الاربعين في اصول الدين

اشارة

سرشناسه : غزالی، محمد بن محمد، ق 505 - 450

عنوان و نام پديدآور : ...الاربعین فی اصول الدین/ ابی حامد محمد بن محمد بن محمد غزالی

مشخصات نشر : بیروت : دارالکتب العلمیة ، م 1988 = .ق 1409 = .1367.

مشخصات ظاهری : ص 192

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

موضوع : اخلاق اسلامی -- متون قدیمی تا قرن 14

موضوع : اسلام -- عقاید

رده بندی کنگره : BP247/35/غ 4 الف 4

شماره کتابشناسی ملی : م 80-37726

ص: 1

اشارة

ص: 2

المقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله أجمعين.

«أما بعد»و لعلك تقول هذه الآيات التي أوردتها في القسم الثاني (1)تشتمل على أصناف مختلفة من العلوم و الأعمال،فهل يمكن تمييز مقاصدها و شرح جملها على وجه من التفصيل و التحصيل يمكن التفكر في كل واحدة منها على حيالها ليعلم الإنسان تفصيل أبواب السعادة في العلم و العمل،و يتيسر عليه تحصيل مفاتيحها بالمجاهدة و التفكير؟ «فأقول»نعم ذلك يمكن،فإنه ينقسم جمل مقاصدها إلى علوم و أعمال،و الأعمال تنقسم إلى ظاهرة و باطنة،و الباطنة تنقسم إلى تزكية و تحلية؛فهي أربعة أقسام:علوم و أعمال ظاهرة،و أخلاق مذمومة تجب التزكية عنها،و أخلاق محمودة تجب التحلية بها.

و كل قسم يرجع إلى عشرة أصول.و اسم هذا القسم:كتاب الأربعين في أصول الدين.

فمن شاء أن يكتبه مفردا فليكتب فإنه يشتمل على زبدة علوم القرآن.

ص: 3


1- يعني القسم الثاني من كتاب«جواهر القرآن و درره»و كتاب«الأربعين في أصول الدين»الذين بين أيدينا الآن هو القسم الثالث من كتاب«جواهر القرآن»كما وضعه الغزالي.يقول في فهرسته لكتاب الجواهر:«...القسم الثالث في اللواحق:و مقصوده حصر جمل المقاصد الحاصلة من هذه الآيات،و هو منعطف على جملة الآيات،و هو كتاب مستقل لمن أراد أن يكتبه مفردا،و قد سميناه «كتاب الأربعين في أصول الدين».

ص: 4

القسم الأول: في جمل العلوم و أصولها و هي عشرة

الأصل الأوّل في الذات:

فنقول:الحمد للّه الذي تعرف إلى عباده بكتابه المنزل،على لسان نبيه المرسل، بأنه في ذاته واحد لا شريك له،فرد لا مثل له،صمد لا ضد له،متوحد لا ند له؛و أنه قديم لا أوّل له،أزلي لا بداية له،مستمر الوجود لا آخر له،أبديّ لا نهاية له،قيوم لا انقطاع له،دائم لا انصرام له؛لم يزل و لا يزال موصوفا بنعوت الجلال،لا يقضى عليه بالانقضاء و الانفصال،و بتصرم الآماد و انقضاء الآجال؛بل هو الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن،و هو بكل شيء عليم.

الأصل الثاني في التقديس:

و أنه ليس بجسم مصور،و لا جوهر محدود مقدر،و أنه لا يماثل الأجسام لا في التقدير و لا في قبول الانقسام،و أنه ليس بجوهر و لا تحله الجواهر،و لا بعرض و لا تحله الأعراض؛بل لا يماثل موجودا،و لا يماثله موجود،و ليس كمثله شيء و لا هو مثل شيء،و أنه لا يحده المقدار،و لا تحويه الأقطار،و لا تحيط به الجهات،و لا تكتنفه السموات،و أنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله،و بالمعنى الذي أراده،استواء منزّها عن المماسّة و الاستقرار،و التمكن و التحول و الانتقال؛لا يحمله العرش،بل العرش و حملته محمولون بلطف قدرته،و مقهورون في قبضته؛و هو فوق العرش و فوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش و السماء،بل هو رفيع الدرجات على العرش،كما أنه رفيع الدرجات على الثرى،و هو مع ذلك قريب من كل موجود، و هو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد،و هو على كل شيء شهيد،إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام،كما لا يماثل ذاته ذات الأجسام؛و أنه لا يحل في شيء،و لا يحل فيه شيء؛

ص: 5

تعالى عن أن يحويه مكان،كما تقدس عن أن يحدّه زمان؛بل كان قبل أن خلق الزمان و المكان،و هو الآن على ما عليه كان.و أنه باين بصفاته من خلقه ليس في ذاته سواه،و لا في سواه ذاته.و أنه مقدس عن التغيير و الانتقال،لا تحله الحوادث،و لا تعتريه العوارض،بل لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال،و في صفات كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال.و أنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول،مرئيّ الذات بالأبصار،نعمة منه و لطفا بالأبرار في دار القرار،و إتماما للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.

الأصل الثالث في القدرة:

و أنه حيّ قادر جبار قاهر،لا يعتريه قصور و لا عجز،و لا تأخذه سنة و لا نوم،و لا يعارضه فناء و لا موت.و أنه ذو الملك و الملكوت،و العزة و الجبروت،له القدرة و السلطان و القهر،و الخلق و الأمر،و السموات مطويات بيمينه،و الخلائق مقهورون في قبضته.و أنه المتفرد بالخلق و الاختراع،المتوحد بالإيجاد و الإبداع؛خلق الخلق و أعمالهم،و قدّر أرزاقهم و آجالهم،لا يشذ عن قبضته مقدور،و لا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور،لا تحصى مقدوراته و لا تتناهى معلوماته.

الأصل الرابع في العلم:

و أنه عالم بجميع المعلومات،محيط بما يجري في تخوم الأرضين إلى أعلى السموات،لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء،بل يعلم دبيب النملة السوداء،على الصخرة الصماء،في الليلة الظلماء،و يدرك حركة الذر في جوّ الهواء،و يعلم السر و أخفى،و يطلع على هواجس الضمائر و حركات الخواطر و خفيات السرائر،بعلم قديم أزلي،لم يزل موصوفا به في أزل الآزال،لا يعلم متجدد حاصل في ذاته بالتحوّل و الانتقال.

الأصل الخامس في الإرادة:

و أنه مريد للكائنات،مدبر للحادثات،فلا يجرى في الملك و الملكوت قليل و لا كثير،و لا صغير و لا كبير،خير أو شر،نفع أو ضر،إيمان أو كفر،عرفان أو نكر،فوز أو خسر،زيادة أو نقصان،طاعة أو عصيان،إلا بقضائه و قدره،و حكمه و مشيئته؛فما شاء كان،و ما لم يشأ لم يكن.لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر و لا فلتة خاطر؛بل هو المبدئ المعيد،الفعّال لما يريد،لا رادّ لحكمه،و لا معقب لقضائه،و لا مهرب لعبد عن

ص: 6

معصيته إلا بتوفيقه و رحمته،و لا قوة له على طاعته إلا بمعونته و إرادته.لو اجتمع الإنس و الجن و الملائكة و الشياطين،على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكّنوها دون إرادته و مشيئته عجزوا عن ذلك.و أن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته،لم يزل كذلك موصوفا بها،مريدا في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها،فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله،من غير تقدم و لا تأخر،بل وقعت على وفق علمه و إرادته،من غير تبدل و لا تغير.دبّر الأمور بلا ترتيب أفكار،و تربص زمان،فلذلك لا يشغله شأن عن شان.

اعلم أن هذا المقام مزلة الأقدام،و لقد زلت فيه أقدام الأكثرين،لأن تمام تحقيقه مستمدّ من تيّار بحر عظيم وراء التوحيد،و هم يطلبونه بالبحث و الجدال؛و لقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«ما ضلّ قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدال»و يستدلون بآيات القرآن مؤولين و ليسوا من أهل التأويل،و لو نال كل واحد مقام التأويل،لما قال صلى اللّه عليه و سلم داعيا لابن عباس-رضي اللّه عنهما-:«اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل»،و لما قال يعقوب ليوسف-على نبينا و عليهما السلام-«كذلك يجتبيك ربّك و يعلّمك من تأويل الأحاديث».قال صاحب«الكشاف»في تفسيرها:يعني معاني كتب اللّه،و سنن الأنبياء-عليهم السلام-و ما غمض و اشتبه على الناس من أغراضها و مقاصدها تفسرها لهم و تشرحها،و تدلهم على مودعات حكمها.و إنما زلت أقدام الأكثرين في هذا المقام،لأنهم يتبعون الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله،و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم؛و هؤلاء ليسوا براسخين فيه،بل هم قاصرون عاجزون؛فلقصورهم لم يطيقوا ملاحظة كنه هذا الأمر،فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمراته بلجام المنع مع سائر القاصرين،فقيل لهم اسكتوا،فما لهذا خلقتم، لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (1) [الأنبياء:23]عن أبي هريرة-رضي اللّه عنه-أنه قال:خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نحن نتنازع في القدر،فغضب-عليه السلام-حتى احمرّ وجهه الشريف،فقال:«أ بهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟إنما هلك من كان قبلكم،حين تنازعوا في هذا الأمر؛عزمت عليكم،عزمت عليكم في هذا الأمر أن لا تنازعوا فيه».

و عن أبي جعفر قال:قلت ليونس بن عبيد:مررت بقوم يختصمون في القدر، فقال:لو همّتهم ذنوبهم ما اختصموا في القدر،و امتلأ مشكاة بعضهم نورا مقتبسا من نور اللّه،و كان زيتهم صافيا حتى يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار،فاشتعل نورا على نور،

ص: 7


1- سوره 21 - آیه 23

فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها،فأدركوا الأمور كما هي عليه؛فقيل لهم:تأدبوا بآداب اللّه و اسكتوا،و إذا ذكر القدر فأمسكوا!فلذلك أمسك عمر لما سئل عن القدر،فقال للسائل:بحر عميق لا تلجه؛و لما كرر السؤال قال:طريق مظلم لا تسلكه؛و لما كرر ثالثا قال:سر اللّه قد خفي عليك فلا تفتشه.و من أراد معرفة أسرار الملكوت فليلازم بابهم بالمحبة و الإخلاص و الصدق و الإعراض عن عدائهم،و الامتثال بأوامرهم و السعي فيما يرضيهم،و كذلك من أحب معرفة أسرار الربوبية،فليلازم باب اللّه عز و جل بالمحبة،و الإخلاص،و الصدق و التعظيم،و الحياء و الامتثال بالأوامر، و الانتهاء عن المعاصي،و المجاهدة و الإقبال بكنه الهمة،و التعرض لنفحاته لقوله-عليه السلام-«إن لربكم في أيام دهركم نفحات،ألا فتعرّضوا لها»و السعي فيما يرضي و إن لم يطق ذلك فعليه أن يعتقد في هذا البحث ما عليه أبو حنيفة-رحمه اللّه-و أصحابه، حيث قالوا:إحداث الاستطاعة في العبد فعل اللّه،و استعمال الاستطاعة المحدثة فعل العبد حقيقة لا مجازا.و القدرية أنكروا قضاء اللّه و رأوا الخير و الشر من أنفسهم.

أرادوا بذلك تنزيه اللّه عن الظلم و فعل القبيح،و لكنهم ضلوا إذ نسبوا العجز إلى اللّه تعالى في ضمن ذلك،و لم يدروا.و الجبرية اعتمدوا على القضاء،و رأوا الخير و الشر من اللّه،و لم يروا من أنفسهم فعلا،كما لم يروا من الجمادات؛أرادوا بذلك تنزيه اللّه تعالى عن العجز فضلّوا،إذ نسبوا الظلم إليه تعالى في ضمن ذلك؛و أضلوا سفهاءهم، فكانوا يعصون اللّه و ينسبون إلى اللّه،و يبرءون أنفسهم عن الذم و اللوم كالشيطان حيث قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (1) [الأعراف:16].

فالحاصل أن القدرية أثبتوا الاختيار الكلي للعبد في جميع أفعال العباد،و أنكروا قضاء اللّه تعالى و قدره بالكلية في الأفعال الاختيارية.و الجبرية نفوا الاختيار بالكلية في أفعال العباد،و اعتمدوا على القضاء و القدر؛فينبغي للباحث معهم أن يضربهم،و يمزق ثيابهم و عمائمهم و يخدش وجوههم،و ينتف أشعارهم و شواربهم و لحاهم،و يعتذر بما اعتذر هؤلاء السفهاء في سائر أفعالهم القبيحة الصادرة منهم.و المعتزلة أضافوا الشر فقط إلى أنفسهم،و أثبتوا لأنفسهم الاختيار الكلي تحرزا عن نسبة القبح و الظلم إلى اللّه، و لكن نسبوا إلى اللّه العجز في ضمن ذلك و لم يدروا،فتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و أما أهل السنة و الجماعة،فتوسطوا بينهم،فلم ينفوا الاختيار عن أنفسهم

ص: 8


1- سوره 7 - آیه 16

بالكلية،و لم ينفوا القضاء و القدر عن اللّه تعالى بالكلية،بل قالوا:أفعال العباد من اللّه من وجه،و من العبد من وجه.و للعبد اختيار في إيجاد أفعاله.

و اعلم أن قضاء اللّه تعالى على أربعة أوجه:قضاء الطاعات،و قضاء المعاصي، و قضاء النعم،و قضاء الشدائد.و المذهب المستقيم في ذلك،إذا قضى للعبد الطاعة فعليه أن يستقبله بالجهد و الإخلاص حتى يكرمه اللّه بالتوفيق و الهداية لقوله تعالى:

وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (1) [العنكبوت:69].يعني الذين جاهدوا في طاعتنا و في ديننا لنوفقنهم لذلك.و إذا قضى المعصية،فعليه أن يستقبله بالاستغفار و التوبة و الندامة من صميم الفؤاد،لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (2) [البقرة:222].و إذا قضى النعمة،فعليه أن يستقبله بالشكر و السخاء حتى يكرمه بالزيادة،لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (3) [إبراهيم:7].و إذا قضى الشدة،فعليه أن يستقبله بالصبر و الرضاء حتى يعطيه الكرامة في الدار الآخرة،لقوله تعالى:«إن اللّه يحبّ الصّابرين» (4)و قال: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (5) [الزمر:10].و ذكر الفاضل الإمام مولانا علاء الدين في شرحه للمصابيح:

«الفرق بين القضاء و القدر،هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ، إجمالا لا تفصيلا،و القدر هو تفصيل قضائه السابق بإيجادها في المواد الخارجية واحدا بعد واحد.و قيل القضاء هو الإرادة الأزلية،و العناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص،و القدر تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها الخاصة.ثم إن المسلمين في القدر على اختلاف:منهم من ذهب إلى أن كلّ ما يجري في العالم من الخير و الشرّ و الأفعال و الأقوال بقضاء اللّه و قدره،و لا اختيار للعباد فيه،و يسمى هذا القوم جبرية.و الجبر هو القهر و الإكراه؛فيقولون:أجبر اللّه عباده على أقوالهم و أفعالهم من غير اختيار منهم فيها؛و يزعمون أن إضافتها إليهم إضافتها إلى الجمادات؛في مثل قولنا:دارت الرحا و جرى الميزاب.و هذا المذهب باطل؛لأنهم قالوا هذا القول ليسقطوا من أنفسهم التكاليف،و شبهوا أنفسهم بالصبيان و المجانين في عدم جريان الخطاب بهم،فقد كفروا؛لأن مذهبهم يفضي إلى إبطال الكتب و الرسل.و إن قالوا .

ص: 9


1- سوره 29 - آیه 69
2- سوره 2 - آیه 222
3- سوره 14 - آیه 7
4- لفظ الآية 146 من سورة آل عمران: وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ .
5- سوره 39 - آیه 10

ذلك لتعظيم اللّه و تحقير أنفسهم و عجزهم عن دفع قضاء اللّه،فهم مبتدعون لمخالفتهم الإجماع.

و منهم من ذهب إلى أن كل ما يصدر عن العباد عقيب قصدهم و إرادتهم يكون واقعا بقدرتهم و اختيارهم،و لا يتعلق بها بخصوصها قدرة اللّه و إرادته،و يسمّى هؤلاء قدرية لنفيهم القدر لا لإثباتهم.و هذا المذهب أيضا باطل؛لأنهم إن قالوا هذا القول عن اعتقاد جواز العجز عن التقدير للّه تعالى،فهم كافرون،تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؛و إن قالوا عن خطأ اجتهاداتهم و تنزيه الحق عن تقدير أفعالهم القبيحة و خلقها فهم مبتدعون لمخالفتهم الإجماع.و من هذه الطائفة من يقول:الخير بتقدير اللّه.

و الشر ليس بتقديره.

و المذهب الحق هو أن المؤثر مجموع القدرتين:قدرة اللّه و قدرة العباد،فالأفعال الصادرة عن العباد كلها بقضاء اللّه و قدره،و لكن للعباد اختيار،فالتقدير من اللّه، و الكسب من العباد،و هذا المذهب وسط بين الجبر و القدر،و عليه أهل السنة و الجماعة».انتهى كلامه.

و ذكرنا في كتاب«المقصد الأقصى»تدبير رب الأرباب و مسبب الأسباب،أصل وضع الأسباب،ليتوجه إلى المسببات حكمه،و نصبه الأسباب الكلية الأصلية الثابتة المستقرة التي لا تزول و لا تحول كالأرض و السموات السبع و الكواكب و الأفلاك، و حركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغير و لا تنعدم،إلى أن يبلغ الكتاب أجله و قضاؤه، كما قال: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ،وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها (1) [فصلت:12].و توجيهه هذه الأسباب-بحركاته المناسبة المحدودة المقدرة المحسوبة إلى مسببات الحادثة منها لحظة بعد لحظة-قدره.فالحكم هو التدبير الأول الكلي،و الأمر الأزلي هو كلمح البصر.و القضاء هو الوضع الكليّ للأسباب الكلية الدائمة.و القدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدّرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم لا يزيد و لا ينقص؛و لذلك لا يخرج شيء عن قضائه و قدره.و لا تفهم ذلك إلا بمثال؛و لعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها تتعرف أوقات الصّلوات و إن لم تشاهده،فجملة ذلك أنه لا بدّ فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارا من الماء معلوما،و آلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء،و خيط

ص: 10


1- سوره 41 - آیه 12

مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة،و طرفه الآخر في أسفل ظرف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة،و فيه كرة و تحته طاس،بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس و سمع طنينها،ثم تثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبا بقدر معلوم ينزل الماء،منه قليلا قليلا،فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء،فامتد الخيط المشدود بها فحرك الطرف الذي فيه الكرة تحريكا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس،فتتدحرج منه الكرة و تقع في الطاس و تطنّ،و عند انقضاء كلّ ساعة تقع واحدة؛ و إنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء و انخفاضه،و ذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء،و يعرف ذلك بطريق الحساب؛فيكون نزول الماء بمقدار مقدر معلوم،بسبب تقدير سعة الثّقبة بقدر معلوم،و يكون انخفاض أعلى الماء بذلك المقدار و به يتقدر،و انخفاض الآلة المجوفة و انجرار الخيط بها المشدود،و تولد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة؛و كل ذلك يتقدر بتقدّر سببه،و لا يزيد لا ينقص.و يمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببا لحركة أخرى،و تكون الحركة الأخرى سببا لحركة ثالثة،و هكذا إلى درجات كثيرة،حتى تتولد منها حركات عجيبة مقدرة بمقادير محدودة، و سببها الأول نزول الماء بقدر معلوم.

فإذا تصورت هذه الصورة،فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور:أوّلها التدبير،و هو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات و الأسباب و الحركات حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل؛و ذلك هو الحكم.و الثاني إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول،و هي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء،و الآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء،و الخيط المشدود بها،و الظرف الذي فيه الكرة و الطاس الذي تقع فيه الكرة؛ و ذلك هو القضاء.الثالث نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة،و هو ثقب أسفل الآلة ثقبة مقدرة السّعة،ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء تؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله،ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء بنزوله،ثم إلى حركة الخيط،ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة،ثم إلى حركة الكرة،ثم إلى الصدمة بالطاس-إذا وقع-ثم إلى الطنين الحاصل منها،ثم إلى تنبيه الحاضرين و استماعهم، ثم إلى حركاتهم في الاشتغال بالصلوات و الأعمال عند معرفتهم بانقضاء الساعة؛و كل ذلك يكون بقدر معلوم و مقدار مقدر بسبب تقدر جميعها بقدر الحركة الأولى،و هي حركة الماء.

ص: 11

فإذا فهمت أن هذه الآلات أصول لا بدّ منها للحركة،و أن الحركة لا بدّ من تقدرها ليتقدر ما يتولد منها،فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدر التي لا يتقدم منها شيء و لا يتأخر؛إذا جاء أجلهم،أي حضر سببها.و كل ذلك بمقدار معلوم أن اللّه بالغ أمره قد جعل اللّه لكل شيء قدرا.فالسماوات و الأفلاك و الكواكب و الأرض و البحر و الهواء، و هذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات،و السبب المحرك للأفلاك و الكواكب و الشمس و القمر بحساب معلوم،كتلك الثقبة الموجبة لنزول الماء بقدر معلوم،و إفضاء حركة الشمس و القمر و الكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض،كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرّفة لانقضاء الساعة.و مثال تداعي حركات السماء الى تغيير الأرض،هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق فاستضاء العالم،و تيسر على الناس الإبصار،فيتيسر عليهم الانتشار في الاشتغال؛فإذا بلغ المغرب تعذر عليهم ذلك،فيرجعوا إلى المساكن.و إذا قربت من وسط السماء و سامتت (1)رءوس أهل الأقاليم حمي الهواء و اشتد القيظ و حصل نضج الفواكه،و إذا بعدت حصل الشتاء و اشتد البرد،و إذا توسطت حصل الاعتدال فظهر الربيع،و أنبتت الأرض و ظهرت الخضرة؛و قس بهذه للمشهورات التي تعرفها و الغرائب التي لا تعرفها.

فاختلاف هذه الفصول كلها مقدرة بقدر معلوم،لأنها منوطة بحركات الشمس و القمر، و اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (2) [الرحمن:5]،أي حركتهما بحساب معلوم.فهذا هو التقدير.و وضع الأسباب الكلية هو القضاء.و التدبير الأول الذي هو كلمح البصر،هو الحكم.و كما أن حركة الآلة و الخيط و الكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة،بل ذلك هو الذي أراد بوضع الآلة فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث،شرها و خيرها،نفعها و ضرها،غير خارج عن مشيئة اللّه تعالى،بل ذلك مراد اللّه تعالى و لأجله دبر أسبابه.و تفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير؛و لكن المقصود من الأمثلة التنبيه،فدع المثال و تنبه للغرض،و احذر من التمثيل و التشبيه.

الأصل السادس في السمع و البصر:

و أنه تعالى سميع بصير،يسمع و يرى:لا يعزب عن سمعه مسموع و إن خفي، و لا يغيب عن رؤيته مرئيّ و إن دق،و لا يحجب سمعه بعد،و لا يدفع رؤيته ظلام،يرى

ص: 12


1- سامتت:قابلت و قربت.
2- سوره 55 - آیه 5

من غير حدقة و لا أجفان و يسمع من غير أصمخة (1)و لا آذان.كما يعلم من غير قلب، و يبطش بغير جارحة،و يخلق بغير آلة؛إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق،كما لا تشبه ذاته ذات الخلق.

الأصل السابع في الكلام:

و أنه متكلم آمرناه،و اعد متوعد بكلام أزلي قديم،قائم بذاته لا يشبه كلامه كلام الخلق،كما لا يشبه ذاته ذوات الخلق؛فليس بصوت يحدث من انسلال هواء و اصطكاك أجرام،و لا حرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان.و أن القرآن و التوراة و الإنجيل و الزبور كتبه المنزلة على رسله.و أن القرآن مقروء بالألسنة،مكتوب في المصاحف،محفوظ في القلوب.و أنه مع ذلك قديم قائم بذات اللّه تعالى،لا يقبل الانفصال و الافتراق بالانتقال إلى القلوب و الأوراق.و أن موسى-عليه السلام-سمع كلام اللّه بغير صوت و لا حرف.كما يرى الأبرار ذات اللّه-سبحانه-من غير جوهر و لا شكل و لا لون و لا عرض.و إذا كانت له هذه الصفات،كان حيّا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا،متكلما بالحياة و العلم و القدرة و الإرادة،و السمع و البصر و الكلام،لا بمجرد الذات.

الأصل الثامن في الأفعال:

و أنه لا موجود سواه إلا و هو حادث بفعله،و فائض من عدله،على أحسن الوجوه و أكملها،و أتمها و أعدلها.و أنه حكيم في أفعاله،عادل في أقضيته،لا يقاس عدله بعدل العباد؛إذ العبد يتصوّر منه الظلم بتصرفه في ملك غيره،و لا يتصوّر الظلم من اللّه تعالى -سبحانه-فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما.فكل ما سواه من إنس و جن،و شيطان و ملك،و سماء و أرض،و حيوان و نبات،و جوهر و عرض،و مدرك و محسوس،حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا و إنشاء،بعد أن لم يكن شيئا؛إذ كان في الأزل موجودا وحده،و لم يكن معه غيره،فأحدث الخلق إظهارا لقدرته، و تحقيقا لما سبق من إرادته،و لما حقّ في الأزل من كلمته،و هي قوله:«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف»لا لافتقاره إليه،و لا لحاجته.و أنه متفضل بالخلق و الاختراع

ص: 13


1- أصمخة:جمع صمخ،و هو باطن الأذن المفضي إلى الرأس.

و التكليف،لا عن وجوب،و متطول (1)بالإنعام و الإصلاح لا عن لزوم،فله الفضل و الإحسان و النعمة و الامتنان،إذ كان قادرا على أن يصب على عباده أنواع العذاب،و يبتليهم بضروب الآلام و الأوصاب (2).و لو فعل ذلك لكان منه عدلا و لم يكن منه قبيحا و لا ظلما.و أنه يثيب (3)عباده على الطاعات بحكم الكرم و العدل لا بحكم الاستحقاق و اللزوم؛إذ لا يجب عليه فعل،و لا يتصور منه ظلم،و لا يجب لأحد عليه حق.و أن حقه في الطاعات واجب على الخلق بإيجابه على لسان أنبيائه،لا بمجرد العقل،و لكنه بعث الرسل و أظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلّغوا أمره و نهيه،و وعده و وعيده،فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.

الأصل التاسع في اليوم الآخر:

و أنه يفرق بالموت بين الأرواح و الأجسام،ثم يعيدها إليها عند الحشر و النشور، فيبعث من في القبور و يحصّل ما في الصدور (4).فيرى كل مكلّف ما عمله من خير أو شر محضرا (5)،و يصادف دقيق ذلك و جليّه مسطّرا في كتاب،لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها.و يعرف كل واحد مقدار عمله،خيره و شره بمعيار صادق،يعبّر عنه بالميزان، و إن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال،كما لا يساوي الاصطرلاب الذي هو ميزان المواقيت،و المسطرة التي هي ميزان المقادير،و العروض الذي هو ميزان الأشعار،سائر الموازين،ثم يحاسبهم على أفعالهم و أقوالهم،و سرائرهم و ضمائرهم، و نياتهم و عقائدهم،مما أبدوه أو أخفوه،فإنهم يتفاوتون فيه إلى مناقش في الحساب، و إلى مسامح فيه،و إلى من يدخل الجنة بغير حساب.و أنهم يساقون إلى الصراط،و هو جسر ممدود بين منازل الأشقياء و منازل السعداء،أحدّ من السّيف،و أدقّ من الشّعر، يخفّ عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم الذي يوازيه في الخفاء و الدقة،

ص: 14


1- متطول:متفضل متمنن.
2- الأوصاب:جمع وصب و هو المرض الدائم و قد يطلق على التعب.
3- يثيب:يجزي و يعطي.
4- قال تعالى في سورة العاديات؛الآيتان 9 و 10: أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ .
5- قال تعالى في الآية 30 من سورة آل عمران: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً .

و يتعثر به من عدل عن سواء السبيل المستقيم إلا من عفي عنه بحكم الكرم.و أنهم عند ذلك يسألون،فيسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة،و من شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين،و من شاء من المبتدعة عن السنّة،و من شاء من المسلمين عن أعمالهم،فيسأل الصادقين عن صدقهم،و المنافقين عن نفاقهم.ثم يساق السعداء إلى الرحمن وفدا،و المجرمون إلى جهنم وردا (1).ثم يأمر بإخراج الموحّدين من النار بعد الانتقام،حتى لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان،و يخرج بعضهم قبل تمام العقوبة و الانتقام،بشفاعة الأنبياء و العلماء و الشهداء،و من له رتبة الشفاعة.ثم يستقر أهل السعادة في الجنة منعمين أبد الآبدين،ممتعين بالنظر إلى وجه اللّه تعالى.

و يستقر أهل الشقاوة في النار مردّدين تحت أنواع العذاب،مبعدين عن النظر بالحجاب إلى وجه اللّه تعالى،ذي الجلال و الإكرام.

الأصل العاشر في النبوة:

و أنه تعالى خلق الملائكة و بعث الأنبياء،و أيّدهم بالمعجزات.و أن الملائكة كلهم عباده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون (2).يسبحون الليل و النهار لا يفترون.و أن الأنبياء رسله إلى خلقه،و ينتهي إليهم وحيه بواسطة الملائكة فينطقون عن وحي يوحى لا عن الهوى،و أنه بعث النبيّ الأميّ القرشيّ محمد المصطفى صلى اللّه عليه و سلم برسالته إلى كافة العرب و العجم،و الجن و الإنس،فنسخ بشرعه الشرائع،و جعله سيد البشر، و منحه كمال الإيمان بشهادة التوحيد،و هو قوله:«لا إله إلا اللّه»ما لم يقترن بها شهادة الرسول،و هو قوله:«محمد رسول اللّه».و ألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر به عنه،في أمر الدنيا و الآخرة،و ألزمهم اتّباعه و الاقتداء به فقال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3) [الحشر:7].فلم يغادر شيئا يقرّبهم من اللّه سبحانه، إلا أمرهم به،و دلهم على سبيله،و لا شيئا يقربهم إلى النار،و يبعدهم عن اللّه تعالى إلا نهاهم عنه،و عرّفهم طريقه.و أن ذلك أمور لا يرشد إليها مجرد العقل و الرأي و الذكاء، بل هي أسرار يكاشف بها من حظيرة القدس قلوب الأنبياء.

ص: 15


1- قال تعالى في الآيتين 85 و 86 من سورة مريم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً، وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً .
2- يستحسرون:يتعبون و يكلون.
3- سوره 59 - آیه 7

و الحمد للّه على ما أرشد و هدى،و أظهر من أسمائه الحسنى،و صفاته العليا، و الصلاة و السلام على محمد المصطفى،خاتم الأنبياء و على آله و أصحابه،و سلم كثيرا.

آمين يا رب العالمين.

خاتمة في التنبيه على الكتب التي تطلب فيها حقيقة هذه العقيدة:

اعلم أن ما ذكرناه هو الحاصل من علوم القرآن،أعني جمل ما يتعلق منها باللّه و اليوم الآخر؛و هي ترجمة العقيدة التي لا بد أن ينطوي عليها قلب كل مسلم،بمعنى أنه يعتقده و يصدق به تصديقا جزما.و وراء هذه العقيدة الظاهرة رتبتان:إحداهما معرفة أدلة هذه العقيدة الظاهرة من غير خوض على أسرارها،و الثانية معرفة أسرارها و لباب معانيها و حقيقة ظواهرها.و الرتبتان جميعا ليستا واجبتين على جميع العوام،أعني أن نجاتهم في الآخرة غير موقوفة عليهما،و لا فوزهم موقوف عليهما،و إنما الموقوف عليهما كمال السعادة.و أعني بالنجاة الخلاص من العذاب،و أعني بالفوز الحصول على أصل النعيم،و أعني بالسعادة نيل غايات النعيم،فالسلطان إذا استولى على بلدة و فتحها عنوة،فالذي لم يقتله و لم يعذبه فهو ناج و إن أخرجه عن البلدة،و الذي لم يعذبه و مع ذلك مكّنه من المقام في بلدته مع أهله و أسباب معيشته فهو مع ذلك فائز بالنجاة.

و الذي خلع عليه و أشركه في ملكه و استخلفه في مملكته و إمارته فهو مع النجاة و الفوز سعيد،ثم زيادة درجات السعادات لا تنحصر.و اعلم ان الخلق في الآخرة ينقسمون إلى هذه الأصناف،بل إلى أصناف أكثر منها،و قد شرحنا ما أمكن من شرحها في كتاب التوبة فاطلبه فيه.

و الرتبة الأولى من الرتبتين:و هي معرفة أدلة هذه العقيدة،و قد أودعناها الرسالة القدسية في قدر عشرين ورقة،و هي أحد فصول كتاب قواعد العقائد من كتاب الإحياء.

