آراء حول القرآن

اشارة

نام كتاب: آراء حول القرآن

نويسنده: سيد على علامه فانى اصفهانى

موضوع: قرآن شناسى

تاريخ وفات مؤلف: 1368 ش

زبان: عربى

تعداد جلد: 1

ناشر: دار الهادى

مكان چاپ: بيروت

سال چاپ: 1411 / 1991

نوبت چاپ: اوّل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الخطبة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين و اللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.

إن التدبر في القرآن الحكيم و الخوض في فهم معانيه لدرك حقائقه و معارفه لا يتيسر إلا بمعرفة أمور:

ص: 4

الأمر الأول: حجية ظواهر الكتاب

لا ريب في اختلاف المسلمين في كيفية فهم مطالب القرآن و تفسير معضلاته،اختلافا لا يرجى زواله كما لا ينبغي التأمل في أن السبب الوحيد لذلك هو الاختلاف في مسألة الخلافة.

فمن يرى أن النبي(ص)لم يخلف أحدا،بل المسلمون تلبية لنداء القرآن: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (1)،و حفظا لمصلحة العام و رعاية لاستقرار النظام،انتخبوا زعيما دينيا لهم،يقول:القرآن حجة في محكماته و ظواهره،و تتبيّن بالسنّة النبويّة مجملاته و متشابهاته،و السنّة عند هذه النظرية لا تخرج عن دائرة روايات الصحابة و إن كان الراوي خارجيا و لا تشمل ما رواه الحسن و الحسين و أولادهما(ع).

ص: 5


1- سورة الشورى،الآية:38.

و انشق عن هذه الجماعة فرقتان:فرقة تقول بأن السنّة لا تشمل روايات علي(ع)لارتداده عن الدين بارتضائه التحكيم،و لا تشمل أيضا روايات عثمان لارتداده كذلك بما أتى به من مخالفات للإسلام،و لهؤلاء نظرية غريبة و هي عدم الحاجة في فهم القرآن إلى التفسير لأن القرآن هو الهادي و هو النور و هو البيان و هو الذكر،فكيف يحتاج إلى هاد خارج عن ذاته،و شعارهم كان و لم يزل:لا حكم إلاّ للّه،مأخوذا من قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ (1)و فرقة اخرى تقول:على النبي(ص)أن يبين القرآن،لقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (2)فليس لأحد تفسيره إلا بمتابعة بيان النبي(ص)له،نقل ذلك عن ابن تيمية،و تبعه أتباعه.

و من يعتقد أن النبي(ص)نص على خلافة علي و أولاده(ع)،لأن الإمامة عهد الهي،أمرها بيد اللّه و ليس لأحد من الأمة حق الجعل فيها،يرى أن القرآن حجة في محكماته و ظواهره و يحتاج إلى التفسير الوارد عن المعصومين-النبي و خلفائه الاثني عشر(ع)-في مجملاته و متشابهاته و لا مجازفة في هذا القول،بل هو فرع لهذا الأصل الكلامي-و هو الإمامة-و لا مجال لتفنيد المترصد للاشكال علينا بأنه لم تقولون:«الراسخون في العلم علي و أولاده(ع)» (3)،اذ الجواب واضح و هو أنّا نرى هؤلاء خلفاء للنبي(ص) بالنصوص و الأدلة،و بعد الفراغ عن هذا يكون القرآن متكئا في إيضاحه على أمرين،هما أساسان قويمان للتفسير.

الأول:القواعد العربية من اللغة و الصرف و النحو و المعاني و البيان و البديع.7.

ص: 6


1- سورة الأنعام،الآية:57.
2- سورة النحل،الآية:44.
3- كما في الكافي:ج 1 ص 213 باب ان الراسخون في العلم...و الوسائل:ج 18 ص 132 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 7.

الثاني:الأثر الصحيح و المراد منه ما ورد بسند صحيح عن النبي أو أحد ائمتنا الاثني عشر(ع)،فالسنّة على مذهبنا عبارة عن أقوال النبي و الأئمة(ع) بشرط كون السند صحيحا،و نحن نرفض بتاتا و من دون وسوسة ما يسمى بالسنة إذا كان الجائي به فاسقا،اطاعة لحكم العقل الذي أرشدنا اليه قول اللّه سبحانه،في الشريفة الربانية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1)،و من المدهش الغريب أن من يطرح قول عدولنا لأنهم روافض كيف يطلب منا قبول قول فسّاقه لأنهم أهل نحلته،ما هكذا تورد يا سعد الإبل.

و فينا جماعة يمنعون عن حجية ظواهر الكتاب و يقولون بأن اللازم ورود خبر صحيح في تفسيرها أيضا،و إليك جدول آراء الفرق الإسلامية في هذا الصدد و ما يعتمدون عليه في تفسير القرآن.

1-الاصوليون من الشيعة الإمامية،و هم القائلون بحجية ظواهر الكتاب بأن العترة مبينة لما تعسر فهمه أو أجمل المراد منه،و ناهيك لصحة هذا القول ما ورد عن النبي(ص)متواترا من:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (2)،و هذا الحديث متواتر و قد سمعه أكثر من ثلاثين صحابيا.

2-الأخباريون من الشيعة الإمامية،و هم القائلون بعدم حجية ظواهر الكتاب.

3-أهل السنّة،القائلون بحجية ظواهر الكتاب و أنه قد فسرت جملة من7.

ص: 7


1- سورة الحجرات،الآية:6.
2- الوسائل:ج 18 ص 151 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 77.

آياته بالأخبار المأثورة عن النبي(ص)بالطرق المذكورة في الصحاح الستة و غيرها.

4-الوهابية،اتباع ابن تيمية،القائلون بأن النبي مبين للقرآن.

5-الخوارج،القائلون بأن القرآن واضح الدلالة،منزّل للهداية،و لا يحتاج إلى التفسير و البيان.

و التحقيق حجية ظواهر الكتاب كظواهر السنّة و سائر الظواهر و عدم خروج ظواهر الكتاب عن قاعدة حجية الظواهر،إذ أنّ هذه القاعدة كانت و لم تزل مطردة في جميع الأعصار و الأمصار،و عند كافة العقلاء من أيّة لغة كانوا و لم يردع الشارع عن هذه القاعدة في مورد القرآن.

أما بيان القاعدة فهو ان البشر منذ نشوء المدنية كان و لم يزل محتاجا في تفهيم مقاصده إلى آلة لإبرازها،من الإشارات و العلائم و النصب و ترسيم الصور،إلى أن وصل إلى آلة لإبراز مقاصده أوسع نطاقا من الكل و أسهل تناولا من الجميع،و هو اللفظ فوضع كل لفظ خاص لمعنى مخصوص،فحكمة الوضع كانت من الأول تفهيم المقاصد،فالمتكلم بأيّة لغة إذا كان عاقلا جادا غير مجازف فعليه أن يستعمل كل لفظ فيما وضع له و يطبقه على مراده الجدي -في عالم بيان المقصد-،و إذا أراد التجاوز عن الموضوع له إلى معنى آخر كان عليه الإتيان بالقرينة،فقانون المحاورة موافقا لحكمة الجعل عبارة عن بناء العقلاء بالأخذ بمقتضى الوضع اللغوي.

و لذا يكون الظاهر حجة بمعنى كونه برهانا للمتكلم على مراده الجدي في عالم الاحتجاج على مخاطبه و برهانا للمخاطب كذلك،فإذا قال المولى:

ائتني بالماء،فله أن يحتج على عبده إذا أتى بشيء آخر،بقانون المحاورة، كما أنه لو أتى بالماء فقال المولى:لم جئت به إذ لم يكن الشيء الرطب البارد السيال مرادا لي،كان للعبد أن يحتج عليه بقانون المحاورة،و انه لم لم

ص: 8

تنصب قرينة على مرادك الذي كان خلافا لظاهر اللفظ،و من البديهي أن القرآن الذي نزل للتحدي و الإرشاد بلسان القوم،تكون ظواهره كسائر الظواهر حجة لدى العقلاء إذ لم يعهد من الشارع الإتيان بطريقة جديدة في باب الألفاظ، و تفهيم المقاصد بها و لم يردع عن الطريقة المألوفة العقلائية،و هذا المقدار كاف في حجية ظواهر الكتاب من دون حاجة إلى التعبد بتلك الظواهر أو غيرها،بل يكون سبيل سائر الطرق و الامارات القائمة على الأحكام و الموضوعات و الصفات و سائر الجهات،سبيل الظواهر في كون حجيتها ببناء العرف من دون حاجة إلى التعبد الشرعي.

نعم،ذهب جمهور من علماء علم الأصول إلى أن للشارع جعل الظاهر كما أن له الجعل للطريق،و لهم في بيان مدعاهم تقريبات مختلفة و مسالك متعددة:

من تنزيل المؤدي منزلة الواقع إلى تتميم الكشف-بتقريب أن الطريق الظني يكون ناقصا في جهة إراءة الواقع،و الشارع إنما تمم كشفه بالجعل التعبدي،فالظن الحجة شرعا مصداق للعلم التشريعي-،و نحن قلنا بأن عدم ردع الشارع لأي طريق عرفي أو أمارة عرفية كاف في بقاء الطريق المذكور أو الامارة المذكورة على حجيتهما العرفية،بل الجعل غير متصور في باب الطرق و الإمارات،و ذلك لأن صحة الجعل مشروطة بشرائط أربع،كلها مفقودة.

الأول:الإمكان الثبوتي لجعل الطريق بأن لا يكون جعله لغوا أو جزافا و من المعلوم أن الطريق إن كان بحسب نفس الأمر و الواقع طريقا فجعله طريقا بالإلزام الشرعي تحصيل للحاصل القبيح صدورا من أي عاقل و المحال صدورا من الحكيم جل و علا،و إن لم يكن في الواقع طريقا فجعله طريقا جزاف و صدور الجزاف من العاقل قبيح و من اللّه محال.

هذا إذا أردنا التحفظ على عنوان الطريق و جعل الطريقية لشيء ما،و أما

ص: 9

لو عدلنا عن هذا العنوان و قلنا بأن المراد من جعل الطريق الأمر بالتطرق أو الأمر بمعاملة المؤدي منزلة الواقع أو الأمر بترتيب الأثر أو جعله موصلا من حيث العمل و نحو ذلك،فالجواب عنه أن ذلك إن كان له ثبوت و واقعية فليس له في الخارج عين و أثر،و إن شئت قلت أن جميع ما ذكر عدا تتميم الكشف الذي مر الإشكال عليه خروج عن محل البحث.

الثاني:دلالة الكتاب أو السنّة على جعل الطريق تعبدا،و هذا كسابقه منتف بل هو توهم فاسد،و ذلك لأن الآيات المستدل بها على حجية الطريق شرعا ليست إلا مسوقة إما للأثر الخارجي المترتب قهرا على خبر المخبر من دون سوق لها للأخذ به تعبدا،كقوله تعالى: وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (1)،لأنك ترى أن الآية مسوقة للزوم الإنذار لغاية الحذر،و الحذر أثر قهري يترتب على إنذار المنذر إذا كان بحيث يكون بنفسه قابلا للتأثير فلا إطلاق للآية من حيث لزوم التأثر بالإنذار حتى يتوهم أن مدلوله الالتزامي حجية قوله تعبدا،و بمثل هذا إيجاب عن الاستدلال بقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2)،و ما هو نظيره مما ليس مسوقا لجعل الحجية لخبر الواحد.

و اما معللة بعلة ارتكازية عقلية،يكون معللها عقليا لعقلية علته و هو آية النبأ إذ الشارع تعالى بعد أمره بالتبين في الخبر الذي جاء به الفاسق، يقول: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (3)،و من الجلي الواضح أن الاعتماد بقول الفاسق مظنة للوقوع في المفاسد.

فإصابة القوم بما لا يعلم من الفتن أثر خارجي لترتيب الأثر على قول غير6.

ص: 10


1- سورة التوبة،الآية:122.
2- سورة النحل،الآية:43 و سورة الأنبياء،الآية:7.
3- سورة الحجرات،الآية:6.

المتحرز عن الكذب يعلمه كل عاقل راجع وجدانه كما أن لزوم الفحص عن صحته و سقمه حينذاك حكم عقلي يحكم به كل عاقل بارتكازه و فطرته من دون حاجة إلى أعمال التعبد في ذلك فالآية ناظرة إلى حكم العقل،مرشدة للعقلاء إلى التثبت الكامل و التبين حول خبر الفاسق.و نحن قلنا بأن إطلاق قوله تعالى فاسق في الصدر،محكوم بالتعليل في الذيل،و وجه الحكومة أن العلة لنصوصيتها في بيان ملاك الحكم أقوى من الموضوع و على هذا نحن نأخذ بقول الفاسق المتحرز عن الكذب حيث أن فسقه من غير جهة الكذب،و الفسق إذا كان من غير جهة الكذب-كشرب الخمر-لا يكون سببا للإلقاء في المخاطر، و هذا فيما إذا أحرزنا صدقه،و على هذا الأساس قلنا بأن الخلل في المذهب لا يكون موجبا لضعف الخبر،و الأخبار المستدل بها على حجية خبر الفاسق لا تكون-أيضا-دالة على حجية خبر العادل تعبدا،لأن التعليلات الواردة فيها ناظرة طرا إلى أمور ارتكازية عقلائية و قد أسمعناك أن العلة إذا كانت عقلية كان المعلل عقليا،و إليك نبذ من تلك التعليلات كقوله(ع):«فاسمع له و أطع فإنه الثقة المأمون» (1).و قوله(ع):«فإنهما الثقتان المأمونان» (2)، و قوله(ع):«فإن في خلافهم الرشاد» (3)،و قوله(ع):«فإن المجمع عليه لا ريب فيه» (4)،و انظر إلى هذا السؤال و الجواب:أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة،آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟فقال:«نعم» (5).

ترى ان قبول قول الثقة،كان في ارتكاز السائل ثابتا،و انما سأل عن الموضوع و هو كون يونس ثقة،و راجع كتاب القضاء من الوسائل،تجد فيه ما3.

ص: 11


1- الوسائل:ج 18 ص 100 الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح 4.
2- نفس المصدر.
3- الوسائل:ج 18 ص 76 و 80 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 و 19.
4- نفس المصدر.
5- الوسائل:ج 18 ص 107 الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33.

يفيد المقصود أزيد مما ذكر.و نتيجة ما ذكرنا كفاية حكم العقل على حجية خبر المخبر الموثوق به من غير حاجة إلى التعبد التأسيسي.

الثالث:ملاك الجعل على مذهب العدلية القائلين بلزومه في الجعل حذرا من اللغوية الخارجة عن نطاق التشريعات الالهية و لا ملاك في جعل الطريق بعنوان أنه طريق موصل إلى الواقع.

و بيانه أن الطريق اما موصل الى الواقع و اما لا،و على الأول،لا ملاك إلا في مؤداه،و على الثاني،فلا شيء حتى يكون فيه الملاك.

الرابع:الثواب على الإطاعة و العقاب على المخالفة،إذ لولاهما للزم الظلم و الخلف المستحيلان على اللّه و لا ثواب على إطاعة الأوامر الطريقية لأن المفروض أن الغرض منها الإيصال إلى الواقع محضا و لا عصيان على مخالفتها بما هي هي لما عرفت،نعم لا نتحاشى عن الثواب الانقيادي و لكن لا ربط له بباب الطريق.

و أما المانعون عن حجية ظواهر الكتاب،و هم اخواننا الأخباريون،فقد استدلوا على ذلك بأمور،أهمها أمران:

الأول:العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في جمل كثيرة من تلك الظواهر،بتقريب أنه لا ريب في وجود الناسخ و المنسوخ و المجمل و المتشابه في الآيات القرآنية،كما لا خلاف في تقييد جملة من المطلقات و تخصيص العمومات و لا مجال للتشكيك في وجود المجاز في الحقائق القرآنية،بحيث ألفوا في مجازات القرآن كتبا،و نتيجة هذا العلم الإجمالي سقوط ظواهر القرآن عن الحجية رأسا لعدم العلم التفصيلي بموارد تلك المخالفات للظواهر، و الجواب عنه واضح لأن العلم الإجمالي من حيث الانحلال و عدمه على أربعة أقسام:

القسم الأول:ما ينحل حكما و هو ما إذا كان في مورده أصل مثبت

ص: 12

للتكليف مع قطع النظر عن العلم الإجمالي نظير ما إذا كان هناك كأسان، أحدهما مستصحب النجاسة،فوقعت قطرة دم لا يدري هل وقعت في الكأس المستصحب النجاسة أم في الآخر،فحيث أن الكأس الأول مورد للتكليف اللزومي بحيث لم يؤثر وقوع الدم فيه لإيجاد تكليف آخر يقال:إنّ الكأس الثاني مورد لجريان أصالة الطهارة فلا علم اجمالي في البين،بل هو منحل حكما بسبب الاستصحاب الجاري في أحد الكأسين و لكننا قلنا أن العلم الإجمالي بالتكليف في أمثال المثال،لا يتشكل من الأول،لأن الأصل الجاري في بعض الأطراف المثبت للتكليف مانع عن تشكيله نظير ما إذا كان أحد الأطراف نهرا جاريا أو خارجا عن مورد الابتلاء.

القسم الثاني:ما ينحل علما وجدانيا أو كالعلم الوجداني نظير البيّنة، كما إذا رأينا الدم في الكأس الشرقي مثلا أو قامت بيّنة على ذلك،و حينذاك إن احتملنا إصابة الدم للكأس الغربي مثلا أيضا،نقول أن العلم الإجمالي انحل إلى علم تفصيلي و شك بدوي،نريد بالشك البدوي احتمال النجاسة الموجودة في الكأس الغربي.

القسم الثالث:ما إذا لم نحتمل ذلك،فنقول أن الإجمال ارتفع قطعا، إذ العلم الإجمالي انقلب إلى العلم التفصيلي.

القسم الرابع:ما إذا بقي الإجمال بحاله حيث أن اللازم الاحتياط بالنسبة إلى جميع محتملات انطباق المعلوم معها من غير فرق بين تولد علم تفصيلي منه في بعض محتملاته أم لا،لأن التنجز الحدوثي كاف لحكم العقل بالاحتياط بقاء و لأن معاملة الانحلال مع هذا القسم دوري و موجب لعدم الانحلال بدليل أن إجراء الأصل في الطرف الآخر.

و هو العدل للطرف الذي تحقق منه العلم التفصيلي فيه موجب لارتفاع العلم الإجمالي و ارتفاعه سبب لعدم تولد العلم التفصيلي منه،في الطرف

ص: 13

الآخر،فيعود العلم مجملا كما كان-و فيما نحن فيه ينحل العلم الإجمالي بوجود مخالفات لظواهر الكتاب بالفحص عنها في مظان وجودها إذ أنّ تلك المخالفات لم تبق مخزونة في علم غيب الباري.

-المنزل لكتابه المنزل-بل بيّنها لنبيه(ص)و هو اداء لوظيفته-التي هي بيان للقرآن فيما يحتاج إليه من البيان-قد بيّن لباب مدينة علمه و هو أعلم أهل الإسلام بعد النبي(ص)باتفاق كافة المسلمين و أخبارهم،علي بن أبي طالب(ع)،و هو قد بيّنه بدوره لابنه،الحسن المجتبى(ع)الوصي من بعده، و هكذا سائر الأئمة(ع)،و هؤلاء بينوها لأصحابهم رواة الأحاديث في مدة تقارب ثلاثمائة سنة و بعد نشرها من قبل رواة الأحاديث،دونها أهل التدوين و هم المشايخ الثلاثة الأقدمون المحمدون المعروفون (1)،فنحن نقول أن الفحص في روايات الثقل الأصغر عترة النبي(ص)يوجب انحلال العلم الاجمالي المذكور بعد علمنا التفصيلي بموارد وجود المخالفات و الشك البدوي في الموارد الأخرى من الظواهر.فإن قلت:أن الفحص عن معارضات ظواهر الكتاب و الظفر بها بمقدار المعلوم بالاجمال لا يفيد الانحلال لبقاء احتمال وجود معارضات أخرى للظواهر في الواقع و لم نظفر بها،إذ من الممكن وجود ناسخ،أو خاص،أو مقيد،أو قرينة مجاز،لم نجدها بعد الفحص عن المعارضات.

قلت:لا بد في كل علم إجمالي ملاحظة دائرة تشكيله،إذ لا تعقل أوسعية دائرة التنجز من دائرة التشكيل،فإذا كانت محتملات الانطباق لمعلوم اجمالي مائة،لم يجب ترتيب الأثر-أي أثر كان مترتبا على المعلوم-الأعلى هذا المقدار من الدائرة.ي.

ص: 14


1- و هم محمد بن علي بن الحسين الصدوق و محمد بن يعقوب الكليني و محمد بن الحسن الطوسي.

و أما ما يكون خارجا عنها فلا،و في المقام هل لمنصف غير مشكك دعوى العلم بمخالفات الظواهر للقرآن أزيد مما ظفرنا عليه في أخبار أهل بيت الوحي و العصمة،خزان علم اللّه و علم النبي(ص)؟!كلا،فدائرة العلم الإجمالي لم تكن أوسع مما بأيدينا من الأخبار و من هذا البيان يتضح جواب من قال أن القرآن بأجمعه خارج عن نطاق الإفهام و يحتاج إلى بيان النبي(ص).

و توضيح الجواب هو ما قلنا من أن ما يحتاج إلى البيان من آيات القرآن مبين،بينه خلفاء النبي(ص)ببيان منه لهم و بيانهم لنا.

و جملة القول،أن العلم الاجمالي إنما يؤثر بمقدار تشكيله،فلا بد و أن ينظر إلى دائرته سعة و ضيقا،و بعد الفحص عن المخصصات و المقيدات أو القرائن التي توجب صرف الظهور فلا مانع من العمل بظواهر القرآن،لأنه لم ينعقد لنا علم اجمالي أوسع مما يظفر به الفاحص الباحث عنها في الأخبار، فمن الغريب أن الاخباريين سدوا الباب و قالوا لا حجية لظواهر القرآن مطلقا، و إنما يعرف القرآن محكمه و متشابهه و عامه و خاصه،أهل البيت(ع)،و في مقابلهم الذين أفرطوا في الأخذ بما في القرآن من المحكم و المتشابه معا و فتحوا باب التأويل في القرآن كبعض الصوفية لأننا نرى أهل العرفان-على ما يدعونه- منهم،كلما أرادوا الاستدلال على ما يتخيلونه و يذهبون اليه من المذاهب الفاسدة،لجأوا إلى الآيات القرآنية بالتأويل و التلفيق لإثبات ما يشتهونه من أهوائهم و رغباتهم السخيفة.

و لذا نقول بأن الروايات المانعة عن التفسير بالرأي ناظرة إلى هؤلاء و أشباههم من الذين انحرفوا عن طريق الهدى إلى مسير الهوى و الردى،و عدلوا عن الصراط المستقيم إلى تيه الضلال،و اعتنقوا مبادئ فاضحة،و عقائد فاسدة،و تكلموا بأقاويل مبهمة،و أتوا بأباطيل كاذبة،ليس لهم عليها من سلطان،و ان العقل السليم يبرئ ساحة قدس القرآن من أن تحومها تلك

ص: 15

الشبهات السوداء و الخيالات و الأهواء.

الثاني:الاخبار الكثيرة الواردة في باب تفسير القرآن-حيث توهموا أنها تفيد الردع عن حجية ظواهر الكتاب مطلقا،حتى لا يكون ظاهر آية أو كلمة حجة لو لا ورود الأثر الصريح و النص الصحيح عن المعصومين(ع)في مفاده، و قد ذكر جملة من تلك الأخبار صاحب الوسائل(ره)في الباب الثالث عشر من كتاب القضاء في صفات القاضي و نقل عنه القول ببلوغ الروايات المانعة عن حجية ظواهر الكتاب مائتين و عشرين حديثا،و لا بد لنا أولا أن نفصل تلك الأخبار من جهة مفادها،لأن مداليلها الظاهرية مختلفة،ثم تقريب الاستدلال بكل طائفة منها على مرام الاخباري و الجواب عنه فنقول،يمكن تنويع هذه الأخبار إلى طوائف أربع:

الأولى:ما تمنع عن ضرب بعض القرآن ببعض،حيث ورد في الكافي و غيره بأنه:«ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر» (1)،و تقريب الاستدلال بهذه الطائفة،ان التصرف بالتفسير في الآيات القرآنية ضرب لبعضها ببعض،و لا أقل من شمول اطلاق هذا الكلام للتفسير و الأخذ بالظاهر.

و الجواب أنه قد اختلف في معنى الحديث،فقال المجلسي(ره):ان معناه الاستدلال ببعض الآيات المتشابهة على مذهب باطل و عقيدة فاسدة ثم تأويل سائر الآيات بحملها على المعنى الذي أراده،و قال الصدوق(ره):

معنى ضرب القرآن بعضه ببعض أن يجيب في تفسير آية بتفسير أخرى،و قال الفيض الكاشاني(ره)في تفسيره:لعل المراد بضرب بعضه ببعض،تأويل بعض متشابهاته إلى بعض بمقتضى الهوى من دون سماع من أهله أو نور و هدى5.

ص: 16


1- الوسائل ج 18 ص 135 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 22.و الكافي:ج 2 ص 632 و 633 باب نوادر فضل القرآن ح 17 و 25.

من اللّه،و هكذا قال في الوافي،فيكون معناه أن يؤوّل آية متشابهة و يحمل الاخرى على هذا المؤول،و الذي نختاره في معنى الحديث هو تقطيع الآيات و تلفيقها خلطا و مزجا بما يوافق مذهبا فاسدا،اضلالا للناس،و يشهد لذلك ما نرى في الخارج من سيرة أرباب المذاهب الباطلة،و الآراء المضللة،كجماعة من الصوفية و جمع من الخوارج الذين لا يقرعون أبواب الأئمة العالمين بحقائق القرآن و يتصدون لاستخراج الفروع الفقهية و ما شابهها من القرآن،فلا يرون مناصا إلا بتقطيع الآيات و نشر قطعاتها ثم مزج بعضها ببعض،فترى الصوفية و جمعا من الخوارج و حتى أولي الآراء السياسية يتشبثون بكلام اللّه فيلفقون قطعة آية أو تمامها بقطعة آية أخرى أو تمامها و يجعلون الملفق من الآيات و أبعاضها دليلا على مسلكهم و برهانا على مذهبهم،فيستدل الاشتراكي بقوله تعالى:

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (1) ،و يقطعه عما قبله و عما بعده،و لا يلاحظ سوق الكلام و يقول باشتراك الكل في ملك الأرض،و قد يروم بعض الغفلة بترويج هذا المسلك الوعر الضال المضل ببيان أن النضج الفكري و الارتقاء المعنوي يقتضي مثل هذا التلفيق،و ملخص القول في معنى ضرب القرآن بعضه ببعض أن معناه تركيب القرآن بعضا مع بعض على حسب ما يهواه المركب و ربما يرجع هذا المعنى إلى التأويل الباطل و إن لم يكن منه في الحقيقة،كما سيتبين فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن هذا الحديث لا ينافي ما ورد من أن القرآن يفسر بعضه بعضا لأنه ناظر إلى الحكومة التفسيرية أو دلالة الاقتضاء من دون أعمال شخصية فكرية أو ذوقية حسب التشهي في ذلك التفسير،و بيان ذلك أن معنى الحكومة أن يكون للآية الحاكمة نظر إلى الآية المحكومة و لا بد في تلك الحكومة من موافقة طباع العرف عليها،فتحكيم آية على أخرى بالحكومة التفسيرية نحو جمع عرفي0.

ص: 17


1- سورة الرحمن،الآية:10.

حسب المحاورة لا ربط له بالتفسير من تلقاء النفس و حسب تشهيها بأن يجمع بين آية و أخرى من دون مناسبة طبيعية و من دون اقتضاء الجمع الدلالي له و يجعل مجموعهما ناظرا إلى ما يهوى.

كما أن معنى دلالة الاقتضاء أن الجمع بين قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً (1)،و بين قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (2)،يقتضي عقلا أن يكون أقل الحمل ستة أشهر و الجمع المذكور إنما هو بالمعنى الاسم المصدري و أعني به أن اجتماع الآيتين بنفسهما يقتضي ذلك لا الجمع بالمعنى المصدري اقتراحا من أي أحد كان و أي شيء أراد.

الثانية:ما تمنع عن التفسير بالرأي و هي كثيرة جدا،ففي صحيح زيد الشحام يخاطب الباقر(ع)قتادة و يقول:« ويحك يا قتادة ان كنت انما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت،و إن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت و اهلكت» (3).

و قال الرضا(ع)لابن جهم:«اتق اللّه و لا تؤول كتاب اللّه برأيك» (4).

و روى العامة عن النبي(ص)قال:«من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار،فمن أصاب الحق فقد اخطأ» (5)،و عنه أيضا:«من قال في4.

ص: 18


1- سورة الأحقاف،الآية:15.
2- سورة البقرة،الآية:233.
3- الوسائل:ج 18 ص 136 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 25.
4- الوسائل:ج 18 ص 138 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 31.
5- الوسائل:ج 18 ص 151 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 79 و العوالي ج 4 ص 104.

القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (1).

و في الحديث القدسي:«ما آمن بي من فسر برأيه كلامي» (2).

و في حديث عبد الرحمن بن سمرة:«من فسر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب» (3).

و هذه الطائفة صريحة الدلالة على المنع من تفسير القرآن بالرأي و كونه موجبا للعقوبة،بل هي كبيرة من الكبائر،لأن الكبيرة ما توعد عليها النار.

ثم إن جملة من تلك الأخبار صحيحة الإسناد و ما ضعف منها مؤيد للمطالب،بل اعتضاد بعض الضعاف ببعض مما يرفع محذور ضعف السند، و لذا أخذ جمع من علمائنا بالحديث النبوي القائل:«بأن من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (4)،بل مفاده موافق لمفاد الأخبار الصحيحة كصحيح الشحام.

الثالثة:ما تدل على أن في القرآن متشابها و له تأويل فلا يمكن الأخذ بظاهره لأن تأويل ما له التأويل عند اللّه و الراسخين في العلم و هم الأئمة الاثنا عشر(ع).

قال علي(ع):«و جعلنا مع القرآن و القرآن معنا لا نفارقه و لا يفارقنا» (5)-و اطلاق المعية يشمل العلمية و العملية-.

و هذه الطائفة تدل على تنويع الآيات الى نوعين:المحكم و المتشابه،5.

ص: 19


1- الوسائل:ج 18 ص 150 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 76.
2- الوسائل:ج 18 ص 137 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 28.
3- الوسائل:ج 18 ص 140 الباب 13 من أبواب صفات القاضي ح 37.
4- العوالي:ج 4 ص 104 ح 154.
5- الكافي:ج 1 ص 191 باب ان الأئمة شهداء اللّه عز و جل...ح 5.

و للمتشابه تأويلان:صحيح و باطل،و الصحيح مودع عند خزنة علم اللّه و أمناء سره و حافظي وحيه(ع)فلا بد من الرجوع إلى أقوالهم للعلم بالمؤول الواقعي الصحيح و تميزه عن المؤول الباطل الخيالي.

الرابعة:ما تدل على أن في القرآن ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا و مطلقا و مقيدا،و عليه فلا بد في الأخذ بالظواهر المطلقة من حيث الزمان و الافراد و القيود من العلم بخلوها عن الناسخ و الخاص و المقيد،أما ترى أن الصادق(ع)اعترض على الصوفية،المفسرين للقرآن من دون رجوع اليه و هو العالم بما في القرآن بجميع شئونه،و احتج عليهم بقوله:«أ لكم علم بناسخ القرآن و منسوخه و محكمه و متشابهه» (1).

و أما الجواب عن تلك الطوائف من الأخبار فقد عرفت أن المراد من ضرب القرآن بعضه ببعض في الطائفة الأولى هو تقطيع الآيات ثم تلفيقها تشهيا و اقتراحا بمعنى خلق آية من الآيات و جعلها مدركا لمذهب باطل أو مسلك فاسد أو رأي سخيف و نحو ذلك،و إلا فأي عاقل يمنع عن التمسك بظهور قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (2)في الاطلاق،أو بفحوى:و لا تقل لهما أف لحرمة الضرب و الجرح،أو بظاهر قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ (3)في الوجوب،فما دل على حرمة ضرب القرآن بعضه ببعض لا يشمل الظواهر الواردة في القرآن الراجعة إلى المعارف الحقة-كسورتي الإخلاص و الحديد-أو الاحكام أو الأخلاق أو النظم الاقتصادية أو الاجتماعية.2.

ص: 20


1- و بمضمونه الحديث 36 و 39 من الوسائل:ج 18 ص 140 و 141 الباب 13 من أبواب صفات القاضي.
2- سورة المائدة،الآية:8.
3- سورة الأنعام،الآية:72.

و الإنصاف أن المتشابهات في مقابل النصوص و الظواهر قليلة جدا و قد بيّنها الأئمة الطاهرون(ع)،لو لا تعصب المعاند المانع من الرجوع إليهم في فهم معضلات القرآن.

و أما الطائفة الثانية:و هي العمدة لمذهب الإخباريين و التي تدل على حرمة التفسير بالرأي،فالجواب عنها واضح بأدنى تأمل في مفهوم الرأي و أنه عبارة عن الظن الشخصي و الاستحسان النفسي و الاقتراح الانفرادي،فحرمة التفسير بالرأي أمر عقلائي بعد وضوح أن التفسير بالرأي عبارة عن الأخذ بالاعتقاد الظني و الاستحسان الذوقي و ما يشبه ذلك مما لا يكون كاشفا عن المراد الجدي الإلهي عرفا لعدم ابتنائه على القواعد العربية،و عقلا لكونه مسببا عن الأهواء الباطلة و الأغراض الزائفة،و شرعا الفرض كونه مبتنيا على النظر الفردي دون النصوص الواردة عن المعصومين(ع).

و من المعلوم أن مثل هذا التفسير ليس من العلم و لا من العلمي،بل هو عبارة عن الاحتمال الذي رجحه تشهي المفسر الحامل له إلى ذلك وصولا إلى غرضه الخارج عن حوصلة العقل السليم و الشرع القويم بتعمل نفساني و اختلاق فكري و ضم بعض المرجحات إلى بعض جاعلا لحدسياته و معتقداته الظنية و الخيالية ميزانا لفهم القرآن العظيم كبعض تفاسير الصوفية التي إذا رجعت إليها جزمت بصدق ما نقول و حكمت بأن التفسير بالرأي أمر مخصوص بصاحب الرأي و ليس مما يفهمه العرف العام بخلاف الظواهر التي لا يكون فهمها مخصوصا بشخص دون آخر و لا بزمان دون زمان و لا يحتاج إلى اعمال نظر و تمهيد مقدمات بعيدة أغلبها باطل و إن كان جملة منها صحيحة.

فتفسير القرآن بالرأي عبارة عما قاله الرضا(ع)لابن الجهم:«اتق اللّه و لا تؤول كتاب اللّه برأيك» (1)،فإن اللّه يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ1.

ص: 21


1- الوسائل:ج 18 ص 138 الباب 13 من ابواب صفات القاضي ح 31.

وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (1) ،يعني اقتراحا حسب نظرك المخصوص بك و ليس منه ما لا يختص به أحد بل يشترك في فهمه كل ناظر في الكلام عارف بموازين اللغة.

أ لا ترى أن كل من يسمع قول اللّه تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (2)يفهم من كلمة أف كلما يبرز الانزجار و يشعر بالتضجر،بلا تصرف نفسي و لا تفسير شخصي لهذا المفهوم.

و لما ذكرنا قال الشيخ الأنصاري(قدس سره)أن الأخذ بالظاهر ليس من التفسير لأن التفسير عبارة عن كشف القناع،و لا قناع للظاهر حتى يكشف،إلا أن الانصاف هو أن التفسير بمفهوم العام شامل لبيان ما يفهم من الظواهر لأن التفسير في اللغة ايضاح و بيان و كشف.

و البيان يشمل إيضاح المراد من الظاهر،و يشهد بذلك صدق البيان على ما يرشد اليه الواعظ من آية قرآنية في مقام الوعظ و الإرشاد في مورد إيضاح المعارف الحقة و الأخلاق الفاضلة و ما شاكل ذلك إذا أوضح المراد منها، فيكون كشف القناع لازما خاصا للتفسير لا انه لازم مساو له أو لحده التام لأن معنى فسر بين و أسفرت المرأة وجهها:أظهرته.

و على أي حال،فالتفسير يشمل بيان الظواهر إلا أن الممنوع منه شرعا بل و عقلا إنما هو إبداء رأي لا يساعد عليه العرف العام و قوانين المحاورة و الأصول العقلائية و الحدود الشرعية،فهو أخذ بما لا يكون كاشفا عن المراد بحسب النوع.

و أما الطائفة الثالثة فنحن نقول بموجبها لأن الأخذ بالمتشابه يكون على3.

ص: 22


1- سورة آل عمران،الآية:7.
2- سورة الإسراء،الآية:23.

خلاف سيرة العقلاء إذ المتشابه أما أن يكون بحسب ذات اللفظ كالمجمل و أما أن يكون بحسب التطبيق على ما في الخارج كالمبهم بأن لا يدري ما هو المصداق له بنظر المتكلم كما إذا تكلم بمفهوم عام و أراد حصة خاصة منه من دون نصب قرينة عليها أو قيام القرينة على عدم إمكان إرادة ما ينصرف إليه هذا المفهوم بعمومه و بالنظر إلى تبادره الإطلاقي فمع عدم العلم بمصداقه الحقيقي القابل للانطباق عليه الذي طبق المتكلم هذا المفهوم عليه كيف يمكننا الجزم بمراد المتكلم الجدي.

و لنا أن نمثل للمتشابه بقوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (1)-و هذا بغض النظر عن القرينة العقلية على ما نقول في مفاده-، حيث أن كل ذي وجدان سليم يمنع عن الأخذ بما ينصرف إليه لفظ الاستواء بحسب التبادر الإطلاقي و هو استقرار جسم على جسم و استيلاؤه عليه،إذ أنّ هذا المعنى محال بالنسبة إلى ذات اللّه المنزهة عن الجسم و الجسمانيات،فإذن لا مناص إلا للحمل على حصة من الاستواء تناسب الذات الواجبة غير المحدودة و لا المتشكلة،فعدم إمكان الأخذ بالمتشابه لعدم العلم بالمراد الجدي للمتكلم من دون رجوع إلى عيبة علمه و وعاء حكمته لا يستلزم المنع عن صحة التمسك بظواهر الكتاب على نحو العموم و الإطلاق لأن الردع عن الأخذ بالمتشابه مخصوص بالمتشابه،و لا يمتزج الظاهر مع المتشابه حتى يسقط ظهور الظاهر بتوهم عدليته للمتشابه.

و أما الطائفة الرابعة،الدالة على أن في القرآن ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا و نحو ذلك و تمنع عن تفسيرها لأجل ذلك فهي تؤكد حجية الظواهر، و ذلك لأن المنع إذا كان لجهة عامة لجميع الظواهر و لم تكن مختصة بظواهر القرآن و كانت قابلة للارتفاع لم يكن هذا المنع مانعا عن حجية الظواهر بل5.

ص: 23


1- سورة طه،الآية:5.

وجب التنبه له و التصدي لرفعه.

اما أن جهة المنع المذكور ليست مختصة بالقرآن فلأنه لا ريب في أن لكل لغة و في لسان كل متكلم من أفراد الإنسان عاما و خاصا و مطلقا و مقيدا فوجد أن كل عاقل شاهد صدق على وجود العام و الخاص و المطلق و المقيد في كافة اللغات،كما أن كل عاقل يعلم بنفسه أن بيان المقاصد لا يكون دفعيا في جميع الأحيان،فللآمر أن يقول لخادمه يوم الأحد:اصنع طعاما يوم الجمعة لضيوفنا،ثم يبين في الأيام القادمة قبل مجيء يوم الجمعة قيود الطعام و خصوصياته.

و أما أن هذه الجهة تؤكد الظهور و لا تمنع عنه فلأنه فرق بين قولك:

افحص عن الخاص،و بين قولك:أترك العام بتاتا،و الأول تمهيد للعمل بالعام،و بالجملة العلم الإجمالي بوجود العام و الخاص و المطلق و المقيد في القرآن ليس إلا نظير هذا العلم في كلام كل متكلم من حيث اقتضائه لزوم الفحص عن المخصص و المقيد و لا يوجب ذلك عدم حجية ظهور العام في العموم بل توارد الخصوصات على عام واحد لا يمنع حجيته في الباقي و إن قبلنا بأن العام المخصص مجاز في الباقي فكيف إذا لم نقل بذلك كما هو مقتضى التحقيق الذي نشير إليه هنا،و نقول:

ذهب أعاظم علم الأصول إلى أن للعالم صيغة تختص به و مثلوا له بأمثلة منها الجمع المحلى باللام كالعلماء و نحن إذ رأينا أن كلمة-العلماء-تنحل إلى أمور ثلاثة:

1-حرف التعريف،و شأنه الإشارة إما إلى مدخوله من حيث المفهوم و أما إلى مطابق-بفتح الباء-مفهومه المعهود ذهنا و هو الوجود الخارجي للمفهوم بشرط عدم لحاظ خصوصيات مصاديق ذلك المفهوم العام و هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بوجود السعي باعتبار سعته الخارجية تقول:ادخل السوق

ص: 24

و اشتر اللحم،و أما إلى مصداق مفهومه المذكور سابقا،و اما إلى مصداقه الخارجي و ليس شأنه أزيد من ذلك.

2-مبدأ الجمع و هو:في المثال-ع-ل-م-و من الواضح أن مفهوم هذه الحروف المترتبة بشرط تهيئتها بهيئة المصدر،عبارة عن صفة وجدانية من دون إفادة السريان و الشمول.

3-هيئة الجمع و هي:العارضة على ع-ل-م-و هذه وظيفتها ليست إلا الإشارة إلى أزيد من واحد و هي المحققة لوصف عنواني بسيط يطبق على أزيد من واحد أو اثنين على اختلافهم في مفاد الجمع،و لذا فقد ذهبنا إلى عدم وضع صيغة خاصة للعموم من ناحية وضع الواضع.

ثم رأينا أن العرف يستفيد السريان و العموم من مثله و مع ذلك إذا خصص بخاص و خرج منه لم يحكم بخلل في موافقة الوضع بل يحكم بعدم التجاوز عن المعنى الموضوع له،فقلنا بأن السريان إنما يفهم من المقام و أعني به مقام بيان المرام بتقريب أن قانون المحاورة يحكم بلزوم بيان ما هو المراد التطبيقي الجدي إذا لم يكن ما هو لازم المفهوم من حيث الانطباق،و هو الشمول و السريان مرادا،فإذا تكلم المتكلم بعام و لم يبين المطبق عليه ألزمناه إرادة الشمول حذرا من الاغراء بالجهل القبيح المخالف لكيفية تفهيم المقصد.

ثم إذا أتى هذا المتكلم بالخاص نقول بأنه بين مراده التطبيقي من دون أي تصرف في المدلول اللغوي للفظ،و على هذا الأساس قلنا بأن من أنحاء الحكومات حكومة الخاص على العام و المقيد على المطلق و الناسخ على المنسوخ و هي الحكومة على المقام،و أعني به مقام البيان و أنه بين ما لم يبين أو لا،و لأجل ذلك نقول بأن تأخير البيان لو لا المانع عنه كتقية أو نحوها و لو لا الجبران بمصلحة أقوى يكون قبيحا خارجا عن طريقة العقلاء المتجنبين عن الإغراء و الإيذاء،فالتصرف في العام بالإتيان بالخاص ليس تصرفا مانعا عن

ص: 25

ظهوره المقامي في السريان بدوا و بعدا،بل لو قلنا بالمجازية،فباب المجاز واسع،و لا بد من الأخذ بدوا بالعموم لأصالة العموم و بأقرب المجازات بعد الظفر بالخاص فالعام إنما ترفع اليد عنه بمقدار الخاص و أما بالنسبة إلى ما عداه فيبقى ظهوره اللفظي أو المقامي على حاله من الحجية.

ص: 26

الأمر الثاني: في نزول القرآن لهداية الناس و وجوب التدبر فيه:

اشارة

لا شك في أن اللّه انزل القرآن على نبيه دليلا على نبوته و برهانا لصدقه في دعوته و جامعا لما بعثه لتبليغه فهو المعجز في أسلوبه و الهادي للإنسان بمضامينه،يسير مع الخلود و ينادي بنداء: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (1)،تحديا على المنكرين الشاكين في كونه كلام رب العالمين و مزيدا لإيمان أرباب اليقين،و لم يشهد التاريخ في طول عصوره من اجترأ على الإقدام باتيان مثله إلا رجع خائبا و اعترف بعجزه.

و أما مضامينه فتتضح يوما بيوم و تتبلور في الأذهان بتطور العلوم فظاهره أنيق و باطنه عميق،يتحير العقل بأن يقرع أي باب من أبواب علومه المتنوعة و أن ينظر إلى أي جانب من جوانبه المتعددة،فهل ينظر إلى هذا السبك البديع المعجز لكل بليغ عن مباراته مع أن اللغة عبارة عن سلسلة من المواد و جملة من الهيئات منتظمة بقواعد نحوية،و هي معلومة لكل انسان عربي و معروضة على كل طالب أجنبي فمن عرف اللغة العربية بموادها و هيئاتها و قواعدها لم يعسر عليه تركيب الجمل،فلم لم يقدم أحد على معارضة القرآن؟و هلا يكون هذا

ص: 27


1- سورة البقرة،الآية:23.

إلا الإعجاز،و هل يبقى مجال للوسوسة في كونه كلام الرحمن؟.

ثم لا يدري العاقل هل يتأمل في فصاحته و بلاغته و تمثيلاته و استعاراته و تلميحاته و ترشيحاته؟أم يتدبر في معانيه العميقة و مطالبه الراقية الدقيقة أو يدقق النظر في كيفية رعايته لسعادة الإنسان في عيشته العائلية و النظامية، و معالجته لمشاكل الحياة مقرونا بما يسعده في الآخرة فالقرآن هو الكفيل الوحيد لسعادة النشأتين من دون تعطيل قانون من قوانين الحياة المادية أو تعطيل غريزة من الغرائز البشرية.

أم هل يتعمق في معارفه الحقة و أحكامه العادلة و نظامه السياسي و الاقتصادي و أمره بالأخلاق الفاضلة و نهيه عن الصفات الرذيلة؟أو هل ينظر إلى ما قص علينا من قصص الغابرين تذكرة و موعظة لنا في سيرتنا و سريرتنا لنأخذ منهم ما مكنهم من الارتقاء إلى المدارج العالية و نتجنب ما ورطهم في المهالك؟فالقرآن هو الكافل لجوامع الكمال و الشامل لموازين الاعتدال و الجامع لقوانين العدل و الاحسان و المعيار التام للأخلاق الفاضلة و المقياس العام للخصال النازلة،و هو الهادي للبشر إلى الصراط الأقوم و المرشد لهم إلى الشرع الأتم و هو المشرع للأحكام و الجاعل لهم رسوم العبادة و طرق السير إلى اللّه سبحانه.

و هو الداعي إلى السعادتين و المصابح للنشأتين،المبين للحكم و الحقائق و الموضح للرموز و الدقائق،ينبوع العلوم و الفنون و الصنائع ،و عيبة النواميس و الودائع و البدائع،موقظ الخلف بما جرى على السلف،كي يعتبر المعتبر و يتيقظ المستبصر فيعمل صالحا و لا يعيش ظالما.

فهذا الكتاب دائرة للمعارف الربانية،و خزينة للجواهر السماوية،يجب على كل انسان فطن نابه أن يتدبر في آيات القرآن لاستكشاف كنوزه و استخراج جواهره مستضيئا بأنوار أئمة الهدى و مصابيح الدجى و أعلام الورى.

ص: 28

و يدل على أن القرآن هاد و يجب التدبر فيه الكتاب و السنة.

أما الكتاب:فيدل على كونه هاديا قول الحق تبارك و تعالى في سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1)و فيها ايضا: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ (2)و في سورة الإسراء: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ (3)و في سورة القمر: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (4).

و يدل على لزوم التدبر في القرآن قوله تعالى في سورة القمر كما مر:

فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟و في سورة النساء: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (5)،و في سورة محمد: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (6).

و اما السنّة:فيدل على الأمرين-أن القرآن هاد و أنه يجب التدبر فيه-ما رواه الكليني في الكافي عن الصادق(ع)قال:«إن هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور» (7).

و ما رواه في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه عن آبائه(ع)قال:قال رسول اللّه(ص):«أيها الناس إنكم في دار هدنة و أنتم على ظهر سفر و السير بكم سريع و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كل جديد و يقربان كل5.

ص: 29


1- سورة البقرة،الآية:2.
2- سورة البقرة،الآية:185.
3- سورة الاسراء،الآية:9.
4- سورة القمر،الآيات:17 و 22 و 32 و 40.
5- سورة النساء،الآية:82.
6- سورة محمد،الآية:24.
7- الكافي:ج 1 ص 600 كتاب فضل القرآن ح 5.

