف:66]أي فجأة.
قلنا:فائدته أنها تأتيهم و هم غافلون مشغولون بأمور دنياهم،كما قال تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49]فلولا قوله: وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ جاز أن تأتيهم بغتة و هم فطنون حذرون مستعدون لها.
[990] فإن قيل:كيف وصف أهل النار فيها بكونهم مبلسين،و المبلس هو الآيس من الرحمة و الفرج،ثم قال تعالى: وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف:77] فطلبوا الفرج بالموت؟ قلنا:تلك أزمنة متطاولة و أحقاب ممتدة فتختلف فيها أحوالهم،فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون،و يشتد ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون.
[991] فإن قيل:قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف:
84]ظاهره يقتضي تعدد الآلهة،لأن النكرة إذا أعيدت تعددت كقوله:له عليّ درهم و درهم،و أنت طالق و طالق،و لهذا قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لن يغلب عسر يسرين؟ قلنا:الإله هنا بمعنى المعبود بالنقل،كما في قوله تعالى: وَ هُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ [الأنعام:3]فصار المعنى:و هو الذي في السماء معبود و في الأرض معبود،و المغايرة ثابتة بين معبوديته في السماء و معبوديته في الأرض؛لأن العبودية من الأمور الإضافية فيكفي في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض،مع أن المعبود واحد.
ص: 290
[992] فإن قيل:الخلاف بين النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و منكري البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت،فكيف قال تبارك و تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الْأُولى [الدخان:34،35]و لم يقل إلا حياتنا،كما قال تعالى في موضع آخر إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام:29]و ما معنى وصف الموتة بالأولى،كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها و جحدوها و أثبتوا الموتة الأولى؟ قلنا:لما وعدوا موتة تكون بعدها حياة نفوا ذلك،كأنهم قالوا لا تقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة إلا ما كنا فيه من موتة العدم و بعثنا منه إلى حياة الوجود.و قيل:إنهم نفوا بذلك الموتة الثانية في القبر بعد إحيائهم لسؤال منكر و نكير.
[993] فإن قيل:كيف قال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ [الدخان:84]و العذاب لا يصب،و إنما يصب الحميم كما قال في موضع آخر يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج:19] قلنا:هو استعارة ليكون الوعد أهول و أهيب،و نظيره قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ [الفجر:13]و قوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً [البقرة:250]،و قول الشاعر:
صبّت عليهم صروف الدّهر من صبب
[994] فإن قيل:كيف وعد اللّه أهل الجنة بلبس الإستبرق و هو غليظ الديباج في قوله تعالى: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ [الدخان:53]مع أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب و نقص؟ قلنا:كما أن رقيق ديباج الجنة و هو السندس لا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الاسم فقط،فكذلك غليظ ديباج الجنة.و قيل السندس لباس السادة من أهل الجنة، و الإستبرق لباس العبيد و الخدم إظهارا لتفاوت المراتب.
[995] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف أهل الجنة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:56]مع أن الموتة الأولى لم يذوقوها في الجنة؟
ص: 291
قلنا:قال الزّجاج و الفرّاء:إلاّ هنا بمعنى سوى،كما في قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ [النساء:22]،و قوله تعالى: إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود:107].
الثاني:أن إلا بمعنى بعد كما قال بعضهم في قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ [النساء:22].
الثالث:أن السعداء إذا حضرتهم الوفاة كشف لهم الغطاء و عرضت عليهم منازلهم و مقاماتهم في الجنة،و تلذذوا في حال النزع بروحها و ريحانها،فكأنهم ماتوا في الجنة،و هذا قول ابن قتيبة رحمه اللّه.
ص: 292
[996] فإن قيل:كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية:25،26]؟ قلنا:وجه المطابقة أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أن اللّه تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثم يميتهم،و من كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة، فيكون قادرا على إحياء آبائهم.
[997] فإن قيل:كيف أضاف الكتاب إلى الأمة و إليه في قوله تعالى: كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا [الجاثية:28]ثم قال: هذا كِتابُنا [الجاثية:29].
قلنا:الإضافة تصح بأدنى ملابسة و قد لابسهم الكتاب بكون أعمالهم مثبتة فيه، و لابسه بكونه مالكه و كونه آمرا لملائكته أن يكتبوا فيه أعمالهم.
ص: 293
[998] فإن قيل:كيف قال: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا [الأحقاف:
16]مع أن حسن ما عملوا يتقبل عنهم أيضا.
قلنا:أحسن بمعنى حسن،و قد سبق نظيره في سورة الروم.
[999] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف الفريقين: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا [الأحقاف:19]مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟ قلنا:الدرجات الطبقات من المراتب مطلقا من غير اختصاص.
الثاني:أن فيه إضمارا تقديره:و لكل فريق درجات أو دركات مما عملوا؛إلا أنه حذفه اختصارا لدلالة المذكور عليه.
[1000] فإن قيل:كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللّهِ [الأحقاف:22،23]؟ قلنا:طابقه من حيث أن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعدهم به بدليل قوله تعالى بعده بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الأحقاف:24]فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم؛بل اللّه تعالى هو العالم به وحده.
[1001] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف الريح: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف:25]و كم من شيء لم تدمره؟ قلنا:معناه تدمر كل شيء مرّت به من أموال قوم عاد و أملاكهم.
[1002] فإن قيل:كيف قال تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف:31] و لم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟ قلنا:لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد و نحوها.
ص: 294
[1003] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ [محمد:
3]،و لم يسبق ضرب مثل؟ قلنا:معناه كذلك يبين اللّه للناس أمثال حسنات المؤمنين و سيئات الكافرين، و قيل أراد به أنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار،و اتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين،أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار،و تكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.
[1004] فإن قيل:كيف قال تعالى في حقّ الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل اللّه سَيَهْدِيهِمْ [محمد:5]و الهداية إنما تكون قبل الموت لا بعد؟ قلنا:معناه سيهديهم إلى محاجة منكر و نكير.و قيل:سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.
[1005] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ [محمد:15]إلى قوله تعالى: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ [محمد:15]؟ قلنا:قال الفراء:معناه أ من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار.و قال غيره تقديره:مثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار،فحذف منه ذلك إيجازا و اختصارا.
[1006] فإن قيل:كيف قال تبارك و تعالى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ [محمد:19]،و هو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه و بعده؟ قلنا:معناه أثبت على ذلك العلم.و قال الزّجّاج:الخطاب له صلّى اللّه عليه و سلّم،و المراد أمته،كما ذكرنا في أول سورة الأحزاب.
ص: 295
[1007] فإن قيل:كيف جعل فتح مكّة علة للمغفرة،فقال تعالى: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ [الفتح:1،2]الآية.
قلنا:لم يجعله علة للمغفرة؛بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة،و هي المغفرة و إتمام النعمة و هداية الصراط المستقيم و النصر العزيز،و قبل الفتح لم يكن إتمام النعمة و النصر العزيز حاصلا،و إن كان الباقي حاصلا.و يجوز أن يكون فتح مكّة سببا للمغفرة،من حيث أنّه جهاد للعدو.
[1008] فإن قيل:قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [الفتح:2]،إن كان المراد بما تأخر ذنبا يتأخر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها، فكيف يغفر الذنب المعدوم،و إن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم فكيف سماه متأخرا.
قلنا:المراد بما تقدم قصة مارية،و بما تأخر قصة امرأة زيد.و قيل:المراد بما تقدم ما وجد منه،و بما تأخر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده،أو على طريق المبالغة كقولهم:فلان يضرب من يلقاه و من لا يلقاه؛بمعنى يضرب كل أحد،فكذا هنا معناه ليغفر لك اللّه كل ذنب:فالحاصل أن الذنب المتأخر متقدم على نزول الآية،و إن كان متأخرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله أو متأخرا عن نزولها و هو موعود بمغفرته،أو على طريق المبالغة كما بينا.
[1009] فإن قيل:ما معنى قوله: وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2]و هو مهدي إلى الصراط المستقيم،و مهدي به أمته أيضا؟ قلنا:معناه و يزيدك هدى،و قيل:و يثبتك على الهدى،و قيل:معناه و يهديك صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله.
[1010] فإن قيل:كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان و قد قال اللّه تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح:4]؟ قلنا:الإيمان الذي يقال إنه لا يقبل الزيادة و النقصان هو الإقرار بوجود اللّه تعالى، كما أن إلهيته لا تقبل الزيادة و النقصان،فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنه
ص: 296
يقبلهما،و هو في الآية بمعنى التصديق؛لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة و برد اليقين كلما نزلت فريضة و شريعة صدقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم.
[1011] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ أَهْلَها [الفتح:26]بعد قوله:
وَ كانُوا أَحَقَّ بِها [الفتح:26]؟ قلنا:الضمير في بها لكلمة التوحيد،و في أهلها للتقوى فلا تكرار.
[1012] فإن قيل:ما وجه تعليق الدخول بمشيئة اللّه تعالى في إخباره سبحانه و تعالى؛حتى قال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ [الفتح:27]؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أن«إن»بمعنى إذ،كما في قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].
الثاني:أنه استثناء من اللّه تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون.
الثالث:أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم،فإنّه رأى أنّ قائلا يقول له:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ [الفتح:27].
الرابع:أنّ الاستثناء متعلق بقوله تعالى: آمِنِينَ [الفتح:27]فأما الدخول فليس فيه تعليق.
[1013] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: لا تَخافُونَ [الفتح:27]بعد قوله:
آمِنِينَ ؟ قلنا:معناه آمنين في حال الدّخول لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.
[1014] فإن قيل:قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ [الفتح:29]تعليل لما ذا؟ قلنا:لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم و قوتهم كأنه قال:إنما كثّرهم و قوّاهم ليغيظ بهم الكفار.
[1015] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [الفتح:29]و كل أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم موصوفون بالإيمان و العمل الصالح و بغيرهما من الصفات الحميدة التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية فما معنى التبعيض هنا؟ قلنا:من هنا لبيان الجنس لا التبعيض كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج:30].
ص: 297
[1016] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ [الحجرات:1]و المراد به نهيهم أن يتقدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقول أو فعل،لا أن يقدموا غيرهم؟ قلنا:قدم هنا لازم بمعنى تقدم كما في قولهم بين و تبين،و فكر و تفكر،و وقف و توقف،و منه قول الشاعر:
إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
أي توقفوا،و قيل معناه:لا تقدموا فعلا قبل أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
[1017] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ [الحجرات:2]، بعد قوله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2].
قلنا:فائدته تحريم الجهر في مخاطبته صلّى اللّه عليه و سلّم باسمه نحو قولهم يا محمد و يا أحمد،فهو أمر لهم بتوقيره و تعظيمه صلّى اللّه عليه و سلّم في المخاطبة،و أن يقولوا يا رسول اللّه و يا نبي اللّه و نحو ذلك،و نظيره قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63].
[1018] فإن قيل:كيف قال: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات:2]،أي مخافة أن تحبط أعمالكم؛مع أن الأعمال إنما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي،و رفع الصوت في مجلس النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ليس بكفر؛كيف و قد روي أنّ الآية نزلت في أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما لما رفعا أصواتهما بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس و كان جهوري الصوت،فربما تأذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بصوته؟ قلنا:معناه لا تستخفوا به،فإن الاستخفاف به ربما أدى خطؤه إلى عمده،و عمده كفر يحبط العمل.و قيل:حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة و انحطاط المرتبة.
[1019] فإن قيل:ما وجه الارتباط و التعلق بين قوله تعالى: وَ لكِنَّ اللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات:7]و بين ما قبله؟
ص: 298
قلنا:معناه فاتركوا عبادة الجاهلية فإن اللّه تعالى لم يترككم عليها،و لكن اللّه حبب إليكم الإيمان.و قيل:معناه فتثبتوا في الأمور كما يليق بالإيمان،فإن اللّه حبب إليكم الإيمان.
[1020] فإن قيل:إن كان الفسوق و العصيان بمعنى واحد،فما فائدة الجمع بينهما،و إن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما المراد بالفسوق هنا الكذب،و بالعصيان بقية المعاصي،و إنما أفرد الكذب بالذكر،لأنه سبب نزول الآية.
[1021] فإن قيل:كيف يقال إن الإيمان و الإسلام بمعنى واحد،و اللّه سبحانه و تعالى يقول: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات:14].
قلنا:المنفي هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]يعني لم تصدقوا بقلوبكم وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي استسلمنا و انقدنا خوف السيف،و لا شك في الفرق بين الإيمان و الإسلام بهذا التفسير،و الذي يدعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد؛بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام.
[1022] فإن قيل:كيف يقال إن العمل ليس من الإيمان،و اللّه تعالى يقول:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:15]الآية؟ قلنا:معناه إنما المؤمنون إيمانا كاملا كما في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر:28]و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«المسلم من سلّم المسلمون من لسانه و يده».
و قولهم:الرّجل من يصبر على الشدائد.و يرد على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الأعراب نفس الإيمان الكامل،فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل؛بل نفس الإيمان.
ص: 299
[1023] فإن قيل:أين جواب القسم في قوله تعالى: ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه مضمر تقديره:إنهم مبعوثون بعد الموت.
الثاني:أن قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4]و اللام محذوفة لطول الكلام تقديره:لقد علمنا كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [الشمس:9].
الثالث:أنه قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق:18].
[1024] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ حَبَّ الْحَصِيدِ [ق:9]و أراد به الحب الحصيد فأضاف الشيء إلى نفسه و الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف و المضاف إليه؟ قلنا:معناه و حب الزرع الحصيد أو النبات الحصيد.
الثاني:أنّ إضافة الشيء إلى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين،كما في قوله تعالى: حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:95]و حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]و دار الآخرة و وَعْدَ الصِّدْقِ [الأحقاف:16].
[1025] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق:17]،و لم يقل قعيدان،و هو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ [ق:17]؟ قلنا:معناه عن اليمين قعيد و عن الشمال قعيد؛إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض و الرّأي مختلف
ص: 300
و قال آخر:
رماني بأمر كنت و والدي بريئا و من أجل الطّوي رماني
الثاني:أنّ فعيلا يستوي فيه الواحد و الاثنان و الجمع،قال اللّه تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]و قيل:إنما لم يقل قعيدان رعاية لفواصل السورة.
[1026] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: أَلْقِيا [ق:24]،و الخطاب لواحد،و هو مالك خازن النار؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:ما قاله المبرّد أنّ تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باتحادهما حكما،كأنه قال:ألق ألق؛و نظيره قول امرئ القيس:
*قفا نبك...
أي قف قف.
الثاني:أن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين،على ألسنتهم خطاب الاثنين فقالوا:خليلي و صاحبي وقفا و اسمدا و عوجا و نحو ذلك.قال الفراء:سمعت ذلك من العرب كثيرا.قال و أنشدني بعضهم:
فقلت لصاحبيّ لا تحبسانا بنزع أصوله و اجتزّ شيحا
فقال لا تحبسانا و الخطاب لواحد،بدليل قوله لصاحبيّ.قال:و أنشدني أبو ثور:
فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر و إن تدعاني أحم عرضا ممنّعا
و قال امرؤ القيس:
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب نقضي لبانات الفؤاد المعذّب
ثم قال:
أ لم تر أنّي كلّما جئت طارقا وجدت بها طيبا و إن لم تطيّب1.
ص: 301
الثالث:أنه أمر للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ [ق:21].
[1027] فإن قيل:كيف قال تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]،و لم يقل غير بعيدة و هو وصف للجنة؟ قلنا:لأنه على زنة المصادر كالزبير و الصليل،و المصادر يستوي في الوصف بها المذكر و المؤنث،أو على حذف الموصوف،أي مكانا غير بعيد،و كلا الجوابين للزمخشري رحمه اللّه تعالى.
[1028] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: غَيْرَ بَعِيدٍ بعد قوله: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق:31]بمعنى قربت؟ قلنا:فائدته التأكيد،كقولهم:هو قريب غير بعيد،و عزيز غير ذليل.
[1029] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37]،و كل إنسان له قلب؛بل كل حيوان؟ قلنا:المراد بالقلب هنا العقل،كذا قاله ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما.قال ابن قتيبة:لما كان القلب موضعا للعقل كنى به عن.
الثاني:أنّ المراد لمن كان له قلب واع؛لأن من لا يعي قلبه،فكأنّه لا قلب له؛و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ [الأعراف:179]الآية.
ص: 302
[1030] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذاريات:5]، و الصادق وصف القائل لا وصف الوعد؟ قلنا:قيل صادق بمعنى مصدوق ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة:21]و ماءٍ دافِقٍ [الطارق:6]و قيل معناه لصدق،فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم:
قمت قائما،و قولهم:لحقت بهم اللائمة،أي اللّوم.
[1031] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ [الذاريات:15] و المتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟ قلنا:معناه أنهم في الجنات و العيون الكثيرة محدقة بهم من كل ناحية و هم في مجموعها لا في كل عين،و نظيره قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ [القمر:54] لأنه بمعنى أنهار،إلا أنه عدل عنها رعاية للفواصل.
[1032] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الذاريات:37]أي في قرى قوم لوط،و قرى قوم لوط ليست موجودة،فكيف توجد فيها العلامة؟ قلنا:الضمير في قوله فيها عائد إلى تلك الناحية و البقعة لا إلى مدائن قوم لوط.
الثاني:أنه عائد إليها،و لكن«في»بمعنى من،كما في قوله تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [النحل:89]و قوله تعالى: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها [النساء:5]و يؤيد هذا الوجه مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ من في قوله تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:35]ثم قيل الآية آثار منازلهم الخربة.و قيل هي الحجارة التي أبقاها اللّه تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة.و قيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.
[1033] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات:
49]أي صنفين،مع أن العرش و الكرسي و القلم و اللوح لم يخلق منها إلا واحد؟ قلنا:قيل معناه و من كل حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى.و قيل معناه:و من كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل و النهار،و الصيف و الشتاء،و النور و الظلمة،و الخير و الشر،
ص: 303
و الحياة و الموت،و البحر و البر،و السماء و الأرض،و الشمس و القمر،و نحو ذلك.
[1034] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ [الذاريات:50]و قال سبحانه في موضع آخر وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]؟ قلنا:معنى قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ أي الجئوا إليه بالتوبة.و قيل معناه:ففروا من عقوبته إلى رحمته،و معنى قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه.و قال الزجاج:معنى نفسه إياه كأنه قال:و يحذركم اللّه إياه،كما قال سبحانه و تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]،أي إيّاه؛فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.