و أما أدلتها مع زيادة تحقيق و زيادة تأنق في إيراد الأسئلة و الإشكالات،فقد أودعناها في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد في مقدار مائة ورقة،فهو كتاب مفرد برأسه،يحوي لباب علم المتكلمين،و لكنه أبلغ في التحقيق،و أقرب إلى قرع أبواب المعرفة من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين.و كل ذلك يرجع إلى الاعتقاد لا إلى المعرفة؛فإن المتكلم لا يفارق العامي إلا في كونه عارفا،و كون العامي معتقدا،بل هو أيضا معتقد عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد،ليؤكد الاعتقاد و يستمره،و يحرسه عن

ص: 16

تشويش المبتدعة.و لا تنحل عقيدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة،فإن أردت أن تستنشق شيئا من روائح المعرفة صادفت منها مقدارا يسيرا مثبوتا في كتاب الصبر و الشكر، و كتاب المحبة و باب التوحيد،من أول كتاب التوكل و جملة ذلك من كتاب الإحياء، و تصادف منها قدرا صالحا يعرفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب المقصد الأقصى في معاني أسماء اللّه الحسنى،لا سيما في الأسماء المشتقة من الأفعال.و إن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمحة و لا مراقبة،فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها،و إياك أن تغتر و تحدث نفسك بأهليته،فتشرئب لطلبه، فتستهدف للمشافهة بصريح الرد؛إلا أن تجمع ثلاث خصال:إحداها الاستقلال في العلوم الظاهرة و نيل رتبة الإمامة فيها.و الثانية انقلاع القلب عن الدنيا بالكلية بعد محو الأخلاق الذميمة،حتى لا يبقى فيك تعطش إلا إلى الحق،و لا اهتمام إلا به،و لا شغل إلا فيه،و لا تعريج إلا عليه.و الثالثة أن يكون قد أتيح لك السعادة في أصل الفطرة، بقريحة صافية،و فطنة بليغة،لا تكلّ عن درك غوامض العلوم و مشكلاتها على سبيل البديهة و المبادرة؛فإن البليد إذا أتعب خاطره و أكد نفسه،ربما أدرك بعض الغوامض أيضا،و لكن يدرك منها شيئا يسيرا في مدة طويلة.فلن يصلح لاقتباس المعرفة الحقيقية،إلا قلب صاف كأنه مرآة مجلوّة؛و إنما يصير كذلك بقوة الفطرة و صحة القصد،ثم بإزالة كدورات الدنيا عن وجهه،فإنه الرّين (1)و الطبع يمنع اللّه به القلوب عن معرفته.و أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ (2) [الأنفال:24].ب.

ص: 17


1- الرين:الطبع الغالب.
2- سوره 8 - آیه 24

القسم الثاني: في الأعمال الظاهرة و هي عشرة أصول

الأصل الأول في الصلاة:

قال اللّه تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (1) [طه:14]و قال النبي عليه السلام:

«الصلاة عماد الدين».و اعلم أنك في صلاتك مناج ربك،فانظر فانظر كيف تصلي،و حافظ فيها على ثلاثة أمور لتكون من جملة المحافظين على الصلاة و المقيمين لها:

[المحافظة الأولى:]فإن اللّه تعالى إنما يأمر بالإقامة و يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ (2) [الإسراء:78]و أَقِيمُوا الصَّلاةَ (3) [الأنعام:72]و ليس يقول صل أو صلوا.و يثني على المحافظين على الصلاة فيقول: وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ،وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (4) [الأنعام:92]الأول المحافظة على الطهارة،بأن يسبغ (5)الوضوء قبل الصلاة،و إسباغها أن يأتي بجميع سننها و أذكارها المروية عند كل وظيفة منها، و يحتاط أيضا في طهارة ثيابه،و طهارة بدنه،و طهارة الماء الذي يتوضأ به احتياطا لا ينفتح عليه باب الوسواس،فإن الشيطان يوسوسه في الطهارة فيضيع أكثر أوقات العبادة.

و اعلم أن المقصود من طهارة الثوب-و هو القشر الخارج-ثم من طهارة البدن- و هو القشر القريب-ثم طهارة القلب-و هو اللب الباطن-.و طهارة القلب عن نجاسات الأخلاق المذمومة،أهم طهارة كما سنذكرها في القسم الثالث؛لكن لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضا تأثير في إشراق نورها على القلب؛فإنك إذا أسبغت الوضوء، و استشعرت نظافة ظاهرك،صادفت في قلبك انشراحا و صفاء كنت لا تصادفه من قبل،

ص: 18


1- سوره 20 - آیه 14
2- سوره 17 - آیه 78
3- سوره 6 - آیه 72
4- سوره 6 - آیه 92
5- يسبغ:يتم.

و ذلك لسر العلاقة التي بين عالم الشهادة و عالم الملكوت؛فإن ظاهر البدن من عالم الشهادة،و القلب من عالم الملكوت بأصل فطرته،و إنما هبوطه إلى عالم الشهادة كالغريب عن جبلّته (1).و كما تنحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح،فكذلك يرتفع من أحوال الجوارح أنوار إلى القلب،و لذلك أمروا بالصلاة مع أنها حركات الجوارح التي هي من عالم الشهادة،و لذلك جعلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الدنيا و من الدنيا،و قال:

«حبب إليّ من دنياكم ثلاث...» (2).الحديث.فلا يستبعد أن يفيض من طهارة الظاهر أثر على الباطن؛ففي بدائع صنع اللّه أمور أعجب من هذا،إذ قد عرف بالتجربة،أن المجامع في حال المباشرة،لو أدمن النظر إلى بياض مشرق أو حمرة قانية حتى غلبت تلك الصورة على نفسه،مال لون المولود إلى ذلك اللون الذي غلب عليه،و أن الجنين أول ما يتحرك في البطن،تميل صورته إلى الحسن،إن كانت الأم مشاهدة في تلك الحالة لصورة حسنة،بحيث غلبت تلك الصورة على نفسها،و لذلك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المباشر عند مباشرته أن يحضر في قلبه إرادة إصلاح المولود،و يدعو اللّه بذلك فيقول:

«اللهم جنّبنا الشيطان و جنب الشيطان عما رزقتنا»حتى يفيض اللّه سبحانه مبادي الصلاح على الروح التي يخلقها عند إلقاء البذر في محل الحرث بواسطة الصلاح الغالب على قلب الحارث،كما يفيض اللّه النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الأجسام المحاذية للمرآة.و ها نحن الآن نقرع بابا عظيما من معرفة عجائب صنع اللّه في الملك و الملكوت،و إلى قريب منه يرجع سر الشفاعة في الآخرة فلنجاوزه؛ فغرضنا الآن ذكر الأعمال دون المعارف.و قد أشممناك شيئا يسيرا من أسرار الطهارة الظاهرة،فإن كنت لا تصادف بعد الطهارة و إسباغ الوضوء شيئا من الصفاء الذي وصفناه،فاعلم أن الدرن الذي عرض على قلبك من كدورات شهوات الدنيا و شواغلها، اقتضى كلال (3)حس القلب فصار لا يحس باللطائف و الأشياء الخفية اللطيفة،و لم يبقء.

ص: 19


1- الجبلّة:الخلقة.
2- عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال:«حبب إليّ من الدنيا النساء و الطيب و جعل قرة عيني في الصلاة».رواه الإمام أحمد في مسنده ج 3 ص 128،199،285،و النسائي في كتاب عشرة النساء باب 1.
3- كلال:تعب،إعياء.

في قوته إلا إدراك الجليات إن بقي.فاشتغل بجلاء قلبك و تصفيته،فذلك أوجب عليك من كل ما أنت فيه!.

المحافظة الثانية:أن تحافظ على سنن الصلاة و أعمالها الظاهرة،و أذكارها و تسبيحاتها،حتى تأتي فيها بجميع السنن و الآداب و الهيئات،كما جمعناها في كتاب بداية الهداية،فإن لكل واحد منها سرّا،و له تأثير في القلب كما نبهنا عليه في تأثير الطهارة،بل أشدّ و أبلغ،و شرح ذلك يطول.و أنت إذا أتيت بذلك انتفعت به و إن لم تعلم أسراره،كما ينتفع شارب الدواء بشربه،و إن لم يعرف طبائع أخلاطه و وجوه مناسبته لمرضه.

و اعلم أن الصلاة صورة صوّرها ربّ الأرباب،كما صور الحيوان مثلا؛فروحها النية و الإخلاص و حضور القلب،و بدنها الأعمال،و أعضاؤها الأصلية الأركان، و أعضاؤها الكمالية الأبعاض (1)فالإخلاص و النية فيها يجري مجرى الروح،و القيام و القعود يجري مجرى البدن،و الركوع و السجود يجري مجرى الرأس و اليد و الرجل، و إكمال الركوع و السجود و الطمأنينة و تحسين الهيئة يجري مجرى حسن الأعضاء و حسن أشكالها و ألوانها،و الأذكار و التسبيحات المودعة فيها تجري مجرى آلات الحس المودعة في الرأس و الأعضاء كالعينين و الأذنين و غيرهما،و معرفة معاني الأذكار و حضور القلب عندها يجري مجرى قوة الحس المودعة في آلات الحسّ كقوة السمع و قوة البصر و الشم و الذوق و اللمس في معادنها.

و اعلم أن تقرّبك بالصلاة،كتقرب بعض خدم السلطان بإهداء وصيفة إلى السلطان.و اعلم أن فقد النية و الإخلاص من الصلاة كفقد الروح من الوصيفة، و المهدي للجيفة الميتة مستهزئ بالسلطان،فيستحق سفك الدم،و فقد الركوع و السجود يجري مجرى فقد الأعضاء،و فقد الأذكار يجري مجرى فقد العينين من الوصيفة،و جدع الأنف و الأذنين و عدم حضور القلب في غفلته عن معرفة معاني القرآن و الأذكار كفقد السمع و البصر مع بقاء جرم الحدقة و الأذن.و لا يخفى عليك أن من أهدى وصيفة بهذه الصفة،كيف يكون حاله عند السلطان؟.و اعلم أن قول الفقيه في الصلاةء.

ص: 20


1- الأبعاض:جمع بعض،و هو الجزء من الشيء.

الناقصة ألفاظها و سننها أنها صحيحة،كقول الطبيب في الوصيفة المقطوعة أطرافها أنها حية و ليست بميتة،فإن كان ذلك كافيا في التقرب بها إلى السلطان و نيل الكرامة منه، فاعلم ان الصلاة الناقصة صالحة أيضا للتقرب بها إلى اللّه سبحانه و نيل الكرامة،و إن أوشك أن يردّ ذلك على المهدي و يزجر،فلا يبعد مثل ذلك في الصلاة،فإنها قد تردّ على المصلي كالخرقة الخلقة (1)كما ورد في الخبر.و اعلم أن أصل الصلاة التعظيم و الاحترام،و إهمال آداب الصلاة يناقض التعظيم و الاحترام.

المحافظة الثالثة:أن تحافظ على روح الصلاة،و هي الإخلاص و حضور القلب في جملة الصلاة،و اتصاف القلب في الحال بمعانيها؛فلا تسجد و لا تركع إلا و قلبك خاشع متواضع على موافقة ظاهرك،فإن المراد خضوع القلب لا خضوع البدن؛و لا تقل«اللّه أكبر»و في قلبك شيء أكبر من اللّه تعالى؛و لا تقل «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» (2) إلا و قلبك متوجه بكل وجهه إلى اللّه و معرض عن غيره؛و لا تقل: «الْحَمْدُ لِلّهِ» (3) إلا و قلبك طافح بشكر نعمه عليك فرح به مستبشر؛و لا تقل «وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» (4) إلا و أنت مستشعر ضعفك و عجزك،و أنه ليس إليك و لا إلى غيرك من الأمر شيء.و كذلك في جميع الأذكار و الأعمال،و شرح ذلك يطول،و قد شرحناه في كتاب الإحياء.

فجاهد نفسك في أن تردّ قلبك إلى الصلاة حتى لا تغفل من أولها إلى آخرها،فإنه لا يكتب للرجل من صلاته إلا ما عقل منها.فإن تعذر عليك الإحضار-و ما أراك إلا كذلك-فانظر،فإن كان قدر الغفلة مقدار ركعتين،فلا تعد الصلاة،و لكن افهم أن النوافل (5)جوابر الفرائض،فتنفّل بمقدار أن يحضر القلب فيها في مقدار ركعتين،فكلما زادت الغفلة،زد في النوافل حتى يحضر قلبك مثلا في عشر ركعات بمقدار أربع ركعات و هو قدر فرضك،فمن رحمة اللّه عليك أن قبل منك جبران الفرائض بالنّوافل.فهذه أصول المحافظة على الصلاة.ا.

ص: 21


1- الخلقة:البالية.
2- سوره 6 - آیه 79
3- سوره 1 - آیه 2
4- سوره 1 - آیه 5
5- النوافل:جمع نافلة و هو ما تفعله مما لم يفرض عليك أو يجب عليك فعله من العبادات.و النوافل أيضا العطايا.

الأصل الثاني في الزكاة و الصدقة:

اشارة

قال اللّه سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ،وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (1) [البقرة:261].و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«هلك الأكثرون إلا من قال بالمال هكذا و هكذا».فاعلم أن إنفاق المال في الخيرات أحد أركان الدين؛و إنما سر التكليف به بعد ما يرتبط به من مصالح البلاد و العباد،و سد الخلاّت (2)و الفاقات.فإن المال محبوب الخلق،و هم مأمورون بحب اللّه،و يدعون الحب بنفس الإيمان،فجعل بذل المال معيارا لحبهم،و امتحانا لصدقهم في دعواهم؛فإن المحبوبات كلّها تبذل لأجل المحبوب الأغلب حبّه على القلب،فانقسم الخلق فيه إلى ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى:الأقوياء؛و هم الذين أنفقوا جميع ما ملكوا و لم يدخروا لأنفسهم شيئا،فهؤلاء صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه من الحب،كما فعل أبو بكر الصديق،إذ جاء بماله كله،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«ما ذا أبقيت لنفسك»؟فقال:«اللّه و رسوله».و قال لعمر-رضي اللّه عنه-«ما ذا أبقيت لنفسك»؟قال«مثله»أي مثل ما أتيت به.

فقال صلى اللّه عليه و سلم:«بينكما مثل ما بين كلمتيكما».

الطبقة الثانية:المتوسطون؛و هم الذين لم يقدروا على إخلاء اليد عن المال دفعة واحدة،و لكن أمسكوه لا للتنعم،بل للإنفاق عند ظهور محتاج إليه،فهم يقنعون في حق أنفسهم بما يقوّيهم على العبادة،و إذا عرض محتاج بادروا إلى سد خلّته و حاجته، و لم يقتصروا على قدر الواجب من الزكاة.و إنما غرضهم الأظهر في الإمساك ترصد الحاجات.

الطبقة الثالثة:الضعفاء؛و هم المقتصرون على أداء الزكاة الواجبة،فلا يزيدون عليها و لا ينقصون منها.

فهذه درجاتهم؛و بذل كل واحد على مقدار حبه للّه.و ما أراك تقدر على الدرجة الأولى و الثانية،و لكن اجتهد حتى تجاوز الدرجة الثالثة إلى أواخر طبقات المقتصدين

ص: 22


1- سوره 2 - آیه 261
2- الخلات:جمع خلّة و هي الحاجة و الفقر.

المتوسطين،فتزيد على الواجب و لو شيئا يسيرا،فإن مجرد الواجب حدّ البخلاء.قال اللّه سبحانه و تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا (1) [محمد:37].أي يستقصي عليكم فتبخلوا.فاجتهد أن لا ينقضي عليك وقت إلا و تتصدق بشيء وراء الواجب،و لو بكسرة خبز،فترتفع بذلك عن درجة البخلاء.فإن لم تملك شيئا فليست الصدقة كلها في المال،لكن كل كلمة طيبة،و شفاعة و معونة في حاجة،و عيادة مريض،و تشييع جنازة،و في الجملة أن تبذل شيئا مما تقدر عليه من جاه و نفس و كلام،لتطييب قلب مسلم،فيكتب جميع ذلك لك صدقة.

[المحافظة في زكاة و الصدقة على خمسة أمور:]

و حافظ في زكاتك و صلاتك و صدقتك على خمسة أمور:

الأول:الإسرار؛فإن في الخبر أن صدقة السر تطفئ غضب الرب.و الذي يتصدق بيمينه بحيث لا تعلم شماله هو أحد السبعة الذين يظلّهم اللّه،يوم لا ظل إلا ظله؛و قد قال اللّه تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (2) [البقرة:271].و بذلك تتخلص عن الرياء،فإنه غالب على النفس و هو مهلك،ينقلب في القلب-إذا وضع الإنسان في قبره-في صورة حية،أي يؤلم إيلام الحيّة؛و البخل ينقلب في صورة عقرب.و المقصود في كل الإنفاق الخلاص من رذيلة البخل،فإذا امتزج به الرياء،كان كأنه جعل العقرب غذاء الحية،فما تخلص من العقرب و لكن زاد في قوة الحية،إذ كل صفة من الصفات المهلكات في القلب إنما غذاؤها و قوّتها في إجابتها إلى مقتضاها.

الثاني:أن تحذر من المنّ؛و حقيقته أن ترى نفسك محسنا إلى الفقير متفضلا عليه،و علامته أن تتوقع منه شكرا أو تستنكر تقصيره في حقك و ممالأته عدوك استنكارا يزيد على ما كان قبل الصدقة؛فذلك يدل على أنك رأيت لنفسك عليه فضلا؛و علاجه أن تعرف أنه المحسن إليك بقبول حق اللّه منك؛فإن من أسرار الزكاة تطهير القلب، و تزكيته عن رذيلة البخل و خبث الشح؛و لذلك كانت الزكاة مطهرة إذ بها حصلت الطهارة،فكأنها غسالة نجاسة؛و لذلك ترفع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أهل بيته من أخذ الزكاة، و قال عليه السلام:«إنها أوساخ أموال الناس»،و إذا أخذ الفقير منك ما هو طهرة لك فله الفضل عليك.أ رأيت لو كان فصّاد أفصدك مجانا و أخرج من باطنك الدم الذي تخشى ضرره في الحياة الدنيا أ كان الفضل لك أم له؟فالذي يخرج من باطنك رذيلة البخل و ضررها في الحياة الآخرة أولى بأن تراه متفضلا.

ص: 23


1- سوره 47 - آیه 37
2- سوره 2 - آیه 271

الثالث:أن تخرجه من أطيب أموالك و أجودها؛قال اللّه تعالى: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ (1) [النحل:62].و قال اللّه: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ (2) [البقرة:267].الآية.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه طيب لا يقبل إلا الطيب»يعني الحلال،فإن المقصود من هذا إظهار درجة الحب،و الإنسان يؤثر الأحب إليه الأنفس دون الأخسّ.

الرابع:أن تعطي بوجه طلق مستبشر،و أنت به فرحان غير مستكره؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«سبق درهم مائة ألف»و إنما أراد ما يعطيه عن بشاشة و طيبة نفس من أنفس ماله و أجوده،فذلك أفضل من مائة ألف مع الكراهة.

الخامس:أن تتخير لصدقتك محلا تزكو به الصدقة؛و هو المتقي العالم الذي يستعين بها على طاعة اللّه عز و جل و تقواه،أو الصالح المعيل ذو الرحم.

فإن لم تجتمع هذه الأوصاف،فتزكو للصدقة بآحادها أيضا.و رعاية الصلاح أصل الأمور،فما الدنيا إلا البلغة (3)للعباد و زاد لهم إلى المعاد،فليصرف إلى المسافرين إليه المتخذين هذه الدار منزلا من منازل الطريق.قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«لا تأكل إلا طعام تقيّ،و لا يأكل طعامك إلاّ تقيّ».

الأصل الثالث في الصيام:

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«يقول اللّه سبحانه:كل حسنة بعشر أمثالها،إلى سبع مائة ضعف،إلاّ الصيام،فإنه لي و أنا أجزي به».و قال عليه السلام:«لكل شيء باب و باب العبادة الصوم»،و إنما كان الصوم مخصوصا بهذه الخواص لأمرين:أحدهما أنه يرجع إلى كفّ،و هو عمل سرّ لا يطلع عليه أحد غير اللّه تعالى لا كالصلاة و الزكاة و غيرهما.

و الثاني أنه قهر لعدو اللّه؛فإن الشيطان هو العدو،و لن يقوى العدو،إلا بواسطة الشهوات، و الجوع يكسر جميع الشهوات التي هي آلة الشيطان،فلذلك قال عليه السلام:«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاري الشيطان بالجوع»،و هو سرّ قوله صلى اللّه عليه و سلم«إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنان،و غلقت أبواب النيران،و صفدت الشياطين،و نادى مناد:يا باغي الخير هلمّ و يا باغي الشر أقصر».

ص: 24


1- سوره 16 - آیه 62
2- سوره 2 - آیه 267
3- البلغة:ما يكفي من العيش.

و اعلم أن الصوم،بالإضافة إلى مقداره،على ثلاث درجات،و بالإضافة إلى أسراره،على ثلاث درجات.أما درجات مقداره:فأقلها الاقتصار على شهر رمضان، و أعلاها صوم داود عليه السلام،و هو أن تصوم يوما و تفطر يوما؛ففي الخبر الصحيح،أن ذلك أفضل من صوم الدهر،و أنه أفضل الصيام.و سرّه أن من صام الدهر صار الصوم له عادة،فلا يحس بوقعه في نفسه بالانكسار،و في قلبه بالصفاء،و في شهواته بالضعف، فإن النفس إنما تتأثر بما يرد عليها لا بما مرنت (1)عليه،فلا يبعد هذا،فإن الأطباء أيضا ينهون عن اعتياد شرب الدواء،و قالوا:«من تعود ذلك لم ينتفع به إذا مرض،إذ يألفه مزاجه فلا يتأثر به».

و اعلم أن طب القلوب قريب من طب الأبدان،و هو سر قوله صلى اللّه عليه و سلم لعبد اللّه بن عمر-رضي اللّه عنهما-لما كان يسأله عن الصوم،فقال عليه السلام:«صم يوما و أفطر يوما».فقال:«أريد أفضل من ذلك».فقال عليه السلام:«لا أفضل من ذلك»-و لذلك لما قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن فلانا صام الدهر»،فقال عليه السلام:«لا صام و لا أفطر».

كما قالت عائشة-رضي اللّه عنها-لرجل كان يقرأ القرآن بهذرمة (2):«إن هذا ما قرأ القرآن و لا سكت».

و أما الدرجة المتوسطة فهو أن تصوم ثلث الدهر.و مهما صمت الاثنين و الخميس و أضفت إليه رمضان،فقد صمت من السنة أربعة أشهر و أربعة أيام،و هو زيادة على الثلث؛لكن لا بد أن ينكسر يوم من أيام التشريق،و ترجع الزيادة إلى ثلاثة أيام؛و يتصور أن ينكسر في العيدين يومان فتكون ثلاثة أيام،فترجع الزيادة إلى يوم واحد،فتأمل حسابه تعرفه.فلا ينبغي أن ينقص من هذا القدر صومك،فإنه خفيف على النفس، و ثوابه جزيل.

و أما درجات أسراره فثلاث:أدناها أن يقتصر على الكفّ عن المفطرات،و لا يكف جوارحه عن المكاره؛و ذلك صوم العموم و هو قناعتهم بالاسم.الثانية:أن تضيف إليه كف الجوارح،فتحفظ اللسان عن الغيبة و العين عن النظر بالزينة و كذا سائرم.

ص: 25


1- مرنت:اعتادت و ألفت.
2- الهذرمة:الإسراع في القراءة و الكلام.

الأعضاء.الثالثة:أن تضيف إليه صيانة القلب عن الفكر و الوسواس،و تجعله مقصورا على ذكر اللّه عز و جل،و ذلك صوم خصوص الخصوص و هو الكمال.

ثم للصيام خاتمة بها يكمل،و هو أن يفطر على طعام حلال لا على شبهة،و أن لا يستكثر من أكل الحلال بحيث يتدارك ما فاته ضحوة،فيكون قد جمع بين أكلتين دفعة واحدة،فتثقل معدته و تقوى شهوته،و يبطل سرّ الصوم و فائدته،و يفضي إلى التكاسل عن التهجّد،و ربما لم يستيقظ قبل الصبح؛و كلّ ذلك خسران و ربما لا توازيه فائدة الصوم.

الأصل الرابع في الحج:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (1) [آل عمران:97].و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من مات و لم يحج،فليمت إن شاء يهوديا و إن شاء نصرانيا» و قال صلى اللّه عليه و سلم«بني الإسلام على خمس...».الحديث (2).و للحج أعمال ظاهرة ذكرناها في كتاب الإحياء.و ننبهك الآن على آداب دقيقة،و أسرار باطنة:

أما الآداب فسبعة:

الأول:أن ترتاد للطريق رفيقا صالحا و نفقة طيبة حلالا،فالزاد الحلال ينوّر القلب،و الرفيق الصالح يذكّر الخير و يزجر عن الشر.

الثاني:أن يخلي يده عن مال التجارة كيلا يتشعب فكره،و ينقسم خاطره و لا يصفو للزيارة قصده.

الثالث:أن يوسع في الطريق بالطعام و يطيّب الكلام مع الرفقاء و المكاري.

الرابع:أن يترك الرّفث (3)و الجدال و التحدّث بالفضول في أمر الدنيا،بل يقصر لسانه-بعد مهمات حاجاته-على الذكر و تلاوة القرآن.

ص: 26


1- سوره 3 - آیه 97
2- تمام الحديث،عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:«بني الإسلام على خمسة:على أن يوحد اللّه،و إقام الصلاة،و إيتاء الزكاة،و صيام رمضان،و الحج»أخرجه مسلم في كتاب الإيمان،حديث رقم 19-22،و البخاري في الإيمان باب 1 و 2،و تفسير سورة 2،و الترمذي في الإيمان باب 3، و النسائي في الإيمان باب 13.
3- الرفث:قول الفحش.

الخامس:أن يركب راحلة دون المحمل،و يكون رث الهيئة أشعث أغبر،غير متزين،بل على هيئة المساكين،حتى لا يكتب في جملة المترفين.

السادس:أن ينزل عن الدابة أحيانا ترفيها للدابة و تطييبا لقلب المكاري، و تخفيفا للأعضاء بالتحرك،و لا يحمّل الدابة ما لا تطيق،بل يرفق بها ما أمكن.

السابع:أن يكون طيب النفس بما أنفق من نفقة،و بما أصابه من تعب و خسران، و أن يرى ذلك من آثار قبول الحج فيحتسب الثواب عليه.

و أما أسراره فكثيرة نرمز منها إلى فنّين:أحدهما أنه وضع بدلا عن الرّهبانية التي كانت في الملل كما ورد به الخبر؛فجعل اللّه سبحانه الحج رهبانية لأمة محمد صلى اللّه عليه و سلم.

فشرف البيت العتيق،و أضافه إلى نفسه،و نصبه مقصدا لعباده و جعل ما حواليه حرما لبيته تفخيما لأمره،و جعل عرفات كالميدان على فناء حرمه،و أكد حرمة الموضع بتحريم صيده و شجره،و وضعه على أمثال الملوك ليقصده الزوار من كل فج عميق،ضعفاء غبرا (1)، متواضعين لرب العالمين،خضوعا لجلاله،و استكانة لعزته،مع الاعتراف بتنزهه عن أن يكتنفه بيت،أو يحويه مكان،ليكون ذلك أبلغ في رقهم و عبوديتهم.و لذلك كلفهم أعمالا غريبة لا تناسب الطبع و العقل،ليكون إقدامهم بحكم محض العبودية،و امتثال الأمر من غير معاونة باعث آخر.و هذا سر عظيم في الاستعباد،و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم:«لبّيك بحجّة حقّا و تعبّدا و رقّا».

الفن الثاني:أن هذا السفر وضع على مثال سفر الآخرة،فليتذكر المريد بكل عمل من أعماله أمرا من أمور الآخرة موازيا له،فإن فيه تذكرة للمتذكر،و عبرة للمعتبر المستبصر.فتذكر من أول سفرك عند وداعك أهلك،وداع الأهل في سكرات الموت، و من مفارقة الوطن الخروج من الدنيا،و من ركوب الجمل ركوب الجنازة،و من الالتفاف في أثواب الإحرام الالتفاف في أثواب الكفن،و من دخول البادية إلى الميقات ما بين الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة،و من هول قطّاع الطريق سؤال منكر و نكير،و منس.

ص: 27


1- غبر:جمع أغبر.و كانت في الأصل غبراء و لعله تصحيف من الناسخ.و معنى أغبر ما لونه الغبرة و هي هنا كناية عن التقشف و إذلال النفس.

سباع البوادي،عقارب القبر و ديدانه،و من انفرادك عن أهلك و أقاربك،وحشة القبر و وحدته،و من التلبية،إجابة داعي اللّه عز و جل عند البعث،و كذلك في سائر الأعمال،فإن في كل عمل سرّا و تحته رمزا،يتنبه له كل عبد بقدر استعداده للتنبه، بصفاء قلبه،و قصور همه على مهمات الدين.

الأصل الخامس في قراءة القرآن:

اشارة

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن».و قال عليه السلام:«لو كان القرآن في إهاب (1)ما مسّته النار».و قال عليه السلام:«ما من شفيع أفضل منزلة عند اللّه يوم القيامة من القرآن.لا نبيّ و لا ملك و لا غيره».و قال عليه السلام:«يقول اللّه سبحانه:من شغله قراءة القرآن عن دعائي و مسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين».

و اعلم أن لقراءة القرآن آدابا ظاهرة و أسرارا باطنة،

أما الآداب الظاهرة فثلاثة:

الأول:أن تقرأه باحترام و تعظيم،و لن تلزم الحرمة قلبك ما لم تلزم هيئة الحرمة ظاهرك،و قد عرفت كيفية علاقة القلب بالجوارح و وجه ارتفاع الأنوار منها إليه.و هيئة الحرمة أن تجلس و أنت على الطهارة ساكنا مطرقا مستقبل القبلة غير متكئ و لا متربع و لا نائم،كما تجلس بين يدي المقرئ،و تقرأه بترتيل و تفخيم و تؤدة (2)حرفا حرفا من غير هذرمة (3).قال ابن عباس-رضي اللّه عنه-:«لأن أقرأ«إذا زلزلت»و«القارعة» أتدبّرهما ا أحب إلي من أن أقرأ«البقرة»و«آل عمران»تهذيرا».

الثاني:أن تتشوف في بعض الأوقات إلى أقصى درجات الفضل فيه،و ذلك بأن تقرأه في الصلاة قائما،خصوصا في المسجد،و بالليل،لأن القلب في الليل أصفى لأنه أفرغ.فإنك و ان خلوت بالنهار فتردّد الخلق و حركاتهم في أشغالهم،تحرّك باطنك، و تشغلك،خصوصا و إن كنت تتوقع أن تطلب شغلا من الأعمال و الأشغال.و كيفما قرأته،و لو مضطجعا من غير طهارة،فلا تخلو عن الفضل،فإن اللّه تعالى أثنى على الجميع،و قال: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (4) [آل عمران:191].

ص: 28


1- الإهاب:الجلد و خاصة ما لم يدبغ منه.
2- تؤدة:تمهل.
3- الهذرمة:الإسراع في قراءة القرآن دون تدبر لمعانيه.
4- سوره 3 - آیه 191

الآية.و لكن ما ذكرناه في زيادة الفضل؛فإن كنت من مريدي الآخرة،فلا يسهل عليك ترك الفضل،و قد قال علي-رضوان اللّه عليه-«من قرأ القرآن و هو قائم في الصلاة،فله بكل حرف مائة حسنة،و من قرأ القرآن في غير صلاة،و هو على طهارة،فخمس و عشرون حسنة،و من قرأه على غير وضوء،فعشر حسنات».

الثالث:في مقدار القراءة،و له ثلاث درجات:أدناها أن يختم في الشهر مرة، و أقصاها أن يختم في ثلاثة أيام مرة.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه»و أعدلها أن يختم في الأسبوع مرة.و أما الختم في كل يوم فغير مستحب.و إياك أن تتصرف بعقلك فتقول:ما كان خيرا و نافعا فكلما كان أكثر كان أنفع.فإن عقلك لا يهتدي إلى أسرار الأمور الإلهية،و إنما تتلقاها قوة النبوة،فعليك بالاتّباع فإن خواص الأمور لا تدرك بالقياس.أو ما ترى كيف نوديت إلى الصلاة و نهيت عنها جميع النهار و أمرت بتركها بعد الصبح و بعد العصر و عند الطلوع و عند الغروب و الزوال؟و ذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار.و كيف و أثر الفساد ظاهر على قياسك هذا!فإنه كقول القائل:

الدواء نافع للمريض،فكلما كان أكثر كان أنفع.و أنت تعلم أن كثرة الدواء ربما يقتل.

و أما الأسرار الباطنة فخمسة:

الأول:أن تستشعر في أول قراءتك عظمة الكلام باستشعار تعظيم المتكلم، فتحضر في قلبك العرش و الكرسي،و السموات و الأرض و ما بينهما،من الملائكة و الجن،و الإنس و الحيوانات،و النباتات و المعادن.و تتذكر أن الخالق لجميعها واحد، و أن الكل في قبضة قدرته،متردد بين فضله و رحمته،و أنك تريد أن تقرأ كلامه و تنظر به إلى صفة ذاته،و تطالع جمال علمه و حكمته،و تعلم أنه لا يمس ظاهر المصحف إلا المطهّرون بظواهرهم،و هو محجوب عن غيرهم،فكذلك حقيقة معناه و باطنه، محجوب عن باطن القلب،إلاّ إذا كان مطهرا من كل رجس و خبث من خبائث الباطن.

و بمثل هذا التعظيم كان عكرمة،إذا نشر المصحف ربما غشي عليه،و يقول:«هذا كلام ربّي،هذا كلام ربي».

و اعلم أنه لو لا أن أنوار كلامه العزيز و عظمته غشيت بكسوة الحروف لما أطاقت القوة البشرية سماعه لعظمته و سلطانه و سبحات نوره،و لو لا تثبيت اللّه عز و جل موسى-

ص: 29

عليه السلام-لما أطاق سماعه مجردا عن كسوة الحروف و الأصوات،كما لم يطق الجبل مبادئ تجليه حتى صار دكّا دكّا.

الثاني:أن تقرأ بتدبر معانيه إن كنت من أهله،و كل ما يجري لسانك به في غفلة فأعده،و لا تعده من عملك لأن الترتيل في الظاهر للتمكن من التدبر.قال علي-عليه السلام-:«لا خير في عبادة لا فقه فيها،و لا في قراءة لا تدبّر فيها.و إياك أن تصير مشغوفا بعدد الختمات على نفسك فلأن تردد آية واحدة ليلة تتدبّرها خير لك من ختمتين،فقد قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» (1) فرددها عشرين مرة».و قال أبو الدرداء-رضي اللّه عنه-:«قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بنا ليلة،فقام بآية يردّدها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ (2) و قام تميم الداري ليلة بقوله سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ... (3) الآية،و قام سعيد بن جبير ليلة بقوله: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (4) ».و لعل الأليق بك ما قاله بعض العارفين إذ قال:«لي في كل جمعة ختمة، و لي في كل شهر ختمة،و في كل سنة ختمة،و لي ختمة منذ ثلاثين سنة،ما فرغت منها بعد».و ذلك بحسب درجات التدبر،فإن القلب في بعض الأوقات لا يحتمل التدبر الطويل،فليكن للتدبر الطويل ختمة خاصة.