بعيد و يأتيان بكل موعود فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز».قال:فقام المقداد بن الأسود،فقال:يا رسول اللّه و ما دار الهدنة؟قال:«دار بلاغ و انقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع و ماحل مصدق و من جعله أمامه قاده إلى الجنة و من جعله خلفه ساقه إلى النار و هو الدليل يدل على خير سبيل و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل،و هو الفصل ليس بالهزل و له ظهر و بطن فظاهره حكم و باطنه علم،ظاهره أنيق و باطنه عميق،له تخوم و على تخومه تخوم،لا تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه فيه مصابيح الدجى و منار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجل جال بصره و ليبلغ الصفة نظره ينج من عطب و يتخلّص من نشب،فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور،فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص» (1).

بيان-التخوم:المصاديق الخفية و ما تحدث بمرور الزمان و تنطبق عليها عمومات القرآن.

و يدل على لزوم الرجوع في غوامض معاني القرآن و عويصات بطونه العميقة إلى أهل بيت النبي(ص)،أخبار كثيرة منها خبر الثقلين الذي رواه أكثر من ثلاثين صحابيا عن النبي(ص)أنه قال:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (2).و إنكار سنده-و هو متواتر-كإنكار دلالته-و هي نص في كونهم أمناء على علم القرآن-الدالة صريحا على لزوم التمسك بعروتهم بالسؤال عن معضلاته كما أن تبديل كلمة عترتي بسنتي و إن كان سهلا على..

ص: 30


1- الكافي:ج 2 ص 598 كتاب فضل القرآن ح 2.
2- راجع بحار الأنوار:ج 23 باب فضائل أهل البيت(ع)...

المتعصب المعاند إلا أننا في غنى عن قبول المتعنتين،ثبّتنا اللّه بالقول الثابت.

ثم انه على فرض تسليمنا أن الكلمة الواردة على لسان النبي(ص)هي و سنتي،نقول أن السنة الصحيحة غير المكذوبة على النبي(ص)إنما هي عند وصيه و حامل علمه علي و أولاده(ع)،و لا تقبل السنة من أمثال أبي هريرة الذي تعرفه إذا راجعت كتاب أبي هريرة تأليف العلامة السيد شرف الدين العاملي(ره)،و قد ظهر مما ذكرنا بطلان قول الخارجين عن طاعة علي(ع) كفانا كتاب اللّه،لوضوح الحاجة في شرح مجملات القرآن و مؤوّلاته و بطونه و غوامضه إليهم(ع)،و ظهر أيضا لزوم تحصيل العلم بقواعد توجب التمكن من تفسير القرآن،فعلم التفسير من العلوم اللازمة المفيدة خلافا لمن يقول أن القرآن،واضح و لا يحتاج إلى البيان.

تبصرة

الهداية في اللغة الإرشاد،البيان،التعريف،الايصال،يقال:أرشده الطريق أو إلى الطريق،بيّنه له و عرفه به،و يقال:هدى أو أهدي العروس إلى بعلها،زفها إليه و الظاهر من التبادر الذاتي أن للهداية مفهوما عاما قابلا للانطباق على الإرشاد و الإيصال معا فهو مشترك معنوي لا لفظي،و التبادر المذكر و أيضا شاهد على عدم كون الإيصال معنى مجازيّا للهداية،و على هذا يصح لنا القول بأن الهداية التي يقال لها بالفارسية-راهنمائي-حقيقة ذات مراتب ربما تجتمع و ربما تفترق و ربما تستلزم مرتبة منها مرتبة أخرى،فبالنسبة إلى هداية اللّه سبحانه لعباده يمكن أن نجعل لها مراتب أربع،و إن شئت قلت مصاديق أربعة:

الأولى:إعطاء ما يهدي الإنسان و إنعامه به،و هو العقل الموهوب للإنسان و هو الهادي له و الحجة الباطنة،قال اللّه تعالى:... وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (1)،و هذا الهادي لا ينفك عن الإنسان ما دام حيا-لو لا العارض- الثانية:إعطاء ما به يهتدي الإنسان و أعني به آيات التوحيد،قال اللّه تبارك و تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (2)،تشمل الأعضاء و الجوارح و مما يهتدي به الإنسان أسلوب القرآن المعجز للبلغاء عن معارضته بالمثل، حيث أن العاقل يقطع بكونه كلام اللّه فيعتقد بجميع العقائد الحقة.

ص: 31

الأولى:إعطاء ما يهدي الإنسان و إنعامه به،و هو العقل الموهوب للإنسان و هو الهادي له و الحجة الباطنة،قال اللّه تعالى:... وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (1)،و هذا الهادي لا ينفك عن الإنسان ما دام حيا-لو لا العارض- الثانية:إعطاء ما به يهتدي الإنسان و أعني به آيات التوحيد،قال اللّه تبارك و تعالى: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (2)،تشمل الأعضاء و الجوارح و مما يهتدي به الإنسان أسلوب القرآن المعجز للبلغاء عن معارضته بالمثل، حيث أن العاقل يقطع بكونه كلام اللّه فيعتقد بجميع العقائد الحقة.

الثالثة:بعث الرسل الهادين إلى القوانين الإلهية و إنزال الكتب بمضامينها العالية المرشدة للإنسان إلى المعارف و الأحكام،و إلى هذه المرتبة يشير قوله تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً (3)،و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (4)،و قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ (5).

الرابعة:الايصال إلى المقصود،و يشير إلى هذه المرتبة قوله تعالى:

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (6) ،و قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (7)،و قد تجمعت المراتب ما عدا الأولى في القرآن كما يظهر بأدنى تأمل.

(1)إنه لسبب سبكه المستحيل مماثلته يدل على كونه منزلا من اللّه على نبيّه المرسل.2.

ص: 32


1- سورة الذاريات،الآية:21.
2- سورة الذاريات،الآية:20.
3- سورة الإنسان،الآية:3.
4- سورة الجمعة،الآية:2.
5- سورة،الاسراء،الآية:9.
6- سورة العنكبوت،الآية 69.
7- سورة البقرة،الآية:2.

(2)و بسبب معارفه و حقائقه و أحكامه يهدي الناس للتي هي أقوم.

(3)و لسبب اهتداء المتقين به و اتخاذهم له دليلا على أعمالهم في السلوك الى السعادة الأبدية يكون موصلا لهم إلى الجهة-آخر أمنية العاقل- و ذلك معنى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .

و المرتبة الثانية من مراتب هداية القرآن تحتاج إلى التدبر الذي أمر اللّه به و هو يحتاج إلى أمور تذكر في التفسير،و من هنا جاء دون التفسير.

ص: 33

ص: 34

الأمر الثالث: التفسير:

التفسير في اللغة:الكشف،الايضاح،البيان.

و أما في الاصطلاح فقد اختلفوا في حقيقته اختلافا كثيرا و ذكروا الفوارق العديدة بينه و بين التأويل.

و نحن نقول ان التفسير يطلق على أمور ستة و بالأحرى له موارد ستة:

الأول:شرح الألفاظ المفردة و التفقه في موارد اللغة و هيئاتها.

الثاني:شرح الجمل بما لها من الهيئة التركيبية و هذا يحتاج إلى العلم بقواعد اللغة صرفا و نحوا مع الدقة في تطبيقها على الموارد.

الثالث:ايضاح المصاديق و تطبيق المفاهيم العامة عليها فيما إذا كانت مختفية على العرف العام و هو على ضربين:

الأول:بيان المصاديق الحقيقية التي لا يعلمها العامة،و بيان هذا القسم إنما هو موكول إلى خزنة علم اللّه الراسخين في العلم و هو التأويل الصحيح.

الثاني:اختراع المصاديق لعمومات القرآن اقتراحا و هذا ما أشار إليه في القرآن بقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)صدق اللّه العلي العظيم،حيث نرى أن أرباب الأهواء الفاسدة و المذاهب الباطلة و الأغراض الخبيثة و المسالك المضلة كبعض الصوفية و الخوارج و ذوي السلطات الجائرة و أولي السياسات الظالمة الغاشمة،كل يتمسك بالقرآن ترويجا لكاسده و إشاعة لفاسده فيطبق مفهوما على مصداق خيالي.

ص: 35

الثاني:اختراع المصاديق لعمومات القرآن اقتراحا و هذا ما أشار إليه في القرآن بقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)صدق اللّه العلي العظيم،حيث نرى أن أرباب الأهواء الفاسدة و المذاهب الباطلة و الأغراض الخبيثة و المسالك المضلة كبعض الصوفية و الخوارج و ذوي السلطات الجائرة و أولي السياسات الظالمة الغاشمة،كل يتمسك بالقرآن ترويجا لكاسده و إشاعة لفاسده فيطبق مفهوما على مصداق خيالي.

الرابع:بيان شأن نزول الآيات.

الخامس:بيان ما ورد عن الأئمة الطاهرين(ع)في تفسير معضلات القرآن و مؤولاته.

السادس:بيان ما انطبقت عليها العمومات من المصاديق المستحدثة كانطباق أصغر من ذلك على ما كشف عنه العلم الحديث مما سمّي ب «اتوم»،اما وجه الحاجة إلى فهم المعاني لمفردات الألفاظ لغة أو من حيث التفاهم العرفي فلأن كثرة الطوائف المنتشرة في البلدان المترامية الأطراف سببت الأوضاع المتعددة من الوضعين الكثيرين و أوجب ذلك سعة اللغة و اشتبه على أثر الأوضاع العديدة التباين بالترادف مثلا،فقد يقال بأن قسورة مرادف لأسد،و قد يقال بأن لكل من اللفظين من حيث المدلول خصوصية ليست في الآخر و كثيرا ما يشتبه التطبيق بالاستعمال فيتوهم الاشتراك اللفظي في المشترك المعنوي و أمثلة هذا النوع كثيرة جدا،فترى اللغوي يقول اللام للملك و للاختصاص و للصلة فيتوهم أنه يذكر الأوضاع المتعددة للفظة اللام حيث أنه يذكر موارد الاستعمالات للام في تلك المعاني،فلا بد و أنه يريد من الاستعمال ما يوافق الوضع لا من جهة أن الأصل في الاستعمال هو الحقيقة كما اختاره السيد المرتضى(قده)من القدماء حتى يجاب عنه بأن الاستعمال أعم بل7.

ص: 36


1- سورة آل عمران،الآية:7.

بزعم أن فن اللغوي يقتضي توافق الاستعمال مع الحقيقة رغم أن اللغوي تتبع موارد تفهيم معنى-ما من لفظ ما-كان استعمالا للّفظ في مفهوم عام ثم تطبيقه على مصداق خاص أو كان استعمالا في المعنى الخاص،و هذا أيضا كان على نحو الحقيقة أو كان على نحو المجاز.

و الغالب أن تكون الموارد المذكورة في كتب اللغة من القسم الأول، أعني تطبيق المفهوم على المصداق،ففي المثال حيث يكون الجامع القريب و هو مطلق الربط موجودا في المعاني المذكورة للام،نقول أن اللام موضوع له و إنما يطبق على الربط الملكي تارة و على الربط الاختصاصي تارة أخرى و هكذا.و إنما تفهم التطبيقات المذكورة من المناسبات الموجودة في المقامات،كمناسبة ربط الدار بزيد مع الملك فيفهم من قولك الدار لزيد الربط الملكي،و كمناسبة ربط الجل للفرس مع الاختصاص فيفهم من قولك الجل للفرس الربط الاختصاصي،و هكذا.

فعلى المفسر أن يستفرغ وسعه و أن يتعب نفسه و أن ينهى جهده في فهم معاني الألفاظ المفردة و تشخيص حقائقها و مجازاتها و تمييز المشترك المعنوي عن اللفظي.

بل يجب عليه التفكيك بين المجاز العقلي و المجاز في الكلمة بل بينها و بين المجاز في الإسناد،مضافا إلى ما هو المهم أيضا لو لم يكن أهم و هو الدقة في سعة المفهوم و ضيقه من حيث الوضع أو المتفاهم العرفي،فترى أن الصعيد إذا كان موضوعا لمطلق وجه الأرض كان أمر التيمم سهلا و أما إذا كان موضوعا للتراب الخالص كان أمره صعبا،أضف إليه لزوم التفقه في أن تعنون الأرض بسبب انقلابها من حال إلى حال بأي عنوان يكون موجبا لخروجها عن صدق الأرض كالذهب و الفضة و بأي عنوان لا يكون كذلك كتعنونها بعنوان العقيق و الفيروزج و المرمر،إذ من الواضح أن تحقيق ذلك يؤثر في باب التيمم

ص: 37

و السجدة فالذي يرى إمكان تصادق عنوان العقيق و الأرض على قطعة من الأرض له أن يفتي بجوازهما على العقيق،و الذي يرى خروج الأرض عن عنوان الأرضية،بصيرورتها عقيقا لا يفتي بذلك بل نقول بأن من الدقة في معاني الألفاظ المفردة هو الأخذ بظهوره الانسباقي الأولى.

مثال ذلك لفظ الرجل«بكسر الراء»الموضوع لعضو خاص معروف من أعضاء البدن فإذا لف بجورب أو تلبس خفا لم تكن الرجل إلا ما في الجورب و الخف،و أما الجورب و الخف بما هما فلم يكونا برجل قط،و لو أطلق الرجل على الرجل الذي في الجورب حال تلبسه به و قيل مدّ رجلك مثلا كان ذلك للتغليب أو عدم الاعتناء بالجورب.

و لذا نحن الشيعة نقول بعدم جواز المسح على الخف،و نرى صحة استدلال مولانا علي(ع)على ذلك بقوله سبق الكتاب المسح على الخفين مريدا بذلك أن جلد الماعز مثلا ليس رجلا أمر اللّه تعالى بمسحه.

ثم لا ينحصر وجه الحاجة إلى فهم مفردات اللغة على ما ذكرنا،و لكننا نكتفي بما قلنا لكفايته في التصديق بالحاجة إلى فهمها.

و قد ظهر ممّا بيّنا عدم حجية قول اللغوي في باب الأوضاع لعدم علمه بها و تمحض فنه في جمع موارد الاستعمالات من دون إشارة بل و لا اطلاع على كونها نفس الموضوع له أو المطبق عليه الموضوع له،و لذا قلنا:يجب الجهد التام في فقه اللغات لتوقف فهم الأحكام الشرعية عليه.

و أما وجه الحاجة إلى قواعد النحو و خصوصيات الجمل من تقديم كلمة على أخرى أو العكس أو الإتيان بضمير المتصل بين المبتدأ و الخبر و رعاية القرائن و المناسبات،فلأن تلك الأمور دخيلة دخالة تامة في فهم المرادات على ما هي عليه،و نأتي بمثال واحد و هو أن العلم بكيفية العطف و حسن الانسجام فيه له ربط بالاحكام الشرعية فالسياق إذا حكم بالعطف على القريب لم يجز

ص: 38

العطف على البعيد،و لأجل ذلك يكون قوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1)،ظاهرا في عطف الأرجل على الرءوس.

مضافا إلى أن التفكيك بين تلك الجملة و الجملة الآمرة بغسل الوجوه و الأيدي و هي قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (2)، أيضا يقتضي عطف الأرجل على الرءوس إذ لولاه للزم عدم حسن الانسجام.

و لذا نفتي نحن الشيعة بوجوب المسح على الرجلين مستدلين بما عليه عرف المحاورة من رعاية القرب و البعد في باب العطف و حينئذ فهل لنا أن نتعجب ممن يعترض علينا بعدم المسح على الخفين و عدم غسل الرجلين؟.

و أما وجه الحاجة إلى العلم بالمصاديق الواقعية للمتشابهات فللحذر على الوقوع في ورطة الضلال و الإضلال بسبب التأويل الباطل في المتشابهات.

و للخروج عن ابتغاء الفتن و ترويج الآراء الباطلة و الأهواء الزائفة و إشاعة المسالك الخيالية،و المذاهب الشيطانية،شأن بعض الصوفية و سائر الفرق المبتدعة،و ليعلم أن العلم بالمؤولات مخزون عند الأئمة الطاهرين(ع).

و أما وجه الحاجة إلى شأن نزول الآيات فلأن الخطأ في ذلك يفضي إلى اتهام البريء و تبرئة الخائن،كما ترى ان بعض الكتاب القاصرين عن درك الحقائق الراهنة يذكرون أن شأن نزول آية الخمر إنما هو اجتماع علي(ع)مع جماعة في مجلس شرب الخمر،مع أن التاريخ يشهد بكذب ذلك،و ترى بعضهم يقول بأن قوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ (3)،إنما نزلت في شأن ابن ملجم.7.

ص: 39


1- سورة المائدة،الآية:6.
2- سورة المائدة،الآية:6.
3- سورة البقرة،الآية:207.

و أما وجه الحاجة إلى العلم بالانطباقات القهرية للعمومات بعد تحققها فلأن إعجاز القرآن ينكشف بهذا العلم و اخباره عن الملاحم و المغيبات،و هنا تجدر الإشارة إلى بعض ما قيل في التفسير:

1-التفسير،كشف المراد عن اللفظ المشكل،و التأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر،و عليه فبيان الظاهر ليس بتفسير،و يرجع إلى هذا ما نقلناه على الشيخ الأنصاري(ره)من أن التفسير كشف للقناع و لا قناع للظاهر.

2-و قال أبو العباس:التفسير و التأويل واحد،و جعل في المنجد التأويل من معاني التفسير.

3-و عن ابن عباس:التفسير على أربعة أوجه(روى عنه ابن جرير).

الأول:وجه تعرفه العرب من كلامها،أي ما توضحه القواعد العربية.

الثاني:وجه لا يعذر أحد بجهالته،أي ما وجب العلم به و لو بالرجوع إلى أهله كالعلم بآيات الأحكام و العلم بالعقائد الحقة.

الثالث:وجه يعرفه العلماء،أي ما يعرفه العلماء من الحكومات و التخصيصات و نحوها.

الرابع:وجه لا يعلمه إلا اللّه،أي العلم بالمؤول.

و قد قال الذهبي في-التفسير و المفسرون-ان ما لا يعذر بجهالته أحد عبارة عما لا يخفى على أحد،و لكنه لم يتفطن بأن النسبة بين الواضح و اللامعذور جهالته عموم من وجه.

و قد ظهر مما ذكرنا أن الآيات القرآنية على أنحاء أربعة:

1-منها ما يكون ظاهر المفاد،غير محتاج إلى البيان،كقوله تعالى:

ص: 40

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى (1) .

2-و منها ما يكون مبيّن المفاد مجمل المصداق،و هنا يحتاج العلم التفصيلي بمصداقه إلى الرجوع إلى المعصوم(ع)كقوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ (2)،و قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (3)،و لا ينبغي الريب في وجوب أخذ المصداق و أجزائه و شرائطه و موانعه في تلك الأمور عن النبي(ص)و الإمام(ع)،فمن المدهش توهم الخوارج عدم الحاجة في تفسير القرآن إلى غير القرآن.

3-و منها ما يكون مبين المفاد و محتمل المصداق و هو قد يتبين ببركة القرائن و إن كانت عقلية كقوله تعالى: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (4)، حيث حمل جمع من الصوفية،اليقين على الايمان و قالوا إن السالك الواصل إلى اللّه لم تجب عليه الصلاة كما نقل عنهم المحدث الجزائري في الأنوار النعمانية،و اللازم في فهم المراد من لفظة اليقين في هذه الآية الرجوع الى القرائن حتى يفهم أن المراد منه الموت.

و من هذا القبيل ما بين مصداقه الكامل المعصوم(ع)كما ورد في قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْياها (5)،إن تأويلها الأعظم هو تعليم المعارف الإلهية ففي-البرهان عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي جعفر(ع)قول اللّه عز و جل في كتابه: وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ،قال من حرق أو غرق، قلت من أخرجها من ضلال الى هدى؟قال ذلك تأويلها الأعظم.2.

ص: 41


1- سورة الإسراء،الآية:32.
2- سورة البقرة،الآية:43.
3- سورة آل عمران،الآية:97.
4- سورة الحجر،الآية:99.
5- سورة المائدة،الآية:32.

و منه ظهر أن في محتمل المصداق تارة لا يمكن إرادة غير مصداق واحد،و أخرى يمكن إرادة كل مصداق من مصاديقه.

4-و منها ما يكون مشتبه المفهوم و المصداق معا و هذا هو المتشابه الذي لو طبقه أحد على ما يستهويه من دون الرجوع إلى الراسخين في العلم يكون ضالا و مضلا فراجع من التفاسير تفسير-ملا سلطان-و تفسير السيد أبي القاسم الذهبي،حتى ترى أن الآخذين بالهوى كيف يلعبون مع كلام اللّه باسم التفسير.

شكاية:

و لبعض كتّاب العصر كتاب حول هذا الموضوع اسماه ب(التفسير و المفسرون)ذكر اختلاف المفسرين في معنى التفسير و مصطلحاتهم و الفرق بينه و بين التأويل و كيفية التفسير في أدوار التاريخ ولدى أولي المذاهب المختلفة،و حينما ذكر الشيعة الإمامية كشف عن عقده النفسية و أنهى الغاية في تعصبه الأعمى و أبان بعده الروحي الشاسع عن إدراك مكانة الشيعة الإمامية العلمية و أظهر في الملأ الاسلامي قصور اطلاعه عن مؤلفات الشيعة في جميع العلوم و الفنون أو تعاميه عنها فتارة أسند اليهم اعتمادهم في التفسير على أخبار مكذوبة عن علي(ع)و أخرى الى الجفر و الجامعة و ثالثة نسب إليهم التعصب و التقشف بتأويل الآيات المتعلقة بالفقه و أصوله تطبيقا على آرائهم و رابعة أرجعهم في المعارف الى مثل الجاحظ.

و تحسر و تأسف عليهم لأنهم لم يفتوا بالمسح على الخفين و لم يدر المسكين أن جلد الحيوانات ليس من الرجل في شيء،و على فرض صحة الإطلاق فالمسح على الرجل لو لم يكن أحوط فهو أولى و لا أقل من التساوي، فما هذا الصراخ؟أو أنهم لم يفتوا بغسل الرجلين و لم يتفطن بأن القاعدة تقتضي العطف على القريب لو لا القرينة على الخلاف.

ص: 42

و بناء على تلك القاعدة فلا بد من عطف و أرجلكم على برءوسكم،أو أنهم كيف يفتون بجواز المتعة مع أنه يعلم أن القرآن ينص صراحة على حليتها.

و من الغريب أنه قال:أن للشيعة تفسيرا منسوبا إلى الإمام الحسن العسكري(ع)و حينذاك رأى فرصة ذهبية لإفراغ سمه الطائفي بالتحامل على الشيعة بل تجاوز الحد و تجاسر على الإمام العسكري(ع)إلا أنه خوفا من الفضيحة الكبرى أتى بكلمة(لو)غفلة أو تغافلا من أن كافة علماء الشيعة المدققين أنكروا صحة استناد التفسير المذكور الى الإمام(ع)و أغرب من الكل أنه ذكر تفسير السيد الشبر(ره)في عداد تفاسير الشيعة-و هو كنز ثمين للأدب العربي و لم يتكلم حوله و لو بشطر كلمة تغطية للتهم التي أوردها على الشيعة من الجهل و التأويل المتناقض و الأخذ بآراء الجاحظ و التمسك بالأخبار المكذوبة على علي(ع)و التعصب و التقشف و البدع إلى غير ذلك.و أنت إذا رأيت يوما هذا الكتاب عساك أن تلعن الكاذبين المفترين الذين إذا كالوا الناس أو وزنوهم يخسرون.

و ما أبعد بين هذا المتعصب العنيد،و الأديب المنصف أستاذ كرسي الأدب العربي بالقاهرة الدكتور حامد حفني داود المعترف بنبوغ الشيعة في العلوم و براعتهم في التفسير و لا سيما تفسير السيد الشبر(ره)الذي أهمل ذكره صاحب كتاب التفسير و المفسرون،و مهد له الأستاذ حامد تمهيدا لطيفا،معترفا بفضل مؤلفه و متانة تفسيره.

و من هنا نعلم أن في كل طائفة كتّابا منصفين و غير منصفين،فعلى الباحث أن يكون على وعي كامل في فحصه عن الحقائق.

ص: 43

ص: 44

الأمر الرابع: «في القراءات و ما يتعلق بها».

اشارة

و هناك أسئلة لا بد من الجواب عليها.

الأول:انه هل ثبت تواتر القراءات السبع المعروفة أو أزيد منها أم لا؟.

الثاني:هل ثبت تواتر الموجود بين الدفتين،أم لا؟.

الثالث:لو سلمنا بثبوت تواتر القراءات السبعة المشهورة أو العشرة، فهل هي كلها من عند اللّه سبحانه أم لا؟.

الرابع:لو سلمنا أنها ليست من عند اللّه تعالى فهل هي حجة بأجمعها بحيث إذا تحقق التعارض بين قراءتين كان من قبيل ورود الخبرين المتعارضين،وجب أن نتعامل معهما معاملة التعارض من الرجوع إلى المرجحات ثم التساقط و الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة و ذلك مثل «يطهرن»بالتشديد و التخفيف،أم لا؟.

و قبل الخوض في الجواب عن هذه الاسئلة يعجبني أن أبين جدول القراء و هو هذا:

ص: 45

-1-نافع ابن عبد الرّحمن ابن أبي نعيم:-

الكنّية:ابو رويم.

تاريخ الموت(و اللّقب):اللّيثيّ توفّي في سنة 169.

البلد:المدنيّ.

من السّبعة أم لا؟:من السّبعة.

المشايخ:

1-أبو جعفر يزيد بن القعقاع.

2-شيبة بن نصاح.

3-عبد الرّحمن بن هرمز الأعرج.

4-عبد اللّه بن عبّاس تلميذ ابيّ بن كعب تلميذ النّبي(ص).

الرّواة:

1-عثمان بن سعيد المعروف ب(روش)،المولود سنة 110 المتوفي سنة 197.

2-عيسى بن مينا المعروف ب(قالون)،المولود سنة 120 المتوفي سنة 220.

3-اسماعيل بن جعفر.

-2-عبد اللّه بن كثير

الكنية:أبو معبد.

تاريخ الموت(و اللّقب):القاري المولود سنة 45 المتوفي سنة 120 من الهجرة.

البلد:المكّيّ.

من السّبعة أم لا؟:من السّبعة.

ص: 46

المشايخ:

1-عبد اللّه بن السّائب.

2-در باس مولى ابن عبّاس.

3-مجاهد بن جبر المكّي تلميذ ابن عبّاس.

الرّواة:

1-أحمد البزيّ.

2-محمّد بن عبد الرحمن المخزومي(قنبل)قرءا على أبو الحسن القوّاس.

3-أبو الحسن القوّاس.

تبصرة:إذ اجتمع المكّي و المدنيّ يقال حجازي.

-3-عاصم بن أبي النّجود الأسدي التّابعي:-

الكنية:أبو بكر.

تاريخ الموت(و اللّقب):بهدلة المتوفي سنة 127-أو-128-.

البلد:الكوفي.

من السّبعة أم لا؟:من السّبعة.

المشايخ:

1-أبو عبد الرحمن السّلمي تلميذ عليّ بن أبي طالب(ع).

2-زر بن حبيش تلميذ عبد اللّه بن مسعود.

3-عثمان بن عفّان.

4-زيد بن ثابت.

5-ابيّ بن كعب النّبي(ص).

الرّواة:

1-شعبة بن عبّاس.

2-أبو عمرو حفص بن سليمان البزّاز بن المغيرة الاسدي الكوفي،و روى عنه

ص: 47

أربعة أشخاص،هم:أبو شعيب القوّاس و هبيرة التّمار و عبيد بن الصّباح و عمرو ابن الصّباح.

3-أبو بكر بن عيّاش و روى عنه ثلاثة أشخاص هم:أبو يوسف الأعمش و أبو صالح البرجمي و يحيى بن آدم.

-4-حمزة بن حبيب بن عمار بن اسماعيل:-

الكنية:أبو عمارة.

تاريخ الموت(و اللّقب):الزّيّات المتوفي سنة 156.

البلد:الكوفي.

من السّبعة أم لا؟:من السّبعة.

المشايخ:

1-الصّادق(ع).

2-سليمان بن مهران الأعمش تلميذ يحيى بن وثاب تلميذ(1)علقمة و(2)- مسروق و(3)-الأسود بن يزيد،تلامذة عبد اللّه بن مسعود.

3-حمران بن أعين تلميذ أبو الأسود الدّئلي تلميذ عليّ بن أبي طالب(ع).

الرّواة:

1-عبد اللّه بن صالح العجلي.

2-رجاء بن عيسى.

3-حمّاد بن أحمد.

4-خلاد بن خالد بواسطة سليم.

5-أبو عمر الدّوري.

6-محمّد بن سعدان النّحوي.

7-خلف بن هشام-بواسطة سليم.

ص: 48

-5-علىّ بن حمزة بن عبد اللّه النحوي:-

الكنية:أبو الحسن.

تاريخ الموت(و اللّقب):النّحويّ الكسائيّ المتوفي سنة 189.

البلد:الكوفي.

من السّبعة أم لا؟:من السبعة.

المشايخ:

1-حمزة.

2-أبان بن تغلب.

3-عيسى بن عمر.

4-ابن أبي ليلى.

الرّواة:

1-قتيبة بن مهران.

2-نصير بن يوسف النحوي.

3-أبو الحارث.

4-أبو حمدون الزّاهد.

5-حمدون بن ميمون الزّجاج.

6-أبو عمرو الدّوري حفص.

-6-أبو عمرو بن العلاء المازني:

إمام البصرة و مقرئها يقرأ أهل الشّام و مصر بقراءته أبو عمرو زبان بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد اللّه بن الحسين بن الحارث المازني البصري.

ص: 49

الكنية:أبو عمرو.

تاريخ الموت(و اللّقب):المازني ولد في 70-أو-68 توفي في 155-أو -154.

البلد:البصريّ.

من السّبعة أم لا؟:من السبة.

المشايخ:

1-أبو جعفر يزيد بن القعقاع.

2-يزيد بن رومان.

3-شيبة بن نصاح.

4-عبد اللّه بن كثير.

5-مجاهد بن جبر.

6-حميد بن قيس الاعرج المكي.

7-عبد اللّه بن ابي اسحاق الخضرمي.

8-عاصم بن ابي النّجود الكوفي.

9-أبو العالية رفيع بن مهران الرّياحي البصري تلميذ ابن عبّاس و ابيّ.

الرّواة:

1-شجاع بن أبي بصير.

2-عبّاس بن الفضل.

3-يحيى بن المبارك اليزيدي،و روى عن اليزيدي:(1)أبو عمرو الدّوري، (2)اوقية،(3)أبو نعيم غلام ابي سجادة،(4)أبو ايوب الحنّاط،(5)أبو حمدون الزّاهد،(6)أبو شعيب السوسي.

ص: 50

-7-عبد اللّه بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة:

- الكنية:أبو عمران.

تاريخ الموت(و اللّقب):اليحصبي ولد في سنة 21 و توفي بدمشق في عاشوراء سنة 118.

البلد:الدّمشقي(الشامي).

من السّبعة أم لا؟:من السّبعة.

المشايخ:1-المغيرة بن أبي شهاب المخزومي،تلميذ عثمان بن عفّان، النّبي(ص).

الرّواة:

1-عبد اللّه بن ذكوان المتوفي سنة 202.

2-هشام بن عمّار المتوفي سنة 240.

-8-يزيد بن القعقاع:

- الكنية:أبو جعفر.

تاريخ الموت(و اللّقب):المخزومي المتوفي سنة 130.

البلد:المدنيّ من السّبعة أم لا؟:ليس من السّبعة.

المشايخ:

1-عبد اللّه بن عبّاس و مولاه.

2-عبد اللّه بن عيّاش بن ابي ربيعة تلميذ أبيّ بن كعب تلميذ النّبيّ(ص).

الرّواة:

1-عيسى بن وردان.

2-سليمان بن جمّاز.

ص: 51

-9-سهل بن محمد:

- الكنية:أبو حاتم.

تاريخ الموت(و اللّقب):السّجستاني.

البلد:البصرى،و إذا اجتمع الكوفي و البصري يقال:عراقي.

من السّبعة أم لا؟:ليس من السّبعة.

-10-خلف بن هشام:-

الكنية:أبو محمّد.

تاريخ الموت(و اللّقب):البزّاز المتوفي سنة 229.

من السّبعة أم لا؟:ليس من السّبعة.

الرّواة:

1-اسحاق الورّاق.

2-ادريس الحدّاد.

-11-يعقوب بن اسحاق:-

الكنية:أبو محمّد.

تاريخ الموت(و اللّقب):الحضرمي المتوفي سنة 205.

البلد:البصري.

من السّبعة أم لا؟:ليس من السّبعة.

الرّواة:

1-رويس.2-روح.

ص: 52

و بعد ذلك اقول.

الجواب عن السؤال الأول يحتاج الى بيان مطالب لها ربط تام بالسؤال.

الأول: إنه لا خفاء في أن النبي(ص)كان أميا و لم يكن كاتبا بل اللّه سبحانه نهاه عن الكتابة بقوله: وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (1)،و لذا كانت كتابة الوحي-القرآن-و الرسائل موكولة إلى الكتاب،ثم إن كتّاب الوحي كانوا تسعة أشخاص و كان لكل واحد منهم طريقة خاصة في جمع القرآن و ترتيبه حتى أن عليا(ع)كان يذكر شأن نزول كل آية مع بيان ما يفسر الآية على ما علّمه النبي(ص).

الثاني: إن من المعلوم أن تنزيل القرآن كان متدرجا و أوجب ذلك إمكان اختلاف كتاب الوحي في ترتيب الآيات،نعم القطع حاصل بأن ما بين الدفتين الموجود في جميع أنحاء العالم وحي سماوي بأسره مادة و صورة كلمة بكلمة من دون أي تحريف.

الثالث: قد يظهر بأدنى تأمل بأن قواعد النحو ليست قهرية الانطباق على الموارد بحيث لم يمكن أن يختلف اثنان في تطبيقها على الجمل بل التطبيق على الموارد إنما هو بنظر المطبق نحويا أم مقرئا،و من هنا يأتي دور الاختلاف بين النحاة و القراء في إعراب الجمل من التراكيب الكلامية،لاختلاف انظارهم في تميز الفاعل عن المفعول و في متعلقات القيود و في رجوع الاستثناء الى أي جملة و في كيفية العطف و إن-ما ذا-مثلا كلمتان أو كلمة واحدة مركبة و غير ذلك و لذا ترى اختلاف ابن كثير مع غيره في اعراب: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ، (2)رفعا لآدم و نصبا لكلمات و بالعكس،و ترى أن الشيخ الرضي نجم الأئمة يعترض على قولهم:و إذا عطف على المجرور اعيد الخافض،بأنه7.

ص: 53


1- سورة العنكبوت،الآية:48.
2- سورة البقرة،الآية:37.

على مذهب الكوفيين لأنه قراءة حمزة و هو كوفي و لا نسلم بتواتر القراءات السبع،و ليس هذا الخلاف مقصورا على القواعد النحوية بل هو جار في قواعد الصرف أيضا كإدغام-يضارّ-أو عدم إدغامه-يضارر-.

الرابع:مما يجب الانتباه له اختلاف البيئات و الطوائف المختلفة في كيفية أداء الكلام و التلفظ بحروف الهجاء و إعراب الجمل اختلافا فاحشا، فالهذلي يقرأ عتى حين بدلا من حتى يحن،و الأسدي يقرأ يعلمون و تعلم (بالكسر)بدلا من يعلمون و تعلم بالفتح،و يتزايد هذا الاختلاف بسبب حدوث قواعد اجادة الأداء و هو علم التجويد و لا سيما مع ملاحظة أن هذا العلم إنما يعتمد على الاستحسان و الذوق في الأغلب و أن الأذواق تختلف جدا فترى أن كيفية أداء القاف أو الطاء مشروطة عند أهل التجويد بشروط و ترى أن الادغامين-الكبير و الصغير-كيف يؤثران في حالة التلفظ و أن الروم و الإشمام و الإمالة و الترقيق و التفخيم و المد و الاستطالة و النبرة و الصفير و الاشباع لها دور بيّن في اختلاف القراءات بل نرى أن إشباع الإشباع ربما يولد الحرف من الحركة فيقرأ القارئ المشبع لكسرة-ك-في: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (1)مالكي يوم الدين،و هذا لحن واضح يوجب بطلان القراءة و به تبطل صلاة المتعمد العالم باللحن و لكن المشبع يراه إجادة للقراءة لكونه إشباعا للكسرة،إذا عرفت هذه الأمور الأربعة علمت أن الاختلافات التي نذكرها عن قريب نشأت في الغالب اما عن اشتباه التفسير بالتنزيل أو الاختلاف في الإعراب أو في كيفية الأداء مما لا يوجب و هنا-و العياذ باللّه منه-في القرآن المجيد فمن المدهش أننا رأينا بعض المستشرقين بالغوا في أمر الاختلاف في القرآن حتى جعلوا الاختلاف في الإدغام و الإظهار اختلافا في القرآن في مثل نعم ماو-نعما-بل جعلوا الاختلاف في رسم الخط اختلافا فيه في مثل كل ما و كلما فلتكن على بصيرة من أمثال ذلك.4.

ص: 54


1- سورة الفاتحة،الآية:4.

الخامس: اختلفت الأقوال في تواتر القراءات السبع بل العشر،فذهب الشهيد الثاني في شرح الألفية الصفحة-137-إلى تواترها فقال مازجا للمتن بالشرح:

الثاني:مراعاة إعرابها و المراد به ما يشمل الإعراب و البناء و تشديدها لنيابته مناب الحرف المدغم على الوجه المنقول بالتواتر و هي قراءة السبعة المشهورة و في تواتر تمام العشرة باضافة أبي جعفر و يعقوب و خلف خلاف أجوده ثبوته و قد شهد المصنف في الذكرى بتواترها و هو لا يقصر عن نقل الاجماع بخبر الواحد و اعلم أنه ليس المراد أن كل ما ورد من هذه القراءات متواتر بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات فإن بعض ما نقل من السبعة شاذ فضلا عن غيرهم كما حققه جماعة من أهل هذا الشأن المعتبر القراءة بما تواتر من تلك القراءات و إن ركب بعضها في بعض ما لم يترتب بعضه على بعض بحسب العربية فيجب مراعاته كتلقي آدم من ربه كلمات فإنه لا يجوز الرفع فيهما و لا النصب و إن كان كل منهما متواترا بأن يؤخذ رفع آدم من غير قراءة ابن كثير و رفع كلمات من قراءته فإن ذلك لا يصح لفساد المعنى و نحوه و كفلها زكريا بالتشديد مع الرفع أو بالعكس و قد نقل ابن الجزري في-النشر- عن أكثر القراء جواز ذلك أيضا و اختار ما ذكرناه.

أما اتباع قراءة الواحد من العشرة في جميع السورة فغير واجب قطعا بل و لا مستحب فإن الكل من عند اللّه نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين(ص)تخفيفا على الأمة و تهوينا على أهل هذه الملة و انحصار القراءات فيما ذكر أمر حادث غير معروف في الزمن السابق بل أنكر ذلك كثير من الفضلاء خوفا من التباس الأمر و توهم أن المراد من السبعة هي الأحرف التي ورد في النقل أن القرآن أنزل عليها و الأمر ليس كذلك فالواجب القراءة بما تواتر منها فلو قرأ بالقراءات الشواذ و هي في زماننا ما عدا العشرة و ما لم يكن متواترا بطلت الصلاة-إلى أن قال-:لأن الشاذ ليس بقرآن و لا دعاء الخ.

ص: 55

و يظهر من كلامه أن الشهيد الأول قائل بتواترها أيضا و نفي الباس عن تواتر القراءات العشر المحقق الكركي(ره)حيث علق على قول الشهيد الأول في الألفية الشواذ و هو جمع شاذ و المراد به ما لم يكن متواترا و قد حصر بعضهم التواتر في القراءات السبع المشهورة و جوز المصنف العشر بإضافة أبي جعفر و يعقوب و خلف لأنها متواترة و لا بأس به.

و ذهب جمع من العامة إلى تواتر القراءات العشر،منهم العامة قاضي القضاة أبو نصر عبد الوهاب ابن السبكي الشافعي حيث أجاب عن استفتاء ابن الجزري بالتواتر بما يلي و إليك نصهما:

الاستفتاء ما يقول السادة العلماء أئمة الدين في القراءات العشر التي يقرأ بها اليوم هل هي متواترة أو غير متواترة؟و هل كل ما انفرد به واحد من العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا؟و إذا كانت متواترة فما يجب على من جحدها أو حرّف منها.

ثم قال ابن الجزري:فأجابني و من خطه نقلت:الحمد للّه،القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي و الثلاث التي هي قراءة أبي جعفر و قراءة يعقوب و قراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة و كل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة انه منزل على رسول اللّه(ص)لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل و ليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم يقول أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه و لو كان مع ذلك عاميا جلفا لا يحفظ من القرآن حرفا و لهذا تقرير طويل و برهان عريض لا يسع هذه الورقة شرحه و حظ كل مسلم و حقه أن يدين اللّه تعالى و يجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين و لا يتطرق الظنون و لا الارتياب الى شيء منه و اللّه أعلم،كتبه عبد الوهاب بن السبكي الشافعي.

ص: 56

و قال جفري في مقدمته على كتاب المصاحف الصفحة الثامنة:و حتى الآن يعتمد كثير من العلماء قراءة القراء العشرة و يثبتون أن كل قراءة رويت عن العشرة هي قراءة متواترة،انتهى.

و قد منع التواتر جماعة من علماء الفريقين-الخاصة و العامة-.

فقال السيد السند،صاحب المدارك(ره)في تعليقه على كلام الشهيد:

نقل جمع من الأصحاب الإجماع على تواتر القراءات السبع و حكم المصنف في-ذكرى- (1)بتواتر العشر أيضا و ذكر المحقق الشيخ علي(ره)أن حكم المصنف بذلك لا يقصر على ثبوت الإجماع بخبر الواحد فتجوز القراءة بها و هو غير جيد لأن ذلك رجوع عن اعتبار التواتر،و نقل جدي(قده)عن جماعة من القراء أنهم قالوا:ليس المراد بتواتر السبع و العشر أن كل ما ورد من هذه القراءات متواترة بل المراد انحصار المتواتر الآن في ما نقل من هذه القراءات فإن بعض ما نقل عن السبعة شاذ فضلا عن غيرهم،و هو مشكل جدا،لأن التواتر لا يلتبس بغيره كما يعلم بالوجدان.

و قال نجم الأئمة في بحث و إذا عطف على المضمر المجرور أعيد الخافض و الظاهر أن حمزة جوز ذلك على مذهب الكوفيين لأنه كوفي و لا نسلم تواتر القراءات السبع و قال البلاغي في مقدمة آلاء الرحمن ما ملخص مضمونه أن القرآن الموجود بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل متواتر قطعا مادة و صورة و القراءات المتخالفة من القراء السبع لم تؤثر على قراءته المستمرة على النحو المرسوم ثم إن هذه الاختلافات في القراءات ترجع في الأغلب إلى الخلاف في قراءة مثل-كفوا أو شأي أو أ رأيتم-أو إلى كيفية الأداء إمالة و إشماما و إشباعا و نحو ذلك و مع ذلك فإنما هي روايات أحاد عن أحاد لا توجب اطمئنانا و لا وثوقا).

ص: 57


1- الذكرى أحد كتب الشهيد(ره).

فضلا عن و هنها بالتعارض و مخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة الخ.

و قد منع التواتر أيضا الشيخ الطوسي في-التبيان-و السيد ابن طاوس في سعد السعود و السيد الجزائري و المولى جمال الدين الخونساري،و من العامة منعه جمع كثير كالزمخشري و الزركشي و الحاجبي و الرازي و العضدي.

و قال اسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في أول كتاب-الشافي- على ما في-النشر في القراءات العشر-.

ثم التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر و لا سمة و إنما هو من جمع بعض المتأخرين لم يكن قرأ بأكثر من السبع فصنف كتابا و سماه -السبع-فانتشر ذلك في العامة و توهموا أنه لا يجوز الزيادة على ما ذكر في ذلك الكتاب لاشتهار ذكر مصنفه و قد صنف غيره كتبا في القراءات و بعده و ذكر لكل إمام من هؤلاء الأئمة روايات كثيرة و أنواعا من الاختلاف و لم يقل أحد أنه لا تجوز القراءة بتلك الروايات من أجل أنها غير مذكورة في كتاب ذلك المصنف و لو كانت القراءة محصورة بسبع روايات لسبعة قراء لوجب ألا يؤخذ عن كل واحد منهم إلا رواية و هذا لا قائل به و ينبغي أن لا يتوهم متوهم في قوله(ص) أنزل القرآن على سبعة أحرف أنه منصرف إلى قراءة القراء السبعة الذين ولدوا بعد التابعين لأنه يؤدي إلى أن يكون الخبر متعريا عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء الأئمة السبعة فيؤخذ عنهم القراءة و يؤدي أيضا إلى أن لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء القراء إذا ولدوا و تعلموا اختاره و القراءة به و هذا تجاهل من قائله و إنما ذكرت ذلك لأن قوما من العامة يقولونه جهلا و يتعلقون بالخبر و يتوهمون أن معنى السبعة أحرف المذكورة في الخبر،اتباع هؤلاء الأئمة السبعة و ليس ذلك على ما يتوهموه بل طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة لفظا عن لفظ إماما عن إمام إلى أن يتصل بالنبي(ص)و اللّه أعلم بجميع ذلك.

ص: 58

و نقل ابن الجزري عن أبي شامة في-المرشد الوجيز-قوله:فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف(و سيأتي مراده منها)لا عمن تنسب إليه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة و غيرهم منقسمة إلى المجمع عليه و الشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم و كثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم.

السادس: اتفق علماء السنة-على الظاهر-على صحة الحديث المنقول عن النبي(ص)بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف و اختلفوا في معناه.

قال ابن الجزري في-النشر في القراءات العشر-:قال رسول اللّه(ص):«ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» (1)،متفق عليه و هذا لفظ النبي(ص)عن عمر.

و في لفظ للترمذي أيضا عن أبي قال:لقي رسول اللّه(ص)جبرائيل عند أحجار المراء،قال فقال رسول اللّه(ص)لجبرائيل:«إني بعثت الى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني و العجوز الكبيرة و الغلام،قال فمرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف» (2)،و في رواية عن أبيّ ما ملخصه أن أحدا افتتح النحل فقرأ على خلافه ثم قرأ آخر على خلافه و خلاف الأول فأخذهما الى النبي(ص)فلما قرءا قال لكل منهما:«أحسنت»أو ما بمعناه (3)فنزل جبرائيل و قال:إن اللّه يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد،فقال:اللهم خفف عن أمتي ثم عاد فقال:إن ربك عز و جل يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين،فقال:اللهم خفف عن أمتي فنزل جبرائيل و أمره عن اللّه بأن يقرأ على سبعة أحرف» (4).4.

ص: 59


1- تفسير الصافي:ج 1 ص 52 المقدمة الثامنة.و صحيح الترمذي:ج 11 ص 62.
2- تفسير الصافي:ج 1 ص 53 المقدمة الثامنة.و صحيح الترمذي:ج 11 ص 63.
3- تفسير الطبري:ج 1 ص 14.
4- تفسير الطبري:ج 1 ص 24.

و نقل ابن الجزري هذا الحديث عن تسعة عشر صحابيا و قال:قال الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام أن هذا الحديث تواتر عن النبي(ص)،و قال ابن الأثير في-نهايته في الحديث:«نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف» (1)أراد بالحرف:اللغة،يعني على سبع لغات من لغات العرب أي أنها مفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش و بعضه بلغة هذيل و بعضه بلغة هوازن و بعضه بلغة اليمن و ليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه على أنه قد جاء في القرآن ما قرئ بسبعة و عشرة كقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (2)و عبد الطاغوت و مما يبين ذلك قول ابن مسعود اني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم إنما هو كقول أحدكم:هلم و تعال و أقبل و فيه أقوال غير ذلك هذا أحسنها،قال صاحب الوافي قال في القاموس مثله،و قيل المراد من السبعة ليس معناه الحقيقي بل هو كناية عن السعة في التلفظ.

و قيل:المراد لغة العرب لأن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة و قيل اللغات الفصحى سبع و قال أبو الفضل الرازي أن السبعة هي عبارة عن:

1-اختلاف الأسماء من الأفراد و التثنية و الجمع و المذكر و المؤنث و المبالغة و غيرها.

2-اختلاف تصاريف الأفعال من الماضي و المضارع و الأمر و الإسناد إلى مذكر أو مؤنث أو متكلم أو مخاطب أو فاعل أو مفعول.

3-اختلاف الإعراب.

4-الاختلاف بالزيادة و النقيصة.4.

ص: 60


1- النهاية:ج 1 ص 369 مادة[حرف]و مجمع البيان:ج 1 ص 12 و تفسير الصافي:ج 1 ص 52 و بحار الأنوار ج 90 ص 4.
2- سورة الفاتحة،الآية:4.

5-الاختلاف بالتقديم و التأخير.

6-تبديل كلمة أو حرف بآخر.