[1035] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]،و إذا قلنا،خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم؛فكيف أرادها منهم و لم توجد منهم؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه عام أريد به الخاص و هم المؤمنون؛بدليل خروج البعض منه بقوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و من خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة.
الثاني:أنه على عمومه،و المراد بالعبادة التوحيد،و قد وحده الكل يوم أخذ الميثاق،و هذا الجواب يختص بالإنس،لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم بالآية.و قيل معناه:إلا ليكونوا عبيدا لي.
و قيل:معناه إلا ليذلوا و يخضعوا و ينقادوا لما قضيته و قدّرته عليهم فلا يخرج عنه أحد منهم.
و قيل:معناه إلا ليعبدون إن اختاروا العبادة لا قسرا و إلجاء.
و قيل:إلا ليعبدون العبادة المرادة في قوله تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً [الرعد:15]و العموم ثابت في الوجوه الخمسة.
[1036] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، بعد قوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات:57]؟ قلنا:معناه ما أريد منهم من رزق لأنفسهم،و ما أريد أن يطعمون،أي أن يطعموا عبيدي؛و إنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة؛لأن الخلق عياله و عبيده، و من أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه،و يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح:«إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول،يوم القيامة:يا ابن آدم!استطعمتك فلم تطعمني»،أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.
ص: 304
[1037] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الطور:20]؛مع أنّ الحور العين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟ قلنا:معناه قرناهم بهنّ،من قولهم زوّجت إبلي،أي قرنت بعضها إلى بعض؛ و ليس من التزويج الذي هو عقد النكاح،و يؤيده أنّ ذلك لا يعدّى بالباء؛بل بنفسه، كما قال تعالى: زَوَّجْناكَها [الأحزاب:37].و يقال زوجه امرأة.و لا يقال بامرأة.
[1038] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى في وصف أهل الجنة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]أي مرهون في النار بعمله؟ قلنا:قال الزمخشري:كأن نفس كل عبد ترهن عند اللّه تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به،كما يرهن الرجل عبده بدين عليه،فإن عمل صالحا فكها و خلصها و إلا أوبقها.و قال غيره:هذه جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة،و يؤيده ما روي عن مقاتل أنه قال معناه:كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار،و المؤمن لا يكون مرتهنا لقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ [المدثر:38،39،40].
[1039] فإن قيل:كيف قال تعالى،في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ [الطور:29]و كل واحد غيره كذلك لا يكون كاهنا و لا مجنونا، بنعمة اللّه تعالى؟ قلنا:معناه فما أنت بحمد اللّه و إنعامه عليك بالصدق و النبوة بكاهن و لا مجنون كما يقول الكفار.و قيل:الباء هنا بمعنى مع،كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون:20]،و قوله تعالى: فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء:52].و يقال:أكلت الخبز بالتمر،أي معه.
[1040] فإن قيل:ما معنى الجمع في قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور:48]؟ قلنا:معناه التفخيم و التعظيم،و المراد بحيث نراك و نحفظك؛و نظيره في معنى العين قوله تعالى: وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه:39]؛و نظيره في الجمع للتفخيم و التعظيم قوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر:14]،و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس:71].
ص: 305
[1041] فإن قيل:الضلال و الغواية واحدة،فما فائدة قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى [النجم:2]؟ قلنا:قيل إن بينهما فرقا لأن الضلال ضد الهدى و الغي ضد الرشد و هما مختلفتان مع تقاربهما.و قيل معناه ما ضل في قوله و لا غوى في فعله،و لو ثبت اتحاد معناهما يكون من باب التأكيد باللفظ المخالف،مع اتحاد المعنى.
[1042] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم:9]، أدخل كلمة الشك،و الشك محال على اللّه تعالى؟ قلنا:أو هنا للتخيير لا للشك،كأنه قال سبحانه و تعالى:إن شئتم قدروا ذلك القرب بقاب قوسين،و إن شئتم قدروه بأدنى منهما.و قيل معناه:بل أدنى.و قيل هو خطاب لهم بما هو معهود بينهم.و قيل هو تشكيك لهم لئلاّ يعلموا قدر ذلك القرب، و نظيره قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147]و الكلام فيهما واحد.
[1043] فإن قيل:قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَ الْعُزّى وَ مَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم:
19،20]من رؤية القلب لا من رؤية البصر،فأين مفعولها الثاني؟ قلنا:هو محذوف تقديره:أ فرأيتموها بنات اللّه و أنداده،فإنهم كانوا يزعمون أن الملائكة و هذه الأصنام بنات اللّه عز و جل.
[1044] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: اَلثّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم:20]فوصف الثالثة بالأخرى و العرب إنما تصف بالأخرى الثانية لا الثالثة،فظاهر اللفظ يقتضي أن يكون قد سبق ثالثة أولى،ثم لحقتها الثالثة الأخرى فتكون ثالثتان؟ قلنا:الأخرى نعت للعزى،تقديره:أ فرأيتم اللات و العزى الأخرى و مناة الثالثة؛لأنها ثالثة الصنمين في الذكر؛و إنما أخّر الأخرى رعاية للفواصل،كما قال:
وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه:18]،و لم يقل أخر،رعاية للفواصل.
[1045] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم:28] أي لا يقوم مقام العلم،مع أنه يقوم مقام العلم في صورة القياس؟
ص: 306
قلنا:المراد به هنا الظن الحاصل من اتباع الهوى دون الظن الحاصل من النظر و الاستدلال،و يؤيده قوله تعالى قبل هذا إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23].
[1046] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [النجم:39] و قد صح في الأخبار وصول ثواب الصدقة و القراءة و الحج و غيرها إلى الميت؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:ما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى: وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]،معناه أنه أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء، قالوا و هذا لا يصح؛لأن الآيتين خبر و لا نسخ في الخبر.
الثاني:أنّ ذلك مخصوص بقوم إبراهيم و موسى عليهم الصلاة و السلام،و هو حكاية ما في صحفهم،فأمّا هذه الأمة فلها ما سعت و ما سعي لها.
الثالث:أنه على ظاهره،و لكن دعاء ولده و صديقه و قراءتهما و صدقتهما عنه من سعيه أيضا؛بواسطة اكتسابه للقرابة أو الصداقة أو المحبة من الناس بسبب التقوى و العمل الصالح.
[1047] فإن قيل:كيف قال تعالى بعد تعديد النقم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم:55]و الآلاء النعم؟ قلنا:إنما قال سبحانه بعد تعديد النعم و النقم،و النعم نعم لما فيها من الزّواجر و المواعظ فمعناه:فبأي نعم ربك الدالة على وحدانيته تشك يا وليد بن المغيرة؟
ص: 307
[1048] فإن قيل:ما فائدة إعادة التكذيب في قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [القمر:9]و هلاّ قال تعالى كذّبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟ قلنا:معناه كذبوا تكذيبا بعد تكذيب.و قيل:إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد،و الثاني بالرسالة.و قيل:التكذيب الأول منهم للّه تعالى،و الثاني لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.
[1049] فإن قيل:كيف قال تعالى في وصف ماء الأرض و السماء فَالْتَقَى الْماءُ [القمر:12]و لم يقل فالتقى الماءان؟ قلنا:أراد به جنس المياه.
[1050] فإن قيل:الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور،فكيف قال تعالى:
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ [القمر:14].
قلنا:جزاء مفعول له فمعناه:ففتحنا أبواب السماء و ما بعده مما كان يسبب إغراقهم جزاء للّه تعالى؛لأنه مكفور به،فحذف الجار و أوصل الفعل بنفسه،كقوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف:155].و الجزاء يضاف إلى الفاعل و إلى المفعول كسائر المصادر.
الثاني:أنه نوح عليه السلام إما لأنه مكفور به بحذف الجار كما مر من الكفر الذي هو ضد الإيمان،أو لأن كل نبي نعمة من اللّه على قومه،و منه قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:107]و قال رجل للرشيد:الحمد للّه عليك،فقال ما معنى هذا:فقال أنت نعمة حمدت اللّه عليها،فكأنه قال:جزاء لهذه النعمة المكفورة،و كفران النعمة يتعدى بنفسه قال اللّه تعالى: وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
الثالث:أن«من»بمعنى ما فمعناه:جزاء لما كان كفر من نعم اللّه تعالى على العموم.و قرأ قتادة كفر بالفتح،أي جزاء للكافرين.
[1051] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]،أي منقلع،و لم يقل منقعرة؟
ص: 308
قلنا:إنما ذكر الصفة؛لأن الموصوف،و هو النخل،مذكر اللفظ ليس فيه علامة تأنيث،فاعتبر اللفظ و في موضع آخر اعتبر المعنى و هو كونه جمعا فقال:
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة:7]و نظيرهما قوله تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:52-54]و قال أبو عبيدة:النخل يذكر و يؤنث، فجمع القرآن اللغتين.و قيل:إنّما ذكر رعاية للفواصل.
ص: 309
[1052] فإن قيل:أيّ مناسبة بين رفع السماء و وضع الميزان؛حتى قرن بينهما؟ قلنا:لما صدّر هذه السورة بتعديد نعمه سبحانه على عبيده،ذكر من جملتها وضع الميزان الذي به نظام العالم و قوامه؛لا سيما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين،و القرآن في قول،و كل ما تعرف به المقادير في قول،كالمكيال و الميزان و الذراع المعروف و نحوها.
[1053] فإن قيل:قوله تعالى: أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ [الرحمن:8]،أي لا تجاوزوا فيه العدل مغن عما بعده من الجملتين فما فائدتهما؟ قلنا:المراد بالطغيان فيه أخذ الزائد،و بالإخسار فيه إعطاء الناقص و أمر بالتّوسط الذي هو إقامة الوزن بالقسط؛و نهى عن الطرفين المذمومين.
[1054] فإن قيل:كيف قال تعالى هنا خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ [الرحمن:14]و هو الطين اليابس الذي لم يطبخ؛لكن له صلصلة،أي صوت إذا نقر،و قال تعالى،في موضع آخر: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26].و قال تعالى: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات:11].و قال تعالى: مِنْ تُرابٍ [الروم:20]؟ قلنا:الآيات كلها متفقة في المعنى؛لأنه تعالى خلقه من تراب ثم جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا.
[1055] فإن قيل:كيف قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17] فكرر ذكر الرب و لم يكرره في سورة المعارج بل أفرده فقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ [المعارج:40]و كذا في سورة المزمل رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ [المزمل:9] لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:9]؟ قلنا:إنما ذكر الرب تأكيدا،فكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين؛لأنه موضع الامتنان و تعديد النعم،و لأن الخطاب فيه مع جنسين و هما الإنس و الجن.
[1056] فإن قيل:بعض الجمل المذكورة في هذه السورة ليست من النعم كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن:26]و قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن:35]فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:13]؟ قلنا:من جملة الآلاء دفع البلاء و تأخير العقاب،فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة.و تأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة فلهذا امتن علينا بذلك.
ص: 310
[1056] فإن قيل:بعض الجمل المذكورة في هذه السورة ليست من النعم كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن:26]و قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن:35]فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن:13]؟ قلنا:من جملة الآلاء دفع البلاء و تأخير العقاب،فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة.و تأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة فلهذا امتن علينا بذلك.
[1057] فإن قيل:كيف قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن:31]، و اللّه تعالى لا يشغله شيء؟ قلنا:قال الزّجّاج:الفراغ في اللغة على ضربين:أحدهما الفراغ من شغل، و الآخر القصد للشيء و الإقبال عليه،و هو تهديد و وعيد،و منه قولهم:سأتفرغ لفلان، أي سأجعله قصدي؛فمعنى الآية سنقصد لعقابكم و عذابكم و حسابكم.
[1058] فإن قيل:كيف وعد سبحانه الخائف جنتين فقط؟ قلنا:لأن الخطاب للثقلين،فكأنه قيل لكل خائفين من الثقلين جنتان،جنة للخائف الإنسي،و جنة للخائف الجني.و قيل:المراد به أن لكل خائف جنتين،جنة لفعل الطاعات،و جنة لترك المعاصي.و قيل:جنة يثاب بها،و جنة يتفضل بها عليه زيادة لقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [يونس:26]أي الجنة و زيادة.
[1059] فإن قيل:كيف قال تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن:55]و لم يقل فيهما،و الضمير للجنتين؟ قلنا:الضمير لمجموع الآلاء المعدودة من الجنتين و العينين و الفاكهة و غيرهما مما سبق ذكره.و قيل:هو للجنتين،و إنما جمعه لاشتمال الجنتين على قصور و منازل.و قيل:الضمير للمنازل و القصور التي دلّ عليها ذكر الجنتين.و قيل:الضمير لمجموع الجنان التي دل عليها ذكر الجنتين.و قيل:الضمير عائد إلى الفرش،لأنها أقرب؛و على هذا القول«في»بمعنى على،كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور:38].
[1060] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن:56]أي لم يفتضهن،و نساء الدّنيا لا يفتضهن الجان،فما فائدة تخصيص الحور بذلك؟ قلنا:معناه أن تلك القاصرات الطرف إنسيات للإنس و جنيات للجن،فلم يطمث الإنسيات إنسي،و لا الجنيات جني،و هذه الآية دليل على أن الجن يواقعون كما يواقع الإنس.و قيل:فيها دليل على أن الجني يغشى الإنسية في الدّنيا.
ص: 311
[1061] فإن قيل:ما فائدة التكرار في قوله تعالى: وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ [الواقعة:10]؟ قلنا:فيه وجهان:
أحدهما:أنه تأكيد مقابل لما سبقه من التأكيد في فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الواقعة:8،9]؛كأنه قال تعالى:و السابقون هم المعروف حالهم المشهور وصفهم،و نظيره قول أبي النجم:
أنا أبو النجم و شعري شعري
الثاني:أن معناه:و السابقون إلى طاعة اللّه هم السابقون إلى جنته و كرامته.ثم قيل المراد بهم السابقون إلى الإيمان من كل أمة.و قيل الذين صلوا إلى القبلتين.
و قيل:أهل القرآن.و قيل:السابقون إلى المساجد إلى الخروج في سبيل اللّه.و قيل:
هم الأنبياء صلوات اللّه عليهم،فهذه خمسة أقوال.
[1062] فإن قيل:كيف قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة:17]؛مع أنّ التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة؛بل كل أهل الجنة مخلدون فيها لا يشيبون و لا يهرمون؛بل يبقى كل واحد أبدا على صفته التي دخل الجنة عليها؟ قلنا:معناه أنهم لا يتحولون عن شكل الوالدان و هي الوصافة.و قيل:
مقرطون.و قيل مسورون،و لا إشكال على هذين القولين.
[1063] فإن قيل:كيف قال تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:52-54]أنث ضمير الشجر ثم ذكّره؟ قلنا:قد سبق جوابه في سورة القمر.
[1064] فإن قيل:كيف قال تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ [الواقعة:57]، أي فهلاّ تصدقون؛مع أنهم مصدقون أنه خلقهم،بدليل قوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ [الزخرف:87].
قلنا:هم و إن كانوا مصدقين بألسنتهم إلا أنهم لما كان مذهبهم على خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذبون به.
ص: 312
الثاني:أنه تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت بالاستدلال بالخلق الأول،فكأنه قال تعالى:هو الذي خلقكم أوّلا باعترافكم،فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا،فهلا تصدقون بذلك.
[1065] فإن قيل:كيف قال تعالى،في الزرع: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الواقعة:65]باللام و قال تعالى في الماء: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الواقعة:70]بغير لام؟ قلنا:الأصل أن تذكر اللام في الموضعين،إذ لا بد منها في جواب«لو»إلا أنها حذفت في الثاني اختصارا،و هي مؤدية لدلالة الأولى عليها.
الثاني:أن أصل هذه اللام للتأكيد،فذكرت مع المطعوم دون المشروب،لأنّ المطعوم مقدم وجودا و رتبة،لأنه إنما لا يحتاج إلى الماء تبعا له،و لهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب،فلما كان الوعيد بفقد المطعوم أشد و أصعب أكد تلك الجملة مبالغة،في التهديد.
[1066] فإن قيل:التسبيح التنزيه عن السوء،فما معنى باسم في قوله تعالى:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]و هلاّ قال تعالى فسبح ربك العظيم؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أن الباء زائدة و الاسم بمعنى الذّات،فصار المعنى ما قلتم.
الثاني:أن الاسم بمعنى الذكر،فمعناه فسبح بذكر ربك.
الثالث:أن الذكر فيه مضمر،فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك.
الرابع:قال الضحّاك:معناه فصلّ باسم ربك،أي افتتح الصلاة بالتكبير.
[1067] فإن قيل:إذا كان القرآن صفة من صفات اللّه تعالى قديمة قائمة بذاته المقدسة،فكيف قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:77،78]أي اللوح المحفوظ أو المصحف على اختلاف القولين؟ قلنا:معناه مكتوب في كتاب مكنون،و لا يلزم من كتابة القرآن في الكتاب أن يكون القرآن حالا في الكتاب،كما لو كتب إنسان على كفه ألف دينار لا يلزم منه وجود ألف دينار في كفه،و كذا لو كتب في كفه العرش أو الكرسي،و كذا و كذا،قال تعالى في صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ [الأعراف:157].
الثاني:أن القرآن لو كان حالا في المصحف فإما أن يكون جميعه حالا في مصحف واحد،أو في كل مصحف،أو في بعضه،و لا سبيل إلى الأول،لأن المصاحف كلها سواء في الحكم في كتابته فيها؛و لأن البعض ليس أولى بذلك من
ص: 313
البعض،و لا سبيل إلى الثاني و إلا يلزم تعدد القرآن و أنه متحد،و لا سبيل إلى الثالث؛ لأنه كله مكتوب في كل مصحف،و لأن هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف،و كذا الباقي،فثبت أنه ليس حالا في شيء منها؛بل هو كلام اللّه تعالى و كلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه!! [1068] فإن قيل:فإذا لم تفارقه فكيف سماه تعالى منزلا و تنزيلا،و قال سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:93]و نظائره كثيرة،و إذا فارقه و باينه يكون مخلوقا،لأن كل مباين له فهو غيره،و كل ما هو غيره فهو مخلوق؟ قلنا:معنى إنزاله أنه سبحانه و تعالى علمه لجبريل فحفظه،و أمره أن يعلمه للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و يأمره أن يعلمه لأمته،مع أنه لم يزل و لا يزال صفة للّه تعالى قائمة به لا تفارقه!!