الثالث:أن تجتني في تدبرك ثمار المعرفة من أغصانها،و تقتبسها من أوطانها، و لا تطلب الترياق من حيث تطلب منه الجواهر،و لا الجواهر من حيث يطلب منه المسك و العود،فإن لكل ثمرة غصنا،و لكل جوهر معدنا،و إنما يتيسر لك هذا بأن تعرف الأصناف العشرة التي حصرنا فيها أقسام القرآن،و هي عشرة معادن:فما يتعلق من القرآن باللّه تعالى و بصفاته و أفعاله،فاقتبس منه معرفة الجلال و العظمة،و ما يتعلق بالإرشاد إلى الصراط المستقيم فاقتبس منه معرفة الرحمة و العطف و الحكمة،و ما يتعلق بإهلاك الأعداء فاقتبس منه معرفة العزّة و الاستغناء و القهر و التجبر،و ما يتعلق بأحوال الأنبياء،فاقتبس منه معرفة اللطف و النعمة و الفضل و الكرم،و كذلك في كل صنف ما يليق به.فلا تنظرنّ إليه بعين واحدة،و شرح ذلك يطول.

الرابع:أن تتخلى عن موانع الفهم و هي الأكنّة (5)التي تمنع من الفهم.قال اللّه عزا.

ص: 30


1- سوره 1 - آیه 1
2- سوره 5 - آیه 118
3- سوره 45 - آیه 21
4- سوره 36 - آیه 59
5- أكنة:أغطية أو ستائر،و هي الحجب التي تحجب الأشياء و تحول دون رؤيتها.

و جلّ: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً... (1) [الأنعام:25، الإسراء:46]الآية.و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء».

و اعلم أن معاني القرآن من جملة الملكوت،و إنما حروفها من عالم الشهادة، و الأكنة التي يبتلى بها المتقي المتعطش إلى الحقّ نوعان:إما ما ابتلي به ضعيف الإيمان من حجاب الشك و الجحود،و إما ما ابتلي به المنهمك في الدنيا من حجاب الشهوات المستغرقة للقلب.فذلك جليّ لا يخفى كونه مانعا من فهم لطائف القرآن و اقتباس أنواره،فبها حجب أكثر الخلق.و أما العباد المتجرّدون لطريق اللّه عزّ و جل، فيحجبون بنوعين آخرين،أحدهما:الوسواس الصارف للقلب إلى التفكر في النية كيف كانت في الابتداء هل بقيت الآن،و هل هو مخلص في الحال؟هذا إن كان في الصلاة؛أو الوسواس الصارف للهمّ إلى تصحيح مخارج الحروف و التشكك فيها و إعادتها لأجل ذلك،و هذا يجري في الصلاة و غيرها،فكيف يطالع أسرار الملكوت قلب محجوب مصروف إلى مطالعة الشفتين و كيفية انطباقهما،و اللسان و الحنك و كيفية انسلال الهواء من اصطكاكهما؟و هو معنى تقطيع الحروف و تصحيحها.

النوع الثاني:التقليد لظواهر معاني القرآن و الجمود عليها،و ذلك حجاب عظيم عن الفهم،و لست أعني به التقليد الباطل،كتقليد المبتدع،بل التقليد الحق أيضا.فإن الحق الذي كلف الخلق اعتقاده له درجات،و له مبدأ ظاهر،و هو كالقشر و المثال و له غور باطن و هو كاللّباب.قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن للقرآن ظاهرا و باطنا،و حدّا و مطلعا».فالجامد على الظاهر الظانّ أنه ليس وراءه مرقى يرتقي إليه،كيف يتصور أن تنكشف له الأسرار،فقد كلف الخلق مثلا أن يعتقدوا أن اللّه تعالى يرى،و لكن للرؤية ظاهر و سرّ،فمن اعتقد أن رؤية اللّه تعالى مناسبة للرؤية التي يألفها الإنسان في هذا العالم،كيف يتصور أن يطّلع على سرّ قوله تعالى: لَنْ تَرانِي (2) و كيف يفهم أن ذلك ممتنع في هذه الحياة الدنيا بهذه العين الموقوفة على ملاحظة الجهات و الأقطار،و كيف يدرك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (3) [الأنعام:103]،مع قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (4) [القيامة:22،23].و يكفيك هذا المثال الواحد،فلسنا نكشف لك أكثر من هذا،و لسنا نقصد في هذا الأصل إلا التلويحات لمبادئ الأسرار تشويقا للمستعدين لها.

ص: 31


1- سوره 6 - آیه 25
2- سوره 7 - آیه 143
3- سوره 6 - آیه 103
4- سوره 75 - آیه 22

الخامس:أن لا تقتصر على اقتباس الأنوار،بل تضيف إليها اقتباس الأحوال و الآثار،و ذلك أن لا تقرأ آية إلا و أن تصير بصفتها،فتكون لك بحسب كل فهم حال و وجد،فعند ذكر الرحمة،و عند المغفرة،تستبشر كأنك تطير من الفرح،و عند ذكر الغضب و شدة العقاب،تتضاءل كأنك تموت من الفزع،و عند ذكر اللّه و أسمائه و عظمته،تتطأطأ و تتصاغر حتى كأنك تنمحق من مشاهدة الجلال،و عند ذكر الكفار ما يستحيل عليه من ولد و صاحبة،تنكسر و تغض صوتك كأنك تنطمس من الحياء، و كذلك في كل صنف من الأصناف العشرة،و ذلك أيضا يطول.و ليظهر أثر ذلك على جوارحك من بكاء عند الحزن،و عرق جبين عند الحياء،و اقشعرار الجلد،و ارتعاد الفرائص عند الهيبة و الجلال،و انبساط في الأعضاء و اللسان و الصوت عند الاستبشار، و انقباض فيها عند الاستشعار،فإذا فعلت ذلك،اشترك في نيل حظ القرآن جميع أعضائك،و فاضت آثار القرآن على عوالمك الثلاثة،أعني:عالم الملكوت،و عالم الجبروت،و عالم الشهادة.

و اعلم أن محض أنوار المعرفة تفيض من عالم الملكوت إلى سرّ القلب،لأنه أيضا من الملكوت،و أما آثارها من الخشية و الخوف و السرور و الهيبة و سائر الأحوال، فإنها تهبط من عالم الجبروت،و مهبطها الصدر الذي هو عالم الجبروت،و هو عالم آخر من عوالمك،كنينا عنه بالصدر كما كنينا عن الأول بالقلب،لأن عالم الجبروت بين عالم الملكوت و عالم الشهادة،كما أن الصدر بين القلب و الجوارح.و أما البكاء و الشهيق و الاقشعرار و ارتعاد الفرائص،فتنزل من عالم الشهادة،و مهبطها الجوارح، لأنها من عالم الشهادة،و ما أراك تفهم من القلب غير اللحم الصنوبري الشكل،و من الصدر غير العظم المحيط به،فإنك لا تدرك من كل شيء إلا غلافه و قشره،و ما أبعدك عن درك الحقائق،فإن هذا يوجد للبهائم و الميت،و لا تنزل عليه أنوار المعارف و العلوم و لا آثارها من الخشية و الهيبة و السرور،فإن أردت أن تستنشق شيئا من روائح هذه الأسرار-و ما أراك تريد-فقد أخذ الشيطان بمخنقك بحبال الشهوات،فعليك بباب التوحيد من أول كتاب التوكل إن أردته.

و اعلم أن القرآن كالشمس،و فيضان أسرار المعارف منه على القلب كفيضان أنوار الشمس على الأرض،و سريان آثار الخوف و الخشية و الهيبة و سائر الأحوال منه على

ص: 32

الصدر كسريان حرارة الشمس في باطن الأرض،تابعا لإشراق الأنوار؛فإن الخشية أثر نور المعرفة،و إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (1) [فاطر:28]،فانتشار الحركات و التغيرات إلى الجوارح من البكاء و العرق و الاقشعرار و الارتعاد،منبعث من آثار الخشية،و سائر الأحوال،كحركة أجزاء الأرض بتصاعد الأبخرة و الأدخنة منها،بتصعيد حرارة الشمس،فالحركة تبع الحرارة،و الحرارة تبع النور،و النور تبع وقوع المحاذاة بين الأرض و الشمس.فاجتهد بأن تحاذي بوجه قلبك شطر شمس القرآن،و تستضيء بأنواره.كذلك فإن لم تطق ذلك فأصغ إلى النداء الوارد من جانب الطّور الأيمن،فإن آنست من جوانبه نارا،فخذ منه قبسا و أشعل منه سراجا،فإن كان زيتك صافيا يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار،فإذا مسته النار انبعث منه الضياء،و وجدت على النار هدى، و قام في حقك مقام الشمس المنتشرة الإشراق و الضياء.

الأصل السادس:ذكر اللّه عز و جل في كل حال:

قال اللّه سبحانه: وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (2) [الأنفال:45،الجمعة:

10]،و قال لنبيه صلى اللّه عليه و سلم: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (3) [المزمل:8]،و قال صلى اللّه عليه و سلم:

«لذكر اللّه بالغداة و العشي أفضل من حطم السيوف في سبيل اللّه و من إعطاء المال سخاء»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أذكاها عند مليككم،و أرفعها في درجاتكم،و خير لكم من إعطاء الورق و الذهب،و خير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم و يضربون أعناقكم؟»قالوا:و ما ذاك يا رسول اللّه؟فقال:«ذكر اللّه».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«سبق المفردون سبق المفردون»،فقيل:و من هم يا رسول اللّه؟فقال:

«المستهترون بذكر اللّه،وضع ذكر اللّه عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا».

و اعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الذكر أفضل الأعمال؛و لكن له أيضا قشور ثلاثة،بعضها أقرب إلى اللب من بعض،و له لب وراء القشور الثلاثة.و إنما فضّل القشور لكونها طريقا إليه؛فالقشر الأعلى منه ذكر اللسان فقط.و الثاني القلب إذ كان القلب يحتاج إلى موافقته حتى يحضر مع الذكر،و لو ترك و طبعه لاسترسل في أودية الأفكار.و الثالث أن يستمكن الذكر من القلب و يستولي عليه،بحيث يحتاج إلى تكلف في صرفه عنه إلى غيره،كما احتيج في الثاني إلى تكلف في قراره معه و دوامه عليه، و الرابع-و هو اللباب-أن يستمكن المذكور من القلب،و ينمحي الذكر و يخفى،و هو

ص: 33


1- سوره 35 - آیه 28
2- سوره 8 - آیه 45
3- سوره 73 - آیه 8

اللّباب المطلوب؛و ذلك بأن لا يلتفت إلى الذكر و لا إلى القلب،بل يستغرق المذكور جملته؛و مهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر،فذلك حجاب شاغل.و هذه الحالة التي يعبر عنها العارفون بالفناء،و ذلك بأن يفنى عن نفسه حتى لا يحس بشيء من ظواهر جوارحه،و لا من الأشياء الخارجة عنه،و لا من العوارض الباطنة فيه،بل يغيب عن جميع ذلك و يغيب عنه جميع ذلك،ذاهبا إلى ربه أولا،ثم ذاهبا فيه آخرا،و إن خطر له في أثناء ذلك أنه فني عن نفسه بالكلية فذلك شوب (1)و كدورة؛بل الكمال في أن يفنى عن نفسه و يفنى عن الفناء أيضا،فإن الفناء عن الفناء غاية الفناء،و هذا قد يظنه الفقيه الرسمي،أنه طامّات (2)غير معقولة،و ليس كذلك،بل هذه الحالة لهم-بالإضافة إلى محبوبهم-كحالتك في أكثر الأحوال بالإضافة إلى محبوبك من جاه أو مال أو معشوق،فإنك قد تصير مستغرقا لشدة الغضب بالفكر في عدوك،و لشدة التفكر في معشوقك،حتى لا يكون فيك متسع لشيء أصلا،فتخاطب فلا تفهم،و يجتاز بين يديك غيرك فلا تراه و عيناك مفتوحتان،و يتكلم عندك فلا تسمع و ما بأذنيك صمم،و أنت في هذا الاستغراق غافل عن كل شيء و عن الاستغراق أيضا،فإن الملتفت إلى الاستغراق معرض عن المستغرق به.و إنما سمّوا هذه الحالة فناء،و إن كان الشخص و الظل باقيين،لأن الأشخاص و الأظلال بل سائر المحسوسات ليس لها حقيقة الوجود، بل الوجود الحقيقي لعالم الأمر و الملكوت،و القلب من عالم الأمر؛قال اللّه تعالى:

قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (3) [الإسراء:85].و القوالب من عالم الخلق،و أعني بالقلب (4)اللطيفة الذاكرة العارفة التي هي مهبط الأنوار الإلهية دون القلب الظاهر،فإن ذلك من عوالم الخلق،فلا يفهم من هذا إشارة إلى قدم الروح و حدوث القالب بل هما جميعا حادثان.و إنما أعني بالخلق ما تقع عليه المساحة و التقدير،و هي الأجسام و صفاتها.و أعني بعالم الأمر ما لا يتطرق إليه التقدير.و العالم الجسماني ليس له وجود حقيقي،بل هو من ذلك العالم كالظل من الأجسام،و ليس لظل الإنسان حقيقة الإنسان، و ليس للشخص حقيقة الوجود،بل هو ظل الحقيقة،و الكل من صنع اللّه تعالى.قال اللّه».

ص: 34


1- الشوب:الخلط.
2- طامات:جمع طامة،و هي الداهية التي ليس بعدها داهية.
3- سوره 17 - آیه 85
4- كذا بالأصل و لعلها،«و أعني بالقلب الروح اللطيفة...الخ».

تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً،وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (1) [الرعد:15].و سجود عالم الأمر طوع للّه،و سجود الظلال كره،و تحته سرّ بل أسرار،تحرك أوائلها سلسلة المجانين الحمقى،فضلا عن أواخرها؛فلنتجاوزها، فقد أفهمناك ما أرادوه بالفناء.فدع عنك الغيبة و التكذيب بما لم تحط بعلمه كما قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (2) [يونس:39]،و قال تعالى: وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (3) [الأحقاف:11].

فإذا فهم الفناء في المذكور فاعلم أنه أول الطريق،و هو الذهاب إلى اللّه عز و جل،و إنما الهدى بعده؛أعني بالهدى هدى اللّه،كما قال الخليل-صلوات اللّه عليه- إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (4) [الصافات:99].فأول الأمر ذهاب إلى اللّه، ثم ذهاب في اللّه،و ذلك هو الفناء و الاستغراق به.و لكن هذا الاستغراق أولا يكون كبرق خاطف قلّ ما يثبت و يدوم.فإن دام ذلك صارت عادة راسخة و هيئة ثابتة،عرج به إلى العالم الأعلى و طالع الوجود الحقيقي الأصفى،و انطبع له نقش الملكوت،و تجلى له قدس اللاهوت،و أول ما يتمثل له من ذلك العالم:جواهر الملائكة و أرواح الأنبياء و الأولياء في صورة جميلة،يفيض إليه بواسطتها بعض الحقائق-و ذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال،فيكافح بصريح الحق في كل شيء،فإذا رد إلى هذا العالم المجازي الذي هو كالظلال،نظر إلى الخلق نظر مترحّم عليهم،لحرمانهم من مطالعة جمال حظيرة القدس،و تعجب منهم في قناعتهم بالظلال،و انخداعهم بعالم الغرور و عالم الخيال،فيكون معهم حاضرا بشخصه،غائبا بقلبه،متعجبا هو من حضورهم، و يتعجبون هم من غيبته.فهذه ثمرة لباب الذكر،و إنما مبدؤها ذكر اللسان،ثم ذكر القلب تكلّفا،ثم ذكر القلب طبعا،ثم استيلاء المذكور و انمحاء الذكر،و هذا سرّ قوله صلى اللّه عليه و سلم:«من أحبّ أن يرتفع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه عز و جل»،بل سرّ قوله:

«يفضل الذّكر الخفي على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفا».

و اعلم أن كل ذكر يشعر به قلبك،تسمعه الحفظة،فإن شعورهم يقارن شعورك، و فيه سر،حتى إذا غاب ذكرك عن شعورك بذهابك في المذكور بالكلية،فيغيب ذكرك عن شعور الحفظة.و ما دام القلب يشعر بالذكر،و يلتفت إليه،فهو معرض عن اللّه عز و جل،و غير منفكّ عن شرك خفيّ حتى يصير مستغرقا بالواحد الحقّ؛فذلك هو

ص: 35


1- سوره 13 - آیه 15
2- سوره 10 - آیه 39
3- سوره 46 - آیه 11
4- سوره 37 - آیه 99

التوحيد.و كذلك القول في المعرفة،فمن طلب المعرفة للمعرفة فقد قال بالثاني،و من وجدها،كمثل أن لا يجدها بل يجد المعروف بها،فهو الذي استمكن من حقيقة الوصال،و حل بحبوحة حظيرة القدس،فإن قلت:فلم اختصت هذه المكاشفات بحال الفناء؟فاعلم أن هذه قصة يطول فيها نظر الناظر،و ذلك إذا تأملت لم تقصّر عن أن تدرك كون الحواس و عوارض النفس و شهواتها،جاذبة إلى هذا العالم المحسوس،و هو عالم الزور و الغرور،و لذلك يكشف صريح الحق بالموت،لبطلان سلطان الحواس و الخيالات المولية بوجه القلب إلى عالم السفل؛فإن قصّر عنك سلطان الحواس بالنوم، طولعت بشيء من الغيب على قدر استعدادك و قبولك و همّتك،و لكن بمثال يحتاج إلى التعبير.و ما عندي أنك لم تصادف من نفسك رؤيا صادقة اطّلعت بها على أمر مستقبل، لكن الخيال لا يفتر في النوم و إن ركدت الحواس؛فلذلك يضعف الاطلاع و لا يخلو من شوب المثال.

و أما الفناء،فعبارة عن حالة تركد فيها الحواس و لا تشتغل،و يسكن فيها الخيال و لا يشوّش؛فإن بقيت في الخيال بقية مغلوبة،لم يؤثر إلا في محاكاة ما يتجلى من عالم القدس،حتى يتمثل الأنبياء و الملائكة و الأرواح المقدسة في قوالب الخيال.

فهذه أمور نبهت عليها لتكون متشوقا إلى أن تصير من أهل الذوق لها،فإن لم تكن،فمن أهل العلم بها،فإن لم تكن،فمن أهل الإيمان بها،و يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (1) [المجادلة:11].و إياك أن تكون من المنكرين لها،فتلقى العذاب الشديد،إذا كوشفت بالحق عند سكرات الموت الذي كنت منه تحيد،و قيل لك: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (2) [ق:22].

و اعلم أن الإيمان و العلم و الذوق ثلاث درجات متباعدة،فإن العنّين (3)مثلا يتصور أن يصدق بوجود شهوة الوقاع لغيره،بأن يقبل ذلك ممن يحسن ظنه به و لا يتهمه بالكذب،و ذلك إيمان،و يتصور أن يعلم بالبرهان وجوده لغيره،و هو علم؛و مأخذه قياس أن ينظر إلى شهوته للطعام مثلا،فيقيس بها شهوة الوقاع،و كل ذلك بعيد عنا.

ص: 36


1- سوره 58 - آیه 11
2- سوره 50 - آیه 22
3- العنين:من لا يأتي النساء عجزا أو كرها.

إدراك حقيقة الشهوة بوجودها له.و كذلك المرض يعرفه العامي الصحيح و يؤمن به، و يعرفه الطبيب الصحيح بالبرهان و هو علم،و من لم يصر مريضا لم يحصل له الذوق.

فكذلك القول في الفناء في التوحيد؛فالذوق مشاهدة،و العلم قياس،و الإيمان قبول بحسن الظن مع الانفكاك عن التهمة.فاجتهد ان تصير من أهل المشاهدة،فليس الخبر كالمعاينة.

فإن قلت:لقد عظّمت أمر الذكر فهل هو أفضل أم قراءة القرآن؟فاعلم أن قراءة القرآن أفضل للخلق كلّهم إلا للذاهب إلى اللّه عز و جل؛و هو أفضل للذاهب إلى اللّه في جميع أحوال بدايته،و في بعض أحواله في نهايته؛فإن القرآن هو المشتمل على صنوف المعارف و الأحوال و الإرشاد إلى الطريق،فما دام العبد مفتقرا إلى تهذيب الأخلاق و تحصيل المعارف،فالقرآن أولى به،فإن جاوز ذلك و استولى الذكر على قلبه بحيث يرتجى له أن يفضي به ذلك إلى الاستغراق،فمداومة الذكر أولى به،فإن القرآن يجاذب خاطره،و يسرح به في رياض الجنة،و المريد الذاهب إلى اللّه تعالى،لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة و رياضها،بل ينبغي أن يجعل همه همّا واحدا،و ذكره ذكرا واحدا، حتى يدرك درجة الفناء و الاستغراق،فلذلك قال اللّه عز و جل: وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ (1) [العنكبوت:45]،و كذلك من ينتهي إلى درجة الاستغراق و لا يدوم و لا يثبت عليه،فإذا ردّ الى نفسه فقد تنفعه تلاوة القرآن؛و هذه حالة نادرة عزيزة،كالكبريت الأحمر، يتحدث به و لا يوجد.فتكون تلاوة القرآن أفضل مطلقا؛لأنه أفضل في كل حال،إلا في حال من شغله المتكلم عن الكلام،إذ لباب القرآن معرفة المتكلم بالقرآن،و معرفة جماله و الاستغراق به،و القرآن سائق إليه و هاد نحوه،و من أشرف على المقصد لم يلتفت الى الطريق.

فإن قلت:فأيّ الأذكار أفضل؟فاعلم أن الأفضل-كما ذكرناه-استيلاء المذكور على القلب؛و هو شيء واحد لا كثرة فيه،حتى يختار أفضله،و ذلك عين الجمع و التوحيد،و إنما التفرقة و الكثرة قبل ذلك،فذلك ما دمت في مقام الذكر باللسان و القلب،و عند هذا قد ينقسم الذكر إلى الأفضل و غير الأفضل،و فضله بحسب الصفات التي يعبّر عنها بالأذكار.

و الصفات و الأسماء الواردة في حق اللّه سبحانه،تنقسم إلى ما هو حقيقة في حق

ص: 37


1- سوره 29 - آیه 45

العباد،و مؤولة في حقه سبحانه،كالصبور و الشكور و الرحيم و المنتقم.و إلى ما هو حقيقة في حقه سبحانه،و إذا استعمل في حق غيره كان مجازا.

فمن أفضل الأذكار:«لا إله إلاّ اللّه الحيّ القيّوم»فإن فيه اسم اللّه الأعظم،إذ قال صلى اللّه عليه و سلم:«اسم اللّه الأعظم في آية الكرسي و أول آل عمران»و لا يشتركان إلا في هذا، و له سرّ يدقّ (1)عن فهمك ذكره.و القدر الذي يمكن الرمز إليه أن قولك:«لا إله إلا اللّه» يشعر بالتوحيد،و معنى الوحدانية في الذات و الرّبّيّة حقيقي في حق اللّه عز و جل،غير مؤوّل بل هو في حق غيره مجاز و مؤوّل.و كذلك الحي فإن معنى الحي هو الذي يشعر بذاته و يعلم ذاته،و الميت هو الذي لا خبر له من ذاته،و هذا أيضا حقيقي للّه تعالى،غير مؤوّل،و القيوم:يشعر بكونه قائما بذاته،و أن كل شيء قوامه به؛و هذا أيضا حقيقي للّه عز و جل غير مؤوّل،و لا يوجد لغيره.و ما عداها من الأسماء الدالة على الأفعال كالرحيم و المقسط و العدل و غيره،فهو دون ما يدل على الصفات؛لأن مصادر الأفعال هي الصفات،و الصفات أصل،و الأفعال تبع.و ما عداها من الصفات التي تدل على القدرة و العلم و الإرادة و الكلام و السمع و البصر،فذلك مما يظن أن الثابت منها للّه عز و جل مفهوم من ظواهرها.و هيهات،فإن المفهوم من ظواهرها أمور تناسب صفات الإنسان و كلامه و قدرته و علمه و سمعه و بصره،بل لها حقائق يستحيل ثبوتها للإنسان، فيستخرج من هذه الأسامي بنوع من التأويل.فهذا ينبهك على ما يحتمله فهمك من اختصاص هذه الكلمات بكونها أعظم،و يقرب منه قولك:«سبحان اللّه و الحمد للّه،و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر»لأن«سبحان اللّه»للتقديس،و هو حقيقي في حقه؛فإن القدس الحقيقي لا يتصور إلاّ له تعالى.و قولك:«الحمد للّه»يشعر بإضافة النعم كلها إليه،و هو حقيقي،إذ هو المنفرد بالأفعال كلها تفردا حقيقيا بلا تأويل،و هو-تبارك و تعالى- المستوجب الحمد وحده،إذ لا شركة لأحد معه في فعله أصلا،كما لا شركة للقلم مع الكاتب في استحقاق المحمدة عند حسن الحظّ.

و اعلم أن كل من سواه ممن ترى منه نعمة،فهو تعالى مسخر له كالقلم،فهذا مثال ينبهك على تفرده باستحقاق الحمد.و قولك:«لا إله إلا اللّه»،فقد عرفت أنهى.

ص: 38


1- يدق:يغمض،يخفى.

التوحيد الحقيقي.و قولك:«اللّه أكبر»،فليس المعني به أنه أكبر من غيره،إذ ليس معه- سبحانه-غيره حتى يقال أكبر منه،بل كل ما سواه فهو نور من أنوار قدرته.و ليس لنور الشمس مع الشمس رتبة المعيّة،حتى يقال إنها أكبر منه؛بل رتبة التبعية؛بل معناه أنه- عز و جل-أكبر من أن ينال بالحواس،أو يدرك جلاله بالعقل و القياس،بل أكبر من أن بدرك كنه جلاله غيره،بل أكبر من أن يعرفه غيره،فإنه لا يعرف اللّه-تبارك و تعالى-إلا اللّه،فإن منتهى معرفة عباده،أن يعرفوا أنه يستحيل منهم معرفته الحقيقة.و لا يعرف ذلك أيضا بكماله إلا نبي أو صدّيق،أما النبيّ،فيعبر عنه و يقول:«لا أحصي ثناء عليك،أنت كما أثنيت على نفسك»،و أما الصّديق فيقول:«العجز عن درك الإدراك إدراك».

فإن تشوّقت إلى زيادة تحقيق في هذا المعنى و استنكرت قولي:«لا يعرف اللّه إلا اللّه»فاطلب معرفة حقيقته بالبرهان من كتاب المقصد الأقصى في معاني أسماء اللّه الحسنى،و يكفيك الآن هذا القدر من الرموز إلى أسرار الذكر،و فضل الأذكار منها.

الأصل السابع في طلب الحلال:

اشارة

قال اللّه سبحانه و تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً (1) [المؤمنون:

51].و الحرام خبيث و ليس بطيب،فقد قرن-عز و جل-أكل الطيبات بالعبادات، و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«طلب الحلال فريضة على كل مسلم بعد الفريضة»،أي بعد فريضة الإيمان و الصلاة.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من أكل الحلال أربعين يوما نوّر اللّه قلبه،و أجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»،و في رواية أخرى:«زهّده اللّه في الدنيا».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن للّه ملكا على بيت المقدس،ينادي كل ليلة:من أكل حراما لم يقبل منه صرف و لا عدل»؛فالصّرف النافلة و العدل الفريضة.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من اشترى ثوبا بعشرة دراهم،و في ثمنه درهم حرام،لم يقبل اللّه صلاته ما دام عليه منه شيء».و قال عبد اللّه بن عمر-رضي اللّه عنه-:«لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا،و صمتم حتى تكونوا كالأوتار،لم يقبل اللّه ذلك منكم إلا بورع حاجز»و قيل:العبادة مع أكل الحرام كالبنيان على السّرقين (2).

ص: 39


1- سوره 23 - آیه 51
2- السرقين:بكسر السين و فتحها الزبل و الكلمة فارسية.

فصل

اعلم أن طيب المطعم له خاصية عظيمة في تصفية القلب

و تنويره و تأكيد استعداده لقبول أنوار المعرفة،و فيه سر لا يحتمل هذا الكتاب ذكره؛و لكن ينبغي أن تفهم أن درجات الورع أربع:

الدرجة الأولى:هي التي يجبّ (1)الفسق باقتحامها،و تزول العدالة بزوالها، و هي التي يحرمها فتوى الفقهاء.

الثانية:ورع الصالحين؛و هو الحذر عما يتطرق إليه احتمال التحريم،و إن أفتى المفتي بحله بناء على الظاهر،و هو الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

الثالثة:ورع اليقين؛قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«لا يبلغ العبد درجة المتّقين حتى يترك ما لا بأس به حذارا و مخافة مما به بأس».و قال عمر-رضي اللّه عنه-:«كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام».و من هذا الأصل كان بعضهم إذا استحق مائة درهم اقتصر على تسعة و تسعين،و يترك الواحد حاجزا بينه و بين النار لخوف الزيادة،و كان بعضهم يأخذ ما يأخذ بنقصان حبة،و يعطي ما يعطي بزيادة حبة؛و لذلك أخذ عمر بن عبد العزيز-رحمة اللّه عليه-أنفه حذرا من ريح المسك لبيت المال كان يوزن بين يديه،و قال:«هل ينتفع إلا بريحه؟»،و من ذلك أن يتورع عن الزينة و أكل الشهوات، خيفة من أن تغلب النفس فتدعوه إلى الشهوات المحظورة.و من ذلك ترك النظر إلى تجمل أهل الدنيا،فإنه يحرك دواعي الرغبة في الدنيا؛و لذلك قال اللّه تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا (2) [طه:131].و لذلك قال عيسى ابن مريم-عليه السلام-:«لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا،فإن بريق أموالهم يذهب بحلاوة إيمانكم».و لذلك قال السلف:«من رقّ ثوبه رق دينه».فالحلال الطلق الطيب كل حلال انفكّ عن مثل هذه المخافة و لم يوجد فيها.

الرابعة:ورع الصدّيقين،و هو الحذر عن كل ما لا يراد بتناوله القوة على طاعة اللّه تعالى إذا كان قد يتطرق إلى بعض أسبابها معصية.فمن ذلك ما حكي أن ذا النون

ص: 40


1- يجبّ:يقطع.
2- سوره 20 - آیه 131

المصري كان محبوسا جائعا،فبعثت إليه امرأة صالحة من طيّب مالها طعاما على يد السجان،فلم يأكل منه و اعتذر أنه جاءني على طبق ظالم أي يد السجّان.و من ذلك أن بشر الحافي كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها السلاطين.و أطفأ بعضهم سراجا أشعله غلامه من بيت ظالم.و شرب بعضهم دواء فأشارت إليه امرأته بالمشي و التردد، فقال:هذه مشية لا أعرف لها وجها،و أنا أحاسب نفسي على جميع حركاتي.و هذه رتبة أقوام وفوا بقوله تعالى: قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (1) [الأنعام:91]،فعدّوا كل ما لم يكن للّه تعالى حراما.و ليس هذا من عشّك (2)و عش ناصحك،فادرج و اجتهد أن تفيء بورع العدول الذي تفتي به الفقهاء.

نعم ينبغي أن تضيف إليه شيئين:أحدهما أن تحذر عن مواقع غرورهم،و لا تلتفت إلى قولهم:«من وهب في آخر السنة ماله زوجته،و استوهب منها مالها،سقطت الزكاة عنهما».فإنهم إن عنوا به أن السلطان لا يطالبهم بالزكاة،لأن مطمح نظره ظاهر الملك فهو صدق؛و درجة الفقهاء و فتواهم ذكر ما يتعلق بالظواهر فيحكمون بالبراءة عن الزكاة إذا سقط طلب الساعي،و يحكمون بصحة الصلاة إذا امتنع القتل على السلطان بجريان صورة الصلاة (3)؛إذ ليس بأيديهم من القوانين إلا القانون الذي يستعمله السلطان في السياسة لينتظم أمر المعيشة الدنيوية التي هي منزل من منازل الطريق كما سبق.

و أما أنت،إذا كنت تنظر فيما ينفعك غدا عند جبّار الجبابرة،و سلطان السلاطين، فلا تلتفت إلى هذا،و اعلم أن مقصود الزكاة إزالة رذيلة البخل فإنه مهلك كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«ثلاث مهلكات:شحّ مطاع،و هوى متّبع،و إعجاب المرء بنفسه».و هبة مال الزكاة لأجل درء الزّكاة،تجعل الشحّ مطاعا،فإنه يصير مطاعا بإجابته إلى ما يقتضيه.

و قبل هذا لم يكن مطاعا،فكيف يكون ذلك منجيا؟ و كذلك من يسيء معاشرة زوجته حتى تنفكّ له من المهر،فلا يحل له المهر بينهة.

ص: 41


1- سوره 6 - آیه 91
2- العش:المطلب.
3- العبارة التي أولها«فإنهم ان عنوا الخ..صورة الصلاة»وردت هكذا في النسخة التي بين أيدينا، و هي عبارة-كما ترى-مهزوزة.

و بين اللّه-عز و جل-و إن كان الفقيه يفتي بسقوط المهر و صحة الإبراء؛لأن اللّه تعالى قال:«فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا»؛و ليس هذا طيبة النفس بل طيبة القلب.و الفقيه لا يميز بين الأمرين،لأن شغفه بقطع الخصومات الظاهرة لا غير.

و الحجامة و شرب الدواء البشيع لا تطيب به النفس بل يطيب به القلب،و كذلك كلّ ما يأباه الطبع و يريده العقل لمصلحة البدن في العاقبة.و هذا باب طويل،و أصله أن لا تستحلّ مال غيرك إلا برضاء مطلق صاف.

و ينبغي أن لا تأكل من السؤال،فإن سألت فاحذر أن تسأل على الملأ؛فربما يعطى بالحياء،و ذلك ليس مقرونا بالرضاء،فإن المستحي يؤثر ألم إزالة الملك على ألم الحياء.و لا فرق بين أن تأخذ ماله بضرب ظاهره بالسوط،و بين أن تأخذه بضرب باطنه بسوط الحياء،فالكل مصادرة.و احذر أيضا أن يعطيك بالدّين،و ذلك بأن يعطيك لظنه أنك ورع تقيّ فتأكل بالدين؛و يكون من شرط حلّه،أن لا يكون في باطنك ما لو اطلع عليه المعطي لامتنع من الإعطاء؛فلا فرق بين من يأخذ بالتصوّف و التقوى،و ليس هو متصفا به باطنا،و بين من يزعم أنه علوي ليعطى و هو كاذب.و كل ذلك حرام عند ذوي البصائر و إن أفتى الفقيه بالحل بناء على الظاهر.