7-الاختلاف بالإدغام و الإظهار و الترقيق و التفخيم و الفتح و الإمالة مثلا.

و قيل حرف كل شيء طرفه و وجهه و حافته وحده و ناحيته و القطعة منه و الحرف أيضا واحد حروف التهجي كأنه قطعة من الكلمة،و قيل الحرف هو الوجه كما في قوله تعالى:

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ (1) و على الأول المراد من السبعة أحرف القراءات السبعة تسمية للشيء باسم جزئه و ما هو منه:و على الثاني سبعة أوجه من اللغات كما قاله أبو عمرو الداني و أبو عبيد و أكثر العلماء،فقال أبو عبيد قريش و هذيل و ثقيف و هوازن و كنانة و تميم و يمن،و قيل بأن خمس لغات تكون في أكناف هوازن و لغتين أخريتين في جميع ألسنة العرب،و قال أبو عبيد الهروي أن تلك اللغات السبعة متفرقة في القرآن بمعنى أن بعضه قرشي و بعضه هوازني و هكذا.

و استشكل على هذا التوجيه بأننا نرى أن هشام بن حكم و عمر كلاهما قرشيان و يختلفان في القراءة.

و قال ابن قتيبة أن العرب تختلف في كيفية الأداء و كل واحد من أرباب اللهجات المختلفة إذا أراد أن يزول عن لغته و ما جرى عليه اعتياده طفلا و ناشئا و كهلا لاشتد عليه ذلك و عظمت المحنة فيها فأراد اللّه أن يجعل لهم متسعا في اللغات،و مراده من هذا البيان لاختلاف في كيفية أداء-اف-و-جبرائيل- و-ارجه-و-هيهات-و-هيت-و-عليهم-الذي يقرأ-عليهموا-،مثلا- و-موسى-و-عيسى-بالإمالة أو بدونها و إشمام الضم مع الكسر في مثل-قيل1.

ص: 61


1- سورة الحج،الآية:11.

لهم-و-غيض الماء-،أو عدمه-و خبيرا-و-بصيرا-بالترقيق أو بدونه،و أن التميمي يهمز و القرشي لا يهمز،و أن الهذلي يقرأ:-عتى حين-بدلا عن- حتى حين-،و الأسدي يقرأ:-تعملون يعلم-يسود-أ لم أعهد-،بالكسر في حرف المضارع،بل ترى أن اللبناني يبدل القاف همزة فيقول:-أم-،بدلا عن -قم-و نحو ذلك مما هو كثير في جميع اللغات و فوق الكثرة في لغة الضاد.

و قد يحمل سبعة أحرف على مقاصد القرآن،لما في رواية الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود عن النبي(ص):«نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زجرا و آمرا و حلالا و حراما و محكما و متشابها و أمثالا،فأحلوا حلاله» (1).

و روى ابن جرير عن أبي قلابة عن النبي(ص):«أنزل القرآن على سبعة أحرف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل» (2)،و روى عن علي(ع)عشرة:«بشير و نذير و ناسخ و منسوخ و عظة و مثل و محكم و متشابه و حلال و حرام» (3)،و عن ابن عباس:أربعة.

و انت جد خبير بان التقسيم يختلف باختلاف الأنظار في القسمة،مع أنه لا أهمية لبيان أقسام مقاصد القرآن.

و من الغريب ما ورد في بعض أخبارهم من أن جبرائيل لما بلغ سبعة أحرف قال:كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة و آية رحمة بعذاب و في خبر نحو قولك:تعالى و أقبل و هلم و اذهب،و اسرع و اعجل،و في خبر ان قلت:غفورا رحيما أو قلت:سميعا عليما،أو عليما سميعا فاللّه كذلك ما2.

ص: 62


1- المستدرك على الصحيحين(للحاكم):ج 1 ص 553 و ذكره مجمع البيان:ج 1 ص 13.
2- مجمع البيان:ج 1 ص 13 و تفسير الصافي:ج 1 ص 52.
3- انظر بحار الأنوار:ج 90 ص 4 و تفسير الصافي:ج 1 ص 52.

لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب.

و قيل السبعة عبارة عن:

1-الحلال.

2-الحرام.

3-المحكم.

4-المتشابه.

5-الأمثال.

6-الإنشاء.

7-الأخبار.

و قيل:الناسخ و المنسوخ و الخاص و العام و المجمل و المبين و المفسر.

و قيل:الأمر و النهي و الطلب و الدعاء و الخبر و الاستخبار و الزجر.

و قيل:الوعد و الوعيد و المطلق و المقيد و التفسير و الاعراب و التأويل.

و قد ذكر ابن حيان خمسة و ثلاثين معنى لسبعة أحرف،بل قالوا الأقوال فيه أربعون.

و لك أن تسأل القوم عن إمكان الجمع بين المعنيين في كلام واحد بأن تجعل المراد من الأحرف اللفظ،و تقول:المراد سبع لغات و في نفس الوقت المعنى أيضا و تقول:المراد الأمر و الزجر الخ.

و لك أن تسأل أيضا بأن الشاهد على صدق-سبعة أحرف-على كل واحد من تلك المعاني موجود أم لا؟.

و لك أن تسأل أيضا هل أنه لا يكون فرق بين نزول القرآن و هو فعل

ص: 63

اختياري توقيفي لمنزله و هو اللّه تعالى و بين الإرجاع في القراءة الى اختيار القارئ بشرط واحد فقط و هو عدم ختم رحمة بعذاب أو عذاب برحمة،ثم إنّ الإتيان بالمترادفات بمعنى النقل بالمعنى إن كان جائزا خرج القرآن عن كونه معجزا في أسلوبه و أمكن الإتيان بمثله،و الطريف أنه جاء في لفظ لعمرو بن العاص:فأي ذلك قرأتم فقد أصبتم و لا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر،و ليت شعري ما المراد من المراء فهل الدقة في القراءة و رعاية النظم و التركيب و التجنب عن الإخلال في أسلوب الوحي مراء؟و هل التصرف بالتشهي و الاقتراح في الكلام الإلهي إصابة للحق و ليس من الضوضاء في شيء، و سيأتي تحقيق الحال فانتظر.

السابع:وجوه الاختلاف في القراءات:

اختلاف القراءات يتنوع إلى انواع عديدة و قبل بيان الأقوال فيها نقول:

تختلف التقسيمات-على وجه العموم-بالوجوه و الاعتبارات فلنا نظرا إلى ما هو المهم عندنا من الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين أن نقسم الاختلاف في القراءة إلى أربعة أقسام:

الأول:الاختلاف المؤدي إلى الاختلاف في الحكم الشرعي كالاختلاف في قراءة يطهرن بتشديد الهاء و تخفيفه الموجب لاختلاف الحكم لأن القراءة الأولى دالة على حرمة وطء الحائض إلى أن تغتسل بعد النقاء و القراءة الثانية دالة على كفاية النقاء في ارتفاع حرمة الوطء و في مثله نقول بلزوم الرجوع إلى المرجحات كما يأتي.

الثاني:الاختلاف المؤدي الى الاختلاف في المعنى غير المربوط بالحكم الشرعي،كقوله تعالى: ننشرها الذي قرأ: نُنْشِزُها (1)أيضا9.

ص: 64


1- سورة البقرة،الآية:259.

و قوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (1)،على القراءتين و-تلقونه- على القراءتين أيضا أو طلح التي قرئت طلع أيضا.

الثالث:الاختلاف المغير للصورة غير المغير للمعنى كقوله تعالى -صيحة-التي قرئت زقية-أيضا،أو قوله: و ما عملت أيديهم التي قرئت: عَمِلَتْهُ (2)أيضا،و نظيره الاختلاف في التقديم و التأخير نظير:

سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ (3) التي قرئت: سكرة الحق بالموت .

الرابع:الاختلاف في الأداء و أصناف هذا القسم كثيرة جدا كالإدغام و الاظهار و الروم و الإشمام،و قراءة-هيت-و أرجه و كفوا و نحو ذلك على أنحاء مختلفة،و إليك بيان جملة من الأقوال.

بهذا الصدد قال ابن قتيبة:الاختلاف في القراءة على سبعة أقسام:

الأول:الاختلاف في الإعراب غير المغير للصورة و للمعنى كقراءة -أطهر لكم-بالضم-و-بالفتح-و قراءة-هل يجازي الا الكفور-و هل يجازي الا الكفور-و قراءة-ميسرة-بكسر السين-و-مسيرة-بضمها-و-فيضاعفه- و-فيضاعفه-بفتح الفاء و ضمّها.

الثاني:الاختلاف في الإعراب غير المغير للصورة و المغير للمعنى كقراءة ربنا-بفتح الباء-باعد دعاء و ربنا-بضم الباء-باعد أخبارا،و تلقونه و تلقونه بالتشديد و التخفيف و حتى يطهران-بالتخفيف و التشديد-.

الثالث:الاختلاف في الحروف،غير المغير للصورة و المغير للمعنى9.

ص: 65


1- سورة البقرة،الآية:37.
2- سورة يس،الآية:35.
3- سورة ق،الآية:19.

كقراءة:كيف ننشرها-بالراء-و كيف ننشزها-بالزاي-.

الرابع:الاختلاف المغير للصورة في الكلمة و غير المغير للمعنى كقراءة:صيحة واحدة-و-زقية واحدة.

الخامس:الاختلاف في الكلمة المغير للصورة و المعنى،كقراءة:- و العهن المنفوش-و-و الصوف المنفوش.

السادس:الاختلاف بالتقديم و التأخير كقراءة: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ و جاءت سكرة الحق بالموت .

السابع:الاختلاف بالزيادة و النقيصة،كقراءة: و ما عملت أيديهم و: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ (1)أو: إِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (2)و: ان اللّه الغني الحميد و: هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً (3)و: هذا أخي له تسع و تسعون نعجة أنثى .

و قال بعضهم:اقسام الاختلاف في القراءات هكذا:

1-الاختلاف بالحركة-غير المغير للصورة و للمعنى-و ذلك كقراءة:

النحل على أربعة أنحاء،و يحسب على نحوين.

2-الاختلاف بالحركة-غير المغير للصورة و المغير للمعنى-نظير قوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ (4)و قوله تعالى: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (5).5.

ص: 66


1- سورة يس،الآية:35.
2- سورة لقمان،الآية:26.
3- سورة ص،الآية:23.
4- سورة البقرة،الآية:37.
5- سورة يوسف،الآية:45.

3-الاختلاف بالحروف-غير المغير للصورة و المعنى-كقوله تعالى:

تَبْلُوا و: تَتْلُوا و: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ و: نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ (1).

4-الاختلاف بالحروف-المغير للصورة و غير المغير للمعنى-كالصراط و السراط-و بسطه و-بصطة.

5-الاختلاف بالحروف-المغير للصورة و المعنى معا-كقوله:أشد منكم أو-أشد منهم و يأتل و-يتأل.

6-الاختلاف في التقديم و التأخير،مثاله:فيقتلون و يقتلون،و جاءت سكرة الحق بالموت،أو جاءت سكرة الموت بالحق.

7-الاختلاف بالزيادة و النقصان،نظير و أوصى و وصى.

8-الاختلاف في القواعد التجويدية كالروم و الإشمام و التفخيم و الترقيق و الإدغام و الإظهار و المد و القصر و الفتح و التسهيل و الإبدال و النقل و هي ليست اختلافا في اللفظ و لا في المعنى.

و ختاما نلفت أنظار النابهين إلى جملة من الأخطار التي ربما تكون جملة منها عمدية صدرت من الأجانب المسيحيين تمس كرامة القرآن،و هذه الجملة تتلخص في ثلاثة أقسام:

الأول:ما لا يكون اختلافا و لكن الخصم أبرزه بصورة الاختلاف.

الثاني:ما لا دليل على تحققه خارجا.

الثالث:الزيادات المنافية لما نقول من عدم التحريف.

فمن الأول:يضارر و يضارّ و فنعم ما و نعما المختلفين من حيث الإظهار2.

ص: 67


1- سورة يونس،الآية:92.

و الإدغام و نظير كل ما و كلما المختلفين من حيث رسم الخط و هذا كما ترى ليس من المضر بكرامة القرآن.

و من الثاني:خمرا و عنبا،و ثريدا و خبزا،و آل عمران و آل محمد، و الرفث و الرفوت،و عدل و سواء،و الحنيفية و الإسلام،و لا ينبغي للعاقل أن يعترف بصدق هذا النحو من الاختلاف لأنه مضافا إلى عدم الدليل عليه كيف يشتبه على كاتبين من كتاب الوحي أو المقرئين من القراء كلمة آل عمران:

-آل محمد-أو الرفث:-الرفوت-و لا سيّما بالنسبة إلى جملة من الكلمات التي دخلت في آيات لا تناسبها كالمثال الأخير و هو الرفوت،الكلمة التي لم نر هيئتها في اللغة و ليس معناه و هو الدق و الكسر مناسبا مع المقام،و إن قلت هي كناية قلت فما أقبحها.

و من الثالث:أثر الرسول و«اثر فرس الرسول،و لا تخافت بها و لا تخافت بصوتك و لا تعال به،و مشوا فيه و مروا فيه و مضوا فيه،و سفينة غصبا و سفينة صالحا غصبا،و تسع و تسعون نعجة و تسع و تسعون نعجة أنثى،و-و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين و-و أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين،و قد توجد جملة وافرة من هذا القسم في القراءة التي جمعها الخزاعي و نقلها الهذلي و قال أبو العلاء الواسطي أن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبة إلى أبي حنيفة فأخذت خط الدار قطني و جماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له،أقول أن التنافر بين الطوائف المختلفة من المسلمين سنيا و شيعيا وصل إلى حد جعلوا القرآن سلاحا للغلبة،فتو هينا لأبي حنيفة وضعوا الكتاب المذكور،راجع -النشر في القراءات العشر-.

الثامن:في ذكر الأخبار الواردة من طرقنا في مورد اختلاف القراءات، و قد رواها محمد بن يعقوب الكليني في الكافي فقال علي بن إبراهيم،عن أبيه إبراهيم بن هاشم،عن محمد بن أبي عمير،عن عمر بن أذينة،عن الفضيل بن يسار،قال:قلت لأبي عبد اللّه(ع):«إن الناس يقولون إن القرآن نزل

ص: 68

على سبعة أحرف فقال:كذبوا أعداء اللّه و لكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (1)،و السند صحيح أو حسن»بإبراهيم بن هاشم و هو من مشايخ النشر و الإجازة،و الدلالة واضحة في نفي نزول القرآن على سبعة أحرف.

و عن الحسين بن محمد،عن علي بن محمد،عن الوشاء،عن جميل بن دراج،عن محمد ابن مسلم،عن زرارة بن أعين،عن أبي جعفر(ع) قال:«إن القرآن واحد نزل من عند واحد» (2)و لكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة،و الحسين هو الأشعري الثقة،و قالوا في معلى بأنه مضطرب الحديث و قال المجلسيان لم نر اضطرابا في حديثه و لا فسادا في مذهبه و هو شيخ للإجازة و للنشر و ليس محتاجا الى التوثيق،و التحقيق في محله فالسند قابل للاعتبار و الدلالة واضحة،على أن رواة القراء اختلفوا في النقل،و الشاهد على ذلك أن لكل قارئ رواة و قد اختاروا من كل منهم راويين و تراهما مختلفين في الرواية عن شيخهما و لعل اختلافهما كان في التلقي عن الاستاذ أو لمزج الرواية بالدراية بمعنى تطبيق قواعد الاعراب على المسموع من الاستاذ و كيف كان فلا شبهة في اختلاف روايتي حفص و شعبة عن عاصم،و قالون،و ورش،عن نافع،و قنبل و بزي،عن ابن كثير،و أبي عمرو و ابن شعيب،عن اليزيدي، عن أبي عمرو و ابن ذكوان و هشام عن ابن عامر و خلف و حماد عن سليم عن حمزة و أبي عمرو و أبي الحارث عن الكسائي.

و عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن عبد اللّه بن فرقد و المعلى بن خنيس قالا:كنا عند أبي عبد اللّه(ع)و معنا ربيعة الرأي فذكر القرآن فقال أبو عبد اللّه(ع):«ان كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال»،فقال ربيعة:ضال؟؟،فقال:«نعم ضال»ثم قال ابو2.

ص: 69


1- الكافي:ج 2 ص 630 باب النوادر في فضل القرآن ح 13.
2- الكافي:ج 2 ص 630 باب النوادر في فضل القرآن ح 12.

عبد اللّه(ع):«أما نحن فنقرأ على قراءة أبي» (1).

قال في الوافي:المستفاد من هذا الحديث أن القراءة الصحيحة هي قراءة ابي بن كعب و ربما يجعل المكتوب بصورة أبي في هذا الحديث الأب المضاف الى ياء المتكلم هو بعيد جدا،و أنا أقول:أما استبعاده فهو في محله لأن ابي بن كعب كان من تلامذة النبي(ص)في القراءة و كان معروفا بها.

و أما الباقر(ع)فلم يكن ذا فن قرائي واحد يعرف به و بتعبير أوفى لم تكن له قراءة خاصة تضاف اليه،ثم إن عبد اللّه بن فرقد مجهول و المعلى بن خنيس مرمى بعدم اطاعته لأمر الصادق(ع)بكتمان السر حتى قتل و نحن قلنا بأن المعلى كان ثقة في القول و هذا يكفي في قبول أخباره مضافا إلى أن الصادق(ع)لما أخبر بقتله بكى و ترحم عليه،مضافا الى أنه لم يعلم كون نهيه عن إذاعة السر مولويا فلعله كان إرشاديا بل الشاهد على الأخير موجود و هو تعليل النهي عن الاذاعة بأنه لو أذاع يقتل،و من الذي يجزم بأن قتله لم يكن قتلا في سبيل اللّه إذ لو لم يكن في كل زمان و مكان أمثال المعلى ممن يضحّي بنفسه في سبيل الدعوة الالهية الحقة لاندرست أحكام الدين و لأباد الطغاة عساكر الحق و اليقين فنرجو من اللّه أن يحشر هؤلاء في زمرة الشهداء و الصديقين،فالخبر بالإضافة اليه معتبر،و أما الدلالة فهي ناظرة إلى لزوم الدقة في تطبيق قواعد الاعراب على المقروء و على أن قراءة أبي كانت على وفقها، على أنه لم تكن لهم قراءة خاصة فكيف باختصاصهم بقرآن خاص.

فكلمة بقراءتنا-في صدر الحديث ناظرة الى القراءة المتعارفة الجارية على قواعد الإعراب،بشهادة الذيل و لا يفهم من الخبر بطلان قراءة ابن مسعود و هو تلميذ النبي(ص)في القراءة كأبي بل هو ناظر الى لزوم الاتحاد في القراءة و عدم خصوصية لقراءة على الأخرى الا بالأوفقية مع القواعد،و هناك أخبار7.

ص: 70


1- الكافي:ج 2 ص 634 باب النوادر في فضل القرآن ح 27.

أخرى ضعيفة الإسناد نذكرها للإشارة الى ما فيها.

منها ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل بن زياد،عن محمد بن سليمان،عن بعض أصحابه،عن أبي الحسن(ع)قال:قلت له:جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها و لا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم،فهل نأثم؟فقال«لا،اقرءوا كما تعلّمتم، فسيجيئكم من يعلمكم» (1)و هذا الخبر إنما يدل على الاختلاف في كيفية الأداء و الاتفاق في المادة و الصورة و لا أقل من عدم دلالته على أزيد مما ذكر مع أن السند ضعيف لا يمكن الركون إليه لجهالة بعض أصحاب ابن سليمان و الجهل بوثاقته بنفسه.

و منها ما عن محمد بن يحيى،عن محمد بن الحسين،عن عبد الرحمن بن أبي هاشم،عن سالم بن سلمة قال:قرأ رجل على أبي عبد اللّه(ع)و انا استمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس،فقال أبو عبد اللّه(ع):

«مه،كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم،فإذا قام القائم(ع)قرأ كتاب اللّه تعالى على حدّه و أخرج المصحف الذي كتبه علي(ع) و قال:أخرجه عليّ(ع)الى الناس حين فرغ منه و كتبه فقال لهم:هذا كتاب اللّه تعالى كما أنزله اللّه على محمد(ص)و قد جمعته بين اللوحين فقالوا:هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه فقال:أما و اللّه ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا إنما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه» (2).و يتمسك بهذا الخبر لأمور:

الأول:إن المصحف الذي جمعه علي(ع)هو القرآن الكامل النازل3.

ص: 71


1- الكافي:ج 2 ص 619 باب أن القرآن يرفع كما أنزل ح 2.
2- الكافي:ج 2 ص 633 باب النوادر في فضل القرآن ح 23 و بصائر الدرجات:ص 213 ح 3.

من السماء على النبي(ص).

الثاني:وقوع التحريف في القرآن.

الثالث:إننا مأمورون في زمن الغيبة بقراءة ما عند الناس من القرآن مادة و صورة و إعرابا و لكن السند ضعيف بسالم بن سلمة،و أما دلالته على التحريف فنجيب عنها فيما سيأتي.

و منها ما عن علي بن محمد،عن بعض أصحابه،عن البزنطي،قال:

دفع اليّ أبو الحسن(ع)مصحفا و قال:«لا تنظر فيه»ففتحته و قرأت فيه:

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) ،فوجدت اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم و أسماء آبائهم قال:فبعث اليّ«ابعث الي بالمصحف» (2).

و قد يستدل بهذا الخبر على وقوع التحريف بالنقيصة في القرآن و لكل الخبر ضعيف إذ لو قلنا بوثاقة علي بن محمد لكونه من مشايخ الكليني فلا ريب في أن بعض أصحابه مجهول فالسند ضعيف لا محالة و أما الدلالة فيرد عليها.

أولا:انه ما وجه دفع الإمام(ع)المصحف الى من ينهاه عن النظر فيه مع أنه موضع سرّه؟ و ثانيا:ما السبب في عصيان البزنطي-و هو من الثقاة الأجلاء و من بطانة الرضا(ع)-لنهي الإمام المفترض طاعته على الجميع؟ و ثالثا:انه هل كانت أسماء المنافقين الموجودة في المصحف جزءا من الوحي أو بيانا لمصاديق المنافقين؟و خلاصة الكلام أن هذا الخبر ضعيف سندا و دلالة،و لا يخفى عليك أن القول بأن القرآن المنزل من اللّه على نبيه(ص)له الوحدة من حيث المادة و الصورة و الهيئة ليس مختصا بالشيعة و أخبارهم لأن6.

ص: 72


1- سورة البينة،الآية:1.
2- الكافي:ج 2 ص 631 باب النوادر في فضل القرآن ح 16.

الظاهر من بعض أخبار أهل السنة و أقوالهم أيضا وحدة القرآن في الأمور الثلاثة أي المادة و الصورة و الهيئة-الأعراب-،فراجع جامع البيان عن أبي عمرو الداني قوله:أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة و الأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر و الأصح في النقل و الرواية اذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية و لا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها و المصير اليها انتهى.

إلا أن يقال بأن كلام الداني لا يدل إلا على التوقيف لا الوحدة فالأحسن أن نتمسك بما نقل عن عبد الرحمن السلمي من أنه قال كانت قراءة أبي بكر و عمر و عثمان و زيد بن ثابت و المهاجرين و الأنصار واحدة انتهى.

أضف إلى ذلك أن المدار على البرهان لا على كثرة أنصار قول و قلتها.

التاسع:في بيان أمور ثلاثة:

الأول:في تأسيس الأصل في المسألة فنقول أن قراءة القرآن اما واجبة تكليفا و وضعا كما في الصلوات الخمسة و صلاة الطواف أو وضعا كما في صلاة العيدين و أما مستحبة كقراءة القرآن بما هي قراءة له.

و في الأول ان ثبتت صحة القراءة بالطرق الموجبة للعلم الوجداني كالتواتر أو الموجبة للاطمئنان كخبر الواحد الموثوق به فهو،و إلا فأصالة الاشتغال بوجوب القراءة الصحيحة:كالفاتحة و السورة في الصلوات اليومية تكليفا و وضعا تقتضي وجوب تحصيل العلم أو ما هو بمنزلته بالقراءة الصحيحة،لأنه إذا أتى بالصلاة مع القراءة المشكوكة لم يتيقن بأداء الواجب.

و في الثاني تجري أصالة عدم القرآنية و عدم مشروعيّة القراءة المشكوكة.

الثانية:التواتر عبارة عن اتفاق جماعة كثيرة على امر اخبارا عنه بحيث لم يمكن تواطؤهم على الكذب،فإذا كان الخبر ذا واسطة واحدة كأخبار جماعة

ص: 73

كثيرة بوقوع الزلزلة في الزمان الحاضر في البلد الفلاني،وجب أن يمتنع اتفاقهم على الكذب،حتى يصدق على خبرهم عنوان المتواتر.

و لكن إذا أخبروا عن جماعة أخرى وجب أن يمتنع اتفاق كل واحدة من الطائفتين على الكذب و هكذا بالنسبة إلى أيّة طبقة من الطبقات المتصاعدة، ان تصاعدت الطبقات.

الثالث:إن القراءات السبع ليست متواترة بالمعنى المذكور لأن العمدة في إثباته الإجماع المنقول،و الإجماع المنقول ليس بحجة مع أن التواتر أمر محسوس و الإجماع المنقول منقول و لا يثبت المحسوس بالمنقول فلقد أعجب من قال بأن نقل التواتر لا يقصر عن الإجماع المنقول بالخبر الواحد،زعما منه بأنا نسلم الحكم في المقيس عليه و يشهد على عدم تواتر القراءات السبع و عدم انحصار القراءات بها مصنفات القوم من القراءات الثلاث الى القراءات الثلاث عشرة،و اليك أسماء جملة منها:«الكفاية في القراءات الست»«الاقناع في القراءات السبع»و«الشفعة في القراءات السبع»«و عقد اللآلي في القراءات السبع»و«الشرعة في القراءات السبع»و«المبهج في القراءات الثمان» و«التلخيص في القراءات الثمان»«و التذكرة في القراءات الثمان»و«النشر في القراءات العشر»لابن الجزري و هو كتاب لطيف،و«الجامع»و«المستنير» و«المهذب»و«التذكار»و«المصباح»و«الكامل»«و المنتهى»«و الاشارة» «و الكنز»و«الكفاية»و غيرها في القراءات العشر و«الجامع في العشر»و قراءة أعمش«و الروضة في القراءات الاحدى عشرة»و«البستان في القراءات الثلاث عشرة».

و الغرض من ذكر هذه الكتب أن القراءات لا تنحصر بالسبع و لا معنى لتواترها بالخصوص،نعم القراءات السبع أوفق بالقواعد و أبعد عن الاستحسان و لذا قيل بأن الخلف إنما اقتدوا بهؤلاء السبعة لأمرين:

ص: 74

الأول:إن هؤلاء تجردوا لقراءة القرآن مع العناية الشديدة بها و وفور العلم بقواعدها و أما من عداهم فلم يكونوا بتلك المكانة من العلم و التجرد إذ كانوا ذوي فنون مختلفة.

الثاني:انه كانت قراءتهم مسندة حرفا بحرف عن السلف بمعنى بعدها عن التصحيف و سلامتها عن اختلاف الرواة و النساخ،و إن شئت جعلت أول الأمرين انحصار فنهم بالقراءة و اشتغالهم طول حياتهم بها مع وفور العلم خلافا لمن تعدّ قراءته من الشواذ حيث أن رتبته أنزل في ما ذكر من هؤلاء و ثانيهما معروفية قراءتهم لفظا و سماعا حرفا بحرف من أول القرآن إلى آخره،ثم إن أرقى كل هذه القراءات قراءة عاصم الكوفي برواية حفص الكوفي و هي الرسم الخطي الموجود في العالم بأسره حيث أن كمالها الأدبي فاق القراءات و لذا قل من أحب الاطلاع على غيرها إلا لازدياد الدقة و المعرفة،و لك أن تجعل التاريخ شاهدا على صدق ما قلنا بأن تلاحظ بدء نشوء قواعد الاعراب ثم تطورها إلى بلوغ ذروتها الأدبية و نبوغ الفطاحل و عظماء الأدب العربي فيها، فترى أن عليا(ع)هو صاحب مكتب النحو و تلميذه الأول كان أبو الأسود الدؤلي،و ترى أن النبي(ص)كان أول أستاذ لقراءة القرآن و كان من تلامذته أبي بن كعب و عثمان و عبد اللّه بن مسعود و عبد اللّه بن عباس و زيد بن ثابت.

ثم استمرت دراسة القرآن مقرونة بدراسة النحو الى أواسط القرن الثاني و هو زمان تلامذة السبعة ففي خلال هذه السنين المتمادية شغل النحو و دراسة القرآن جميع المحافل العلمية و المذهبية للجامعة الاسلامية و كانت عوامل حصر الهمم في دراسة القرآن كثيرة جدا إذ أن القرآن كتاب ديني الهي و أسلوبه معجز و لم يكن للعرب سعة اطلاع و طول باع في العلوم و الفنون الفلسفية و الرياضية و الكيمياوية و الصناعية و غيرها،و كان أول فن العرب و ربما آخره ما يجري على ألسنتهم من الخطابة و الشعر و ما يبدعه خيالهم من التمثيلات و الاستعارات و الأقاصيص و لذلك جعل اللّه القرآن المجيد و هو كلام ملفوظ معجزة لنبيه(ص)

ص: 75

و سيبقى إعجازه خالدا ما بقي الدهر.

و لا تظن أن المشركين قد سكتوا عن مقابلة تحديات القرآن و لم يعارضوا تلك التحديات المخزية لهم بل اجتمعوا و تشاوروا و تعاضدوا و تكاتفوا و لكن فشلت عزماتهم حينما عثروا على الآيات الإلهية الباهرة و الكلمات السماوية النيرة من قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ (1)،و من قوله تعالى: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (2)،و قد وازن مدققوهم-على ما نقل-بين قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (3)و بين قول بعض العرب المجيب الذين أجابوا عبثا دعوة القرآن للتحدي-القتل أنفى للقتل-فوجدوا الفروق الأدبية بين الكلامين بالغة الى اثني عشر فرقا فالكلام لغة و صرف و نحو و فصاحة و بلاغة كان تاج العلوم في العرب،و ربما كانت العلوم منحصرة به على ما كان عليه من الشئون الأدبية -ما عدا الكهانة و القيافة و العرافة و هي لا تعد علوما بالحقيقة-و قد جاء القرآن متفوقا على الكلام العربي خلودا و لقد كان لزاما على معتنقي مبادئ الإسلام الإلمام بالقرآن قراءة و حفظا و كتابة و دراسة و تعلما لمعارفه و حكمه و مواعظه فكثر الحفاظ و الكتاب و المشايخ للقراءة و مؤلفوا الكتب المتعلقة بشئون القرآن.

و من الواضح أن لكل فن أهل خبرة و أهل الخبرة لفن القراءة كانوا على وعي شامل و يقظة كاملة فانتخبوا هؤلاء السبعة و لم يراعوا حتى أساتذة هؤلاء في الإحصاء و العد فذكروا-نافع-أول السبعة و اهملوا ذكر أستاذه أبي جعفر،9.

ص: 76


1- سورة هود،الآية:44.
2- سورة طه،الآية:38-39.
3- سورة البقرة،الآية:179.

و لذلك لم يكتف جمع كثير بهذا العدد و زادوا أبا جعفر و يعقوب و خلف و لم يكن هذا الانتخاب أيضا جزافا بل كان لما رأوا عند هؤلاء الثلاثة من كثرة القواعد النحوية و التجويدية الهائلة و من الأسس المتينة في الفنون الأدبية و القواعد العلمية فضبطوا قواعدهم و أثبتوا قراءتهم إلى أن اجتمعت و اتفقت آراء جمهور الفصحاء و البلغاء و أرباب النحو على قراءة عاصم الكوفي و حيث أن أدق رواته هو حفص أخذوا بروايته دون سائر تلامذته،و بعد استقرار رأي هذه الجماعة الكبيرة على ذلك تفطن آخرون الى أن جعل القراءة منحصرة في قراءة عاصم يؤدي الى القول ببطلان قراءة من قرأ بغير قراءتهم و إن كان من كبار الصحابة و التابعين فشق ذلك عليهم و قالوا بأن المدار في صحة القراءة على الأوصاف الثلاثة لا كونها من السبع أو العشر،بل شنعوا على من قال بتواتر القراءات السبع و شددوا القول على من حمل حديث سبعة أحرف على تلك القراءات و قالوا بأن نزول القرآن كان قبل ولادة هؤلاء فهل القراءة تابعة للنزول أو النزول تابع للقراءة؟هذا أولا،و أما ثانيا:فإنه يلزم من ذلك بطلان قراءة من سبق زمانه من الصحابة و التابعين زمان ولادة هؤلاء القراء،و أما ثالثا:فإن قراءتهم كانت مبتنية على أسس علمية و براهين كلامية من قواعد الإعراب و التجويد و لم تكن ناشئة عن إبداعهم و اقتراحهم و على ما ذكرنا فجميع القراء على شرع سواء من جهة القواعد.نعم الأعلم الأتقن أولى من غيره،و أما الأوصاف الثلاثة التي جعلوها شرطا للقراءة الصحيحة فهي الموافقة للعربية و الموافقة لأحد المصاحف العثمانية و صحة السند.

قال ابن الجزري في كتابه-النشر في القراءات العشر-كل قراءة وافقت العربية-و لو بوجه.-و وافقت أحد المصاحف العثمانية-و لو احتمالا-و صح سندها فهي القراءة الصحيحة لا يجوز ردها و لا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن و وجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين و متى اختل ركن من

ص: 77

هذه الأركان الثلاثة اطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عن العشرة أم عن أكبر منهم،الى أن قال نقلا عن أبي شامة في-المرشد الوجيز-:فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا عمن تنسب إليه فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة و غيرهم منقسمة الى المجمع عليه و الشاذ،و غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم و كثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم الخ.

و يظهر من كلامهما أمران:

الأول:عدم انحصار القراءة الصحيحة بالقراءات السبع.

الثاني:إن في القراءات السبع يوجد الشاذ فأين التواتر؟!!نعم يرد على ابن الجزري أن ما قاله من نزول القرآن على سبعة أحرف خطأ بل لنا أن نقول بعدم المعقولية،لأن القادر المطلق الواهب للعقل و العلم،كيف ينزل القرآن على كيفيات مختلفة عارضة على مادة واحدة و صورة واحدة فينزل-هيت-على سبعة أوجه أو ينزل فتلقى آدم من ربه كلمات على كيفيتين.

و نحن حيث قد دحضنا صحة إسناد هذا القول إلى النبي(ص)و قلنا ببطلانه و بينا أنه لا يمكن المصير الى معنى صحيح لسبعة أحرف،نقول زيادة للتوضيح إن جعلت هذا الكلام كناية فالمكنى عنه مجهول و لا دليل لنا عليه، و حينذاك نكتفي بهذا المقدار في الجواب عن السؤال الأول.

و أما الجواب عن السؤال الثاني،و هو أن ما بأيدينا من القرآن الموجود هل هو متواتر أم لا؟.

فهو أنه نعم،متواتر قطعا بل قلما يتفق مصداق للمتواتر يكون مثله في صدق عنوان المتواتر عليه فهو أولى في تطبيق عنوان المتواتر عليه من غيره لأن الموجود الحالي بين المسلمين انتشر في البلاد الإسلامية منذ جمع عثمان له، و كان سندا للأحكام و المعارف الإسلامية و كان و لم يزل حفظه على ظهر القلب

ص: 78

مما يتقرب به إلى اللّه تعالى و لم يزل و لا يزال كتّاب القرآن يتقربون بكتابته إلى اللّه تعالى و المسلمون بقراءته و أطفالهم بتعلمه و شبانهم بمعرفة حقائقه و دقائقه و شيوخهم باستخراج كنوزه و جواهره من دون فرق في جميع ما ذكر بين العرب و العجم و الترك و الديلم و سائر الملل المسلمة في أطراف العالم.

فترى من لم يعرف اللغة العربية و انحصرت معرفته بلغة أمه-غير الغربية يحفظ القرآن لأنه كلام اللّه و يرجو في حفظه رضى اللّه و الجنة،فلا يعقل التفوه بعدم تواتره بل لنا أن نستدل بتواتر الموجود على عدم وقوع التحريف فيه بالزيادة و النقيصة.

و أما الجواب عن السؤال الثالث،فهو أن هذا السؤال من العجائب و إن اشتبه في مورده الأمر على بعض علماء السنة و بعض علماء الشيعة،إذ أن القراءات المتأخرة لسنين متمادية بعد نزول القرآن كيف تكون مؤثرة في كيفية إعراب النازل من اللّه تعالى على نبيه(ص)،فالقول بأن كلا من تلك القراءات نزل بها الروح الأمين على قلب سيد المرسلين،من غرائب الكلمات مضافا إلى ما بيناه من أن تطور القواعد ولدت القراءات مع تكاملها و الدقة المستمرة من المشايخ يوما بعد يوم في تطبيقها على الآيات وصلت إلى القراءات الرئيسية من الثلاث الى السبع ثم أوجبت على نحو الاجتماع و الانضمام وصول تشكيل القرآن إعجاما و إعرابا الى الكيفية الفعلية المعتبرة عند كافة أهل الأدب العربي إذ لم ينكر أحد حسن هذه الكيفية و إتقانها و كمالها الأدبي.

و بالجملة لو سلمنا بتحقق التواتر من زماننا هذا الى زمان هؤلاء السبعة فلا نسلم بتواترها إلى ما قبل نزول القرآن حتى ينزل القرآن عليها كافة و على نحو المجموع من حيث المجموع الذي أرى التفوه به خطأ و عذري فيه شوقي الى التفهيم و إلا فأي عاقل لا يعلم بأن قراءة القارئ متأخرة بحسب الطبع على نزول المقروء مع أن قراءته تابعة للقواعد لا أن القرآن تابع للقراءة،فلقد أعجب من قال بجواز الكل و لو على نحو التركيب بمعنى أخذ كيفية من قارئ

ص: 79

و كيفية أخرى من آخر ما لم تترتّب إحدى القراءتين على الأخرى نظير:فتلقّى آدم من ربه كلمات،الذي قد عرف اختلاف ابن كثير مع الجماعة في رفع آدم و نصبه،و بالعكس في-كلمات حيث منعوا عن أخذ رفع آدم من بعض،و رفع كلمات من آخر،حذرا من الغلط و هذا نظير التبعيض في التقليد الذي اشترط القائل بجوازه عدم استلزامه حصول العلم التفصيلي ببطلان العمل،مثاله أن مجتهدا يفتي بعدم وجوب السورة و أن التسبيحات الأربع ثلاث مرات، و مجتهدا آخر يفتي بوجوب السورة و لكنه يقول بكفاية التسبيحات الأربع مرة واحدة،و حينئذ فليس للعامي أن يركب الفتواءين في صلاته و يأخذ بالترخيص في ترك السورة من أحدهما و كفاية المرة من الآخر و ذلك لحصول العلم التفصيلي له ببطلان صلاته لأن كلا من المجتهدين يحكم ببطلان تلك الصلاة الفاقدة للسورة و المأتي فيها بالتسبيحات مرة.

و مما ذكرنا تبين الجواب عن السؤال الرابع،و هو أنه على فرض عدم التواتر فهل القراءات المختلفة حجة حتى تعامل مع المتعارضين منها معاملة حجتين متعارضتين أم لا؟ و الجواب منفي،لأنه بعد إنكارنا لتواتر القراءات و إنكارنا على فرض التواتر كونها جميعا من عند اللّه تعالى،كيف نتعامل مع القراءتين المختلفتين معاملة الحجتين المتعارضتين،بل اللازم معاملة الحجة مع اللاحجة معهما، بمعنى لزوم الرجوع الى المرجحات الموضوعية و ما يعين قرآنية إحدى القراءتين،ففي مثل يطهرن بالتشديد و التخفيف،يجب إحراز ما هو النازل من اللّه و هو احداهما لا محالة لا هما معا و مع العجز عن ذلك فلا بد من الرجوع الى الأصل،و هو في المورد استصحاب بقاء الحكم بالاعتزال على ما هو الحق في مثل المقام من كونه موردا للرجوع الى استصحاب حكم الخاص لا الرجوع الى عموم العام،و هو جواز الوطء،و لا بأس بالإشارة الإجمالية الى المسألة حذرا من إبهام الأمر على بعض الطلبة،فنقول:

ص: 80

إذا ورد عام ثم خصص بخاص و دار أمره بين الطول و القصر فيقال بأنه هل المقام مقام الرجوع إلى حكم الخاص بتقريب أن الخاص قد خرج من حكم العام،و حيث أن الشك إنما هو في بقائه و ارتفاعه فنحكم ببقائه بحكم الشارع بعدم جواز نقض الشك إلا باليقين،أو مقام الرجوع إلى العام حيث أن التخصيص بقدر ما ثبت ففيما عدا مورد العلم به نأخذ بأصالة العموم،و قد فصل بعضهم بين ما إذا كان العموم استمراريا أو إفراديا،و نحن نقول بأن في المقام بخصوصه وجب استصحاب حكم الخاص لأن المستصحب هو الحالة المانعة عن الوطء،أعني الحدث الحيضي إلا أن يستشكل بأن الشبهة مفهومية،بمعنى الشك في أن الحالة المانعة هل هي السيلان أو الحدث الحيضي؟،مستشهدا بنفس الشك في قراءة حتى يطهرن-بالتشديد-الحاكم بالثاني و حتى يطهرن-بالتخفيف-الحاكم بالأول فالمرجع عموم العام.

و لكننا بحمد اللّه في غنية عن ذلك بعد ورود النص الصحيح الصريح بجواز الوطء بعد النقاء المعين للقراءة الثانية،و رجوعا إلى ما ابتدأنا به الكلام،نقول:التحقيق أن كل ما يتعلق بكيفية الأداء الصوتية من الروم و الاشمام و الغنة و الامالة و الترقيق و التفخيم يجوز في أداء القراءة أخذا من أي عالم بقواعد التجويد ما لم يكن غناء محرما،إذ حينذاك يكون حراما من جهة الغناء لا الاختلاف في القراءة،فالعوارض الصوتية الطارئة على القراءة حيث لا تغير المادة و لا الصورة و لا الهيئة-و أعني بها إعراب الجمل و الكلمات-فلا بأس بها،اللهم إلا إذا أثرت في تغيير الكلمة من حيث المادة،كما أشرنا اليه سابقا من أن الاشباع المفرط ربما يوجب تبديل الحركة الى الحرف إذا أشبعت كسرة-ك-في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (1)إلى حد توليد الياء،و أما ما يتعلق بالحركات و الحروف من الاختلافات،فالتحقيق بأقسامه لزوم الرجوع الى4.

ص: 81


1- سورة الفاتحة،الآية:4.

المتيقن قرآنيته لما عرفت من عدم نص أو قاعدة تقتضي جواز الأخذ بكل قراءة مشهورة كانت أم شاذة،لأن القرآن و هو كلام اللّه المخلوق للتحدي بما هو فعل اختياري للّه تعالى واحد قطعا،و لا معنى لتغايره النفس الأمري من حيث الإعراب و الحروف جزما،فإن الواحد الشخصي لا يتثنى مادة و لا يختلف صورة لخروجه بذلك عن الوحدة و هو خلف فرض وحدته،فلنعما عبر المعصوم(ع)بأنه واحد من عند الواحد،ثم إن هذا بحسب الوظيفة الأدبية عقلا و عرفا،و أما من حيث الوظيفة الشرعية فالاختلاف المؤدي إلى الاختلاف في الحكم سبب لوجوب الفحص عن الصحيح من القراءتين كشفا عما هو الحكم الشرعي في المورد.

و مع اليأس من الظفر به وجب الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي الجاري في المسألة،و ليس في المسألة بطولها بعد اتفاق علماء الاسلام على القراءة بقراءة عاصم برواية حفص و وجود أخبار أهل البيت(ع)في الأحكام الشرعية أعضال و أشكال بلطف اللّه و حسن منه.

ص: 82

الأمر الخامس: هل اعتصم القرآن من التغيير؟

اشارة

اختلفت الأقوال في تغيير القرآن بالزيادة و النقصان،و عنوان البحث تحريف القرآن،و لنا أن نحقق في المقام بالجواب عن أسئلة سبعة.

السؤال الأول:قد وردت لفظة-التحريف-في القرآن،فقال تعالى:

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1) ،و قال سبحانه: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (2).

و لسائل أن يسأل عن معنى التحريف،فنقول:إن التحريف في اللغة تغيير القول،يقال حرّف القول أي غيره عن مواضعه،و حرّف الشيء عن وجهه أي صرفه و أماله،و في العرف يطلق على أمور ثلاثة:

الأول:قلب مضمون الجملة و تطبيقه على مصداق جعلي على خلاف ما

ص: 83


1- سورة النساء،الآية:46.
2- سورة البقرة،الآية:75.

أراده المتكلم،فهو نوع من الكذب و الافتراء مستمسكا بكلام المكذوب عليه، و هذا كان شأن اليهود إذ كانوا يحرّفون تارة ما أنزل على موسى(ع)و أخرى كانوا يحرفون البشائر الواردة في حق نبينا محمد(ص)و ثالثة كانوا يحرفون كلام نبينا(ص)،و قد ورد في الأخبار أن الآيتين قد نزلتا في شأن اليهود المحرفين لما ذكر،فراجع و لاحظ.

الثاني:تطبيق مجمل أو مشترك لفظي أو معنوي على مصداق جعلي بعنوان أنه المراد الجدي للمتكلم،و هذا القسم من التحريف داخل في التأويل.

الثالث:تغيير الكلام لفظا بالزيادة و النقيصة و تغيير المواضع ترتيبا، و البحث في المقام هو عن وقوع مثل هذا التحريف أي التغيير اللفظي في القرآن و عدمه.

السؤال الثاني:هل هذا البحث مثمر أم لا؟ و لا بد من الإشارة قبل الجواب عن هذا السؤال إلى أن التحريف المبحوث عنه في القرآن غير التحريف الموجود في العهدين،إذ التحريف الأخير عبارة عن اختراع القصص و الآيات و الأحكام و اختلاق التهم و الأكاذيب،كاتهام الأنبياء بشرب الخمر و صنعه و سقيه للمريدين و غسل أرجلهم و الزنى بالبنت و إيجاد النسل من أولاد البنت المتحققين من الزنى،و كذا نسبة التجسيم الى اللّه و نسبة عدم علم اللّه بمكان آدم في الجنة حين فرار آدم منه، و القول بأن اللّه صارع يعقوب فألقاه مرات على الأرض و ألقاه يعقوب مرة على الأرض و جلس على صدره و طلب منه البركة فأعطاه البركة في النسل و جعل الأنبياء من صلبه و أنه تعالى-كما في الآية السادسة من الفصل السادس من سفر التكوين في التوراة-لما خلق الدنيا ندم على ذلك و تغيرت إرادته الى غير ذلك مما هو كثير،فراجع العهدين إن شئت الزيادة.

ص: 84

و أما التحريف الذي يقول به شرذمة في القرآن،فهو عبارة عن حذف بعض ما يتعلق بمناقب أئمتنا الاثني عشر(ع)أو ما يتعلق بالمنافقين و أسمائهم، أو ما يكون تفسيرا لبعض الآيات،فتوهم أنه من القرآن كجملة-حق آل محمد-بعد قوله تعالى: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا (1)،و من البديهي أن مثل هذا التحريف لا يضر بما هو موجود بين الدفتين و لا يوجب إفحام المخالفين لنا و إلزامهم علينا.

و إذن فالجواب عن هذا السؤال أنه ليست له ثمرة عملية إلا دراسة الأخبار المذكورة في هذا المقام سندا و مفادا.

قال الشيخ الطوسي(ره)في-التبيان-:و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به أيضا،لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها و النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا و هو الذي نصره المرتضى(ره)و هو الظاهر من الروايات غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة و العامة بنقصان كثير من آي القرآن و نقل شيء منه من موضع الى موضع،طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا،و الأولى الإعراض عنها و ترك التشاغل بها لأنه يمكن تأويلها،و لو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين،فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأمة و لا يدفعه،انتهى المقصود من كلامه.

و يظهر من هذه العبارة أمور:

الأول:الاختلاف في التحريف كان من القديم.

الثاني:لم يكن أحد قائلا بالزيادة.

الثالث:كان بعض الخاصة قائلا بالنقيصة.7.

ص: 85


1- سورة الشعراء،الآية:227.

الرابع:ورود الأخبار الظاهرة في التحريف.

الخامس:إن ما بين الدفتين-اللوحين على حد بعض التعابير-قرآن كلّه،و هو الذي لا ينبغي الارتياب فيه بتاتا،إذ القول بالنقيصة لا يدعم ببرهان،و على فرض تسليم النقيصة فليست مانعة عن صحة الاحتجاج بالموجود الفعلي و كونه معجزا و مستندا للأحكام الشرعية،بل لا قائل بوقوع النقص في آيات الأحكام لأن القائل به من الشيعة يقول بالنسبة الى فضائل أهل البيت(ع)و مثالب أعدائهم دون غيرهما،أضف إلى ذلك بأننا نقول أن سدنة الوحي الإلهي و خزنة علوم اللّه قد بينوا الأحكام و وصلت إلينا بحمد اللّه و منه بواسطة أصحابهم الأمناء(رض)،فهذا البحث لا ثمرة فيه أبدا،نعم لا بد من النظر في الأخبار الظاهرة في التحريف سندا و دلالة حفظا للأذهان من شوب الانحراف.