ص: 314
[1069] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [الحديد:8]ثم قال سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد:8]؟ قلنا:معناه إن كنتم مؤمنين بموسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام،فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
الثاني:إن كنتم مؤمنين بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام.
الثالث:أن معناه،أي عذر لكم في ترك الإيمان و الرسول يدعوكم إليه و يتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين و الحجج،و قد ركب اللّه تعالى فيكم العقول و نصب لكم الأدلة و مكنكم من النظر و أزاح عللكم،فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب ما،فإنّ هذا الموجب لا مزيد عليه.
[1070] فإن قيل:كيف قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ [الحديد:10]و لم يذكر مع من لا يستوي،و الاستواء لا يتم إلا بذكر اثنين،كقوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ [المائدة:100] لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر:200]؟ قلنا:هو محذوف تقديره:و من أنفق و قاتل من بعد الفتح،و إنّما حذف لدلالة ما بعده عليه.
[1071] فإن قيل:كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء درجة الصديقين،و اللّه تعالى قد حكم لكل مؤمن بكونه صدّيقا بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الحديد:19]؟ قلنا:قال ابن مسعود و مجاهد:كل مؤمن صديق.
الثاني:أن الصديق هو كثير الصدق،و هو الذي كل أقواله و أفعاله و أحواله صدق،فعلى هذا يكون المراد به بعض المؤمنين لا كلهم.و قد روي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام،و هم أبو بكر و عثمان و علي و حمزة بن عبد المطلب و طلحة و الزبير و سعد و زيد،و ألحق بهم عمر رضي اللّه عنهم فصاروا تسعة.
ص: 315
[1072] فإن قيل:كيف ذكر سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء و منهم من لم يقتل؟ قلنا:معناه أن لهم أجر الشهداء.
الثاني:أنه جمع شهيد بمعنى شاهد،فمعناه أنهم شاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان.
الثالث:أنه مبتدأ منقطع عما قبله لا معطوف عليه؛معناه:و الشّهداء عند ربهم لهم أجرهم و نورهم.
[1073] فإن قيل:كيف قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21] و المسابقة من المفاعلة التي لا تكون إلا بين اثنين كقولك:سابق زيد عمرا؟ قلنا:قيل معناه سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان،و يؤيد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في سورة آل عمران.و قيل:سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال التي توصلكم إلى الجنة.و قيل:سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره و خداعه عن ذلك.
[1074] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الحديد:21]و قال تعالى،في سورة آل عمران: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [النساء:133]فكيف يكون عرضها كعرض السماء الواحدة و كعرض السموات السبع؟ قلنا:المراد بالسماء جنس السموات لا سماء واحدة،كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين،فصار التشبيه في الآيتين بعرض السموات السبع و الأرضين السبع.
[1075] فإن قيل:كيف قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد:23]و لا أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن،و لا عند منفعة تناله أن لا يفرح،و ليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟ قلنا:ليس المراد بذلك الحزن و الفرح الذي لا ينفك عنه الإنسان بطبعه قسرا و قهرا؛بل المراد به الحزن المخرج لصاحبه إلى الذهول عن الصبر و التسليم لأمر اللّه تعالى و رجاء ثواب الصابرين،و الفرح المطغي الملهي عن الشكر،نعوذ باللّه منهما.
[1076] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ [الحديد:
25]،و الميزان لم ينزل من السماء؟ قلنا:قيل المراد بالميزان هنا العدل.و قيل العقل:و قيل السلسلة التي أنزلها اللّه تعالى على داود عليه السلام.و قيل:هو الميزان المعروف أنزله جبريل فدفعه إلى نوح عليه السلام و قال له:مر قومك يزنوا به.
ص: 316
[1077] فإن قيل:كيف قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28]؛مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قلنا:معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى و عيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فيكون خطابا لليهود و النصارى خاصة،و عليه الأكثرون.و قيل معناه:يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق اتقوا اللّه و آمنوا برسوله اليوم.و قيل معناه:يا أيها الذين آمنوا باللّه في العلانية باللسان اتقوا اللّه و آمنوا برسوله في السر بتصديق القلب.
ص: 317
[1078] فإن قيل:لأي معنى خصّ اللّه تعالى الثّلاثة و الخمسة بالذّكر في النجوى،دون غيرهما من الأعداد،في قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ [المجادلة:7]الآية؟ قلنا:لأنّ قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي على هذين العددين مغايظة للمؤمنين،فنزلت الآية على صفة حالهم تعريضا بهم و تسميعا لهم و زيد فيها ما يتناول كل متناجيين غير تلك الطائفتين،و هو قوله تعالى: وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ [المجادلة:7].
[1079] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]؟ قلنا:فائدته الإخبار عن المنافقين أنهم يحلفون على أنهم ما سبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه مع اليهود كاذبين متعمدين للكذب فهي اليمين الغموس،فكان ذلك نهاية في بيان ذمهم.
ص: 318
[1080] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9]و الإيمان ليس مكانا يتبوأ لأنّ معنى التبوء اتخاذ المكان منزلا؟ قلنا:فيه إضمار تقديره:و أخلصوا الإيمان،كقول الشاعر:
علفتها تبنا و ماء باردا
أي و سقيتها ماء باردا.
الثاني:أنّه على ظاهره بغير إضمار و لكنه مجاز،فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقرا و موطنا لتمكنهم منه و استقامتهم عليه،كما جعلوا دار الهجرة كذلك و هي المدينة.
[1081] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ [الحشر:12]بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم و حرف الشرط إنما يدخل على ما يحتمل وجوده و عدمه.
قلنا:معناه:و لئن نصروهم على الفرض و التقدير كقوله تعالى للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]و قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء:22]و اللّه تعالى كما يعلم ما يكون قبل كونه،فهو يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
[1082] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى للمؤمنين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ [الحشر:13]،أي في صدور المنافقين أو اليهود على اختلاف القولين، و ظاهره لأنتم أشدّ خوفا من اللّه؛فإن كان«من»متعلقا بأشد لزم ثبوت الخوف للّه
ص: 319
تعالى،كما تقول:زيد أشدّ خوفا في الدار من عمرو،و ذلك محال،و إن كان من اللّه متعلقا بالخوف فأين الذي فضل عليه المخاطبون،و أيضا فإن الآية تقتضي إثبات زيادة الخوف للمؤمنين؛و ليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟ قلنا:رهبة مصدر رهب مبنيا لما لم يسم فاعله،فكأنه قيل أشد مرهوبية،يعني أنكم في صدورهم أهيب من اللّه فيها،كذا فسره ابن عباس رضي اللّه عنهما،و نظيره قولك:زيد أشد ضربا في الدار من عمرو،يعني مضروبية.
[1083] فإن قيل:كيف يستقيم التفضيل بأشدية الرّهبة،مع أنّهم كانوا لا يرهبون اللّه،لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق و الكفر؟ قلنا:معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من اللّه التي يظهرونها لكم،و كانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من اللّه تعالى.
[1084] فإن قيل:كيف قال إبليس: إِنِّي أَخافُ اللّهَ [الحشر:16]و هو لا يخاف اللّه تعالى؛لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟ قلنا:قد سبق هذا السؤال و جوابه في سورة الأنفال.
[1085] فإن قيل:ما فائدة تنكير النفس و الغد في قوله تعالى: وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]؟ قلنا:أما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال:
و لتنظر نفس واحدة في ذلك،و أين تلك النفس.و أما تنكير الغد فلعظمته و إبهام أمره كأنه قال لغد لا يعرف كنهه لعظمه.
[1086] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: لِغَدٍ [الحشر:18]و أراد به يوم القيامة،و الغد عبارة عن يوم بينه و بيننا ليلة واحدة؟ قلنا:الغد له مفهومان:أحدهما ما ذكرتم.و الثاني مطلق الزمان المستقبل، و منه قول الشاعر:
و أعلم ما في اليوم و الأمس قبله و لكنّني عن علم ما في غد عمي
و أراد به مطلق الزّمان المستقبل،كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي؛فصار لكل واحد منهما مفهومان.و يؤيده أيضا قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس:
24]و قيل إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد تقريبا له كقوله تعالى: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ [القمر:1]و هو قوله تعالى: وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:5.
ص: 320
77]،و كأنه تعالى قال:إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم و بينه إلا ليلة واحدة، و لهذا روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّه قال:«اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة».قالوا أراد بتلك اللّيلة ليلة الموت.
[1087] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر:
21]الآية؟ قيل:معناه:أنه سبحانه لو جعل في جبل على قساوته تمييزا،كما جعل في الإنسان ثم أنزل عليه القرآن،لتشقق خشية من اللّه تعالى و خوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن.و المقصود توبيخ الإنسان على قسوة قلبه و قلة خشوعه عند تلاوة القرآن،و إعراضه عن تدبر قوارعه و زواجره.
[1088] فإن قيل:ما الفرق بين الخالق و البارئ حتى عطف تعالى أحدهما على الآخر؟ قلنا:الخالق هو المقدر لما يوجده،و البارئ هو المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة.و قيل:الخالق المبدئ و البارئ المعيد.
ص: 321
[1089] فإن قيل:من ما ذا استثنى قوله تعالى: إِلاّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ [الممتحنة:
4]؟ قلنا:من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة:4]،لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه و عن أتباعه و أشياعه ليقتدوا به و يتخذوه سنة يستنون بها،و استثنى سبحانه استغفاره لأبيه،لأنه كان عن موعدة وعدها إياه.
[1090] فإن قيل:فإن كان استغفاره لأبيه أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة،فكيف عطف عليه قوله: وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4]و هو لا يصح استثناؤه.أ لا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً [المائدة:
17]؟ قلنا:المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط،و ما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات اللّه عليه لا بقصد الاستثناء،كأنه قال:أنا أستغفر لك و ما في طاقتي إلا الاستغفار.
[1091] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:
12]،و معلوم أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا يأمر إلا بمعروف،فهلا اقتصر على قوله تعالى و لا يعصينك؟ قلنا:فائدته سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهن،لو وقعت،من غير توقف الفهم على المقدمة التي أوردتم في السؤال.
ص: 322
[1092] (1) فإن قيل:ما فائدة«قد»في قوله تعالى: وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]؟ قلنا:فائدتها التأكيد،كأنه قال:و تعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.
هذا جواب الزمخشري.و قال غيره:فائدتها التكثير،لأن قد مع الفعل المضارع تارة تأتي للتقليل كقولهم:إن الكذوب قد يصدق،و تارة تأتي للتكثير كقول الشاعر:
قد أعسف النازح المجهود معسفه في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم
و إنما يمتدح بما يكثر وجوده منه لا بما يقل.
[1093] فإن قيل:كيف قال عيسى عليه السلام: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]و لم يقل محمّد و محمّد أشهر أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قلنا:إنما قال أحمد،لأنه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمد، و إنما كان كذلك،لأن اسمه في السماء أحمد و في الأرض محمّد،فنزل في الإنجيل اسمه السماوي.و قيل:إن أحمد أبلغ في معنى الحمد من محمّد،من جهة كونه مبنيا على صيغة التفضيل.و قيل:محمد أبلغ من جهة كونه على صيغة التفضيل الذي هو للتكثير.
[1094] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف:
6]و لم يقل سبحانه هذه،و المشار إليه البينات و هي مؤنثة؟ قلنا:معناه هذا الذي جئت به،فالإشارة إلى المأتيّ به.
ص: 323
[1095] فإن قيل:ما وجه صحة التشبيه و ظاهره تشبيه كونهم أنصار اللّه بقول عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ [الصف:14]؟ قلنا:التشبيه محمول على المعنى تقديره:كونوا أنصار اللّه كما كان الحواريون أنصارا لعيسى عليه السلام حين قال لهم من أنصاري إلى اللّه.
ص: 324
[1096] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ [الجمعة:9]و السعي العدو،و العدو إلى صلاة الجمعة و إلى كلّ صلاة مكروه؟ قلنا:المراد بالسعي القصد.و قال الحسن:ليس هو السعى على الأقدام،و لكنّه على النيات و القلوب.و يؤيد قول الحسن قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [النجم:39]،و قول الدّاعي في دعاء القنوت:و إليك نسعى و نحفد،و ليس المراد به العدو و الإسراع بالقدم.
[1097] فإن قيل:كيف قال تعالى: اِنْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:11]و المذكور شيئان اللهو و التجارة؟ قلنا:قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:34]،و الذي يؤيده هنا ما قاله الزّجاج معناه:و إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه،فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.و قرأ ابن مسعود رضي اللّه عنه إليهما بضمير التثنية،و عليه فلا حذف.
ص: 325
[1098] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون:1]؟ قلنا:لو قال تعالى: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ ،و اللّه يشهد إنّهم لكاذبون [المنافقون:1]لكان يوهم أن قولهم هذا كذب،و ليس المراد أن شهادتهم هذه كذب؛بل المراد أنهم كاذبون في غير هذه الشهادة.و قال أكثر المفسرين:إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا و لم يعتقدوا أنه رسول اللّه بقلوبهم،فسماهم كاذبين لذلك،فعلى هذا يكون ذلك تأكيدا.
[1099] فإن قيل:المنافقون ما برحوا على الكفر،فكيف قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3].
قلنا:معناه ذلك الكذب الذي حكم عليهم به،أو ذلك الإخبار عنهم بأنهم ساء ما كانوا يعملون بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3]بقلوبهم فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المنافقون:3]كما قال تعالى في وصفهم وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة:14]الآية.
الثاني:أن المراد به أهل الرّدّة منهم.
[1100] فإن قيل:كيف قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4]و لم يقل هي العدو؟ قلنا:عليهم هو ثاني مفعولي يحسبون تقديره:يحسبون كل صيحة واقعة عليهم:أي لجبنهم و هلعهم،فالوقف على قوله تعالى عليهم و قوله سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4]ابتداء كلام.و قيل:إن المفعول الثاني هو قوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4]و لكن تقديره:يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدوّ، و الأول أظهر بدليل عدم نصب العدو.
ص: 326
[1101] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] قدم الكافر في الذكر؟ قلنا:الواو لا تعطي رتبة و لا تقتضي ترتيبا كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ [هود:105]و قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر:
20]و قال سبحانه: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر:
32]و قال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]و قد ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها.
[1102] فإن قيل:قوله تعالى: وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللّهُ [التغابن:6]،يوهم وجود التولي و الاستغناء معا بعد مجىء رسلهم إليهم؛و اللّه تعالى لم يزل غنيا؟ قلنا:معناه و ظهر استغناء اللّه تعالى عن إيمانهم و عبادتهم؛حيث لم يلجئهم إلى الإيمان و لم يضطرهم إليه؛مع قدرته تعالى على ذلك.
[1103] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]مع أن الهداية سابقة على الإيمان،لأنه لو لا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟ قلنا:ليس المراد يهد قلبه للإيمان،بل المراد يهد قلبه لليقين عند نزول المصائب،فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه،و ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
الثاني:يهد قلبه للرضا و التسليم عند نزول المصائب.
الثالث:يهد قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب،و هو أن يقول: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» .
الرابع:يهد قلبه،أي يجعله ممن إذا ابتلي صبر،و إذا أنعم عليه شكر،و إذا ظلم غفر.
الخامس:يهد قلبه لاتّباع السنة إذا صح إيمانه،و قرئ يهدأ بفتح الدال و بالهمز من الهدوّ و هو السكون،فمعناه:و من يؤمن باللّه إيمانا خالصا يسكن قلبه و يطمئن عند نزول المصائب و المحن و لا يجزع و يقلق.
ص: 327
[1104] فإن قيل:كيف قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق:1].
أفرد الخطاب أوّلا،ثم جمعه ثانيا؟ قلنا:أفرد سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أوّلا بالخطاب؛لأنّه إمام أمته و قدوتهم،إظهارا لتقدمه و رئاسته؛و أنه وحده في حكم كلهم و سادّ مسدّ جميعهم.
الثاني:أنّ معناه:يا أيها النبيّ قل لأمتك إذا طلقتم النساء.
[1105] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2،3]،و نحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيقا عليهم رزقهم؟ قلنا:معناه يجعل له مخلصا من هموم الدنيا و الآخرة.و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:
مخرجا من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و من شدائد يوم القيامة.و قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:ينجيه من كلّ كرب في الدّنيا و الآخرة.و الصحيح أنّ هذه الآية عامة،و أن اللّه يجعل لكلّ متّق مخرج من كلّ ما يضيق على من لا يتقي؛و لهذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَ مَنْ يَتَّقِ [الطلاق:2]و جعل يقرؤها و يعيدها».و أما تضييق رزق الأتقياء فهو،مع ضيقه و قلته،يأتيهم من حيث لا يأملون و لا يرجون؛و تقليله لطف بهم و رحمة ليتوفر حظهم في الآخرة و يخف حسابهم،و لتقل عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم،و لا يشغلهم الرخاء و السعة عما خلقوا له من الطاعة و العبادة،و لهذا اختار الأنبياء و الأولياء و الصديقون الفقر على الغنى.
[1106] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:
3]،أي من يتق به فيما نابه كفاه اللّه شر ما أهمه.و قد رأينا كثيرا من الناس يتوكل على اللّه في بعض أمورهم و حوائجهم و لا يكفيهم اللّه تعالى همها؟ قلنا:محال أنه يتوكل على اللّه حقّ التوكل و لا يكفيه همه؛بل ربما قلق و ضجر و استبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا ففسد توكّله،و إليه الإشارة بقوله تعالى:
إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق:3]،أي نافذ حكمه،يبلغ ما يريده و لا يفوته مراد و لا يعجزه مطلوب،و بقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3]،أي جعل
ص: 328
لكلّ شيء من الفقر و الغنى و المرض و الصحة و الشّدة و الرخاء و نحو ذلك أجلا و منتهى ينتهي إليه لا يتقدم عنه و لا يتأخر.
[1107] فإن قيل:قوله تعالى: وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]علقه بشكنا،مع أن عدتهن ذلك سواء وجد شكنا أم لا؟ قلنا:المراد بالشك الجهل بمقدار عدة الآيسة و الصغيرة،و إنما علقه به؛لأنه لمّا نزل بيان عدة ذوات الأقراء في سورة البقرة قال بعض الصحابة رضي اللّه عنهم:
قد بقي الكبار و الصغار لا ندري كم عدتهن،فنزلت هذه الآية على هذا السبب، فلذلك جاءت مقيدة بالشك و الجهل.