الفن الثاني:أن تراجع قلبك،و إن أفتوك،فإن الإثم حزّاز القلوب،فالذي يضرك ما حاك في قلبك،و لذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«استفت قلبك و إن أفتوك و أفتوك».و هذا السر طويل ذكره،و لكن اعلم على الجملة أن المحذور من الحرام إظلام القلب، و المطلوب من الحلال تنويره،و ذلك يتشعب من اعتقادك لا من نفس المعتقد.

فمن وطئ امرأة على أنها أجنبية،فإذا هي منكوحته حصل إظلام القلب،و لو وطئ أجنبية على ظن أنها زوجته لم يحصل.و كذلك في النجاسات و الطهارات المؤثّرة في تنوير القلب وهمك و اعتقادك؛فما أمرت بأن تصلي و ثوبك طاهر،بل أن تصلي و أنت تعتقد أنه طاهر.فاستشعار الطهارة مؤثّر في إشراق القلب،و إن لم يكن على وفق الحال؛و لذلك نقول:إن من صلى ثم تذكر أنه كان معه نجاسة،فليس عليه الإعادة على الأصح؛لأنه صلى اللّه عليه و سلم خلع نعليه في أثناء صلاته لما أخبره جبريل-عليه السلام-بأن عليهما قذرا،و استمر فيها.و لذلك يشدد الأمر على الموسوس،فإنه ما لم يطمئن قلبه

ص: 42

باعتقاده الطهارة،فيجب عليه الاستقصاء و المعاودة،و أولئك قوم شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم،فهلكوا باستقصائهم كما قال عليه السلام:«هلك المتنطّعون» (1).

فكذلك في الحلال،أنت متعبد بما يطمئن إليه قلبك،لا بما يفتي به المفتي،فاستفت قلبك.

فصل

إياك أن تشدد على نفسك فتقول:أموال الدنيا كلها حرام

،و قد أخبثتها الأيدي العادية (2)،و المعاملات الفاسدة،فأقنع بالحشيش مترهبا،أو أتناول من الجميع متوسعا،لا أفصل فيه بين حلال و حرام.بل اعلم قطعا،أن الحلال بيّن (3)و الحرام بيّن، و بينهما أمور متشابهات.

كذلك كان في عصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و كذلك يكون أبد الدهر.فاستمد من السر الذي ذكرناه،فإنك غير متعبّد بما هو في نفسه حلال،بل بما هو في اعتقادك حلال،لا تعرف سببا ظاهرا في تحريمه؛فقد توضأ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من مزادة (4)مشرك،و توضأ عمر-رضي اللّه عنه-من جرة نصرانية.و لو عطشوا لشربوا منه؛و شرب الماء النجس حرام،و لكن استصحبوا يقين الطهارة،و لم يتركوها لتوهم النجاسة.

و كذلك كل مال صادفته في يد رجل مجهول عندك حاله،فلك أن تشتري منه و تأكل من ضيافته،تحسينا للظن بالمسلم؛فإن الأصل أن ما في يده فهو حلال،و ما تصادفه في يد رجل عرفته بالصلاح فهو أولى بأن تعتقده حلالا.نعم يجب الحذر مما تصادفه في يد سلطان ظالم،أو رجل عرفته بالرّبا أو بيع الخمر.فيجب الحذر منه حتى تسأل و تستقصي،و تعرف من أين حصل له.فإن ظهر لك جهة حصوله و أنه حلال،فلك أخذه،و إلا فلا.فالاعتماد على العلامة الظاهرة،و هي قرينة حاله.و هذا إذا كان أكثر أمواله كذلك،فإن كان أكثرها حلالا فلك أن تأكل منه؛و إن تركته فذلك ورع؛فقد

ص: 43


1- المتنطعون:المتحذقون الذين يتشدقون في كلامهم.
2- العادية:الظالمة.
3- بين:ظاهر.
4- مزادة:ما يوضع فيه الزاد.

كتب بعض و كلاء ابن المبارك من البصرة إليه يسأله عن معاملة رجل يعامل السلطان، فقال:«إن كان لا يعامل غير السلطان فلا تعامله،و إن كان يعامل غيره أيضا فعامله».

و بالجملة،الناس في حقك ستة أقسام:أحدهم أن يكون مجهولا،فكل من ماله و الحذر ليس بواجب،بل هو محض الورع.الثاني:أن تعرفه بالصلاح فكل منه و لا تتورّع،فالورع فيه وسوسة؛فإن أدى إلى الأذى و الإيحاش فهو معصية و حرام،لما فيه من الإيذاء،و لما فيه من سوء الظن بالرجل الصالح.الثالث:أن تعرفه بالظلم و الربا حتى علمت أن كل ماله أو أكثره حرام كالسلاطين الظلمة و غيرهم،فمالهم حرام.

الرابع:أن تعرف أن أكثر أمواله حلال،و لكن لا يخلو من حرام،كرجل له تجارة و ميراث،و هو مع هذا في عمل السلطان،فلك الأخذ بالأغلب،لكن الترك من الورع المهم.الخامس:أن يكون مجهولا عندك،لكن ترى عليه علامة الظلم،كالقباء و القلنسوة و هيئة الظلمة،فهذه علامة ظاهرة توجب الحذر،فلا تأكل من ماله إلا بعد التفتيش.السادس:إن ترى عليه علامة الفسق لا علامة الظلم،كطول الشارب، و انقسام شعر الرأس قزعا (1)،و رأيته يشتم غيره،أو ينظر إلى امرأة؛فإن علمت له مالا موروثا أو تجارة لم يحرّم ماله بذلك،و إن كان أمره مجهولا عندك فهذا فيه خطر،لأن علامة الفسق أضعف دلالة من علامة الظلم؛و لكن الأظهر عندي أنه لا يحرّم ماله لأن ظاهر اليد و الإسلام يدل على الملك دلالة أظهر من دلالة هذه العلامات على التحريم؛ و ليست هذه الدلالة أقوى من دلالة النصرانية و المجوسية على نجاسة الماء،و لم يلتفت إليهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،و لا عمر-رضي اللّه عنه-.

أما علامة الظلم،فتضاهي (2)ما إذا رأينا ظبية تبول في ماء،ثم وجدنا الماء متغيرا،فأمكن أن يكون من طول المكث،و أمكن أن يكون من البول،فإنه يجب اجتنابه إحالة على السبب الظاهر.ثم وراء ذلك كله،عليه أن يستفتي قلبه،فإذا وجد في قلبه حزازة (3)فليجتنبه،فالإثم حزازة القلوب و حكاكات الصدور.و لكن هاهنا دقيقة (4)ة.

ص: 44


1- قزعا:جمع قزعة،و هي القطعة أو الخصلة من الشعر.
2- تضاهي:تشبه.
3- حزازة:بغض.
4- يريد ناحية دقيقة.

يغفل عنها أهل الورع،و هي أنه حيث يكون الترك من الورع أو من حزازة في النفس، فلا يجوز الترك و السؤال بحيث يؤذي؛فالمجهول إذا قدم إليك طعاما،فإن سألته من أين؟استوحش و تأذّى؛و الايذاء حرام،و سوء الظن حرام.و إن سألته عن غيره بحيث يدري زاد الإيذاء.و إن سألت بحيث لا يدري فقد تجسست و أسأت الظن،و بعض الظن إثم،و تساهلت بالغيبة و التهمة،و كل ذلك حرام.و ترك الورع ليس بحرام،فليس لك إلا التلطف بالترك،فإن لم يكن إلا بإيذاء،فعليك أن تأكل،فإن طيبة قلب المسلم و صيانته عن الإيذاء أهم من الورع.فإياك أن تكون من القرّاء المغرورين الذين لا يدركون دقائق الورع.

و اعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أكل من صدقة بريرة و لم يسأل عن المتصدق.و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تحمل إليه الهدايا فيقبل و لا يسأل.نعم سأل في أول قدومه إلى المدينة عما حمل إليه هل هو صدقة أو هدية؟لأن ذلك ليس فيه إيذاء،و لأن قرينة الحال كانت تقتضي الإمكان في الصدقة و الهدية على وتيرة واحدة.و كان صلى اللّه عليه و سلم يدعى إلى الضيافات فيجيب و لا يسأل و لم ينقل السؤال إلا نادرا في محل الريبة.فإن قلت:فإن وقع طعام حرام في سوق فهل يشتري من ذلك السوق؟فأقول:إن تحققت أن الحرام هو الأكثر فلا تشتر إلا بعد التفتيش،و إن علمت أن الحرام كثير و ليس بالأكثر فلك الشراء.و التفتيش من الورع؛ و لقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أصحابه-رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين-يشترون في أسفارهم من الأسواق،مع علمهم بأن فيها أهل الربا و الغصب و أهل الغلول (1)في الغنيمة،و كانوا لا يتركون المعاملة معهم.و هذا الباب يستدعي شرحا طويلا،فإن رغبت فيه فطالع كتاب الحلال و الحرام من كتب الإحياء لتشهد عند مطالعته بأنه لم يصنف في فنه مثله في التحقيق و التحصيل و الإحاطة بجميع التفاصيل.

الأصل الثامن في القيام بحقوق المسلمين و حسن الصحبة معهم:

اشارة

و هو ركن من أركان الدين،إذ الدين معناه السفر إلى اللّه تعالى.و من أركان السفر

ص: 45


1- الغلول:الغش.

حسن الصحبة في منازل السفر مع المسافرين.و الخلق كلهم سفر،يسير بهم العمر سير السفينة بركّابها.و اعلم أن الانسان في الدنيا إما أن يكون وحده،أو يكون مع خواصه من أهل و ولد و قريب و جار،أو يكون مع عموم الخلق؛فهذه ثلاثة أحوال.و عليه حسن الصحبة،و أداء الحقوق في جميع هذه الأحوال:

الحالة الأولى:أن يكون وحده.و ليعلم أنه بنفسه عالم و أن باطنه يشتمل على أصناف من الخلق مختلفي الطباع و الأخلاق،فإن لم يحسن صحبتهم و لم يقم بحقوقهم هلك.و أصناف جنود الباطن كثيرة، وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ (1) [المدثر:31].

و قد استقصينا بعض ذلك في كتاب عجائب القلب.

و نذكر الآن أمراء الجنود و رءوسها،فنقول:فيك شهوة تجذب بها إلى نفسك النافع،و غضب تدفع به عن نفسك الضار،و عقل تدبر به الأمور و ترعى به الرعية.

فأنت،باعتبار غضبك كلب،و باعتبار شهوتك بهيمة،كالفرس مثلا،و باعتبار عقلك ملك.و أنت مأمور بالعدل بينهم،و القيام بحقوقهم،و الاستعانة بهم،لتقتنص بمعونتهم سعادة الأبد،فإن رضت (2)الفرس و أدبت الكلب و سخرتهما للملك تيسر لك الظفر بما طلبت،و إن سخرت العقل في استنباط الحيل لتحصيل ما يتقاضاه الكلب بغضبه و لجاجه (3)،و الفرس بحرصه و جشعه أوفيت على العطب،فضلا عن إدراك مقصود الطلب،فصرت منكوسا فاجرا ظالما؛لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.و لو رأيت شخصا جعل في طاعته ملك و كلب و خنزير،فلم يزل يضطر الملك إلى أن يسجد للخنزير و الكلب،فهل تراه ظالما مستوجبا اللعنة؟و لو كوشفت بحالك عند منامك أو عند فنائك عن نفسك-كما وصفناه في الاستغراق باللّه-لرأيت كل من أطاع شهوته و غضبه،ساجدا لكلب و خنزير،إذ لم يكن الكلب كلبا لصورته بل لمعناه.و كذلك ترى نفسك بعد الموت؛لأن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور و لا تتبعها،فيتمثل كل شيء بصورة توازي معناه،فيحشر المتكبرون في صغر الذر (4)،يطؤهم من أقبل و أدبر.ل.

ص: 46


1- سوره 74 - آیه 31
2- من الرياضة يقال راض المهر إذا ذلّله.
3- في النسخة«لحاجه»بالحاء المهملة و هو تصحيف ظاهر.
4- الذر:صغار النمل.

و المتواضعون أعزّاء،و أما هذا العالم،فعالم التلبيس (1)،فقد يودع معنى الخنزير و الكلب في صورة الإنسان،فلا تغتر به،فإن ذلك ينكشف يوم تبلى (2)السرائر.فعليك أن تحسن صحبة رفقائك الثلاثة،فتكسر شرة (3)الشهوة بسطوة الغضب،و تقل من غلواء الغضب بخداع الشهوة،و تسلط أحدهما على الآخر؛فإن ذلك بليغ جدا في تقويمهما، حتى ينقادا للعقل و الشرع،فيستعملهما العقل بحيث ينتفع بهما،كما يستعمل الصائد الفرس و الكلب عند الحاجة و يسكنهما عند الاستغناء،و شرح هذه الرياضة و الصيد طويل ذكرناه في كتاب رياضة النفس.

الحالة الثانية:صحبتك مع عموم الخلق.فأقل درجات حسن الصحبة كفّ الأذى عنهم؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده».و فوق ذلك أن تنفعهم و تحسن إليهم؛قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«الخلق كلهم عيال اللّه،و أحبهم إلى اللّه أنفعهم لعياله».و فوق ذلك أن تحتمل الأذى منهم و تحسن مع ذلك إليهم،و ذلك درجة الصّدّيقين؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعليّ-رضي اللّه عنه-:«إن أردت تسبق الصّديقين فصل من قطعك،و أعط من حرمك و اعف عمن ظلمك».هذه جملة الأمر.

و تفصيل هذه الحقائق كثيرة،و نقتصر من جملتها على عشرين وظيفة:

فمنها:أن لا تحبّ للناس إلا ما تحب لنفسك،قال عليه السلام:«من سرّه أن يزحزح عن النار،فليأته منيته و هو يشهد أن لا إله إلا اللّه،و أن محمدا رسول اللّه،و ليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه».

و منها:أن يتواضع لكل أحد و لا يفتخر عليه،فإن اللّه لا يحب كل مختال فخور، و إن تكبّر عليه غيره فليحتمل؛قال اللّه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (4) [الأعراف:199].

و منها:أن يوقر المشايخ و يرحم الصبيان،قال عليه السلام:«ليس منّا من لم يرحم صغيرنا،و لم يوقّر كبيرنا»،و قال عليه السلام:«من إجلال اللّه تعالى إكرام ذية.

ص: 47


1- التلبيس:إخفاء الحقيقة.
2- تبلى:تمتحن.
3- الشّرّة(بكسر الشين المعجمة و فتح الراء مع تشديدها):الحدة.
4- سوره 7 - آیه 199

الشيبة المسلم»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ما وقّر شابّ شيخ لسنّه إلاّ قيّض اللّه له في شيبته من يوقّره»؛ و هذا يبشره بطول الحياة مع الأجر.

و منها:أن تكون مع كافة الخلق مستبشرا طلق الوجه؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«أ تدرون على من حرّمت النار؟»قالوا:اللّه و رسوله أعلم؛قال:«على الهين الليّن السهل القريب»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه يحبّ السهل الطّلق».

و منها:إصلاح ذات البين بين المسلمين و لو بالمبالغة و الزيادة في الكلام؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«ليس بكذّاب من أصلح بين الاثنين فقال خيرا أو نما خيرا»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ألا أخبركم بأفضل من درجات القيام و الصلاة و الصدقة»؟قالوا:بلى يا رسول اللّه،قال:

«إصلاح ذات البين،و فساد ذات البين هي الحالقة».

و منها:أن لا تسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض،و لا يبلّغ بعضهم ما يسمع من بعض؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا يدخل الجنة قتّات» (1)؛و قيل:من نمّ إليك نمّ عليك.

و منها:أن لا تزيد في الهجرة عند الوحشة على ثلاثة أيام؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من أقال مسلما عثرته أقال اللّه تعالى عثرته يوم القيامة».

و منها:أن تحسن إلى كلّ أحد كان أهلا لذلك أو لم يكن؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«اصنع المعروف إلى من هو أهله و إلى من ليس أهله،فإن لم يصب أهله فأنت من أهله».

و منها:أن تخالق (2)كلّ صنف بأخلاقهم،و لا تلتمس من الجاهل و الغبي ما تلتمس من الورع العالم؛قال داود-عليه السلام-:«إلهي كيف لي أن يحبني الناس و أسلم فيما بيني و بينك؟»فأوحى اللّه سبحانه إليه:«خالق أهل الدنيا بأخلاق الدّنيا، و خالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة».

و منها:أن تنزل الناس منازلهم،فتزيد في إكرام ذي المنزلة،و إن كانت منزلته فين.

ص: 48


1- قتّات:نمام.
2- تخالق:تعاشر،و الأغلب ان تكون معاشرة بالخلق الحسن.

الدنيا،فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بسط رداءه لبعضهم،و قال:«إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».

و منها:أن تستر عورات المسلمين؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان في قلبه،لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم،فإن من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع اللّه عورته،و من يتبع اللّه عورته يفضحه و لو في جوف بيته».

و منها:أن تتقي مواضع التهم،صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن،و ألسنتهم عن الغيبة؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«اتقوا مواضع التهم»؛و كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إحدى نسائه، فمرّ به رجل،فسلم عليه فلما مر دعاه،فقال:«يا فلان هذه زوجتي صفية»،فقال:يا رسول اللّه من كنت أظن فيه فإني لا أظنّ فيك،فقال:«إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم».

و منها:أن تسعى في قضاء حوائج المسلمين و لو بشفاعة؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«اشفعوا إليّ تؤجروا،فإني أريد الأمر فأؤخره كي تشفعوا إليّ فتؤجروا»؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار،قضاها أو لم يقضها،كان خيرا له من اعتكاف شهرين»؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«قيامك مع أخيك ساعة،خير من اعتكافك سنة».

و منها:أن تبادر بالسلام على كل مسلم و تصافحه ليكون لك فضل البداية؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إذا التقى المسلمان فتصافحا،قسمت بينهما سبعون رحمة،تسع و ستون لأحسنهما برّا».

و منها:أن ينصر أخاه في غيبته فيردّ عن عرضه و ماله؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«ما من أحد ينصر مسلما في موضع يهتك فيه من عرضه و تستحلّ حرمته إلا نصره اللّه في موطن يحب فيه نصرته،و ما من أحد يخذل مسلما في موضع تهتك فيه حرمته إلا خذله اللّه في موضع يحبّ فيه نصرته».

و منها:أن تداري أهل الشر لتسلم منهم؛قالت عائشة-رضي اللّه عنها-:استأذن رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فقال:«ايذنوا له فبئس رجل العشيرة»؛فلما دخل ألان له القول حتى ظننت أن له عنده منزلة؛فلما خرج راجعته في ذلك فقال:«يا عائشة إن شرّ

ص: 49

الناس منزلة عند اللّه يوم القيامة من يكرمه الناس اتقاء فحشه»؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة»؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«خالطوا الناس بأعمالهم،و زايلوهم (1)بالقلوب».

و منها:أن تحذر مجالسة الأغنياء،و تكثر مجالسة المساكين؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«إياكم و مجالسة الموتى»،قيل:و من هم؟قال:«الأغنياء»؛و قال صلى اللّه عليه و سلم:«اللهم أحيني مسكينا، و أمتني مسكينا،و احشرني في زمرة المساكين».و كان سليمان-عليه السلام-إذا رأى في المسجد مسكينا جلس إليه و قال:«مسكين جالس مسكينا»و قال موسى-عليه السلام-:

«إلهي أين أطلبك؟قال:عند المنكسرة قلوبهم من أجلي».

و منها:أن لا يجالس إلا من يفيده في الدين فائدة،أو من يستفيد منه،فأما أهل الغفلة (2)فيتحذر منهم؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«الوحدة خير من الجليس السوء،و الجليس الصالح خير من الوحدة».فإذا أكثر من مجالسة أهل الغفلة فينتقص من دينه بكل جلسة شيء، فليقدر أن كل واحد منهم لو كان يأخذ منه في كل جلسة سلكا من ثوبه،أو شعرة من شعر لحيته،أ ما كان يحذره خيفة أن يصير على القرب أمرد عاريا؟فالحذر لأجل الدين أولى.

و منها:أن يعود مرضاهم،و يشيّع جنائزهم و يزور قبورهم،و يدعو لهم في الغيبة،و يشمّت (3)العاطس،و ينصف الناس من نفسه،و ينصح إذا استنصح،إلى غير ذاك من حقوق كثرت فيها الأخبار،آثرنا فيها الاختصار،و جملتها:أن تعمل في حقهم، ما تحب أن يعمل في حقك من إحسان و اهتمام و كفّ أذى.

الحالة الثالثة:الصحبة مع من يدلي-سوى عموم الإسلام-بخاصية،كجوار أو قرابة أو ملك،قال صلى اللّه عليه و سلم:«إذا رميت كلب جارك فقد آذيته».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«أول خصمين يوم القيامة جاران»،و قيل له صلى اللّه عليه و سلم:«إن فلانه تصوم النهار و تصلي الليل و تؤذي الجيران فقال:«هي في النار».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«أ تدرون ما حقّ الجار؟إن استعان أعنته،و إن استقرضك أقرضته،و إن افتقر جدت عليه،و إن مرض عدته،و إن مات اتبعت جنازته، و إن أصابه خير هنأته،و إن أصابته مصيبة عزّيته،و لا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه».

ص: 50


1- زايلوهم:فارقوهم.
2- أهل الغفلة:الذين لا يرجى خيرهم و لا يخشى شرهم.
3- يشمت العاطس:يدعو له بقوله:«يرحمك اللّه».

الريح إلا بإذنه،و إذا اشتريت فاكهة فأهد له،و إن لم تفعل فأدخلها سرّا،و لا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده و لا تؤذه بقتار (1)قدرك إلا أن تغرف له منها،أ تدرون ما حقّ الجار؟ و الذي نفسي بيده لا يبلغ حقّ الجار إلا من رحمه اللّه».

و أما القرابة،فقد قال صلى اللّه عليه و سلم:قال اللّه تبارك و تعالى:«أنا الرحمن،و هذه الرّحم شققت لها اسما من اسمي،فمن وصلها وصلته،و من قطعها بتتّه» (2)و قال صلى اللّه عليه و سلم:«صلة الرحم تزيد في العمر»و قال صلى اللّه عليه و سلم:«توجد رائحة الجنة على مسيرة خمسمائة عام و لا يجد ريحها عاقّ و لا قاطع رحم»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«برّ الوالدين أفضل من الصلاة و الصيام و الحج و العمرة و الجهاد في سبيل اللّه عز و جل»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«بر الوالدة على الولد ضعفان»، و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ساووا بين أولادكم بالعطية».

أما المملوك،فقد قال فيهم صلى اللّه عليه و سلم:«اتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم،أطعموهم مما تأكلون،و اكسوهم مما تلبسون،و لا تكلّفوهم من العمل ما لا يطيقون،فإن اللّه ملّككم إياهم،و لو شاء لملّكهم إياكم»،قال صلى اللّه عليه و سلم:«إذا كفى أحدكم مملوكه طعاما فكفاه حره و علاجه،و قرّبه إليه،فليجلسه فليأكل معه،أو ليأخذ لقمة فليروّغها (3)،و ليضعها في يده،و ليقل كل هذه».و سئل صلى اللّه عليه و سلم:كم نعفو عن المملوك في اليوم و الليلة؟قال:«سبعين مرة».فجملة حق المملوك أن يشركه في طعمته و كسوته،و لا يكلفه فوق طاقته،و يعفو عن زلته،و لا ينظر إليه بعين الكبر و الازدراء،و يعلّمه مهمات دينه.

و أما حقوق المنكوحة،فتزيد على هذا،إذ يجب لها مع القيام بواجباتها حسن العشرة و المطايبة،قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«خيركم خيركم لأهله،و أنا خيركم لأهلي».و كان صلى اللّه عليه و سلم من أفكه الناس مع نسائه،و الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.

فصل

من أصول الدين في أمر الصحبة اتخاذ الإخوان في اللّه عز و جل

،قال اللّه تعالى

ص: 51


1- القتار:رائحة المطبوخ أو هو دخانه.
2- بتته:قطعته.
3- يقلبها في الدسم و المرق حتى تمتلئ منه.

لبعض أنبيائه:«أما زهدك في الدنيا فقد استعجلت الراحة،و أما انقطاعك إليّ فقد تعززت بي،فهل واليت فيّ وليا،و هل عاديت فيّ عدوّا؟».و قال صلى اللّه عليه و سلم:يقول اللّه يوم القيامة:«أين المتحابون لجلالي،اليوم أظلهم في ظلي و لا ظل إلا ظلي».و أوحى اللّه سبحانه إلى عيسى-عليه السلام-:«لو أنك عبدتني بعبادة أهل السّماوات و الأرض، و حب في اللّه ليس (1)،و بغض في اللّه ليس،ما أغنى عنك ذلك شيئا».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن حول العرش منابر من نور،عليها قوم لباسهم نور،و وجوههم نور،و ليسوا بأنبياء و لا شهداء،يغبطهم النبيون و الشهداء».فقالوا يا رسول اللّه حلّهم (2)لنا من هم؟فقال:

«المتحابون في اللّه،و المتجالسون في اللّه،و المتزاورون في اللّه عز و جل».

و اعلم أن كل حب لا يتصور دون الإيمان باللّه و اليوم الآخر،فهو حب في اللّه، و لكنه على درجتين:إحداهما:أن تحبه لتنال منه في الدنيا نصيبا يوصلك إلى الآخرة، كحبك أستاذك و شيخك،بل تلميذك الذي ينمو علمك بتعليمه،بل خادمك الذي يفرغ قلبك عن كنس بيتك و غسل ثوبك،لتتفرغ بسببه لطاعة اللّه تعالى،بل المنفق عليك من ماله،إذا كان غرضك من ذلك إفراغ القلب لعبادة اللّه تبارك و تعالى.الثانية:و هي أعلى،أن تحبه لأنه محبوب عند اللّه عز و جل و يحب اللّه،و إن لم يتعلق غرض به لك في الدنيا و الآخرة،من علم أو معونة على دين أو غيره؛و هذا أكمل،لأن الحب إذا غلب تعدّى إلى كلّ من هو من المحبوب بسبب،حتى يحب الإنسان محب محبوبه،و محبوب محبوبه،بل يميز بين الكلب الذي هو في سكة محبوبه،و بين سائر الكلاب.و إنما سراية (3)الحب بقدر غلبة الحب،و من أحب لقاء اللّه لم يمكنه أن لا يحبّ عباده الصالحين المرضيّين عنهم.إلا أن ذلك قد يقوى حتى يحمل على أن يسلك بهم مسلك نفسه،بل يؤثرهم على نفسه،و قد يقصّر عن ذلك،و فضلهم عنده ينقسم بقدر درجته و قوته.و كذلك يبغض لا محالة من يعصيه،و يخالف أمره،و يظهر أثر ذلك في مجانبته و مهاجرته له،و تقطيبه الوجه عند مشاهدته،و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا تجعل لفاجر عليّ يدا فيحبه قلبي»حذرا من أن يقدح ذلك في البغض في اللّه.و بالجملة من لا يصادف منى.

ص: 52


1- ليس:استعملت هنا بمعنى الاستثناء.
2- حلهم:بيّنهم و اذكرهم.
3- سراية:مصدر سرى سريانا و سراية أي دب و جرى.

نفسه الحب في اللّه،و البغض في اللّه بهذه الأسباب فهو ضعيف الإيمان،و هذا له تفصيل و تحقيق،فاطلبه من كتاب الصحبة و الأخوة في اللّه تعالى.

الأصل التاسع في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1) [آل عمران:104]الآية.و قال تعالى:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (2) [التوبة:71]الآية.و قال تعالى:

كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ،لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (3) [المائدة:79].و قال أبو بكر الصديق-رضي اللّه عنه-في خطبته:«أيّها الناس إنكم تقرءون هذه الآية و تتأوّلونها على خلاف تأويلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (4) ،و إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول:«ما من قوم عملوا بالمعاصي و فيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا أوشك أن يعمهم اللّه بعذاب من عنده».و قالت عائشة- رضي اللّه عنها-:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«عذّب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا،أعمالهم أعمال الأنبياء».قالوا:يا رسول اللّه كيف ذلك؟قال:«لم يكونوا يغضبون للّه عز و جل، و لا يأمرون بالمعروف،و لا ينهون عن المنكر».

فصل

كل من شاهد منكرا و لم ينكره و سكت عنه،فهو شريك فيه

؛فالمستمع شريك المغتاب.و يجري هذا في جميع المعاصي،حتى في مجالسة من يلبس الديباج، و يتختم بالذهب،و يجلس على الحرير،و الجلوس في دار أو في حمّام على حيطانها صور أو فيها أوان من ذهب أو فضة،أو الجلوس في مسجد يسيء الناس الصلاة فيه،فلا يتمون الركوع و السجود و الجلوس،أو في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة،أو في مجلس مناظرة أو مجادلة يجري فيها الإيذاء و الإيحاش بالسّفه و الشتم.و بالجملة،من خالط الناس كثرت معاصيه،و إن كان تقيّا في نفسه،إلا أن يترك المداهنة و لا تأخذه في اللّه لومة لائم،و يشتغل بالحسبة (5)و المنع.و إنما يسقط عنه الوجوب بأمرين:أحدهما:

ص: 53


1- سوره 3 - آیه 104
2- سوره 9 - آیه 71
3- سوره 5 - آیه 79
4- سوره 5 - آیه 105
5- الحسبة:منصب كان يتولاه في الدول الإسلامية رئيس يشرف على الشئون العامة،من مراقبة الأسعار و رعاية الآداب.و المقصود هنا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

أن يعلم أنه إن أنكر لم يلتفت إليه و لم يترك المنكر و نظر إليه بعين الاستهزاء،و هذا هو الغالب في منكرات ترتكبها الفقهاء؛و من يزعم أنه من أهل الدين فههنا يجوز السكوت، و لكن يستحب الزجر باللسان،إظهارا لشعار الدين،مهما لم يقدر على غير الزجر باللسان،و يجب ان يفارق ذلك الموضع،فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختيار؛ فمن جلس في مجلس الشرب فهو فاسق و إن لم يشرب،و من جالس مغتابا أو لابس حرير أو آكل ربا أو حرام،فهو فاسق فليقم من موضعه.

و الثاني:أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكر بأن يرى زجاجة فيها خمر فيرميها فتكسر،أو يسلب آلة الملاهي من يده و يضربها على الأرض.و لكن يعلم أنه يضرب أو يصاب بمكروه،فههنا يستحب الحسبة لقوله تعالى: وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ (1) [لقمان:17]و لا يجب إلا أن يكون المكروه الذي يصيبه له درجات كثيرة يطول النظر فيها،ذكرناها في كتاب الأمر بالمعروف من الإحياء.و على الجملة،فلا يسقط الوجوب إلا بمكروه في بدنه بالضرب،أو في ماله بالاستهلاك،أو في جاهه بالاستخفاف به بوجه يقدح في مروءته.فأما الخوف من استيحاش المنكر عليه،و خوف تعرضه له باللسان و عداوته له،أو توهم سعيه له في المستقبل بما يسوؤه أو يحول بينه و بين زيادة خير يتوقعها،فكلّ ذلك موهومات و أمور ضعيفة لا يسقط الوجوب بها.

فصل

عمدة الحسبة شيئان:

أحدهما:الرفق و اللطف و البداية بالوعظ على سبيل اللين لا على سبيل العنف، و الترفع و الإذلال بدالّة الصلاح،فإن ذلك يؤكد داعية المعصية،و يحمل العاصي على المناكرة و على الإيذاء.ثم إذا أذاه و لم يكن حسن الخلق غضب لنفسه،و ترك الإنكار للّه تعالى،و اشتغل بشفاء غليله منه،فيصير عاصيا،بل ينبغي أن يكون كارها للحسبة،يودّ لو ترك المعصية بقول غيره،فإنه إذا أحب أن يكون هو المتعرض،كان ذلك لما في نفسه من دالة الاحتساب و عزته.و قال عليه السلام:«لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به،رفيق فيما ينهى عنه،حليم فيما يأمر به،حليم فيما ينهى عنه،فقيه فيما يأمر به،فقيه فيما ينهى عنه».و وعظ المأمون-رحمة اللّه عليه-واعظ

ص: 54


1- سوره 31 - آیه 17

بعنف فقال:«يا رجل ارفق فقد بعث اللّه تعالى من هو خير منك إلى من هو شرّ مني فأمره بالرفق.فقال اللّه تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (1) [طه:44]».

و روى أبو أمامة الباهلي-رضي اللّه عنه-أن غلاما شابّا أتى النبي صلى اللّه عليه و سلم،فقال:

أ تأذن لي بالزنا؟فصاح الناس به؛فقال النبي عليه السلام:«أقرّوه أقرّوه أدن مني»فدنا منه،فقال عليه السلام:«أ تحبه لأمّك؟»فقال:لا،جعلني اللّه فداك،قال عليه السلام:«كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم»،ثم قال:«أ تحبه لابنتك؟»،قال:لا، قال:«كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم»؛حتى ذكر له الأخت و العمة و الخالة و يقول عليه السلام:«كذلك الناس لا يحبونه»،ثم وضع يده على صدره و قال:«اللهم طهر قلبه، و اغفر ذنبه،و حصّن فرجه»،فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنا.و قال بعضهم للفضيل:إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان،فقال:ما أخذ منهم إلا دون حقه.

ثم خلا به و عاتبه بالرفق.فقال:«يا أبا علي،إن لم نكن من الصالحين فإنا نحب الصالحين».