السؤال الثالث:هل يترتب على القول بالتحريف مفسدة أم لا؟ و الجواب عنه:لا،لأن الزيادة و هي الموجبة لسد باب التحدي غير معقولة و لا مأثورة،و القائل بها لا يعتني بقوله لضعفه و وهنه،و النقيصة على فرض التسليم بها لا تضر بالموجود،و هو الحجة الإلهية الفعلية مضافا إلى فساد القول بها،نعم نفس هذا النزاع ربما يجرئ الخصم بأن يقول:إذا كان العهدان محرفين فالقرآن كذلك و لكنه باطل،إذ أنّ العاقل النبيه يرى الفوارق الشاسعة بين كلام معجز أسلوبه-و إن قيل بأنه كان أزيد مما يكون-و بين كتابين اجتمعت فيهما أوهام بالية و قصص خيالية و افتراءات فاضحة على انبياء اللّه و رسله من شرب الخمر و الزنى بالبنات و ما شاكل ذلك،فما أشبه مطالبها المدسوسة و أكاذيبها المجعولة بحكايات تنسج لترويح الخاطر و اتحاف السامر و ايناس الساهر،فالإنصاف أن الخصم لا يمكنه التمسك بذيل هذا النزاع تغطية لتحريفات عهديه المحرفين.

ص: 86

السؤال الرابع:انه هل الاعتقاد بالتحريف مخل بالمذهب أم لا؟.

و الجواب أنه لا يضر القول بالتحريف بمذهب القائل به لأن الإسلام يطلق تارة على الإسلام الصوري النظامي و هو يتحقق بأداء كلمتي الشهادتين بشرط أن لا ينقضهما في مرحلة الظاهر بإظهار ما يخالفهما،و أخرى على أدائهما مع الاعتقاد القلبي بمضمونهما و ما جاء به النبي(ص)مع العمل بالوظائف الدينية، و القول بالتحريف لا يخل بالأول قطعا لا دلالة له بالمطابقة أو بالالتزام على إبطال الشهادتين،و لا يخل بالثاني أيضا لأنه لا دليل على لزوم الاعتقاد بعدم وقوع التحريف في القرآن،فالقول بالتحريف أو القول بعدمه لا ربط لهما بالاسلام بالمعنى الثاني،و لذا نقول بأن جملة من الاختلافات العقائدية لا توجب الكفر أصلا كنفي بعض المناقب-علم الغيب مثلا-عن الأئمة(ع)أو الاعتقاد بعدم مقام الشفاعة لهم يوم القيامة أو عدم رجوعهم الى الدنيا حين ظهور قائمهم(ع)كما أن إثبات بعض المناقب لهم لا يوجب الكفر،فلا يجوز رمي القائل به بالغلو و طرح خبره لذلك.

فيجب علينا أن لا نبادر بالتجاسر على القائل بالتحريف،بل القائل به إنما ترجح بنظره التحريف لأجل الروايات الآتية الناظرة بنظره إليه من دون نظر ثاقب الى أسانيدها و مداليلها تورّعا في الدين و حذرا من التشكيك في الأخبار الواردة عن أهل البيت(ع)و إن ضعفت أسانيدها و حفظا لظواهرها و إن خالفت العقل،فتجد في كلام القائلين بالتحريف أنه لو لم نأخذ بتلك الأخبار فبأي شيء نثبت الامامة و الأحكام الشرعية الخ.نعم علينا-نحن-إيضاح الحق بما يقتضيه المنطق الصحيح و البرهان الصريح.

فقد نشأ القول بالتحريف استنادا الى الأخبار و استظهارا منها فالقول بأن هذا الرأي خرافة إفراط في التعبير،إذ أنّ الخرافة عبارة عن الخيالات الفاسدة التي لا أساس لها أبدا،و القول بالتحريف و إن كان اشتباها إلا أن له منشأ و هو

ص: 87

الاخبار،فاللازم،تحليلها سندا و دلالة لا رمي القائل به بالخرافة.

السؤال الخامس:من هم القائلون بالتحريف و ما هي أدلتهم؟.

و الجواب أن جماعة من المحدثين و حفظة الأخبار استظهروا التحريف بالنقيصة من الأخبار،و لذلك ذهبوا الى التحريف بالنقصان.

و أولهم فيما أعلم علي بن إبراهيم في تفسيره،فقد ورد فيه قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الهاشمي القمي:«فالقرآن منه ناسخ و منسوخ...

و منه منقطع و منه معطوف و منه حرف مكان حرف و منه محرف و منه على خلاف ما أنزل اللّه عز و جل،-الى أن قال-:و أما ما هو محرف منه فهو قوله: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ في علي،كذا أنزلت. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ (1)،و قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في علي وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (2).و قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمد حقهم لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (3)وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمد حقهم أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (4)،و قوله: وَ لَوْ تَرى الذين ظلموا آل محمد حقهم فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ (5)،و مثله كثير نذكره في مواضعه (6)،انتهى المقصود من كلامه،و يظهر ذلك من الكليني حيث روى الأحاديث الظاهرة في ذلك و لم يعلق شيئا عليها،و ذهب السيد الجزائري الى التحريف في شرحيه على التهذيبين و أطال البحث في ذلك في رسالة سماها -منبع الحياة-.1.

ص: 88


1- سورة النساء،الآية:166.
2- سورة المائدة،الآية:70.
3- سورة النساء،الآية:167.
4- سورة الشعراء،الآية:227.
5- سورة الأنعام،الآية:93 و هي وَ لَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ .
6- تفسير القمي:ج 1 ص 9-10-11.

و قال الشيخ محمد حسين الأصفهاني النجفي والد شيخنا في الرواية أبي المجد الشيخ آغا رضا النجفي(قد هما)في تفسيره:و الأحاديث الظاهرة في تغيير القرآن و تبديله و التقديم و التأخير و الزيادة و النقيصة و غير ذلك كثيرة،حتى نقل بعض العارفين المحدثين عن السيد نعمة اللّه الجزائري أنه ذكر في -الرسالة الصلاتية-أن الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث،و ذكر أنه لم يقف على حديث واحد يشعر بخلاف ذلك،و قال:القرآن الموجود الآن ستة آلاف آية و ستمائة و ست و ستون آية تقريبا،و المروي في صحيحة هشام الجواليقي:«أن القرآن الذي نزل على محمد(ص)سبعة عشر ألف آية و في رواية ثمانية عشر ألف آية» (1).

و نقل عن سعد بن إبراهيم الأردبيلي من علماء العامة في كتاب -الأربعين-أنّه روى بإسناده الى المقداد بن الأسود الكندي قال؛كنت مع رسول اللّه متعلقا بأستار الكعبة و يقول:«اللهم أعني و أشدد أزري و اشرح صدري و ارفع ذكري»فنزل جبرائيل(ع)و قال له:اقرأ أ لم نشرح لك صدرك و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك و رفعنا لك ذكرك بعلي صهرك،فقرأ النبي(ص)علي بن مسعود فألحقها في تأليفه و أسقطها عثمان،انتهى المقصود من كلامه،و لعل المراد من ألفي حديث،الطرق المتعددة من الشيعة و أهل السنة الى النبي(ص)و الأئمة(ع).

و رأينا من بعض السادة الأجلة من الجامعين للأخبار رسالة فيها مباحث روائية و بالغ في ذكر الأخبار التي يظهر منها وقوع التحريف و لا سيما بالنقيصة، و قال السيد صدر الدين في شرحه على قول المولى في الوافية:و قد وقعة.

ص: 89


1- كما في الكافي:ج 2 ص 634 باب النوادر في فضل القرآن ح 28 و انظر هامش الصفحة المذكورة.

الخلاف في تغييره (1).

و أقول إن السيد نعمة اللّه(قده)قد استوفى الكلام في هذا المطلب في مؤلفاته كشرح التهذيب و الاستبصار و رسالته منبع الحياة،و أنا أنقل ما في الرسالة لأن فيه كفاية،قال(ره):«إن الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلت على وقوع الزيادة و النقصان و التحريف في القرآن،منها ما روي عن أمير المؤمنين(ع)لما سئل عن التناسب بين الجملتين في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (2)،فقال:«لقد سقط من بينهما أكثر من ثلث القرآن» (3).

و منها ما روي عن الصادق(ع)في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (3)، قال:«كيف تكون هذه الأمة خير أمة و قد قتلوا ابن رسول اللّه(ص)ليس هكذا أنزلت و إنما نزلت خير أئمة» (4)،أي الأئمة من أهل البيت.

و منها الأخبار المستفيضة في أن آية الغدير هكذا نزلت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في علي (5)وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (6)،إلى غير ذلك مما لو جمع لصار كتابا كبير الحجم،و أما الأزمان التي ورد على القرآن فيها التحريف و الزيادة و النقصان فهما عصران:العصر الأول عصره(ص)و أعصار الصحابة و ذلك من وجوه.7.

ص: 90


1- ألف الوافية المولى عبد اللّه بن محمد البشروي التوني الخراساني المتوفي 1071 و شرحها السيد صدر الدين محمد بن مير محمد باقر الرضوي القمي الهمداني الغروي بعد 1150.
2- كما في الاحتجاج:ج 1 ص 377.
3- سورة النساء،الآية:3.
4- كما في تفسير القمي:ج 1 ص 10.
5- تفسير القمي:ج 1 ص 10.
6- سورة المائدة،الآية:67.

أحدها:أن القرآن كان ينزل منجما على حسب المصالح و الوقائع، و كتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا من الصحابة و كان رئيسهم أمير المؤمنين(ع)و كانوا في الأغلب لا يكتبون إلا ما يتعلق بالحكام و ما يوحى إليه في المحافل و المجامع.

و أما الذي كان يكتب ما ينزل عليه في خلواته و منازله فليس هو إلا أمير المؤمنين(ع)لأنه كان يدور معه كيفما دار فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف،و لما مضى رسول اللّه(ص)الى لقاء حبيبه و تفرقت الأهواء بعده، جمع أمير المؤمنين(ع)القرآن كما أنزل و شده بردائه و أتى به الى المسجد و فيه الاعرابيان و أعيان الصحابة فقال لهم:هذا كتاب ربكم كما أنزل،فقال له الاعرابي الجلف:ليس لنا حاجة في هذا،عندنا مصحف عثمان، فقال(ع):«لن يراه أحد حتى يظهر ولدي القائم(ع)فيحمل الناس على تلاوته و العمل بأحكامه و يرفع اللّه سبحانه هذا المصحف الى السماء» (1)،و لما تخلّف ذلك الاعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف ليحرقه كما أحرق مصحف ابن مسعود،فطلبه من أمير المؤمنين فأبى.

و هذا القرآن كان عند الأئمة يتلونه في خلواتهم و ربما اطلعوا عليه بعض خواصهم كما رواه ثقة الاسلام الكليني عطر اللّه مرقده بإسناده الى سالم بن سلمة قال قرأ رجل على أبي عبد اللّه(ع)و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس،فقال أبو عبد اللّه(ع):«مه،كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم(ع)فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عز و جل على حدّه و أخرج المصحف الذي كتبه علي(ع). (2)3.

ص: 91


1- ذكر مثله بحار الأنوار:ج 89 ص 42-43.
2- الكافي:ج 2 ص 633 باب النوادر في فضل القرآن ح 23.

و هذا الحديث و ما بمعناه قد أظهر العذر في تلاوتنا في هذا المصحف و العمل بأحكامه.

و ثانيها:إن المصاحف لما كانت متعددة لتعدد كتّاب الوحي عمد الاعرابيان الى انتخاب ما كتبه عثمان و جملة ما كتبه غيره و جمعوا الباقي في قدر ماء حار و طبخوه و لو كانت تلك المصاحف كلها على نمط واحد لما صنعوا هذا الشنيع الذي صار عليهما من أعظم المطاعن.

و ثالثها:إن المصاحف كانت مشتملة على مدائح أهل البيت صريحا و لعن المنافقين و بني أمية نصا و تلويحا،فعمدوا أيضا الى تزييفه و رفعوه من المصاحف حذرا من الفضائح و حسدا لعترته.

و رابعها:ما ذكره الثقة الجليل علي بن طاوس في كتاب -سعد السعود-عن محمد بن بحر الرهني من أعاظم علماء العامة في بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان الى أهل الأمصار،قال:اتخذ عثمان سبع نسخ فحبس منها بالمدينة مصحفا و أرسل الى أهل مكة مصحفا و الى أهل الشام مصحفا و الى أهل البحرين مصحفا ثم عد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات و الحروف مع أنها كلها بخط عثمان و إذا كان هذا حال اختلاف مصاحفه التي هي بخطه فكيف حال غيرها من مصاحف كتاب الوحي و التابعين.

و أما العصر الثاني فهو أزمان القرّاء،و ذلك أن المصحف الذي وقع اليهم خال من الاعراب و النقط كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخط مولانا أمير المؤمنين و أولاده المعصومين(ع)و قد شاهدنا عدة منها في خزانة الرضا(ع).

نعم ذكر جلال الدين السيوطي في كتابه الموسوم بالمطالع السعيدة- إن أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية،و بالجملة لما

ص: 92

وقعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرفوا في إعرابها و نقطها و إدغامها و إمالتها و نحو ذلك من القرائن المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في اللغة العربية كما تصرفوا في النحو و صاروا الى ما دوّنوه من القواعد المختلفة بينهم، قال محمد بن بحر الرهني إن كل واحد من القراء قبل أن يتحدّد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلا قراءته.

ثم لما جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع الى جواز قراءة الثاني و كذا في القراء السبعة،فاشتمل كل واحد على إنكار قراءته ثم عادوا الى خلاف ما أنكروه ثم اقتصروا على هؤلاء السبعة مع أنه قد حصل في علماء المسلمين و العاملين بالقرآن أرجح منهم،مع أن زمان الصحابة ما كان هؤلاء السبعة و لا عددا معلوما من الصحابة للناس يأخذون القراءة عنهم،ثم ذكر قول الصحابة لنبيّهم على الحوض إذا سألهم كيف خلفتموني في الثقلين من بعدي.

فيقولون أما الأكبر فحرفناه و بدلناه و أما الأصغر فقتلناه ثم يذادون عن الحوض الى أن قال:قال السيد بعد ما مرّ:و من هذا التحقيق يظهر الكلام و القدح في تواتر القراءات السبع من وجوه.

أولها:المنع من تواترها من القرآن لأنهم نصوا على أنه كان لكل قارئ راويان يرويان قراءته،نعم اتفق التواتر في الطبقات اللاحقة.

و ثانيها:سلمنا تواترها من القراء لكن لا يقوم حجة شرعية لأنهم من آحاد المخالفين استبدوا بآرائهم كما تقدم،و إن حكموا في بعض قراءتهم الاستناد الى النبي(ص)لكن الاعتماد على روايتهم غير جائزة كرواية الحديث بل الأمر هنا أجل و أعلى.

و ثالثها:إن كتب القراءة و التفسير مشحونة بقولهم قرأ حفص أو عاصم كذا،و في قراءة علي بن أبي طالب(ع)و أهل البيت(ع)كذا،بل ربما قالوا و في قراءة رسول اللّه(ص)كذا،كما يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة

ص: 93

المغضوب عليهم و لا الضالين،و الحاصل أنهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين(ع)فكيف تكون القراءات السبع متواترة عن الشارع تواترا يكون حجة على الناس،و قد تلخص من تضاعيف هذا الكلام أمران.

أحدهما:وقوع التحريف و الزيادة و النقصان في المصحف.

و ثانيهما:عدم تواتر القراءات السبع عمن يكون قوله حجة.

أما الأول:فقد خالف فيه الصدوق و السيد المرتضى و أمين الاسلام الطبرسي،حيث ذهبوا الى أن القرآن الذي نزل به جبرائيل(ع)هو ما بين دفتي المصحف من غير زيادة و لا نقصان.

أما السيد(ره)فلم يعتمد على أخبار الآحاد مع تعويلهم على ما روي من أن القرآن واحد نزل من عند واحد على نبي واحد و إنما الاختلاف من جهة الرواة،و عند التأمل يظهر أن هذا الخبر دليل لنا عليه لا علينا و يدل على ما قلنا من الأمرين،فإن قوله القرآن واحد ينفي تكثر القراءة.

و أما إثبات الاختلاف من جهة الرواة أي حفاظ القرآن و حامليه،فيشمل الاختلاف في التحريف و في تكثر القراءة،و على أنه يجوز أن يكون الوجه فيما صاروا اليه التحرز من طعن أهل الكتاب و جمهور الجمهور و عوام المذهب لأنه ربما يتوهم منه الكلام على إعجاز القرآن و على استنباط الأحكام منه بسبب ما وقع فيه من الزيادة و النقصان،و جوابه أن ما وقع فيه لم يخرج أسلوبه عن الفصاحة و البلاغة و أن خزان علمه(ع)بيّنوا ما فيه من التحريف على وجه لا يقدح في أخذ الأحكام منه إذ هم المخاطبون به على ما تقدم الكلام فيه.

و أما الثاني:فقد خالف فيه الجمهور و معظم المجتهدين من أصحابنا، فإنهم حكموا بتواتر القراءات السبع،و تجوز القراءة بكل واحدة منها في الصلاة،فقالوا ان الكل مما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين(ص)و ربما استدلوا عليه بما روي من قوله نزل القرآن على سبعة

ص: 94

أحرف و فسروها بالقراءات مع أنه ورد في الأخبار عن أبي الحسن الرضا(ع)رد هذا الخبر و أن القرآن نزل على حرف واحد،على أن جماعة من العلماء فسروا الأحرف السبعة باللغات السبع كلغة يمن و هوازن و أهل مصر و نحوها،لأن في ألفاظه ما يوافق ما اشتهر من هذه اللغات في اصطلاح أربابها.

و أما الاعتراض بأن ما ذكرتم من وقوع التحريف فيه لو كان حقا لا زاله أمير المؤمنين(ع)في خلافته،فهو اعتراض في غاية الركاكة لأنه(ع)ما تمكن من رفع بدعهم الحقيرة،كصلاة الضحى و تحريم المتعتين و عزل شريح عن القضاء و معاوية عن إمارة الشام،فكيف بهذا الأمر العظيم لتغليط الاعرابيين بل تكفيرهم لأن حبهما قد اشرب في قلوب الناس حتى أنهم رضوا أن يبايعوه على سنّة الشيخين فلم يرض(ع)فعدل عنه عثمان،و أما الموافقون لنا على صحة هاتين الدعوتين،فعلى الأولى معظم الإخباريين خصوصا مشايخنا المعاصرين،و أما الثانية فقد وافقنا عليها سيدنا الأجل علي بن طاوس(ره)في مواضع من كتاب-سعد السعود-و غيره و صاحب الكشاف عند تفسير قوله تعالى: وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (1)، و نجم الائمة الرضى في موضعين من شرح الرسالة،أحدهما عند قول ابن الحاجب و إذا عطف على الضمير المجرور أعيد الخافض،انتهى.

و قال العلامة التقي المجلسي الأول في شرحه-الفارسي-على-من لا يحضره الفقيه-في باب ما يسجد عليه و ما لا يسجد عليه،ما تعريبه:أو كان في قرآن القوم لأنهم لم يذكروا أكثر الآيات و العامة أيضا معترفون في أكثر كتبهم،إلا أنهم يقولون بأنها منسوخة،و روى الكليني بسند صحيح عن الصادق(ع):«بأن قرآنا نزله جبرائيل على سيد المرسلين كان سبعة عشر ألف7.

ص: 95


1- سورة الأنعام،الآية:137.

آية (1)،و تواترت الأحاديث على أن عليا(ع)جمع القرآن بعد النبي(ص) و عرضه على الصحابة و قال:هذا قرآن أنزله اللّه على الترتيب الذي نزله،فقال المنافقون:لا حاجة لنا الى قرآنك نحن نجمع القرآن،فاجتمع منهم جمع جمعوا قراءين سبعة بسبع لغات من قريش،و أودعها عمر في زمن خلافته الى حفصة،و لم يلتفت الناس الى القرآن لابتلائهم بالحرب الى زمن عثمان حيث أرسل الى حفصة و أخذه منها و اختار من السبعة لغة و كتب ستة أو سبعة قراءين و أرسلها إلى أطراف العالم و أمر بإحراق كل قرآن ليس بقرآنه،و روي بأنه أحرق أربعين ألفا من القرآن،منها قرآن عبد اللّه بن مسعود حيث طلب منه فامتنع من اعطائه و قال بأني قرأته على النبي(ص)مكررا،فضربوه الى أن عارضه الفتق،فأخذوا منه القرآن و أحرقوه،و لذا لما أحصى الصحابة مطاعنه و كتبوها،كان من جملتها إحراقه للمصاحف،و منها مصحف ابن مسعود الذي نقلوا أحاديث كثيرة في فضله في الصحاح الستة فافتوا-بعد الاستفتاء عن حكم من أتى بهذه الجرائم-بقتله فقتلوه،و من جملتهم كانت عائشة و تقول:اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا،و بعد قتله ادعت أن قتله كان بأمر من أمير المؤمنين(ع)، و صار ذلك سببا لقتل ستة عشر ألفا من الصحابة انتهى.

و قال المحدث الجليل المولى أبو الحسن الشريف الفتوني العاملي الأصفهاني في مقدمة تفسير-مرآة الأنوار-في المقدمة الثانية:اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة الآتية و غيرها أن هذا القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول اللّه(ص)شيء من التغييرات و أسقط الذين جمعوه بعده كثيرا من الكلمات و الآيات و أن القرآن المحفوظ عما ذكر الموافق لما أنزله اللّه تعالى ما جمعه علي(ع)و حفظه الى أن وصل الى ابنه الحسن(ع) و هكذا الى أن انتهى الى القائم(ع)و هو اليوم عنده صلوات اللّه عليه،و لهذا8.

ص: 96


1- كما في الكافي:ج 2 ص 634 باب النوادر في فضل القرآن ح 28.

ورد صريحا في حديث سنذكره لما أن كان اللّه عز و جل قد سبق في علمه الكامل صدور تلك الأفعال الشنيعة من المفسدين في الدين،و أنهم بحيث كلما اطلعوا على تصريح بما يضرهم و يزيد في شأن علي(ع)و ذريته الطاهرين، حاولوا إسقاط ذلك رأسا أو تغييره محرفين.

و كان في مشيئته الكاملة و من ألطافه الشاملة محافظة أوامر الإمامة و الولاية و محارسة مظاهر فضائل النبي(ص)و الأئمة(ع)بحيث تسلم عن تغيير أهل التضييع و التحريف و يبقى لأهل الحق مفادها مع بقاء التكليف،لم يكتف بما كان مصرحا به منها في كتابه الشريف،بل جعل جل بيانها بحسب البطون و على نهج التأويل و في ضمن بيان ما تدل عليه ظواهر التنزيل،و أشار إلى جمل من برهانها بطريق التجوز و التعريض و التعبير عنها بالرموز و التورية و سائر ما هو من هذا القبيل حتى تتم حججه على الخلائق جميعا و لو بعد إسقاط المسقطين ما يدل عليه صريحا بأحسن و أجمل سبيل،و يستبين صدق هذا المقال بملاحظة جميع ما نذكره في هذه الفصول.ثم ذكر أخبارا من طرق الخاصة و العامة نذكر جملة منها فيما يأتي إن شاء اللّه،فنقول:

لنا أن نقسم الأخبار التي استدلوا بها على التحريف إلى أنواع خمسة:

الأول:ما يدل على أن عليا(ع)جمع القرآن.

الثانية:ما يدل على أن القرآن الموجود هو كله قرآن.

الثالثة:ما يدل على التحريف بالنقيصة أو التغيير.

الرابعة:ما يدل على إحراق عثمان للمصاحف.

الخامسة:ما يدل على أن المراد من التعبير بنزول القرآن هكذا،التأويل الصحيح و التطبيق الواقعي.

ص: 97

الطائفة الأولى):

1-في الباب السابع من كتاب القرآن من البحار للمجلسي الثاني عن كتاب سليم بن قيس راويا عن سلمان:فلما رأى علي(ع)غدرهم-يعني الصحابة-و قلّة وفائهم لزم بيته و أقبل على القرآن يؤلفه و يجمعه فلم يخرج من بيته حتى جمعه و كان في الصحف و الشظاظ و الأسيار (1)و الرقاع فلما جمعه كله و كتبه بيده تنزيله و تأويله و الناسخ منه و المنسوخ بعث إليه أبو بكر أن أخرج فبايع،فبعث إليه أني مشغول فقد آليت على نفسي يمينا أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن و أجمعه فسكتوا عنه أياما،فجمعه في ثوب واحد و ختمه ثم خرج إلى الناس و هم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه(ص)فنادى علي بأعلى صوته:«أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول اللّه مشغولا بغسله،ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب فلم ينزل اللّه على نبيّه آية من القرآن إلا و قد جمعتها و ليست منه آية إلا و قد أقرأنيها رسول اللّه(ص)و علمني تأويلها،ثم قال عليّ(ع):«لا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين».ثم قال لهم علي(ع):«لا تقولوا يوم القيامة أني لم أدعكم إلى نصرتي و لم أذكركم حقي،و لم أدعكم إلى كتاب اللّه من فاتحته إلى خاتمته»،فقال له عمر:ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا اليه ثم دخل علي(ع)بيته (2).

أقول:راجع الاحتجاج (3)لأن فيه بعض التفاوت.

ثم أقول:أما سند كتاب سليم فلا ذكر له في الاحتجاج،نعم قال

ص: 98


1- الأسيار جمع سير:قدة من الجلد مستطيلة.
2- بحار الأنوار:ج 89 ص 40 ح 1(الطبعة الحديثة)و كتاب سليم بن قيس الهلالي ذكره عن سلمان الفارسي(رضي اللّه عنه):ص 81.
3- الاحتجاج:ج 1 ص 107.

الشيخ الإمام العلامة أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي(طاب ثراه)في ديباجة كتاب الاحتجاج:و لا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده أما لوجود الاجماع عليه أو لموافقته لما دلت عليه العقول أو لاشتهاره في السير و الكتب من المخالف و المؤالف الخ...و لكن هذا المقدار لا يكفي لصحة الاستناد إلى جميع ما في الكتاب لعدم إثبات هذه الكليات.

1-الاجماع.

2-موافقة العقول.

3-الاشتهار في الكتب،لكل واحد من الروايات المذكورة فيه سندا موثوقا به.

و أما تقريب الاستدلال بهذه الرواية على التحريف فهو أن الجمع الصحيح للقرآن الشامل لكل آية منه على النحو النازل فمخصوص بعلي(ع)، و ما عدا جمعه فهو مشتمل على التغيير و التحريف.

و فيه أن هذه الرواية تنص على أن جمع علي(ع)للقرآن كان جمعا تأليفيا مشتملا على النازل من اللّه حرفيا و على مفاده و معناه و مقصوده و مؤوله،و هذا و إن دل على أن جمع علي(ع)كان جمعا مفيدا للأمة الإسلامية كافلا للمعارف و الأحكام و سائر الشئون المتعلقة بالتشريع الإسلامي إلا أنه لا يدل على الزيادة أو النقصان فيما هو الموجود من القرآن الذي جمعه عثمان:ثم اعلم أننا عمدنا إلى كل رواية و أجبنا عنها بما يلائمها من الجواب.

2-و عن كتاب سليم قال طلحة لعلي(ع):«يا أبا الحسن،شيء أريد أن أسألك عنه رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت ايها الناس إني لم أزل مشتغلا برسول اللّه(ص)بغسله و تكفينه و دفنه ثم اشتغلت بكتاب اللّه حتى جمعته فهذا كتاب اللّه عندي مجموعا لم يسقط عني حرف واحد،و لم أر ذلك الذي كتب و ألفت قد رأيت عمر بعث إليك أن ابعث به الي فأبيت أن تفعل فدعا عمر الناس

ص: 99

فإذا شهد رجلان على آية كتبها و إذا لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجأها فلم يكتب فقال عمر و أنا أسمع أنه قد قتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرءون قرآنا لا يقرؤه غيرهم فقد ذهب،و قد جاءت شاة إلى صحيفة و كتاب يكتبون فأكلتها و ذهب ما فيها و الكاتب يومئذ عثمان و سمعت عمرا و أصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عمر و على عهد عثمان يقولون أن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة و أن النور نيف (1)و مائة آية و الحجر تسعون و مائة آية فيما هذا و ما يمنعك يرحمك اللّه أن تخرج كتاب اللّه إلى الناس و قد عهد عثمان حتى[حين]أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب و حمل الناس على قراءة واحدة فمزق مصحف أبي بن كعب و ابن مسعود و أحرقهما بالنار،فقال له علي(ع):«يا طلحة إن كل آية أنزلها اللّه جل[عز]و علا على محمد(ص)عندي بإملاء رسول اللّه(ص)و خط يدي و تأويل كل آية أنزلها اللّه على محمد(ص)و كل حلال و حرام و حد أو حكم أو شيء محتاجة إليه الأمة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول اللّه(ص)و خط يدي حتى أرش الخدش»،قال طلحة:كل شيء من صغير أو كبير أو خاص أو عام كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو عندك مكتوب؟قال:«نعم،و سوى ذلك أن رسول اللّه أسرّ الي في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب و لو أن الأمة منذ قبض رسول اللّه(ص)اتبعوني و أطاعوني لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم»و ساق الحديث إلى أن قال:ثم قال طلحة:لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن أ لا تظهره للناس؟قال:«يا طلحة عمدا كففت عن جوابك فأخبرني عما كتب عمر و عثمان أ قرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟»قال طلحة:بل قرآن كله،قال:«إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار و دخلتم الجنة فإن فيه حجتنا[و بيان حقنا الاحتجاج]و فرض طاعتنا»،قال طلحة:حسبي أما اذا كان قرآنا فحسبي،ثم قال طلحة:

فأخبرني عما في يدك من القرآن و تأويله و علم الحلال و الحرام إلى من تدفعهف.

ص: 100


1- و في الاحتجاج ستون بدلا عن نيف.

و من صاحبه بعدك؟قال:«إن الذي أمرني رسول اللّه(ص)أن أدفعه اليه وصيي و أولى الناس بعدي ابني الحسن ثم يدفعه ابني الحسن إلى ابنه الحسين ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم على رسول اللّه حوضه،هم مع القرآن لا يفارقونه و القرآن معهم لا يفارقهم،الخ..» (1).

و تقريب الاستدلال بهذه الرواية على التحريف،فهو أن القرآن الذي جمعه علي(ع)هو القرآن الجامع الكامل الذي لا يشذ عنه شيء من الآيات القرآنية،أ لا ترى ما نقله طلحة عن عمر و أصحابه بأن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة و أن النور نيف مائة آية و الحجر تسعون و مائة آية.

و يرد عليهم اشكالات أربع:

الاشكال الأول:ان كتاب سليم مورد للاختلاف تارة من حيث ثقة و ضعف الراوي و هو سليم،و أخرى من حيث الراوي عنه و هو أبان بن أبي عياش الذي اتهمه البعض بأنه وضع هذا الكتاب و نسبه إلى سليم،مع أنهم قالوا بأن سليما هو الذي ناول أبانا الكتاب،و نرى في الحديث العاشر من الباب الرابع و العشرين من-اكمال الدين-للصدوق(ره)أن أبان بن أبي عياش يروي عن إبراهيم بن عمر الصنعاني و هو عن قيس بن سليم مضافا إلى بعض ما روي عن غير أبان مع عدم ذكر منه في السند،و إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع،و ثانية من ناحية الكمية إذ نرى أن نسخ هذا الكتاب مختلفة من جهة الزيادة و النقيصة اختلافا فاحشا،مثاله نفس هذه الرواية بسبب أنها مروية في -اكمال الدين-،الحديث الخامس،و العشرين من الباب الرابع و العشرين إلى قوله يصدقونه و يشهدون أنه حق بهذا السند حدثنا أبي و محمد بن الحسن(رض)قالا حدثنا سعد بن عبد اللّه قال حدثنا يعقوب بن يزيد عن حماد5.

ص: 101


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي:ص 122-124 و الاحتجاج:ج 1 ص 222-225.

بن حسين عن عمر بن أذينة عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، و يذكر المجلسي السند و فيه بدلا عن حماد بن حسين حماد بن عيسى و ليس في روايته ذكر لطلحة و محاورته عليا بشأن القرآن.

فما أبعد بين ما نقله المجلسي عن نسخة قديمة من أنه روى عن الصادق(ع)أنه قال:«من لم يكن عنده من شيعتنا و محبينا كتاب سليم بن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء و لا يعلم من أسبابنا شيئا و هو أبجد الشيعة و هو سر من أسرار آل محمد(ص)» (1)،و بين ما قاله الشيخ المفيد في شرح اعتقادات ابن بابويه،و أما ما تعلق به أبو جعفر من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عياش،فالمعنى فيه غير صحيح،غير أن هذا الكتاب غير موثوق به و لا يجوز العمل على أكثره و قد حصل فيه تخليط و تدليس فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه و لا يعول على جملته و التقليد لروايته،و قد وافقه العلامة على ذلك و عبّر عن بعض ما في الكتاب المذكور ب-الفاسد-،و كذا الشهيد الثاني.

الاشكال الثاني:ان ما في الرواية من القول بالنقصان منقول عن عمر و أصحابه و ليس قولهم بحجة علينا.

الاشكال الثالث:و هو العمدة في الجواب،أن قرآن علي(ع)لم يكن مقصورا على النازل من السماء و حيا إلهيا للتحدي بل كان فيه بشهادة هذه الرواية و سائر الروايات التأويلات الكثيرة و التفسيرات العديدة و بيان الأحكام بأسرها حتى أرش الخدش و أين ذلك مما تصدى إليه هؤلاء من دلالة هذه الرواية و قريناتها على التحريف بالنقيصة.

الاشكال الرابع:و هو العمدة من حيث الثمرة العملية أن الرواية ناصة).

ص: 102


1- سفينة البحار:ج 1 ص 651 مادة(سلم).

على أن ما هو الموجود قرآن كله و ذلك من وجهين:

الأول:ارتكاز طلحة حيث أنه أجاب عليا(ع)بأن ما فيه قرآن كله.

الثاني:تصريح علي(ع)بذلك و أنه-إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار و دخلتم الجنة-،و لذا نقول بأنه لا فائدة تترتب على هذا البحث،إذ بعد ثبوت أن ما في أيدينا قرآن كله فما بالنا نأسف على النقص الموهوم مع أنه لم يعلم كونه مربوطا بالأحكام،و مع التسليم لم يعلم عدم تبليغ الأئمة(ع)في مدة نشرهم للأحكام ما كان منه متضمنا لحكم من الأحكام.

3-في تفسير القمي بإسناده عن أبي جعفر(ع)قال:«ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد(ص)» (1)،و تقريب الاستدلال و الجواب عنه واضحان إذ لاستدلال مبني على أن المراد أن غير الوصي لم يجمع النازل،و الجواب أن المراد من الجمع هو الجمع بجميع المراتب حروفا و حدودا و لفظا و تفسيرا.

4-في المصدر السابق بإسناده عن أبي عبد اللّه(ع)قال:إن رسول اللّه(ص)قال لعلي(ع):«يا علي القرآن خلف فراشي في المصحف و الحرير و القراطيس فخذوه و اجمعوه و لا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة فانطلق علي(ع)فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته و قال:لا أرتدي حتى أجمعه فإنه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه،قال:

و قال رسول اللّه(ص)لو أن الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان» (2)، و الجواب واضح اذ لم يدل الخبر على أن جمع علي(ع)كان عبارة عن إثبات ما نقصه القوم من القرآن النازل وحيا للتحدي و المراد من قوله كما أنزل ما أراد اللّه1.

ص: 103


1- تفسير القمي:ج 2 ص 451.
2- تفسير القمي:ج 2 ص 451.

من القرآن،فالمراد من الكيفية المعنى المقصود من القرآن.

5-في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر قال:سمعت أبا جعفر(ع)يقول:«ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب و ما جمعه و حفظه كما نزّله اللّه تعالى الا علي بن أبي طالب و الأئمة من بعده(ع)» (1)،و هذه الرواية تدل على ان الجمع بجميع مراتبه لفظا و معنى مخصوص بخزنة علم اللّه(ع)و لا ربط لها بالتحريف زيادة و نقيصة.

6-في تفسير فرات بن إبراهيم بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر(ع)أنه قال في حديث له،قال رسول اللّه(ص):«يا علي لا تخرج ثلاثة أيام حتى تؤلف كتاب اللّه كي لا يزيد فيه الشيطان فلم يزد فيه الشيطان شيئا و لم ينقص منه شيئا» (2)،و هذه الرواية لا تدل على أن ما هو الموجود فعلا بأيدي المسلمين كافة مما زاد فيه الشيطان شيئا أو نقص منه شيئا،و اعلم أنّنا لم نتعرض للأسانيد المذكورة عدا سند كتاب سليم لعدم الحاجة إلى سند الرواية بعد ضعف الدلالة،فتلخص أن ما ورد من جمع علي(ع)للقرآن لا يدل على التحريف لكون جمعه تأليفا للقرآن و تفسيرا له معا،فلا نطيل باستيعاب ما بمضمون المذكورات من سائر الأخبار.

الطائفة الثانية:

1-الرواية الثانية من الطائفة الأولى و فيها سؤال علي(ع)عن طلحة عما هو الموجود بأنه هل هو قرآن كله أم لا؟،و بعد جواب طلحة له بأنه قرآن كله قال علي(ع):«ان أخذتم بما فيه نجوتم» (3).

ص: 104


1- الكافي:ج 1 ص 228 باب انه لم يجمع القرآن...ح 1.
2- تفسير فرات الكوفي:ص 150 آية المودّة(باختلاف يسير).
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي:ص 124 و الاحتجاج:ج 1 ص 225.

2-ما في روضة الكافي،رسالة أبي جعفر(ع)إلى سعد الخير،عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن عمه حمزة بن بزيع و الحسين بن محمد الأشعري عن أحمد بن محمد بن عبد اللّه عن يزيد بن عبد اللّه عمن حدثه قال:«كتب أبو جعفر(ع)إلى سعد الخير -إلى أن قال-:و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرفوا حدوده فهم يروونه و لا يرعونه و الجهال يعجبهم حفظهم للرواية و العلماء يحزنهم تركهم للرعاية إلخ..» (1).و هذه الرواية تدل على أن التحريف في القرآن معنوي لا لفظي.

3-في الكافي باب النوادر من كتاب العلم،علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد اللّه(ع)يقول:«إن رواة الكتاب كثير،و ان رعاته قليل،و كم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب،فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية،و الجهال يحزنهم حفظ الرواية،فراع يرعى حياته،و راع يرعى هلكته،فعند ذلك اختلف الراعيان،و تغاير الفريقان» (2).

و الاشكال في سند الرواية بأن طلحة بن زيد بتري أو عامي مدفوع بأن الشيخ الطوسي قال ان كتابه معتمد مضافا إلى أن رواية جمع من الأجلاء عنه، منهم عبد اللّه بن المغيرة و صفوان بن يحيى و هما من أصحاب الاجماع كاف للوثوق به،بل ناهيك في اعتبار أخبار الرجل رواية هذا الأخير عنه حيث أنه ممن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصح عنهم و أنه لا يروي إلا عن ثقة.

و سنوافيك بما يدل على أن ما هو الموجود قرآن كله من دون زيادة و لا نقيصة ان شاء اللّه تعالى.6.

ص: 105


1- الكافي:ج 8 ص 53،ح 16.
2- الكافي:ج 1 ص 49 باب النوادر من كتاب العلم ح 6.

4-الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن علي بن الحكم عن عبد اللّه بن جندب عن سفيان السماط قال:«سألت أبا عبد اللّه(ع)عن تنزيل القرآن،قال:اقرءوا كما علمتم» (1)،و هذه الرواية تدل بالمطابقة على جواز الاكتفاء بالقراءة الموجودة،و بالتزام على كون ما هو الموجود هو القرآن بما هو كتاب إلهي و قانون سماوي.

الطائفة الثالثة:

1-روى الطبرسي في الاحتجاج-مرسلا بقوله:جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين(ع)في جملة احتجاج أمير المؤمنين(ع)على الزنديق الّذي جاء إليه مستدلا بآي من القرآن متشابهة تحتاج إلى التأويل-إلى أن قال-يقول:

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (2) و ليس شيء يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء و لا كل النساء أيتام فما معنى ذلك، إلى ان قال:«... وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا الآية،فهو ما قدمت ذكره من اسقاط المنافقين من القرآن،و بين القول في اليتامى و بين نكاح النساء من الخطاب و القصص أكثر من ثلث القرآن»إلخ (3)..و هذه الرواية ضعيفة السند فلا اعتداد بها مضافا إلى أن المراد من الاسقاط فيها هو الخلاف في الترتيب بين الآيات الّذي حصل في القرآن بسبب جمع عثمان و عدم اطلاعه على خصوصيات الآيات و ارتباط بعضها ببعض،مضافا إلى أن الظاهر مما ورد في تفسير القمي أن ترتيب النّزول كان على خلاف ترتيب جمع عثمان،قال بعد قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ (4)،

ص: 106


1- الكافي:ج 1 ص 631 باب النوادر في فضل القرآن ح 15.
2- سورة النساء،الآية:127.
3- الاحتجاج:ج 1 ص 377.
4- سورة النساء،الآية:127.

نزلت مع قوله: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (1)فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ (2)فنصف الآية في أول السورة و نصفها على رأس المائة و عشرين آية الخ..

فانظر إلى الروايتين و قايس بينهما كي تعرف أن المراد من الإسقاط خلاف التّرتيب بضميمة المقدمات المطوية لارتباط الجمل و المطالب و يكفي ضعف سندهما لعدم حجيتهما معا.

2-ثواب الأعمال،ثواب من قرأ سورة الأحزاب،بهذا الاسناد عن الحسن عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد(ص)و أزواجه ثم قال:سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال و النساء من قريش و غيرهم،يا بن سنان إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب و كانت أطول من سورة البقرة و لكن نقصوها و حرفوها» (3)،و مراده من الإسناد ما ذكره قبل ذلك و هو حدثني محمد بن موسى بن المتوكل(رض)قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن أحمد عن محمد بن حسان عن إسماعيل بن مهران قال حدثني الحسن بن علي عن عبد اللّه بن سنان.

و هذه الرواية تنص على النّقيصة،و لكنها من حيث السّند في غاية الضّعف و السقوط لأن الحسن بن علي الرّاوي عن ابن سنان هو ابن أبي حمزة البطائني الّذي طعن عليه علي بن الحسن بن فضال على ما في رجال النجاشي،و فيه:«و رأيت شيوخنا رحمهم اللّه يذكرون أنه كان من وجوه9.

ص: 107


1- سورة النساء،الآية:127.
2- سورة النساء،الآية:3.
3- ثواب الأعمال:ص 139.

الواقفة» (1).و ذكر له كتبا منها كتاب فضائل القرآن،ثم إن القرينة الدّاخلية التي تدل على كذب هذه الرّواية أن السورة فضحت نساء قريش،و أنت خبير بأن هذه الجملة القاسية في نساء طائفة فيهم المعصومون بهذه القسوة و الخشونة و الدلالة على مساوئ نسائية لا تصدر عن الإمام،و لا عجب من الفاضل النّوري و من يضاهيه في الأخذ بالضعاف أن يتمسك بأمثال تلك الرّواية و يقول بالتحريف بعد ما نرى في سيرته من عدم الاعتناء بسيرة العقلاء الفطرية من لزوم التثبت فيما يأتي به الفاسق من النبأ،أو المجهول حاله ثقة و ضعفا،نعم الّذي لا يغفر منه رضاه بهذا التعبير،كما قال في فصل الخطاب،و عندي أن الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمام و طرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأسا الخ..

و عليك أن تتأمل بدقة كافية في إسناد الرّوايات و دلالاتها واحدة بعد أخرى حتى تعرف ضعف ما تخيله هذا الفاضل و موافقوه في العقيدة و ركاكة قوله، و لعمري كيف يجترئون على التكلفات الركيكة في تلك الأخبار مثل ما قيل من أن الآيات الزائدة عبارة عن الأحاديث القدسية،إذ الزيادات المزعومة هي ما وصلت إلينا من عدة روايات مروية في كتاب-دبستان المذاهب»و غيره بأسناد ضعيفة جدا من طرق العامة نظير ما عن عائشة من روايتها ما هو منسوخ الحكم و التلاوة من القرآن كما يأتي في بحث النسخ،و لقد عجل بنا الكلام إلى ما لم نرض بالتفوه به بسبب خطورة المقام،عفا اللّه عن زلات الأقدام و الأقلام.

3-أصول الكافي باب النوادر من كتاب فضل القرآن،علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«إن القرآن الّذي جاء به جبرائيل إلى محمد(ص)سبعة عشر ألف آية» (2).و هذه الرّواية ضعيفة سندا و دلالة،8.

ص: 108


1- رجال النجاشي:ص 26.
2- الكافي:ج 2 ص 634 باب النوادر في فضل القرآن ح 28.

أما السند فلكونه منقطعا أوله،لأن علي بن الحكم و هو الأنباري بقرينة روايته عن هشام بن سالم إنما هو من تلامذة محمد بن أبي عمير،و قد لقي كثيرا من أصحاب أبي عبد اللّه(ع)،و هو من رواة الرضا و الجواد(ع)،و قد استشهد الأخير سنة 220.

و أما الكليني فقد توفي سنة 339،فكيف يمكن و الحال هذه أن يروي عن علي بن الحكم بلا واسطة مضافا إلى عدم تعاهد ذلك بل رواياته عنه إنما هي بوسائط،فالرواية ضعيفة سندا و لا اعتبار لها أصلا،و أما الدلالة فلأن القرآن الموجود الفعلي سبعة آلاف آية،و على هذا فكيف يعقل سقوط عشرة آلاف آية من القرآن من دون اعتراض أي أحد من المسلمين،و هل هذه العشرة آلاف كانت بأجمعها في فضائح رجال قريش و نسائهم أو الثلاثة و أتباعهم أو كانت فيها آيات الأحكام أيضا فالفطن النّابه لا بد و أن لا يعتني بمثل هذه الرّواية.

4-علي بن محمد عن بعض أصحابه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:دفع اليّ أبو الحسن(ع)مصحفا و قال:لا تنظر فيه ففتحته و قرأت فيه:

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم و أسماء آبائهم قال:فبعث اليّ:«ابعث إلي بالمصحف» (1).

و تقريب الاستدلال بهذه الرّواية أن ما في المصحف كان من أجزاء القرآن النازل من السّماء،و لما لم يكن فيما بأيدينا من القرآن أسماء هؤلاء فلا بد من القول بحذفها و هذا هو النقصان،و يرد عليه اشكالات ثلاثة:

الأول:ضعف الرّواية،أما باشتراك علي بن محمد بين من وثق و بين من لم يوثق،و إن أمكن الجواب عن هذا بأن مشايخ الكليني كلهم ثقاة و لا يحتاجون إلى النقد و التوثيق،و أما بالجهل عن بعض أصحابه فالسند لا محالة ضعيف.6.

ص: 109


1- الكافي:ج 2 ص 631 باب النوادر في فضل القرآن ح 16.

الثاني:أن في الرّواية ما يمنع من الاعتقاد بصحة صدور متنها:

1-ان المعصوم(ع)كيف يدفع مصحفا إلى شخص و يمنعه عن النّظر فيه،إذ لا داعي عقلائيا بحسب الظّاهر في هذا الدّفع المقرون بالمنع مع أن المدفوع إليه من خواص الرضا(ع)و أمنائه.

2-و كيف يخالف البزنطي هذا النهي و ينظر في المصحف و هو من عرفته من كونه من خواص الرّضا(ع)و أمنائه.

3-إن الرّواية قاصرة عن إثبات أن الأسماء كانت مسطورة في المصحف الكذائي بعنوان الجزئية للقرآن لا بعنوان بيان المصاديق للمنافقين تفسيرا للقرآن.

4-رجال الكشي،خلف بن حامد قال:حدثني أبو محمد الحسن بن طلحة عن ابن فضال عن يونس بن يعقوب عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه(ع) قال:«أنزل اللّه في القرآن سبعة بأسمائهم فمحت قريش ستة و تركوا أبا لهب، و سألت عن قول اللّه عزّ و جلّ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (1)،قال:هم سبعة،المغيرة بن سعيد و بيان و صائد[و بنان و صائد النهدي خ ل]و الحارث الشامي و عبد اللّه بن الحارث و حمزة بن عمارة البربري و أبو الخطاب» (2)،و الدّلالة واضحة إلا أن السند ضعيف لأن خلف بن حامد و الحسن بن طلحة مهملان في كتب الرجال،و رواية هذا سندها لا يمكن الرّكون اليها في الحكم بالتحريف القرآني مضافا إلى ذلك أمران آخران:

الأول:أن إثبات اسم أبي لهب لو كان فيه شيء من الإزراء بالنبي(ص) كما ورد في غيبة النعماني عن ابن نباتة،قال سمعت عليا(ع)يقول:«كأني1.