[1108] فإن قيل:إذا كانت المطلقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة عند بعض العلماء،فما فائدة قوله تعالى: وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]،عند ذلك القاتل؟ قلنا:فائدته أن لا يتوهم أنه إذا طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى مضت مدة عدة الحامل سقطت النفقة،فنفى هذا الوهم بقوله: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
[1109] فإن قيل:كيف قال هنا آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7] و قال تعالى في موضع آخر: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6]فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا:المراد بقوله تعالى «مَعَ» بعده؛لأن الضدين لا يجتمعان.
[1110] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطلاق:8]،فنسب العتوّ إليها،و قال تعالى: فَحاسَبْناها وَ عَذَّبْناها [الطلاق:8]،بلفظ الماضي؛مع أن الحساب و العذاب المرتبين على العتو إنما هما في الآخرة لا في الدنيا؟ قلنا:معناه عتا أهلها،و إنما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له و تقريرا،لأن المنتظر من وعد اللّه تعالى و وعيده آت لا محالة،و ما هو كائن فكأنه قد حصل، و نظيره قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ النّارِ [الأعراف:50]،و ما أشبهه.ر.
ص: 329
[1111] فإن قيل:قوله تعالى: وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم:4]إن كان المراد به الفرد،فأي فرد هو؛و أيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم جمع؛و إن كان المراد به الجمع فهلا كان مكتوبا في المصحف بالواو؟ قلنا:هو فرد أريد به الجمع كقولك:لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس،تريد به الجنس كقولك:لا يفعله من صلح منهم،و قوله تعالى: *إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج:19]و قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]و قوله تعالى: وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة:17]و قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً [غافر:67].و نظائره كثيرة.
الثاني:أنه يجوز أن يكون جمعا،و لكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط.
[1112] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]؛ و لم يقل ظهراء،و هو خبر عن الجمع،و هم الملائكة؟ قلنا:هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق.
الثاني:اسم على وزن المصدر كالزميل و الدبيب و الصليل،فيستوي فيه الفرد و التثنية و الجمع.
الثالث:أن فعيلا يستوي فيه الواحد و الاثنان و الجمع بدليل قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق:17].
[1113] فإن قيل:قوله تعالى بَعْدَ ذلِكَ [التحريم:4]تعظيم للملائكة و مظاهرتهم، و قد تقدمت نصرة اللّه تعالى و جبريل و صالح المؤمنين،و نصرة اللّه سبحانه أعظم؟ قلنا:مظاهرة الملائكة من جملة نصرة اللّه تعالى،فكأنه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم و شرفهم،و لا شك أن نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده أو بصالح المؤمنين.
[1114] فإن قيل:كيف قال تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [التحريم:5]إلى آخر الآية،فأثبت الخيرية لهن باتصافهن بهذه الصفات،و إنما تثبت لهن الخيرية بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هي ثابتة فيهن؟
ص: 330
قلنا:المراد به خيرا منكن في حفظ قلبه و متابعة رضاه،مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكن و بينهن.
[1115] فإن قيل:كيف أخليت الصفات كلها عن الواو و أثبتت بين الثيبات و الأبكار؟ قلنا:لأنهما صفتان متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات،فلم يكن بدّ من الواو،و من جعلها واو الثمانية فقد سها؛لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه.
[1116] فإن قيل:هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح،و أيّ مدح في كونهن ثيبات؟ قلنا:التثييب مدح من وجه،فإن الثيّب أقبل للميل بالنقل،و أكثر تجربة و عقلا، و البكارة مدح من وجه فإنها أطهر و أطيب و أكثر مراغبة و ملاعبة.
[1117] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]؛ بعد قوله سبحانه: لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ [التحريم:6]؟ قلنا:قيل المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات و الطاعات،و بالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار.و قيل:هو تأكيد.
[1118] فإن قيل:كيف قال تعالى: تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]و لم يقل توبة نصوحة؟ قلنا:لأنّ فعولا من أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور و الإناث، كقولهم:امرأة صبور و شكور و نحوهما.
[1119] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: مِنْ عِبادِنا ؛بعد قوله تعالى:
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ [التحريم:10].
قلنا:فائدته مدحهما و الثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف و التخصيص، كما في قوله تعالى: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان:63]،و قوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبادِي [الفجر:29].و هو مبالغة في المعنى المقصود.و هو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره؛و إن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح و القرب من اللّه تعالى.
[1120] فإن قيل:و كيف قال تعالى: وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم:12]و لم يقل سبحانه من القانتات؟ قلنا:معناه كانت من القوم القانتين،أي المطيعين للّه تعالى،يعني رهطها و أهلها،فكأنه تعالى قال:و كانت من بنات الصالحين.و قيل:إن اللّه تعالى لما تقبلها في النذر و أعطاها مرتبة الذّكور الذين كان لا يصلح النذر إلا بهم،عاملها معاملة الذكور في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك،و قال تعالى: وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ [آل عمران:43]،و قال تعالى: وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم:12]،أو رعاية للفواصل.
ص: 331
[1121] فإن قيل:ما فائدة تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ ؟[الملك:2].
قلنا:إنما قدم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أوّلا.قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:أراد به خلق الموت في الدنيا و الحياة في الآخرة،و لو سلّم أن المراد به الحياة في الدنيا فالموت سابق عليها لقوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].
[1122] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك:
3]؛مع أن في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما،فإن الأضداد كلها من خلقه عز و جل و هي متفاوتة؛و السموات أيضا متفاوتة في الصغر و الكبر و الارتفاع و الانخفاض و غير ذلك؟ قلنا:المراد بالتفاوت هنا الخلل و العيب و النقصان في مخلوقه تعالى الذي هو السموات،و يؤيده قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك:3]،أي من شقوق و صدوع في السماء.
[1123] فإن قيل:كيف قال تعالى: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك:16]،و اللّه سبحانه و تعالى ليس في السماء و لا في غير السماء؛بل هو سبحانه منزه عن كل مكان؟ قلنا:من ملكوته في السماء؛لأنّها مسكن ملائكته،و محل عرشه و كرسيه و اللوح المحفوظ،و منها تنزل أقضيته و كتبه و أوامره و نواهيه.
الثاني:أنهم كانوا يعتقدون التشبيه،و أنه سبحانه و تعالى في السماء،فخوطبوا على حسب اعتقادهم.
ص: 332
[1124] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا يَسْتَثْنُونَ [القلم:18]أي و لا يقولون إن شاء اللّه فسمّى الشرط استثناء؟ قلنا:إنما سماه استثناء لأنه في معناه،فإن معنى قولك لأخرجن إن شاء اللّه، و لا أخرج إلا أن يشاء اللّه واحد.و قال عكرمة:المراد به حقيقة الاستثناء:أي أنهم لا يستثنون حقّ المساكين.و الجمهور على الأول.
[1125] فإن قيل:كيف سمّى أوسطهم الاستثناء تسبيحا فقال: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ [القلم:28]،أي لو لا تستثنون؟ قلنا:إنما سماه تسبيحا لاشتراكهما في معنى التعظيم؛لأن الاستثناء تفويض إليه و إقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئته،و التسبيح تنزيه له عن السوء.
الثاني:أنه كان استثناؤهم قول سبحان اللّه.
الثالث:أنّ معناه لو لا تنزهون أنفسكم و أموالكم عن حقّ الفقراء.
[1126] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [القلم:43]و لا تكليف في الدار الآخرة؟ قلنا:لا يدعون إليه تكليفا و تعبّدا،و لكن توبيخا و تعنيفا على تركه في الدنيا.
[1127] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [القلم:43]، و هم إنّما كانوا يدعون إلى الصلاة،فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان المؤذن،حين يقول حي على الصلاة؟ قلنا:عبر سبحانه عن الصلاة بالسجود لأنه من أركانها،بل هو أعظم الأركان و غايتها،كما عبر عنها بالركوع و بالقرآن.
[1128] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ هُمْ سالِمُونَ [القلم:43]أي صحيحون، مع أن الصحة ليست شرطا لوجوب الصلاة؟ قلنا:وجوب الخروج إلى الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة و هو المراد.
ص: 333
[1129] فإن قيل:كيف قال تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة:6]؛و لم يقل صرصرة،كما قال تعالى: عاتِيَةٍ [الحاقة:6]،و هو صفة لمؤنث؛لأنها الشديدة الصوت،أو الشديدة البرد؟ قلنا:لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها،فأشبه باب حائض و طامث و حامل،بخلاف عاتية فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.
[1130] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الحاقة:7]،أي في تلك الليالي و الأيام،و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ما رآهم و لا يراهم فيها؟ قلنا:فيها ظرف لقوله تعالى صَرْعى ،لا لقوله تعالى فَتَرَى ،و الرؤية هنا من رؤية العلم و الاعتبار،فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالي و الأيام بإعلامنا حتى كأنك تشاهدهم.
[1131] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة:13] إلى قوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:18]،و المراد بها هنا النفخة الأولى، و هي نفخة الصعق؛بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلوي و السفلي،و العرض إنما يكون بعد النفخة الثانية،و بين النفختين من الزمان ما شاء اللّه تعالى فكيف قال سبحانه يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:18].
قلنا:وضع اليوم موضع الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان و ما بعدهما.
[1132] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة:20]؟ قلنا:معناه تيقنت.و الظنّ يطلق بمعنى اليقين،كما في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة:46].
[1133] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف أهل النار: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَ لا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:35،36].و قال سبحانه،في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]،و في موضع آخر: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43،44]،و في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:51-53]،و في موضع آخر: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ [البقرة:174].
ص: 334
[1133] فإن قيل:كيف قال تعالى،في وصف أهل النار: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَ لا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:35،36].و قال سبحانه،في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]،و في موضع آخر: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43،44]،و في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:51-53]،و في موضع آخر: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ [البقرة:174].
قلنا:معناه إلا من غسلين و ما أشبهه،أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه.
الثاني:أن العذاب ألوان و المعذبون طبقات؛فمنهم أكلة الزقوم،و منهم أكلة الغسلين،و منهم أكلة الضريع،لكل باب منهم جزء مقسوم.
[1134] فإن قيل:كيف قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]،يعني أن القرآن قول جبريل عليه السلام؛مع أنه قول اللّه تعالى لا قول جبريل؟ قلنا:معناه،عند الأكثرين،أن المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و المعنى أنه يقوله و يتكلم به على وجه الرّسالة من عند اللّه،لا من تلقاء نفسه،كما تزعمون.
[1135] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة:47]؛ فوصف الفرد بالجمع؟ قلنا:قد سبق مثل هذا السؤال و جوابه في آخر سورة البقرة.
ص: 335
[1136] فإن قيل:كيف قال تعالى: *إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج:
19]؛و يفسره ما بعده و الإنسان في حال خلقه ما كان موصوفا بهذه الصفات؟ قلنا:هلوعا حال مقدرة.فالمعنى مقدرا فيه الهلع كما في قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ [الفتح:27]،و هم ليسوا محلقين حال الدخول.
[1137] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى أوّلا: اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج:
23]،ثم قال تعالى ثانيا: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج:34]؛فهل بينهما فرق؟ قلنا:المراد بالدوام المواظبة و الملازمة أبدا.و قيل:المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يمينا و لا شمالا؛و اختاره الزجاج،و قال:اشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن،كما جاء في الحديث:«أنه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن البول في الماء الدّائم».قلت:
و قوله«على»ينفي هذا المعنى؛فإنّه لا يقال هو على صلاته ساكن؛بل يقال:هو في صلاته ساكن.و المراد بالمحافظة عليها أداؤها على أكمل وجوهها،جامعة لجملة سننها و آدابها؛فالدّوام يرجع إلى نفس الصلاة،و المحافظة إلى أحوالها.
ص: 336
[1138] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:4]،فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدر لهم في الأزل فهو محال،لقوله تعالى:
وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون:11]،و قوله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ [نوح:4]،و إن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل،فما فائدة تخصيصهم بهذا و هم و غيرهم في ذلك سواء،على تقدير وجود الإيمان منهم و عدم وجوده؟ قلنا:معناه و يؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان،فلا يعذّبكم في الدنيا،كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها.
الثاني:أنه سبحانه قضى أنهم إن آمنوا عمرهم ألف سنة،و إن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة،فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل.
[1139] فإن قيل:كيف أمرهم بالاستغفار،و الاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟ قلنا:معناه استغفروا ربكم من الشرك بالتوحيد.
[1140] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:17]، و الحيوان ضد النبات،فكيف يطلق على الحيوان أنه نبات؟ قلنا:هو استعارة للإنشاء و الإخراج من الأرض بواسطة آدم عليه السلام.
[1141] فإن قيل:كيف دعا نوح عليه السلام على قومه بقوله: وَ لا تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً [نوح:24]؛مع أنه أرسل ليهديهم و يرشدهم؟ قلنا:إنما دعا عليهم بذلك بعد ما أعلمه اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون.
[1142] فإن قيل:كيف قال نوح: وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً [نوح:27] وصفهم بالفجور و الكفر في حال ولادتهم و هم أطفال،و كيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا؟ قلنا:إنهم لا يلدون إلا من يفجر و يكفر إذا بلغ،و إنما علم ذلك بإعلام اللّه تعالى،أو وصفهم بما يئولون إليه من الفجور و الكفر؛و علم ذلك بإعلام اللّه إيّاه.
ص: 337
[1143] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ أَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللّهِ [الجن:19]،و لم يقل سبحانه رسول اللّه أو نبيّ اللّه،و المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قلنا:لأنه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم؛بل اتفق مرورهم به و جوازهم عليه؛فلو قال تعالى رسول اللّه أو نبي اللّه لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة إليهم.
[1144] فإن قيل:كيف قال تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [الجن:25]مع أن الأمد اسم للغاية،و الغاية تكون زمانا قريبا و زمانا بعيدا، و يؤيده قوله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].
قلنا:أراد بالقريب الحال،و بالمجعول له الأمد المؤجل؛سواء كان الأجل قريبا أو بعيدا.
ص: 338
[1145] فإن قيل:ما معنى وصف القرآن بالثقل في قوله تعالى: إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].
قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه كان يثقل نزول الوحي على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،حتى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي.
الثاني:أن العمل بما فيه من التكاليف ثقيل شاق.
الثالث:ثقيل في الميزان يوم القيامة.
الرابع:أنّه ثقيل على المنافقين.
الخامس:أنه كلام له وزن و رجحان،كما يقال للرجل العاقل:رزين راجح.
السادس:أنّه ليس بسفساف؛لأنّ السفساف من الكلام يكون خفيفا.
[1146] فإن قيل:كيف قال تعالى: اَلسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18]،و لم يقل سبحانه منفطرة به،و السماء مؤنثة؟ قلنا:هو على النسبة،أي ذات انفطار.و قيل:ذكر السماء على معنى السقف.
و قيل:معناه السماء شيء منفطر به.و قيل:السماء تذكر و تؤنث.
[1147] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ اللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20]و لم يقل تعالى أن لن تحصوهما،أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات اللّيل و النهار؟ قلنا:الضمير عائد إلى مصدر يقدر معناه:لن تحصوا تقديرهما.
ص: 339
[1148] فإن قيل:ما فائدة قوله تعالى: غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:10]؛بعد قوله سبحانه: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ [المدثر:9،10].
قلنا:قيل معناه أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا،كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.و قيل:إنه تأكيد.
[1149] فإن قيل:ما فائدة التكرار في قوله تعالى: لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ [المدثر:
28]،و معناهما واحد؟ قلنا:معناه لا تبقي للكفار لحما و لا تذر لهم عظما.و قيل:معناه لا تبقيهم أحياء و لا تذرهم أمواتا.
[1150] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ [المدثر:
31]،و ما سبق من وصفهم بالاستيقان و ازدياد الإيمان دلّ على انتفاء الارتياب.
و الجمل كلها متعلقة بعدد خزنة النار؛و المعنى ليستيقن الّذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم حق؛حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة،و يزداد الّذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن؛حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟ قلنا:فائدته التأكيد و التعريض أيضا بحال من عداهم من الشّاكين،و هم الكفار و المنافقون؛فمعناه:و لا يرتاب هؤلاء،كما ارتاب أولئك.
[1151] فإن قيل:كيف قال تعالى: ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً [البقرة:26]، يعني حصر عدد الخزنة في تسعة عشر،و ذلك ليس بمثل.
قلنا:هو استعارة من المثل المضروب مما وقع غريبا و بديعا في الكلام استغرابا منهم لهذا العدد و استبعادا له،و المعنى:أي شيء أراد اللّه بهذا العدد العجيب،و أيّ حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين.
الثاني:أن المثل هنا بمعنى الصفة،كما في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد:35].و المعنى:ما ذا أراد اللّه بهذا العدد صفة للخزنة.
[1152] فإن قيل:كيف طابق قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]،
ص: 340
و هو سؤال للمجرمين،قوله تعالى: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ [المدثر:40،41]،و هو سؤال عنهم؛و إنّما المطابق يسألون المجرمين أو يتساءلون عن المجرمين ما سلكهم في سقر،أي يسأل أهل الجنّة بعضهم بعضا عن أهل النار؟ قلنا:قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ [المدثر:42]ليس بيانا للتساؤل عنهم؛و إنما هو حكاية قول المسئولين عن المجرمين،فالمسئولون من أهل الجنة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم و بين المجرمين،و ذلك أن المؤمنين إذا أخرجهم اللّه تعالى من النار بعد ما عذبهم بقدر ذنوبهم و أدخلهم الجنة يسألهم بعض أصحاب اليمين عن حال المجرمين،و سبب تخليدهم؛فقال المسئولون:قلنا لهم: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]الآية؛و هؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار و إدخالهم الجنة صاروا من أصحاب اليمين.و قيل:المراد بأصحاب اليمين الملائكة عليهم السلام.و قيل:
الأطفال لأنّهم لا يرتهنون بذنوب إذ لا ذنوب لهم.
ص: 341
[1153] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18]؛ و القارئ على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إنّما هو جبرائيل عليه السلام؟ قلنا:معناه فإذا جمعناه في صدرك؛و يؤيده أول الآية: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ [القيامة:17]،أي إنّ علينا جمعه و ضمّه في صدرك،فلا تعجل بقراءته قبل أن يتم حفظه.و قيل:إنما أضيفت القراءة إلى اللّه تعالى،لأن جبريل عليه السلام يقرؤه بأمره،كما تضاف الأفعال إلى الملوك و الأمراء بمجرد الأمر؛مع أنّ المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم.