العمدة الثانية:أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها،و ترك ما ينهى عنه أولا، قال الحسن البصري:«إذا كنت تأمر بالمعروف فكن من آخذي الناس به و إلا هلكت» فهذا هو الأولى حتى ينفع كلامه و إلا استهزئ به.و ليس هذا شرطا،بل يجوز الاحتساب للعاصي أيضا؛قال أنس:قلنا يا رسول اللّه،ألا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله؟و لا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله؟قال عليه السلام:«بلى مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كله،و انهوا عن المنكر و إن لم تجتنبوه كله».و قال الحسن البصري:

يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة،و هو أن لا تأمروا بالمعروف حتى تأتوا به كله،يعني أن هذا يؤدي إلى حسم باب الحسبة.فمن ذا الذي يعصم عن المعاصي؟

الأصل العاشر في اتّباع السنة:

اشارة

اعلم أن مفتاح السعادة اتباع السنة و الاقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في جميع مصادره و موارده،و حركاته و سكناته،حتى في هيئة أكله و قيامه و نومه و كلامه.لست أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط؛لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها،بل ذلك في جميع أمور العادات.فبذلك يحصل الاتباع المطلق؛قال اللّه سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (2) [آل عمران:31].و قال تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما (3)

ص: 55


1- سوره 20 - آیه 44
2- سوره 3 - آیه 31
3- سوره 59 - آیه 7

نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) [الحشر:7].فعليك أن تلبس السراويل قاعدا،و تتعمم قائما، و تبتدئ باليمين في تنعلك،و تأكل بيمينك،و تقلّم أظفارك و تبتدئ بمسبّحة (2)اليد اليمنى و تختم بإبهامها،و في الرجل تبتدئ بخنصر اليمنى و تختم بخنصر اليسرى، و كذلك في جميع حركاتك و سكناتك؛فقد كان محمد بن أسلم لا يأكل البطيخ،لأنه لم ينقل إليه كيفية أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم له،و سها بعضهم فابتدأ في لبس الخف باليسرى، فكفّر عن ذلك بكرّ (3)حنطة.فلا ينبغي أن تتساهل في أمثال ذلك فتقول:هذا مما يتعلق بالعادات،فلا معنى للاتباع فيه؛لأن ذلك يغلق عليك بابا عظيما من أبواب السعادة.

[فصل السبب المرغّب في الاتباع في هذه الأفعال]

لعلك تشتهي الآن الوقوف على السبب المرغّب في الاتباع في هذه الأفعال، و تستبعد أن يكون تحت ذلك أمر مهم يقتضي هذا التشديد العظيم في المخالفة.فاعلم أن ذكر السر في آحاد تلك السّنن طويل لا يحتمل هذا الكتاب شرحه.لكن ينبغي أن تفهم أن ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع من الأسرار:

السرّ الأول:أنّا قد نبّهناك في مواضع على العلاقة التي بين الملك و الملكوت، و بين الجوارح و القلب،و كيفية تأثر القلب بعمل الجوارح،فإن القلب كالمرآة،و لا تتجلى فيه حقائق الأشياء إلا بتصقيله و تنويره و تعديله.أما تصقيله،فبإزالة خبث الشهوات و كدورة الأخلاق الذميمة.و أما تنويره فبأنوار الذكر و المعرفة،و يعين على ذلك العبادة الخالصة إذا أدّيت على كمال الخدمة بمقتضى السّنّة.و أما تعديله،فبأن يجري في جميع حركات الجوارح على قانون العدل،إذ اليد لا تصل إلى القلب حتى تقصد بتعديله و تحدث فيه هيئة معتدلة صحيحة لا اعوجاج فيها،و إنما التصرف في القلب بواسطة تعديل الجوارح و تعديل حركاتها،و لهذا كانت الدنيا مزرعة الآخرة.

و لهذا تعظم حسرة من مات قبل التعديل،لانسداد طريق التعديل بالموت،إذ تنقطع علاقة القلب عن الجوارح؛فمهما كانت حركات الجوارح،بل حركات الخواطر أيضا موزونة بميزان العدل،حدث في القلب هيئة عادلة مستوية،تستعد لقبول الحقائق على

ص: 56


1- سوره 59 - آیه 7
2- المسبحة:السبّابة.
3- الكرّ:نوع من المكاييل يساوي نحو أربعين اردبّا.

نعت الصحة و الاستقامة،كما تستعد المرآة المعتدلة لمحاكاة الصور الصحيحة من غير اعوجاج.و معنى العدل:وضع الأشياء مواضعها،و مثاله أن الجهات مثلا أربعة،و قد خص منها جهة القبلة بالتشريف؛فالعدل أن تستقبل في أحوال الذكر و العبادة و الوضوء، و أن تنحرف عنها عند قضاء الحاجة،و كشف العورة،إظهارا لفضل من ظهر فضله.

و لليمين زيادة على اليسار-غالبا لفضل القوة-فالعدل أن تفضلها على اليسار، و تستعملها في بعض الأعمال الشريفة،كأخذ المصاحف و الطعام،و تترك اليسار للاستنجاء و تناول القاذورات؛و تقليم الظفر مثلا،تطهيرا لليد،فهو إكرام.فينبغي أن تبتدئ بالأكرم و الأفضل؛و ربما لا يستقل عقلك بالتفطّن للترتيب في ذلك و كيفية البداية،فاتبع فيه السنّة و ابتدئ بالمسبّحة من اليمنى؛لأن اليد أفضل من الرّجل، و اليمنى أفضل من اليسرى.و المسبّحة-التي بها الإشارة في كلمة التوحيد-أفضل من سائر الأصابع.ثم بعد ذلك تدور من يمين المسبّحة.و للكفّ ظهر و وجه،فوجهه ما تقابله،فإذا جعلت الكفّ وجه اليد،كان يمين المسبّحة من جانب الوسطى،فقدّر اليدين متقابلتين بوجهيهما،و قدّر الأصابع كأنها أشخاص،فتدور بالمقراض من المسبّحة إلى أن تختم بإبهام اليمنى.كذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

و الحكمة في ذلك ما ذكرناه،فإذا أنت تعوّدت رعاية العدل في دقائق الحركات، صارت العدالة و الصحة هيئة راسخة في قلبك،و استوت صورها،و بذلك تستعد لقبول صورة السعادة؛و لذلك قال اللّه تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (1) [الحجر:

29،ص:72].فروح اللّه عزّ و جلّ مفتاح أبواب السعادة،و لم يكن نفخها إلا بعد التسوية.و معنى التسوية يرجع إلى التعديل؛و في ذلك سر طويل يطول شرحه،و إنما نريد الرمز إلى أصله؛فإن كنت لا تقوى على فهم حقيقته،فالتجربة تنفعك.فانظر إلى من تعوّد الصدق كيف تصدق رؤياه غالبا؛لأن الصدق حصل في قلبه هيئة صادقة، يتلقى لوائح الغيب في النوم على الصحة.و انظر كيف تكذب رؤيا الكذاب،بل رؤيا الشاعر،لتعوّده التخيلات الكاذبة،فاعوجّ لذلك صورة قلبه.فإن كنت تريد أن تلمح جنات القدس،فاترك ظاهر الإثم و باطنه،و اترك الفواحش ما ظهر منها و ما بطن،و اترك الكذب حتى في حديث النفس أيضا.

السرّ الثاني:أن تعلم أن الأشياء المؤثّرة في بدنك بعضها إنما يعقل تأثيرها بنوع من

ص: 57


1- سوره 15 - آیه 29

المناسبة إلى الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة،كقولك:إن العسل يضرّ المحرورين و ينفع البارد مزاجه.و منها ما لا يدرك بالقياس،و يعبّر عنه بالخواص،و تلك الخواص لم يوقف عليها بالقياس،بل مبدأ الوقوف عليها وحي أو إلهام؛فالمغناطيس يجذب الحديد،و السقمونيا (1)تجذب خلط الصفراء من أعماق العروق،لا على القياس،بل بخاصية وقف عليها إما بالإلهام أو بالتجربة.و أكثر الخواص عرفت بالإلهام،و أكثر التأثيرات في الأدوية و غيرها من قبل الخواص.فلذلك،فاعلم أن تأثيرات الأعمال في القلب،تنقسم إلى ما هو يفهم وجه مناسبته،كعلمك بأن اتباع الشهوة الدنيوية يؤكد علاقته مع هذا العالم،فيخرج من العالم منكوس الرأس موليا وجهه إلى هذا العالم إذ فيه محبوبه؛و كعلمك أن المداومة على ذكر اللّه تعالى تؤكد الأنس باللّه تعالى،و توجب الحب حتى تعظم اللذة به عند فراق الدنيا،و القدوم على اللّه سبحانه.إذ اللذة على قدر الحب،و الحب على قدر المعرفة و الذّكر.

و من الأعمال ما يؤثر في الاستعداد لسعادة الآخرة أو لشقاوتها بخاصية ليست على القياس،لا يوقف عليها إلا بنور النبوة؛فإذا رأيت النبيّ صلى اللّه عليه و سلم قد عدل عن أحد المباحين إلى الآخر،و آثره عليه مع قدرته عليهما،فاعلم أنه اطلع بنور النبوة على خاصية فيه، و كوشف به من عالم الملكوت،كما قال صلى اللّه عليه و سلم:«يا أيها الناس إن اللّه أمرني أن أعلمكم مما علمني،و أؤدبكم مما أدبني،فلا يكثرنّ أحدكم الكلام عند المجامعة،فإنه يكون منه خرس الولد،و لا ينظرن أحدكم إلى فرج امرأته إذا هو جامعها،فإنه يكون منه العمى،و لا يقبّلنّ أحدكم امرأته إذا هو جامعها فإنه يكون منه صمم الولد،و لا يديمنّ أحدكم النظر في الماء فإنه يكون منه ذهاب العقل».و هذا مثال مما ذكرناه و أردنا تنبيهك على اطلاعه على خواص الأشياء،بالإضافة إلى أمور الدنيا لتقيس به اطلاعه صلى اللّه عليه و سلم على ما يؤثر بالخاصية في السعادة و الشقاوة فلا ترضى،فترضى لنفسك أن تصدق محمد بن زكريا الرازي المتطبب فيما يذكره من خواص الأشياء في الحجامة و الأحجار و الأدوية، و لا تصدق سيد البشر محمد بن عبد اللّه الهاشمي المكّي المدنيّ-صلوات اللّه عليه و سلامه-فيما يخبر به عنها؛و أنت تعلم أنه صلى اللّه عليه و سلم مكاشف من العالم الأعلى بجميعد.

ص: 58


1- السقمونيا:يبدو أنه تعبير طبي كان شائعا تلك الأيام،و قد استعمله ابن رشد.

الأسرار.و هذا ينبهك على الاتباع فيما لا يفهم وجه الحكمة فيه على ما ذكرناه في السرّ الأول.

السر الثالث:أن سعادة الإنسان أن يتشبه بالملائكة في النزوع عن الشهوات و كسر النفس الأمّارة بالسوء،و يبعد عن مشابهة البهيمة المهملة سدى،التي تسترسل في اتباع الهوى بحسب ما يقتضيه طبعها من غير حاجز.و مهما تعوّد الإنسان في جميع الأمور أن يفعل ما يشاء من غير حاجز،ألف اتباع مراده و هواه،و غلب على قلبه صفة البهيمة، فمصلحته أن يكون في جميع حركاته ملجما يصدّه عن طريق إلى طريق؛كيلا تنسى نفسه العبودية،و لزوم الصراط المستقيم،فيكون أثر العبودية ظاهرا عليه في كل حركة.

إذ لا يفعل شيئا بحسب طبعه بل بحسب الأمر،فلا ينفك في جميع أحواله عن مصادمات الزمان بإيثار بعض الأمور على بعض.و من ألقى زمامه إلى يد كلب مثلا حتى لم يكن تصرفه و تردده بحكم طبعه بل بحكم غيره،فنفسه أقوم إلى قبول الرياضة الحقيقية،و أقرب و أقوى ممن جعل زمامه في يد هواه،يسترسل بها استرسال البهيمة.

و تحت هذا سرّ عظيم في تزكية النفس،و هذه فائدة تحصل بوضع الشارع صلى اللّه عليه و سلم كيفما وضعه.و الفائدة الحكمية و الخاصية لا تتغير بالوضع،و هذا يتغير بالوضع،فإن المقصود أن لا يكون مخلّى مع اختياره،و ذلك المقصود يحصل بالمنع عن أحد الجانبين أيّ جانب كان،و في مثل هذا يتصور أن تختلف الشرائع لأنه ثمرة الوضع.

فيكفيك هذه التنبيهات الثلاث على فضل ملازمة الاتباع في جميع الحركات و السكنات.

[فصل التحريض كله الذي ذكر إنما هو في العادات]

هذا التحريض كله الذي ذكرته إنما هو في العادات.و أما في العبادات،فلا أعرف لترك السنة من غير عذر وجها إلا كفر خفيّ أو حمق جليّ،بيانه أن النبي صلى اللّه عليه و سلم إذ قال:«تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ (1)بسبع و عشرين درجة».فكيف تسمح نفس المؤمنين بتركها من غير عذر؟نعم،يكون السبب في ذلك إما حمق أو غفلة بأن لا يتفكر في هذا التفاوت العظيم.و من يستحمق غيره-إذا آثر واحدا على اثنين-كيف لا

ص: 59


1- الفذ:الفرد.

يستحمق نفسه إذا آثر واحدا على سبع و عشرين!لا سيما فيما هو عماد الدين و مفتاح السعادة الأبدية.

و أما الكفر،فهو أن يخطر بباله أن هذا ليس كذلك،و إنما ذكره للترغيب في الجماعة،و إلا فأيّ مناسبة بين الجماعة و بين هذا العدد المخصوص من بين سائر الأعداد؟و هذا كفر خفيّ قد ينطوي عليه الصدر،و صاحبه لا يشعر به،فما أعظم حماقة من يصدق المنجم و الطبيب في أمور أبعد من ذلك،و لا يصدق النبي المكاشف بأسرار الملكوت!فإن المنجّم لو قال لك:إذا انقضى سبعة و عشرون يوما من أول تحويل طالعك،أصابتك نكبة فاحترز في ذلك اليوم،و اجلس في بيتك!فلا تزال في تلك المدة تستشعر و تترك جميع أشغالك؛و لو سألت المنجم عن سببه لقال لك:إنما قلت ذلك لأن بين درجة الطالع و موضع زحل سبعا و عشرين درجة،فتتأخر النكبة في كل درجة يوما أو شهرا،فإذا قيل لك هذا هوس،إذ لا مناسبة له فلا تصدقن به،فلا يخلو قلبك عن الاستشعار.

و تقول في أفعال اللّه تعالى عجائب لا تعرف مناسبتها،و لعلها خواصّ لا تدرك؛ و قد عرف بالتجربة أن ذلك مما يؤثر،و إن لم تعرف مناسبته.ثم إذا آل الأمر إلى خبر النبوة عن الغيب،أنكرت مثل هذه الخواص و طلبت المناسبة الصريحة؛فهل لهذا سبب إلا شرك خفيّ،لا بل كفر جليّ؟إذ لا محمل له سواه.و سبب هذا التكاسل كله، أنك لا يهمك أمر آخرتك،فإن أمر دنياك لما كان يهمك،فتحتاط فيه بقول المنجم و الطبيب،و بالاختلاج (1)و الفأل و الأمور البعيدة عن المناسبة غاية البعد،و تنقاد إلى الاحتمالات البعيدة؛لأن الشفيق بسوء الظن مولع،و لو تفكرت لعلمت أن هذا الاحتياط بالخطر الأبدي أليق.فإن قلت:ففي أي جنس من الأعمال ينبغي أن تتّبع السنّة؟فأقول:

في كل ما وردت به السنّة؛و الأخبار في ذلك كثيرة،و ذلك لقوله صلى اللّه عليه و سلم:«من احتجم يوم السبت و الأربعاء فأصابه برص فلا يلومنّ إلا نفسه».و قد احتجم بعض المحدثين يوم السبت،و قال:هذا الحديث ضعيف،فبرص و عظم ذلك عليه،حتى رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المنام فشكا إليه ذلك،فقال لم احتجمت يوم السبت؟فقال:لأن الراوي كانب.

ص: 60


1- الاختلاج:التحرك و الاضطراب.

ضعيفا.قال:أ ليس كان قد نقل عنّي؟فقال:تبت يا رسول اللّه.فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالشفاء فأصبح و قد زال ما به.

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من احتجم يوم الثلاثاء لسبعة عشر كان دواء السّنة».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في نعل واحد حتى يصلح شسعه».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«و إذا ولدت امرأة فليكن أول ما تأكل الرطب،فإن لم يكن فتمر،فإنه لو كان شيء أفضل منه لأطعمه اللّه عزّ و جلّ مريم حين ولدت عيسى عليه السلام».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إذا أتي أحدكم بالحلواء فليصب منه،و إذا أتي أحدكم بالطيب فليمسّ منه».و أمثال ذلك في العادات كثيرة،و لا يخلو شيء منها عن سرّ.

خاتمة في ترتيب الأوراد و تنعطف على الأمور العشرة:

اعلم أن هذه العبادات التي فصلناها،منها ما يمكن الجمع بينها،كالصوم و الصلاة و القراءة،و منها ما لا يمكن الجمع بينها،كالقراءة و الذكر و القيام بحقوق الناس و الصلاة (1)؛فينبغي أن يكون من أهم أمورك توزيع أوقاتك على أصناف الخيرات من صباحك إلى مسائك؛و من مسائك إلى صباحك.و تعلّم أن مقصود العبادات تأكيد الأنس بذكر اللّه عز و جل،للإنابة إلى دار الخلود،و التجافي عن دار الغرور.و لن يسعد في دار الخلود إلا من قدم على اللّه سبحانه محبّا له.و لا يكون محبّا له إلا من كان عارفا به،مكثرا لذكره.و لا يحصل المعرفة و الحب،إلا بالفكر و الذكر الدائم.و لن يدوم الذكر في القلب،إلا بالمذكّرات،و هي العبادات المستغرقة للأوقات على التعاقب.

و لاختلاف أصنافها زيادة تأثير في التذكير،و منع الملال،و سقوط أثره عن القلب بالدوام الذي ينتهي إلى حد الاعتياد.

نعم،إن كنت والها باللّه عز و جل،مستغرقا به،لم تفتقر إلى ترتيب الأوراد،بل

ص: 61


1- هكذا في النسخة وردت كلمة الصلاة فيما يمكن الجمع بينها و فيما لا يمكن.

وردك واحد،و هو ملازمة الذكر.و ما أراك تكون كذلك،فإن ذلك من أعز الأمور.فإن لم تكن والها مستهترا،فعليك أن ترتب أورادك،فأحد الأوراد هو من وقت انتباهك من النوم،إلى طلوع الشمس.و ينبغي أن تجمع في هذا الوقت الشريف بعد الفراغ من الصلاة بين الذكر و الدعاء و القراءة و التفكير،فإن لكل واحد أثرا آخر في تنوير القلوب، و تعرف كيفية ذلك و تفصيله من كتاب بداية الهداية و كتاب ترتيب الأوراد.و كذلك تفعل بين الطلوع و الزوال،و بين الزوال و الغروب و بين الغروب و العشاء،فإنها من أشرف الأوقات؛لأن النشاط إنما يتوفر بأن تميّز ورد كلّ وقت،لتكون في كل وقت عبادة أخرى تنتقل من بعضها إلى بعض.هذا إن كنت من العبّاد،فإن كنت معلّما أو متعلما أو واليا، فالاشتغال بذلك أولى في بياض النهار،و أفضل من العبادات البدنية،لأن أصل الدين العلم الذي به يحصل التعظيم لأمر اللّه سبحانه،و النفع الذي يصدر عن الشفقة على خلق اللّه تعالى.و كذلك إن كنت معيلا محترفا،فالقيام بحق العيال بكسب الحلال أفضل من العبادات البدنية.و لكن في جميع ذلك لا ينبغي أن تخلو و تنفكّ عن ذكر اللّه تعالى،بل تكون كالمستهتر بمعشوقه،المدفوع إلى شغل من الأشغال لضرورة وقته، فهو يعمل ببدنه،و هو غائب عن عمله،حاضر بقلبه مع معشوقه.حكي عن أبي الحسن الجرجاني أنه كان يعمل بالمسحاة (1)دائما و كان يقول:«أعطينا اليد و اللّسان و القلب:

فاليد للعمل،و اللسان للخلق،و القلب للحق».

و لنقتصر على هذا القدر في قسم الطاعات الظاهرة،ففيه الكفاية إن شاء اللّه.ة.

ص: 62


1- المسحاة:المجرفة.

القسم الثالث: في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة

اشارة

قال اللّه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (1) [الأعلى:14]،و قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها (2) [الشمس:9].و التزكية هي التطهير.و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم«الطهور شطر الإيمان».فافهم منه أن كمال الإيمان،بتزكية القلب عما لا يحبه اللّه عز و جل،و تحليته بما يحبه اللّه؛فالتزكية شطر الإيمان.و كيف يشتغل بالطهارة من لا يعرف النجاسة.

فلنذكر الأخلاق المذمومة،و هي كثيرة،و لكن نحتاج أن نردّ شعبها إلى عشرة أصول:

الأصل الأول شره الطعام:

اشارة

و هو من الأمهات؛لأن المعدة ينبوع الشهوات،إذ منها تتشعب شهوة الفرج.ثم إذا غلبت شهوة المأكول و المنكوح،يتشعب منها شره المال،إذ لا يتوصل إلى قضاء الشهوتين إلا به.و يتشعب من شهوة المال شهوة الجاه،إذ يعسر كسب المال دونه.ثم عند حصول المال و الجاه و طلبهما،تزدحم الآفات كلها،كالكبر و الرياء و الحسد و الحقد و العداوة و غيرها.و منبع جميع ذلك البطن؛فلهذا عظّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمر الجوع،فقال عليه السلام:«ما من عمل أحبّ إلى اللّه تعالى من الجوع و العطش»، و قال:«لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه»،و قال عليه السلام:«سيد الأعمال الجوع»،و قال عليه السلام:«الفكر نصف العبادة،و قلة الطعام هي العبادة»،و قال عليه السلام:«أفضلكم عند اللّه تعالى أطولكم جوعا و تفكرا،و أبغضكم إلى اللّه تعالى كلّ أكول شروب نئوم (3)»،و قال عليه السلام:«ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه،حسب

ص: 63


1- سوره 87 - آیه 14
2- سوره 91 - آیه 9
3- نئوم:كثير النوم.

ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،و إن كان لا محالة فثلاث لطعامه و ثلاث لشرابه و ثلاث لنفسه»،و قال عليه السلام:«إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاري الشيطان بالجوع و العطش»،و قال عليه السلام لعائشة-رضي اللّه عنها-:«أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم»،قالت:كيف نديم؟قال عليه السلام:«بالجوع و الظمأ».و قال عليه السلام:«كلوا و اشربوا في أنصاف البطون،فإنه جزء من النبوة».

[فصل السر في تعظيم الجوع و مناسبته لطريق الآخرة]

لعلك تشتهي أن تعلم السر في تعظيم الجوع و مناسبته لطريق الآخرة.فاعلم أن له فوائد كثيرة،و لكن يرجع أصولها إلى سبع:

إحداها:صفاء القلب و نفاذ البصيرة،فإن الشّبع يورث البلادة و يعمي القلب؛ قال صلى اللّه عليه و سلم:«من أجاع بطنه عظمت فكرته و فطن قلبه».و لا يخفى أن مفتاح السعادة المعرفة،و لا تنال إلا بصفاء القلب،فلذلك كان الجوع قرع باب الجنة.

الثانية:رقة القلب؛حتى يدرك به لذة المناجاة،و يتأثر بالذكر و العبادة؛و قال الجنيد:«يجعل أحدكم بينه و بين قلبه مخلاة من الطعام،و يريد أن يجد حلاوة المناجاة».و لا يخفى عليك أن أحوال القلب من الخشية و الخوف و الرقة و المناجاة و الانكسار بالهيبة،من مفاتيح أبواب الجنة،و إن كان باب المعرفة فوقه،و الجوع قرع لهذا الباب.

الثالثة:ذل النفس و زوال البطر و الطغيان منها؛فلا تكسر النفس بشيء كالجوع.

و الطغيان داع إلى الغفلة عن اللّه تعالى،و هو باب الجحيم و الشقاوة؛و الجوع إغلاق لهذا الباب.و في إغلاق باب الشقاوة فتح باب السعادة؛و لذلك لمّا عرضت الدنيا عليه صلى اللّه عليه و سلم قال:«لا بل أجوع يوما و أشبع يوما،فإذا جعت صبرت و تضرعت،و إذا شبعت شكرت».

الرابعة:أن البلاء (1)من أبواب الجنة،لأن فيه مشاهدة طعم العذاب،و به يعظم الخوف من عذاب الآخرة،و لا يقدر الإنسان على أن يعذّب نفسه بشيء كالجوع،فإنه لا

ص: 64


1- البلاء:الاختبار،و يكون بالخير و الشر.

يحتاج فيه إلى تكلف،و ترتبط بها فوائد أخرى،فيكون مشاهدا بلاء اللّه تعالى على الدوام.

الخامسة:و هي من كبار الفوائد-كسر شهوات المعاصي،و الاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء،و كسر سائر الشهوات التي هي منابع المعاصي؛قال عليّ-رضي اللّه عنه-«ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بالمعصية».و قالت عائشة-رضي اللّه عنها-«أول بدعة حدثت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الشبع،إن القوم إذا شبعت بطونهم، جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا».

السادسة:خفة البدن للتهجد و العبادة و زوال النوم المانع من العبادة؛فإن رأس مال السعادة العمر،و النوم ينقص العمر إذ يمنع من العبادة و أصله كثرة الأكل.قال أبو سليمان الدارانيّ:«من شبع دخل عليه ست آفات:فقد حلاوة العبادة،و تعذّر حفظ الحكمة،و حرمان الشفقة على الخلق؛لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباعا،و ثقل العبادة،و زيادة الشهوات،و أن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد و هو يدور حول المزابل».

السابعة:خفة المئونة،و إمكان القناعة بقليل من الدنيا،و إمكان إيثار الفقر، فإن من تخلص من شره بطنه لم يفتقر إلى مال كثير،فيسقط عنه هموم الدنيا؛فمهما أراد أن يستقرض لقضاء شهوة البطن،استقرض من نفسه،و ترك شهوته.كان إذا قيل لإبراهيم بن أدهم-رحمة اللّه عليه-في شيء إنه غال،قال:«أرخصوه بالترك».

[فصل كيفية ترك عادة الشبع و الإكثار]

لعلك تقول:قد صار الشبع و الإكثار في الأكل عادة،فكيف أتركها؟فاعلم أن ذلك يسهل على من أراده بالتدريج؛و هو أن ينقص كل يوم من طعامه لقمة،حتى ينقص رغيفا في مقدار شهر،فلا يظهر أثره،و يصير التقليل عادته.ثم إذا أذعنت بالتقليل، فلك النظر في الوقت و القدر و الجنس؛أما القدر،فله ثلاث درجات:أعلاها-و هي درجة الصديقين-:الاقتصار على قدر القوام،و هو الذي يخاف النقصان منه على العقل أو الحياة،و هو اختيار سهل التستريّ،و كان يرى أن الصلاة قاعدا لضعفه بالجوع، أفضل من الصلاة قائما مع قوة الأكل.الثانية:أن تقنع بنصف مدّ كل يوم و هو ثلث

ص: 65

البطن،و على ذلك كانت عادة عمر-رضي اللّه عنه-و جماعة من الصحابة،إذ كان قوتهم في الأسبوع صاعا من شعير.الثالثة:المدّ الواحد و ما جاوز ذلك،فهو مشاركة مع أهل العادة،و ميل عن طريق السالكين المسافرين إلى اللّه تعالى.

و قد يؤثّر في المقادير اختلاف الأحوال و الأشخاص،و عند ذلك فالأصل فيه أن يمدّ اليد إذا صدق جوعه،و يكفّ و هو بعد صادق الاشتهاء.و علامة صدق الجوع أن تشتهي أيّ خبز كان من غير أدم (1)،فإذا استثقل الأكل بغير أدم،فهو علامة الشبع.

و أما الوقت،ففيه أيضا ثلاث درجات:أعلاها أن يطوى ثلاثة أيام فما فوقها،فقد كان الصدّيق-رضي اللّه عنه-يطوى (2)ستة أيام،و إبراهيم بن أدهم و الثوري سبعا، و بعضهم انتهى إلى أربعين يوما.و قيل من طوى أربعين يوما ظهرت له لا محالة أشياء من عجائب الملكوت،و لا يمكن ذلك إلا بالتدريج.و أما الأوسط بأن يطوى يومين، و الأدنى بأن يأكل في اليوم مرة واحدة،فمن أكل مرتين لم تكن له حالة جوع أصلا، فيكون قد ترك فضيلة الجوع.

و أما الجنس،فأعلاه خبز البرّ (3)مع الإدام،و أدناه خبز الشعير بلا إدام.و المداومة على الإدام مكروه جدا؛قال عمر-رضي اللّه عنه-لولده:كلّ مرة خبزا و لحما،و مرة خبزا و سمنا،و مرة خبزا و لبنا،و مرة خبزا و ملحا،و مرة خبزا قفارا (4).فهذا تنبيه على الأحسن في أهل العادة.و أما السالكون الطريق،فقد بالغوا في ترك الإدام،بل في ترك الشهوات جملة،حتى كان بعضهم يشتهي الشهوة عشر سنين و عشرين سنة،و هو يخالف نفسه و يمنعها شهواتها.و قد قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«شرار أمتي الذين غذّوا بالنعيم و نبتت عليه أجسامهم،و إنما همتهم ألوان الطعام و أنواع اللباس و يتشدقون في الكلام».و قد شرحنا طريق السلف في ترك الشهوات في كتاب كسر الشهوتين.م.

ص: 66


1- أدم:ما يؤتدم به.
2- يطوى:يجوع.
3- خبز البر:خبز القمح.
4- قفار:غير مأدوم.

الأصل الثاني شره الكلام:

اشارة

و ذلك لا بد من قطعه،فإن الجوارح كلها تؤثر أعمالها في القلب،و لكن اللسان أخص به،لأنه يؤدي عن القلب ما فيه من الصور،فتقتضي كل كلمة صورة في القلب محاكية لها،فلذلك إذا كان كاذبا حصل في القلب صورة كاذبة،و اعوجّ به وجه القلب، و إذا كان في شيء من الفضول مستغنى عنه،اسودّ به وجه القلب و أظلم،حتى تنتهي كثرة الكلام إلى إماتة القلب؛و لذلك عظم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أمر اللسان فقال:«من يتوكل لي بما بين لحييه (1)و رجليه أتوكل له بالجنة».و سئل عن أكثر ما يدخل النار،فقال عليه السلام:

«الأجوفان:الفم و الفرج».و قال عليه السلام:«و هل يكبّ الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟».و قال:«من صمت نجا».و قال له معاذ:أي الأعمال أفضل؟فأخرج لسانه و وضع عليه يده،و قال:«إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».و قال عليه السلام:

«من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت».و قال عليه السلام:«من كثر كلامه كثر سقطه،و من كثر سقطه كثرت ذنوبه،و من كثرت ذنوبه فالنار أولى به».و لهذا كان الصدّيق-رضي اللّه عنه-يضع حجرا في فيه ليمنع نفسه من الكلام.

[فصل أن للسان عشرين آفة]

اعلم أن للسان عشرين آفة شرحناها في كتاب آفات اللسان.و يطول ذكرها، و يكفيك العمل بآية واحدة؛قال اللّه تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ (2) [النساء:114]الآية.و معناه أن لا تتكلم فيما لا يعنيك،و تقتصر على المهم،ففيه النجاة.قال أنس-رضي اللّه عنه:استشهد غلام منا يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع،فمسحت أمه التراب عن وجهه و قالت:هنيئا لك الجنة يا بنيّ،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«و ما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه،و يمنع ما لا يضره».و حدّ ما لا يعني هو الذي لو ترك لم يفت به ثواب،و لم تنتجز به ضرورة.و من اقتصر من الكلام على هذا قلّ كلامه،فليحاسب العبد نفسه عند ذكره ما لا يعنيه؛إنه لو ذكر اللّه تعالى بدلا عن تلك الكلمة،لكان ذلك كنزا من كنوز السعادة،فكيف يسمح

ص: 67


1- اللحيان:منبت اللحية،أو عظم الحنك.
2- سوره 4 - آیه 114

العقل بترك كنز مكنوز،و أخذ مدرة (1)؟هذا لو لم يكن فيه إثم،فإن كان إثم،فقد استبدل بترك كل كنز و أخذ شعلة من النار.و من جملة ما لا يعني حكاية الأسفار و أحوال أطعمة البلاد و عاداتهم،و أحوال الناس،و أحوال الصناعات و التجارات؛و هو من جملة ما ترى الناس يخوضون فيه.

[فصل تفصيل هذه الآفات]

اشارة

لعلك تريد أن تعرف تفصيل بعض هذه الآفات؛فاعلم أن الغالب على الألسنة من جملة العشرين آفة خمسة:الكذب،و الغيبة،و المماراة،و المدح،و المزاح.

[الآفة] الأولى الكذب:
اشارة

و قد قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا يزال العبد يكذب و يتحرّى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك منه الناس،ويل له ويل له».

و قيل:يا رسول اللّه،أ يزني المؤمن؟أ يسرق المؤمن؟قال عليه السلام:«قد يكون ذلك»،فقيل له أ يكذب؟فقال:«لا،إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه».

و قال عليه السلام:«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر:الإشراك باللّه،و عقوق الوالدين»،و كان متكئا فقعد،و قال عليه السلام:«ألا و قول الزّور»،و قال عليه السلام:«كل خصلة يطبع اللّه عليها المؤمن إلا الخيانة و الكذب».

فصل الكذب حرام في كل شيء،إلا لضرورة

اعلم أن الكذب حرام في كل شيء،إلا لضرورة،حتى قالت امرأة لولدها الصغير تعال حتى أعطيك،فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«و ما ذا كنت تعطينه لو جاء؟»قالت:تمرة.

قال:«أما لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة».فليحذر الإنسان الكذب حتى في التخيّل و حديث النفس،فإن ذلك يثبت في النفس صورة معوجّة حتى تكذب الرؤيا فلا تنكشف في النوم أسرار الملكوت،و التجربة تشهد بذلك.نعم إنما يرخص في الكذب إذا كان الصدق يفضي إلى محذور آخر أشد من الكذب،فيباح كما تباح الميتة إذا أدى تركها إلى محذور أشد من أكلها،و هو فوات الرّوح.قالت أم كلثوم-رضي اللّه عنها:«ما

ص: 68


1- مدرة:طين.