ص: 110


1- سورة الشعراء،الآيتان:221 و 222.
2- رجال الكشي:ص 290 رقم 511.

بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلّمون الناس القرآن كما أنزل،قلت:

يا أمير المؤمنين أو ليس هو كما أنزل؟فقال:لا:محي منه سبعون من قريش بأسمائهم و أسماء آبائهم،و ما ترك أبو لهب الاّ ازراء على رسول اللّه(ص)لأنه عمّه» (1)،و بالجملة لو كان في اسم أبي لهب ازراء على النّبي(ص)لما أنزله اللّه في كتابه يتلى ليلا و نهارا في جميع الأزمنة و الأمكنة.

الثاني:إن الأسماء الّتي محت قريش كيف نسيها كل من سمعها و لم نر منها أثرا في التاريخ إلا في مثل هذه الرّواية الضّعيف سندها.

5-قرب الاسناد محمّد بن عيسى قال حدثني إبراهيم بن عبد الحميد في سنة 198 في مسجد الحرام قال:دخلت على أبي عبد اللّه(ع)فأخرج اليّ مصحفا قال:فتصفحته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب:هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان فاصليا فيها لا تموتان فيها و لا تحييان،يعني الأولين (2).و لا يظهر من هذه الرواية كون الجملتين آيتين من القرآن،ثم هل هما غير ما في سورة يس من قوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اِصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (3)،أو هما بدلان عنهما.

6-بصائر الدرجات حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:«استقبلت الرّضا(ع)إلى القادسية فسلّمت عليه فقال لي:اكتر لي حجرة لها بابان باب إلى الخان و باب إلى الخارج فانه أستر عليك،قال:و بعث إلى بزنفيلجة (4)فيها دنانير صالحة و مصحف و كان يأتيه رسوله في حوائجه فاشترى له و كنت يوما وحدي ففتحت المصحف لأقرأ فيه فلما نشرته نظرت في-لم يكن-فإذا فيهاب.

ص: 111


1- غيبة النعماني:ص 318.
2- قرب الأسناد:ص 9.
3- سورة يس،الآيتان:63 و 64.
4- الزنفيلجة: وعاء أدوات الراعي،فارسي معرب.

أكثر مما في أيدينا أضعافه فقدمت على قراءتها فلم أعرف منها شيئا،فأخذت الدواة و القرطاس فأردت أن أكتبها لكي أسأل عنها فأتاني مسافر قبل أن أكتب منها بشيء و منديل و خيط و خاتمه،فقال:مولاي يأمرك أن تضع المصحف في المصحف في منديل و تختمه و تبعث إليه بالخاتم،قال:ففعلت ذلك» (1).

و الظاهر أن هذه الرّواية موافقة لما رواه الكليني(ره) (2)،و قد رأيت في الأخيرة أن البزنطي وجد في المصحف اسم سبعين رجلا،و في هذه الواقعة يقول:رأيت في-لم يكن-أكثر مما في أيدينا أضعافه،ثم انه كيف لم يعرف منها شيئا،فهل يمكن للعربي أن لا يفهم الكلام العربي؟فما هو المراد يا ترى من الذي كان في المصحف و لم يفهمه البزنطي،و هو رجل عظيم تعرف إيمانه و علمه و صفاته الّتي قربته إلى الرّضا(ع)و جعلته من خواص شيعته و مواليه، و كيف كان فلا يظهر من هذه الرواية مع قطع النظر عما في الكافي أن الزائد في -لم يكن-هل كان من الوحي أو تفسيره و تأويله.

7-محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن سالم بن سلمة قال:قرأ رجل على أبي عبد اللّه(ع)و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها النّاس.فقال أبو عبد اللّه(ع):«كفّ عن هذه القراءة،اقرأ كما يقرأ النّاس حتى يقوم القائم(عج)فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه عزّ و جلّ على حدّه»و أخرج المصحف الّذي كتبه علي(ع)و قال:

أخرجه علي(ع)إلى النّاس حين فرغ منه و كتبه فقال لهم:هذا كتاب اللّه عزّ و جلّ كما أنزله على محمّد(ص)و قد جمعته[من خ ل]بين اللوحين فقالوا:

هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه،فقال:أما و اللّه ما ترونه6.

ص: 112


1- بصائر الدرجات:ص 266 باب في الأئمة انهم يخبرون...ح 8.
2- الكافي:ج 2 ص 631 باب النوادر في فضل القرآن ح 16.

بعد يومكم هذا أبدا إنما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه (1).و هذه الرواية تدل على أن رجلا كان يأتي بحرف عن كيفية مغايرة لما يأتي النّاس بتلك الحروف و أن المعصوم(ع)منعه عن ذلك ثم قال بأنه إذا قام القائم يقرأ القرآن على حدة و أن أمير المؤمنين(ع)جمع القرآن و لم يقبله الناس،و قال بأنه لا يرى أبدا و هذه مطالب أربع:

و المطلب الأول:منها لا يدل على التحريف لا بالزيادة و لا بالنقيصة لأن استماع حروف على خلاف ما يقرؤها الناس انما يدل منحصرا على الاختلاف في كيفية القراءة،و الدليل على ذلك أن السالم لا يقول بأن الحروف المسموعة ليست في المصحف الموجود بل يقول:ليس على ما يقرؤها الناس و ضمير يقرؤها يرجع إلى الحروف،و هذا كالنص في الاختلاف في الكيفية لا الكمية.

و المطلب الثاني:ان الإمام منعه عن مخالفة الناس في كيفية الاداء.

و المطلب الثالث:انه يبشره بقيام القائم(ع)و ان الكتاب يتلى على حدة حينذاك و من المعلوم أن قراءة القرآن مع فهم مطالبه العالية انما هي حد من حدود القرآن و الدليل على ذلك المطلب الثالث و هو الأخبار عن جمع علي(ع) للقرآن الّذي قد عرفت بأنه كان عبارة عن جمع القرآن بما له من التفسير و التأويل.

و المطلب الرابع:ان هذا القرآن لا يظهر و لا يراه أحد في المجتمع الإسلامي،و لو أغمضنا عن ذلك كله،فالسند ضعيف بسالم بن سلمة لما قاله النجاشي في حقه من ان حديثه ليس بنقي و ان كنا لا نعرف منه إلا خيرا.

8-في الاحتجاج و في رواية أبي ذر الغفاري:«أنه لما توفي رسول اللّه(ص)جمع علي(ع)القرآن و جاء به إلى المهاجرين و الأنصار و عرضه3.

ص: 113


1- الكافي:ج 2 ص 633 باب النوادر في فضل القرآن ح 23.

عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول اللّه(ص)فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم فوثب عمر و قال:يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه علي فانصرف ثم أحضر زيد بن ثابت-و كان قارئا للقرآن فقال:ان عليا جاءنا بالقرآن و فيه فضائح المهاجرين و الأنصار و قد أردنا أن تؤلف لنا القرآن و تسقط عنه ما كان فيه فضيحة و هتك للمهاجرين و الأنصار،فأجابه زيد إلى ذلك ثم قال:فان أنا فرغت من القرآن على ما سألتم و أظهر علي(ع)القرآن الّذي ألفه أ ليس قد بطل كل ما عملتم؟قال عمر:فما الحيلة؟قال زيد:أنتم أعلم بالحيلة،فقال عمر:ما الحيلة دون أن تقتله و نستريح منه،فدبروا في قتله على يد خالد بن الوليد و لم يقدروا على ذلك،فلما استخلف عمر سأل عليا أن يدفع إليهم القرآن ليحرفوه فيما بينهم،فقال:يا أبا الحسن إن كنت جئت به إلى أبي بكر فأت به إلينا حتى نجتمع عليه،فقال:«هيهات ليس إلى ذلك سبيل إنما جئت به إلى ابي بكر لتقوم الحجة عليكم و لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا ما جئتنا به إن القرآن الّذي عندي لا يمسه إلا المطهرون و الأوصياء من ولدي»،فقال عمر:فهل وقت لاظهاره معلوم؟، قال علي(ع):«نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره و يحمل النّاس عليه فيجري السنة به(ع)» (1).

و هذه الرواية ضعيفة سندا غير دالة على كون ما في قرآن علي(ع)من أسماء القوم من التنزيل اللفظي دون التأويل المعنوي،بل قد عرفت أنّ جمع علي(ع)كان جمع تنزيل و تأويل مقرونا أحدهما بالآخر،فلا تغتر بأمثال تلك الروايات و إن اشتملت على كلمة التحريف إلا أن المراد منه التغيير و لو بحذف التفسير،بل المراد من المس في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (2)،9.

ص: 114


1- الاحتجاج:ج 1 ص 225-228.
2- سورة الواقعة،الآية:79.

ليس عدم المس الظّاهري لمسا أو سمعا-لضرورة كون ذلك خلافا للحس و الوجدان-،بل المراد منه درك حقائقه و فهم غوامضه،فهذه الرواية على خلاف مطلوب القائل بالتحريف أدل.

9-الروضة من الكافي،سهل بن زياد عن محمد بن سليمان الديلمي المصري-البصري-كما عن الطوسي،أو-النصري-كما عن ابن داود عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قلت له قول اللّه عزّ و جلّ: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (1)،فقال:«إن الكتاب لم ينطق و لن ينطق و لكن رسول اللّه(ص)هو الناطق بالكتاب،قال اللّه عزّ و جلّ: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (1)،قال:قلت:جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا،فقال:

«هكذا و اللّه نزل به جبرائيل على محمد(ص)و لكنه فيما حرّف من كتاب اللّه» (2).

قال الفيض في الصافي:كأنه(ع)قرأ ينطق-بضم الياء و فتح الطاء-، أو أقول:في تفسير القمي حدثنا محمد بن همام قال:حدثنا جعفر بن محمد الفزاري عن الحسن ابن علي اللؤلؤي عن الحسن بن أيوب عن سليمان بن صالح عن رجل عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)قال:قلت هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق،قال له:«إن الكتاب لم ينطق و لن ينطق و لكن رسول اللّه(ص) هو الناطق بالكتاب،قال اللّه:هذا بكتابنا ينطق عليكم بالحق»فقلت:إنا لا نقرؤها هكذا،فقال:«هكذا و اللّه نزل بها جبرائيل على محمد(ص)و لكنه فيما حرف من كتاب اللّه» (3).

أقول:يرد على الاستدلال بهذه الرّواية للتحريف أمور:5.

ص: 115


1- سورة الجاثية:الآية:29.
2- الكافي:ج 8 ص 50 ح 11.
3- تفسير القمي:ج 2 ص 295.

الأول:إن المراد من الرواية أن المصداق الأكمل للناطق بالحق الجامع لجميع المعارف و العلوم الإلهية و الخازن لوحي اللّه و حكمته و علمه هو النّبي(ص)،حيث أن للنطق مراتب عديدة،فبمرتبة يكون كل شيء ناطقا، كما ورد في الحديث حينما تتكلم جوارح الإنسان،كما نص عليه القرآن:

وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (1) ،إن الإنسان يعاتب الأعضاء بأنه لم شهدتم علينا؟فيجيبون بأنه أنطقنا اللّه الذي أنطق كل شيء، و قد ورد في القرآن أيضا: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ (2).

و بالجملة،النطق له مراتب عديدة،و لا أقل من صحة جعله كناية عن البيان و الهداية و الذكر،و هي التي تكون من الصفات البارزة للقرآن،فاذن لا محيص عن القول بأن المراد من نفي النطق للكتاب-و هو القرآن-النطق بجميع المراتب،أو طرح الرواية للكذب المدلولي الّذي يبعد صدورها عن المعصوم،و على الأول التحريف عبارة عن عدم المعرفة بالمصداق الأكمل للناطق بالحق.

الثاني:إن سندي الرّواية في الكافي و التفسير ضعيفان.

الثالث:إن عدم المعرفة بالمشار إليه بكلمة-هذا-ليس من التحريف في شيء إذ التحريف المدعى للقائلين به هو التغيير بالزيادة و النقصان و ليس عدم المعرفة بما يشار إليه بأسماء الإشارات من التحريف كما هو واضح،و لذا قال في الوافي بأن المراد-ينطق-بضم الياء و فتح الطاء،و إن كان يرد عليه أمران:

الأول:إن عدم المعرفة بإعراب كلمة أو كلمات و قراءتها على خلاف النّازل ليس من التحريف يقينا إذ نرى اختلاف القراء في إعراب جملة وافرة من6.

ص: 116


1- سورة يس،الآية:65.
2- سورة النمل،الآية:16.

الكلمات و لا يعد ذلك منهم تحريفا للقرآن.

الثاني:إنه لم يكن القرآن من الأول معربا بالإشكال المتعارفة فعلا،فلا معنى لما ورد في الرّواية أنه مما حرف من كتاب اللّه،و ملخص الكلام انه لا بد من أحد أمرين على سبيل منع الخلو،أما طرح الرواية لضعف السند و كذب المدلول و أما حملها على المعنى المؤول للكتاب و النطق معا،و يشهد لكون المراد المصداق الأكمل للكتاب و النطق ما في-البرهان-عن محمد بن العباس بعد سؤال أبي بصير عن الآية قوله:«ان الكتاب لا ينطق و لكن محمد و اهل بيته هم الناطقون بالكتاب» (1)،و محمد بن العباس-هذا-هو ابن الحجام الّذي وثقه النّجاشي و روى عنه التلعكبري و غيره،نعم في بعض نسخ تفسير القمي -بكتابنا-و هو خطأ حتما لعدم مساعدة الذوق و لاختلاف النسخ.

10-في الاحتجاج و روى سليم بن قيس قال سمعت عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فنقل كلاما طويلا جرى بينه و بين معاوية في محضر جماعة منهم الحسن بن علي(ع)ثم نقل من جملة كلام الحسن(ع):«و تزعم أن عمرا أرسل إلى أبي إني أريد أن أجمع القرآن و أكتبه في مصحف فأبعث إلي بما كتبت من القرآن فأتاه و قال تضرب و اللّه عنقي قبل أن يصل إليك،قال:و لم؟ قال:لأن اللّه تعالى قال: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (2)،قال إياي عنى و لم يعنك و لا أصحابك فغضب عمر و قال ان ابن أبي طالب يحسب أن أحدا ليس عنده علم غيره،من كان يقرأ شيئا من القرآن فليأتني به فإذا جاء رجل و قرأ شيئا و قرأ معه رجل آخر فيه كتبه و إلا لم يكتبه،ثم قال الحسن(ع):و قد قالوا ضاع منه قرآن كثير بل كذبوا و اللّه بل هو مجموع محفوظ عند أهله،ثم قال:ثم ان عمر أمر قضاته و ولاته أن اجتهدوا بآرائكم و اقضوا بما ترون أنه الحق فما يزال9.

ص: 117


1- البرهان:ج 4 ص 169.
2- سورة الواقعة،الآية:79.

هو و ولاته قد وقعوا في عظيمة فيخرجهم منها أبي ليحتج بما عليهم،فتجتمع القضاة عند خليفتهم و قد حكموا في شيء واحد بقضايا مختلفة فأجازها لهم لأن اللّه لم يؤته الحكمة و فصل الخطاب» (1).

و هذه الرواية كسابقتها في ضعف السند و الدلالة،و لتوضيح المقام و الإشارة إلى لزوم الدقة في فهم المطالب من الأخبار و رعاية القرائن العقلية و غيرها في جميع الموارد،نشير إلى الأمور التالية:

1-دلت رواية سالم بن سلمة على أن القوم أجابوا عليا(ع)بأن عندنا مصحف جامع،قلنا أن نسأل أنه كيف يمكن المصير إلى أن عمر بعد يأسه من الظفر بما جمعه الإمام علي(ع)طلب من الناس رجلين رجلين أن يأتوا بالآيات كي يجمع قرآنا من رأس؟!.

2-أو ليس النّبي(ص)قال:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي» (2)،و أو ليس المراد من ضمير-كم-الخطاب إلى الجمع -المسلمين كافة-،و هلا يدل هذا الكلام المنقول منه متواترا من طرق الفريقين على وجود كتاب اللّه في أيدي الناس وجودا فعليا يشار إليه بأنه كتاب اللّه،المصحف،القرآن،و هل يجوز لأحد أن يقول المراد منه ما هو مبعثر في الأوراق المتعددة عند أشخاص معدودين أو ما هو الموجود عند الإمام علي(ع) و ولده(ع).

3-دلت رواية طلحة-بنقل سليم-على أن عليا(ع)قرر ارتكاز طلحة بأن ما هو موجود قرآن-كله-،و من البديهي أن المس الظّاهري للقرآن، و أعني به مباشرة القرآن بالأعضاء أو كتابته أو رؤيته أو استماعه ممكن لكلّ أحد).

ص: 118


1- الاحتجاج:ج 2 ص 7(باختلاف يسير).
2- بحار الأنوار:ج 23 باب فضائل أهل البيت(ع).

مطهرا كان أم غير مطهر.

فلا بد و أن يكون المراد من المس الّذي لا يناله غير المطهر المس النوري و الدرك الواقعي لمعاني القرآن و دقائقه كما أشرنا إليه في الجواب عن سابقة هذه الرواية.

4-قد ترى في هذه الرواية أن عمر بعد يأسه من الظفر بجامع علي(ع) التجأ إلى القضاة و الولاة و أمرهم بأخذ الآراء-الأهواء-في القضاء الشرعي و تنظيم الأمور الاجتماعية،و ذلك يدل بوضوح على أن قرآن علي(ع)كان كلام اللّه المنزل و كلام نبيه و وصي نبيه المفسرين له.

5-إن القول بضياع كثير من القرآن إنما هو كلام مختلق عندهم بعد حرمانهم من قرآن علي(ع)و زعمهم أن ما فيه كان زائدا على ما عندهم بما هو قرآن نازل من عند اللّه تعالى لا بما هو هو مع تفسيره.

6- لاحظ التناقض الواضح بين روايات جمع القرآن من قبل القوم فترى في رواية طلحة أنهم قالوا هو ذا عندنا مصحف جامع و لا حاجة لنا إلى جامعك،و في رواية أبي ذر-الرقم-8-،يأمر عمر زيد بن ثابت بتأليف قرآن ليسقط منه ما كان فيه فضيحة و هتك للمهاجرين و الأنصار،و في رواية سليم يأمر عمر كل من يقرأ شيئا من القرآن أن يأتي به.

7-الحافظة العمومية تأبى بوضوح عن اختصاص رجل أو رجلين بآية أو آيات من كلام اللّه مخصوصا علمها به أو بهما.

و هناك أمر هام جدا،و هو أنه ربما يتوهم التواتر الإجمالي للروايات الجابر لضعف أسانيدها،بتقريب أن الاشكال السندي إنما يمنع عن الأخذ بالمتن إذا لم يرتفع بتعاضد الروايات بعضها ببعض،اذ كيف يمكن رفع اليد عن الرّوايات البالغة حد التّواتر بمجرد القول بأن كتاب سليم كذا،و الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني ضعيف،و أن سالم بن سلمة ضعيف،و أن كثيرا

ص: 119

من رجال تلك الروايات مهملون في كتب الرجال،و نحو ذلك من المناقشات السندية.

و الجواب أن التواتر إذا لم يكن لفظيا و لم يكن معنويا فلا بد من أن يكون إجماليا و معنى ذلك أن تتفق الروايات في جامع واحد و ان اختلفت في الخصوصيات،و حينئذ تكون حجة على هذا الجامع،و من البديهي أن الأمر ليس كذلك لأن الرّوايات المستدل بها على التحريف على اختلاف كثير.

1-فيظهر من جملة منها بوضوح السقوط اللفظي،كرواية ثواب الأعمال بنقل البطائني.

2-و من جملة منها التأويل المعنوي،و أن المراد مما أنزل إليك في علي(ع)أو أن خير من اللهو و من التجارة-للذين اتقوا-أي ليس للجميع، فراجع تفسير القمي،أو أن تجعلون رزقكم أنكم تكذبون-شكركم-كناية عن المسبب بالسبب،ففي تفسير القمي،علي بن الحسين عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه(ع)في قوله: وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (1)،قال:«بل هي و تجعلون شكركم أنكم تكذبون» (2)إذ السؤال كالنص في استفسار المعنى المقصود من الآية،و الجواب كالنص في أن المراد جعل التكذيب شكر النعم أو أن سورة الأحزاب،فضحت رجالا و نساء من حيث التطبيق،أو أنه ليس في قوله تعالى: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (3)،من -و المراد أن كلمة-من-زائدة لأنه:أوتينا كل شيء،[كما في بصائر الدرجات بسند ضعيف]،أو أن كلمة-أمة-تنطبق من حيث المراد الجدي على الأئمة الّذين هم في حد الاعتدال الحقيقي،و إنما يكون الاستواء الواقعي6.

ص: 120


1- سورة الواقعة،الآية:82.
2- تفسير القمي:ج 2 ص 349-350.
3- سورة النمل،الآية:16.

و الوسطية في العقائد و الأحكام و الأخلاق و الأعمال بل المزاج ثابتا لهم خاصة، و إلا فتلك الطائفة تناقض ما ورد في نفس الروايات المستدل بها على التحريف من الأمر بقراءة القرآن على ما هو عليه من الألفاظ و الحروف فكون المعصومين(ع)أئمة وسطا صحيح من حيث الواقع،و كون الأمة الباغية على أسباط النّبي(ص)ليسوا بوسط صحيح حتما،و لكن ذلك إنما هو بحسب المراد الجدي لا التلفظ الصوري.

3-و يظهر من جملة منها الاختلاف في الاعراب المربوط بالقواعد النحوية غير المضرة بألفاظ القرآن،ففي روضة الكافي،محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر(ع)قال:تلوت اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ (1)،فقال:«لا،اقرأ التائبين العابدين-إلى آخرها-»فسئل عن العلة في ذلك فقال:«اشترى من المؤمنين التائبين العابدين» (2)،مضافا إلى ضعف السند و مخالفة هذه الرّواية مع ما ورد منهم من الأمر بمتابعة النّاس في القراءة.

4-و يظهر من بعضها أن العلم بمطالب القرآن مخصوص بأوصياء النّبي(ص)كما بينا ذلك في توضيح قوله(ع)مستشهدا بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (3).

و يتلخص من ذلك أنه لا جامع بين الروايات يمكننا الأخذ به و الحكم لأجله بالتحريف،عفا اللّه عنا و عمن سلف من المحدثين و الورعين الذين زعموا أن اللازم الأخذ تعبدا بالأخبار جمودا على الظواهر الموهومة لها،و إن دلت القرائن العقلية على خلافها أو سبب ذلك و هنا على المسلمين و كتابهم9.

ص: 121


1- سورة التوبة،الآية:112.
2- الكافي:ج 8 ص 377-378 ح 569.
3- سورة الواقعة،الآية:79.

الإسلامي المجيد،نعم التحريف بالمعنى المضر-التحريف بالزيادة لا قائل به كما أشرنا و نشير إليه،ثم إن هناك روايات أخرى مذكورة في تفسير العياشي و غيره أعرضنا عنها لضعف أسانيدها و امكان حمل جل منها على مرادات الآيات و مؤولات المتشابهات،و أما ما ورد عن طرق أهل السنة فليس جامعا لشرائط الحجية.

الطائفة الرابعة:

1-كتاب سليم بن قيس الهلالي عن سلمان،الرواية الثانية من الطائفة الأولى،و فيها:«و قد عهد[كذا في النسخة،و الظاهر عمد]عثمان حتى أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب و حمل الناس على قراءة واحدة فمزق مصحف أبي بن كعب و ابن مسعود و أحرقهما بالنار» (1)الخ..و هذه الرواية تدل على أن عثمان أحرق المصحفين و قد مضى البحث السندي حول هذه الرّواية، و أما الدّلالة فقد يتوهم بأن احراق المصاحف بالنار أو محوها بجعلها في قدر ماء حار و طبخها أو ما يشبه ذلك مما صنعه عثمان لمحو المصاحف دون مصحفه انما يدل بوضوح على اختلاف المصاحف بحسب الترتيب و من حيث المقدار زيادة و نقيصة،و الجواب أن الاختلاف المتيقن الّذي كان بين المصاحف إنما هو في الترتيب فقط،و ذلك لأن جمع عثمان ليس موافقا لترتيب النزول،و أما الزيادة و النقيصة فليس عليهما دليل.

2-خصال الصدوق،محمد بن عمر الحافظ البغدادي المعروف بالجعابي قال:حدثنا عبد اللّه بن بشير قال:حدثنا الحسن بن الزبرقان المرادي قال حدثنا أبو بكر ابن عياش عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر،قال سمعت رسول اللّه(ص)يقول:«يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى اللّه عزّ و جلّ

ص: 122


1- سليم بن قيس الهلالي:ص 122-123 و فيه:«و قد شهدت عثمان حين أخذ...».

المصحف،و المسجد،و العترة،يقول المصحف يا رب حرّقوني و مزقوني، و يقول المسجد:يا رب عطلوني و ضيعوني،و تقول العترة:يا رب قتلونا و طردونا و شردونا فأجثوا للرّكبتين للخصومة،فيقول اللّه جل جلاله لي،أنا أولى بذلك» (1)،و قد يتوهم دلالة هذه الرواية على التحريف بوجهين:

الأول:أن احراق المصحف-غير مصحف عثمان-يدل على اختلاف المصاحف،و هو يدل على الزيادة و النقصان.

الثاني:أن التحريف عبارة عن الميل عن الحق،و هو عين الزيادة و النقصان،و يرد على هذا التوهم أمور:

1-السند ضعيف كما يعلم بمراجعة كتب الرجال.

2-الاحراق لا يدل الا على الاختلاف في الترتيب اذ من المعلوم كما مضى و يأتي عدم موافقة جمع عثمان لترتيب النزول.

3-التحريف كما قاله المتوهم عبارة عن الميل عن الحق و لكنه أعم من اللفظي و المعنوي،و المراد من هذه الرواية إنما هو الأخير و لا أقل من عدم دلالتها على الأول.

3-و قد وردت روايات من طرق العامة تدل على احراق عثمان للمصاحف،فمنها ما روى الحاكم في-من كتاب الفردوس بإسناده عن جابر قال سمعت رسول اللّه(ص)يقول:«يجيئني يوم القيامة ثلاثة يشكون، المصحف و المسجد و العترة،يقول المصحف:يا رب حرقوني و مزقوني، و يقول المسجد:يا رب خربوني و عطلوني و ضيعوني،و تقول العترة:يا رب قتلونا و طردونا و شردونا،و جثوا باركين للخصومة،فيقول اللّه جل جلاله:ذلك2.

ص: 123


1- الخصال:ص 174-175 باب الثلاثة ح 232.

إليّ و أنا أولى بذلك» (1).

4-و في صحاح البخاري و الترمذي و النسائي و غيرها من الكتب عن الزهري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغزو أهل الشام و أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق،فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان:«أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود و النصارى،فأرسل إلى حفصة أن ارسلي إليّ بالمصحف ننسخها من المصاحف،فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحرث بن هشام و عبد اللّه بن الزبير أن انسخوا المصحف من المصاحف، و قال للرهط القرشيين الثلاثة ما اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانها،حتى إذا نسخوا المصحف عن المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف و أمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق» (2).

و وجه الاستدلال بما ذكر على التحريف واضح،و هو أن الباعث لعثمان على إحراق المصاحف لم يكن إلا الاختلاف الموجودة بينها،و هي إنما تكون بالزيادة و النقصان،و قد مر الجواب عنه بأن الاختلاف في الترتيب أيضا يوجب ذلك لأن غرضه من إحراق غير مصحفه إنما كان إشاعة مصحفه و جعله مصحفا إسلاميا رسميا،و هذا يتطلب الاتفاق حتى في الترتيب،و لو كان غرضه حفظ المصحف عن التحريف لا إشاعة مصحفه،فلم لم يجعل مصحف أبي بن كعب مصحفا رسميا،أو مصحف زيد بن ثابت المعتمد عليه عند عمر و غيره، و نزيد هنا بيانا فنقول أن الاختلاف في القراءة أيضا لم يكن مرغوبا فيه عند7.

ص: 124


1- و ذكره كنز العمال:ج 11 ص 193 ح 31190.
2- صحيح البخاري:ح 6 ص 226 باب جمع القرآن،و صحيح الترمذي:ج 11 ص 261-264 أبواب التفاسير تفسير سورة التوبة،و ذكره البحار:ج 89 ص 76-77.

عثمان،مع أنه لا يكون من التحريف المصطلح في شيء،فترى في هذه الرواية المروية في كتب عديدة من صحاح أهل السنة و غيرها أن عثمان أمر بكتابة القرآن بلسان قريش حين اختلاف لجنة تأليف القرآن[الأربعة]،و من المعلوم أن اللسان عبارة عن قواعد أداء الكلام،و ليس المراد منه الزيادة و النقصان لأنهما لا يختصان بلسان دون لسان.

الطائفة الخامسة:

1-روضة الكافي علي بن إبراهيم عن أحمد بن خالد عن أبيه عن أبي عبد اللّه(ع):«قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (1)-بمحمد-«هكذا و اللّه نزل بها جبرائيل على محمد(ص)» (2).أما السند،فقال المجلسي(ره)في مرآة العقول:«فيه ارسال»،و روى العياشي عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه:و لعلهما سقطا في هذا السند،و في بعض النسخ هكذا هو الظاهر.أقول:فالرواية ضعيفة أما بالإرسال و أما بمحمد بن سليمان و أبيه سليمان،إذ النجاشي قال في حق سليمان:قيل كان غاليا كذابا و كذلك ابنه محمد و لا يعمل بما انفرد به من الرّواية،و قال في حق ابنه:ضعيف جدا فلا يعول عليه في شيء،و أما الدلالة فالظاهر أن المراد من الآية أن المنقذ للبشر من شقاء الدنيا و الآخرة هو محمد(ص)،لا أن لفظة محمد(ص)نزلت في الآية بل المراد الجدي من الآية في عالم التطبيق هو محمد(ص)،كيف و لو كانت اللفظة من القرآن الملفوظ لأمروا شيعتهم بقراءتها سرا،و لم يرد أي خبر يدل على أمرهم بقراءة أيّة لفظة أو كلمة أو جملة يقال أنها من القرآن و حذفت،فإن توهم التقية في ذلك مدفوع بأنه كيف صرحوا بحذفها و لم يأمروا بقراءتها حينما لم يكن تقية في البين،و هذه نكتة ينبغي أن يلاحظها العاقل الفطن.

ص: 125


1- سورة آل عمران،الآية:103.
2- الكافي:ج 8 ص 183 ح 208.

2-كشف الغمة،عن رزين عبد اللّه،قال:كنا نقرأ على عهد رسول اللّه(ص):يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين فإن لم تفعل فما بلغت رسالتك و اللّه يعصمك من النّاس (1)،و المراد من هذه الرواية أن ما أنزل إلى محمد(ص)هو ولاية علي بن أبي طالب(ع)، يدل على ذلك ما رواه ابن بابويه باسناده إلى الباقر(ع)في حديث:«و لقد أنزل اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2)،يعني في ولايتك يا علي» (3)،و ما رواه سعد بن عبد اللّه باسناده إلى أبي جعفر(ع)في قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ،قال:«هي الولاية» (4)فراجع تفسير هذه الآية في البرهان-للسيد البحراني(ره)» (5).

3-روضة الكافي،عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن يحيى بن المبارك عن عبد اللّه بن جبلة عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه(ع)قال:

«هكذا أنزل اللّه تبارك و تعالى:لقد جاءنا رسول من أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنين رءوف رحيم» (6)و المراد أننا مخاطبون بهذا الخطاب فلا بد علينا من متابعة هذا الرسول.

4-المصدر،علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز عن يونس .

ص: 126


1- كشف الغمة:ج 1 ص 319 في ما نزل فيه(ع)من القرآن،و ذكره عن زرّ عن عبد اللّه...
2- سورة المائدة،الآية:67.
3- أمالي الصدوق:ص 400.
4- البرهان:ج 1 ص 489.
5- البرهان:ج 1 ص 488-491.
6- الكافي:ج 8 ص 378 ح 570 و الآية في سورة التوبة:128 هكذا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ... .

بن ظبيان عن أبي عبد اللّه: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ (1)،هكذا فاقرأها» (2)و في الروضة المطبوعة،-مما-و في الروضة المخطوطة عندنا، -مما-،و في مخطوطة أخرى عندنا،كتب الناسخ أولا،-مما-،ثم شطب على الكلمة و كتب فوقها-ما-و في البرهان للبحراني (3)نقلا عن الكافي -ما-،و عن العياشي-ما-،و ظني أن الكلمة كانت-مما-،و الظاهر أن مراد الإمام كان مؤول الآية و أن اللازم معرفة المراد مما تحبون و أنه يشمل حتى انفاق النفس في سبيل إحياء الدين،و كيف كان فأما هذا،و أما الإجمال غير المفيد لمن يريد الاستدلال بهذه الرواية على التحريف،أضف إلى ما ذكر ضعف السند بسبب عمر بن عبد العزيز،قال النجاشي:انه مخلط.

5-المصدر،عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد،عن ابن محبوب، عن محمد بن سلمان الازدي،عن أبي اسحاق عن أمير المؤمنين(ع):

«و اذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل-بظلمه و سوء سيرته-[بسوء سريرته،خ ل] وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (4)» (5)و أنت ترى بأنه ليس في الرواية أيّة إشارة إلى أن جملة-بظلمه و سوء سيرته-المسوقة لبيان العلة هل هي بيان للعلة أو جزء من القرآن؟،و المظنون أنها تفسير تعليلي.

6-المصدر،سهل بن زياد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن حمران بن أعين عن أبي جعفر(ع):« وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ (6)» (7)6.

ص: 127


1- سورة آل عمران،الآية:92.
2- الكافي:ج 8 ص 183 ح 209.
3- البرهان:ج 1 ص 297 عن الكافي و العياشي.
4- سورة البقرة،الآية:205.
5- الكافي:ج 8 ص 289 ح 435.
6- سورة البقرة،الآية:257.
7- الكافي:ج 8 ص 289 ح 436.

و العجب ممن يريد الاستدلال بهذه الرواية على تحريف القرآن من كلمة الطاغوت و الموجودة في المصحف الفعلي إلى كلمة الطواغيت الموجودة في هذه الرواية،اذ ليس في الرواية أزيد من قول الإمام(ع)أن الكفار أولياؤهم الطواغيت-و الكلمة جمع للطاغوت-.

و أما أن الإمام إنما كان بصدد قراءة القرآن،أو أنه كان بصدد بيان أن كلمة الطاغوت النازلة من السّماء قرآنا،اسم جنس شامل لكل طاغوت، فالكفار أولياؤهم الطواغيت،أو أن المراد من الكفار المخالفون لأولياء الدين، و الطواغيت هم المضلون لهؤلاء فتلك أمور لا تظهر من الرّواية،و القول بأية واحدة منها لا يخرج عن الخيال الفارغ أو الظن و نظير هذه الرواية في مجرد قراءة الإمام(ع)آيات مع زوائد لا يدري هل أنها بمنزلة التفاسير للآيات أو توضيح لها من الإمام(ع)روايات فمنها.

7-المصدر،عن علي بن إبراهيم عن أحمد بن محمد،عن محمد بن خالد،عن محمد بن سنان،عن أبي جرير القمي-و هو محمد بن عبيد اللّه و في نسخة عبد اللّه-عن أبي الحسن(ع): لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ (و ما بينهما و ما تحت الثرى،عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم) مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ » (1)(2)فانظر إلى هذه الرواية،ترى أنه ليس فيها الا أن الإمام قرأ بين: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و بين مَنْ ذَا الَّذِي جملة و ما بينهما إلى قوله: الرحمن الرحيم و هل هذا بمعنى أن تلك الجملة المقروءة كانت من القرآن و حذفها المحرفون؟!كلا!،و منها:

8-المصدر،محمد بن يحيى،عن أحمد بن محمد بن عيسى،عن الحسين بن سيف،عن أخيه،عن أبيه،عن أبي بكر بن محمد،قال:7.

ص: 128


1- سورة البقرة،الآية:255.
2- الكافي:ج 8 ص 289 ح 437.

سمعت أبا عبد اللّه(ع)يقرأ: «و زلزلوا(ثم زلزلوا)حتى يقول الرسول (1)» (2)و ليس في الرواية أن كلمة ثم زلزلوا من القرآن أو أنها تأكيد لقول اللّه زلزلوا من قبل الإمام،أضف إليه أن أبا بكر في السند مجهول،و في مرآة العقول:الظّاهر أنه كان عن بكر بن محمد فزيد فيه-أبي-من النساخ، و منها:

9-المصدر،علي بن إبراهيم عن أبيه عن علي بن أسباط،عن علي بن أبي حمزة،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه(ع): «و اتّبعوا ما تتلوا الشياطين(بولاية الشياطين)على ملك سليمان (3)»و يقرأ أيضا: «سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة(فمنهم من آمن و منهم من جحد و منهم من أقر و منهم من بدّل)و من يبدّل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فإن اللّه شديد العقاب (4)» (5)و هذه الرّواية أيضا ليس فيها الا أن الإمام قال بولاية الشياطين،و ليس ذلك دليلا على كون ما ذكر من القرآن اذ لم لا يجوز أن يكون بيانا لما سلف؟.و كذا ليس في الرّواية إلا أن الإمام زاد بين:آية بيّنة،و من يبدل،-جملة فمنهم الخ-و أما أن ذلك عبارة عن كون هذه الضميمة من القرآن،و أن الإمام(ع)بصدد بيان ذلك،أو أنها توضيح لأنواع بني إسرائيل من حيث الإيمان و الجحود و غير ذلك،فلا يظهر من الرواية.

10-المصدر،محمد بن خالد،عن حمزة بن عبيد،عن إسماعيل بن عبّاد،عن أبي عبد اللّه(ع):« وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ (6)6.

ص: 129


1- سورة البقرة،الآية:214.
2- الكافي:ج 8 ص 290 ح 439.
3- سورة البقرة،الآية:102.
4- سورة البقرة،الآية:211.
5- الكافي:ج 8 ص 290 ح 440.
6- سورة البقرة،الآية:255.ج 16.

و آخرها وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (1)و الحمد للّه رب العالمين،و آيتين بعدها» (2)قال في مرآة العقول:أي ذكر آيتين بعدها و عدهما من آية الكرسي،فاطلاق آية الكرسي عليها على إرادة الجنس و تكون ثلاث آيات كما يدل عليه بعض الأخبار،انتهى،أضف إليه ضعف السند.

11-المصدر،محمد،عن أحمد عن ابن فضال،عن الرّضا(ع):

«فأنزل اللّه سكينته على رسوله و أيده بجنود لم تروها (3) »،قلت:هكذا؟ قال:«هكذا نقرؤها...» (4)و لم يعلم أن الإمام(ع)كان بصدد قراءة القرآن و لم يكن بصدد بيان اقتباس المراد من الآية و بيان ما هو المقتبس منها بتطبيق الضمير على الرسول.

12-المصدر علي بن إبراهيم،عن صالح بن السندي،عن جعفر بن بشير،عن فيض بن المختار قال:قال أبو عبد اللّه:«كيف تقرأ: وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا (5)»قال:لو كان خلفوا لكانوا في حال طاعة و لكنهم (خالفوا)عثمان و صاحباه أما و اللّه ما سمعوا صوت حافر و لا قعقعة حجر الا قالوا:أتينا فسلط اللّه عليهم الخوف حتى أصبحوا (6)،و هذه الرّواية تدل على الاختلاف في القراءة و لا تدل على التحريف.

قال الطبرسي:القراءة المشهورة:الّذين خلفوا،و قرأ علي بن الحسين و أبو جعفر الباقر و جعفر الصادق(ع)و أبو عبد الرحمن السلمي:و خالفوا،و قرأ عكرمة و زرّ بن حبيش و عمرو بن عبيد:خلفوا-بفتح الخاء و تخفيف اللام-،8.

ص: 130


1- سورة البقرة،الآية:255.
2- الكافي:ج 8 ص 290 ح 438.
3- سورة التوبة،الآية:40 و فيها: فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ.. .
4- الكافي:ج 8 ص 378 ح 571.
5- سورة التوبة،الآية:118.
6- الكافي:ج 8 ص 377 ح 568.

انتهى.و مع ذلك فقد أمر الأئمة(ع)بأن نقرأ القرآن بالقراءة المشهورة،ثم ان هناك أخبارا شاذة مذكورة في تفسير العياشي و تفسير العياشي فرات و غيرهما مما لم نعتد بها لضعف أسانيدها،كما أننا لم نشر إلى جملة من الاسناد ايكالا إلى تتبع الباحث،و ملخص ما ذكرنا أمران:

الأول:أنه لا يوجد في هذه الطوائف الخمس دليل له سند صحيح قابل للاعتماد ينص على التحريف بالنقيصة فكيف بالزيادة.

الثاني:أن القائلين بالتحريف أوقعهم في شبهة التحريف كمال ورعهم و جمودهم على الأخبار و عدم دقتهم في أسانيدها و دلالاتها،و الا فليس القول بالتحريف خرافة اذ هي ما لا أساس لها كالقصص الخيالية و الأوهام المنسوجة و الأحاديث المفتعلة الكاذبة،و ليس القول بالتحريف بهذه المثابة من الضعف و السقوط لما قلنا من نشوئه عن أخبار كثيرة.

و قد يستدل على التحريف بما ورد في القرآن في سورتي النساء و المائدة من آيات ناظرة إلى التحريف،ففي سورة النساء: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (1)،و في سورة المائدة: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ (2)،و: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ (3)،و هذا النحو من الاستدلال ضعيف جدا لأن الآيات المذكورة وردت في شأن اليهود،و المراد من التحريف فيها التأويل الباطل أي المعنوي،فراجع التفاسير.

السؤال السادس:من هم النافون للتحريف و ما هي أدلتهم؟.1.

ص: 131


1- سورة النساء،الآية:46.
2- سورة المائدة،الآية:13.
3- سورة المائدة،الآية:41.

الجواب:المجتهدون و عظماء العلماء كالصدوق و الشيخ الطوسي و السيد المرتضى و الطبرسي،ذهبوا إلى عدم تحريف القرآن.

1-قال الشيخ أبو علي الطبرسي في مجمع البيان:فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه،و أما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشوية العامة ان في القرآن تغييرا و نقصانا،و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه،و هو الذي نصره المرتضى(قدس اللّه روحه)و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات،و ذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة،فإن العناية اشتدت و الدواعي توفرت على نقله و حراسته و بلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية،و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته،فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد.

و قال أيضا(قدس اللّه روحه):و ان العلم بتفصيل القرآن و أبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته،و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه و المزني،فإن أهل العناية بهذا اللسان يعلمون من تفصيلهما ما يعلمون من جملتهما،حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميز و علم أنه ملحق و ليس من أصل الكتاب،و كذلك القول في كتاب المزني،و معلوم أن العناية بنقل القرآن و ضبطه أضبط من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.

و ذكر أيضا(رضي اللّه عنه):أن القرآن كان على عهد رسول اللّه(ص) مجموعا مؤلفا على ما هو الآن،و استدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم

ص: 132

له،و أنه كان يعرض على النبي(ص)و يتلى عليه،و أن جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود و أبي بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النّبي(ص) عدة ختمات،و كل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور و لا مبثوث».

و ذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية و الحشوية لا يعتد بخلافهم،فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته.

و قد ذكرنا في السؤال الثاني كلام الشيخ في التبيان،و قد وافق السيد المرتضى في ذلك حيث قال:و أما النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه،و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا كما نصره المرتضى(ره) الخ..

2-و سئل الشيخ المفيد(ره)في المسائل السروية:ما قوله أدام اللّه تعالى حراسته في القرآن؟،أ هو ما بين الدفتين الذي في أيدي الناس أم هل ضاع مما أنزل اللّه تعالى على نبيه(ص)منه شيء أم لا؟و هل هو ما جمعه أمير المؤمنين(ع)أم ما جمعه عثمان على ما يذكره المخالفون؟ و الجواب:أن الّذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام اللّه تعالى و تنزيله و ليس فيه شيء من كلام البشر و هو جمهور المنزل و الباقي مما أنزله اللّه تعالى قرآنا عند المستحفظ للشريعة المستودع للأحكام لم يضع منه شيء،و إن كان الّذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله في جملة ما جمع لأسباب دعته إلى ذلك منها قصوره عن معرفة بعضه و منه ما شك فيه و منه ما عمد بنفسه و منه ما تعمد إخراجه،و قد جمع أمير المؤمنين(ع)القرآن المنزل من أوله إلى آخره و ألفه بحسب ما وجب من تأليفه،فقدم المكي على المدني و المنسوخ على الناسخ و وضع كل شيء منه في حقه،فلذلك قال جعفر بن محمد

ص: 133

الصادق(ع):«أما و اللّه لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين كما سمى من كان قبلنا»-إلى أن قال-:

فصل:غير أن الخبر قد صح عن أئمتنا(ع)أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين و أن لا نتعداه بلا زيادة و لا نقصان منه حتى يقوم القائم(ع)فيقرأ الناس القرآن على ما أنزله اللّه تعالى و جمعه أمير المؤمنين(ع)و نهونا عن قراءة ما وردت به الأخبار من أحرف تزيد على الثابت في المصحف لأنها لم تأت على التواتر و إنما جاء بالآحاد،و قد يغلط الواحد فيما ينقله،و لأنه متى قرأ الإنسان بما يخالف ما بين الدّفتين غرر بنفسه مع أهل الخلاف و أغرى به الجبارين و عرض نفسه للهلاك،فمنعونا(ع)من قراءة القرآن بخلاف ما يثبت بين الدّفتين لما ذكرناه.

فصل:فإن قال قائل:كيف يصح القول بأن الّذي بين الدّفتين هو كلام اللّه على الحقيقة من غير زيادة و لا نقصان و أنتم تروون عن الأئمة(ع)أنهم قرءوا: كنتم خير أئمة أخرجت للناس (1)و كذلك جعلناكم أئمة وسطا (2)،و قرءوا: يسألونك الأنفال (3)،و هذا بخلاف ما في المصحف الّذي في أيدي الناس قيل له:قد مضى الجواب عن هذا،و هو أن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار أحاد لا يقطع على اللّه بصحتها،فلذلك وقفنا فيها و لم نعدل عما في المصحف الظّاهر على ما أمرنا به حسب ما بينّاه،مع أنه لا ننكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلين أحدهما ما تضمنه المصحف،و الثاني ما جاء به الخبر كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على أوجه شتى،فمن ذلك قوله تعالى: و ما هو على الغيب بظنين ،يريد-بمتهم-،و بالقراءة .

ص: 134


1- سورة آل عمران،الآية:110 و فيها كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ .
2- سورة البقرة،الآية:143 و فيها وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً .
3- سورة الأنفال،الآية:1 و فيها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ .

الاخرى: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (1)،يريد به ببخيل و مثل قوله:

جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (2) ،على قراءة،و على قراءة أخرى:

تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ،و نحو قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ (3)،و في قراءة أخرى: إن هذين لساحرين ،و ما أشبه ذلك مما يكثر تعداده و يطول الجواب بإثباته،و فيما ذكرناه كفاية إن شاء اللّه تعالى (4).

أقول:قد عرفت من تنويعنا للأخبار أنه لم يوجد في شيء من تلك الكمية الوافرة من الأخبار على تنوعها ما يكون له سند صحيح و دلالة واضحة -معا-على التحريف،فلا نتعرض لبعض ما يرد على شيخنا،شيخ الطائفة المفيد(ره).

و قال في الفصل الأخير من إرشاده في سيرة القائم(عج)،و روى جابر عن أبي جعفر(ع)أنه قال:«إذا قام قائم آل محمد(ص)ضرب فساطيط و يعلم الناس القرآن على ما أنزل اللّه عزّ و جلّ فأصعب ما يكون على من حفظة اليوم لأنه يخالف فيه التأليف» (5)،و من البديهي أن هذا الخبر بماله من سند ضعيف لا يدل على أزيد من مخالفة ترتيب القرآن مع ما أنزله اللّه و هذا مما نوافق عليه و لا يضرنا شيئا.

3-قال الشيخ الصدوق،باب الاعتقاد في مبلغ القرآن،قال الشّيخ:

اعتقادنا أن القرآن الّذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد(ص)هو ما بين الدّفتين ليس بأكثر من ذلك،و مبلغ سوره عند النّاس مائة و أربعة عشر سورة،و عندنا أن5.

ص: 135


1- سورة التكوير،الآية:24.
2- سورة البقرة،الآية:25 و مكررة في القرآن 36 مرة.
3- سورة طه،الآية:63.
4- بحار الأنوار:ج 89 ص 74-75.
5- الارشاد(للمفيد):ص 365.

الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة،و لإيلاف قريش و أ لم تر كيف سورة واحدة، و من نسب إلينا أنا نقول أنه من ذلك فهو كاذب،و ما روي من ثواب قراءة سورتين في ركعة و النهي عن القرآن بين سورتين في ركعة فريضة،تصديق لما قلناه في أمر القرآن و أن مبلغه ما في أيدي الناس،و كذلك ما روى من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة و أنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام،تصديق لما قلناه أيضا،بل نقول:أنه قد نزل من الوحي الّذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية،و ذلك مثل قول جبرائيل للنبي(ص):«ان اللّه يقول لك يا محمد دار خلقي مثل ما أداري»،و مثل قوله:«اتق شحناء النّاس و عداوتهم»،و مثل قوله:«عش ما شئت فإنك مفارقه و اعمل ما شئت فإنك ملاقيه»،«و شرف المؤمن صلاته بالليل و عزه كف الأذى عن النّاس»،و مثل قول النّبي(ص):«ما زال جبرائيل يوصيني بالسواك حتى خفت أن أدرد أو ادره و ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه و ما زال يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها و ما زال يوصيني بالمملوك حتى ظننت أنه سيضرب له أجلا يعتق فيه»و مثل قول جبرائيل حين فرغ من غزو الخندق:«يا محمد(ص)إن اللّه تبارك و تعالى يأمرك أن لا تصلي العصر إلا ببني قريظة»و مثل قوله:«أمرني ربي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض»،و مثل قوله:«إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن لا نكلم النّاس إلا بمقدار عقولهم»و مثل قوله:إلا بمقدار عقولهم»و مثل قوله:«إن جبرائيل أتاني من قبل ربي بأمر قرّت به عيني و فرح به صدري و قلبي،قال إن اللّه عزّ و جلّ يقول:إن عليا أمير المؤمنين و قائد الغر المحجلين»،و مثل قوله(ص):«نزل عليّ جبرائيل فقال:يا محمد إن اللّه تبارك و تعالى زوج فاطمة عليا من فوق عرشه و أشهد على ذلك خيار ملائكته فزوجها منه في الأرض و أشهد على ذلك خيار الأرض».و مثل هذا كثير كله وحي ليس بقرآن و لو كان قرآنا مقرونا به و موصولا إليه غير مفصول عنه،كما قال أمير المؤمنين(ع)لما جمعه فلما جاء به فقال لهم:«هذا كتاب

ص: 136

اللّه ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف،فقالوا:لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الّذي عندك،فانصرف و هو يقول: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (1)و قال الصّادق(ع):«القرآن واحد نزل من عند واحد على نبي واحد و إنما الاختلاف من جهة الرواة»و كلما كان في القرآن مثل قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (2)،و في مثل قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ (3)،و مثل قوله:

وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ (4) ،و ما أشبه ذلك،فاعتقادنا فيه أنه نزل على إياك أعني و اسمعي يا جارة الخ..فراجع اعتقادات الصدوق(ره) (5).

4-قال ابن الحاجب في المختصر،مسألة:ما نقل آحادا فليس بقرآن للقطع بأن العادة يقضي بالتواتر في تفاصيل مثله،و قوة الشبهة في بسم اللّه الرحمن الرحيم منعت عن التكفير من الجانبين،و القطع بأنها لم تتواتر في أوائل السور قرآنا فليست بقرآن فيها قطعا كغيرها و تواترت بعض آية في النمل، فلا يخالف قولهم مكتوبة بخط المصحف.

و قول ابن عباس سرق الشيطان من النّاس آية لا يفيد لأن القطع يقابله قولهم:لا يشترط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله ضعيف يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر و جواز إثبات ما ليس بقرآن مثل ويل و فبأي آلاء،لا يقال يجوز و لكنه اتفق تواتر ذلك لأنا نقول لو قطع النّظر عن ذلك الأصل لم يقطع بانتفاء السّقوط و نحن نقطع بأنه لا يجوز و الدّليل ناهض و لأنه يلزم جواز ذلك فيه.

ص: 137


1- سورة البقرة،الآية:187.
2- سورة الزمر،الآية:65.
3- سورة الفتح،الآية:2.
4- سورة الاسراء،الآيتان:74 و 75.
5- جميع الأحاديث المذكورة ضمن الفقرة رقم(3)تجدها في اعتقادات الصدوق فراجعه.

المستقبل و هو باطل.

و قال العضدي في شرحه:ما نقل آحادا فليس بقرآن لأن القرآن مما يتوفر الدواعي على نقله لما تضمنه من التحدي و الإعجاز و لأنه أصل سائر الأحكام، و العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل ما هو كذلك،فما لم ينقل متواترا علم أنه ليس قرآنا قطعا و بهذا الطريق يعلم أن القرآن لم يعارض،فإن قيل لو وجب تواتره و قطع بنفي ما لم يتواتر لكفرت إحدى الطائفتين الأخرى في بسم اللّه الرحمن الرحيم و اللازم منتف.

أما الأولى:فلأنه إن تواتر فإنكاره نفي للضروري كونه من القرآن،و إلا فإثبات للضروري عدم كونه من القرآن و كلاهما مظنة للتكفير،فكان يقع تكفير من جانب عادة كمنكر أحد الأركان أو كمثبت ركن آخر،و أما انتفاء اللازم:

فلأنه لو وقع لنقل،و للإجماع على عدم التكفير من الجانبين.

الجواب:لا نسلم بالملازمة،و إنما يصح لو كان كل من الطرفين لا تقوم فيه شبهة تخرجه عن حد الوضوح إلى حد الاشكال،و اما إذا قوي عند كل فرقة الشبهة من الطرف الآخر فلا يلزم التكفير إلخ..

و يظهر من هذه الكلمات من هؤلاء الأعاظم أدلة ثلاث لنفي التحريف:

الأول:توفر الدواعي على ضبط القرآن و حفظه عن وقوع التحريف فيه و لا سيما بالزيادة.

الثاني:أن القرآن كان مؤلفا و مجموعا لا مبثوثا و متفرقا.

الثالث:أن الأخبار الواردة في التحريف ضعيفة و آحاد و لا يمكن الاعتماد على مثل تلك الأخبار في مثل تلك المسألة المهمة غاية الأهمية، و هناك نكتة في كلام هؤلاء،و هي أن ما ورد مما يشبه كونه قرآنا أو قيل انه قرآن،فهو وحي لا أنه قرآن نزل تحديا و إعجازا.

ص: 138

السؤال السابع:ما هو التحقيق في المقام؟ الجواب:لنا أن نستدل على نفي التحريف بأمور:

1-عدم الدليل على التحريف و هذا يكفي للنافي،اذ قد أسمعناك ان إسناد الأخبار المستدل بها على التحريف ضعيفة جدا و ما صح منها سندا لا دلالة له على التحريف مطلقا.

و توهم بعض المحدثين أن تلك الأخبار لا تقل عن الأخبار الواردة في الإمامة أو أنها متواترة يعاضد بعضها بعضا أو أن المنكرين يستدلون بأضعف منها أو مثلها أو أن القوم ربما ينكرون وجود الخبر على مطلب مع أنه موجود و لكنهم لم يظفروا به و أمثال تلك الدعاوى الفارغة،و لكنه مدفوع بأن العاقل بنظرته العقلائية لا يعتني بأي خبر صادر عن أي مخبر مذكور في أي كتاب من أي مؤلف،اذ كيف نأخذ بما يرويه الحسن البطائني من أن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش و أنها كانت أطول من سورة البقرة،و الحسن ممن لم يوثقه أحد من أهل الرجال و طعنوا فيه،و ما معنى فضيحة نساء قريش و كيف يمكن حذف مقدار كثير من سورة تقرأ ليلا و نهارا و تحفظها صدور المسلمين.

و بالجملة:الشرط الأساسي لحجية الخبر،هو الوثوق بالصدور غير الحاصل من الأخبار التي ينقلها رجال لا نعرفهم بالوثاقة،لأنهم أما مهملون في كتب الرجال و أما مذكورون مع توصيفهم بالجهل،و أما مذمومون بأمور تخرجهم عن الوثاقة و نحن لا نعتني بالكثرة إلا إذا بلغت حدا يوجب الوثوق بالصدور أو اقترنت بقرائن مفيدة للصدور،فنأخذ حينئذ بالجامع بينها و أنى لنا بذلك في مقامنا هذا،نعم ما قاله الشيخ المفيد أو ابن الحاجب بأن تلك الأخبار آحاد فلا يثبت القرآن بها غير مرضي لدينا،لأن الأخبار إذا كان الّذين جاءوا بها عدولا نأخذ بها و إن كانت آحادا غير أنه إذا كان الراوي البطائني أو

ص: 139

مثله تركنا أخباره و لكن لا لكونها من الآحاد بل لكونها ضعافا و لم يكن المخبر موثوقا به.

الثاني:لا مجال لأي تشكيك بأن الجيل الجاهلي من العرب كان ناشئا في قلب الصحراء و لم يكن عنده من العلوم و الفنون شيء هام يذكر في التاريخ و انحصرت ثقافتهم في ذلك العصر-في الأدب البدوي الأصيل النابع من صميم العاطفة صريحا صارما خاليا عن التكلف بعيدا عن الخيال-نظما و نثرا-فترى فيهم امرؤ القيس و حسان بن ثابت الّذي كان يحسب من المخضرمين،نعم يضاف إلى الأدب العربي أمور أخرى عدها أهل التاريخ من الثقافة العربية و هي الكهانة و القيافة و العرافة،فالعربي الجاهلي كان استعداده القوي و ذهنه الوقاد و قريحته الصافية مصروفا في الأدب شعرا و خطابة مما يتعلق بشئون الأدب لغة و نحوا و بلغ اهتمام الأدباء بالشعر إلى حد علقوا المعلقات السبع على الكعبة و كانت ندواتهم مختصة في الأغلب بذلك و كان سوق عكاظ مؤتمرا عالميا أدبيا يحضره الأدباء من كل مكان و كان من الممكن أن يثير بيتا واحدا من الشعر حربا بين قبيلتين في الحين الّذي كان يمكن أن يصير سببا للصلح بينهما و إن طالت مدة عداوتهما و خصومتهما و لما لم يكن لهم علم بالكتابة في العصر الجاهلي، كانت صدورهم خزانة علومهم من اللغة و الصرف و النحو و الشعر و الخطابة و كان لكل شاعر ديوان شعر ناطق و هو شخص يحفظ أشعاره و يقال له الرّاوية،نعم إنما علّمهم الموالي الكتابة بعد الفتوحات الإسلامية،و نتيجة لانحصار علومهم بما تجود به القريحة و انحصار الضابط لتلك العلوم بالحفظ على ظهر القلب مع تلك الحافظة الصحراوية القوية كثر فيهم الحفاظ حتى أن الناظر في تاريخ الأدب العربي يتحير من الأرقام و الكميات الكثيرة التي ينسبونها إلى حفاظ الأشعار من الأشعار التي حفظوها،و إن كان العجب في غير محلّه بعد ملاحظة أن ذلك كان مسببا عن أمور كثيرة أوجب للعرب حفظ كمية كثيرة من الأشعار، و قد رأينا نحن في العجم أيضا حفاظا كثيرين فكان لنا صديق نقل لنا حفظة مائة

ص: 140

ألف من أشعار الخاقاني و القاءاني و أضرابهما ممن ينظم القصائد الطوال المشتملة على اللغات الصعبة و الغريبة،و كان لنا صديق آخر قال:أنا أحفظ ستين ألف بيتا من الشعر،و قد ذكر السيد الجزائري عليه الرحمة في الأنوار النعمانية نماذج من قضايا الحفظ العربي،ثم إن الحافظة الصحراوية القوية التي قلنا أنها كانت بمنزلة كتاب أو ديوان أو خزانة للعلوم،لم تكن منحصرة بفرد أو فردين،بل الذهن الوقاد و الحافظة القوية كانا من مزايا العرب في مستواه العام،و قد نزل القرآن في مثل هذا الوسط الأدبي و المجتمع العارف باللسان و أسلوبه و الصاعد إلى أعلى مدارج الكلام،و كان القرآن مع كونه كتابا للقانون و الشرع معجزة خالدة للنبي(ص)في فصاحته و بلاغته،مضافا إلى اشتماله على الحكم و المواعظ و العبر و القصص و الأحكام و الأخلاق،و حينما سمع العرب هذا الكلام المعجز الّذي تفوق على كل كلام أدبي موزون كانوا يسمعونه من ذي قبل من لدن الشعراء و الخطباء اندهشوا و نظروا إليه نظر إعجاب و حيرة، إذ أنّ القرآن ليس بمنظوم و لا منثور و ليس خارجا عنهما أيضا،و لذا أخذوه برغبة تامة و حفظ شامل و بوعي كامل.

ثم إن القرآن تحدى المرتابين في كونه كلام رب العالمين بالاتيان بمثله أو بسورة من مثله،فلم يقدر أحد على مباراته و معارضته،بل قد نقل بأن جمعا من المكابرين و المخالفين حاولوا ذلك،فرجعوا بخفي حنين حينما وصلوا إلى قوله تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ.. (1)الآية،أو إلى قوله تعالى:

...وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ... (2) الآية،و ندموا على هذه المحاولة الفاشلة،و قد يقال بأنهم عارضوا قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ (3)،بقولهم القتل أنفى للقتل،و قوله تعالى اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ9.

ص: 141


1- سورة طه،الآية:39.
2- سورة هود،الآية:44.
3- سورة البقرة،الآية:179.

وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) ،بقولهم:دنت الساعة و انشق القمر،فكان ذلك الكلام المعجز و الأسلوب الخارج عن نطاق قدرة اللسان البشري،سببا لحفظ القرآن و انتقاشه في الصدور و كثرة الحفاظ له و المعتنين بقراءته و تجويده،و أما القراء السبعة أو الأربعة عشر فهم الّذين تفوقوا على الجميع في شئون القرآن،فجمع كل واحد منهم القرآن بجمع استحسنه من دون رعاية الترتيب و على اختلاف في كيفية الضبط و ربما في القراءة في مثل:ملك أو مالك،أو مسكنهم و مساكنهم،أو كفوا أو كفؤا،أو الصراط و السراط،مما لا يعد اختلافا في عدد الآية و مادتها،و لما وصلت السلطة إلى عثمان جمع المصاحف و روج مصحفه من دون دلالة هذا العمل على الاختلاف في الآيات،و على ضوء الحافظة العمومية من العرب-مشركين كانوا أم مسلمين-و على حسب رغبتهم في الكلام الموزون و اقتضاء حصر ثقافتهم في الفن الأدبي حفظوا القرآن بأجمعهم بحيث لم يمكن لأحد إنكار بعض منه فضلا عن دعوى سقوط عشرة آلاف من الآيات القرآنية،اذ كيف تسمع هذه الدعوى مع أن هذا المقدار من الإسقاط- بمرأى و مسمع منهم-مستحيل عادة و نرى هذا الكلام من أي شخص كان كلاما باطلا غير معقول التحقق في الخارج،اذ كيف تسكت حافظة الناس بأجمعهم عن بيان تلك الكثرة الهائلة من الآيات التي زعموا حذفها و لا أقل من أن يبين أحد منهم عشر هذا المقدار أو ألف آية منه.

وهب أنهم كانوا في زمن عثمان خائفين من الإظهار،فهلا سكتوا في زمن مولانا علي بن أبي طالب(ع)،و لم لم يطالبوه حتى بقرآنه لو كان جامعه قرآنا أزيد من حيث الكمية من القرآن الموجود بين المسلمين-قرآن عثمان-، و أي مانع منع عليا(ع)من إظهاره أو من إعطائهم الحرية في إظهار ما حفظوه و إبراز ما في خزانة حافظتهم إلى الملأ؟!1.

ص: 142


1- سورة القمر،الآية:1.

و الظّاهر أن المراد من توفر الدّواعي على نقل القرآن و حفظه،مطلق الدّواعي حتى الشّاملة لما يرجع إلى حب الفن و الرّغبة في الاعتناء بالكلام الموزون،من قوم برعوا في الأدب و امتازوا بالفصاحة و البلاغة و إنشاء الخطب و الأشعار و القدرة على البيان و العلم بمحسنات الكلام و بدائعه و مزاياه،مضافا إلى كون القرآن كتابا دينيا للمسلمين و قانونا إلهيا لهم،فقياس تحريف القرآن بغسل الرجل بدلا عن مسحه أو بإنكار خلافة علي(ع)أو القول بأن الدواعي كانت متوفرة على حذف مناقب علي(ع)و أولاده و كذا إسقاط أسماء مخالفيه من القرآن،قياس باطل لأن القرآن ليس فقط كتاب عقيدة و أحكام بل هو كلام معجز في أسلوبه،حكيم في مبادئه،جدير بالحفظ و القراءة و الاستشهاد بمحكماته،و دليل على النظام العائلي و الاجتماعي و السياسي و ما شابه ذلك، فكان من المستحيل عادة حذف آيات كثيرة منه على غفلة من الناس الحافظين للقرآن الكريم أو سكوت منهم و عدم إبرازهم لها و لو بعد حين و إن كان عند أخلص أصدقائهم سرا.

وهب أن الجامعة كانت غافلة أو خائفة،فأين كان القراء تلامذة النبي(ص)و تلامذة تلامذته؟و كيف سكتوا عن سورة الأحزاب التي كانت أطول من سورة البقرة،حتى أسقط المسقطون هذا المقدار الكثير منها و لم ينبس أبي بن كعب و ابن مسعود و زيد بن ثابت و غيرهم ببنت شفة.

الثالث:قد تواتر في كتب الفريقين قول النّبي(ص):«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي» (1)،الخ..و هذا كلام يدل بالوجدان على أن القرآن الكريم في زمانه كان مجموعا مؤلفا،اذ كيف يعبر(ص)عن أوراق مبثوثة و آيات مبتورة غير موصولة بالكتاب،علاوة على ما ورد في الأخبار من الثواب على حفظ القرآن و ختمه و قراءة كل سورة من سور القرآن،الدّال كل..

ص: 143


1- بحار الأنوار:ج 23 باب فضائل أهل البيت(ع)...

ذلك على أن القرآن كان مؤلفا مجموعا كما أشار إلى ذلك الشيخ الصدوق(ره) و قد قلنا بأن المصاحف و إن كانت متعددة و كثيرة إلاّ أنها كانت متفقة من حيث الآيات عددا و موادا،و الاختلافات الّتي كانت فيها إنما هي محصورة في جملة من الموارد المعدودة في الإعراب أو الحروف،نظير:مسكنهم و مساكنهم، و ضنين و ظنين،و كفؤا و كفوا،و الصراط و السراط،و هذه الاختلافات لا تضر بوحدة القرآن من الناحية المجموعية الموافقة للحافظة العمومية التي يعاضد بعضها بعضا،فلقد أجاد السيد المرتضى(ره)حيث تمسك على عدم التحريف بوحدة القرآن تأليفا و جمعا و أنه لم يكن مبثوثا و مبعثرا في العديد من الأوراق، و زاد الشيخ الصدوق(ره)على مقاله ما أشرنا إليه آنفا من التمسك بالأخبار الواردة في ثواب ختم القرآن،أو قراءة سوره،و ظني أن القارئ في غنى عن الاطناب حول هذه المسألة،إلا أنّ عدم اعتناء بعض المتورعين بأقوال العلماء جمودا على كل ما يسمى خبرا و إن لم يكن موثوقا به،أو ما يتوهم كونه دالا مع عدم دلالته على مدعى القائل بالتحريف الزمني الأطناب.

و اعلم أن القائل بالزيادة في السنة و الشيعة نادر جدا،و القول بها مناف لكون القرآن معجزا في أسلوبه،و وقوع الزيادة خارجا مستحيل حسب محتوى القرآن العظيم.

و لذا نرى البحث عن بطلان الزّيادة توضيحا للواضع،و في الختام نقول:اللّهم ارزقنا شفاعة القرآن و العترة.

ص: 144

الأمر السادس

هل يجوز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد أم لا؟

قبل بيان الأقوال لا بدّ من بيان جهات ترجع إلى العموم و الخصوص أو بالأحرى إلى صيغ العموم و حقيقة التخصيص:

الأولى:اختلفوا في اختصاص العام بصيغة تخصه و لتحقيق هذه الجهة و هي أم الباب نقول بأن ما يتوهم كونه من ألفاظ العموم ثلاثة:

1-الألفاظ الموضوعة للمعاني الاسمية كالموصولات-من و ما و أي-بناء على كونه اسما،فذهب جمع كثير إلى كونها موضوعة للمعاني العامة، و التحقيق أن الموصولات و كذلك-أي-وضعت للمفاهيم المبهمة المجردة عن أي لحاظ في ناحية مفاهيمها من العموم و الخصوص و من الإخبارية و الإنشائية و غير ذلك،فكلمة-من-إنما وضعت لمفهوم اسمي مبهم،معرى عن كل قيد و خصوصية في عالم الوضع،و لكنها لما تأتي في دور الاستعمال تختلف أغراض المستعملين في استعمالها فتارة تستعمل في نفس مفهومها الوضعي، و حينذاك يكون قيدها في دور الاستعمال التجرد عن الخصوصيات،و إن شئت قلت البشرطلائية بمعنى اشتراط مفهومها بسلب جميع القيود و الخصوصيات،

ص: 145

كقولك-من-موصول يحتاج إلى الصلة،و أعني بذلك ما إذا تجردت الجملة عن قصد الاخبار و قصد الإنشاء معا و هو مورد التعليم و التّدريس،اذ الأمثلة النحوية كلها مجردة عن قصد الاخبار و قصد الإنشاء،و لذا يكون تقسيم الجمل الكلامية إلى الاخبارية و الإنشائية منزلا على الغالب و إلا ففيه مسامحة بينة، و أخرى تستعمل في مفهومها مع التطبيق على الخارج،و من البديهي أن الكلمة بمفهومها الوضعي لا تدل على التطبيق بل لا بدّ من ضميمة بها يفهم المطبق عليه لذلك المفهوم،و يعبر عن تلك الضميمة بالصلة لاتصالها بكلمة-من- الموصولة،و من المعلوم أن التطبيق على الخارج إنما هو بيد المتكلم بحسب ما للمفهوم من الاستعداد الذاتي للانطباق سعة و ضيقا،و كلمة-من-في مفهومها قابلة للانطباق على فرد أو أفراد،و كذلك الجملة التي فيها تلك الكلمة قابلة للانشائية و الاخبارية،فتتكثر الأقسام بلحاظ التطبيقات المتعددة:

الأول:أكرم من أكرمك،الجملة إنشائية،و هي عامة لعموم الصلة، فالمطبق عليه بالإرادة الجدية عام.

الثاني:أكرم من جاء بالأمس،الجملة إنشائية،و هي خاصة لأن الصلة عهد خاص فالمطبق عليه خاص.

الثالث:قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ (1)،الجملة خبرية،لعموم الصلة،فالمطبق عليه عام.

الرابع:رأيت من جاءك بالأمس،الجملة خبرية و الصلة خاصة بسبب العهد،فالمطبق عليه خاص،ثم ان المطبق عليه المعهود تارة خارجي و أخرى ذهني،كقولك:أكرم من في المدرسة،أو قتل من في العسكر،و في جميع تلك الأمثلة لم تستعمل كلمتي-من و ما-الموصولتين إلا في معناهما البسيط1.

ص: 146


1- سورة الجمعة،الآية:1.

الابهامي،و ليستا مشتركتين لفظيتين بين المعاني المقصودة من مفاهيمهما في الموارد المختلفة،و ذلك دليل على أنهما ليستا من ألفاظ العموم بالوضع اللغوي،كيف و قد يراد منهما الخاص من دون تجوز أصلا و قس عليهما غيرهما.

الثانية:أدوات العموم و هي-كل و أي-بناء على كونها حرفا أو ما يرادفهما من أيّة لغة،حيث يقال أنها وضعت للعموم،لكن التحقيق أن السعة و الضيق لموارد انطباقات تلك الأدوات لا ترتبطان بمفادها لأن المعنى الحرفي إنما يكون تعلقيا،و مقتضى التعلقية قصر اللحاظ على المتعلق من حيث العموم و الخصوص،و الشاهد على ذلك أن النحاة قد عدوا لكلمة-أي-معاني خمسة مع أن-أي-ليست مشتركة لفظية لتلك المعاني الخمسة فصيرورة-أي- موصولة و موصوفة و استفهامية بل و زائدة إنما هي ناشئة من موارد انطباقات-أي- من دون استعمالها إلا في معناها الابهامي القابل للتطبيق على تلك الموارد أو المعاني حسب تعبيرهم،و لذا يكون المستعمل فيه في:زيد شاعر أي شاعر، و في:أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي،و في:أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى،معنى واحدا،و كذلك الكلام في-كل-،فكلمة كل في قولك:

كل ما في الكون و هم أو أو خيال،مساوق في المعنى لقولك:كل ما في كيسي درهم،أو أكرم كل هؤلاء مع كونهم خمسة.

و ملخص الكلام أن-كل-و ما بمعناه سورة للقضايا و محيط بها،و من ناحية احاطته بمدخوله يقال أنه للعموم بمعنى الشمول لا الاستغراق و من حيث التطبيق لا الوضع.

قال العضدي في شرح المختصر للحاجبي:ذهب الشافعي و جميع المحققين إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة،و تحرير محل النزاع كما في الأمر و حاصله راجع إلى أن الصيغ المخصوصة التي سنذكرها هل هي للعموم أو لا؟،فقال الأكثر له صيغة هى حقيقة فيه،و قال قوم:الصيغة

ص: 147

حقيقة للخصوص،و هي في العموم مجاز،و قال الأشعري تارة بأنها مشتركة و تارة بالوقف،و قيل بالوقف في الأخبار دون الأمر و النهي،و قال القاضي بالوقف،أما على أنا لا ندري أوضع لها أم لا؟أو ندري أنه وضع لها و لا ندري أ حقيقة منفردا أو مشتركا أم مجازا؟،ثم الصيغة الموضوعة له عند المحققين هي هذه،فمنها أسماء الشرط و الاستفهام،نحو-و من و ما و مهما و أيما-و منها الموصولات نحو-من و ما و الذي-،و منها المجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد،و المجموع المضافة نحو:العلماء و علماء بغداد.

و منها اسم الجنس كذلك أي معرفة تعريف جنس أو مضافا،و منها النكرة في سياق النفي دون الإثبات،نحو:ما من رجل،لنا أن السيد إذا قال لعبده:

لا تقرب أحدا،فهم منه العموم حتى لو ضرب واحدا عد مخالفا،و التبادر دليل الحقيقة،فالنكرة في النفي للعموم حقيقة فللعموم صيغة،و أيضا لنا أن نقطع بأن العلماء لم يزالوا يستدلون بمثل:السارق و السارقة فاقطعوا،الزانية و الزاني فاجلدوا،إلى آخر ما قال و منه استدلاله بفهم أبي بكر و عمر و نحو ذلك.

الثالثة:الهيئات العارضة للصيغ ببركة كلمة-ال-التعريف،أو مع زيادة هيئة الجمع،أو إضافة الجنس أو المصدر إلى شيء ما،فيقال أن الجنس المحلى باللام للعموم،أو صيغة الجمع المحلي باللام للعموم،أو المصدر المضاف يفيد العموم،و التحقيق أن اللام إنما هو للتعريف،و المعرف تارة نفس مدلول المدخول و أخرى ما طبق عليه المدخول،و الثاني يكون تارة المعهود الذكرى و أخرى الخارجي و ثالثة الذهني،و في جميع تلك الموارد ليست كلمة-ال-الا مستعملة فيما لها من المفهوم اللغوي الموضوع لها اللفظ،و الخصوصيات المذكورة،بأجمعها تعرف بسبب التطبيقات،و ان شئت قلت القرائن الكلامية،و أما هيئة الجمع فهي موضوعة للجمع بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي و لذا صح أن يقال أن تلك الهيئة إنما هي موضوعة للجمع المصطلح عليه بالجمع المنطقي،و أعني به الأزيد من الواحد دون

ص: 148

الجمع الأصولي أو النحوي و هو الأزيد من اثنين.

و أما الاضافة فهي ربط بين المضاف و المضاف إليه،و من البديهي أن سعة المضاف و ضيقه تابعان لسعة المضاف إليه وضيقه،فلا فرق بين قولك:

نقد البلد و بين قولك:نقدي،من جهة المضاف و الإضافة،و إنما الفرق في المضاف إليه عموما و خصوصا،فتبين أنه لا صيغة للعام وضعا.

الثانية:اختلفوا في أن التخصيص هل هو مجاز في كلمة العام أم لا؟ و في أن العام المخصوص هل هو حجة في الباقي و إن كان مجازا لأنه أقرب المجازات إلى العام أم لا؟.

و بعد ما عرفت أنه لا صيغة للعموم و أن المراد التطبيقي إنما هو العموم المستفاد من إطلاق الكلام،فالتحقيق أن هذه الأبحاث سوالب لا موضوع لها،و توضيح ذلك أنّ من البديهي أن المدار في عالم تفهيم المقاصد على الألفاظ،و من البديهي أيضا أن للقرائن الكلامية و إن لم تكن لفظية دخلا في تفهيم المقاصد فتفهيمها ليس محصورا بالألفاظ الموضوعة لمعانيها،و على هذا فالكلام باعتبار الاختلاف في سنخ التفهيم يتنوع إلى أقسام خمسة:

الأول:ما يكون تفهيم المقصد بسبب اللفظ المستعمل في معناه الحقيقي،كقولك:ائتني بالماء،مريدا به الإتيان الخارجي للجسم السيال البارد بالطبع نعم ربما يطبق المعنى الحقيقي على فرد تنزيلي،كقولك للرجل الشجاع:هذا أسد،و هذا هو المجاز العقلي الّذي حققه السكاكي.

الثاني:ما يكون تفهيم المقصد بسبب اللفظ المستعمل في غير معناه الحقيقي كقولك:رأيت أسدا،مستعملا كلمة الأسد في غير الحيوان المفترس،و هذا هو المجاز في الكلمة.

الثالث:ما إذا كان المراد الجدي من لوازم أو ملزومات أو ملازمات ما استعمل اللفظ فيه إذا كان حقيقة،بل و إن كان مجازا و هذا هو الكناية فتقول:

ص: 149

زيد كثير الأحباب،مريدا بذلك أنه جواد أو حسن الخلق.

الرابع:ما إذا كان اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي و مرادا منه ذلك بالإرادة الجدية و لكن أسند إليه ما ليس له كقول الإمام السّجاد(ع)في دعاء أبي حمزة الثمالي:«و قد خفقت عند رأسي أجنحة الموت»،فأثبت للموت الجناح مع أنه للطائر،و الغرض نزول الموت على الآدمي بسرعة على غفلة منه،و هذه هي الاستعارة،و لها أقسام مذكورة في علم المعاني و البيان.

الخامس:ما إذا كان المراد الجدي معلوما بسبب المقام و هذا ما يسمى بقرينة الحال أو العقل،فترى أن هيئة-أفعل-إنما وضعت لمفهوم عام و هو البعث نحو المادة-مبدأ افعل-،إلا أن المراد الجدي للمتكلم بها إنما يفهم من الخارج،كالمولوية على أنواعها من الوجوب و الاستحباب و الإباحة و الترخيص و كالإرشادية و غيرهما،فإذا كان المتكلم بتلك الهيئة-أعني هيئة افعل-مولى افترضت طاعته و كان في مقام أعمال المولوية،يلزم العقل العمل على وفقها،و لذا قلنا في مبحث الأوامر بأن استفادة الوجوب من الصيغة إنما هي ببركة حكم العقل و ليس الوجوب مدلولا للصيغة،و فرعنا على ذلك أن قصد الوجوب وصفا و غاية غير معتبر في العبادات و ذلك لأنه مضافا إلى أن الوجوب ليس مدلولا للصيغة لم يدل دليل على اعتبار قيد المدلول في المأمور به جزءا أو شرطا و نظير استفادة الوجوب المولوي من المقام و هو مقام المولوية من دون تأثير لهيئة اللفظ فيه استفادة العموم و الاطلاق من ألفاظهما،اذ قد عرفت بأن العموم ليس من مقومات مدلول أي لفظ كان في أيّة لغة،فيكون استناد فهم العموم إلى المقام،و بيان ذلك أنه إذا قال المولى:أكرم العلماء،و لم يقيد- العلماء-بقيد من غاية أو وصف أو استثناء و لم يأت بمخصص متصل أو منفصل،فالمقام يقتضي العموم،بتقريب أن لفظة العلماء بما لها من الهيئة و المادة لها مفهوم قابل للانطباق على كل فرد من العلماء،و هذا هو المراد من السريان الطبعي للمفهوم،دون أن يكون المفهوم متقوما في وعاء الوضع

ص: 150

اللغوي بالسريان و الشمول،و بعد ثبوت السريان الطبعي لمفهوم هذه الكلمة إذا أتى بها المتكلم الّذي يتكلم على مقتضى قوانين المحاورة و لم يقيد الكلام بقوله:إلى أن يفسقوا أو العدول أو إلا الفساق منهم أو لا تكرم الفساق منهم، فلا بد عليه أن يريد من قوله:أكرم العلماء،كل عالم،ثم إن قيد المجموعية أو البدلية أيضا خارج عن صميم ذات المفهوم،فإذا كان غرضه اشتراط إكرام كل واحد منهم بالآخر،لزم عليه أن يقيد الكلام بكلمة-بشرط الاجتماع-و كذا لو كان غرضه إكرام كل واحد بدلا عن الآخر،لزمه أيضا التقييد بقوله:أكرم العالم أي عالم كان،فالمقام هو الذي يتكفل لإفهام العموم أو الاستغراق، و حينذاك يكون تقسيم العام إلى الاستراقي و المجموعي و البدلي صحيحا باعتبار المعنى المقصود من الكلام،لا لأنها مدلولات للصيغة.

فتلخص أن أصالة العموم و أصالة الإطلاق إنما هما أصلان مقاميان، و القول بأنهما أصلان لفظيان،نشأ من توهم وضع صيغ للعموم،و إن صح هذا التعبير بلحاظ أنه لو لم يكن اللفظ مجردا عن القيد لم يفهم العموم،فالعموم مستند إلى اللفظ لا محالة و مهما كان الأمر يكون العموم مستفادا من المقام لا اللفظ،فالتخصيص لا يوجب التصرف في اللفظ بأن يصرفه عن مدلوله اللغوي حتى يكون مجازا،و يتفرع على هذا أيضا أن العام حجة في الباقي لا من جهة أنه مستعمل فيما وضع له بتقريب أن الباقي أيضا عام،بل لما عرفت من أن العموم ليس جزءا لمدلول الصيغة،فالمفهوم قابل للتطبيق على الباقي،لكونه بعد التخصيص محفوظ الاقتضاء بالنسبة إلى البقية،فبحكم قانون المحاورة لا بدّ أن يكون مرادا للمتكلم بالارادة الجدية.

الثالثة:هل التخصيص تصرف في اللفظ أو في المقام؟ بعد ما تبيّن أن أصالة العموم إنما هي أصل مقامي في المحاورات و الأخذ بها أخذ بما استقرت عليه طريقة العرف في باب تفهيم المقاصد،نقول:أن المتكلم له أن يبين موضوع خبره أو إنشائه بألفاظ متعددة إذا كان هذا الموضوع

ص: 151

في الواقع و على وفق غرضه مقيدا لا مطلقا،فله أن يأمر عبده:ائتني بماء حار في مورد تعلق غرضه بالماء إذا كان حارا،و بقوله:ائتني بماء حار حلو،في مورد تعلق غرضه بالماء إذا كان حارا و حلوا معا،و هكذا...،و نتيجة ذلك أنه إذا كان في مقام بيان تمام مطلوبه و لم يقيده كان للمخاطب أن يأخذ بإطلاق كلامه في عالم الامتثال،و لكن يبقى للمتكلم حق التصرف في كلامه بأن يقيده و لو بعد حين،ما لم يتأخر البيان عن وقت الحاجة إلا إذا منعه مانع عن ذلك أو عرضت له مصلحة في التأخير،و إذا صدر منه البيان لم يكن ذلك تصرفا لفظيا في كلامه السابق،بل هو تصرف في مقام البيان،و ذلك لأن التقييد ليس إلا ضم لفظ له مدلول إلى لفظ له مدلول آخر،فالماء له مدلول و الحار له مدلول آخر،و ضم الأخير إلى الأول ليس إلا ضم مدلول إلى مدلول آخر اقتضى ذلك ضيق دائرة المطلوب و لما عرفت أن السريان في ألفاظ العموم ليس قيدا لمداليلها وضعا،فقد عرفت أن التخصيص ليس تصرفا لفظيا في العام،بل هو إما ضم وصف إليه في نحو:أكرم العلماء العدول،و إما جعل غاية للحكم في نحو:أكرم العلماء إلى أن يفسقوا،و أما بيان خروج نوع في نحو:أكرم العلماء الا الفساق منهم،و أما منع عن سريان الحكم إلى نوع في نحو:أكرم العلماء و لا تكرم فساقهم،المستلزم لقصر الحكم على من عداهم،من غير استلزام للتصرف اللفظي في العام بأن يكون العام بلفظه منقلبا عن اطلاقه إلى التقييد بنقيض الخاص كما توهم البعض فلنا أن نقول بأن الخاص حاكم مقامي بالنسبة إلى العام.إذن الحكومات المتصورة من دليل على آخر تكون على أقسام.

1-الحكومة اللفظية،و هي حكومة القرينة على ذي القرينة الدالة على المجاز في اللفظ.

2-الحكومة التعميمية،و هي حكومة دليل على آخر بازدياد فرد أو نوع له،و هذه الحكومة ليست تصرفا في اللفظ،لأن ازدياد الفرد أو النوع حكومة

ص: 152

في المدلول لا الدال،كما إذا دل دليل على حرمة شرب المسكر و دل دليل آخر على أن الفقاع خمر.

3-الحكومة التخصيصية،كما إذا دل دليل على لزوم البناء على الأكثر في الشك بين الأقل و الأكثر،و دل دليل آخر على أنه لا شك لكثير الشك، و هذه أيضا ليست تصرفا في لفظ الدليل الأول،بل بيان لمورد تطبيقه بالإرادة الجدية و أن موضوع الحكم بالبناء على الأكثر ليس مطلق الشكوك بل الشك الّذي صدر ممن ليس بكثير الشك،و كذلك الحال في التخصيص،فلو جاء دليل على وجوب إكرام العلماء و جاء دليل آخر على إخراج الفساق من دائرة الموضوع و هو العلماء كان ذلك تصرفا في المقام لا اللفظ،لما عرفت بأن صيغة الجمع المحلي باللام،لم تكن موضوعة للاستغراق،بل الاستغراق إنما هو في رتبة تطبيق المتكلم مفهوم الصيغة على جميع ما صح تطبيق الصيغة في الخارج عليه،فإذا خرج الفساق من العلماء في المثال المذكور علم أنه لم يطبق المتكلم الصيغة المذكورة على الفساق فلم يكن الفساق من أول الأمر مرادا له في جعل الحكم بالارادة الجدية،و لذا قالوا أن الإخراج صوري و إلا فالمخرج كان من أول الأمر-و في عالم الثبوت-خارجا عن الحكم،و الشاهد الآخر استقرار رأي المتأخرين على أن العام بعد التخصيص ليس مجازا في الباقي،وليتهم تفطنوا بأن ذلك علامة لعدم كون العام موضوعا للعموم اذ لو كان العموم جزء المدلول العام لكان التخصيص مستلزما للتجاوز عن الوضع قهرا و هو المجاز قطعا.

4-الحكومة التفسيرية،و هي دلالة دليل على المراد من الدليل الآخر، و تنقسم إلى قسمين:حكومة غير لفظية و يعبر عنها بالحكومة البيانية للموضوع،كما إذا ورد:عورة المؤمن على المؤمن حرام،ثم جاء الدليل بأن المراد سر المؤمن لا شيء آخر،و حكومة لفظية و يعبر عنها بالحكومة البيانية للمفهوم كورود دليل مبين بعد ورود دليل مجمل،مثل ما إذا ورد بأنه يجب

ص: 153

عليك انفاق شيء ثم ورد دليل آخر على أن الشيء درهم مثلا،و هذه الحكومة لفظية باعتبار أنها تصرف في اللفظ ببيان ما أريد منه.

و الخلاصة أن حكومة الخاص على العام،إنما هي بيان لما أراده المتكلم من العام بالإرادة الجدية و ليست حكومة على العام بالإرادة الاستعمالية،إذ أنّ لفظ العام مستعمل في معناه الوضعي و باق على عمومه القهري و سريانه الطبعي،خصص بخاص أو أكثر،و على هذا فمعنى تخصيص الكتاب بخبر الواحد بيان المعصوم(ع)بأن مراد اللّه تعالى من العام ما عدا الخاص الذي أخبر العادل بذلك و إنما قيدنا البيان في تخصيص الكتاب ببيان المعصوم(ع)،لأننا نحن الشيعة نعتقد بأن علم الكتاب عند العترة، و المسلمين قاطبة-إلا من شذ منهم-يعترفون بأن النبي(ص)قال:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي» (1)،و لازم ذلك أن يكون العترة هم العالمين بالكتاب و قد سبق منا تحقيق أنهم هم الراسخون في العلم،بقي الكلام في اشتراط تعدد الناقل أو كفاية الواحد في نقل تخصيص الكتاب،و المختار هو الأخير بشرط أن يكون ثقة إذ لا اعتبار بخبر غير الثقة،فقد يتوهم أن الخبر الواحد ظني،فلا اعتبار به في تخصيص الكتاب و لكنه مدفوع بأن حجية الخبر الواحد عقلائية لا تعبدية،و المدار في الحجية لدى العقلاء الوثوق بالصدور و عدم تعامل الظن غير المعتبر مع خبر الثقة،و الإشكال بأن الكتاب قطعي الصدور و لا يخصص القطعي بالظني،فموهون،لأن قطعية صدور القرآن لا تنافي أخبار المعصوم(ع)بالمراد التطبيقي لعموماته،فحال تخصيص عمومات القرآن يكون كحال تقييد مطلقاته و كما يجوز تقييد مطلقات القرآن بخبر الواحد الموثوق به يجوز تخصيص عموماته به.

و لنذكر الأقوال في المسألة،فنقول:..

ص: 154


1- بحار الأنوار:ج 23 باب فضائل أهل البيت(ع)...

1-قال العضدي في شرح المختصر للحاجبي:يجوز تخصيص القرآن بالخبر المتواتر،و أما الخبر الواحد فالحق جوازه،و به قال الأئمة الأربعة، و قال ابن أبان:إنما يجوز إن كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلا كان أو منفصلا،و قال الكرخي:إنما يجوز إن كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل،سواء كان قاطعا أو ظنيا،و القاضي أبو بكر يقول بالوقف بمعنى لا أدري أ يجوز أم لا؟.

لنا:أن الصحابة خصوا القرآن بخبر الواحد من غير نكير،فكان إجماعا منهم،إلى آخر ما قال...

2-قال السيد عميد الدين في شرح التهذيب للعلامة الحلي:اختلفوا في جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،فقال به الفقهاء الأربع مطلقا،و منعه السيد المرتضى(ره)و جماعة مطلقا،و قال عيسى بن أبان:إن كان قد خص قبل ذلك بدليل قطعي جاز و إلا فلا،و قال الكرخي:إن كان قد خص بدليل منفصل جاز و إلا فلا،و توقف القاضي أبو بكر.

لنا وجهان:

الأول:إن عموم الكتاب و خبر الواحد دليلان متعارضان و خبر الواحد أخص،و متى كان كذلك وجب العمل بالخبر مطلقا و بالعام فيما عدا صورة التخصيص أما الأول فلأننا نتكلم على تقديره (1).

و أما الثاني:فلأنه لولاه للزم اما إبطال الدليلين مطلقا أو اعمالهما مطلقا،أو اعمال أحدهما مطلقا و إهمال الآخر كذلك،و الكل محال.

أما الأول:فلما فيه من إبطال الدليل الخالي عن المعارض و ذلك منب.

ص: 155


1- يعني كون خبر الواحد دليلا كعموم الكتاب.

وجهين:أحدهما أن ما عدا الخاص من جزئيات العام لا معارض له لعدم تناول دليل الخاص إياه،و ثانيهما أن إبطالهما معا ملزوم لإبطال كل منهما،فيبقى الآخر بلا معارض.

و أما الثاني:فلاستلزامه ستلزامه التناقض في صورة مدلول الخاص.

و أما الثالث:فلاستلزامه إبطال الدليل الخالي عن المعارض إن كان المعمول به الخاص و الملقى العام،أو تقديم المرجوح على الراجح إن كان بالعكس،لأن دلالة الخاص على محله أرجح من دلالة العام عليه.

الثاني:إن تخصيص خبر الواحد للكتاب واقع فيكون جائزا،ثم تمسك(ره)ببعض موارد تخصيص الكتاب لكنه قال إن التخصيص واقع إلا أن كون المخصص هو الخبر الواحد،فغير معلوم.

3-قال الشيخ الطوسي(ره)في عدة الأصول ما ملخصه:إن أكثر الفقهاء و المتكلمين على جواز تخصيص العموم بالأخبار،و الظاهر من الشافعي و أصحابه و أبي الحسين ذلك،و أجاز عيسى بن أبان إذا خص لأنه صار مجملا و مجازا،و ذهب البعض إلى الجواز إذا خص بالمنفصل لصيرورته مجازا حينذاك دون ما إذا خص بالمتصل لعدم صيرورته مجازا.

ثم قال:و الّذي أذهب إليه أنه لا يجوز مطلقا،و استدل على ذلك بأن عموم القرآن يوجب العلم و خبر الواحد غلبة الظن،و لا يجوز أن يترك العلم للظن على حال فوجب أن لا يخص العموم به،-إلى أن قال-:ليس ما دل على وجوب العمل بها-يعني الأخبار الآحاد-يدل على جواز التخصيص، كما أن ما دل على وجوب العمل بها لا يدل على وجوب النسخ بها،بل احتاج ذلك إلى دليل غير ذلك،فكذلك التخصيص فلا فرق بينهما-إلى أن قال-:إن قيل:النسخ الّذي ذكرتموه قد كان يجوز أن يقع بخبر الواحد،إلا أنه منع الإجماع منه فبقي كونه دليلا في ما عداه،إلى أن قال:ما دل على

ص: 156

عمل الطائفة المحقة بهذه الأخبار من إجماعهم على ذلك لم يدل على العمل بما يخص القرآن،ثم قال بعد أسطر.لا نسلم أن الطائفة عملت بأخبار آحاد يقتضي تخصيص القرآن و على من ادعى ذلك أن يبينه،-إلى أن قال-:ورد عنهم ما لا خلاف فيه من قولهم:إذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فإن وافق كتاب اللّه فخذوه و إن خالفه فردوه أو فاضربوا به عرض الحائط، و يظهر من مجموع كلمات الشيخ(ره)أن للقائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد أدلة أربعة:

الأول:إن عموم الكتاب يوجب العلم و اليقين،و خبر الواحد لا يوجب إلا الظن و لا يجوز عقلا أن يترك العلم بالظن.

و فيه أولا:إن عموم العام لا يوجب العلم خصوصا بعد ما قلنا من أن العام ليس موضوعا للعموم،لأن أصالة العموم أصل عقلائي محاوري مقامي، بمعنى أن مقتضى المحاورة الأخذ بالعموم،و ذلك لأن مفهوم العام قابل للانطباق على كل ما يصدق عليه هذا المفهوم،فعلى المتكلم تطبيقه على كل مصاديقه بالإرادة الجدية،و أما بعد ورود بيان المراد الجدي بلسان التخصيص أو الغاية أو الاستثناء أو النهي عن نوع من أنواع العام،يظهر بأن العام ليس مرادا جديا للمتكلم،و على هذا فعموم العام لا يكون قطعيا،نعم،الظاهر المقامي هو العموم و لذا نتمسك بأصالة العموم،و قد عرفت أننا لا نقول أنها أصالة لفظية بل مقامية و إن أمكن استنادها إلى اللفظ بسبب سريان المفهوم طبعا و لا وضعا.

و ثانيا:إن قوله:خبر الواحد لا يوجب إلا الظن فمردود بأن خبر الواحد و إن لم يوجب العلم الوجداني إلا أن احتمال الخلاف الموجود فيه إنما هو بمثابة من الضعف،بحيث لا يعتني به العقلاء حسب فطرتهم العقلائية التي بنوا عليها جميع شئونهم الحياتية،و هل من المعقول أن يقال بعدم حجية خبر

ص: 157

الموثوق به لكونه واحدا أو لأنه لا يوجب القطع و اليقين و المعاملة معه معاملة الظنون غير المعتبرة الحاصلة من الرؤيا أو الرمل أو نحوهما،كلا.

هذا على المختار من عدم جعل الطريق تعبدا،و أما القائل بحجية خبر الواحد تعبدا كالشيخ نفسه فعليه أن يعامل معه معاملة العلم من حيث ترتيب الأثر،و قد أطنب هو(ره)في كتاب-العدة-في تحقيق ذلك،و إذا كان خبر الواحد حجة أي محرزا لمتنه عرفا أو شرعا أو هما معا في غير مورد تخصيص الكتاب فليكن كذلك فيه أيضا لوحدة الدليل و عدم قابلية المسألة الأصولية للتخصيص،بمعنى تبعيض الحجية بالنسبة إلى تخصيص الكتاب به أو إثبات حكم منه.