[1154] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة:
22،23]،و الذي يوصف بالنظر الذي هو الإبصار و الإدراك إنما هو العين دون الوجه؟ قلنا:قيل إن المراد بالوجوه هنا السعداء و أهل الوجاهة يوم القيامة،لا الوجه الذي هو العضو؛و لا أرى هذا الجواب مطابقا لقوله تعالى: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [القيامة:24]؛لأن العبوس و القطوب إنّما يوصف به الوجه الذي هو العضو.و مما يؤيد أنّ المراد بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [القيامة:22]الأعضاء المعروفة،قوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24].
[1155] فإن قيل:النطفة المني،فما فائدة قوله تعالى: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة:37]؟ قلنا:النطفة استعملت هنا بمعنى القطرة؛لأن النطفة تطلق على الماء القليل و الكثير،و منه الحديث:«حتّى يسير الرّاكب بين النطفتين لا يخشى جوازا».أراد بحر المشرق و المغرب.
ص: 342
[1156] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان:2] فوصف المفرد و هي النطفة بالجمع و هو الأمشاج لأنّه جمع مشج،و الأمشاج الأخلاط،و المراد أنّه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرّجل و المرأة؟ قلنا:قال الزمخشري رحمة اللّه تعالى عليه:أمشاج لفظ مفرد لا جمع، كقولهم:برمة أعشار،و بيت أكباش،و بر أهدام.و قال غيره الموصوف به أجزاء النطفة و أبعاضها.
[1157] (1) فإن قيل:كيف قال تعالى: نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]، و الابتلاء متأخر عن جعله سميعا بصيرا؟ قلنا:قال الفراء:فيه تقديم و تأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.و قال غيره:معناه ناقلين له من حال إلى حال نطفة ثم علقة ثم مضغة،فسمى ذلك ابتلاء استعارة.
[1158] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان:16] و القوارير اسم لما يتخذ من الزّجاج؟ قلنا:معناه أن تلك الأكواب مخلوقة من فضة،و هي مع بياض الفضّة و حسنها في صفاء القوارير و شفيفها.قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:لو ضربت فضة الدّنيا حتى جعلتها جناح الذباب لم ير الماء من ورائها،و قوارير الجنة من فضة و يرى ما فيها من ورائها.
[1159] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: كانَتْ قَوارِيرَا [الإنسان:15]؟ قلنا:معناه تكونت،فهي من قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]،و كذا قوله تعالى: كانَ مِزاجُها كافُوراً [الإنسان:5].
ص: 343
[1160] فإن قيل:كيف شبه اللّه تعالى الولدان باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟ قلنا:إنما شبههم سبحانه و تعالى باللؤلؤ المنثور؛لأنه أراد تشبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد؛لأنه إذا ثقب نقصت مائيته و صفاؤه،و اللؤلؤ الذي لم يثقب لا يكون إلا منثورا.و قيل:إنّما شبههم اللّه تعالى باللؤلؤ المنثور لأن اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظرا من المنظوم.و قيل:إنّما شبههم باللؤلؤ المنثور لانتشارهم و انبثاثهم في مجالسهم و منازلهم و تفريقهم في الخدمة بدليل قوله تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ [الإنسان:19]،و لو كانوا وقوفا صفا لشبهوا بالمنظوم.
[1161] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:21]؛ مع أنّ ذلك في الدّنيا إنما هو عادة الإماء و من في مرتبتهن؟ قلنا:القرآن أول من خوطب به العرب،و كان من عادة رجالهم و نسائهم من بيت المملكة التحلي بالذّهب و الفضّة منفردين و مجتمعين:
الثاني:أن الاسم و إن كان مشتركا بين فضّة الدّنيا و الآخرة،و لكن شتّان ما بينهما!قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:«المثقال من فضّة الآخرة خير من الدّنيا و ما فيها».و كذا الكلام في السندس و الإستبرق و غيرهما ممّا أعده اللّه تعالى في الجنة.
[1162] فإن قيل:أيّ شرف لتلك الدّار يسقي اللّه تعالى عباده الشّراب الطّهور فيها؛مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك بدليل قوله تعالى: وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [المرسلات:27]،و قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ [الحجر:22].
قلنا:المراد به في الآخرة سقيهم بغير واسطة،و شتّان ما بين الشرابين!و الآنيتين أيضا،و المنزلتين! [1163] فإن قيل:قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:24]، الضمير لمشركي مكّة بلا خلاف؛فما معنى تقسيمهم إلى الآثم و الكفور،و كلهم آثم و كلّهم كفور؟ قلنا:المراد بالآثم عتبة بن ربيعة،فإنه كان ركّابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق؛و المراد بالكفور الوليد بن المغيرة،فإنه كان متغاليا في الكفر شديد الشكيمة فيه؛مع أن كليهما آثم و كافر،و المراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدّعوة و موافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر و الضلال.خ،
ص: 344
[1164] فإن قيل:ما معنى النهي عن طاعة أحدهما،و هلاّ نهى عن طاعتهما؟ قلنا:قال بعضهم إن أو هنا بمعنى الواو كما في قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا [الأنعام:146].
الثاني:أنه لو قال تعالى:و لا تطعهما جاز له أن يطيع أحدهما،و أما إذا قيل له:و لا تطع أحدهما كان منهيا عن طاعتهما بالضّرورة.
[1165] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى،هنا: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28] أي خلقهم،و قال تعالى،في موضع آخر: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء:28]؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و الأكثرون:المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء،فلذلك أباح اللّه تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية.و قال الزّجّاج:معناه أنه يغلبه هواه و شهوته فلذلك وصف بالضعف.و أما قوله تعالى:
وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28]فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق و الأعصاب.و قيل:المراد بالأسر العصعص،فإن الإنسان في القبر يصير رفاتا إلا عصعصة فإنه لا يتفتت.و قال مجاهد:المراد بالأسر مخرج البول و الغائط،فإنه يسترخي،حتى يخرج منه الأذى،ثم ينقبض و يجتمع و يشتد بقدرة اللّه تعالى.
ص: 345
[1166] فإن قيل:قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات:35]ينفي وجود الاعتذار منهم؛لأنّ الاعتذار إنّما يكون بالنّطق،فما فائدة نفي الاعتذار،بعد نفي النطق؟ قلنا:معناه أنهم لا ينطقون ابتداء بعذر مقبول و حجة صحيحة.و لا بعد أن يؤذن لهم في الاعتذار؛فإن الأسير و الجاني الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذره و حجّته ابتداء لفرط خوفه و دهشته؛و لكن إذا أذن له في إظهار عذره و حجته انبسط و انطلق لسانه؛فكانت الفائدة في الجملة.
الثاني:نفي هذا المعنى:أي لا ينطقون بعذر ابتداء و لا بعد الإذن.
[1167] فإن قيل:قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر:52]،يدل على وجود الاعتذار منهم،فكيف التوفيق بينه و بين ما نحن فيه؟ قلنا:قيل المراد بتلك الظالمون من المسلمين،و بما نحن فيه الكافرون.
و آخر تلك الآية يضعف هذا الجواب،أي قوله: وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ [غافر:52].
ص: 346
[1168] فإن قيل:كيف اتصل و ارتبط قوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ:6]بما قبله؟ قلنا:لمّا كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث و النشور و كانوا ينكرونه،قيل لهم:أ لم يخلق من وعد بالبعث و النشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدّالة على كمال قدرته على البعث.
[1169] فإن قيل:لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم،لما قال اللّه تعالى الذي هم فيه مختلفون؛لأن كفار مكّة لم يختلفوا في أمر البعث؛بل اتفقوا على إنكاره؟ قلنا:كان فيهم من يقطع القول بإنكاره،و فيهم من يشك فيه و يتردد فثبت الاختلاف؛لأن جهة الاختلاف لا تنحصر في الجزم بإثباته و الجزم بنفيه.
الثاني:أن بعضهم صدّق به فآمن،و بعضهم كذّب به فبقي على كفره؛فثبت الاختلاف بالنفي و الإثبات.
الثالث:أنّ الضمير في يتساءلون و في هم عائد إلى الفريقين من المسلمين و المشركين؛و كلهم كانوا يتساءلون عنه لعظم شأنه عندهم،فصدق به المسلمون فأثبتوه،و كذب به المشركون فنفوه.
[1170] فإن قيل:قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ:39]هو جزاء الشّرط فأين الشّرط؛و شاء وحده لا يصلح شرطا؛لأنه لا يفيد بدون ذكر مفعوله،و إن كان المذكور هو الشّرط فأين الجزاء؟ قلنا:معناه فمن شاء النجاة من اليوم الموصوف اتّخذ إلى ربه مرجعا بطاعته.
الثاني:أنّ معناه فمن شاء أن يتّخذ إلى ربه مآبا،كقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]،أي فمن شاء الإيمان فليؤمن،و من شاء الكفر فليكفر.
ص: 347
[1171] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ النّازِعاتِ وَ النّاشِطاتِ [النازعات:1، 2]؛ذكرها بلفظ التأنيث،و كذا ما بعده،و الكل أوصاف الملائكة،و الملائكة ليسوا إناثا؟ قلنا:هو قسم بطوائف الملائكة و فرقها،و الطوائف و الفرق مؤنثة.
[1172] فإن قيل:كيف أضاف اللّه تعالى الإبصار إلى القلوب في قوله تعالى:
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ [النازعات:8،9]،أي ذليلة لمعاينة العذاب؛ و المراد بها الأعين بلا خلاف؟ قلنا:المراد أبصار أصحابها بدليل قوله تعالى: يَقُولُونَ [النازعات:10].
[1173] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى [النازعات:20]؛ مع أن موسى عليه الصلاة و السلام أراه الآيات كلها؛بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ [طه:56]،و كل آية كبرى؟ قلنا:الإخبار في هذه الآية عن أوّل ملاقاته إياه،و إنما أراه في أوّل ملاقاته العصا و اليد،فأطلق عليهما الآية الكبرى لاتحاد معناهما.و قيل:أراد بالآية الكبرى العصا؛لأنها كانت المقدمة،و الأصل،و الأخرى كالتّبع لها؛لأنه كان يتبعها بيده؛ فقيل له أدخل يدك في جيبك.
[1174] فإن قيل:كيف أضاف اللّه تعالى اللّيل إلى السماء،بقوله تعالى:
وَ أَغْطَشَ لَيْلَها [النازعات:29]؛مع أنّ اللّيل إنّما يكون في الأرض لا في السماء؟ قلنا:إنما أضافه إليها لأنه أوّل ما يظهر عند غروب الشمس إنما يظهر من أفق السماء من موضع الغروب،و أمّا قوله تعالى: وَ أَخْرَجَ ضُحاها [النازعات:29]فالمراد به ضوء الشمس بدليل قوله تعالى: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها [الشمس:1]،أي وضوئها فلا إشكال في إضافته إليها.
ص: 348
[1175] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: كَلاّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عبس:11]،ثم قال سبحانه و تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس:12]،و لم يقل ذكرها؟ قلنا:الضمير المؤنث لآيات القرآن أو لهذه السورة،و الضمير في قوله تعالى ذكره راجع إلى القرآن.و قيل:راجع إلى معنى التذكرة و هو الوعظ و التذكير لا إلى لفظها.
[1176] فإن قيل:في قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا [عبس:31]روي أن عمر رضي اللّه تعالى عنه قرأ هذه الآية و قال:كل هذا قد عرفنا فما الأب؟ثم قال:هذا لعمر اللّه التكلف،و ما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب،ثم قال:اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب و ما لا فدعوه،و هذا شبيه النهي عن تتبع معاني القرآن و البحث عن مشكلاته؟ قلنا:لم يرد بقوله ما ذكرت،و لكن الصحابة رضي اللّه عنهم كانت أكثر هممهم عاكفة على العمل،و كان الاشتغال بعلم لا يعمل به تكلفا عندهم،فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه و استدعاء شكره،و قد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته اللّه تعالى للإنسان متاعا له و لأنعامه،فكأنه قال:عليك بما هو الأهم فالأهم،و هو الشكر على ما تبين لك،و لم يشكل مما عدد من نعمه تعالى، و لا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب و معرفة النبات الخاص،و اكتف بمعرفته منه جملة إلى أن يتبين لك في وقت آخر.و عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه سئل عن الأب فقال:أي سماء تظلني و أي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه بما لا علم لي به.و أكثر المفسرين قالوا:الأب كل ما ترعاه البهائم.
ص: 349
[1177] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8،9]،و السؤال إنّما يحسن للقاتل لا للمقتول؟ قلنا:إنما سؤالها لتبكيت قاتلها و توبيخه بما تقوله من الجواب،فإنّها تقول:
قتلت بغير ذنب،و نظيره في التبكيت و التّوبيخ قوله تعالى،لعيسى عليه السلام:
أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي [المائدة:116]؛حتى قال:سبحانك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116].
[1178] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير:14] فأثبت العلم لنفس واحدة؛مع أن كلّ نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة؛بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران:30]؟ قلنا:هذا مما أريد به عكس مدلوله،و مثله كثير في كلام اللّه تعالى،و كلام العرب كقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]؛فإن رب هنا بمعنى كم للتكثير،و قوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة و السلام لقومه:
وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]،و قول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد
ص: 350
[1179] فإن قيل:لأيّ فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم دون سائر صفاته في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]؟ قلنا:قال بعضهم:إنّما قال ذلك لطفا بعبده و تلقينا له حجته و عذره ليقول:
غرّني كرم الكريم.و قال الفضيل رحمه اللّه:لو سألني اللّه تعالى هذا السؤال لقلت:
غرّني ستورك المرخاة.و روي أنّ عليّا كرم اللّه وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبه، ثم أقبل فقال:مالك لم تجبني؟فقال:لثقتي بحلمك و أمني عقوبتك،فاستحسن جوابه و أعتقه.و لهذا قالوا:من كرم الرجل سوء أدب غلمانه.
و الحقّ أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغتر بكرم اللّه تعالى وجوده في خلقه إياه و إسباغه النعمة الظاهرة و الباطنة عليه فيعصيه و يكفر نعمته اغترارا بتفضّله الأول،فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة،و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما قرأها:غرّه جهله.و قال عمر رضي اللّه تعالى عنه:غره حمقه و جهله.و قال الحسن:غره و اللّه شيطانه الخبيث الذي زين له المعاصي،فقال له:افعل ما شئت فإن ربك كريم.
[1180] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار:
19]و النفوس المقبولة الشفاعة تملك لمن شفعت فيه شيئا و هو الشفاعة؟ قلنا:المنفي ثبوت النصرة بالملك و السلطنة و الشفاعة ليست بطريق الملك و السلطنة فلا تدخل في النفي،و يؤيده قوله تعالى: وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ [الانفطار:
19].و قال مقاتل:المراد بالنفس الثانية الكافرة،و الأصح أنه على العموم في النفسين.
ص: 351
[1181] فإن قيل:هلاّ قال اللّه تعالى إذا اكتالوا أو اتزنوا على الناس يستوفون، كما قال سبحانه في مقابله وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:3]؟ قلنا:لأنّ المطففين كانت عادتهم أنهم لا يأخذون ما يكال و ما يوزن إلاّ بالمكيال؛لأنّ استيفاء الزّيادة بالمكيال كان أمكن لهم و أهون عليهم منه بالميزان،و إذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس فيهما.
[1182] فإن قيل:كيف فسر سبحانه و تعالى سجينا بكتاب مرقوم فقال تعالى:
وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:8؟9]و كذا فسر تعالى عليين به؛مع أن سجينا اسم للأرض السابعة،و هو فعيل من السجن،و عليين اسم للجنة أو لأعلى الأمكنة، أو للسماء السابعة،أو لسدرة المنتهى؟ قلنا:قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:9]وصف معنوي لكتاب الفجّار و لكتاب الأبرار،لا تفسير لسجّين و لعليين تقديره:و هو كتاب مرقوم.
ص: 352
[1183] فإن قيل:أين جواب«إذا»في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1]؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه متروك لتكرر مثله في القرآن.
الثاني:أنه أذنت و الواو فيها زائدة.
الثالث:أنه محذوف تقديره بعد قوله تعالى: وَ حُقَّتْ [الانشقاق:2]بعثتم أو جوزيتم أو لاقيتم ما عملتم،و دلّ على هذا المحذوف قوله تعالى: فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
الرابع:أن فيه تقديما و تأخيرا،تقديره: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1].
ص: 353
[1184] فإن قيل:أين جواب القسم؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه متروك.
الثاني:أنه قوله تعالى: قُتِلَ [البروج:4]أي لقد قتل،أي لعن.
الثالث:أنه قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12].
الرابع:أنه محذوف تقديره:لتبعثن أو نحوه.
الخامس:أنّه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج:10].
ص: 354
[1185] فإن قيل:أين جواب القسم؟ قلنا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ [الطارق:4]فإن بمعنى ما،و لمّا بالتّشديد بمعنى إلاّ؛ فيكون المعنى:ما كل نفس إلا عليها حافظ،و لما بالتخفيف ما فيه زائدة و إن هي المخففة من الثقيلة،فيكون المعنى:إن كل نفس لعليها حافظ،و القسم يتلقى بمعنى إن(كذا).
[1186] فإن قيل:ما وجه ارتباط قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ [الطارق:5]بما قبله؟ قلنا:وجهه أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أول أمره و نشأته الأولى؛ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته و مجازاته،فيعمل ليوم الإعادة و الجزاء،فلا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.
[1187] فإن قيل:ما فائدة الجمع بين فمهّل و أمهل و معناهما واحد؟ قلنا:التأكيد،و إنما خولف بين اللفظين طلبا للخفة.
ص: 355
[1188] (1) فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى [الأعلى:9]مع أنه كان صلّى اللّه عليه و سلّم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع؟ قلنا:معناه إذ نفعت.و قيل:معناه قد نفعت.و قيل:إن نفعت و إن لم تنفع، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.و ذكر الماوردي أنها بمعنى ما؛و كأنه أراد معنى ما الظرفية؛و إن بمعنى ما الظرفية ليس بمعروف.