رخّص رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في شيء من الكذب إلا في ثلاث:الرجل يقول القول يريد الإصلاح، و الرجل يقول القول في الحرب،و الرجل يحدث امرأته».و هذا لأن أسرار الحرب لو وقف عليها العدوّ اجترأ،و أسرار الزوج لو وقفت عليها المرأة نشأ منها فساد أعظم من فساد الكذب،و كذلك المتخاصمان تدوم بينهما المعصية و العداوة،فإذا أمكن الإصلاح بكذب،فذلك أولى.فهذا ما ورد فيه الخبر.و ما في معناه:كذب الإنسان ليستر مال غيره عن ظالم،أو إنكاره لسر غيره،بل إنكاره لمعصية نفسه عن غيره،فإن المجاهرة بالفسق و إظهاره حرام،و إنكاره جناية نفسه على غيره لتطيّب قلبه،و كذلك إنكاره مع زوجته أن تكون ضرّتها أحبّ إليه،و كل ذلك يرجع إلى دفع المضرّات.و لا يباح لجلب زيادة مال و جاه،و فيه يكون كذب أكثر الناس.ثم إذا اضطر إلى الكذب فليعدل إلى المعاريض (1)ما أمكن حتى لا يعتاد نفسه الكذب.

كان إبراهيم بن أدهم إذا طلب في الدار قال لخادمته:قولي له اطلبه في المسجد.

و كان الشعبي يخطّ دائرة،و يقول لخادمته:«ضعي الإصبع فيها،و قولي:ليس هاهنا».

و كان بعضهم يعتذر عن الأمير و يقول:منذ فارقتك ما رفعت جنبي من الأرض إلا ما شاء اللّه تعالى.و كان بعضهم ينكر ما قال فيقول:إن اللّه ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، فيوهم النفي بحرف«ما»و هو يريد غير ذلك (2).و تباح المعاريض لغرض خفيف، لقوله صلى اللّه عليه و سلم:«لا تدخل الجنة عجوز،و نحملك على ولد البعير،و في عيني زوجك بياض»لأن هذه الكلمات أوهمت خلاف ما أراد،فيباح مثل ذلك مع النساء و الصبيان لتطييب قلوبهم بالمزاح.و كذلك من يمتنع عن أكل الطعام فلا ينبغي أن يكذب و يقول:لا أشتهي إذا كان يشتهي،بل يعدل إلى المعاريض؛قال النبي عليه السلام لامرأة قالت ذلك:«لا تجمعي كذبا و جوعا».

الآفة الثانية الغيبة:
اشارة

قال اللّه تعالى: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (3) [الحجرات:12].و قال عليه السلام:«الغيبة أشد من الزنا»،و أوحى اللّه تعالى إلى موسى-عليه السلام-:«من مات تائبا من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة،و من مات

ص: 69


1- المعاريض:جمع معراض،و هو التورية بالكلام يقول شيئا و يعني شيئا آخر.
2- يريد:إن اللّه ليعلم الذي قلت من ذلك.فتكون«ما»ضمير بمعنى«الذي».
3- سوره 49 - آیه 12

مصرّا عليها فهو أول من يدخل النار».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم،فقيل لي:هؤلاء الذين كانوا يغتابون الناس».

و اعلم أن حدّ الغيبة-كما بيّنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم-أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، و إن كنت صادقا،سواء ذكرت نقصانا في نفسه،أو عقله،أو ثوبه،أو فعله،أو قوله،أو داره،أو نسبه،أو دابته،أو شيئا مما يتعلق به،حتى قولك إنه واسع الكم،أو طويل الذّيل؛حتى ذكر عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجل فقيل:ما أعجزه،فقال عليه السلام:

«اغتبتموه».و أشارت عائشة-رضي اللّه عنها-بيدها إلى امرأة أنها قصيرة،فقال عليه السلام:«اغتبتها».

فبهذا يعلم أن الغيبة لا تقتصر على اللسان،بل لا فرق بين أن يحصل التفهيم باليد أو بالرمز أو بالإشارة أو بالحركة أو بالمحاكاة أو التّعريض المفهم،كقولك:إن بعض أقربائنا و بعض أصدقائنا كذا كذا.

و اعلم أن أخبث أنواع الغيبة غيبة القرّاء،يقولون مثلا:الحمد للّه الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان لطلب الدنيا؛أو:نعوذ باللّه من قلة الحياء؛و هم يفهمون المقصود بذلك،يقولون:ما أحسن أحوال فلان لو لا أنه بلي بمثل ما ابتلي به أمثالنا، و هو قلة الصبر عن الدنيا،فنسأل اللّه تعالى أن يعافينا؛و غرضهم بذلك الغيبة،فيجمعون بين الغيبة و الرياء،و إظهار التشبه بأهل الصّلاح في الحذر من الغيبة.و هذه خبائث يغترّون بها و هم يظنون أنهم تركوا الغيبة.و كذلك قد يغتاب واحد فيغفل عنه الحاضرون فيقول:سبحان اللّه ما أعجب هذا،حتى ينتبه القوم إلى الإصغاء،فيستعمل ذكر اللّه في تحقيق خبثه،و يقول:قلبي مشغول بفلان تاب اللّه علينا و عليه،و ليس غرضه الدعاء بل التعريف؛و لو قصد الدعاء لأخفاه،و لو اغتمّ قلبه لأجله لكتم عيبه و معصيته.

و كذلك المستمع،قد يظهر تعجبا من كلام المغتاب حتى يزيد نشاطه في الغيبة؛ و المستمع أحد المغتابين،كذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم،فكيف إذا حرّك نشاطه بالتعجب! و كذلك قد يقول:دع غيبة فلان؛و هو بقلبه غير كاره لغيبته،إنما غرضه أن يعرف بالتورع؛و ذلك لا يخرجه عن إثم الغيبة ما لم يكرهها بقلبه و يورطه في إثم الرياء،بل يخرج من الإثم بأن يكرهه قلبه،و يكذب المغتاب و لا يصدّقه عليه،لأنه فاسق يستحق التكذيب.

ص: 70

و المسلم المذكور بالغيبة يستحق إحسان الظنّ به؛قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه حرم من المسلم دمه و عرضه و ماله و أن يظنّ به ظنّ السوء».فالغيبة بالقلب حرام،كما أنه باللسان حرام إلا أن يضطرّ إلى معرفته بحيث لا يمكنه التجاهل.

[فصل يرخص في الغيبة في ستة مواضع]

إنما يرخص في الغيبة في ستة مواضع:

الأول منها:المتظلم يذكر ظلم الظالم عند سلطان ليدفع ظلمه؛فأما عند غير سلطان و عند غير من لا يقدر على الدفع فلا.اغتيب الحجاج عند بعض السلف،فقال:

إن اللّه لينتقم للحجاج ممن اغتابه،كما ينتقم من الحجاج لمن ظلمه.

الثاني:الذي يستعان به على تغيير المنكر يجوز أن يذكر له أيضا.

الثالث:المستفتى إذا افتقر إلى ذكر السؤال كما قالت هند:إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني.و هذا كله شكاية،و لكن إنما يحل إذا كانت فيها فائدة.

الرابع:تحذير المسلم من شر الغير إذا علم أنه لو لم يذكره لقبلت شهادته.كما يذكر المزكّي إذ يعامل و يناكح فيتضرر به فيذكر لمن يتوقع ضرره به فقط.

الخامس:أن يكون معروفا باسم فيه عيب كالأعمش و الأعرج،فالعدول إلى اسم آخر أولى.

السادس:أن يكون مجاهرا بذلك العيب لا يكرهه أن يذكر،كالمخنث و صاحب الماخور (1).قال الحسن:ثلاثة لا غيبة لهم:صاحب الهواء،و الفاسق المعلن بالفسق،و الإمام الجائر.و هؤلاء يجمعهم أنهم مجاهرون لا يكرهون الذكر.

و الصحيح أن ذكر الفاسق بمعصية يخفيها و يكره ذكرها لا يجوز من غير عذر.

فصل

علاج النفس في كفّها عن الغيبة

أن يتفكر في الوعيد الوارد فيها في قوله صلى اللّه عليه و سلم:«إن

ص: 71


1- الماخور:بيت الريبة و الدعارة.

الغيبة أسرع في حسنات العبد من النار في اليبس».و ورد أن حسنات المغتاب تنقل إلى ديوان المظلوم بالغيبة،فينظر في قلة حسناته و كثرة غيبته،و أنه ينتهي إلى إفلاسه على القرب،ثم يتفكر في عيوب نفسه،فإن كان فيه عيب فيشتغل عن غيره،و إن كان قد ارتكب صغيرة فيعلم أن ضرره من صغيرة نفسه أكثر من ضرره من كبيرة غيره،و إن لم يكن فيه عيب،فيعلم أن جهله بعيوب نفسه أعظم عيب.و متى يخلو الإنسان من عيب؟ ثم إن خلا منه فليشكر اللّه تعالى بدلا من الغيبة،فإن ثلب الناس و أكل لحم الميتة،من أعظم العيوب،فليحذر منه.ثم مهما سبق لسانه إلى الغيبة،فينبغي أن يستغفر اللّه تعالى،و يذهب إلى المغتاب و يقول:ظلمتك فاعف عني!فيستحله؛فإن لم يصادفه فليكثر من الثناء عليه،و من الدعاء له،و من الحسنات،حتى إذا نقل بعضها إلى ديوان المظلوم،بقي له ما يكفيه؛فهي كفّارة الغيبة.

الآفة الثالثة المراء و المجادلة:

قال صلى اللّه عليه و سلم:«من ترك المراء و هو محقّ بني له بيت في أعلى الجنة،و من تركه و هو مبطل بني له بيت في ربض الجنة»و هذا لأن الترك على المحق أشد.و قال عليه السلام:«لا يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء و هو محق».و حدّ المراء هو الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه،إما في اللفظ،و إما في المعنى.و الباعث عليه تارة الترفع بإظهار الفضل،و سببه خبث الرعونة،و إما السّبعية (1)التي في الطبع المتشوفة إلى تنقيص الغير و قهره.فالمراء و المجادلة تقوية لهذين الخبيثين المهلكين، بل الواجب أن يصدّق ما سمعه من الحق،و يسكت عما سمعه من الخطأ،إلا إذا كان في ذكره فائدة دينية،و كان يسمع منه،فيذكره برفق لا بعنف.

الآفة الرابعة المزاح:

و الإفراط فيه يكثر الضحك،و يميت القلب،و يورث الضغينة،و يسقط المهابة و الوقار؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه فيهوي بها أبعد من الثريا».و قال عليه السلام:«لا تمار أخاك و لا تمازحه».و اعلم أن اليسير منه في بعض الأوقات لا بأس به،لا سيما مع النساء و الصبيان تطييبا لقلوبهم،نقل ذلك عن رسول

ص: 72


1- السبعية:نسبة الى السّبع،و هي الطبيعة الحيوانية.

اللّه صلى اللّه عليه و سلم لكنه قال:«إني لأمزح و لا أقول إلا حقّا»،و يعسر على غيره ضبط ذلك.و قد روي أنه سابق عائشة-رضي اللّه عنه-بالعدو.و قال عليه السلام لعجوز:«لا يدخل الجنة عجوز»،أي لا يبقى عجوز في الجنة (1).و قال لصبيّ:«يا أبا عمير ما فعل النّغير؟»،و النغير ولد العصفور كان يلعب به الصبي.و قال صلى اللّه عليه و سلم لصهيب و هو يأكل التمر:«أ تأكل التمر و أنت رمد؟»،و قال:إنما آكل بالشق الآخر،فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.فهذا و أمثاله من المفاكهة لا بأس بها،بشرط أن لا يتخذها عادة.

الآفة الخامسة المدح:

كما جرت به عادة الناس عند المحتشمين (2)من أبناء الدنيا،و كما جرت به عادة القصّاص و المذكرين،فإنهم يمدحون من يحضر مجالسهم من الأغنياء.و في المدح ست آفات:أربع على المادح،و اثنتان على الممدوح.و أما المادح،فالآفة الأولى فيه أنه قد يفرّط فيه فيذكره بما ليس فيه فيكون كذّابا.الثانية:أنه قد يظهر له من الحب ما لا يعتقده فيكون منافقا مرائيا.الثالثة:أنه يقول ما لا يتحققه،فيكون مجازفا،كقوله إنه عدل و إنه ورع و غير ذلك مما لا يتحقق فيه.مدح رجل بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رجلا، فقال عليه السلام:«ويحك قطعت عنق صاحبك!إن كان لا بدّ من كون أحدكم مادحا أخاه فليقل:أحسب فلانا و لا أزكّي على اللّه أحدا،حسيبه اللّه إن كان يرى أنه كذلك».

الرابعة:أن يفرح الممدوح به،و ربما كان ظالما فيعصي بإدخال السرور على قلبه؛ و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه ليغضب إذا مدح الفاسق».و قال الحسن:«من دعا لفاسق بالبقاء فقد أحب أن يعصى اللّه».فالظالم الفاسق ينبغي أن يذم لتفتر رغبته في الظلم و الفسق.

و أما الممدوح،فإحدى الآفتين أن يحدث فيه كبرا أو إعجابا و هما مهلكان؛ و لذلك قال عليه السلام:«قطعت عنق صاحبك».الثانية:أن يفرح به فيفتر عن العمل و يرضى عن نفسه؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف،كان خيرا له من أن يثني عليه في وجهه».

و أما إذا سلم المدح من هذه الآفات في المادح و الممدوح،فلا بأس به،و ربما

ص: 73


1- المقصود أن العجوز المؤمن المستحق للجنة،يسترجع شبابه عند دخولها.
2- أي الأكابر و السلاطين.

يندب إليه؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«لو لم أبعث لبعثت يا عمر».و قد أثنى على كثير من الصحابة إذ علم أن ذلك يزيد في نشاطهم و لا يورثهم عجبا.

فصل

حق على الممدوح أن يتأمل في خطر الخاتمة

،و دقائق الرياء،و آفات الأعمال، و يتذكر ما يعرفه من نفسه من القبائح الباطنة،لا سيما في أفكاره و حديث نفسه،ما لو عرفه المادح لكفّ عن المدح.و ينبغي أن يظهر كراهة المدح و يكرهه بالقلب؛و إليه الإشارة بقوله صلى اللّه عليه و سلم:«أحثوا التراب في وجوه المدّاحين».و قال بعضهم لمّا أثني عليه:

اللهم إن عبدك هذا تقرّب إليّ بمقتك،و أنا أشهدك على مقته.و قال عليّ-رضي اللّه عنه-لمّا أثني عليه:«اللهم اغفر لي ما لا يعلمون،و لا تؤاخذني بما يقولون،و اجعلني خيرا مما يظنون».

الأصل الثالث في الغضب:

اشارة

اعلم أن الغضب شعلة نار اقتبست من نار اللّه الموقدة التي تطّلع على الأفئدة.

و من غلب عليه فقد نزع إلى عرق الشيطان فإنه مخلوق من النار.و كسر شدّة الغضب من المهمات في الدين؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«ليس الشديد بالصّرعة،إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».و قال عليه السلام:«الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصّبر العسل».

و قال عليه السلام:«ما غضب أحد قط إلا أشفى على جهنم».و قال رجل:يا رسول اللّه، أي شيء أشد؟قال:«غضب اللّه».قال:فما ينقذني من غضب اللّه؟قال:«أن لا تغضب».و قال رجل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:مرني بعمل و أقلّل!فقال عليه الصلاة و السلام:

«لا تغضب»،فأعاد عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرارا و هو يقول:«لا تغضب».فكيف لا تعظم آفة الغضب،و هو يحمل في الظاهر على الضرب و الشتم و إطالة اللسان،و في الباطن، على الحقد و الحسد و إظهار السوء و الشماتة و العزم على إفشاء السرّ و هتك الستر، و الفرح بمصيبة المغضوب عليه و الغم بمسرته.و كل واحدة من هذه الخبائث مهلك.

فصل

عليك في صفة الغضب وظيفتان:

ص: 74

إحداهما:كسره بالرياضة؛و لست أعني بكسره إماطته (1)،فإنه لا يزول أصله و لا ينبغي أن يزول،بل إن زال وجب تحصيله،لأنه آلة القتال مع الكفار،و المنع من المنكرات و كثير من الخيرات (2).و هو ككلب الصائد،إنما رياضته في تأديبه حتى ينقاد للعقل و الشرع فيهيج بإشارة العقل و الشرع،و يسكن بإشارتهما و لا يخالفهما،كما ينقاد الكلب للصياد.و هذا ممكن بالمجاهدة،و هو اعتياد الحلم و الاحتمال مع التعرض للمغضبات.

الثانية:ضبط الغضب عند الهيجان بالكظم.و يعين عليه علم و عمل؛أما العلم، فهو أن يعلم أنه لا سبب لغضبه إلا أنه أنكر أن يجري الشيء على مراد اللّه لا على مراده، و هذا غاية الجهل.و الآخر أن يعلم أن غضب اللّه عليه أعظم من غضبه عليه،و أن فضل اللّه أكبر.و كم عصاه و خالف أمره!فلم يغضب عليه إن خالفه غيره؟فليس أمره عليه ألزم على عبده و أهله و رفقته من أمر اللّه عليه.و أما العمل،فهو أن يقول:«أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»،إذ يعلم أن ذلك من الشيطان؛فإن لم يسكن،جلس إن كان قائما، و يضطجع إن كان قاعدا،و كذلك ورد الخبر باختلاف الحال أنه يؤثر في التسكين،و إن لم يسكن فيتوضأ؛قال عليه الصلاة و السلام:«إن الشيطان خلق من النار،و إنما تطفأ النار بالماء،فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»،و قال عليه السلام:«ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم،ألا ترون إلى حمرة عينيه،و انتفاخ أوداجه؟فمن وجد من ذلك شيئا فليضرب خدّه بالأرض».و هذه إشارة إلى تمكين أعز الأعضاء من أذلّ المواضع،لينكسر الكبر،فإنه السبب الأعظم في الغضب،ليعلم أنه عبد ذليل فلا يليق به الكبر.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«إن الرجل ليدرك بالحلم درجة القائم و الصائم،و إنه ليكتب جبارا و ما يملك إلا أهل بيته»و قال صلى اللّه عليه و سلم:من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه،ملأ اللّه تعالى قلبه يوم القيامة أمنا و إيمانا»،و قال عليه السلام:«ما من جرعة أحب إلى اللّه تعالى من جرعة غيظ يكظمها عبد،و ما كظمها عبد إلا ملأ اللّه جوفه إيمانا».ت.

ص: 75


1- إماطته:كشفه.
2- أي أن الغضب كما هو آلة لمنع كثير من المنكرات،فهو أيضا آلة لتحصيل كثير من الخيرات.

الأصل الرابع في الحسد:

اشارة

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»،و قال عليه السلام:«ثلاث لا ينجو منهن أحد:الظن،و الطيرة،و الحسد،و سأحدثكم بالمخرج من ذلك،إذا ظننت فلا تحقّق،و إذا تطيّرت فامض،و إذا حسدت فلا تبغ».و قال عليه السلام:«دبّ إليكم داء الأمم قبلكم:الحسد و البغضاء،و البغضة هي الحالقة (1)».

و قال زكريا عليه السلام:قال اللّه تعالى:«الحاسد عدو لنعمي،مسخط لقضائي،غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي».

و اعلم أن الحسد حرام،و هو أن تحب زوال النعمة من غيرك،أو تحب نزول مصيبة به،و لا تحرّم المنافسة،و هي أن تغبط و تشتهي لنفسك مثله،و لا تحب زوالها منه.و يجوز أن تحب زوال النعمة ممن يستعين بها على الظلم و المعصية،لأنك لا نريد زوال النعمة،و إنما تريد زوال الظلم؛و علامته أنه لو ترك الظلم و المعصية لم تحب زوال نعمته.و سبب الحسد إما الكبر،و إما العداوة،و إما خبث النفس،إذ يبخل بنعمة اللّه على عباده من غير غرض فيه له.

[فصل الحسد من الأمراض العظيمة للقلب]

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلب،و مرض القلب لا يداوى إلا بمعجون العلم و العمل:

فأما العلاج العلمي:فهو أن يعلم أن حسده يضره و لا يضر محسوده بل ينفعه؛أمّا أنه يضره،فهو أنه يبطل حسناته،و يعرضه لسخط اللّه تعالى،إذ يسخط قضاء اللّه و يشح بنعمته التي وسعها من خزائنه على عباده،و هذا ضرر في دينه.و أما ضرره في دنياه،فهو أنه لا يزال في غم دائم و كمد لازم:و ذلك مراد عدوه منه،فإن أهم أغراض عدوه و أكمل النعمة عليه،حزن حاسده،فقد كان يريد المحنة لعدوه فحصلت له.و الحسود لا يخلو قط من الغم و المحنة؛إذ لا يزال أعداؤه أو واحد منهم في نعمة.و أمّا أنّه ينفع عدوه و لا يضره؛لأن النعمة لا تزول بحسده،و أنه يضاعف حسناته؛إذ تنتقل حسنات الحاسد

ص: 76


1- الحالقة:المميتة،و من معانيها السنة الشديدة التي تحلق كل شيء.

إليه.لا سيما إذا طوّل اللسان فيه،فإنه مظلوم من الحاسد،فقد طلب الحاسد زوال نعمة الدنيا منه،فأضاف إليه نعمة الآخرة و حصل لنفسه مع عذاب الدنيا عذاب الآخرة، فهو كمن رمى عدوه بحجر فلم يصب عدوه،و عاد إلى عينه فأعماها،و زادت عليه شماتة عدوه إبليس،فإنه فاتته النعمة وفاته الرضاء بالقضاء،و لو رضي به لكان فيه ثواب،لا سيما إذا حسد على العلم و الورع،فإن محب العلم يعظم ثوابه.

و أما العلاج العملي:فهو أن يعرف حكم الحسد و ما يتقاضاه من قول و فعل، فيخالفه و يعمل بنقيضه،فيثني على المحسود،و يظهر الفرج بنعمته،و يتواضع له؛ و بذلك يعود المحسود صديقا له،و يزايله الحسد،و يتخلص من إثمه و ألمه،قال اللّه تعالى: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (1) [فصلت:34].

فصل

لعلّ نفسك لا تطاوعك على التسوية بين عدوك و صديقك

،بل تكره مساءة الصديق دون العدوّ،و تحب نعمة الصديق دون العدوّ.و لست مكلفا بما لا تطيق،فإن لم تقدر على ذلك فتتخلص من الإثم بأمرين:أحدهما،أن لا تظهر الحسد بلسانك و جوارحك و أعمالك الاختيارية،بل تخالف موجبها.و الثاني،أن تكره من نفسك حبّها زوال نعمة اللّه تعالى عن عبد من عباده.فإذا اقترنت الكراهة عن باعث الدين بحب زوال النعمة التي اقتضاه الطبع،اندفع عنك الإثم.و ليس عليك تغيير الطبع،فإن ذلك لا تقدر عليه في أكثر الأحوال.و علامة الكراهية أن تكون بحيث لو قدرت على إزالة نعمته لم تقدم على الإزالة مع حبك لها،و لو قدرت على معونته في دوام نعمته أو في زيادتها فعلت مع كراهيتك لذلك.فإذا كنت كذلك،فلا إثم عليك فيما يتقاضاه طبعك،فإن الطبع إنما يصير مقهورا في حق المستهتر باللّه،الذي انقطع نظره عن الدنيا و عن الخلق؛بل علم أنّ المنعم عليه إن كان في النار فما تنفع هذه النعمة،و إن كان في الجنة فأي نسبة لهذه النعمة إلى الجنة؛بل يرى كلّ الخلق عباد اللّه تعالى فيحبهم لأنهم عباد لمحبوبه.و يحب أن يظهر أثر نعمة محبوبه على عباده،و هذه حالة نادرة لا تدخل تحت التكليف.

ص: 77


1- سوره 41 - آیه 34

الأصل الخامس في البخل و حب المال:

اشارة

و اعلم أن البخل من المهلكات العظيمة؛قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1) [الحشر:9،التغابن:16].و قال اللّه تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ (2) [آل عمران:180]الآية.و قال اللّه تعالى:

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ (3) [النساء:37،الحديد:24]الآية.

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إياكم و البخل،فإنه أهلك من كان قبلكم».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخيّ،و البخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل».و قال عليه السلام«ثلاث مهلكات:شحّ مطاع،و هوى متّبع،و إعجاب المرء بنفسه».و قال عليه السلام:«شرّ ما في الرّجل شحّ هالع و جبن خالع (4)».و قال عليه السلام:«إن اللّه يمقت البخيل في حياته،و يحب السخي عند موته».و قال عليه السلام:«السخي الفاجر أحب إلى اللّه من العابد البخيل».و قال عليه السلام:«لا يجتمع اثنان في مؤمن:البخل و سوء الخلق».

[فصل أصل البخل حب المال]

اعلم أن أصل البخل حب المال،و هو مذموم.و من لا مال له لا يظهر بخله بالإمساك،و لكن يظهر بحب المال،و ربّ رجل سخي لكنه يحب المال،فيسخى به ليذكر بالسخاء؛و ذلك أيضا مذموم،لأن حب المال يلهي عن ذكر اللّه عز و جل، و يصرف وجه القلب إلى الدنيا،و يحكم علاقته فيها،حتى يثقل عليه الموت الذي فيه لقاء اللّه تعالى؛قال اللّه عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ (5) [المنافقون:9]و قال اللّه تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ (6) [التغابن:15]و قال تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (7) [التكاثر:1].و قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا تتخذوا الضيعة (8)فتحبوا الدنيا».و قيل للنبي عليه الصلاة و السلام:أيّ أمتك أشرّ؟فقال عليه السلام:«الأغنياء».و قال عليه السلام:«من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه،أخذ حتفه و هو لا يشعر».و قال رجل:يا رسول اللّه،إني لا أحب الموت،قال عليه السلام:«هل

ص: 78


1- سوره 59 - آیه 9
2- سوره 3 - آیه 180
3- سوره 4 - آیه 37
4- هلع من باب تعب أي جزع،و قوله خالع الخلع نزع الشيء و إخراجه.
5- سوره 63 - آیه 9
6- سوره 64 - آیه 15
7- سوره 102 - آیه 1
8- الضيعة:العقار.

لك مال؟»قال:نعم،قال عليه السلام:«قدّم مالك،فإن قلب الرجل مع ماله،فإن قدمه أحب أن يلحقه،و إن أخره أحب أن يتخلف».و قال عليه الصلاة و السلام:«إذا مات العبد قالت الملائكة:ما قدّم؟و قال الناس:ما خلّف؟»،و قال عليه الصلاة و السلام:«تعس (1)عبد الدرهم،تعس عبد الدينار،تعس و انتكس،و إذا شيك فلا انتقش» (2).

[فصل أن المال ليس مذموما من كل وجه]

اعلم أن المال ليس مذموما من كل وجه،و قد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«نعم المال الصالح للرجل الصالح»،و قال عليه الصلاة و السلام:«الدنيا مزرعة الآخرة».و كيف يكون مذموما مطلقا و العبد مسافر إلى اللّه تعالى،و الدنيا منزل من منازل سفره،و بدنه مركبه،و لا يمكنه السفر إلى اللّه إلا به،و لا يبقى البدن إلا بمطعم و ملبس،و لا وصول إليهما إلا بالمال؟لكن من فهم فائدة المال و علم أنه آلة علف الدابة لسلوك الطريق،لم يعرّج عليه،و لم يأخذ منه إلا قدر الزاد،فإن اقتصر على ذلك سعد به كما قال النبي عليه السلام لعائشة-رضي اللّه عنها-:«إذا أردت اللحاق بي فاقنعي من الدنيا بزاد الراكب، و لا تجددي و لا تخلعي قميصا حتى ترقعيه»،و قال عليه الصلاة و السلام:«اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا،و إن زاد على قدر الكفاية هلك».كما قال عليه الصلاة و السلام:

«من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه،أخذ حتفه و هلك و هو لا يشعر».و كذلك المسافر،إذا أخذ ما يزيد على زاد الطريق مات تحت ثقله،و لم يبلغ مقصد سفره.فالزيادة على قدر الكفاية مهلكة من ثلاثة أوجه:

أحدها:أن يدعو إلى المعاصي،فإنه يمكن منها و من العصمة أن لا تقدر،و فتنة السرّاء (3)أعظم من فتنة الضراء (4)،و الصبر مع القدرة أشد.

ص: 79


1- تعس بفتح العين أي سقط على وجهه.و في الدعاء تعسا له و تعس و انتكس؛فالتعس أن يخذل وجهه،و النكس أن لا يستقل بعد سقطته.
2- أي إذا وصل شوك في عضوه فلا انتقش على بناء المبني للمفعول،دعاء عليه بعدم إخراجه بالمنقاش،يعني إذا وقع في البلاء فلا يترحم عليه.و إنما خص انتقاش الشوك بالذكر لأن الانتقاش أسهل ما يتصور في المعاونة لمن أصابه مكروه،و إذا نفي ذلك الاهون فما فوقه بالطريق الأولى.
3- السراء:الرخاء.
4- الضراء:الشدة.

و الثاني:أن يدعو إلى التنعم بالمباحات،و هو أقل الدرجات،فينبت على التنعم جسده،و لا يمكنه الصبر عنه.و ذلك لا يمكن استدامته إلا بالاستعانة بالخلق و الالتجاء إلى الظلمة،و ذلك يدعو إلى النفاق و الكذب و الرياء و العداوة و البغضاء،و يتشعب منه جملة المهلكات؛و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم:«حب الدنيا رأس كل خطيئة».

و الثالث:أن يلهى عن ذكر اللّه عز و جل الذي هو أساس السعادة الأخروية،إذ يزدحم على القلب خصومة الملاحين،و محاسبة الشركاء و التفكر في تدبير الحذر منهم، و تدبير استنماء المال و كيفية تحصيله أولا،و حفظه ثانيا،و إخراجه ثالثا؛و كل ذلك مما يسوّد القلب،و يزيل صفاءه و يلهي عن الذكر،كما قال اللّه تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) إلى آخر السورة.

[فصل فى معرفة مقدار الكفاية]

لعلك تشتهي أن تعرف مقدار الكفاية و تقول:ما من غني إلا و يدّعي أن ما في يده دون مقدار الكفاية.فاعلم أن الضرورة إنما تدعو إلى المطعم و الملبس فقط،فإن تركت التجمل في الملبس،فيكفيك في السنة ديناران لشتائك و صيفك،فتتخذ بهما ثوبا خشنا يدفع عنك الحرّ و البرد؛و إن تركت التنعم في مطعمك و الشبع من الطعام في جميع أحوالك،فيكفيك في كل يوم مدّ،فيكون في السنة خمسمائة رطل،و يكفيك لإدامك- إن لم توسّع فيه و اقتصرت على اليسير منه في بعض الأوقات-ثلاثة دنانير على التقريب في السنة،عند رخاء الأسعار.فإذا يبلغ كفايتك خمسة دنانير و خمسمائة رطل،و هو القدر الذي نقدره إذا فرضنا نفقة العزب.فإن كنت معيلا فخذ لكل واحد منهم مثل ذلك؛فإذا كنت كسوبا و كسبت في اليوم ما يكفيك ليومك،فانصرف و اشتغل بعبادتك، فإن طلبت الزيادة صرت من أهل الدنيا.و إن لم تكن كسوبا و كنت مشغولا بالعلم و العبادة،و اقتنيت ضيعة يدخل منها هذا القدر دائما،فأرجو أن لا تصير بذلك من أهل الدنيا،لا سيما في هذه الأعصار (2)،و قد تغيرت القلوب،و استولى عليها الشحّ، و انصرفت الهمم عن تفقد ذوي الحاجات.فاقتناء هذا القدر أولى من السؤال؛و هذا بشرط أن يكون بودّك أن تتخلص من التعرض إلى الجوع و البرد،لتطرح الضيعة و تتركها،

ص: 80


1- سوره 102 - آیه 1
2- الأعصار:جمع عصر،و هو الدهر و الزمان.

و لا تكون كارها للموت،و لا محبا للضيعة.و لتكن الضيعة-و هي مدخل طعامك- كالخلاء الذي هو موضع فراغك،فإنما تريده للضرورة،و بودك لو تخلصت منه لتخرج عن النهي في قوله صلى اللّه عليه و سلم:«لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا»؛فإنك إذا قصدت الفراغة للاستعانة بها على الدين،كنت متزودا مسافرا لا معرجا على الضيعة.

و ربما لا يحتمل بعض الأشخاص القناعة بالقدر الذي ذكرته إلا بشدة و مشقة.و لا حرج في الدين في ازدياد الضعف على هذا القدر؛إذ لا يصير من أبناء الدنيا و لا يخرج من حزب أبناء الآخرة و المسافرين إلى اللّه تعالى ما دام يقصد بذلك دفع الألم الشاغل عن الذكر و العبادة دون التلذذ و التنعم في الدنيا.ثم ما فضل من الطعام صرفه إلى البائس و الأرامل،و لا يبقى بعد هذه الرخصة داعية إلى الزيادة إلا للتنعم أو للتصدق أو للاستظهار،لو أصاب المال آفة.أمّا التنعّم فإعراض عن اللّه تعالى،و اشتغال بالدنيا، و أما التصدق،فترك المال أفضل منه؛قال عيسى عليه السلام:«يا طالب الدنيا لتبرّ فتركك لها أبرّ و أبرّ».و أما الاستظهار،لخوف آفة،فذلك لا مرد له،و هو سوء الظن لا آخر له،بل ينبغي أن تدفع ذلك بحسن الظن بتدبير اللّه عز و جل،و هو أن تتصور أن تصيب المال آفة من حيث لا يتوقع فيتصور أن ينفتح للرزق أيضا باب لا يحتسب، وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (1) [الطلاق:2،3].و إن فرض على الندور خلافه،فلا ينبغي أن يعتقد العبد أن سلامته-طول عمره-عن البلاء محتوم،بل البلاء هو الذي يصقل القلب و يزكيه،و يخلصه من الخبائث كلها؛و لهذا كان موكلا بالأنبياء،ثم الأولياء،ثم الأمثل فالأمثل.فاتكل على فضل اللّه،و اعلم أنك لا يصيبك إلا ما فيه خيرك و خيرتك (2)،فإن اللّه مدبّر الملك و الملكوت أعلم بمصالحك.