فالقائل بحجية الخبر تعبدا إما أن يقول بقول الشّيخ الأنصاري(ره)بأن مفاد التعبد،ألقى احتمال الخلاف،و أما أن يقول بأن مفاده جعل الظن تعبدا، مصداقا للعلم،و أما أن يقول بأن مفاده تنزيل المؤدي منزلة الواقع،أو أن مفاده إيصال الواقع في رتبة العمل و على كل الأقوال تكون النتيجة واحدة و هي لزوم الأخر بمؤدى الخبر،و إن كنا في فسحة عن جميع هذه الاحتمالات لبنائنا على أن احتمال الخلاف في خبر الموثوق به مغفول عنه عرفا غير معتنى به قطعا و ان كان في قرار النفس موجودا تمكن إثارته بالتشكيك و الوسواس و لكن لا يعتني به،و لذا يسمى الخبر الموثوق به بالعلم العادي أو الظن الاطمئناني أو العلم النظامي أو يقال بأن العلم هو سكون النفس و هو حاصل من خبر الموثوق به، فتلخص أن عموم العام ليس قطعيا و خبر الواحد ليس ظنيا بحيث لا يمكن الاعتماد عليه في بيان المراد من عمومات الكتاب.

و قال الخراساني(قده):إن الدوران بين أصالة العموم للكتاب و السند في الخبر و كلاهما ظنيان،و حينئذ يكون الخبر بسنده و دلالته قرينة على التصرف في عموم العام و لا عكس لأن جعل أصالة العموم موجبة للتصرف في

ص: 158

الخبر،مقتضاه إلغاء الخبر بالمرة لأن المفروض أن الخبر خاص و الكتاب عام،فكيف يعقل أن يؤخذ بعموم الكتاب و يترك الخبر؟.

و فيه أنه لا دوران بين أصالة العموم الكتابي و سند الخبر،إذا المخالفة إنما هي في مدلول الخبر لا في نفس الخبر،لأنه لو لم يكن مضمون الخبر متضمنا للتخصيص و مخالفا لعموم العام بالعموم و الخصوص لم يكن موجبا لهذا النزاع،فالدوران إنما هو بين الخبر الدال على التخصيص و عموم العام،و لذا يلتزم القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بحجيته ما لم يكن مخالفا للكتاب،فالجواب الصحيح أن الخاص حاكم على العام بالحكومة المقامية و مبين لمراد المتكلم الجدي من العام،و بذلك يظهر ما في كلام السيد عميد الدين شارح-التهذيب-من الترديد و الدوران الذي ذكره،و أن الصحيح ما ذكرنا.

الثاني:أنه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،لجاز نسخ الكتاب به و لا إشكال عند القوم بأنه لا يجوز،فكذلك لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد،و فيه أن موارد النسخ محددة و معينة في الشرع و جميع تلك الموارد ثابتة بالكتاب،فلا يكون شيء من الأحكام القرآنية إلا و قد علم ناسخها و منسوخها، فلم يبق مورد للنسخ حتى يتكفله الخبر الواحد،فلا نقول بأنه لا يمكن أن يكون الناسخ موجودا عند أهل البيت(ع)كما سنشير إليه إن شاء اللّه في مسألة النسخ،و لا نقول بأنه لا يمكن بيانه من قبلهم بعد حين و لا نقول أيضا بأنه لا يمكن أن يخبرنا بالنسخ العادل الثقة،كيف و نحن نقول أن العلم بالأحكام الشرعية إنما هو من مختصات النبي(ص)و أوصيائه(ع)فمقتضى حجية الخبر الموثوق به كونه محرزا لمؤداه و إن كان ناسخا أو مخصصا إلا أنه لا مجال لهذا القول لعدم وجود ناسخ يتكفله الخبر.

و أجاب الخراساني(ره)بأن الإجماع منعقد على عدم جواز نسخ الكتاب

ص: 159

بخبر الواحد،و يرد عليه ما تفطن إليه الشيخ الطوسي(ره)في العدة،من أن الخبر دليل شرعي لا عموم يخص بعضه و يبقى منه بعض،و مراده من ذلك أن دليلية الدليل عبارة عن كونه حجة و وسطا في الإثبات و لا يفرق حينئذ في مؤداه بين ما إذا كان خاصا أو ناسخا،اذ طريقية الخبر لا ترتبط بمتنه،و بعبارة أخرى المسألة الأصولية غير قابلة للتخصيص،نعم المسألة الفرعية قابلة له و المقام ليس منها.

و قد سبق أن قال الشيخ الطوسي لم يظهر من إجماع الطائفة العمل بخبر الواحد،و يرد عليه أخذا باعترافه بعدم جواز التبعيض في الحجية،أن الحجية لا تتبعض،فلا فرق بين كون الخبر مخصصا لعموم القرآن أو مقيدا لمطلقه أو مفسرا له.

الثالث:إن دليل حجية خبر الواحد إجماع الطائفة المحقة على العمل بأخبار الآحاد،لكنه لم يدل على العمل بما يخص الكتاب لأننا لا نسلم اتفاقهم على العمل بالخبر،إذا كان مخصصا له.

و أجاب الخراساني بأن دليل حجية الخبر الواحد ليس منحصرا بالاجماع و لقد أجاد في ما أفاد،إلا أن التحقيق ما حققنا في الأمر الأول من أنه لا تعبد من الشارع في باب الطرق،و أن الأخبار أيضا تدل على أن حجية الخبر أمر عقلائي،بشهادة تعليل الإرجاع إلى الراوي،بكونه ثقة مأمونا على الدين و الدنيا و نحو ذلك مما مرّ،نعم،حدد الشارع في بعض الموارد موضوع حكمه بما إذا ثبت بقول عدلين أو أربعة عدول اهتماما بالواقع و ذلك من باب تقييد الأحكام،لا تبعيض الحجية في باب كباب القضاء و إثبات الهلال و ثبوت الزنا،دون باب آخر كغير تلك الأبواب مما هو مذكور في الفقه.

الرابع:الروايات الواردة في عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب، و طرح ما يخالفه من تلك الأخبار،و لعل نظر الشيخ إلى هذه الروايات و هي و ان

ص: 160

اختلفت من حيث التعبير،ففي بعضها:لم أقله،و في بعضها:ردوه،و في ثالث:اضربوه عرض الجدار،إلا أنها متوافقة من حيث الجامع،فروايات عرض الأخبار على الكتاب و طرح ما يخالفه دالة بنظر الشيخ(ره)على عدم جواز الأخذ بما يخالف الكتاب عموما و خصوصا.

و على هذا،يرد عليه أن الخاص مبين للمراد من العام و حاكم على مقام البيان،لأن السكوت عن بيان الخاص،كان موضوعا للأخذ بالعموم،و بورود الخاص تبدل السكوت بالبيان و ارتفع الظهور و لم يبق مجال لتوهم العموم في لب الإرادة فأين المخالفة و كيف يمكن القول بشمول أخبار العرض للمخصصات؟.

و للخراساني(ره)جوابان:

أحدهما:أنه من كثرة ورود التخصيصات نقول بانصراف الأخبار المانعة عن قبول ما يخالف القرآن عن مورد التخصيص،و يرد عليه ما قاله الشيخ الطوسي(ره)من إنكار كون التخصيصات واردة من طرق الآحاد،و الإنصاف وجود التخصيص في الآحاد.

ثانيهما:حمل الأخبار المانعة عن الأخذ بما يخالف القرآن على ما يخالفه ثبوتا و من الجائز أن لا يكون الخاص مخالفا في الواقع مع العام،و يرد عليه أن الظاهر من تلك الأخبار طرح ما يخالف القرآن في مرحلة الإثبات،أي ما يكون في الظاهر مخالفا للقرآن.

و الصحيح ما قلنا من أن الخاص بيان،و البيان حاكم على ذي البيان و هو العام و هادم للسكوت المستلزم للعموم.

ص: 161

ص: 162

الأمر السابع: هل يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد أم لا؟

اشارة

و قبل بيان الحق في المقام،لزمنا التصريح بأنه ليس لهذا البحث ثمرة فقهية لأن الأحكام الشرعية بما لها من العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ قد وصلت إلينا من طرق أهل البيت صلوات اللّه عليهم أجمعين و لم يوجد فيما بأيدينا من الأخبار خبر واحد يتضمن نسخ الكتاب،و بعد عدم وجود مصداق للخبر الواحد الناسخ للكتاب يكون البحث عن جواز نسخه بالخبر الواحد لغوا من الجهة الفقهية.

فالبحث إما كلامي،إن نظرنا إلى بعض أدلة المانعين من أن الحسن حسن دائما و القبيح قبيح دائما،و أما أصولي،إن نظرنا إلى احتجاج المانعين بأن القرآن قطعي و خبر الواحد ظني و لا يعارض الظني القطعي.

و كيف كان فقد أطال علماء الإسلام في البحث عن النسخ،و نحن نقتفي آثارهم في الجملة.

قد وقع الخلاف في جواز نسخ الكتاب عقلا و سمعا،و قبل الدخول في صميم البحث نقول:النسخ لغة عبارة عن الإزالة و الإبطال و الإعدام،تقول:

ص: 163

نسخت الشمس الظل،يعني أزالته،و تقول:نسخت الريح آثار القدم،يعني أزالتها،و يراد من النسخ أيضا النقل و التحويل،تقول:نسخت الكتاب أي نقلت كل ما فيه-و تطبيق النقل على كتابة المثل مجاز عقلي-،و نسخت النحل من خلية إلى أخرى يعني حولتها من مكان إلى آخر،و بهذا المعنى يطلق النسخ على انتقال الإرث من وارث إلى آخر لموت بعض الورثة قبل تقسيم الميراث و يعبر عن ذلك بالمناسخات،و بهذا المعنى أيضا يقال تناسخ الأرواح،يعني نقل الروح و تحويلها من بدن إلى آخر.

و اختلف اللغويون في أن المعنى الحقيقي للنسخ هل هو الإزالة،كما عن الجوهري و المطرزي و الفيروزآبادي إن أول المعاني الإزالة،أو هو النقل و مجاز في الإزالة كما عن القفال و ابن فارس و فيومي صاحب مصباح المنير،أو هو مشترك لفظا بين المعنيين،كما عن الغزالي و القاضي أبي بكر،أو هو مشترك معنوي بينهما كما عن الآمدي الميل إليه،حيث قال إن الاشتراك أشبه،إن لم يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدل صفة وجودية،ثم إنه توقف جماعة في ما وضع له النسخ لغة،و المشهور أنه الإزالة،و تبعهم على ذلك العلامة و أبو الحسن البصري.

و التحقيق:أما من حيث الحكم فالمدار في باب الأخذ بمراد المتكلم هو الظهور العرفي سواء كان مستندا إلى الوضع أو كان مستندا إلى القرائن الكلامية،و أما من حيث الموضوع له النسخ فلا بد و أن يقال بأن الجامع القريب بين الإزالة و النقل موجود،و هو فراغ المحل عن الشاغل الوجودي،فإن لم يكن في موارد فهم النقل من الكلام خصوصية أشغال المنقول لمحل آخر بعد فراغه للمحل الأول،كان النسخ مشتركا معنويا له مفهوم عام قابل للانطباق على الإزالة و النقل،و صح ما قاله الآمدي في قوله:الاشتراك أشبه،و إلا فالحق مع المشهور أنه للإزالة و ذلك للتبادر المستند إلى صميم اللفظ دون القرائن.

ص: 164

ثم اعلم أن نسخ الكتاب-بمعنى كتابه مماثل لكتاب-مجاز لفظي و مجاز عقلي معا،و ذلك لأنه قد استعمل النسخ أولا في النقل،و هذا مجاز في الكلمة،و طبق النقل على إيجاد المماثل للمكتوب و هذا مجاز عقلي،و كيف كان فلا ثمرة عملية لمثل تلك التدقيقات لما عرفت من أن المدار في تفهيم المقاصد على الظهورات في المتفاهم العرفي،نعم في مورد فقدان أيّة قرينة متصورة في المقام إذا سلمنا بقاعدة-الأصل في الاستعمال الحقيقة-يثمر البحث عن تشخيص الحقيقة من المجاز،و لكن الصغرى نادرة جدا و الكبرى غير مسلمة،هذا بحسب اللغة.

و أما اصطلاحا فقد عرف النسخ بتعاريف عديدة مذكورة أغلبها في شرح العضدي للمختصر الحاجبي.

1-قال الفخر الرازي،هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.

2-و قال الغزالي هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

3-و قال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تراخيه عن مورده.

4-و قال المعتزلة هو اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتا.

و لم يرتض بها جل العلماء،و قد عرفه العلامة و الشيخ البهائي و الحاجبي و جماعة برفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر،و لما كان الغرض من التعريف المذكور هو المعرفة بالنسخ بمقدار الحاجة،لم نر فائدة في البحث عن طرده و عكسه،فهنا مطالب:

ص: 165

المطلب الأول:هل يجوز نسخ شريعة بتشريع شريعة أخرى أم لا؟

الحق أنه نعم يجوز،و خالف اليهود في ذلك و قالوا أن شريعة موسى(ع) خالدة غير منسوخة،و لا ينبغي الشك في أنهم لا يقولون بالاستحالة العقلية، كيف و هي تستلزم القول بعدم مشروعية دين موسى الناسخ للأديان السابقة له، و إنما ذهبوا إلى ذلك افتراء على موسى بأنه قال:شريعتي مؤبّدة،إذ العكس صحيح و مأثور عنه و هو البشارة بنبوة نبينا محمد(ص)كما في التوراة و إنجيل برنابا من بشارة عيسى(ع)أيضا بمجيء نبي من بعده اسمه أحمد(ص).

و التحقيق في باب نسخ الأديان أن الأديان عبارة عن مدارس تربوية تدريجية بحيث تكون كل مدرسة مكملة للأخرى إلى أن وصل الدور إلى آخر مدرسة إلهية صح في موردها نزول قول اللّه العظيم: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1)،و على هذا فيكون كل نبي مكملا و متمما لما أتى به النبي السابق.

و يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (2)،و قوله تعالى: وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (3)،و قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (4)،و هذه الآيات تدل على أن الشريعة اللاحقة ليست مزيلة للشريعة السابقة على نحو الإطلاق بل مكملة لها،و لذا نحن نؤمن بأنبياء اللّه و كتبه و رسله،قال اللّه تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ (5).

ص: 166


1- سورة المائدة،الآية:3.
2- سورة الشورى،الآية:13.
3- سورة البينة،الآية:5.
4- سورة البقرة،الآية:135.
5- سورة البقرة،الآية:285.

بل لا يعقل نسخ جملة من الأحكام كوجوب الاعتقاد بالمعارف الإلهية الحقة و وجوب العدل و حرمة الظلم.

نعم نسخت بعض الأحكام و إلا فجميع الأديان مشتركة في التوحيد و النبوة و المعاد،بل الإمامة،لأنه كان لكل نبي وصي،فالشرائع إنما هي مدارس إلهية تكاملية إلا بالنسبة إلى جملة من الأحكام التي كانت ذات مصالح زمنية و كانت في أغلبها مشقة اقتضت المصلحة تحميلها على بعض الأمم،و يدل على ذلك قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (1)،الآية..

و بالجملة،نسخ الأديان بالمعنى الّذي قلنا من مجيء الشرائع كل تلو الأخرى أمر بديهي ضروري تاريخيا لا مجال لإنكاره،فاليهود مجازفون في هذه الدعوى التي تكذبها حتى توراتهم المحرفة و قد سمعت أن عيسى(ع)قد بشر بمجيء نبينا(ص)،و قال اللّه تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (2)و ناهيك على ذلك معرفة الأحبار بنبوة نبينا(ص)و علم الرهبان بسماته و صفاته.

المطلب الثاني:في الاستدلال على امتناع النسخ في الأحكام عقلا و الجواب

عنه:

يمكن أن يستدل على امتناع النسخ بأمرين:

1-الشيء لا يخلو اما أن يكون ذا مصلحة يؤمر به لأجلها أم لا،فإن كان ذا مصلحة وجب عقلا أن يؤمر به كل مكلف في كل زمان على مذهب العدلية و الإمامية القائلين بالتحسين و التقبيح العقليين،و إن لم يكن ذا مصلحة وجب

ص: 167


1- سورة البقرة،الآية:286.
2- سورة الصف،الآية:6.

ألا يؤمر به فضلا عما إذا كان فيه مفسدة إذ وجب أن ينهى عنه،و من المعلوم أن النسخ عبارة عن إزالة الحكم عن الوعاء المناسب له و هو وعاء التشريع،فإذا أمر الشارع بشيء في زمان لا يمكن أن ينهى عنه في زمان آخر.

و الجواب عن هذا الدليل أن الأفعال من حيث الحسن و القبح على نحوين:

الأول:ما يكون حسنا أو قبيحا في جميع الأزمنة و الأمكنة،و لكل شخص و في كل حال،نظير الاعتقاد قلبا بالمعارف الإلهية الحقة لأنه حسن و عدل في عالم العبودية و موافق للبراهين العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص و الاستثناء،لأن قاعدة نشوء المعلول عن العلة و احتياج الممكن المسبوق بالعدم إلى الواجب الموجد له،لا تختص بشخص دون شخص و زمان دون زمان آخر و حالة دون أخرى،و حينذاك يحكم العقل بوجوب عقد القلب بالواجب الخالق للممكنات و يحكم بقبح الجحد به تعالى و تقدس.

الثاني:ما يكون بحسب طبعه الأولى حسنا أو قبيحا و لكن ربما يطرأ عليه عنوان ينقلب به عما كان عليه من الحسن أو القبح،و لذا قالوا بأن حسن الأفعال و قبحها كما يكون بالذات يكون أيضا بالوجوه و الاعتبارات،و قالوا بأن ضرب اليتيم من هذا القسم،إذ ضربه بما هو ضرب إيذاء و ظلم،فهو قبيح لا محالة،و لكن ضربه للتأديب حسن،و نحن إذ نقبل ذلك نقول بأن السر في انقلاب الحكم في نظير المثال المذكور إنما هو لعروض عنوان حسن على الفعل يكون أولى مطابقة لعنوان العدل من أصل الفعل فالانقلاب في الحقيقة موضوعي و ليس بحكمي فقط،و توضيح ذلك أن العدل هو الاستواء حسن و له عنوان عام ذو مصاديق غير محصورة بمقدار الموجودات،فالعدل قابل للانطباق على النظام الكوني من الذرة إلى الذروة،و كذا ما يقابله من الظلم و هو التجاوز عن الاستواء و له مصاديق عديدة،فالعدل في نظام الشمس إشراقها،و الظلم

ص: 168

و هو التعدي عن الاستواء تكويرها،و العدل في المجموعة العلوية التصاق أجزاء كل موجود علوي فيها بعضها ببعض مع حفظ مقدار نور كل واحد منها و مقدار بعد كل عن الآخر،فانفطارها و تفتت أجزائها كالعهن المنفوش إنما هو خلاف عدلها الكوني و نظامها الوجودي،و هذا المقياس موجود في كل شيء ماديا كان أو معنويا،فالعدل في المزاج إنما هو استواء نسبة كل عنصر من العناصر الموجودة في البدن مع الآخر وفقا للخلقة الإلهية المتقنة،و إن شئت عبرت بتعبير القدماء من التعادل بين الأخلاط الأربعة،بحيث لو زاد خلط و نقص آخر لانحرف المزاج و زال العدل و أفضى ذلك إلى الموت،و صح للسعدي أن يقول:

چون يكى چهار شد (1)غالب جان شيرين برآيد از قالب

و العدل في الأخلاق إنما هو بتنظيم الغرائز البهيمية و السبعية و الإنسانية، و الظلم فيها انحرافها عن الاستواء بالانخفاض أو الارتفاع غير الموزونين، فالعدل في القوة السبعية شجاعة،و انحرافها النزولي جبن،و انحرافها الصعودي تهور،و حينذاك تقول بأن ضرب اليتيم انحراف عن الحقوق البشرية و الحدود النظامية،لأنه تصرف فيما ليس للمتصرف التصرف فيه،لأن الضارب شخص و اليتيم شخص آخر و ليس اليتيم عبدا مقهورا للضارب،فضربه ظلم و الظلم قبيح،و لكن العلم بالمعارف الحقة و النظام العملي و التخلق بالأخلاق الفاضلة و التجنب عن الرذائل السيئة عدل،و العدل حسن،و إذا تعارض العدل الأول مع الأخير،فلا ريب في كون المدار على الأخير دون الأول،فضرب اليتيم تأديبا له ايجاد للعدل في مزاجه الروحي.و هذا العدل الروحي الإنساني أعلى رتبة و أرفع درجة من العدل البدني،فإيراد الضرب على البدن و إن كان جورا،إلا أنه لمّا كان سببا لإيجاد الفضائل في الروح-و هو العدل المعنوي-م.

ص: 169


1- الأخلاط الأربعة:الصفراء-السوداء-البلغم-الدم.

كان حسنا،فالوجوه و الاعتبارات المغيرة للحسن أو القبح إلى ضديهما كلها من هذا القبيل فتفطن،و بعد ذلك نقول بأن الحسن ما دام حسنا يكون مأمورا به، و كذلك القبيح ما دام قبيحا يكون منهيا عنه،و الأحكام المنسوخة حيث كانت متعلقاتها ذات مصالح زمنية صارت مأمورا بها في تلك الظروف و الأزمنة و نسخت بعد ذلك بالمعنى الصحيح للنسخ الذي سنوافيك به.

و لا سبيل للإشكال في نسخها من ناحية المصلحة و الملاك،و لكمال التوضيح دقق النظر في أمر إبراهيم(ع)بذبح ولده ثم نسخ هذا الأمر بعد حضور وقت العمل و الشروع في مقدماته القريبة المسببة للقتل،نعم ربما يقال بأن الأوامر الاختبارية التي تنسخ ليست من مقول النسخ المصطلح المبحوث عنه، لأن الحكم المنسوخ لا بد و أن يكون متعلقا بالمتعلق به حقيقة:لا على نحو الوصف بحال متعلق الموصوف،و الأمر سهل بعد عدم التفاوت إلا من ناحية أن في الأوامر الاختبارية الأمر الواقعي و متعلقه ظاهري،و في النسخ المصطلح متعلق الحكم واقعي و الاستمرار ظاهري.

و توضيح ذلك أن في كليهما يرد اشكال الملاك،فيقال في مورد الأمر بالذبح مثلا ملاك الذبح موجود بدليل الأمر به،فلم لم يتحقق الذبح و اكتفى الآمر بمقدماته مصرحا بأنك قد صدقت الرؤيا،و إن لم يكن فيه ملاك،فلم أمر إبراهيم به كما سمعت هذا الاشكال في مورد النسخ المصطلح؟،و الجواب عن الاشكال في الأول أن الغرض هو الاختبار و قد حصل،و عن الاشكال في الثاني أن الملاك قابل للتغيير فربما يتغير،و ملخص الكلام أنه يمكن أن تكون في الشيء بحسب الظروف الزمانية مصلحة إلى أن يأتي زمان آخر،و ربما تتحقق للشيء مصلحة قاهرة بالنسبة إلى المصلحة الموجودة فيه سابقا،كما إذا اقتضت مصلحة التسهيل رفع اليد عن جملة من الأحكام الشاقة،و يشهد على ذلك ما نطلبه من اللّه سبحانه بقولنا حاكيا لكلام اللّه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا،رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (1).

ص: 170

و توضيح ذلك أن في كليهما يرد اشكال الملاك،فيقال في مورد الأمر بالذبح مثلا ملاك الذبح موجود بدليل الأمر به،فلم لم يتحقق الذبح و اكتفى الآمر بمقدماته مصرحا بأنك قد صدقت الرؤيا،و إن لم يكن فيه ملاك،فلم أمر إبراهيم به كما سمعت هذا الاشكال في مورد النسخ المصطلح؟،و الجواب عن الاشكال في الأول أن الغرض هو الاختبار و قد حصل،و عن الاشكال في الثاني أن الملاك قابل للتغيير فربما يتغير،و ملخص الكلام أنه يمكن أن تكون في الشيء بحسب الظروف الزمانية مصلحة إلى أن يأتي زمان آخر،و ربما تتحقق للشيء مصلحة قاهرة بالنسبة إلى المصلحة الموجودة فيه سابقا،كما إذا اقتضت مصلحة التسهيل رفع اليد عن جملة من الأحكام الشاقة،و يشهد على ذلك ما نطلبه من اللّه سبحانه بقولنا حاكيا لكلام اللّه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا،رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (1).

2-إن النسخ يستلزم البداء و هو ملازم للجهل،فنسخ الأحكام يستلزم جهل اللّه بالعواقب،و هذا محال لأن التشريع ينشأ من علمه بالأصلح،و علمه تعالى بالأشياء تكوينا و تشريعا عين ذاته القديمة،و الجهل يستلزم النقص أولا و الواجب منزه عنه و الانقلاب ثانيا و الواجب ليس محلا للتغيير،فالأحكام المطلقة زمانا-غير المحدودة بغاية و غير المؤقتة بوقت-وجب استمرارها في عمود الزمان و استحال طروء الزوال-النسخ-عليها.

و الجواب أن الإطلاق الزماني ليس من المداليل الالتزامية للجمل الإنشائية الآمرة بشيء أو الناهية عنه،و إنما هو نتيجة الاطلاق في مقام البيان- الخالي عن التقييد بزمان دون زمان-،و توضيح ذلك أن للجمل المسوقة لبيان الأحكام إطلاقات ثلاثة بحسب طباعها الأولية،و أعني بالطباع الارسال من النواحي الآتية و عدم التقييد بإحدى القيود الثلاثة:

الأول:الإطلاق من جهة الافراد.

الثاني:الإطلاق من جهة الأحوال.

الثالث:الإطلاق من جهة الزمان.

و نحن إذ نأخذ بالاطلاق الإفرادي للأشخاص في مثل:أكرم العلماء، و للاشياء في مثل:اغرس شجرة،و لا نفرق بين النحوي و الصرفي في الأول، و لا بين العنب و الرطب في الثاني،فكذلك لنا أن نأخذ بالإطلاق الزماني، و نقول إن وجوب الصدقة حال نجوى النبي(ص)مستمر بحسب الأزمنة،و لكن تلك الاطلاقات ليست مداليل التزامية للجمل المذكورة،كما أنها ليست6.

ص: 171


1- سورة البقرة،الآية:286.

مداليل مطابقية أو تضمنية لها بالضرورة،و لما كان للمتكلم أن يخصص العام و يقيد المطلق فكذلك له أن ينسخ،و لذا قال الشيخ الأنصاري بأن النسخ تخصيص أزماني،و لكننا نقول أن دليل النسخ حاكم على دليل المنسوخ حكومة مقامية.

و تلخيص الكلام أن النسخ إذا كان بحسب نفس الأمر و في الواقع يكون مستلزما لجهل الباري جل و علا و لكنه ليس كذلك،بل هو إزالة للحكم في مرحلة الظاهر على نحو الحكومة المقامية كما مرّ،و هو أنه في مورد النسخ لما كان المقام مقام الإطلاق من ناحية بيان زمان الحكم أخذ العرف بهذا الإطلاق و حكم بالاستمرار و أسنده إلى الشارع تطبيقا للظاهر على الواقع و استدلالا بعالم الإثبات على عالم الثبوت و استمر حكم العرف باستمرار حكم الشارع إلى زمان ورود دليل النسخ و ظهر للعرف ما كان مختفيا عليه و هو أن الحكم كان محدودا من جهة الزمان إلى الحد الخاص الذي بيّنه دليل النسخ،فالنسخ و البداء متوافقان في أنهما ظهور بعد الخفاء،و إن شئت قلت ابداء من اللّه للناس ما أخفى عليهم أو كان مختفيا عنهم،و ليسا بحدوث علم له تعالى شأنه بعد عدم علمه كما هو واضح،و أما المصحح للتعبير بالنسخ فلأنه إزالة للحكم في مرحلة الظاهر،فلا يرد الإشكال بأن دليل النسخ على ما ذكرتم إنما جاء لبيان انتهاء أمد الحكم،فالحكم لم يكن في نفس الأمر دائما،بل كان مؤقتا إذ يقال في الجواب بأن النسخ ظاهري صوري،نعم لو ذهب أحد إلى أن النسخ واقعي ورد عليه اشكال حدوث العلم للباري تعالى بعد جهله المستلزم لمحذور محدودية علم اللّه و لمحذور وقوع التغير في ذات اللّه و كلاهما مناف لوجوب وجوده،و قد يقرر الدليل العقلي على امتناع النسخ بتقريب يجمع بين الدليلين السابقين فيقال ان نسخ الحكم اما أن يكون لحكمة ظهرت للّه تعالى بعد أن لم تكن ظاهرة له،و اما مع عدم الحكمة فإن كان الأول لزم البداء في علم اللّه تعالى،و معنى البداء نشوء رأي لم يكن،فلا بد حينئذ من أن يكون اللّه جاهلا

ص: 172

بالحكم و المصالح و تعالى اللّه عن ذلك لأن علمه بالمصالح الفردية و العائلية و النوعية-النظامية-عبارة عن العلم بالأصلح،و العلم بالأصلح-فرديا أو عائليا أو نظاميا-ذاتي له،و لا يكون بين ذاته المقدسة و بين علمه و سائر صفاته اثنينية و ميز و تفاوت،إذ الصفات الذاتية للّه تعالى لا تنفك عنه و لا تتعدد و لا تتكثر، فلا تكون صفاته زائدة على ذاته فيستحيل حدوث التغير في الصفات كما في الذات لأن الصفات عين الذات.

و ان كان الثاني لزم اللغو و العبث في التشريع،لأن التشريع كان على نحو الدوام أولا ثم نسخ ثانيا و هذا عبث،و الحكيم تعالى منزه عن العبث اذ أن أفعاله طرا معللة بالأغراض،و إن كانت واصلة للبشر و نافعة لهم و لم تكن عائدة إليه تعالى و هو الغني بالذات،و لذا قلنا في محله بأن اللّه تعالى فاعل بالعناية و الرضا،بل لابتهاج الذات بالذات أبدع و شرع معا.

و الجواب أن الأحكام ناشئة عن الحكم و المصالح الا أنها ليست أبدية مطلقا،بل بعضها مؤقتة و بعضها تجددية و بعضها دائمية حيث تعترف بوجدانك أن شرب الخمر قبيح بحسب الطبع و حسن لحفظ الحياة،فالمراد من ظهور الحكمة بعد الخفاء إن كان عبارة عن عدم علمه تعالى بذلك فهو ممنوع و مستحيل،و إن كان انكشاف محدودية المصلحة السابقة أو تجددها فيما سيأتي من الزمان فهو حق و لا محيص عن الاعتراف به،فتلخص أن النسخ عبارة عن بيان انتهاء أمد الحكم،إلا أن صياغة الحكم على نحو العموم و إلقائه لا مؤقتا كان لمصلحة مختفية علينا،كما في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (1) الآية...إذ أن المصلحة كانت في إبداء الحكم مطلقا من جهة2.

ص: 173


1- سورة المجادلة،الآية:12.

الأفراد و نسخه اللّه تعالى بعد نجوى علي(ع)للنبي(ص)و تصدقه،و كانت تلك المصلحة هي توجيه الآراء و لفت الأنظار إلى مقام علي(ع)،و أن من اختص بهذه الميزة و الفضيلة يكون أولى الناس بالخلافة و أبرزهم في المنقبة و أقربهم إلى النبي(ص)،و نحن لا نقول بأن المصلحة متمحضة في إعلامنا بالمنافقين التاركين للعمل بهذه الآية حتى يشكل علينا باستلزام ذلك نفاق كبار الصحابة بل يكفي في مصلحة النسخ إظهار أولوية علي(ع)بالمناقب و المكرمات من الصحابة.

و قد يستشكل في النسخ بأن دليل النسخ إن كان ناظرا إلى أن الحكم كان من الأول محدودا بغاية و مؤقتا بوقت،لزم ألا يكون هناك نسخ في الواقع لأن النسخ هو الإزالة،و لا إزالة في الحكم المحدود بغاية حين تحقق الغاية،و ان كان ناظرا إلى أن الحكم المؤبد في الواقع أزيل من لوح التشريع لزم التناقض، و الجواب اختيار الشق الأول،و أن النسخ قطع و إزالة في مرحلة الظاهر لا في نفس الأمر و الواقع و أن المصلحة كانت في إبراز العموم أفرادا أو أزمانا فلا يكون في النسخ محذور كما لا يكون في التخصيص محذور.

تبصرة:

ذهب أبو مسلم بن بحر الاصفهاني إلى عدم وقوع النسخ في الأحكام و تجشم في موارد النسخ أمورا تخرج تلك الموارد عن كونها نسخا إلا أن إنكار النسخ مكابرة محضة و محاولة لإخفاء ما هو بديهي،نعم قد استدل على عدم وقوعه في الخارج بقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ (1)،بتوهم أن النسخ إبطال للقرآن.

و الجواب أن بيان الغاية ممن بيده البيان ليس إبطالا،كيف و القرآن ينص2.

ص: 174


1- سورة فصلت،الآية:42.

على جواز النسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها (1)فلا مانع عقلا من النسخ و لا دليل سمعا على عدم وقوعه.

المطلب الثالث: في موارد النسخ

قد أطال العلماء البحث في موارد النسخ و لا سيما علماء العامة،ففي -الإتقان-للسيوطي في المسألة السابعة من النوع السابع و الأربعين في ناسخه و منسوخه:النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب:

أحدها:ما نسخ تلاوته و حكمه معا،قالت عائشة:كان ما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات،فتوفى رسول اللّه(ص)و هن مما يقرأ من القرآن:رواه الشيخان.و قد تكلموا في قولها و هن مما يقرأ من القرآن فإن ظاهره بقاء التلاوة و ليس كذلك.و أجيب بأن المراد قارب الوفاة أو أن التلاوة نسخت أيضا و لم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول اللّه(ص)فتوفى و بعض الناس يقرؤها.

و قال أبو موسى الأشعري نزلت ثم رفعت،و قال مكي هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو و الناسخ أيضا غير متلو،و لا أعلم له نظيرا (2).

الضرب الثاني:ما نسخ حكمه دون تلاوته،و هذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة و هو على الحقيقة قليل جدا و إن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك و أتقنه،و الذي أقوله

ص: 175


1- سورة البقرة،الآية:106.
2- ذكرنا في باب الرضاع أن قول المعصوم(ع):كان يقال عشر رضعات:محمول على التقية بقرينة أن هذا هو قول العامة،و الشاهد على صدق قولنا ما ترى من أن عائشة أسندت عشر رضعات إلى القرآن،ثم لم تقتنع حتى اكتفت في الرضاع المحرم على خمس رضعات و قد أخذنا بموثقة زياد بن سوقة الدالة على أن العدد المحرم خمس عشرة رضعة،و من العجيب ما عن بعض من المصير إلى العشرة و طرح خمسة عشر رضعة.

إن الّذي أورده المكثرون أقسام،قسم ليس من النسخ في شيء و لا من التخصيص و لا له بهما علاقة بوجه من الوجوه،و ذلك مثل قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (1)، وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ (2)،و نحو ذلك..قالوا انه منسوخ بآية الزكاة و ليس كذلك بل هو باق.

أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالانفاق،و ذلك يصلح أن يفسر بالزكاة و بالانفاق على الأهل و بالانفاق في الأمور المندوبة كالاعانة و الإضافة،و ليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة..و الآية الثانية يصلح حملها على الزكاة،و قد فسرت بذلك.

و كذا قوله تعالى: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (3)،قيل:انها مما نسخ بآية السيف و ليس كذلك،لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ و إن كان الأمر بالتفويض و ترك المعاقبة،و قوله في البقرة:

وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (4) ،عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف،و قد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر، فلا نسخ فيه،و قس على ذلك..

و قسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ:و قد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا (5)، و اَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ -إلى قوله- إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا (6)، فَاعْفُوا4.

ص: 176


1- سورة البقرة،الآية:3،و الأنفال:3،و الحج:35 و القصص:54،و السجدة: 16،و الشورى:38.
2- سورة البقرة،الآية:254 و المنافقون:10.
3- سورة التين،الآية:8.
4- سورة البقرة،الآية:83.
5- سورة العصر،الآيتان:2 و 3.
6- سورة الشعراء،الآيتان:224.

وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (1) ،و غير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية،و قد أخطأ من أدخلها في المنسوخ،و منه قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ (2).

قيل انه نسخ بقوله: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (3)،و انما هو مخصوص به،و قسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الإسلام و لم ينزل في القرآن كإبطال نكاح نساء الآباء و مشروعية القصاص و الدّية و حصر الطلاق في الثلاث و هذا إدخاله في قسم الناسخ قريب و لكن عدم إدخاله أقرب،و هو الذي رجحه المكي و غيره،و وجهوه بأن ذلك لو عدّ في الناسخ لعد جميع القرآن منه،اذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار و أهل الكتاب.

قالوا و إنما حق الناسخ و المنسوخ أن تكون آية نسخت آية،انتهى.

نعم،النوع الآخر منه و هو رافع ما كان في الإسلام ادخاله أوجه من القسمين قبله،إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون الجم الغفير مع آيات الصفح و العفو إن قلنا أن آية السيف لم تنسخها و بقي مما يصلح لذلك عدد يسير،و قد أفردته بأدلته في تأليف لطيف،و ها أنا أوردها هنا محررا، فمن البقرة قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (4)الآية، منسوخة قيل:بآية المواريث،و قيل:بحديث:«ألا لا وصية لوارث»، و قيل:بالاجماع،حكاه ابن العربي،و قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ0.

ص: 177


1- سورة البقرة،الآية:109.
2- سورة البقرة،الآية:221.
3- سورة المائدة،الآية:5.
4- سورة البقرة،الآية:180.

فِدْيَةٌ (1) ،قيل منسوخة بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2)، و قيل:محكمة و لا مقدرة،قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ (3)، ناسخة لقوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (4)،لأن مقتضاها الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الأكل و الوطء بعد النوم،ذكره ابن العربي،و حكى قولا آخر انه نسخ لما كان بالسنة،قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ (5)الآية،منسوخة بقوله: وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (6)الآية، أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة،قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ -إلى قوله-: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ (7)،منسوخة بآية أربعة أشهر و عشرا و الوصية منسوخة بالميراث،و السكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث و لا سكنى،قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ (8)،منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها (9)،و من آل عمران قوله تعالى: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (10)،قيل انه منسوخ بقوله:

فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (11) ،و قيل:لا،بل هو محكم و ليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية،و من النساء قوله تعالى: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ6.

ص: 178


1- سورة البقرة،الآية:184.
2- سورة البقرة،الآية:185.
3- سورة البقرة،الآية:187.
4- سورة البقرة،الآية:183.
5- سورة البقرة،الآية:217.
6- سورة البقرة،الآية:36.
7- سورة البقرة،الآية:240.
8- سورة البقرة،الآية:284.
9- سورة البقرة،الآية:286.
10- سورة آل عمران،الآية:102.
11- سورة التغابن،الآية:16.

أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (1) ،منسوخة بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (2)،قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ (3)الآية،قيل منسوخة و قيل لا و لكن تهاون الناس في العمل بها،قوله تعالى: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ (4)الآية،منسوخة بآية النور،من المائدة قوله تعالى: وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ (5)،منسوخة باباحة القتال فيه،قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (6)،،منسوخة بقوله: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ (7)،قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (8)،منسوخ بقوله:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (9) ،و من الأنفال قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ (10)الآية،منسوخة بالآية بعدها،و من براءة قوله تعالى:

اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (11) ،منسوخة بآيات العذر و هو قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ (12)الآية،و قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ (13)الآيتين، و بقوله: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (14)،و من النور قوله تعالى:2.

ص: 179


1- سورة النساء،الآية:33.
2- سورة الأنفال،الآية:75.
3- سورة النساء،الآية:8.
4- سورة النساء،الآية:15.
5- سورة المائدة،الآية:2.
6- سورة المائدة،الآية:42.
7- سورة المائدة،الآية:49.
8- سورة المائدة،الآية:106.
9- سورة الطلاق،الآية:2.
10- سورة الأنفال،الآية:65.
11- سورة التوبة،الآية:41.
12- سورة النور،الآية:61.
13- سورة التوبة،الآية:91.
14- سورة التوبة،الآية:122.

اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً (1) الآية،منسوخة بقوله: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ (2)،قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (3)الآية قيل:

منسوخة،و قيل:لا،و لكن تهاون الناس في العمل بها،و من الأحزاب قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ (4)الآية،منسوخة بقوله: إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ (5)الآية،و من المجادلة قوله تعالى: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا (6)الآية،منسوخة بالآية بعدها،و من الممتحنة قوله تعالى: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (7)،قيل منسوخ بآية السيف و قيل بآية الغنيمة و قيل محكم،و من المزمل قوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً (8)،منسوخ بآخر السورة ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس،فهذه احدى و عشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها،و الأصح في آية الاستئذان و القسمة الأحكام فصارت تسعة عشر،و يضم اليها قوله تعالى:

فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (9) على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (10)الآية،فتمت عشرون،إلى آخر كلام السيوطي في الاتقان.

و قال الحاجبي في المختصر:الجمهور على جواز نسخ التلاوة.0.

ص: 180


1- سورة النور،الآية:3.
2- سورة النور،الآية:32.
3- سورة النور،الآية:58.
4- سورة الأحزاب،الآية:52.
5- سورة الأحزاب،الآية:50.
6- سورة المجادلة،الآية:12.
7- سورة الممتحنة،الآية:11.
8- سورة المزمل،الآية:2.
9- سورة البقرة،الآية:115.
10- سورة البقرة،الآية:144 و 149 و 150.

و قال العضدي في شرحه:النسخ اما للتلاوة فقط أو للحكم فقط أو لهما معا و الثلاثة جائزة،و خالف فيه بعض المعتزلة،لنا أن نقطع بالجواز فإن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها و ما يدل عليه من الأحكام حكم آخر لها و لا تلازم بينهما و إذا ثبت ذلك فيجوز نسخا و نسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة و لنا أيضا الوقوع و أنه دليل الجواز،أما التلاوة فقط فلما روى عمر أنه كان فيما أنزل:«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه»و حكمه ثابت و ان خصص بالاحصان،و أما الحكم فكنسخ الاعتداد بالحول و اللفظ مقروء، و أما هما معا فما روت عائشة أنه كان فيما أنزل:«عشر رضعات محرمات»و قد نسخ تلاوته و حكمه،انتهى المقصود من كلامهما.

أقول يظهر من هؤلاء-علماء العامة-الاختلاف الكثير في مقدار النسخ و ان كانوا متفقين على الظاهر في جواز نسخ التلاوة مع حكمها أو لا مع حكمها،و أنت خبير بأن ذلك هو التحريف بالنقيصة الذي قد مرّ منا بطلانه ثم انه لا يمكن موافقتهم في مقدار المنسوخ من الآيات إذ أنّ التخصيص أو التقييد أو بيان أكمل المصاديق أو العدل التخييري أو ما شابه ذلك لا يكون من النسخ المصطلح قطعا.

و في مقابل هؤلاء المكثرين للنسخ من أنكر وقوعه إطلاقا و هو أبو مسلم ابن بحر الاصفهاني إذ قال بجواز النسخ و عدم وقوعه زاعما أن قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ (1)،يدل على عدم النسخ لأن النسخ إبطال للمنسوخ،و قد تصدى للجواب عن موارد النسخ،و لكنه توهّم فاسد لأن معنى الآية أن القرآن بما هو كلام الهي و منهج عبادي و قانون نظامي و ميزان أخلاقي و معيار إصلاحي و منبع للعلوم و شامل للسعادات الدنيوية و الأخروية و كافل للعدالة الفردية و الاجتماعية و جامع للجوامع الخيرية و دافع للرذائل2.

ص: 181


1- سورة فصلت،الآية:42.

و الشرور على نحو العموم و الكلية،لا يتصور في أي جانب من جوانبه توهم العثور على خطأ و لا يتقدمه كتاب سماوي أو قانون عقلي يقتضي بطلانه و لا يأتي من بعده كتاب سماوي أو رشد فكري يوجب بطلانه،و ليس معنى الآية أنه لا يأتي لعامه خاص و لا لمطلقه مقيد و لا لحكمه غاية.

و أما علماء الشيعة فقد وافق الشيخ الطوسي(قده)علماء العامة في أغلب الموارد التي قالوا بالنسخ فيها،فقال في العدة:

فصل:في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة،و نسخ التلاوة دون الحكم،جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه لأن التلاوة إذا كانت عبادة، و الحكم عبادة أخرى جاز وقوع النسخ في إحداهما مع بقاء الآخر كما يصح ذلك في كل عبادتين،و إذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم و الحكم دون التلاوة،-إلى أن قال-:و أما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فلا شبهة فيه لما قلناه من جواز تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة-إلى أن قال-:و أما جواز النسخ فيهما فلا شبهة أيضا فيه لجواز تغير المصلحة فيهما و قد ورد النسخ بجميع ما قلناه لأن اللّه تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص أربعة أشهر و عشرا و نسخ التصدق قبل المناجاة،و نسخ ثبات الواحد للعشرة،و إن كانت التلاوة باقية في جميع ذلك،و قد نسخ أيضا التلاوة و بقي الحكم على ما روى من آية الرجم من قوله:«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه»و إن ذلك مما أنزله اللّه و الحكم باق بلا خلاف،و كذلك روى في تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبد اللّه بن مسعود لأنه قد نسخ التلاوة و الحكم باق عند من يقول بذلك و أما نسخهما معا فمثل ما روى عن عائشة أنها قالت:كان فيما أنزله تعالى عشرة رضعات يحرمن ثم نسخت بخمس عشرة فخبرت بنسخه تلاوة و حكما،و إنما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال و لو لم يقع شيء منها لما أخل بجواز ما ذكرناه و صحته لأن الذي أجاز ذلك ما قدمناه من الدليل و ذلك كاف في هذا الباب انتهى كلامه(ره).

ص: 182

و في البحار (1)نقلا عن تفسير النعماني:فمما سألوه عن الناسخ و المنسوخ فقال(ع):«ان اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله(ص)بالرأفة و الرحمة فكان من رأفته و رحمته انه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عادتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم و حلت الشريعة في صدورهم فكانت من شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت و أقيم بأودها حتى يأتي الموت و إذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم و شتموه و آذوه و عيروه و لم يكونوا يعرفون غير هذا قال اللّه تعالى في أول الإسلام: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (2)» (3).

فلما كثر المسلمون و قوي الإسلام و استوحشوا أمور الجاهلية أنزل اللّه تعالى: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (3)إلى آخر الآية فنسخت هذه الآية آية الحبس و الأذى.

و من ذلك أن العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة و كان إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا بعرة و ما جرى مجراها ثم قالت:

البعل أهون عليّ من هذه فلا أكتحل و لا أمتشط و لا أتطيب و لا أتزوج سنة فكانوا لا يخرجون من بيتها بل يجرون عليها من تركة من زوجها سنة،فأنزل اللّه تعالى في أول الإسلام: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (4)إلى آخر الآية.4.

ص: 183


1- سورة النساء،الآيتان:15-16.
2- بحار الأنوار:90 ص 6 باب ما ورد عن أمير المؤمنين في أصناف الآيات...
3- سورة النور،الآية:2.
4- سورة البقرة،الآية:234.

و من ذلك أن اللّه تبارك و تعالى لما بعث محمدا(ص)أمره في بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط و أنزل عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً، وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً، وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً، وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (1)،فبعثه اللّه تعالى بالدعوة فقط و أمره أن لا يؤذيهم فلما أرادوه بما هموا به من تبييت أمره اللّه تعالى بالهجرة و فرض عليه القتال فقال سبحانه:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (2) ،فلما أمر الناس بالحرب جزعوا و خافوا فأنزل اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (3)،إلى قوله سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (4)فنسخت آية القتال آية الكف فلما كان يوم بدر و عرف اللّه تعالى حرج المسلمين أنزل اللّه تعالى على نبيّه: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (5)،فلما قوي الإسلام و كثر المسلمون أنزل اللّه: فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (6)،فنسخت هذه الآية التي أذن لهم فيها أن يحتجوا ثم أنزل سبحانه في آخر السورة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ (7)إلى آخر الآية.و من ذلك أن اللّه تعالى فرض القتال على5.

ص: 184


1- سورة الأحزاب،الآية:45-48.
2- سورة الحج،الآية:39.
3- سورة النساء،الآية:77.
4- سورة النساء،الآية:78.
5- سورة الأنفال،الآية:61.
6- سورة محمد،الآية:35.
7- سورة التوبة،الآية:5.