[1189] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى [الأعلى:13]مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟ قلنا:معناه لا يموت موتا يستريح به،و لا يحيا حياة ينتفع بها.و قال ابن جرير، رحمة اللّه تعالى عليه:تصعد نفسه إلى حلقومه،ثم لا تفارقه فيموت،و لا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا؛و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
ص: 356
[1190] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً [الغاشية:2-4]؛مع أنّ جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟ قلنا:الوجه يطلق و يراد به جميع البدن كما في قوله تعالى: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111]و قيل:إن المراد بالوجوه هنا الأعيان و الرؤساء،كما يقال:هؤلاء وجوه القوم،و يا وجه العرب،أي و يا وجيههم،و يؤيد هذا القول ما روي عن ابن عباس،رضي اللّه تعالى عنهما،أنّه قال:إن المراد به الرّهبان و أصحاب الصوامع.
[1191] (1) فإن قيل:كيف ارتبط قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]بما قبله،و أيّ مناسبة بين السماء و الإبل و الجبال و الأرض؛حتى جمع بينها؟ قلنا:لما وصف اللّه تعالى الجنّة بما وصف،عجب من ذلك الكفار،فذكرهم عجائب صنعه.و قال قتادة:لما ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا:كيف نصعدها؟فنزلت هذه الآية: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ [الغاشية:17]نظر اعتبار،كيف خُلِقَتْ [الغاشية:
17]للنهوض بالأثقال و حملها إلى البلاد البعيدة،و جعلت تبرك حتى تحمل و تركب عن قرب و يسر ثم تنهض بما حملت،فليس في الدواب ما يحمل عليه و هو بارك و يطيق النهوض إلا هي،و سخرت لكل من قادها حتى الصبي الصغير،و لما جعلت سفائن البر أعطين الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا و جعلت ترعى كل نبات في البراري و المفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم،و إنما لم يذكر الفيل و الزرافة و الكركند و غيرها مما هو أعظم من الجمل؛لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك و لا كانوا يعرفونه؛و لأن الإبل كانت أنفس أموالهم و أكثرها لا تفارقهم و لا يفارقونها؛ و إنما جمع بينها و بين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم و بواديهم،فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم و كثرة ملابستهم و مخالتهم، و من فسر الإبل بالسحاب و الماء قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل
ص: 357
بالسحاب في السير و في النشط أيضا،في بعض الأوقات؛لا أنه أراد أنّ المراد من الإبل السحاب حقيقة.و قد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيرا،و قد شبهه ابن دريد أيضا بالسّحاب في قصيدته.و قرأ أبيّ بن كعب و عائشة رضي اللّه عنهما الإبل بتشديد اللام.قال أبو عمرو و هو اسم للسحاب الذي يحمل الماء،و اللّه أعلم.
ص: 358
[1192] فإن قيل:كيف نكر الليالي العشر دون سائر ما أقسم به،و هلاّ عرّفها بلام العهد و هي ليالي معلومة معهودة فإنها ليالي عشر ذي الحجة في قول الجمهور؟ قلنا:لأنها مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها فلم يجمع بينها و بين غيرها بلام الجنس،و إنما لم تعرف بلام العهد لأن التنكير أدل على التفخيم و التعظيم بدليل قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة:163]و نظيره قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد:1]فعرفه ثم قال: وَ والِدٍ [البلد:3]فنكره، و المراد به آدم و إبراهيم أو محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين،و لأن الأحسن أن تكون اللامات كلها متجانسة،ليكون الكلام أبعد عن الألغاز و التعمية،و هي في الباقي للجنس.
[1193] فإن قيل:كيف ذم اللّه تعالى الإنسان على قوله: رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]،مع أنّه صادق فيما قال:لأنّ اللّه تعالى أكرمه،بدليل قوله تعالى:
فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ [الفجر:15]،كيف و أن هذا تحدث بالنعمة و هو مأمور به؟ قلنا:المراد به أن يقول ذلك مفتخرا على غيره،و متطاولا به عليه،و معتقدا استحقاق ذلك على ربّه،كما في قوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:
78]و مستدلا به على علو منزلته في الدار الآخرة؛و كل ذلك منهي عنه.و أما إذا قاله على وجه الشكر و التحدث بنعمة اللّه فليس بمذموم و لا منهي عنه.
[1194] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى في الجملة الأولى: فَأَكْرَمَهُ [الفجر:
15]و لم يقل في الجملة الثانية فأهانه؟ قلنا:لأن بسط الرزق إكرام،لأنه إنعام و إفضال من غير سابقة؛و قبضه ليس بإهانة؛لأن ترك الإنعام و الإفضال لا يكون إهانة،بل هو واسطة بين الإكرام و الإهانة؛فإن المولى قد يكرم عبده و قد يهينه،و قد لا يكرمه و لا يهينه.و تضييق الرزق ليس إلاّ عبارة عن ترك إعطاء القدر الزائد،أ لا ترى أنه يحسن أن تقول زيد أكرمني إذا أهدى لك هدية،و لا يحسن أن تقول أهانني إذا لم يهد لك.
[1195] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]و الحركة و الانتقال على اللّه محالان؛لأنهما من خواص الكائن في جهة؟
ص: 359
قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:و جاء أمر ربك لأن في القيامة تظهر جلائل آيات اللّه تعالى؛و نظيره قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]و قيل:معناه و جاء ظهور ربك لضرورة معرفته يوم القيامة.
و معرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره و رؤيته،فمعناه:زالت الشكوك و ارتفعت الشبه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه.
ص: 360
[1196] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ [البلد:3]،و لم يقل سبحانه و تعالى و من ولد؟ قلنا:لأنّ في«ما»من الإبهام ما ليس في من،فقصد به التفخيم و التعظيم،كأنه تعالى قال:و أيّ شيء عجيب غريب ولد،و نظيره قوله تعالى: وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران:36].
ص: 361
[1197] فإن قيل:كيف نكّر اللّه تعالى النفس،دون سائر ما أقسم به،حيث قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها [الشمس:7]؟ قلنا:لأنه لا سبيل إلى لام الجنس؛لأنّ نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك،بدليل قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [الشمس:8]،و لا سبيل إلى لام العهد،لأن المراد ليس نفسا واحدة معهودة.و على قول من قال إن المراد منه نفس آدم عليه السلام،فالتنكير للتفخيم و التعظيم،كما سبق في سورة الفجر.
[1198] فإن قيل:أين جواب القسم؟ قلنا:قال الزجاج و غيره:إنه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [الشمس:9]، و حذفت اللاّم لطول الكلام.
و قال ابن الأنباري:جوابه محذوف.
و قال الزمخشري:تقديره ليدمدمنّ اللّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كما دمدم على ثمود،لتكذيبهم صالحا عليه السلام.قال:و أما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [الشمس:9]فكلام تابع لما قبله على طريق الاستطراد و ليس من جواب القسم في شيء.
ص: 362
[1199] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى [الليل:15]مع أنّ الشقي أيضا يصلاها:أي يقاسي حرّها و عذابها؟ قلنا:قال أبو عبيدة:الأشقى هنا بمعنى الشقي،و المراد به كل كافر،و العرب تستعمل أفعل في موضع فاعل و لا تريد به التفضيل،و قد سبق تقرير ذلك و الشواهد عليه في سورة الرّوم في قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]و قال الزجاج:
هذه نار موصوفة معينة،فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء،ورد عليه ذلك بقوله تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17]،و الأتقى يجنب عذاب أنواع نار جهنم كلّها، و المراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه بإجماع المفسرين؛و لهذا قال الزمخشري:إن الأشقى ليس بمعنى الشّقي؛بل هو على ظاهره؛و المراد به أبو جهل أو أمية بن خلف،فالآية واردة للموازنة بين حالتي أعظم المؤمنين و أعظم المشركين، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين،و جعل هذا مختصا بالصلي كأنّ النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها و جاء قوله تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل:17]على موازنة ذلك و مقابلته،مع أن كل تقي يجنبها.
قال بعض العلماء:هذه الآية تدل على أن أبا بكر رضي اللّه عنه أفضل الصحابة،لأنه وصفه بالأتقى،و قال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات:13]، و إذا كان أكرم عند اللّه كان أفضل.
ص: 363
[1200] فإن قيل:كيف وصف صلّى اللّه عليه و سلّم بالضال و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم معاذ اللّه أن يكون ضالاّ، أي كافرا،لا قبل النبوّة و لا بعدها؛و الضّال أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟ قلنا:المراد به هنا أنه تعالى وجده ضالا عن معالم النبوة و أحكام الشريعة فهداه إليها.هذا قول الجمهور.
الثاني:أنّه ضل و هو صغير في شعاب مكة فردّه اللّه تعالى إلى جدّه عبد المطلب.
الثالث:أن معناه و وجدك ناسيا فهداك إلى الذكر؛لأن الضلال جاء بمعنى النسيان،و منه قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة:
282].
[1201] فإن قيل:لو كان الضّلال بمعنى النسيان لما جمع بينهما في قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى [طه:52]؟ قلنا:لا ندعي أنه حيث ذكر كان بمعنى النسيان،فهو في تلك الآية.بمعنى الخطأ،و قيل بمعنى الغفلة.
الرابع:أن معناه:و وجدك جاهلا فعلمك.
[1202] (1) فإن قيل:كيف منّ سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى بقوله تعالى: وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى [الضحى:8]أي فقيرا،و العائل الفقير سواء كان له عيال أو لم يكن؟ قلنا:قال ابن السائب،و اختاره الفرّاء:أنه لم يكن غناه بكثرة المال،و لكن اللّه أرضاه بما آتاه،و لم يكن ذلك الرضا قبل النبوة،و ذلك حقيقة الغنى،و يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«الغنى غنى القلب».و قال غيره:المراد به أنه أغناه بمال خديجة عن مال أبي طالب،و المراد به الإغناء بتسهيل ما لا بد منه و تيسيره،لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر.
ص: 364
[1203] فإن قيل:أيّ فائدة في زيادة ذكر لك و عنك و الكلام تام بدونهما؟ قلنا:فائدته الإبهام ثم الإيضاح،و هو نوع من أنواع البلاغة،فلمّا قال تعالى:
أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ [الشرح:1]فهم أن ثم مشروحا له ثم قال: صَدْرَكَ [الشرح:1] فأوضح ما علم مبهما بلفظ لك،و كذا الكلام في وَ وَضَعْنا عَنْكَ [الشرح:2].
[1204] فإن قيل:قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5]و كلمة مع للمصاحبة و القران،فما معنى اقتران العسر و اليسر؟ قلنا:سبب نزول هذه الآية أن المشركين عيروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه رضي اللّه عنهم بالفقر و الضائقة التي كانوا فيها،فوعدهم اللّه تعالى يسرا قريبا من زمان عسرهم؛و أراد تأكيد الوعد لتسليتهم و تقوية قلوبهم،فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه.
[1205] فإن قيل:ما معنى قول ابن عمر و ابن عباس رضي اللّه عنهم و ابن مسعود رضي اللّه عنه:لن يغلب عسر يسرين،و يروى ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أيضا؟ قلنا:هذا عمل على الظّاهر و بناء على قوة الرّجاء،و إن وعد اللّه لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله اللفظ و أكمله،و أما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا للأولى،كما في قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:
49]و ما أشبهه،و كما في قولك:جاءني رجل جاءني رجل؛و أنت تعني واحدا في الجملتين،فعلى هذا يتحد العسر و اليسر،أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود، و تنكير اليسر لأنه غائب مفقود؛و للتفخيم و التعظيم.و يحتمل أن تكون الجملة الثانية و عدا مستأنفا فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل،و يؤيد أن الجملة الثانية للتأكيد أنه ليس في مصحف عبد اللّه بن مسعود إلا مرة واحدة.
[1206] فإن قيل:و إذا ثبت في قراءته غير مكرر،فكيف قال:و الذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه،إنه لن يغلب عسر يسرين؟ قلنا:كأنه نزل ما فيه من التفخيم و التعظيم بالتنكير منزلة التثنية؛لأن المعنى يسرا و أي يسر،و أما من فسره بيسرين فإنه قال:أحد اليسرين ما تيسر من الفتوح في
ص: 365
زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.و الثاني ما تيسر بعده في زمن الخلفاء.و قيل:هما يسر الدنيا و يسر الآخرة،كقوله تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]و هما حسن الظفر و حسن الثواب.
ص: 366
[1207] فإن قيل:كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:6]؟ قلنا:قال الأكثرون:المراد بالإنسان هنا الجنس،و بردّه أسفل سافلين إدخاله النار،فعلى هذا يكون الاستثناء متّصلا ظاهر الاتصال،و يكون قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:6]قائما مقام قوله تعالى فلا نردهم أسفل سافلين.و أما على قول من فسر أسفل سافلين بالهرم و الخرف و قال السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال و الشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم،فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن.
و معنى قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:6]أي غير مقطوع بالهرم و الضعف الحاصل من الكبر،أي إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات في حال شبابهم و قوتهم،فإنهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من الطاعات و الحسنات إلى وقت موتهم،و هذا معنى قول ابن عباس رضي اللّه عنهما:من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
و قال بعض العلماء:الذين آمنوا و عملوا الصالحات في شبابهم و قوتهم فإنهم لا يردون إلى الخرف و أرذل العمر و إن عمروا طويلا،و تمسك بظاهر قول ابن عباس رضي اللّه عنهما.
ص: 367
[1208] فإن قيل:أين مفعول خلق الأول:
قلنا:يحتمل وجهين:
أحدهما:أن لا يقدّر له مفعول؛بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق و استأثر به لا خالق سواه؛كما قال تعالى: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]في أحد الوجهين، و قولهم:فلان يعطي و يمنع و يصل و يقطع.
الثاني:أن يكون مفعوله مضمرا تقديره:الذي خلق كل شيء،ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له و تفضيلا.
[1209] فإن قيل:كيف قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:2]على الجمع و لم يقل:من علقة؟ قلنا:لأن الإنسان في معنى الجمع بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ [العصر:2،3]،و الجمع إنما خلق من جمع علقة لا من علقة.
[1210] فإن قيل:هذا الجواب يرده قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج:5]؟ قلنا:المراد فإنا خلقنا أباكم من تراب،ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة.
و قيل:إنما قال من علق رعاية للفاصلة الأولى و هي خلق.
ص: 368
[1211] فإن قيل:ما معنى قوله تعالى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]و تنزلهم من الأمر لا معنى له؟ قلنا:من هنا بمعنى الباء،كما في قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ [الرعد:
11]و قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر:15]أي بكلّ أمر قضاه اللّه تعالى في تلك السنة من ليلة القدر إلى مثلها تنزل الملائكة به من اللّوح المحفوظ إلى السماء الدنيا،و قيل:إلى الأرض.
ص: 369
[1212] فإن قيل:المراد بالرسول هنا محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بلا خلاف،فكيف قال تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً [البينة:2]و ظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب و هو منتف في حقه صلّى اللّه عليه و سلّم،لأنه كان أميّا؟ قلنا:المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه؛لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.
[1213] فإن قيل:ما الفرق بين الصحف و الكتب؛حتى قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ [البينة:2،3]؟ قلنا:الصحف القراطيس،و قوله تعالى مُطَهَّرَةً ،أي من الشرك الباطل،و قوله تعالى: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]،أي مكتوبة مستقيمة ناطقة بالعدل و الحق،يعني الآيات و الأحكام.
[1214] فإن قيل:كيف قال تعالى: وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:4]،أي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أو القرآن،و المراد بأهل الكتاب اليهود و النصارى،و هم ما زالوا متفرقين مختلفين يكفر كل فريق منهم الآخر قبل مجيء البينة و بعدها؟ قلنا:المراد به تفرقهم عن تصديق النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الإيمان به قبل أن يبعث،فإنهم كانوا مجتمعين على ذلك متفقين عليه بأخبار التوراة و الإنجيل،فلما بعث إليهم تفرقوا،فمنهم من آمن و منهم من كفر.و قال بعض العلماء:المراد بالبينة ما في التوراة و الإنجيل من الإيمان بنبوته صلّى اللّه عليه و سلّم،و يؤيّد هذا القول أن أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرق مع وجود التفرق من المشركين أيضا بعد ما جمعوا مع المشكرين في أول السورة،فلا بد أن يكون مجيء البينة أمرا يخصهم،و مجيء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن العزيز لا يخصهم.
ص: 370
[1215] فإن قيل:قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة:1]ما معنى إضافة الزلزال الذي هو المصدر إلى الأرض،و هلاّ قال زلزالا،كما قال تعالى:
كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر:21]و ما أشبهه؟ قلنا:معناه الزلزال الذي تستوجبه في حكمة اللّه تعالى و مشيئته في ذلك اليوم، و هو الزلزال الذي ليس بعده زلزال،و نظيره قولك:أكرم التقي إكرامه،و أهن الفاسق إهانته،تريد ما يستوجبانه من الإكرام و الإهانة،و يجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق؛معناه:زلزالها كله الذي هو ممكن لها.
[1216] فإن قيل:كيف قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7] على العموم فيهما،و حسنات الكافر محبطة بالكفر،و سيئات المؤمن معفو عنها، مغفورة باجتناب الكبائر؛فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟ قلنا:معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا من فريق السعداء،و من يعمل مثقال ذرّة شرا من فريق الأشقياء؛لأنه جاء بعد قوله تعالى: يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً [الزلزلة:6].
و ذكر مقاتل أنها نزلت في رجلين من أهل المدينة كان أحدهما يستقل أن يعطي السائل الكسرة أو التمرة و يقول:إنما نؤجر على ما نعطيه و نحن نحبه،و كان الآخر يتهاون بالذنب اليسير و يقول:إنما أوعد اللّه النار على الكبائر.
ص: 371
[1217] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:
11]؛مع أنّه تعالى أخبر بهم في كلّ زمان،فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟ قلنا:معناه أن ربهم سبحانه مجازيهم يومئذ على أعمالهم،فالعلم مجاز عن المجازاة،و نظيره قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ [النساء:63].
معناه يجازيهم على ما فيها؛لأنّ علمه شامل لما في قلوب كلّ العباد،و يقرب منه قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16].
ص: 372
[1218] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [القارعة:
8]،أي رجحت سيئاته على حسناته: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة:9]،أي فمسكنه النار؛و أكثر المؤمنين سيئاتهم راجحة على حسناته.
قلنا: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة:9]لا يدل على خلوده فيها،فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه،ثم يخرج منها إلى الجنة.
و قيل:المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية،و تلك موازين الكفار.
ص: 373
[1219] فإن قيل:أين جواب لَوْ تَعْلَمُونَ ؟[التكاثر:5].
قلنا:هو محذوف تقديره:لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم عن التكاثر و التفاخر، ثم ابتدأ تعالى بوعيد آخر فقال سبحانه: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر:6].