[فصل فى ان الذي ذكرت تقريب يمكن الزيادة عليه و النقصان منه]

هذا الذي ذكرته تقريب يمكن الزيادة عليه و النقصان منه بالاجتهاد في بعض الأشخاص و في بعض الأحوال.و لكن اعتقد قطعا أن المال كالدواء النافع منه قدر مخصوص،و الإفراط فيه قاتل،و القرب من الإفراط ممرض إن لم يقتل.فعليك بالتقليل

ص: 81


1- سوره 65 - آیه 2
2- الخيرة(بكسر الخاء و تسكين الياء أو فتحها):الأفضل.

و الحذر من الإفراط و الرفاهية،فذلك خطر عظيم.و ليس في التقليل إلا مشقة قليلة في أيام قلائل؛و ذو الحزم لا يثقل عليه أن يجوع نفسه لوليمة الفردوس،لعلمه أن اللذة على قدر الجوع.

[فصل في معرفة حدّ البخل]

لعلك ترغب في معرفة حدّ البخل،إذ الشخص الواحد قد تشك في أنه بخيل أم لا،و يختلف الناس فيه.فاعلم أن حدّ البخل منع ما يوجبه الشرع أو المروءة.و لا تظن أن من سلّم إلى زوجته و قريبه ما فرضه القاضي،و ضايق وراء ذلك في لقمة،فليس ببخيل،و أن من رد الخبز و اللحم إلى الخباز و القصاب لنقصان قدر منه يسير ليس ببخيل،و إن كان له ذلك في الشرع،فإن معنى الشرع في هذه الأمور قطع خصومة البخلاء بتقدير مقدار يطيقه البخيل؛و لذلك قال اللّه تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا (1) [محمد:37].بل لا بدّ من مراعاة المروءة و دفع قبح الأحدوثة،و ذلك يختلف باختلاف الأشخاص و قدر المال.و من له مال و أمكنه أن يقطع هجو شاعر و ذمه عن نفسه بقدر يسير فلم يفعله،فهو بخيل،و إن لم يكن ذلك واجبا عليه،إذ قال صلى اللّه عليه و سلم:«ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة».و التحقيق فيه أن المال خلق لفائدة لأجلها يمسك،و في بذله أيضا فائدة.فمهما ظهر له أن فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك،ثم شق عليه البذل فهو بخيل محب للمال.و المال لا ينبغي أن يحبّ لذاته بل لفائدته،فيصرف إلى أقوى فائدة.و حفظ المروءة أفضل و أقوى من التنعم بالأكل الكثير مثلا.و قد يحمله البخل و حبّ المال على أن يجهل أقوى الفائدتين و أولاهما و ذلك غاية البخل.فإن علم و عسر عليه البذل فهو بخيل أيضا،و إن بذل تكلّفا؛بل إنما يبرأ من البخل بأن لا يثقل عليه بذل المال فيما ينبغي أن يبذل فيه عقلا و شرعا.و أما درجة السخاء،فلا تنال إلا ببذل ما يزيد على واجب الشرع و المروءة جميعا.

[فصل في معرفة علاج البخل]

لعلك تريد أن تفهم علاج البخل.فاعلم أن دواءه معجون مركّب من العلم و العمل.أما العلم فهو أن تعلم ما في البخل من الهلاك في دار الآخرة،و المذمة في الدنيا،و تعلم أن المال لا يتبعه-إن بقي-إلى قبره؛و إنما المال للّه تعالى،مكّنه منه

ص: 82


1- سوره 47 - آیه 37

لصرفه إلى أهمّ أموره.و تعلم أن إمساك المال،إن كان للتنعم في الشهوات،فحسن الأحدوثة و ثواب الآخرة أعظم و ألذّ منه.فقضاء الشهوة سجية البهائم،و هذه سجية العقلاء؛و إن كان يمسكه ليتركه لولده فكأنه يترك ولده بخير و يقدم على ربه بشرّ،و هذا عين الجهل،و كيف و ولده إن كان صالحا فاللّه تعالى يكفيه،و إن كان فاسقا فيستعين به (1)على المعصية،و يكون هو سبب تمكنه منها،فيتضرر هو و يتنعّم غيره!.و أما العمل،فهو أن يحمل نفسه على البذل تكلّفا،و لا يزال يفعل ذلك حتى يصير له عادة.

و من نوافذ حيله فيه أن يخدعه بحسن الاسم و توقع المكافأة حتى يرغب في البذل،ثم بعد ذلك يتدرج أيضا إلى قمع هذه الصفات.

الأصل السادس الرعونة و حب الجاه:

اشارة

قال اللّه عز و جل: تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً (2) [القصص:83]الآية.و قال عليه السلام:«حب المال و الجاه ينبتان النفاق في القلب،كما ينبت الماء البقل».و قال عليه الصلاة و السلام:«ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا فيها من حب المال و الجاه في دين الرجل المسلم».و قال عليه الصلاة و السلام في مدح الخمول:«رب أشعث أغبر ذي طمرين (3)لا يؤبه له لو أقسم على اللّه لأبرّه».و قال عليه الصلاة و السلام:«إن أهل الجنة كل أشعت أغبر ذي طمرين لا يؤبه له،الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم،و إذ خطبوا النساء لم ينكحوا، و إذا قالوا لم ينصت لهم؛حوائج أحدهم تتجلجل في صدره،لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم».

و قال سليمان بن حنظلة:بينما نحن حول أبيّ بن كعب نمشي خلفه،إذ رآه عمر فعلاه بالدّرّة،فقال:انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع،فقال:إن هذا مذلة للتابع و فتنة للمتبوع.و قال الحسن:إن خفق النعال خلف الرجل قلّ ما يثبت معه قلوب الحمقاء.

و قال أبو أيوب:و اللّه ما صدق اللّه عبد إلا سرّه أن لا يشعر بمكانه.

ص: 83


1- أي بالمال الذي يخلفه له أبواه.
2- سوره 28 - آیه 83
3- الطمر:الثوب البالي.

فقد عرفت بهذا مذمة الشهرة و الجاه إلا أن يشهر اللّه عبدا في الدين من غير طلب منه كما يشهّر الأنبياء و الخلفاء الراشدين و العلماء و الأولياء.

[فصل حقيقة الجاه هي ملك القلوب لتتسخر لذي الجاه على حسب مراده]

حقيقة الجاه هي ملك القلوب لتتسخر لذي الجاه على حسب مراده،و تطلق اللسان بالثناء عليه،و تسعى في حاجته.و كما أن معنى المال ملك الدراهم ليتوصل بها إلى الأغراض،كذلك معنى الجاه ملك القلوب،لكن الجاه أحب،لأن التوصل به إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه،و لأنه محفوظ من أن يسرق و يغصب أو تعرض له الآفة،و لأنه يسري و ينمو من غير تكلف؛فإن من ملك قلبه باعتقاد التعظيم،فلا يزال يثني و يقتنص قلوب سائر الناس لصاحبه.و فيه سرّ آخر،و هو أن الجاه معناه العلوّ و الكبرياء و العز،و هي من الصفات الإلهية،و الصفات الإلهية محبوبة للإنسان بالطبع؛بل هي ألذّ الأشياء عنده؛و ذلك لسرّ خفي في مناسبة الرّوح للأمور الإلهية،و عنه العبارة بقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (1) [الإسراء:85].فهو أمر رباني شغفه من حيث الطبع للاستبداد و الانفراد بالوجود.و هو حقيقة الإلهية؛إذ ليس مع اللّه موجود،بل الموجودات كلها كالظل من نور القدرة،فلها رتبة التبعية لا رتبة المعيّة.فليس في الوجود مع اللّه غيره.و كان الإنسان يشتهي ذلك،بل في كل نفس أن يقول أنا ربّكم الأعلى،لكن أظهره فرعون و أخفاه غيره.و لكن إن فاته الانفراد بالموجود،فيشتهي أن لا يفوته الاستعلاء و الاستيلاء على الموجودات كلها،ليتصرف فيها على حسب مراده و هو الإلهية.لكن تعذر على الإنسان ذلك في السموات و الكواكب و البحار و الجبال، فاشتهى الاستيلاء على جميعها بالعلم،لأن العلم نوع استيلاء أيضا،كما أن من عجز عن وضع الأشياء العجيبة،فيشتهي أن يعرف كيفية الوضع.و كذلك يشتهي أن يعرف عجائب البحر و ما تحت الجبال،و يتصور أن يتسخر له الأعيان التي على وجه الأرض من الحيوان و المعادن و النبات.فيحبّ أن يتملكها و يقوّلها و يتصور أن يتسخر له الإنسان،فيحب أن يتسخره بواسطة قلبه.و يملك قلبه بإلقاء التعظيم فيه.و يحصل التعظيم بأن يعتقد فيه كمال الخصال،فإن الإجلال يتبع اعتقاد الكمال،فلهذا يحب الإنسان أن يتسع جاهه و ينتشر صيته حتى إلى البلاد التي يعلم قطعا أنه لا يطؤها و لا يرى أهلها،لأن كل ذلك يناسب صفات الربوبية.و كلما صار أعقل،كانت هذه الصفة عليه أغلب،و شهواته البهيمية فيه أضعف.

ص: 84


1- سوره 17 - آیه 85

[فصل لم كان طلب الرفعة مذموما]

لعلك تقول:فإذا كان كذلك،فلم كان طلب الرفعة مذموما و هو من نتائج العقل و خواص الروح المناسبة للأمور الربانية؟.

فاعلم أن الرفعة الحقيقية طلبها محمود غير مذموم،إذ مطلوب الكل هو القرب من اللّه تعالى،و ذلك هو الرفعة و الكمال إذ هو عزّ لا ذل فيه،و غنى لا فقر معه،و بقاء لا فناء بعده،و لذة لا كدورة لها؛و طلب ذلك محمود؛و إنما المذموم طلب الكمال الوهمي دون الحقيقي،و الكمال الحقيقي يرجع إلى العلم و الحرية و القدرة؛و هو أن لا يكون مقيدا بغيره.و لا يتصور للعبد حقيقة القدرة،فإن قدرته إنما تكون بالمال و الجاه،و ذلك كمال وهميّ،فإنه أمر عارض لا بقاء له،و لا خير فيما لا بقاء له،بل قيل:

أشدّ الغمّ عندي في سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا

كيف،و هذه القدرة العارضة مع سرعة انقضائها بالموت و بآفاتها قبله،لا تصفو من الكدورات!فمن توهمها كمالا فقد زل،بل الكمال في الباقيات الصالحات التي تنال بها القرب من اللّه سبحانه،و لا تزول بالموت،بل تتضاعف تضاعفا غير محدود.و ذلك هو المعرفة الحقيقية بذات اللّه تعالى،و صفاته و أفعاله،و هو العلم بكل الموجودات؛إذ ليس في الوجود إلا اللّه تعالى و أفعاله.لكن قد ينظر فيها الناظر لا من حيث إنها أفعال اللّه تعالى،كالذي ينظر في التشريح لغرض الطب،أو ينظر في هيئة العالم لمعرفة الاستدلال بأحكام النجوم،فهذا لا قدر له.و من الكمال الحقيقي الحرية،و هو انقطاع علاقتك عن جميع علائق الدنيا،بل عن كل ما يفارقك بالموت، و الاقتصار في الالتفات إلى لازمك الذي لا بدّ لك منه،و هو اللّه تعالى.كما أوحى اللّه إلى داود:«يا داود!أنا بدّك (1)اللازم فالزم بدّك».فالعلم و الحرية من الباقيات الصالحات، و هما كمالان حقيقيّان؛و المال و البنون زينة الحياة الدنيا،و هما كمالان وهميان.

و المنكوسون هم الذين عكسوا الحقيقة،فأعرضوا عن طلب الكمال الحقيقي،و اشتغلوا بطلب الكمال الوهميّ،و هم الذين يحترقون عند الموت بنيران الحسرة إذ يشاهدون

ص: 85


1- بدّ بكسر الباء:المثيل و النظير،و بدّ بضمها:العوض أو النصيب.

أنهم خسروا الدنيا و الآخرة:و أما الآخرة،فلأنهم يطلبونها و لم يحصّلوا أسبابها من المعرفة و الحرية؛و أما الدنيا،فلأنها و دعتهم و انقلبت إلى أعدائهم و هم ورثتهم.و لا تظنن أن الإيمان و العلم يفارقانك بالموت،فالموت لا يهدم محل العلم أصلا،و ليس الموت عدما حتى تظن أنك إذا عدمت عدمت صفاتك؛بل معنى الموت قطع علاقة الروح من البدن إلى أن تعاد إليه؛و إذا تجرد عن البدن فهو على ما كان عليه قبل الموت من العلم و الجهل،و فهم هذا طويل،و تحته أسرار لا يحتمل هذا الكتاب كشفها.

[فصل فى ان طريق علاج حب الجاه هو قمع هذا الحب]

إذا عرفت حقيقة الجاه و ماهيته،و أنه كمال وهميّ،فقد عرفت أن طريق العلاج في قمع حبه من القلب.إذا علمت أن أهل الأرض لو سجدوا لك مثلا،لما بقي-إلا مدة قريبة-لا الساجد و لا المسجود له.كيف!و يشح الدهر عليك بأن يسلم لك الملك في محلّتك فضلا عن قريتك أو بلدتك.فكيف ترضى أن تترك ملك الأبد و الجاه الطويل العريض عند اللّه تعالى و عند ملائكته،بجاهك الحقير المنغص عند جماعة من الحمقى لا ينفعونك و لا يضرونك و لا يملكون لك موتا و لا حياة و لا نشورا و لا رزقا و لا أجلا؟ نعم ملك القلوب كملك الأعيان (1)،و أنت محتاج منه إلى قدر يسير لتحرس نفسك عن الظلم و العدوان،و عما يشوش عليك سلامتك و فراغك التي تستعين بها على دينك.فطلبك لهذا القدر مباح،بشرط القناعة بقدر الضرورة كما في المال،و بشرط أن لا تكتسبه بالمراءاة بالعبادات فذلك حرام كما سيأتي؛و أن لا تكتسبه بالتلبيس (2)بأن تظهر من نفسك ما أنت خال منه،فلا فرق بين من يملك القلوب بالتلبيس،و بين من يملك الأموال.فإذا حصّلت الجاه بطريقة و اقتصرت على قدر التحرز من الآفات فترجى لك السلامة،إلا أنك في خطر عظيم أكثر من خطر المال،لأن قليل الجاه يدعو إلى كثيره،فإنه ألذّ من المال،و لذلك لا يسلم الدين مجانا غالبا إلا لخامل مجهول لا يعرف،كما فهمت ذلك من الأخبار.

ص: 86


1- الأعيان:جمع عين و هي هنا بمعنى الإنسان.و الأعيان الناس،أو السادة منهم.
2- التلبيس:إخفاء الحقيقة و إظهارها بخلاف ما هي عليه.

[فصل من البواعث على طلب الجاه حب المدح]

من البواعث على طلب الجاه حب المدح،فإن الإنسان يتلذذ به من ثلاثة أوجه:

أحدها،انه يشعر صاحبه بكمال نفسه،و الشعور بالكمال لذيذ؛لأن الكمال من الصفات الإلهية.و الثاني،أنه يشعر بملك قلب المادح و قيام الجاه عنده و كونه مسخرا له.الثالث،أنه يشعر صاحبه بأن المادح يصغي إلى مدحه فينتشر بسببه جاهه.فكذلك إذا صدر المدح من بصير بصفات الكمال واسع الجاه و القدرة في نفسه،و كان على ملأ من الناس،تضاعفت لذة المدح.و تزول اللذّة الأولى بأن يصدر عن غير أهل البصيرة، فإنه لا يشعر بالكمال،و تزول الثانية بأن يصدر عن خسيس لا قدرة له،لأن ملك قلبه لا يعتدّ به.و تزول الثالثة بأن يمدح في الخلوة لا في الملأ،إلا من حيث يتوقع أنه أيضا ربما يمدح في الملأ.

و أما الذم،فإنه مكروه لنقيض هذه الأسباب.و أكثر الخلق أهلكهم حب المدح و كراهية الذم،و يحملهم ذلك على المراءاة و فنون المعصية.و علاج ذلك أن يتفكر في اللذة الأولى،فإن مدح بكثرة المال و الجاه فيعلم أنه كمال وهميّ،و هو سبب فوات كمال حقيقي،فهو جدير بأن يحزن لأجله،لا أن يفرح به.و إن مدح بكمال العلم و الورع، فينبغي أن يكون فرحه بوجود تلك الصفات و يشكر اللّه تعالى عليها لا يشكر غيره،هذا إن كان متصفا به،و أما إن كان غير متصف به،ففرحه به حماقة كفرح من يثني عليه غيره و يقول:ما أطيب العطر الذي في أحشائك أو أمعائك،و هو يعلم ما فيها من الأقذار و الأنتان.و هذا حال من يفرح من المدح بالورع و الزهد و العلم و هو يعلم من باطن نفسه أنه خال عنه.

و أما اللذة الثانية و الثالثة،و هو لذة الجاه عند المادح و غيره،فعلاجه ما ذكرناه في حب الجاه.

الأصل السابع حب الدنيا:

اشارة

و اعلم ان حب الدنيا رأس كل خطيئة.و ليس الدنيا عبارة عن المال و الجاه فقط، بل هما حظّان من حظوظ الدنيا،و شعبتان من شعبها؛و شعب الدنيا كثيرة.و دنياك عبارة عن حالتك قبل الموت،و آخرتك عبارة عن حالتك بعد الموت.و كل ما لك فيه حظ قبل

ص: 87

الموت فهو من دنياك؛إلا العلم و المعرفة و الحرية.و ما يبقى معك بعد الموت فإنها أيضا لذيذة عند أهل البصائر،و لكنها ليست من الدنيا و إن كانت في الدنيا.و لهذه الحظوظ الدنيوية تعاون و تعلق بما فيه الحظ،و تعلق بأعمالك المتعلقة بإصلاحها،فهي ترجع إلى أعيان موجودة،و إلى حظك فيها،و إلى شغلك في إصلاحها.

أما الأعيان،فهي الأرض و ما عليها؛قال اللّه تعالى: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها (1) [الكهف:7]الآية،و مطلوب الآدمي من الأرض.أما عينها فللمسكن و المحرث.و أما نباتها فللتداوي و الاقتيات.و أما معادنها فللنقود و الأواني و الآلات.و أما حيواناتها فللمركب و المأكل.و أما الآدميون منها فللمنكح و الاستحسان.و قد جمع اللّه سبحانه ذلك في قوله: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ (2) [آل عمران:14]الآية.و أما حظك منها،فقد عبر القرآن الكريم عنه بالهوى فقال اللّه تعالى: وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (3) [النازعات:40]و قال تعالى تفصيلا له: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ (4) [الحديد:20]الآية.و ذلك يندرج فيه جميع المهلكات الباطنة من الغلّ و الكبر و الحسد و الرياء و النفاق و التفاخر و التكاثر و حب الدنيا و حب الثناء،و هي الدنيا الباطنة.

و أما الأعيان،فهي الدنيا الظاهرة،و أما شغلك في إصلاحها،فهي جملة الحرف و الصناعات التي الخلق مشغولون بها،و قد نسوا فيها أنفسهم و مبدأهم و معادهم، لاستغراقهم بإشغالهم بها،و إنما شاغلهم العلاقتان:علاقة القلب بحب حظوظها، و علاقة البدن بشغل إصلاحها.

فهذه هي حقيقة الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة.و إنما خلقت للتزود منها إلى الآخرة؛و لكن كثرة أشغالها و فنون شهواتها أنست الحمقى سفرهم و مقصدهم،فقصروا عليها همتهم،فكانوا كالحاج في البداية،يشتغل بتعهد الناقة و علفها و تسمينها،فيتخلف عن الرفقة حتى يفوته الحج،و تهلكه سباع البادية.

[فصل فى ان هذه الدنيا المذمومة هي بعينها مزرعة الآخرة]

هذه الدنيا المذمومة المهلكة،هي بعينها مزرعة الآخرة في حق من عرفها،إذ

ص: 88


1- سوره 18 - آیه 7
2- سوره 3 - آیه 14
3- سوره 79 - آیه 40
4- سوره 57 - آیه 20

يعرف أنها منزل من منازل السائرين إلى اللّه عز و جل،و هي كرباط (1)بني على قارعة الطريق،أعد فيها العلف و الزاد و أسباب السفر.فمن تزود منها لآخرته و اقتصر منها على قدر الضرورة التي ذكرناها في المطعم و الملبس و المنكح و سائر الضرورات،فقد حرث و بذر،و سيحصد في الآخرة ما زرع.و من عرج عليها و اشتغل بلذاتها هلك.و مثل الخلق فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة،فأمرهم الملاّح بالخروج لقضاء الحاجة،و خوّفهم المقام و استعجال السفينة فتفرقوا فيها،فبادر بعضهم و قضى حاجته و رجع إلى السفينة فوجد مكانا خاليا واسعا،و وقف بعضهم فنظر في أزهار الجزيرة و أنوارها و ظرائف أحجارها و عجائب غياضها و نغمات طيورها،فرجع إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا حرجا،و أكبّ بعضهم على تلك الأصداف و الأحجار و أعجبه حسنها فلم تسمح نفسه إلا بأن يستصحب شيئا منها،فلم يجد في السفينة إلا مكانا ضيقا.و زادته الحجارة ثقلا و ضيقا،فلم يقدر على رميها و لم يجد لها مكانا، فحملها على عنقه و هو ينوء بأعبائها.و تولج بعضهم الغياض و نسي المركب و اشتغل بالتفرج في تلك الأزهار و التناول من تلك الثمار و هو في تفرجه غير خال من خوف السباع و الحذر من السقطات و النكبات،فلما رجع إلى السفينة لم يصادفها فبقي على الساحل،فافترسته السباع و مزقته الهوامّ.فهذه صورة أهل الدنيا بالإضافة إلى الدنيا و الآخرة،فتأملها و استخرج وجه الموازنة فيها إن كنت ذا بصيرة.

[فصل فى ان من عرف نفسه،و عرف ربه عرف وجه عداوة الدنيا للآخرة]

من عرف نفسه،و عرف ربه،و عرف زينة الدنيا و عرف الآخرة،شاهد بنور البصيرة وجه عداوة الدنيا للآخرة،إذ ينكشف له قطعا أن لا سعادة في الآخرة إلا لمن قدم على اللّه سبحانه عارفا به محبّا له؛فإن المحبة لا تناله إلا بدوام الذّكر،و إن المعرفة لا تنال إلا بدوام الطلب و الفكر،و لا يتفرغ لهما إلا من أعرض عن أشغال الدنيا.و لا تستولي المعرفة و الحب على القلب ما لم يفرغ من حب غير اللّه تعالى؛ففراغ القلب عن غير اللّه ضرورة اشتغاله بحب اللّه تعالى و معرفته.و لن يتصور ذلك إلا لمعرض عن الدنيا،قانع منها بقدر الزاد و الضرورة.فإن كنت من أهل البصيرة فقد صرت من أهل الذوق و المشاهدة؛و إن لم تكن كذلك،فكن من أهل التقليد و الإيمان،و انظر إلى

ص: 89


1- الرباط:المكان الذي تربط فيه الخيل،أو هو الحصن.

تحذير اللّه سبحانه إياك،و الكتاب و السنة،و قد قال عز و جل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها (1) [هود:15]الآية.و قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ (2) [النحل:107]الآية.و قال عز اسمه: فَأَمّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (3) [النازعات:37،38]الآية.

و لعل ثلث القرآن في ذم الدنيا و ذم أهلها،و قد قال صلى اللّه عليه و سلم:«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها،إلا ما كان للّه تعالى منها».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«يا عجبا كلّ العجب للمصدق بدار الآخرة،و هو يسعى لدار الغرور».و قال عليه السلام:«الدنيا حلوة خضرة،و إن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون».و قال عليه السلام:«إن اللّه عز و جل لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا،و إنه لم ينظر إليها منذ خلقها».و قال عليه السلام:«من أصبح و الدنيا أكبر همّه فليس من اللّه في شيء،و ألزم قلبه أربع خصال:همّا لا ينقطع عنه أبدا،و شغلا لا يتفرغ عنه أبدا،و فقرا لا يبلغ غناه أبدا،و أملا لا يبلغ منتهاه أبدا».

و قال أبو هريرة:قال صلى اللّه عليه و سلم:«يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها؟قلت:نعم.

فأخذ بيدي إلى مزبلة فيها رءوس أناس و عذرات (4)و خرق و عظام،فقال عليه السلام:

يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص كحرصكم و تأمل آمالكم،ثم هي اليوم عظام بلا جلد،ثم ستصير رمادا.و هذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها،ثم قذفوها من بطونهم،فأصبحت و الناس يتحامونها.و هذه الخرق البالية كانت رياشهم و لباسهم فأصبحت و الرياح تصفّقها.و هذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون (5)عليها أطراف البلاد،فمن كان باكيا على الدنيا فليبك».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«ليجيئنّ أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة،فيؤمر بهم إلى النار».قالوا:يا رسول اللّه:مصلين؟ قال:«نعم،كانوا يصلون و يصومون و يأخذون هنة (6)من الليل،فإذا عرض لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه».ر.

ص: 90


1- سوره 11 - آیه 15
2- سوره 16 - آیه 107
3- سوره 79 - آیه 37
4- عذرات:جمع عذرة،و معناها الغائط.
5- أي يطلبون و يكتسبون.و انتجع:طلب الكلأ في موضعه.
6- الهنة:الوقت القصير.

و قال عيسى عليه السلام:«لا يستقيم حب الدنيا و الآخرة في قلب مؤمن،كما لا يستقيم الماء و النار في إناء واحد».

و قال نبينا صلى اللّه عليه و سلم:«احذروا الدنيا،فإنها أسحر من هاروت و ماروت».

و قال عيسى عليه السلام:«يا معشر الحواريين ارضوا بدنيّ الدنيا مع سلامة الدين،كما رضي أهل الدّنيا بدنيّ الدين مع سلامة الدنيا».و قال عيسى عليه السلام للحواريين:«لأكل خبز الشعير بالملح الجريش (1)و لبس المسوح و النوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا و الآخرة».

و روي أن عيسى-عليه السلام-كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز شوهاء عليها من كل زينة،فقال لها:كم نكحت؟فقالت:إني لا أحصيهم،فقال يطلقونك أو ماتوا عنك؟فقالت:بل قتلت كلهم.فقال عيسى-عليه السلام-:عجبا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين.

[فصل فى أن من ظن أنه يلابس الدنيا ببدنه و يخلو عنها بقلبه فهو مغرور]

اعلم أن من ظن أنه يلابس الدنيا ببدنه و يخلو عنها بقلبه فهو مغرور.و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«مثل صاحب الدنيا كمثل الماشي في الماء،هل يستطيع الذي يمشي في الماء ألا يبتلّ قدماه؟».و كتب عليّ-رضوان اللّه عليه-إلى سلمان الفارسي-رضي اللّه عنه-:«مثل الدنيا مثل الحية،يلين مسها و يقتل سمها،فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها،وضع عنك همومها،لما أيقنت من فراقها،و كن أسرّ ما تكون بها أحذر ما تكون منها،فإن صاحبها كلما اطمأنّ منها إلى سرور أشخصه (2)عنه مكروه».

و قال عيسى-عليه السلام-:«مثل الدنيا مثل شارب ماء البحر،كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله»و اعلم أن من اطمأن إلى الدنيا و هو يتيقن أنه راحل عنها هو في غاية الحماقة،بل مثل الدنيا مثل دار هيأها صاحبها،و زينها لضيافة الواردين و الصادرين، فدخل واحد داره فقدم إليه طبقا من ذهب عليه بخور و ريحان ليشمها و يتركه لمن يلحقه لا ليتملكه،فجهل رسمه فظن أنه وهب ذلك له،فلما تعلق به قلبه استرجع منه،فضجر

ص: 91


1- الجريش:ما طحن خشنا.
2- أشخصه:أزعجه.

و توجع،و من كان عالما برسمه انتفع به و شكره و رده بطيبة قلبه و انشراح صدره،فكذلك سنّة اللّه في الدنيا،فإنها دار ضيافته على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها ما ينتفعون به كما ينتفع بالعارية (1)،ثم يتركونها لمن يلحق بعدهم بطيبة نفس من غير تعلق القلب بها لا كمن يتعلّق القلب بها.

الأصل الثامن في الكبر:

اشارة

قال اللّه سبحانه: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ (2) [غافر:35]، و قال تعالى: فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (3) [الزمر،72،غافر:76]،و قال صلى اللّه عليه و سلم:قال اللّه تعالى:«العظمة إزاري،و الكبرياء ردائي،فمن نازعني فيهما قصمته».قال صلى اللّه عليه و سلم:

«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر».و قال-عليه السلام-:

«يحشر الجبارون و المتكبرون يوم القيامة في صور الذرّ،يطؤهم الناس لهوانهم على اللّه عز و جل».و قال صلى اللّه عليه و سلم لبلال:«إن في جهنم واديا يقال له:هبهب.حق على اللّه سبحانه أن يسكنه كل جبار،فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه».و قال-عليه السلام-:«اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبر».و قال-عليه السلام-:«لا ينظر اللّه تعالى إلى من جرّ ثوبه خيلاء».و قال-عليه السلام-:«من تعظم في نفسه و اختال في مشيته،لقي اللّه و هو عليه غضبان».و قال-عليه السلام-:«من تعظم في نفسه و اختال في مشيته،لقي اللّه و هو عليه غضبان».و قال-عليه السلام-في فضيلة التواضع:«ما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزّا،و ما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه».و قال-عليه السلام-:«طوبى لمن تواضع في غير مسكنة».و أوحى اللّه تعالى إلى موسى-عليه السلام-:«إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي و لم يتعظم على خلقي،و ألزم قلبه خوفي،و قطع النهار بذكري، و كفّ نفسه عن الشهوات من أجلي».و قال نبينا صلى اللّه عليه و سلم:«إذا تواضع العبد للّه رفعه اللّه إلى السماء السابعة».و قال-عليه السلام-:«إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة،فتواضعوا رحمكم اللّه»و قال-عليه السلام-:«إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده فيكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه».

[فصل فى حقيقة الكبر أن يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال]

حقيقة الكبر أن يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال،فيحصل فيه نفخة و هزة

ص: 92


1- العارية:ما تملكه بالإعارة و ما يسترد منك في أي وقت.
2- سوره 40 - آیه 35
3- سوره 39 - آیه 72

من هذه الرذيلة و العقيدة،و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم:«أعوذ بك من نفخة الكبر»،و لذلك استأذن بعضهم عمر-رضي اللّه عنه-ليعظ الناس بعد الصبح،فقال:لأخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا،ثم هذه النفخة يصدر منها أفعال على الظاهر،كالترفع في المجالس، و التقدم في الطريق،و النظر بعين التحقير و الغضب إذا لم يبدأ السلام و قصّر في حوائجه و تعظيمه،و يحمله على أن يأنف إذا وعظ،و يعنّف إذا وعظ و علّم،و يجحد الحق إذا ناظر،و ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير.و إنما عظّم الكبر حتى لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه،لأن تحته ثلاثة أنواع من الخبائث العظيمة:

أولها:أنه منازعة اللّه تعالى في خصوص صفته،إذ الكبرياء رداؤه،كما قال اللّه؛ فإن العظمة لا تليق إلا به.و من أين تليق العظمة بالعبد الذليل الذي لا يملك من أمر نفسه شيئا،فضلا عن أمر غيره.

الثانية:أن يحمله على جحد الحق و ازدراء الخلق.قال صلى اللّه عليه و سلم في بيان الكبر:

«الكبر من سفه الحقّ،و غمص (1)الناس،و الأنفة من الحق،تغلق باب السعادة،و كذا استحقار الخلق».و قال بعضهم:إن اللّه سبحانه خبأ ثلاثا في ثلاث:خبأ رضاه في طاعته،فلا تحقرن شيئا منها لعل رضاء اللّه فيه،و خبأ سخطه في معصيته،فلا تحقرن شيئا منها صغيرة،فلعل سخط اللّه تعالى فيها،و خبأ ولايته في عباده،فلا تحقرن أحدا منهم فلعله وليّ اللّه تعالى.

الثالثة:أنه يحول بينه و بين جميع الأخلاق المحمودة،لأن المتكبر لا يقدر أن يحب للناس ما يحب لنفسه،و لا يقدر على التواضع،و على ترك الأنفة و الحسد و الغضب،و لا يقدر على كظم الغيظ،و على اللطف في النصح،و على ترك الرياء.

و بالجملة فلا يبقى خلق مذموم إلا و يضطر المتكبر إلى ارتكابه،و لا خلق محمود إلا و يضطر إلى تركه.

[فصل فى ان العلاج الجملي لقمع رذيلة الكبر أن يعرف الإنسان نفسه]

العلاج الجملي لقمع رذيلة الكبر أن يعرف الإنسان نفسه،و أن أوله نطفة مذرة (2)

ص: 93


1- الغمص:الاحتقار.
2- مذرة:فاسدة.