الأمة فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل المشركين فقال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (1)إلى آخر الآية.ثم نسخها سبحانه فقال:

اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (2) إلى آخر الآية فنسخ بهذه الآية ما قبلها فصار من فر من المؤمنين في الحرب فإن كانت عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف و ان كان العدة رجلين لرجل كان فارا من الزحف و قال(ع)و من ذلك نوع آخر و هو أن رسول اللّه(ص)لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار جعل المواريث على الأخوة في الدين لا في ميراث الأرحام و ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ -إلى قوله سبحانه:- وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (3)،فاخرج الأقارب من الميراث و أثبته لأهل الهجرة و أهل الدين خاصة،ثم عطف بالقول فقال تعالى:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (4) .فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه و تركته لأخيه في الدين دون القرابة و الرحم الوشيجة فلما قوي الإسلام أنزل اللّه: اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (5)،فهذا المعنى نسخ آية الميراث،و منه وجه آخر و هو أن رسول اللّه(ص)لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بني اسرائيل6.

ص: 185


1- سورة الأنفال،الآية:65.
2- سورة الأنفال،الآية:66.
3- سورة الأنفال،الآية:72.
4- سورة الأنفال،الآية:73.
5- سورة الأحزاب،الآية:6.

و قد أخبرنا اللّه بما قصه في ذكر موسى(ع)أن يجعل بيته قبلة و هو قوله:

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (1) ،و كان رسول اللّه(ص)في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة و بعد هجرته إلى المدينة بأشهر،فعيرته اليهود و قالوا أنت تابع لقبلتنا فأحزن رسول اللّه(ص)ذلك منهم فأنزل اللّه تعالى عليه و هو يقلب وجهه في السماء و ينتظر الأمر: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ... لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ (2)-يعني اليهود في هذا الموضع-،ثم أخبرنا اللّه عزّ و جلّ ما العلة التي من أجلها لم يحول قبلته من أول مبعثه فقال تبارك و تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَ ما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (3)فسمى سبحانه الصلاة هاهنا إيمانا، و هذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لا تشبه أفعاله أفعالهم،و لهذه العلة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه و تأويله إلا نبيّه(ص)و أوصياؤه.

و من الناسخ ما كان مثبتا في التوراة من الفرائض في القصاص،و هو قوله: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (4)إلى آخر الآية، فكان الذكر و الأنثى و الحر و العبد شرعا سواء،فنسخ اللّه تعالى ما في التوراة بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ5.

ص: 186


1- سورة يونس،الآية:87.
2- سورة البقرة،الآيتان:144-150.
3- سورة البقرة،الآية:143.
4- سورة المائدة،الآية:45.

بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى (1) فنسخت هذه الآية: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (2).

و من الناسخ أيضا أمور غليظة كانت على بني إسرائيل في الفرائض فوضع اللّه تعالى تلك الآصار عنهم و عن هذه الأمة فقال سبحانه: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (3)،و منه أنه تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل و لا بالنهار على معنى صوم بني اسرائيل في التوراة،فكان ذلك محرما على هذه الأمة،و كان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أن يفطر فقد حرم عليه الأكل بعد النوم أفطر أو لم يفطر، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه(ص)يعرف بمطعم بن جبير شيخا فكان في الوقت الذي حفر فيه الخندق في جملة المسلمين و كان ذلك في شهر رمضان فلما فرغ من الحفر و راح إلى أهله صلى المغرب و أبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم فلما أحضرت إليه الطعام أنبهته فقال لها استعمليه أنت فإني قد نمت و حرم عليّ و طوى إليه و أصبح صائما فغدا إلى الخندق و جعل يحفر مع الناس فغشى عليه فسأله رسول اللّه(ص)عن حاله فأخبره،و كان في المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرا لقلة صبرهم فسأل النبي(ص)اللّه سبحانه في ذلك،فأنزل اللّه عليه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (4)، فنسخت هذه الآية ما تقدمها.7.

ص: 187


1- سورة البقرة،الآية:178.
2- سورة المائدة،الآية:45.
3- سورة الأعراف،الآية:157.
4- سورة البقرة،الآية:187.

و نسخ قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1)،قوله عزّ و جلّ: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ (2)،أي للرحمة خلقهم.

و نسخ قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ -و اكسوهم (3)- وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (4)،قوله سبحانه:

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (5) إلى آخر الآية.

و من المنسوخ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (6)،نسخها قوله: فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (7).

و نسخ قوله تعالى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً (8)،آية التحريم و هو قوله جل ثناؤه: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (9)،و الاثم هاهنا هو الخمر.

و نسخ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (10)،قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ،1.

ص: 188


1- سورة الذاريات،الآية:56.
2- سورة هود،الآيتان:118 و 119.
3- سورة النساء،الآية:5 و هي وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً .
4- سورة النساء،الآية:8.
5- سورة النساء،الآية:11.
6- سورة آل عمران،الآية:102.
7- سورة التغابن،الآية:16.
8- سورة النحل،الآية:67.
9- سورة الأعراف،الآية:33.
10- سورة مريم،الآية:71.

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ (1) .

و نسخ قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (2)،يعني اليهود حين هادنهم رسول اللّه(ص)فلما رجع من غزوة تبوك أنزل اللّه تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (3)،فنسخت هذه الآية تلك الهدنة،انتهى كلامه.

و أنت بعد الاطلاع على أقوال العلماء من الشيعة و السنة علمت اختلافهم في مقدار المنسوخ من الآيات و الأحكام.

ثم ان هناك اختلافا آخر،و هو الاختلاف في نسخ القرآن بالسنة،فقد ذهب أهل الظاهر إلى أن قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ (4)،منسوخ بما روى من أنه(ص)نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع،و أن الوصية للوالدين و الأقربين منسوخ بقوله:(ص)لا وصية لوارث،و ان جلد الزاني نسخ في مورد المحصن بما ورد من رجمه،و أن إباحة نكاح غير المحارم المستفادة من قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (5)، قد نسخ بما ورد من عدم جواز نكاح بنت الأخ أو بنت الأخت إلا بإذن عمتها أو خالتها،بقوله(ص)لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها،بل ذكروا أن السنة تنسخ السنة،و ذلك نظير ما ورد من طرق العامة بأنه(ص)قال:«كنت4.

ص: 189


1- سورة الأنبياء،الآيات:101-103.
2- سورة البقرة،الآية:83.
3- سورة التوبة،الآية:83.
4- سورة الأنعام،الآية:145.
5- سورة النساء،الآية:24.

نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها» (1)،و كذا ما ورد أيضا من طرقهم بأنه(ص)قال:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» (2)،و مع ذلك كله حاول أبو مسلم بن بحر الأصفهاني الجواب عن موارد النسخ بتوجيهات ذكروها بأجوبتها في المطولات،فأجاب عن اعتداد الزوجة في وفاة زوجها حولا كاملا:

الزوجة لو كانت حاملا و مدة حملها حولا اعتدت حولا فلا نسخ بل هو تخصيص،فأجابوه بأن المنسوخ كون الحول مدارا للاعتداد فلا يصح الجواب.

و أجاب عن آية المناجاة بأنها نزلت لامتحان المسلمين و تمييز المؤمنين من المنافقين منهم،فلما حصل ذلك الامتياز ارتفع ذلك الحكم لارتفاع سببه، فأجابوه بأن لازم ذلك أن يكون أكثر الصحابة من المنافقين.

و أجاب عن آية الثبات بأن الحكم باق اذ لو كانوا أبطالا و المائتان في غاية الجبن و الضعف بحيث يعلم قصورهم عن مقاومة العشرين وجب الثبات فيكون تخصيصا،فأجابوه بعد تسليم ما ادعاه بأن لازم ذلك ألا تكون خصوصية في العدد.

و أجاب عن آية التوجه إلى الكعبة بأن حكم التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية لوجوب التوجه إليه عند الاشتباه أو العذر فهو تخصيص لا نسخ، فأجابوا بأن التوجه إلى بيت المقدس حال الاشتباه ليس مقصودا لذاته، و الأحسن الجواب بالمنع عن هذا الحكم.3.

ص: 190


1- سنن ابن ماجة:ج 2 ص 155 باب 16 من باب ادخار لحوم الأضاحي.
2- كنز العمال:ج 15 ص 646 ح 42555 و العوالي:ج 2 ص 61 ح 163.

المطلب الرابع: الموارد المدعى فيها النسخ على أقسام:

الأول:ما لا يكون نسخا في الحقيقة بل هو تخصيص أو تقييد.

مثال الأول:تحريم كل ذي ناب و مخلب،الذي ثبت بالسنة مع وجود اطلاق آية التحليل،و هي قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ (1)،حيث أن دليل حرمة السباع حاكم على عموم الآية الافرادي،و ليس نسخا للآية.

و مثال الثاني:اشتراط نفوذ عقد بنت الأخ على إذن عمتها،و اشتراط نفوذ عقد بنت الأخت على إذن خالتها اذ توهم أن الدليل الدال على ذلك ناسخ لقوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (2)،مع أنه تقييد لا نسخ.

الثاني:ما ورد فيه خبران متعارضان من حيث النسخ و عدمه،فمنه قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى (3)،الآية،فقد ورد في تفسير العياشي من أنه نسختها آية الفرائض،فقال البحراني:تحمل رواية النسخ على نسخ وجوب الاعطاء،و تحمل رواية عدم النسخ على جواز الاعطاء و استحبابه،فلا تنافي بين الروايتين.

و قال أبو علي الطبرسي:اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما:أنها محكمة غير منسوخة و هو المروي عن الباقر(ع)،قال محمد الشيباني في نهج البيان:و قال قوم انها ليست منسوخة يعطي من ذكرهم اللّه على سبيل الندب و الطعمة،قلت و هذه الرواية عن الباقر و الصادق(ع)تؤيد ما

ص: 191


1- سورة الأنعام،الآية:145.
2- سورة النساء،الآية:24.
3- سورة النساء،الآية:8.

ذكرناه من الحمل بأن الآية محكمة غير منسوخة يعطون على سبيل الندب و الطعمة،و رواية النسخ ناسخة وجوب اعطائهم بآية الميراث،انتهى.

أقول:و أنت خبير بأن نفي الوجوب ليس بنسخ،مضافا إلى ضعف السند فلنطرح الرواية الدالة على النسخ.

و منه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1)،فعن العياشي عن أبي بصير،قال:سمعت أبا عبد اللّه(ع)عن قول اللّه اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ،قال:«منسوخة»قلت:و ما نسختها؟قال:«قول اللّه: فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2)» (3)و قال أبو علي الطبرسي في الآية:اختلف فيه على قولين أحدهما انه منسوخ بقوله تعالى:

فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قال:و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه(ع)، و الآخر أنه غير منسوخ،عن ابن عباس و طاوس (4)،أقول:أضف إلى ذلك ضعف السند.

و منه قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (5)،فقال علي بن إبراهيم:...و في حديث آخر:قال:هي منسوخة بقوله تعالى:

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ (6) ،انتهى (7).

أقول:لا ينبغي الشك في أن خلق الناس للعبادة لا ينافي خلقهم1.

ص: 192


1- سورة آل عمران،الآية:102.
2- سورة التغابن،الآية:16.
3- تفسير العياشي:ج 1 ص 194 ح 121.
4- مجمع البيان:ج 2 ص 157.
5- سورة الذاريات،الآية:56.
6- سورة هود،الآيتان:118 و 119.
7- تفسير القمي:ج 2 ص 331.

للرحمة،و الحصر في الموردين اضافي بالنسبة إلى ما يقابل الكفر و ما يقابل الرحمة،فتدبر،و أضف إلى ما ذكر ضعف السند.

الثالث:ما يكون نسخا حقيقة،فمنه قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (1)، حيث نسخ بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (2).

فعن العياشي عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار،قال:سألته عن قول اللّه: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ -إلى قوله تعالى- إِلَى الْحَوْلِ ،قال:

«منسوخة،نسختها آية يَتَرَبَّصْنَ -الى قوله -عَشْراً ...» (3).

و عن أبي بصير قال:سألته عن قول اللّه: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ -إلى- غَيْرَ إِخْراجٍ ،قال:«هي منسوخة»،قلت:و كيف كانت؟قال:«كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا،ثم أخرجت بلا ميراث،ثم نسختها آية الربع و الثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها» (4).

و منه قوله تعالى: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (5)،نسخه قوله تعالى: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما5.

ص: 193


1- سورة البقرة،الآية:240.
2- سورة البقرة،الآية:234.
3- تفسير العياشي:ج 1 ص 129 ح 426.
4- تفسير العياشي:ج 1 ص 129 ح 427.
5- سورة النساء،الآية:15.

مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ (1) .

ففي الكافي مرسلا عن أبي جعفر(ع)قال:«كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء و تصديق ذلك أن اللّه عزّ و جلّ أنزل عليه في سورة النساء وَ اللاّتِي -إلى- سَبِيلاً ،و السبيل الذي قال اللّه عزّ و جلّ سورة أَنْزَلْناها -إلى- طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)» (3).

أقول:الظاهر من هذه الرواية عدم النسخ،و أن الحكم كان من الأول محدودا فلا نسخ لأن شرط النسخ و هو ظهور الدليل في كون الحكم مستمرا مفقود،اللهم إلا أن يقال ان إبهام السبيل يصحح اطلاق النسخ على المورد، مؤيدا بما في تفسير العياشي عن أبي جعفر(ع)مرسلا في قول اللّه تعالى:

وَ اللاّتِي -إلى- سَبِيلاً ،قال:«هذه منسوخة»،قال:قلت:كيف كانت؟قال:«كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتا و لم تحدث و لم تكلم و لم تجالس و أوتيت فيه بطعامها و شرابها حتى تموت»، قلت:فقوله: أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ؟قال:«جعل السبيل الرجم و الجلد و الامساك في البيوت»،قال:(قلت):قوله: وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ (4)،قال:«يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب (4)، فَآذُوهُما (5)،قال:«تحبس فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (6)» (7).).

ص: 194


1- سورة النور،الآية:2.
2- سورة النور،الآيتان:1 و 2.
3- الكافي:ج 2 ص 32 كتاب الإيمان و الكفر. (4 و 5 و 6) سورة النساء،الآية:16.
4- البرهان:ج 1 ص 353 و تفسير العياشي:ج 1 ص 227 ح 61 و لكن ذكره عن أبي عبد اللّه(ع).

و قال أبو علي الطبرسي:حكم هذه الآية منسوخة عند جمهور المفسرين و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه(ع) (1).

و منه آية المناجاة و هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (2)،فراجع البرهان ترى فيه أخبارا مستفيضة دالة على أن الآية لم يعمل بها أحد من الصحابة غير علي(ع)،و أنه بعد عمله بها نسخها قوله تعالى: أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ (3)،و أنه كان له دينار فباعه بعشرة دراهم فكان كلما ناجاه(ص) قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات،ثم نسخت فلم يعمل بها أحد قبله و لا بعده،و أنه قد بخل الناس أن يتصدقوا قبل الكلام معه (4).

و منه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المكرمة،قال اللّه تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (5)،و قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ (6)،فترى في الآية الثانية أنه تعالى يبين علة تشريع القبلة إلى بيت المقدس ففي تفسير البرهان عن الشيخ الطوسي في حديث قال:إن بني عبد الأشهل أتوهم و هم في الصلاة و قد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال و الرجال مكان النساء و صلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى3.

ص: 195


1- مجمع البيان:ج 2 ص 48.
2- سورة المجادلة،الآية:12.
3- سورة المجادلة،الآية:13.
4- البرهان:ج 4 ص 309.
5- سورة البقرة،الآية:144.
6- سورة البقرة،الآية:143.

القبلتين،و لذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين (1)،و عن علي بن إبراهيم في حديث:«إن اليهود كانوا يعيرون على رسول اللّه(ص)يقولون له أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا،فاغتم رسول اللّه(ص)من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا لما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين،فنزل عليه جبرائيل و أخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة و أنزل عليه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2)،و كان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود و السفهاء: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها (3)» (4)، و عن تفسير العسكري:«و جاء قوم من اليهود إلى رسول اللّه(ص)فقالوا:يا محمد هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن أ فحقا كان ما كنت عليه فقد تركته إلى باطل فإن ما يخالف الحق فهو باطل،أو باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدة-إلى أن قال-ثم قال:أ ليس اللّه يأتي بالشتاء في أثر الصيف و الصيف في أثر الشتاء أبدا له في كل واحد منهما؟، قالوا:لا،قال:فكذلك لم يبد له في القبلة،قال،ثم قال:أ ليس قد ألزمكم أن تحترزوا في الشتاء من البرد بالثياب الغليظة،و ألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر،أ فبدا له في الصيف حين أمركم بخلاف ما أمركم به في الشتاء؟قالوا:لا،فقال رسول اللّه(ص):فكذلك تعبدكم في وقت لصلاحكم يعلمه بشيء،ثم بعده في وقت آخر لصلاح آخر بشيء آخر-إلىث.

ص: 196


1- البرهان:ج 1 ص 158.
2- سورة البقرة،الآية:144.
3- سورة البقرة،الآية:142.
4- البرهان:ج 1 ص 158 و تفسير القمي:ج 1 ص 63 و لاحظنا ان بين البرهان و تفسير القمي النسخة التي لدينا اختلاف يسير في الحديث.

ان قال-ثم قال رسول اللّه(ص):يا عباد اللّه أنتم كالمرضى و اللّه رب العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب و يدبره به لا فيما يشتهيه المريض و يقترحه ألا فسلموا للّه أمره تكونوا من الفائزين،فقيل يا بن رسول اللّه:فلم أمره بالقبلة الأولى؟فقال:لما قال اللّه عزّ و جلّ: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها -و هي بيت المقدس- إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ (1)،الا لنعلم ذلك منه (2)وجودا بعد أن علمناه سيوجد و ذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد اللّه أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها و محمد يأمر بها،و لما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها و التوجه إلى الكعبة ليبيّن من يوافق محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه و موافقه،ثم قال:و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى اللّه،و إن كان ما كان التوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت كبيرة إلا على من يهدي اللّه، فعرف أن اللّه يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلى طاعته في مخالفة هواه» (3)، انتهى.

أقول:فقد ظهر من نصّ القرآن أن النسخ صحيح و واقع و ليس من التغيير في الرأي و حدوث العلم بعد الجهل،و لا يكون جزافا بل لا بد و أن يكون لأجل مصلحة في الجعل الأولى و إبرازه بصورة الاستمرار ثم إزالته عن عالم الإثبات.

و منه قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ8.

ص: 197


1- سورة البقرة،الآية:143.
2- هذا التعبير دليل على ما نقول من أن العلم الفعلي عبارة عن حضور المعلوم بوجوده الخارجي لدى العالم،فراجع رسالتنا في البداء.
3- البرهان:ج 1 ص 158.

اَلْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (1) .

فقد روى محمد بن يعقوب عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و أحمد بن ادريس عن محمد بن عبد الجبار جميعا عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما(ع)في قول اللّه عزّ و جلّ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ،فقال نزلت في خوات (2)بن جبير الأنصاري و كان مع النّبي(ص)في الخندق و هو صائم فأمسى و هو على تلك الحال، و كانوا قبل أن تنزل هذه الآية إذا نام أحدهم حرم عليه الطعام و الشراب،فجاء خوات إلى أهله حين أمسوا،فقال:هل عندكم طعام،فقالوا:لا تنم حتى نصلح لك طعاما فاتكأ فنام،فقالوا له:قد فعلت،قال:نعم فبات على تلك الحال فأصبح ثم غدا إلى الخندق فجعل يغشى عليه،فمرّ به رسول اللّه(ص)فلما رأى الذي به أخبره كيف كان أمره فأنزل اللّه عزّ و جلّ الآية: كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .

و يظهر من هذه الرواية و ما يشبهها في المضمون أن علة نسخ الحكم الأول هو الرفق و التسهيل،و نظيره آية ثبات الواحد في مقابل العشرة حيث قال اللّه تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (3)،و قد نسخ هذا الحكم-الذي يكون بصورة الاخبار و يظهر كونه حكما من الآية التالية،قوله تعالى: اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ6.

ص: 198


1- سورة البقرة،الآية:187.
2- بالخاء المعجمة و الواو المشددة و التاء المنقوطة.
3- سورة الأنفال،الآية:66.

بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ (1) ،و تظهر علة النسخ من قوله تعالى: خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ ،و انها التخفيف و أنه أوجب وجوب ثبات الواحد في مقابل اثنين بعد ما كان الواجب ثبات الواحد فى مقابل العشرة.

و منه قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (2)،نسخه قوله تعالى:

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (3) ، فعن محمد بن يعقوب عن على بن إبراهيم عن أبيه و علي بن محمد القاساني جميعا عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه(ع)في حديث الأسياف الذى ذكره عن أبيه قال فيه:

«و أما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب،قال اللّه عزّ و جلّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا -يعني آمنوا- وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ (4)فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ (5)،فهؤلاء لا يقبل منهم أو الدخول في الإسلام و أموالهم و ذراريهم سبي على ما سنّ رسول اللّه(ص)فانه سبى و عفا و قبل الفداء،و السيف الثاني على أهل الذمة،قال اللّه عزّ و جلّ: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (6)،نزلت هذه الآية في أهل الذمة،ثم نسخها قوله عزّ و جلّ: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ3.

ص: 199


1- سورة الأنفال،الآيتان:65 و 66.
2- سورة البقرة،الآية:83.
3- سورة التوبة،الآية:29.
4- سورة التوبة،الآية:5.
5- سورة التوبة،الآية:11.
6- سورة البقرة،الآية:83.

اَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (1).

و يؤيده ما ورد في تفسير القمي في ذيل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ (2)،قال علي بن إبراهيم:انها نزلت بمكة قبل الهجرة فلما هاجر رسول اللّه(ص)إلى المدينة و كتب عليهم القتال نسخ هذا،فجزع أصحابه من هذا فأنزل اللّه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ -بمكة- كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ،لأنهم سألوا رسول اللّه(ص)بمكة أن يأذن لهم في محاربتهم فأنزل اللّه: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ -بالمدينة قالوا:- رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ -فقال اللّه:-قل-لهم يا محمد- مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (3)،الفتيل القشر الّذي في النواة،ثم قال: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (4)يعني الظلمات الثلاث التي ذكرها اللّه و هي المشيمة و الرحم و البطن (5).

و هذا الأخير إنما هو كلام القمي غير المعلوم إسناده إلى المعصوم(ع) و لو مرسلا،فلا حجية فيه و رواية حفص ضعيفة.

و هناك قسم آخر من النسخ،و هو نسخ الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة كقصاص النفس بالنفس مطلقا:و قد نسخ بقوله تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ،و كوجود أحكام ذات مشقة نسخت بقوله تعالى: اَلَّذِينَ8.

ص: 200


1- الكافي:ج 5 ص 10-11 باب وجوه الجهاد ح 2.
2- و(7)سورة النساء،الآية:77.
3- سورة النساء،الآية:78.
4- تفسير القمي:ج 1 ص 143-144.
5- سورة البقرة،الآية:178.

يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (1) فعن الشيخ بإسناده عن محمد بن عيسى عن يعقوب ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه(ع)قال:«كان بنو إسرائيل إذا أصاب من بدنهم بول يقطعوا لحومهم بالمقاريض و قد وسع اللّه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض و جعل لكم الماء طهورا» (2).

و تلخيص المقام أن النسخ و هو بيان انتهاء أمد الحكم فيما كان دليله ظاهرا في الاستمرار بحسب الأزمنة جائز عقلا و واقع شرعا إلا أن كثيرا من الموارد التي يدعى النسخ فيها ليست من النسخ في شيء و جملة منها ليس لها دليل متقن و سند صحيح،و قد عرفت منا أن تلك المسألة بطولها و تأليف جماعة من العامة كتبا عديدة فيها لا ثمرة لها فقها،فترك الإطالة فيها أولى برعاية الوقت،نعم القول بعدم وقوع النسخ شرعا باطل قطعا لما عرفت من وجود جملة معتد بها من الأحكام المنسوخة في الشريعة الإسلامية.

المطلب الخامس: في جواز نسخ القرآن بخبر الواحد:

لا ينبغي الاشكال في الجواز عقلا كما لا ينبغي الشك في عدم وقوعه خارجا،ثم لا ثمرة لهذا البحث قطعا،فهناك دعاوى ثلاث:

و الدليل على الأولى أن الخبر الواحد بعد ما ثبت طريقيته عرفا و أماريته على الواقع لم يكن فرق بين كون مؤداه عاما أو خاصا،ناسخا أو منسوخا أو غير

ص: 201


1- سورة الأعراف،الآية:157.
2- البرهان:ج 2 ص 40.

ذلك،نعم لو قلنا أن طريقية خبر الواحد إنما هي أمر اعتباري شرعي كان للقول بإمكان قصر الشارع حجيته بما إذا لم يكن مؤداه ناسخا للقرآن مجال،لكن المبنى و البناء فاسدان،أما الأول فلأن خبر الواحد حجة عقلائية لا تعبدية، و أما الثاني فلأن دليل حجية خبر الواحد عام شامل لمحل النزاع.

و الدليل على الثانية أن موارد النسخ معدودة و كلها ثابتة بالقرآن على ما اخترنا أو بالسنة المتواترة كما عليه العامة و لم توجد آية نسخت بخبر الواحد، و القول بعدم الجواز مستدلا بالاجماع عجيب لأن معقد الاجماع إنما هو عدم الوقوع خارجا لا عدم الجواز عقلا.

و أما الثالثة فلأن الثمرة سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 202

الأمر الثامن : في كيفية نزول القرآن

لا ريب في أمرين في المقام لا يتلاءمان ظاهرا.

الأول:أنه لا اشكال بحسب التاريخ و الأخبار و اجماع علماء الإسلام و نصوص القرآن في أن القرآن نزل منجما و على أقساط،و لذا تكون جملة من الآيات السور مكية و جملة منها مدنية و كان لنزولها في غالب الموارد سبب و شأن،فنزول القرآن على نحو التنجيم و التناوب أمر ضروري عند كافة المسلمين و موافق للأخبار المتواترة،و في القرآن: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (1).

الثاني:أنه قد ورد في جملة من الآيات القرآنية ما يدل على نزول القرآن دفعة واحدة،قال اللّه تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (2)، و الليلة المباركة هي ليلة القدر،لقوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (3)،

ص: 203


1- سورة طه،الآية:114.
2- سورة الدخان،الآية:3.
3- سورة القدر،الآية:1.

ثم إنه ورد في القرآن أن القرآن نزل في شهر رمضان،قال اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ (1)الآية،و حينئذ يأتي الاشكال بأنه كيف يمكن التوفيق بين الأمرين:

1-نزول القرآن منجما.

2-و نزوله في ليلة مباركة،أضف إلى ذلك قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ (2)،و قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (3).

و للجواب نذكر أمورا:

الأمر الأول:النزول في اللغة هو الإنحدار من علو إلى أسفل يقال،نزل من علو إلى أسفل أي انحدر،و يقال نزل به الأمر أي حل به،و على هذا فالنزول ليس من الماهيات المتأصلة بل هو من الأفعال التعلقية،و منشؤه هو الحركة من العالي إلى السافل،و لما كان العلو و الدنو من الأمور الإضافية فلا بد و أن يتعلقا بما يضافان إليه،الأول منهما بالمبدإ و الآخر بالمنتهى،و حيث أن النزول من الأفعال التعلقية بالنسبة إلى الأشياء ذات الإضافة فله من جهة التطبيق عرض عريض.

و إن شئت قلت أن النزول حقيقة ذات مصاديق كثيرة-الخارجية و المعنوية و الاعتبارية-،يقال نزل من السطح و يقال:نزل فهمه،و ذات مراتب عديدة في جميع أنواعها،و اعتبر ذلك من النزول الخارجي-الحسي-في مثال النزول من السطح فترى صدق قولك نزل من السطح بالسلم إلى الدرجة الثالثة،ثم4.

ص: 204


1- سورة البقرة،الآية:185.
2- سورة البقرة،الآية:97.
3- سورة الشعراء،الآيتان:193 و 194.

نزل إلى الرابعة و هكذا..

و قس عليه أمثلة كثيرة بالنسبة إلى جميع أنواع النزول من الخارجي إلى الاعتباري،و على هذا يمكن أن ينزل شيء واحد من مبدأ إلى مبدأ الى منتهى في نزوله إلى أمكنة متعددة بين هذا المبدأ و ذلك المنتهى و يكون نزوله تدريجيا كالنزول من السطح بسبب السلم الّذي قلنا يتحقق ذلك بالنزول إلى درجة ثم درجة أخرى من السلم حتى يتحقق الوصول إلى الأرض و به يتم آخر مراتب نزول شيء واحد من مبدأ واحد إلى منتهى واحد.

الثاني:اختلف علماء الإسلام في حقيقة القرآن على أقوال،فقالت الأشاعرة انه صفة قائمة بذات اللّه فهي قديمة لقدم الذات و يقال لهم الصفتية، و قالت الحنابلة انه من مقولة الألفاظ و لكنه قديم،و ذهبت المعتزلة إلى أنها ألفاظ حادثة قائمة بالملك،و قالت الكرامية أنها حادثة و قائمة باللّه تعالى.

و منشأ النزاع أن القرآن هل هو صفة له حتى يكون قديما أم لا؟.

و جوابه واضح،اذ القرآن بما هو فعل من أفعال اللّه فليس بصفة،و إذا قلنا بحدوث ما سوى ذات اللّه تعالى فجميع أفعاله و منها كلامه حادثة،فالنزاع لا بد و أن يكون صغرويا.

و لتوضيح المطلب،و إن كان كالبديهي من الوضوح نقول:أنه لا ريب في أن النازل من اللّه تعالى إنما هو من مقولة الألفاظ و كيف لا و صفات الذات غير زائدة عن الذات و لا يعقل انفكاكها عن الذات.

و احتجاج الأشعري لمذهبه بأن المتكلم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام باطل قطعا لأن قيام الكلام بالمتكلم قيام صدوري لا حلو لي و القيام الصدوري للكلام إنما هو عبارة عن إيجاده خارجا كقيام سائر الأفعال بالفاعلين حيث أنه قيام صدوري و هو متحد حقيقة مع الإيجاد،فلا فرق بين قيام الكلام بالمتكلم و إيجاده له بعد ما عرفت من أن قيام المبدأ بفاعله قيام إيجادي،فكلام

ص: 205

اللّه فعل من أفعاله،و لذا ترى التعبير عن القرآن بالنزول و الذكر و الوحي و البرهان و الكتاب و الفرقان و القرآن،و كل تلك الألفاظ دالة على كون القرآن من مقولة الألفاظ لا الصفات،و أما معاني القرآن فهي منبعثة عن علم اللّه تعالى بالأصلح الّذي هو عين ذاته،و بالجملة القرآن عبارة عن الألفاظ الدالة على المعاني و ليس هو صفة و ليس بألفاظ فقط بل هي ألفاظ مع المعاني.

الثالث:قد يتوهم من استلزام علم الباري بعواقب الأمور و من ورود النص بأنه قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة عدم تأثير لأي فعل من الأفعال الاختيارية في الحوادث و قلبها،و يزول هذا التوهم بالدقة في أن الأفعال الاختيارية خيرا أو شرا إنما هي بعض من المؤثرات التكوينية في الحوادث من الصحة و المرض و الفقر و الغنى و طول العمر و قصره و غير ذلك،و كل ذلك مندرج تحت سنّة اللّه التكوينية،فالمقتضيات التكوينية بجعل اللّه التكويني و خلقه إنما تؤثر آثارها و تسبب مقتضياتها و تصل إلى حد العلة التامة إذا وجدت شرائطها التي منها أفعال العباد بجعل تشريعي من اللّه لأحكامها و جعل تكويني لآثارها،فاقدة للموانع التي منها أفعال العباد كما في الشرائط،فإذا كان لطبيعة الإنسان اقتضاء أن يعيش مائة سنة و كان من شرطها صلة الرحم أو كان المانع عن اقتضائها الزنا فلم يوجد الأول أو وجد الثاني،-و يكون ذلك باختيار الإنسان بالضرورة-لم يكن ذلك منافيا لعلم اللّه بعواقب الأمور و لم يكن مخالفا لجفاف قلم التقدير اذ قد عرفت بأن أفعال العباد خيرا و شرا جزء لا يتجزأ من التقدير، فدعاء الخير مثلا في ليلة القدر و كذلك إحياؤها جزء أساسي من التقدير في تلك الليلة،و لذا يسأل عن المعصوم(ع)بأن الرقية (1)من القدر فيجيب ب-نعم-.

الرابع:لقد تصدى جمع من العلماء للجمع بين الآيات و الأخبار المتخالفة في نزول القرآن،قال ابن عباس:«أنزل اللّه القرآن جملة واحدة-.

ص: 206


1- الدعاء المكتوب-التعويذ-.

من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم كان ينزله جبرائيل على محمد(ص)نجوما و كان من أوله إلى آخره ثلاث و عشرون سنة» (1).

و قال الشعبي:معناه إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر،و قال مقاتل:أنزله اللّه من اللوح المحفوظ إلى السفرة و هم الكتبة من الملائكة في السماء و كان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرائيل على النبي(ص)في السنة كلها إلى مثلها من قابل،و الكلام في ليلة القدر على ضروب:فالأول:

الاختلاف في معنى هذا الإسم و مأخذه فقيل سميت ليلة القدر لأنها الليلة التي يحكم اللّه فيها و يقضي بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر،عن الحسن و مجاهد و هي الليلة المباركة في قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (2)، لأن اللّه ينزل فيها الخير و البركة و المغفرة،و روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال:يقضي القضايا في ليلة النصف من شعبان ثم يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر،و قيل:ليلة القدر أي ليلة الشرف و الخطر و عظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس أي منزلة و شرف،و منه: ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (3)،أي ما عظموه حق عظمته عن الزهري.

و قال أبو بكر الوراق:لأن من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر، و قال غيره لأن للطاعات فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا،و قيل:سميت ليلة القدر لأنه أنزل فيه كتاب ذو قدر إلى رسول ذي قدر لأجل أمة ذات قدر على يدي ملك ذي قدر،و قيل:هي ليلة التقدير لأن اللّه تعالى قدر فيها إنزال القرآن،و قيل:

سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة من قوله:و من قدر عليه رزقه عن الخليل بن أحمد،و قال الكاشاني:4.

ص: 207


1- مجمع البيان:تفسير سورة القدر.
2- سورة الدخان،الآية:3.
3- سورة الحج،الآية:74.

و المستفاد من مجموع هذه الأخبار و خبر اليأس الذي أورده في الكافي في باب شأن إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)و تفسيرها من كتاب الحجة أن القرآن نزل كله جملة واحدة في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان إلى البيت المعمور،و كأنه أريد به نزول معناه على قلب النّبي(ص)،كما قال اللّه تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ (2)،ثم نزل في طول عشرين سنة نجوما في باطن قلبه إلى ظاهر لسانه كلما أتاه جبرائيل(ع)بالوحي و قرأه عليه بألفاظه،و أن معنى إنزال القرآن في ليلة القدر في كل سنة إلى صاحب الوقت إنزال بيانه بتفصيل مجمله و تأويل متشابهه و تقييد مطلقه و تفريق محكمه من متشابهه،و بالجملة تتميم إنزاله بحيث يكون هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان،كما قال اللّه سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (3)-يعني ليلة القدر منه- هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ (4)تثنيه (3)لقوله عز و جل إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (6)،-أي محكم- أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ (7)،فقوله:

فِيها يُفْرَقُ و قوله: وَ الْفُرْقانَ معناهما واحد فإن الفرقان هو المحكم الواجب العمل به كما مضى في الحديث،و قد قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (8)-أي حين أنزلناه نجوما- فَإِذا قَرَأْناهُ (9)عليك،حينئذ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (10)-جملته- ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (11)،في ليلة القدر بإنزال الملائكة و الروح فيها عليك و على أهل بيتك من بعدك بتفريق المحكم من المتشابه9.

ص: 208


1- سورة القدر،الآية:1.
2- سورة الشعراء،الآيتان:193 و 194. (3 و 4) سورة البقرة،الآية:185.
3- تثبيت خ ل. (6 و 7) سورة الدخان،الآيات:3-5. (8 و 9 و 10 و 11) سورة القيامة،الآيات:17-19.

و بتقدير الأشياء و تبيين أحكام خصوص الوقائع التي تصيب الخلق في تلك السنة إلى ليلة القدر الآتية،قال في الفقيه:تكامل نزول القرآن ليلة القدر و كأنه أراد به ما قلناه و بهذا التحقيق حصل التوفيق بين نزوله تدريجا و دفعة و استرحنا من تكلفات المفسرين (1).

و قال الشّيخ محمد حسين الأصفهاني النجفي(ره):لما كانت جميع الحوادث الواقعة في السنة مقدرة متعينة الأحكام و الحدود في ليلة القدر على ما يستفاد من الأخبار المستفيضة لزم منه أن تكون الآيات التي نزلت في كل سنة ثابتة متعينة في ليلة القدر التي تقع في تلك السنة،و لهذا يصح القول بأن القرآن نزل في ليلة القدر و في شهر رمضان لأنها فيه على ما يستفاد من المستفيضة المعتضدة بالكتاب،لكن الظاهر من تنكير الليلة في الآية الثالثة (2)و رواية حفص المتقدمة،و ذكر مضمون هذا الجزء منه-أعني قوله:«نزل القرآن جملة واحدة الخ..»-على ابن إبراهيم في تفسيره من دون اسناد إلى الإمام(ع)لكن الظاهر أخذه من رواياتهم مع ما يشعر به سائر الروايات،أن القرآن نزل في ليلة واحدة جملة-خبر لقوله لكن الظاهر-و حينئذ فيمكن أن يقال أن القرآن إنما قرر و ثبت كلا تبعا لتقدير النبوة و الرسالة لأنه لما قدر الرسالة و الإنذار قدر المرسل به و المنذر به لأنه من متعلقاته،و لما كان اعطاء منصب الرسالة رفيعا لزم عند تعيين المرسل به كما إذا قدر و عين السبب في آخر السنة،بحيث لا ينفك عن تفرع مسببه عليه ترتب عليه تقدير المسبب في أول السنة الآتية.و الذي يقتضيه النظر الدقيق أن توقيت التقديرات بليلة القدر إنما هو في بعض المراتب النازلة من مراتب القضاء و القدر و فوقه مراتب أخرى إلى أن ينتهي إلى اللوح المحفوظ الذي رقم فيه جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة .

ص: 209


1- تفسير الصافي:ج 1 ص 57 المقدمة التاسعة.
2- مراده إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ .

قبل خلق العالم،و يشبه أن يكون هو أم الكتاب التي يتولد منها أحكام القضاء مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى تفصيل أحكام كل سنة في ليلة القدر منها و حينئذ فنزول القرآن جملة واحدة يصح أن يكون من عالم اللوح المحفوظ دفعة إلى مرتبة تحتها ثم نزوله منها في مرتبة ثالثة في كل سنة بقدرها ثم نزوله في هذا العالم في أجزاء الليالي و الأيام و يشبه أن يكون المرتبة الثانية هي البيت المعمور أو باطنه و روحه و هو مظهره كما روى،انتهى (1).

و التحقيق أن القاعدة في فهم المراد هو الأخذ بالظواهر ما لم تكن قرينة على الخلاف،نعم حمل اللفظ على معنى مؤول تبرعا جائز و لكنه لا حجية فيه قطعا،و من هنا يتبين أن غالب ما ذكره أهل العرفان و التصوف في معاني الآيات و الأخبار و كلمات الأدباء ليس بحجة لأنهم لم يأتوا على ما ذكروه ببرهان يقبله العقلاء لو لا تعمد التغافل،و من هنا نقول بأن ما قاله الكاشاني غير قابل للقبول لأنه حمل أولا البيت المعمور على قلب النّبي(ص)،و حمل ثانيا القرآن على معانيه دون الألفاظ بما لها من المعاني،و حمل ثالثا نزول جبرائيل به على النّبي(ص)على جريانه من قلبه إلى لسانه،و هذه الأمور و ما شاكلها غير مرضية لدى العاقل الفطن،نعم ما يظهر من الشيخ الأصفهاني النجفي(ره)من تعدد مراتب النزول صحيح بتقريب أن حديث حفص-9-قرينة واضحة على تعدد مراتب النزول لأنه لما سأل الإمام(ع)بأن اللّه يقول شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن مع أن نزوله كان في مدة عشرين سنة يجيب الإمام(ع)بأن نزوله جملة واحدة في شهر رمضان كان إلى البيت المعمور،و على هذا نقول أن تطبيق الإسم على المسمى المجهول الّذي لم نره و لم نتعقله و لم يكن له في الأخبار بيان و تعريف إنما هو التزام بلا ملزم،فالبيت المعمور اسم لمكان شريف قابل لنزول القرآن-و هو كما عرفت كلام لفظي مخلوق من اللّه حادث بماله من9.

ص: 210


1- التفسير:ص 69.

المعاني-فيه،و إن شئت قلت أن البيت المعمور بلاط ملكي إلهي و حيث أن مراتب النزول مختلفة فلنا أن نعتقد بصحة كون مرتبة من مراتب نزول القرآن انما هي قلب النبي(ص)و من المراتب قلب الوصي(ع)كما روى أنه لما ولد قرأ بحضرة من الرسول الأعظم(ع)قبل بعثته الشريفة قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)،و حينئذ يكون نزول القرآن بواسطة جبرائيل نزولا تشريفيا و قانونيا،أما التشريف فواضح حيث أن مجيء رسول من قبل العظيم تعالى لتبليغ كلامه إلى حبيبه،فيه من الشرف ما لا يخفى،و أما القانونية فلأن الإنسان الجاهل لا يمكنه الوصول إلى أعلى مدارج العلم و المعرفة آنا واحدا فحصول العلم له تدريجي،أضف إليه أن التكاليف لا بدّ و أن تلقى على المكلفين على كيفية لا توجب التمرد و الطغيان منهم،و لذا ترى بأن تبليغ الخلافة كان آخر ما بلغه النبي(ص)في رسالته الربانية و مع ذلك ترى أن بعضا من المعاندين قد استثقل ذلك و جحد و سأل بعذاب واقع من اللّه ليس له دافع، فقطع دابره بحمد للّه و لطف منه على أوليائه.

و بالجملة كان لنزول القرآن مراتب،فصح أنه نزل جملة واحدة و صح أنه نزل نجوما لاختلاف المرتبة كما قلنا،بل هناك نزول آخر حققناه في بحث التحريف و هو نزول المفهوم على المصداق الواقعي أو أكمل المصاديق، فراجع هذا المقام.

و أما الليلة التي نزل فيها،و هي ليلة القدر،فقد اختلفوا فيها و ربما يظهر من بعض الروايات و الأدعية التي وردت في جملة من الليالي أنها متعددة،فقد يظهر من بعض الروايات أن ليلة النصف من شعبان تقدر فيها الأمور،و من بعضها أن ليلة تسع عشرة من رمضان تقدر فيها الأمور،بل قد عرفت اختلاف المراتب في تفريق الأمور تقديرا و امضاء و ابراما و انها توزع على الليالي1.

ص: 211


1- سورة المؤمنون،الآية:1.

الثلاث،و من بعضها يظهر أن أفضل الليالي في السنة ليلة الثالث و العشرين من شهر رمضان،و هي ليلة الجهني،فقد يستفاد منه أن هذه الليلة هي ليلة القدر.

و التحقيق في ذلك أن الليلة التي نزل فيها القرآن هي الليلة التي استشهد فيها علي بن أبي طالب(ع)و هي ليلة احدى و عشرين من شهر اللّه الأعظم،دلّ على ذلك صحيح علي بن أبي حمزة الثمالي المروي في الكافي (1)،و لكن ذلك لا ينافي تعدد ليالي القدر التي فيها تقدر الأمور،اذ قد عرفت من الأخبار المتقدمة أن تقدير الأمور إنما هو على الترتيب،ففي ليلة تسع عشرة يكون التقدير و في ليلة احدى و عشرين القضاء و في ليلة ثلاث و عشرين الإبرام.

و يبقى الكلام في سر اختلاف مراتب التفريق و التقدير و عدم منافاة ما ذكر مع جفاف القلم،فنقول:إن عناية اللّه تعالى بعباده أوجب المنة عليهم بالإنعام و التكرم عليهم بالإحسان،فأفاض عليهم النعم و وعدهم بإكثارها بالشكر بما له من المصاديق الكثيرة من التلفظ بالحمد إلى صرف النعم في المشاريع المقررة لها شرعا،و أمرهم بالدعاء زيادة للبركة و توفيرا للنعمة،و لما كانت النعم في معرض الزوال بسبب الطغيان و العصيان،و كانت الغرائز البهيمية و السبعية تؤهل الإنسان لقبول وساوس الشيطان المؤدية إلى الوقوع في ورطة الذنوب،فتح اللّه سبحانه على المذنبين أبوابا من المغفرة و الرضوان و من التوبة و التضرع إليه تعالى و جبران المعاصي ورد مظالم العباد إليهم و قضاء ما فات من العبادات و أداء الحقوق الواجبة بأقسامها،و إذابة لحم نبت في المعصية و نحو ذلك،مما هو مذكور في الكتب المعتبرة و مستفاد من الأخبار الكثيرة فاللّه سبحانه زيادة للافضال و تتميما للاكرام فتح أبوابا متفرقة على العباد إلى الخيرات،فقرر أزمنةة.

ص: 212


1- كما في الكافي:ج 1 ص 457 باب مولد أمير المؤمنين(ع)ح 8 ذكره عن أبي حمزة.

خاصة و أمكنة مخصوصة و أعمالا صالحة و أدعية شاملة لأنواع التضرعات و الطلبات.

فترى أن اللّه تعالى جعل كل آن من الآنات ليلا و نهارا زمان الرجوع إليه و طلب الحاجة منه و جعل الأسحار ربيعا للأبرار و موعدا للأخيار لمناجاته و الاستغفار،و جعل كل ما قرب إلى الفجر أفضل من غيره و جعل ليلة الجمعة و يوم الجمعة و عشيتها ميقاتا للتوبة و زمانا لطلب الحاجة،و جعل ثلاثة أشهر أزمنة للعابدين و مواقيت للتائبين،و قد ألف علماؤنا كتبا عديدة لأعمال تلك الأشهر الثلاثة،و جعل شهر رمضان منسوبا إلى ذاته المقدسة مع أن الزمان معيار انتزاعي للحركات و المتحركات و مع أن كل زمان منه و به و له،و جعل ليالي القدر أفضل من غيرها حتى وصلت نوبة التفضيل إلى أفضل تلك الليالي و أنها هل هي ليلة إحدى و عشرين كما هو الراجح بنظرنا،أو ليلة ثلاث و عشرين كما عن بعض علمائنا،و من هنا تعرف أن سر اختفائها أو اخفائها من المعصوم(ع) لها كما في رواية حسان بن مهران و رواية الثمالي إنما هو ترغيب المشتاقين إلى رحمة رب العالمين و عدم اكتفائهم بليلة واحدة في الإتيان بالأعمال الصالحة و التوبة و الإنابة،فترى أن المعصوم(ع)يقول بأن ما أيسر ليلتين،و يتفرع على هذا أن اللّه سبحانه يقدر المقادير في ليلة و يمن على عباده بتوسيع المجال لطلب المغفرة و البركة و غفران السيئة و دفع البلية في ليلة أخرى،و هكذا فتعدد الليالي و كونها ثلاثة أو أزيد في تقدير الأمور لا ينافي وحدة الليلة المباركة التي نزل القرآن فيها.

و يبقى الكلام في جفاف القلم و عدم منافاته مع التقدير.

فنقول توضيحا لما سبق:ان علمه تعالى بالأشياء لا ينافي تقديراته لأن معنى التقدير جعل مقتضى لشيء أو شرط له أو مانع عنه فإذا تحقق المقتضى و الشرط و لم يكن هناك مانع،وجد المقتضى-بالفتح-و إذا فقد المقتضى أو

ص: 213

الشرط أو وجد المانع لم يوجد المقتضى-بالفتح-و كل ذلك معلوم عند اللّه أزلا،فلنفرض أن لمقدار من الرزق مقتضى و هو الحياة مثلا و لزيادته مقتضى آخر كالانفاق في سبيل اللّه،و لفعليته مانع و هو نهر السائل و هكذا كان لمقدار من العمر مقتضى و لزيادته مقتضى آخر و لنقصه مانع.

و على هذا فيكون زيادة الرزق أو نقصه و كذا زيادة العمر أو نقصه لما ذكرنا،و ينقسم-لذلك-الأجل إلى معلق و محتوم،و لا ينافي هذا التقسيم قول اللّه تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (1)،اذ كل ذلك كان معلوما عند اللّه أزلا،و لا ينافي اختيار العبد جزما: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (2).

فعلى الخبير أن يغتنم الفرصة و يأتي بالطاعة و يجتنب المعصية و لا يغتر بما قرع سمعه من جفاف القلم اذ من الواضح أن سعيه سوف يرى.

وفقنا اللّه للعمل الصالح و الإنابة إليه،و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين و الحمد رب العالمين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3).7.

ص: 214


1- سورة الأعراف،الآية:34.
2- سورة الرعد،الآية:39.
3- سورة البقرة،الآية:127.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.