[1220] فإن قيل:كل أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا و لو مرة واحدة، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟ قلنا:فيه سبعة أقوال:
أحدها:أنه الأمن و الصحة.
الثاني:أنه الماء البارد.
الثالث:أنه خبز البرّ و الماء العذب.
الرابع:أنّه مأكول و مشروب لذيذان.
الخامس:أنه الصحة و الفراغ.
السادس:أنه كل لذّة من لذّات الدنيا.
السابع:أنه دوام الغداء و العشاء.
و قيل إن السؤال خاص للكفار.و الصحيح أنه عام في كل إنسان و في كل نعيم، فالكافر يسأل توبيخا و المؤمن يسأل عن شكرها،و يؤيد هذا ما جاء في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:«يقول اللّه تعالى:ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ و أسأله عمّا سوى ذلك:بيت يكنّه،و ما يقيم به صلبه من الطّعام،و ما يواري به عورته من اللّباس».
ص: 374
[1221] فإن قيل:الاستثناء الذي في السورة لا يدلّ على أنّ المؤمنين الموصوفين في ربح؛مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم بمضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟ قلنا:الاستثناء و إن لم يدل بصريحه على أنّهم في أعظم ربح؛و لكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعة الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح؛مع أنا لو قدرنا أنهم ليسوا في ربح فالمضادة حاصلة أيضا،لأنهم ليسوا في خسر،بمقتضى الاستثناء.
ص: 375
[1222] فإن قيل:ما الفرق بين الهمزة و اللمزة؟ قلنا:قيل إنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما،و إنما الثاني تأكيد للأول.و قيل:
إنهما مختلفان،فقيل الهمزة المغتاب،و اللمزة العياب.و قيل:الهمزة العياب في الوجه،و اللّمزة في القفا،و قيل:الهمزة الطعان في الناس،و اللّمزة الطعان في أنساب الناس.و قيل:الهمزة يكون بالعين،و اللمزة باللّسان.و قيل:عكسه.فهذه ستة أقوال.
ص: 376
[1223] فإن قيل:ما معنى الأبابيل،و هل هو واحد أو جمع؟ قلنا:معناها جماعات في تفرقة،أي حلقة حلقة.و قيل:التي يتبع بعضها بضعا.و قيل:الكثيرة.و قيل:المختلفة الألوان.و قال الفراء و أبو عبيدة:لا واحد لها.و قيل:واحدها أبال و أبول و أبيل.
ص: 377
[1224] فإن قيل:بأيّ شيء تتعلق اللاّم في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ؟ [قريش:1].
قلنا:قيل إنها متعلقة بآخر السورة التي قبلها،أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش،و يؤيد هذا أنهما في مصحف أبيّ رضي اللّه عنه سورة واحدة بلا فصل.و المعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذي قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم و يحترموهم،فينتظم لهم الأمر في رحلتهم و لا يجترئ أحد عليهم.
و قيل:معناه أهلكهم ليألف قريش رحلة الشّتاء و الصيف بهلاك من كان يخيفهم و يمنعهم.
و قيل:إنها متعلقة بما بعدها،و هو قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [قريش:3]إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف.معناه أن نعم اللّه تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدون لهذه النعمة الظاهرة.
و قيل:هي لام التعجب معناه اعجبوا لإيلاف قريش.و كانت لقريش في كل سنة رحلتان للتجارة التي بها معاشهم،رحلة في الشتاء إلى اليمن،و رحلة في الصيف إلى الشام.
ثم قيل:الإيلاف هنا مصدر بمعنى الإلف تقول:آلفته إيلافا بالمد،كما تقول ألفته إلفا بالقصر كلاهما متعد إلى مفعول واحد،فيكون لإيلاف قريش لإلف قريش، أي لحبهم الرحلتين.و قيل آلف بالمد متعد إلى مفعولين،يقال ألف زيد المكان و آلف زيد عمرا المكان،فيكون معنى الآية لإيلاف اللّه تعالى قريشا الرحلتين؛فعلى هذا الوجه يكون المصدر مضافا إلى المفعول،و على الوجه الأول يكون مضافا إلى الفاعل.
و أمّا تكرار إضافة المصدر في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ [قريش:1،2]،فقيل:إن الثاني بدل من الأول.و قيل:إنه للتأكيد،كما تقول:
أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن ذل السؤال.
ص: 378
[1225] (1) فإن قيل:كيف توعّد اللّه الساهي عن الصلاة،و الحديث ينفي مؤاخذته،و هو قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«رفع عن أمّتي الخطأ و النسيان»؟ قلنا:المراد بالسّهو هنا،التغافل عنها،و التكاسل في أدائها،و قلّة الالتفات إليها؛و ذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين؛و ليس المراد ما يتفق فيها من السهو بوسوسة الشّيطان أو حديث النفس ممّا لا صنع للعبد فيه و لا اختيار، و هو المراد في الحديث،و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره، و لهذا قال تعالى: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون:5]و لم يقل في صلاتهم.و عن أنس رضي اللّه عنه أنه قال:الحمد للّه على أن لم يقل في صلاتهم.
ص: 379
[1226] (1) فإن قيل:ما الكوثر؟ قلنا:فيه قولان:
أحدهما:و هو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه الخير الكثير فوعل من الكثرة،كقولهم:رجل نوفل،أي كثير النوافل.و منه قول الشاعر:
و أنت كثير يا ابن مروان طيّب و كان أبوك ابن العقائل كوثرا
قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر:كيف آب ابنك؟قالت:آب بكوثر.و لقد أعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خيرا كثيرا،فإنه آتاه الحكمة،و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا،و منهم من فسّر هذا الخير الكثير بالنبوة،و منهم من فسره بالعلم و الحكمة، و منهم من فسره بالقرآن.
و القول الثاني:أنّ الكوثر اسم نهر في الجنّة،و هو قول أكثر المفسرين،و قد جاء في الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال:«الكوثر نهر وعدنيه ربّي في الجنّة،عليه خير كثير،ترد عليه أمّتي يوم القيامة».و عنه صلّى اللّه عليه و سلّم أيضا،في الحديث أنّه قال:«بينا أنا أسير في الجنّة فإذا بنهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف،فقلت:ما هذا يا جبريل؟قال:هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك،فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر».و روي عن صفته أنّه أحلى من العسل،و أشد بياضا من اللبن،و أبرد من الثلج،و ألين من الزّبد،حافتاه الزبرجد،و أوانيه من فضة عدد نجوم السماء،لا يظمأ من شرب منه أبدا.
ص: 380
[1227] فإن قيل:كيف قال اللّه تعالى: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:
3]؛و لم يقل«من»،مع أنّه القياس؟ قلنا:فيه وجهان:
أحدهما:أنه إنما قال«ما»رعاية للمقابلة في قوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون:2].
الثاني:أن«ما»مصدرية،أي لا أعبد عبادتكم و لا تعبدون عبادتي.و قال الزّمخشري:إنّما قال«ما»لأنّ المراد الصفة؛كأنه قال:لا أعبد الباطل و لا تعبدون الحق.و قال غيره:«ما»في الكل بمعنى الذي،و العائد محذوف.
[1228] فإن قيل:ما فائدة التكرار؟ قلنا:فيه وجهان:
أحدهما:أنّه للتأكيد و قطع أطماعهم فيما طلبوه منه.
الثاني:أنّ الجملتين الأوليين لنفي العبادة في الحال،و الجملتين الأخريين لنفي العبادة في الاستقبال فلا تكرار فيه؛و هذا قول ثعلب و الزجاج.و الخطاب لجماعة علم اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون.و قال الزمخشري:ما يرد الوجه الثاني،و ذلك أنه قال لا أعبد أريد به العبادة في المستقبل؛لأنّ«لا»لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال،فالجملتان الأوليان لنفي العبادة في المستقبل،و الجملتان الأخريان لنفي العبادة في الماضي،فقوله: وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ [الكافرون:4]أي ما عهدتم من عبادة الأصنام في الجاهلية.فكيف يرجى مني بعد الإسلام،و قوله: وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:3]،أي ما عبدتم في وقت ما ما أنا على عبادته،و يرد على قوله و الجملتان الأخريان لنفي العبادة في الماضي أن اسم الفاعل المنون العامل عمل الفعل لا يكون إلا بمعنى الحال أو الاستقبال،و عابد هنا عامل في«ما»و كذلك عابدون، و جوابه أنه على الحكاية كما قال تعالى: وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:
18]،و أورد على هذا التقدير فقال:
[1229] فإن قيل:هلاّ قال تعالى:و لا أنتم عابدون ما عبدت،بلفظ الماضي، كما قال: وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ [الكافرون:4].
ص: 381
قلنا:لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل بعثه،و هو ما كان يعبد اللّه تعالى قبل بعثه،بل بعد بعثه.و يرد على هذا التقدير:أن أعظم العبادة التوحيد،و كل الأنبياء كانوا موحدين بعقولهم قبل البعثة.و قال بعض العلماء:إنما جاء الكلام مكررا لأنه ورد جوابا لسؤالهم مناوبة،و كان سؤالهم مكررا،فإنهم قالوا:يا محمد تعبد آلهتنا كذا مدة و نعبد إلهك كذا مدة،ثم تعبد آلهتنا كذا مدة و نعبد إلهك كذا مدة،فورد الجواب مكررا ليطابق السؤال،و هذا قول حسن لطيف.
ص: 382
[1230] فإن قيل:أيّ مناسبة بين الأمر بالاستغفار و بين ما قبله،فإن مجيء الفتح و النصر يناسب الشكر و الحمد لا الاستغفار و التوبة؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لما نزلت هذه السورة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه نعيت إليه نفسه.و قال الحسن:أعلم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قد اقترب أجله،فأمر بالتسبيح و الاستغفار و التوبة ليختم له في آخر عمره بالزّيادة في العمل الصالح،فكان يكثر من قوله:سبحانك اللهم اغفر لي إنك أنت التّواب الرّحيم.و عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن هذه السورة تسمى سورة التوديع.و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عاش بعد نزولها سنتين.
ص: 383
[1231] فإن قيل:كيف ذكره اللّه تعالى بكنيته دون اسمه،مع أن ذلك إكرام و احترام؟ قلنا:فيه وجوه:
أحدها:أنه يجوز أنه لم يعرف له اسم و لم يشتهر إلا بكنيته،فذكره بما اشتهر به لزيادة تشهيره بدعوة السوء عليه.
الثاني:أنه نقل أنه كان اسمه عبد العزّى،و هو كان عبد اللّه لا عبد العزّى،فلو ذكره باسمه لكان خلاف الواقع.
الثالث:أنه ذكره بكنيته لموافقة حاله لكنيته،فإن مصيره إلى النار ذات اللّهب، و إنما كنّي بذلك لتلهب وجنتيه و إشراقهما.
ص: 384
[1232] فإن قيل:فالمشهور في كلام العرب أن الأحد يستعمل بعد النفي، و الواحد يستعمل بعد الإثبات،يقال:في الدار واحد،و ما في الدار أحد.و جاءني واحد و ما جاءني أحد،و منه قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة:163] اَلْواحِدُ الْقَهّارُ [يوسف:39] وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة:84] لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136] لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ [الأحزاب:32] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقة:47] فكيف جاء هنا أحد في الإثبات؟ قلنا:قال ابن عباس رضي اللّه عنهما:لا فرق بين الواحد و الأحد في المعنى، و اختاره أبو عبيدة،و يؤيده قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19]، و قولهم أحد و عشرون و ما أشبهه.و إذا كانا بمعنى واحد لا يختص أحدهما بمكان دون مكان،و إن غلب استعمال أحدهما في النفي و الآخر في الإثبات.و يجوز أن يكون العدول عن الغالب هنا رعاية لمقابلة الصمد.
ص: 385
[1233] فإن قيل:قوله تعالى: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ [الفلق:2]يتناول كل ما بعده،فما الفائدة في الإعادة؟ قلنا:خصّ شر هذه الأشياء الثّلاثة بالذكر تعظيما لشرها،كما في عطف الخاص على العام تعظيما لشرفه و فضله،أو خصّها بالذّكر لخفاء شرّها،و أنه يلحق الإنسان من حيث لا يشعر به؛و لهذا قيل:شر الأعداء المداجي،و هو الذي يكيد الإنسان من حيث لا يعلم.
[1234] (1) فإن قيل:كيف عرّف سبحانه النفّاثات و نكّر ما قبلها و ما بعدها؟ قلنا:لأن كل نفاثة لها شر و ليس كل غاسق و هو الليل له شر،و كذا ليس كل حاسد له شر؛بل ربّ حسد محمود و هو الحسد في الخيرات،و منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:«لا حسد إلاّ في اثنتين»الحديث.و قال أبو تمام:
و ما حاسد في المكرمات بحاسد و قال:
إنّ العلى حسن في مثلها الحسد
ص: 386
[1235] فإن قيل:كيف خصّ الناس بالذّكر،في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ [الناس:1]،و هو ربّ كلّ شيء و مالكه و إلهه؟ قلنا:إنّما خصّهم بالذّكر تشريفا لهم،و تفضيلا على غيرهم؛لأنهم أهل العقل و التمييز.
الثاني:أنّه لمّا أمر بالاستعاذة من شرّهم ذكر مع ذلك أنه ربهم ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم.
الثالث:أنّ الاستعاذة وقعت من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي هو إلههم و معبودهم،كما يستغيث بعض العبيد إذا اعتراه خطب بسيده و مخدومه و ولي أمره.
[1236] فإن قيل:هل قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ [الناس:6]بيان للذي يوسوس على أن الشيطان الموسوس ضربان جنّي و إنسي،كما قال تعالى:
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ [الأنعام:112]أو بيان للناس الذي أضيفت الوسوسة إلى صدورهم،و الناس المذكور آخرا بمعنى الإنس؟ قلنا:قال بعض أئمة التفسير:المراد المعنى الأول؛كأنه قال:من شرّ الوسواس الجنّي،و من شرّ الوسواس الإنسي،فهو استعاذة باللّه تعالى من شر الموسوسين من الجنسين،و هو اختيار الزّجّاج،و في هذا الوجه إطلاق لفظ الخنّاس على الإنسي،و النقل أنه اسم للجنّي.و قال بعضهم:المراد المعنى الثاني،كأنه قال:
من شر الوسواس الجنّي الذي يوسوس في صدور الناس،من جنّهم و إنسهم؛فسمى الجنّ ناسا كما سماهم نفرا و رجالا،في قوله تعالى: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن:
1]،و قوله تعالى: يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن:6].فهو استعاذة باللّه من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الجنّ،كما يوسوس في صدور الإنس،و هو اختيار الفرّاء.و المراد من الجنّة هنا،الشّياطين من الجنّ على الوجه الأوّل،و مطلق الجنّ على الوجه الثّاني؛لأنّ الشيطان منهم هو الذي يوسوس لا غيره؛و مطلقهم يوسوس إليه.و اختار الزّمخشري الوجه الأول.و قال:ما أحق أن اسم الناس ينطلق على الجنّ؛لأنّ الجن سموا جنا لاجتنانهم،أي لاستتارهم،و الناس سموا أناسا لظهورهم من الإيناس و هو الإبصار،كما سموا بشرا لظهورهم من البشرة،و لو صح
ص: 387
هذا الإطلاق لم يكن هذا المجمل مناسبا لفصاحة القرآن.قال:و أجود منه أن يراد بالناس الأول الناسي،كقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ [القمر:6]و كما قرئ مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ ثم بيّن بالجنّة و الناس؛لأن الثقلين هما الجنسان الموصوفان بنسيان حقوق اللّه تعالى،و اللّه أعلم،و صلّى اللّه على سيدنا محمّد و على آله و صحبه و سلّم.
ص: 388
1-فهرس الأحاديث النبوية 2-فهرس الآثار 3-فهرس الأبيات الشعرية 4-فهرس أنصاف الأبيات 5-فهرس الأعلام 6-فهرس المحتويات
ص: 389
ص: 390
طرف الحديث رقم الفقرة [حرف الألف] -أحلى من العسل،و أشدّ بياضا من اللّبن،و أبرد من الثّلج(يصف الكوثر)[1226] -إذا مات ابن آدم ينقطع عمله،إلاّ من ثلاث[779] -أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد[472] -الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء في الثور الأسود[174] -الإسلام يجب ما كان قبله[365] -اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة[1086] -أمّك،ثم أمّك،ثم أمّك[851] -إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه،و إن ولده من كسبه[749] -إن اللّه عزّ و جلّ يقول يوم القيامة:يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني[1036] -إن الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه[1161] -إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى،كمثل خيط في ثوب[691] -إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ... [1105] [حرف الباء] -بئس خطيب القوم أنت(لرجل خطب فأساء)[358] -بينا أنا أسير في الجنّة،فإذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوّف[1226] [حرف التاء] -تحية أهل الجنّة في الجنّة سلام[765]
ص: 391
طرف الحديث رقم الفقرة [حرف الحاء] -حتى يسير الرّاكب بين النطفتين لا يخشى جوازا[1155] [حرف الخاء] -خير المال مهرة مأمورة و سكّة مأبورة[583] [حرف الرّاء] -رحم اللّه أخي يوسف.لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض،لاستعمله من ساعته؛و لكنّه أخر ذلك سنة[163] -رفع عن أمتي الخطأ و النسيان[1225] [حرف الصاد] -صلاح الوالي صلاح الرّعية،و فساد الوالي فساد الرعية[586] [حرف العين] -العجلة من الشيطان،و التّأني من الرحمن[116] [حرف الغين] -الغنى غنى القلب[1202] [حرف الفاء] -فمن رغب عن سنتي فليس مني[399] [حرف القاف] -القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار[468] [حرف الكاف] -كثير النفقة سمح فيه.لا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به[849] -الكوثر نهر وعدنيه ربي في الجنة[1226] [حرف اللاّم] -لا حسد إلاّ في اثنتين[1234]
ص: 392
طرف الحديث رقم الفقرة [حرف الميم] -المؤمن و الكافر لا يتراءيان[776] -ما من مسلم دعا اللّه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم[47] -المثقال من فضة الآخرة خير من الدنيا و ما فيها[1161] -المرء مع من أحب[516] -المسلم من سلّم المسلمون من لسانه و يده[1022] -من سن سنة حسنة[230] -من عمل سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها[306] -من مات فقد قامت قيامته[691] -من ملأ سمعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين[849] [حرف النون] -نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة[644] -الندم توبة[229] -نعم العبد صهيب،لو لم يخف اللّه لم يعصه[648] [حرف الهاء] -هلاّ قلت:و من عصى اللّه و رسوله فقد غوى[358] -هو الطهور ماؤه،الحل ميتته[53] [حرف الواو] -و اللّه إني لأمين في السماء أمين في الأرض[163] -و الذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن[858] -و الذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنى[849] [حرف الياء] -يقول اللّه تعالى:ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن[1218]
ص: 393
الكلمة رقم الفقرة -الأول وصف،و الثاني تعليم(الإمام الصادق)[93] -الدهر يومان:يوم لك،و يوم عليك(الإمام علي)[87] -فرض على النصارى صوم رمضان بعينه.فقدّموا عشرة،أو أخروا عشرة؛لئلاّ يقع في الصيف...(ابن عباس)[44] -قيمة كل امرئ ما يحسنه(الإمام علي)[859] -كتاب أكثر من كتب(ابن عباس)[85] -لو كشف[لي]الغطاء ما ازددت يقينا(الإمام علي)[70]
ص: 394
البيت رقم الفقرة [حرف الألف] و دعوت ربّي بالسّلامة جاهدا ليصحّني فإذا السلامة داء[927]
[حرف الباء] و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب[497]
لدوا للموت و ابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب[316]
خليلي مرّا بي على أم جندب نقضي لبانات الفؤاد المعذب[1026]
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإنّي و قيّار بها لغريب[382]
أ لم تر أنّي كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا و إن لم تطيب[1026]
[حرف الحاء] و لقد رأيت زوجك في الوغى متقلّدا سيفا و رمحا[722]
فقالت لصاحبيّ لا تحبسانا بنزع أصوله و اجتز شيحا[1026]
[حرف الدال] إخوتي لا تبعدوا أبدا و بلى و اللّه قد بعدوا[458]
قد أترك القرن مصفرّا أنامله كأن أثوابه مجت بفرصاد[1178]
تمنى رجال أن أموت و إن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد[843]
دعتك إليها مقلتاها و جيدها فملت كما مال المحب على عمد[944]
و ما الناس بالناس الذين عهدتهم و ما الدّار بالدّار التي كنت أعهد[165]
[حرف الراء] و أنت كثير يا ابن مروان طيّب و كان أبوك ابن العقائل كوثرا[1226]
ص: 395
البيت رقم الفقراء أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا[364]
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري[987]
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه أنّ الوليد أحق بالغدر[512]
و كنت إذا جاري دعا لمضوفة أشمّر حتى ينصف الساق مئزري[151]
فإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوة إلا بكيت على عمرو[705]
[حرف العين] و ما المرؤ إلا كالشهاب و ضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع[52]
فإن تزجراني يا ابن عفّان انزجر و إن تدعاني أحم عرضا ممنّعا[1026]
[حرف الفاء] إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا و إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا[1016]
نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض و الرّأي مختلف[1025]
[حرف اللاّم] ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل و كل نعيم لا محالة زائل[472]
فلمّا أجزنا ساحة الحي و انتحى بنا بطن خبت ذي خفاف عقنقل[934]
رأت مرّ السنين أخذن منّي كما أخذ السرار من الهلال[766]
إن الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا[963]
قد يدرك المتأني بعض حاجته و قد يكون من المستعجل الزّلل[963]
لعمرك ما أدري و إنّي لأوجل على أيّنا تعدو المنية أوّل[843]
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ و لا أرسلتهم برسول[767]
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز و أطول[843]
يريد الرّمح صدر أبي براء و يعدل عن دماء بني عقيل[636]
أصبحت أمنحك الصدود و إنني قسما إليك مع الصدود لأميل[843]
[حرف الميم] و أعلم ما في اليوم و الأمس قبله و لكنّني عن علم ما في غد عمي[1086]
و كن للذي لم تحصه متعلّما و أمّا الذي أحصيت منه فعلّم[669]
قد أعسف النازح المجهول معسفه في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم[1092]
ص: 396
البيت رقم الفقرة [حرف النون] إنّ دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهمّ بالإحسان[636]
رماني بأمر كنت منه و والدي بريئا و من أجل الطّوي رماني[1025]
فللموت تغذوا الوالدات سخالها كما لخراب الدّهر تبنى المساكن[514]
إن شرخ الشباب و الشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا[382]
و ما أدري إذا يمّمت أرضا أريد الخير أيهما يليني[559]
[حرف الهاء] إنّ من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه[950]
إذا رضيت علي بنو قشير لعمر اللّه أعجبني رضاها[727]
أولم تكن تدري نوار بأنّني وصّال عقد حبائل جذّامها[963]
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها[963]
[حرف الياء] على أنّني راض بأن أحمل الهوى و أخلص منه لا علي و لا ليا[87]
ص: 397
العجز رقم الفقرة 1-الأعجاز [حرف الألف] و من بعد أرض بيننا و سماء[10] [حرف الباء] فإنّي و قيّار بها لغريب[226] [حرف النون] نكن مثل من يا ذئب يصطحبان[499] فألفى قولها كذبا و مينا[790] معاذ اللّه من كذب و مين[895] 2-الصدور الصدر رقم الفقرة [حرف الألف] إذا لسعته النحل لم يرج لسعها[185] أشدد حيازيمك للموت[820] أنا أبو النجم و شعري شعري[1061] [حرف العين] علفتها تبنا و ماء باردا[1080]
ص: 398
الصدر رقم الفقرة [حرف الفاء] فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا[228] [حرف القاف] قفا نبك[من ذكرى حبيب و منزل][1026]
ص: 399
[حرف الألف] آدم(ع):107،111،138،205،206، 207،313،350،527،552،624، 684،685،686،698،743 795، 896،924،932 950،1140، 1192.
آصف:803.
آل محمد(ع):794.
آل يعقوب(ع):644،645.
إبراهيم(ع):18،28،29،66،69، 70،111،404،489،522،524، 525،527،532،659،660،701، 702،725،726،833،873،925، 927،928،932،1089،1192.
إبراهيم النخعي:924.
إبليس:168،268،314،315،318، 350،368،624،684،696،896، 947،1073،1084.
ابن الأنباري:426،531،541،601، 650،876،727،934،963،1198.
ابن جريج:816.
ابن جرير-(الطبري):587،786،832، 1189.
ابن جنّي:651.
ابن دريد:1191.
ابن السائب:1202.
ابن السكّيت:683.
ابن عباس:44،85،110،111، 147،149،254،384،388،426، 440،469،471،491،524،549، 596،601،603،612،614،624، 648،662،664،673،688،703، 705،715،763،784،793،807، 844،849،858،876،881،924، 991،1020،1029،1046،1082، 1105،1121،1158،1165،1190، 1195،1205،1207،1296،1230، 1232.
ابن عرفة:675.
ابن عمر:1205.
ابن قتيبة:149،394،426،440،469، 876،1029.
ص: 400
ابن مسعود:527،573،638،648، 768،849،924،1071،1097، 1205،1230.
أبو بكر:1018،1071،1176،1199.
أبو ثور:1026.
أبو جندب الهذلي:151.
أبو جهل:1199.
أبو رجاء:648.
أبو سليمان الدّاراني:840.
أبو طالب:731،1202.
أبو عبيدة:963،1051،1199،1223، 1232.
أبو علي:820.
أبو اللّيث(الفقيه):98.
أبيّ بن كعب:527،638،1191،1224.
الأخفش:579،651،751.
إدريس(ع):703.
الأزهري:651،675.
إسحاق(ع):289،526،527،794.
الإسلام:30،31،874،1228.
إسماعيل(ع):289،526،527،703.
الأصمعي:416.
الأعشى:74.
امرئ القيس:228،934،1026.
أميّة بن خلف:1199.
أنس بن مالك:1225.
الإنجيل:11،88،128،234،243، 247،1067،1093،1214.
أهل الكتاب:65،108،218،233، 237،837،1150،1214.
أيّوب(ع):489،946.[حرف الباء] بلعام:348.
البندنيجي :803.
بنو إسرائيل:216،223،230،333، 337،641،681،719.
بنو قريظة:235،416،880.
بنو النضير:235.
بيت المقدس:33،35،97،573،574، 575،986.
[حرف التاء] التوراة:11،13،88،128،243،338، 682،1067،1150،1214.
[حرف الثاء] ثابت بن قيس:1018.
ثعلب:114،603،683،1222.
الثعلبي:612.
ثمود:809،1198.
[حرف الجيم] جبريل(ع):95،343،368،378،380، 473،474،494،649،650،653، 983،1068،1076،1113،1153، 1226.
الجرجاني:944.
جعفر الصادق:93.
الجوهري:1،462،470،520،579، 669.
[حرف الحاء] الحجاز:163.
ص: 401
حذيفة:573.
حسّان بن ثابت:382،636.
الحسن:426،793،795،844،849، 945،1096،1179،1230.
الحطيئة:512.
حمزة بن عبد المطّلب:1071.
حوّاء:138،350،527،552،685، 950.
الحواريّون:2061.
[حرف الخاء] الخارجية-(الخوارج):129.
خديجة(ع):1202.
الخضر(ع):630،637،638،640.
الخليل:531،919.
[حرف الدّال] داود(ع):288،556،597،598،795، 868،941،942،943،1076.
[حرف الذّال] ذو القرنين:639،640،641.
ذو الكفل(ع):703.
[حرف الرّاء] الرّشيد:1050.
الرّوم:615.
[حرف الزّاي] الزّبور:88،597،598.
الزّبير:1071.
الزّجّاج:1،29،105،149،225،426، 469،531،558،583،612،675،924،995،1006،1034،1057، 1097،1137،1165،1198،1199، 1228،1236.
زكريا(ع):99،101،452،646،803.
الزّمخشري:88،98،410،445،475، 503،520،551،561،583،585، 612،624،787،913،927،963، 977،1027،1038،1092،1156، 1198،1199،1227،1228،1236.
الزّهري:254،527.
زيد:1071.
[حرف السين] سبأ:900.
سدوم:834.
السدّي:807،943.
سطيح:788.
سعد:1071.
سعيد بن جبير:596،685،849.
سليمان(ع):396،512،556،703، 795،796،798،799،802،803، 804،899،945.
سيبويه:531.
[حرف الشين] الشّافعي:387.
الشام:575،930،1224.
شريح:924.
الشعبي:738.
شعيب(ع):326،327،786،817، 818،822.
شق:788.
ص: 402
[حرف الصاد] الصابئون:226.
صالح(ع):325،534،600،1198.
[حرف الضّاد] الضّحّاك:297،763،1066،1071.
[حرف الطّاء] طالوت:59،91.
طلحة:1071.
الطّور:661،681،682،730.
[حرف العين] عائشة:1191.
عبد اللّه بن سلام:108.
عبد المطلب:1200.
عتبة بن ربيعة:1163.
عثمان:1071.
العرب:1،3،88،91،167،211، 256،295،327،340،350،358، 377،382،403،404،407،410، 422،450،458،496،505،509، 514،541،600،601،610،619، 636،725،794،843،876،940، 943،1026،1044،1161،1178، 1191،1199،1232.
عرفات(عرفة):49،50،51.
عزير(ع):58،68،378،553،949.
عزيز مصر:168.
عكرمة:736،849،1124.
علي(بن أبي طالب):70،603،924، 1071،1179.
عمر:871،1018،1071،1176،1179.
عيسى(ع):44،60،100،102،104، 105،107،113،194،201،205، 206،207،217،260،261،262، 263،264،265،266،268،290، 435،528،553،578،655،656، 658،718،868،873،886،906، 949،963،988،1069،1077، 1093،1095.
[حرف الفاء] الفرّاء:225،384،439،469،607، 628،794،826،876،924،940، 958،995،1005،1026،1157، 1202،1223،1236.
الفرزدق:364،843.
الفرس:615.
فرعون:328،329،331،333،394، 400،432،486،529،600،603، 604،679،680،769،770،774، 821،867.
الفضيل:1179.
فنحاص بن عازوراء:108.
[حرف القاف] قابيل:228،229،230.
قارون:221.
القبط:719.
قتادة:268،368،376،795،849، 932،945،1050،1191.
القرآن:28،88،89،91،171،184، 234،235،245،247،275،281،
ص: 403
290،297،303،343،380،396، 407،421،422،434،446،447، 462،473،501،505،514،529، 560،564،565،567،571،598، 601،605،612،613،619،623، 663،688،692،694،697،723، 731،774،790،825،849،922، 924،940،955،985،1023، 1051،1052،1067،1087،1134، 1145،1150،1161،1175،1183، 1204،1207،1214،1226.
قريش:1224.
قس بن ساعدة:172،175.
قطرب:675.
[حرف الكاف] الكسائي:603،940.
الكعبة:35،111،255،256،419، 726.
الكلبي:721.
[حرف اللاّم] لبيد:472،963.
لوط(ع):462،785،936.
[حرف الميم] ماروت:696.
مالك(ع)(خازن النار):1026.
الماوردي:1188.
المبرّد:531،651،1026.
مجاهد:68،412،623،820،849، 1165.
المجوس:66.
محمّد(ص):13،35،39،98،113، 169،194،200،234،279،290، 401،434،528،597،600،663، 794،868،869،872،874،885، 906،924،936،983،984،1069، 1077،1093،1150،1192،1212، 1229.
المدينة:12،13،181،382،619،715.
مريم(ع):97،103،104،105،378، 578،648،652،704،803.
مزدلفة:49،50.
المسجد الأقصى-(بيت المقدس).
المسلمون:849،1167،1169،1225.
مسيلمة:788.
المعتزلة:129.
معن بن أوس المزني:843.
مقاتل:162،297،439،456،703، 763،765،786،795،803،807، 1038،1180،1216.
مكّة:12،28،48،181،348،362، 371،377،502،573،574،619، 715،731،736،1007.
ملكانية:217.
موسى(ع):44،53،58،60،113، 200،221،223،224،290،330، 332،333،335،336،337،339، 342،348،394،430،431،432، 480،486،519،528،600،603، 604،628،630،636،637،640، 661،662،670،671،672،673،
ص: 404
677،681،682،718،719،767، 768،770،793،795،861،817، 821،822،868،873،963،983، 987،1050،1069،1077،1173، 1178.
ميكائيل(ع):380،473،474.
[حرف النون] النخعي:527.
نسطورية:217.
النصارى:34،38،44،217،220، 222،226،290،378،435،949، 1077،1214.
النضر بن الحارث:712.
نمرود:66.
نوح(ع):279،323،324،449،450، 452،576،828،873،874،914، 925،1050،1076،1141،1142.
[حرف الهاء] هابيل:228.
هاروت:696.
هارون(ع):431،432،662،677، 767،821.
هامان:333.
هود(ع):324،449،453،457.
[حرف الواو] الواحدي:849.
ورقة بن نوفل:172،175.
الوليد:512.
الوليد بن المغيرة:1047،1163.
[حرف الياء] يحيى(ع):100،101،657،658.
يعقوب(ع):289،475،477،478، 490،491،492،644،946.
يعقوبية:217.
اليمن:1224.
اليهود:34،35،106،201،220،222، 244،249،256،290،378،435، 664،949،1077،1079،1082، 1214.
يوسف(ع):163،228،477،482، 485،486،488،489،490،493، 494،495،644.
يوشع(ع):628،629،630.
يونس(ع):640،795،936.
ص: 405
مقدمة 5 1-المؤلف 5 2-مؤلفاته 5 3-الكتاب 6 مقدمة المؤلف 9 سورة فاتحة الكتاب 10 سورة البقرة 12 سورة آل عمران 32 سورة قصة النساء 46 سورة المائدة 66 سورة الأنعام 82 سورة الأعراف 91 سورة الأنفال 101 سورة التوبة 108 سورة يونس عليه السلام 119 سورة هود عليه السلام 125 سورة يوسف عليه السلام 136 سورة الرعد 144 سورة إبراهيم عليه الصلاة و السلام 146 سورة الحجر 154 سورة النحل 157 سورة الإسراء 168 سورة الكهف 182 سورة مريم عليها السلام 192 سورة طه عليه السلام 200 سورة الأنبياء 207 سورة الحج 212 سورة المؤمنون 217 سورة النور 219 سورة الفرقان 224 سورة الشعراء 228 سورة النمل 234 سورة القصص 240 سورة العنكبوت 244 سورة الرّوم 247 سورة لقمان 250 سورة السجدة 253 سورة الأحزاب 256 سورة سبأ 263 سورة فاطر 265 سورة يس 266 سورة الصافات 269
ص: 406
سورة ص 274 سورة الزمر 277 سورة المؤمن(غافر)280 سورة حم السجدة 284 سورة الشورى 286 سورة الزخرف 289 سورة الدخان 291 سورة الجاثية 293 سورة الأحقاف 294 سورة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم 295 سورة الفتح 296 سورة الحجرات 298 سورة ق 300 سورة الذاريات 303 سورة الطور 305 سورة النجم 306 سورة القمر 308 سورة الرّحمن عزّ و جلّ 310 سورة الواقعة 312 سورة الحديد 315 سورة المجادلة 318 سورة الحشر 319 سورة الممتحنة 322 سورة الصف 323 سورة الجمعة 325 سورة المنافقون 326 سورة التغابن 327 سورة الطلاق 328 سورة التحريم 330 سورة الملك 332 سورة ن(القلم)333 سورة الحاقة 334 سورة المعارج 336 سورة نوح(عليه السلام)337 سورة الجن 338 سورة المزّمل 339 سورة المدّثر 340 سورة القيامة 342 سورة الإنسان 343 سورة المرسلات 346 سورة النبأ 347 سورة النازعات 348 سورة عبس 349 سورة التكوير 350 سورة الانفطار 351 سورة المطففين 352 سورة الانشقاق 353 سورة البروج 354 سورة الطارق 355 سورة الأعلى 356 سورة الغاشية 357 سورة الفجر 359 سورة البلد 361 سورة الشمس 362 سورة الليل 363 سورة الضحى 364 سورة الانشراح 365 سورة التّين 367
ص: 407
سورة العلق 368 سورة القدر 369 سورة البيّنة 370 سورة الزلزلة 371 سورة العاديات 372 سورة القارعة 373 سورة التكاثر 374 سورة العصر 375 سورة الهمزة 376 سورة الفيل 377 سورة قريش 378 سورة الماعون 379 سورة الكوثر 380 سورة الكافرون 381 سورة النصر 383 سورة تبّت 384 سورة الإخلاص 385 سورة الفلق 386 سورة الناس 387 الفهارس 1-فهرس الأحاديث النبوية 391 2-فهرس الآثار 394 3-فهرس الأبيات الشعرية 395 4-فهرس أنصاف الأبيات 398 5-فهرس الأعلام 400 6-فهرس المحتويات 406
ص: 408