و آخره جيفة قذرة،و هو فيما بين ذلك يحمل العذرة،و يفهم قوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (1) [عبس:17-21]،فليعلم أنه خلق من كتم (2)العدم،و أنه لم يك شيئا مذكورا؛فلا شيء أقل من العدم.ثم خلقه من تراب،ثم من نطفة،ثم من علقة،ثم من مضغة، ليس له سمع و لا بصر و لا حياة و لا قوة.و خلق له ذلك كله و هو بعد غاية النقصان تستولي عليه الأمراض و العلل،و يتضاد فيه الطبائع،فيهدم بعضها بعضا،فيمرض كرها و يجوع كرها،و يعطش كرها،و يريد أن يعلم الشيء فيجهله،و يريد أن ينسى الشيء فيذكره، و يكره الشيء فينفعه،و يشتهي الشيء فيضره،لا يأمن في لحظة من أن يختلس روحه أو عقله أو صحته أو عضو من أعضائه،ثم آخره الموت و التعرض للعقاب و الحساب.فإن كان من أهل النار فالخنزير خير منه،فمن أين يليق به الكبر و هو عبد مملوك ذليل لا يقدر على شيء.قال الحسن البصري-رحمة اللّه عليه-لبعض من يتبختر في مشيته:«ما هذه المشية لمن في بطنه خراء»،فكيف يليق الكبر بمن يغسل العذرة بيده مرتين في كل يوم،و هو حامل لها على الدوام؟

[فصل فى علاج الكبر على التفصيل]

علاج الكبر على التفصيل بالنظر إلى ما به التكبر،و هو أربع خصال:

الأولى العلم:

قال صلى اللّه عليه و سلم:«آفة العلم الخيلاء».و قال-عليه السلام-:«لا تكونوا من جبابرة العلماء،فلا يفي علمكم بجهلكم».و قلّ ما يخلو العالم من آفة الكبر،فإنه يرى نفسه فوق الناس بالعلم الذي هو أشرف فضيلة عند اللّه عزّ و جل،فيتكبّر تارة بالدّين بأن يرى نفسه عند اللّه عز و جل أفضل من غيره،و تارة في الدنيا بأن يرى حقّه واجبا على الناس، و يتعجب منهم إن لم يتواضعوا له،و هذا لأن يسمّى جاهلا أولى،لأنّ العلم الحقيقيّ ما يعرف به ربه و نفسه و خطر خاتمته و حجة اللّه عز و جل عليه،و يلاحظ الخاتمة فلا يرى جاهلا إلا و يقول:إنه عصى اللّه تعالى بجهل،و أنا عصيته بعلم،فحجة اللّه تعالى علي آكد.قال أبو الدرداء-رضي اللّه عنه-:من ازداد علما ازداد تواضعا.قال اللّه تعالى

ص: 94


1- سوره 80 - آیه 17
2- كتم:سرّ.

لنبيه صلى اللّه عليه و سلم: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) [الشعراء:215].و قال- عليه السلام-:«يكون قوم يقرءون القرآن فلا يجاوز حناجرهم،يقولون قد قرأنا القرآن،فمن أقرأ منا و من أعلم منا؟»،ثم التفت و قال:«أولئك منكم أيّها الأمة (2)، أولئك هم وقود النار».و من هذا اشتد حذر السلف،حتى إنه صلى حذيفة مرة-رحمه اللّه-بقوم،فلما سلم قال:«لتلتمسنّ إماما غيري أو لتصلّنّ وحدانا،إني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني».و ينبغي أن يتذكر الإنسان أنه كم من مسلم نظر إلى عمر- رضي اللّه عنه-قبل إسلامه و استحقره،ثم كانت خاتمة عمر كما كانت،و ذلك المسلم لعله ارتد بعده،فكان المتكبر من أهل النار و المتكبّر عليه من أهل الجنة.و ما من عالم إلا و يتصور أن يختم له بالسوء،و يختم للجاهل بالسعادة؛فكيف يكون الكبر مع معرفة ذلك،و قد قال صلى اللّه عليه و سلم:«يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار،فتندلق أقتابه (3)فتدور به كما يدور الحمار بالرحا،فيطيف به أهل النار فيقولون:ما لك!فيقول كنت آمر بالخير و لا آتيه،و أنهى عن الشر و آتيه».فأيّ عالم يسلم من ذلك فلم لا يشغله خوفه عن التكبر؟ و قد قال اللّه تعالى في بلعم بن باعورا و هو من أكابر العلماء: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (4) [الأعراف:176]الآية،لأنه أخلد إلى الشهوات.

و قال بعلماء اليهود: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (5) [الجمعة:5].فلينظر في الأخبار التي وردت في علماء السوء حتى يغلب خوفه كبره؛و إنما يبقى الكبر مع هذا لمن اشتغل بعلوم غير نافعة في الدين،كالجدل و اللغة و غيرهما،أو لمن اشتغل بالعلم و هو خبيث الباطن فازداد خبثه بسببه.

السبب الثاني الورع و العبادة:

و لا يخلو المتعبد في باطنه عن كبر،و قد تنتهي الحماقة ببعضهم إلى أن يحمل مصائب الناس و مسراتهم على كرامته.فمن آذاه و مات أو مرض يقول:قد رأيتم ما فعل اللّه سبحانه به.و ربما يقول عند الإيذاء:سترون ما يجري عليه.و ليس يدري الأحمق أن جماعة من الكفار ضربوا الأنبياء و آذوهم،ثم متّعوا في الدنيا فلم ينتقم منهم،بل ربما أسلم بعضهم فسعد في الدنيا و الآخرة،فكأنه يرى نفسه أفضل من الأنبياء و مؤذيهه.

ص: 95


1- سوره 26 - آیه 215
2- هكذا في الأصل و لعلها تصحيف«الأئمة».
3- أي يخرج من بطنه أمعاؤه.
4- سوره 7 - آیه 176
5- سوره 62 - آیه 5

أخس من الكفار.و حقّ العابد إذا نظر إلى عالم أن يتواضع له لجهله،و إن نظر إلى فاسق أن يقول لعل فيه خلقا باطنا يستر معاصيه الظاهرة،و لعل في باطني حسدا أو رياء أو خبثا خفيّا مقتني اللّه سبحانه عليه فلا يقبل أعمالي الظاهرة،و أن اللّه سبحانه ينظر إلى القلوب لا إلى الصور.و من الخبث الباطن الكبر،إذ روي أن رجلا من بني إسرائيل يقال له خليع بني إسرائيل لكثرة فساده،جلس إلى عابد بني إسرائيل و قال:لعل اللّه تعالى يرحمني ببركته،فقال العابد في نفسه كيف يجلس معي مثل هذا الفاسق؟و قال له:قم عني!فأوحى اللّه سبحانه إلى نبيّ زمانه:مرهما ليستأنفا العمل،فقد غفرت للخليع و أحبطت عمل العابد.و روي أن رجلا وطئ رقبة عابد من بني إسرائيل و هو ساجد، فقال له:ارفع،فو اللّه لا يغفر اللّه لك،فأوحى اللّه سبحانه إليه أيها المتألّي (1)عليّ بل لا يغفر اللّه لك.فالأكياس (2)يحذرون من ذلك و يقولون ما كان يقول له عطاء السلمي مع شدّة ورعه؛كان إذا هبت ريح عاصف أو صاعقة يقول:ما يصيب الناس ذلك إلا بسببي،و لو مات عطاء لتخلصوا.و قال بعضهم في عرفات:أنا أرجو الرحمة لجميعهم لو لا كوني فيهم.فانظر كم بين من يخلص العمل و الورع ثم يخاف على نفسه،و بين من يتكلف أعمالا ظاهرة لعلها لا تخلو عن الرياء و الافات ثم يمن على اللّه بعمله.

السبب الثالث الكبر بالنسب:

و علاجه أن ينظر في نسبه،فإن أباه نطفة مذرة،وجده التراب،و لا أقذر من النطفة و لا أذل من التراب.ثم المفتخر بالنسب يفتخر بخصال غيره،و لو نطق آباؤه لقالوا:من أنت في نفسك!ما أنت إلا دودة من بول من له خصلة حسنة؛و لذلك قيل:

لئن فخرت بآباء ذوي نسب لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا

و كيف يتكبر بنسب ذوي الدنيا و لعلهم صاروا حممة (3)في النار يودّون لو كانوا خنازير أو كلابا يتخلصون مما هم فيه.و كيف يتكبر بنسب أهل الدّين و هم في أنفسهم ما كانوا يتكبرون،و كان شرفهم بالدّين،و من الدّين التواضع.و كان أحدهم يقول:ر.

ص: 96


1- المتألي:الحالف.
2- جمع كيس و هو ضد الحمق و يقال الغلبة بالكياسة.
3- حممة:كل ما احترق بالنار.

ليتني كنت تبنة و ليتني كنت طائرا.كلهم قد شغلهم خوف العاقبة عن الكبر مع عظم علمهم و عملهم.فكيف يتكبرون بنسبهم إلى من هو عاطل عن خصالهم!

السبب الرابع الكبر بالمال و الجمال و الأتباع:

و الكبر بهم جهل،فإنها أمور خارجة عن الذات،أعني المال و الأتباع.و كيف يتكبر بخصلة تمتد إليها يد السارق و الغاصب!و كيف يفتخر بالجمال و حمّى شهر تفسده و الجدريّ يزيله!و لو تفكر الجميل في أقذار باطنه لأدهشه ذلك عن تزويق ظاهره،و لو لم يتعهد الجميل بدنه أسبوعا بالغسل و التنظيف لصار أقذر من الجيفة،من تغيّر النكهة و الصّنان (1)و رائحة العذرة،و كراهية الوسخ و المخاط و الرّمص (2).فمن أين للمزبلة أن تفتخر بجمالها!و الإنسان بالحقيقة مزبلة،فإنه منبع الأقذار و النجاسات.

الأصل التاسع العجب:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ (3) [التوبة:25]الآية.و قال عز و جل: وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (4) [الكهف:104]،و قال: فَلا 3تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (5) [النجم:32].و قال-عليه السلام-:«ثلاث مهلكات:

شحّ مطاع،و هوى متبع،و إعجاب المرء بنفسه».و قال ابن مسعود-رضي اللّه عنه-:

«الهلاك في اثنين:القنوط و العجب».و إنما جمع بينهما لأن القانط لا يطلب السعادة لقنوطه،و المعجب لا يطلبها لظنه أنه قد ظفر بها.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من ذلك،العجب العجب».و قيل لعائشة-رضي اللّه عنها-:متى يكون الرجل مسيئا؟فقالت:«إذا ظن أنه محسن».

و نظر رجل إلى بشر بن منصور و هو يطيل الصلاة و يحسن العبادة،فلما فرغ قال:«لا يغرّنك ما رأيت مني،فإن إبليس عبد اللّه تعالى و صلّى آلاف السنين،ثم صار إلى ما صار إليه».

ص: 97


1- الصنان:الرائحة الكريهة مصدرها البدن.
2- الرمص:الوسخ الأبيض يكون في مجرى الدمع من العينين.
3- سوره 9 - آیه 25
4- سوره 18 - آیه 104
5- سوره 53 - آیه 32

[فصل فى ان حقيقة العجب استعظام النفس و خصالها]

حقيقة العجب استعظام النفس و خصالها التي هي من النعم،و الركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم و الأمن من زوالها.فإن أضاف إليه أن رأى لنفسه عند اللّه حقا و مكانا،سمي ذلك إدلالا؛و في الخبر أن صلاة المدلّ لا ترتفع فوق رأسه،و علامة إدلاله أن يتعجب من رد دعائه،و يتعجب من استقامة حال من يؤذيه.و العجب هو سبب الكبر،و لكن الكبر يستدعي متكبّرا عليه،و العجب مقصور على الانفراد.أما من رأى نعمة اللّه على نفسه بعمل أو علم أو غيره و هو خائف على زواله،و فرح بنعمة اللّه تعالى عليه من حيث إنها من اللّه،فليس بمعجب،بل العجب أن يأمن و ينسى الإضافة إلى المنعم.

[فصل العجب جهل محض،فعلاجه العلم المحض]

العجب جهل محض،فعلاجه العلم المحض،فإنه إن أعجب بقوة و جمال أو أمر مما ليس يتعلق باختياره،فهو جهل أيضا،إذ ليس ذلك إليه،فينبغي أن يعجب بمن أعطاه ذلك من غير استحقاق،و ينبغي أن يتفكر في زوال ذلك المخوف على القرب بأدنى مرض و ضعف،و إن أعجب بعلمه و عمله و ما يدخل تحت اختياره فينبغي أن يتفكر في تلك الأعمال بما ذا تيسرت له،و أنها لا تتيسر إلا بعضو و قدرة و إرادة و معرفة،و أن جميع ذلك من خلق اللّه عز و جل.و إذا خلق اللّه العضو و القدرة و سلّط الدواعي و صرّف الصوارف،كان حصول الفعل ضروريّا،و ليس للمضطر أن يتعجب بما يحصل منه اضطرارا،و هو مضطر إلى اختياره،فإنه لا يفعل إن شاء،و لكن إن يشأ اللّه،شاء أو لم يشأ،مهما خلقت فيه المشيئة،قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (1) [الإنسان:30،التكوير:29]فمفتاح العمل انجزام المشيئة و انصراف الدواعي الصارفة مع كمال القدرة و الأعضاء،و كل ذلك بيد اللّه تعالى.أ رأيت لو كان بيد ملك مفتاح خزانة فأعطاك إياه فأخذت منها أموالا.أتعجب بجوده إذا أعطاك المفتاح بغير استحقاق،أو بكمالك في أخذه و أي كمال في الأخذ بعد التمكّن؟

[فصل من العجائب أن يعجب العاقل بعلمه و عقله]

و من العجائب أن يعجب العاقل بعلمه و عقله،حتى يتعجب إن أفقره اللّه تعالى و أغنى بعض الجهال و يقول:كيف وسّع النعمة على الجاهل و حرمني؟فيقال له:كيف رزقك العلم و العقل و حرمهما الجاهل؟فهذه عطية منه،أ فتجعلها سببا لاستحقاق عطية

ص: 98


1- سوره 76 - آیه 30

أخرى؟بل لو جمع لك بين العقل و الغنى و حرم الجاهل منهما جميعا كان ذلك أولى بالتعجب،و ما تعجب العاقل منه إلا كتعجب من أعطاه الملك فرسا و أعطى غيره غلاما، و يقول:كيف يعطي الغلام لفلان و لا فرس له،و يحرمني و أنا صاحب الفرس؟و إنما صار صاحب الفرس بعطائه،فيجعل عطاءه سببا لاستحقاق عطاء آخر،و هو عين الجهل،بل العاقل يكون أبدا تعجبه من فضل اللّه تعالى وجوده من حيث أعطاه العلم و العقل،و وفقه للعبادة من غير تقدم استحقاق منه،و حرم غيره ذلك و سلط عليه دواعي الفساد،و اضطره إليه بصرف دواعي الخير عنه،و ذلك بغير جريمة سابقة منه.و إذا شاهد ذلك تحقيقا غلب عليه الخوف،إذ قد يقول:قد أنعم اللّه عليّ في الدنيا من غير وسيلة،و خصّني به دون غيري،و من يفعل مثل هذا بغير سبب،فيوشك أن يعذب و يسلب النعم أيضا بغير جناية و سبب؛فما ذا أصنع إن كان ما أفاضه عليّ من النعم مكرا أو استدراجا بما فتحه؟كما قال اللّه تعالى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً (1) [الأنعام:44]و كما قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (2) [الأعراف:182].

الأصل العاشر في الرياء:

اشارة

قال اللّه تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (3) [الماعون:4،5،6]و قال تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (4) [الإنسان:9]،و قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ (5) [الكهف:110]الآية،أراد به الإخلاص.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر»،قيل:و ما هو؟قال-عليه السلام-:«الرياء،يقول اللّه عز و جل يوم القيامة،إذا جازى العباد بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«استعيذوا باللّه من جبّ الحزن»،قيل:و ما هو؟قال-عليه السلام-:

«واد في جهنم أعد للقرّاء المرائين».و قد قال تعالى:«من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله و أنا منه بريء،و أنا أغنى الأغنياء عن الشّرك».و قال-عليه السلام-:«لا يقبل اللّه عملا فيه مقدار ذرة من الرياء».و قال عليه السلام:«إن أدنى الرياء الشرك».و قال عيسى-عليه السلام-:«إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و يمسح شفتيه

ص: 99


1- سوره 6 - آیه 44
2- سوره 7 - آیه 182
3- سوره 107 - آیه 4
4- سوره 76 - آیه 9
5- سوره 18 - آیه 110

لكيلا يرى الناس أنه صائم،و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله،و إذا صلى فليرخ ستر بابه،فإن اللّه تعالى يقسم الثناء كما يقسم الرزق».و لهذا قال عمر-رضي اللّه عنه- لرجل طأطأ رقبته:«يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك؛ليس الخشوع في الرقاب،و إنما الخشوع في القلوب».و قال نبينا صلى اللّه عليه و سلم:«إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء:يا مرائي،يا غاوي،يا فاجر،يا خاسر،اذهب فخذ أجرك ممن عملت له،فلا أجر لك عندنا».و قال قتادة-رحمة اللّه عليه-:إذا راءى العبد يقول اللّه تعالى:«انظروا كيف يستهزئ بي».و قال الحسن-رحمه اللّه عليه-:«صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها نفعته و نفعت أصحابه،و ما يمنعه منها إلا الشهرة».

فصل

حقيقة الرياء طلب المنزلة في قلوب الناس بالعبادات و أعمال الخير.و ما يراءى به ستة أصناف:

الأول:الرياء من جهة البدن:و هو إظهار النحول و الصغار ليظنّ به السهر و الصيام،و إظهار الحزن ليظن به أنه شديد الاهتمام بأمر الدين،و إظهار شعث الشعر ليظن به أنه لشدة استغراقه بالدين ليس يتفرّغ لنفسه،و إظهار ذبول (1)الشفتين ليستدل به على صومه،و خفض الصوت ليستدل به على ضعفه من شدة المجاهدة.

الثاني:الرياء بالهيئة:كحلق الشارب و إطراق الرأس في المشي،و الهدوء في الحركة،و إبقاء أثر السجود على الوجه،و تغميض العينين ليظن به أنه في الوجد و المكاشفة أو غائص في الفكر.

الثالث:الرياء في الثياب:كلبس الصوف و الثوب الخشن و تقصيره إلى قريب من الساق،و تقصير الكمين و ترك الثوب مخرّقا و وسخا،ليظنّ أنه مستغرق الوقت عن الفراغ له،و لبس المرقّعة و السجادة،ليظنّ أنه من الصوفية مع إفلاسه عن حقائق التصوف،و لبس الدّراعة و الطيلسان (2)،و توسيع الأكمام ليظن أنه عالم،و التقنّع فوق

ص: 100


1- ذبل الشيء ذبولا ذهبت ندوته.و الذبلاء:اليابسة الشفة.
2- الدراعة:القميص.و الطيلسان،فارسي معرب:لباس العجم.

العمامة بإزار،و لبس الجوارب ليظنّ أنه متقشف لشدة ورعه من غبار الطريق.ثم منهم من يطلب المنزلة في قلوب أهل الصلاح،فيلازم الثوب الخلق،و لو لبس ثوبا جديدا لكان عنده كالذبح،إذ يخاف أن يقول الناس قد بدا له من الزهد.و منهم من يطلب المنزلة من السلاطين و التجار،و لو لبس خلقان الثياب لازدروه،و لو لبس فاخر الثياب لم يعتقدوا زهده،فيطلب المرقعة المصبوغة و الفوطة الرقيقة،و الأصواف الرفيعة،فتكون ثيابهم في القيمة و النفاسة كثياب الأغنياء،و في اللون و الهيئة كثياب الصلحاء،و لو كلّفوا أن يلبسوا الخلق لكان عندهم كالذبح خيفة عن السقوط من أعين الأغنياء،و لو كلّفوا لبس الخزّ و القصبيّ و الديبقي و ما يباح لبسه،قيمته دون قيمة ثيابهم،لاشتد عليهم خوفا عن سقوط منزلتهم عن القلوب الصلحاء،إذ يقولون:بدا له من الزهد.

الرابع:الرياء بالقول:كرياء أهل الوعظ و التذكير،و تحسين الألفاظ و تسجيعها، و النطق بالحكمة،و الأخبار،و كلام السلف،مع ترقيق الصوت و إظهار الحزن،مع الخلوّ عن حقيقة الصدق و الإخلاص في الباطن،بل ليظنّ به ذلك،و كادّعاء حفظ الحديث و لقاء الشيوخ و المبادرة إلى الحديث أنه صحيح أو سقيم،ليظن به غزارة العلم.و كتحريك الشفتين بالذّكر،و الأمر بالمعروف بمشهد الناس مع خلوّ القلب عن التفجع بالمعصية.و كإظهار الغضب عن المنكرات و الأسف عن المعاصي مع خلوّ القلب عن التألم به.

الخامس:الرياء بالعمل:كتطويل القيام و تحسين الركوع و السجود،و إطراق الرأس،و قلة الالتفات،و التصدّق،و الصوم،و الحج،و الإخبات (1)في المشي مع إرخاء الجفون،مع أن اللّه تعالى عالم أن باطنه لو كان خاليا لما فعل شيئا من ذلك،بل تساهل في الصلاة و تسرّع في المشي،و قد يفعل ذلك في المشي (2)،فإذا شعر باطلاع غيره عليه عاد إلى السكينة كي يظن به الخشوع.

السادس:الرياء بكثرة التلامذة و الأصحاب و كثرة ذكر الشيوخ:ليظن أنه لقي شيوخا كثيرة،و كمن يحب أن يزوره العلماء و السلاطين ليقال إنه ممن يتبرّك به.ع.

ص: 101


1- الإخبات:الإبطاء و التخشع،و هنا بمعنى التمكن.
2- أي يتسرع.

فهذه مجامع ما يراءى به في الدين؛و كل ذلك حرام،بل هو من الكبائر.و أما طلب المنزلة في قلوب الناس بأفعال ليست من العبادات و أعمال الدين فليست بحرام،ما لم يكن فيه تلبيس كما ذكرناه في طلب الجاه.فأهل الدنيا قد يطلبون الجاه بكثرة المال، و الغلمان،و حسن الثياب الفاخرة،و حفظ الأشعار،و علم الطب،و الحساب،و النحو، و اللغة،و غير ذلك من الأعمال و الأحوال.و لم يحرم ذلك ما لم ينته إلى الإيذاء بالتكبر و إلى أخلاق أخرى مذمومة،و إنما استقصينا أقسام الرياء لأنه أغلب الأخلاق الذّميمة على النفوس،فمن لا يعرف الشرّ و مواقعه،لا يمكنه أن يتّقيه.

[فصل الرياء على درجات خبيثة]

الرياء على درجات خبيثة:

إحداها:أن لا يكون بالأمور الدينية و العبادات،كالذي يلبس عند الخروج ثيابا حسنة خلاف ما يلبسه في الخلوة،و كالذي ينفق في الضيافات و على الأغنياء أموالا، ليعتقد أنه سخي،لا ليعتقد أنه ورع صالح،فذلك ليس بحرام؛فإنّ تملك القلوب كتملك الأموال.نعم،القليل منه صالح نافع،و الكثير منه يلهي عن ذكر اللّه،كالكثير من المال.و مهما انصرفت الهمة إلى سعة الجاه،فيجرّ ذلك إلى الغفلة و المعاصي، فيكون محذورا بذلك لا لنفسه،و أما إظهار الشمائل التي ذكرناها ليعتقد الناس فيه الدين و الورع فحرام لشيئين:أحدهما،أنه تلبيس إذا أراد أن يعتقد الناس أنه مخلص مطيع للّه محبّ،و هو بهذه النية فاسق ممقوت عند اللّه.و لو سلّم الرجل دراهم إلى جماعة يخيل إليهم أنه يجود عليهم بها،و إنما هي ديون لازمة،عصى لتلبيسه،و إن لم يطلب به أن يعتقد صلاحه لأن ملك القلوب بالتلبيس حرام.

الثاني:أنه إذا قصد بعبادة اللّه خلق اللّه فهو مستهزئ،و من وقف بين يدي ملك في معرض الخدمة و ليس غرضه ذلك بل غرضه ملاحظة عبد من عبيد الملك أو جارية من جواريه.فانظر ما ذا يستحقه من النّكال لاستهزائه بالملك،فكأنه إذا قصد العباد بالعبادة فقد اعتقد أن عباد اللّه أقدر على نفعه و ضره من اللّه تعالى،إذ عظمة العباد في قلبه دعته إلى أن يتجمل عندهم بعبادة اللّه،و لهذا سمي الرياء الشرك الأصغر،ثم يزداد الإثم بزيادة فساد القصد و النية.

و من المرائين من لا يطلب إلا مجرد الجاه.و منهم من يطلب أن يودع الودائع

ص: 102

و توقف عنده الأوقاف و مال الأيتام ليختزل منها،و ذلك أخبث لا محالة.و منهم من يرائي ليقصد إليه النساء و الصبيان،ليتمكن من الفجور،أو ليكثر عنده المال ليصرفه إلى الخمر و الملاهي،و هذا هو الأعظم،إذ جعل عبادة اللّه تعالى وسيلة إلى مخالفته، و العياذ باللّه.

[فصل يعظم بما به المراءاة و بقوة قصد الرياء]

كما يعظم الرياء و يتغلظ إثمه بسبب اختلاف الغرض الباعث عليه،فيعظم أيضا بما به المراءاة و بقوة قصد الرياء.أما ما به المراءاة فهي على ثلاث درجات:أغلظها أن يرائي بأصل الإيمان،كالمنافق يظهر أنه مسلم و ليس بمسلم بقلبه،و كالملحد و معتقد الإباحة يظهر أنه مستديم الإيمان و قد انسلّ منه باطنه.الثانية:الرياء بأصل العبادات، كمن يصلي و يخرج الزكاة بين يدي الناس،و اللّه يعلم من باطنه أنه لو خلا بنفسه لم يفعل ذلك.الثالثة:و هي أدناها،أن لا يرائي بالفرائض و يرائي بالنوافل،كالذي يكثر النافلة،و يحسن هيئة الفريضة،و يخرج الزكاة من أجود ماله،أو يتهجد أو يصوم يوم عرفة و عاشوراء،و اللّه يعلم من باطنه أنه لو خلا بنفسه لم يفعل شيئا من ذلك؛و هذا أيضا حرام،و إن كان لا ينتهي شدة العقوبة فيه إلى حدّ الرياء بالأصول.

و أما تغليظه بدرجات القصد فهو أنه قد يتجرد قصد الرياء حتى يصلّي مثلا على غير طهارة لأجل الناس،أو يصوم و لو خلا بنفسه لأفطر،و قد يضاف إليه قصد العبادة أيضا،و له ثلاث أحوال:إحداها:أن تكون نية العبادة باعثة مستقلة لو خلا بنفسه، و لكن زاده رؤية غيره و مشاهدته نشاطا،و خف عليه العمل بسببه،فأرجو أن لا يحبط ذلك القدر عمله بل تصح عبادته و يثاب عليها،و يعاقب على قصد الرياء أو ينقص من ثوابه.الثانية:أن يكون قصد العبادة ضعيفا بحيث لو انفرد عن الناس ما استقل بالحمل على العبادة؛فهذا لا تصح عبادته،و القصد الضعيف لا ينفي عنه شدة المقت.الثالثة:

أن يتساوى القصدان بحيث لا يستقلّ كلّ واحد بالحمل لو انفرد،أو لا ينبعث للفعل بأحدهما بل بمجموعهما.فهذا قد أصلح شيئا و أفسد مثله،فالغالب أنه لا يسلّم رأسا برأس،و يحتمل أن يقال إذا تساوى القصدان،فأحدهما كفّارة للآخر؛و قوله تعالى:

«أنا أغنى الأغنياء عن الشرك»يدل على أنه لا يقبله و لا يثيبه عليه.أما إنه يعاقبه عليه ففيه نظر،فالأغلب عندي-و العلم عند اللّه-أنه لا يخلو عن إثم و عقاب.

ص: 103

فصل

اعلم أن بعض الرياء جليّ،و بعضه أخفى من دبيب النمل.أما الجليّ،فما يبعث على العمل،حتى لولاه لم يرغب في العمل،و أخفى منه أن لا يستقل بالحمل عليه، و لكن يخفف العمل و يزيد في نشاطه،كالذي يتهجد كل ليلة و إذا كان عنده ضيف زاد نشاطه؛و أخفى منه أن لا يزيد نشاطه،و لكن لو اطّلع غيره على تهجده قبل فراغه أو بعده فرح به و وجد في نفسه هزّة،و ذلك يدل على أن الرياء كان مستكنّا في باطن القلب استكنان النار تحت الرماد حتى ترشّح منه السرور عند الاطلاع،و قد كان غافلا عنه قبله،و أخفى منه أن لا يسر بالاطلاع،لكن يتوقع أن يبدأ بالسلام و يوقر،و يتعجب ممن يسيء إليه و لا يسامحه في المعاملة،و لا يحترمه،و ذلك يدل على أنه يمنّ على الناس بعمله،فكأنه يتوقع احترامهم و توقيرهم بعبادته مع إخفائه عنهم.و أمثال هذه الخفايا لا يخلو عنها إلا الصدّيقون،و جميع ذلك إثم،و يخاف منه إحباط العمل.نعم،لا بأس أن يفرح باطلاع غيره عليه إذا كان فرحه باللّه تعالى من حيث أظهر منه الجميل،و ستر منه القبيح،مع أنه قصد سترهما جميعا،فيفرح بلطف صنع اللّه تعالى؛و كذلك يفرح لأنه يبشره بأنه حيث أحسن صنعه به في الدنيا،فكذلك يصنع به في الآخرة.أو يفرح ليقتدي به من يراه أو يطيع اللّه بحمده له عليه.و علامة هذا أن يفرح أيضا،إذا اطلع على غيره ممن يرتجي قدوته.

و من أجل خفاء أبواب الرياء و شدة استيلائه على الباطن احترز أولو الحزم فأخفوا عبادتهم،و جاهدوا أنفسهم.و قد قال عليّ-رضي اللّه عنه-:إن اللّه عز و جل يقول للقراء يوم القيامة،«أ لم يكن يرخّص عليكم في السعر،أو لم تكونوا تبدءون بالسلام، أ لم تكن تقضى لكم الحوائج؟لا أجر لكم فقد استوفيتم أجوركم».فاجتهد إن أردت الخلاص أن يكون الناس عندك كالبهائم و الصبيان.فلا تفرق في عبادتك بين وجودهم و عدمهم،و علمهم بها أو غفلتهم عنها،و تقنع بعلم اللّه تعالى وحده،و تطلب الأجر منه، فإنه لا يقبل إلا الخالص كي لا تحرم من فائدته في أحوج أوقاتك إليه.

[فصل ما أقدر على انفكاك الرياء الخفيّ]

لعلك تقول ما أقدر على انفكاك الرياء الخفيّ كما وصفته،و إن قدرت على الرياء الجلي،فهل تنعقد عبادتي مع ذلك؟

ص: 104

فاعلم أن وارد الرياء لا يخلو إما أن يرد مع أول العمل،أو في دوامه،أو بعد الفراغ منه.أما ما يقارن الابتداء فيبطله و يمنع انعقاده إن صار باعثا مؤثرا في الحمل على العمل،بل أول العقد يجب أن يكون خالصا،و إنما يبطل بالرياء الباعث على أصل العمل.و أما إذا لم يحمل إلا على المبادرة في أول الوقت مثلا،فأظن-و العلم عند اللّه تعالى-أن أصل الصلاة يصح،و إنما تفوته فضيلة المبادرة،و يعصي بقصد المراءاة به،و لكن يقصد الفرض عنه.و أما ما يرد في دوام الصلاة-إن أبطل باعث الصلاة-فتبطل الصلاة؛مثاله:أن يحضر في أثناء الصلاة أوطاره.أو يتذكر نسيان شيء،و لو خلا لقطع الصلاة،لكنه أتمّ حياء من الناس،فهذا لا يسقط الفرض عنه،لأن النية قد انقطعت و انقطع باعث العبادة؛و أما إذا لم تنقطع نيته،لكن صار مغلوبا مغمورا كما لو حضر قوم فغلب على قلبه الفرح باطلاعهم،و انغمر باعث العبادة،فغالب الظن أنه إن انقضى ركن و لم يعاوده الباعث الأصلي فسدت صلاته؛لأنّا نستصحب نية البداية بشرط أن لا يطرأ ما لو قارن ابتداءها لمنع.و إن لم ينغمر باعث العبادة،و لكن حصل مجرد سرور و لم يؤثر في العمل،بل في تحسين الصلاة فقط،فغالب الظن أن الصلاة لا تفسد و يتأدّى الفرض.و أما ما يطرأ بعد الصلاة من ذكر و سرور و مراءاة فلا ينعطف على ما مضى و لكن يعصي به و يأثم،و يكون عقابه بقدر قصده و إظهاره.و مهما ظهرت له داعية ذكر العبادة إما بالتصريح و إما بالتعريض،فذلك يدل على أن الرياء كان خفيّا في باطنه.

[فصل في دفع الأسباب الباعثة عليه و هي ثلاث:حب المدح،و خوف الذم،و الطمع]

إذا عرفت حقيقة الرياء،و كثرة مداخلته،فعليك بالتشمّر في معالجته.و علاجه في دفع الأسباب الباعثة عليه و هي ثلاث:حب المدح،و خوف الذم،و الطمع.

أما حب المدح،فكمن يهجم على صف القتال ليقال إنه شجاع،أو يظهر العبادات ليقال إنه ورع.و علاجه ما تقدم في علاج حبّ الجاه،و هو أن تعلم أنه كمال وهميّ، لا حقيقة له.و علاجه في الرياء خاصة،أن يقرر على نفسه ما فيه من الضرر،فإن العسل -و إن كان لذيذا-فإذا علم أن فيه سمّا سهل تركه.فليقرّر على نفسه أنه يقال له في يوم فقره بسبب ريائه:يا فاجر يا غاوي استهزأت باللّه عز و جل و راقبت العباد و تحببت إليهم،و اشتريت حمدهم بذم اللّه تعالى،و طلبت رضاءهم بسخطه،أ ما كان أحد أهون عليك من اللّه تعالى؟فلو لم يكن إلا هذا الخزي و الخجلة،لكان كافيا في المنع عنه،

ص: 105

كيف و قد انضم إليه العقوبة و إحباط العبادة،و أنه ربما يترجح به كفة السيئات بعد أن قارنت كفة الحسنات،فيكون سبب هلاكه!و ليقرر على نفسه أن رضى الناس غاية لا تدرك،و من طلب رضي الناس بسخط اللّه تعالى أسخط اللّه عليه.فكيف يترك رضى اللّه بما لا يطمع في حصوله؟

و أما الباعث الثاني،و هو الخوف من ذمهم؛فيقرر على نفسه أن ذمهم لن يضره إن كان محمودا عند اللّه عز و جل،و لم يتعرض لذم اللّه و مقته خوفا من ذم الخلق،و يكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء لمقتوه،و يأبى اللّه إلا أن يكشف سره حتى يعرف نفاقه فيمقته الناس أيضا بعد أن يمقته اللّه عز و جل.و لو أخلص و أعرض بقلبه عنهم و جرّد نظره إلى اللّه تعالى لكشف لهم إخلاصه له و أحبوه.

و أما باعث الطمع،فيدفعه بأن يعلم أن ذلك أمر موهوم،و فوات رضي اللّه تعالى ناجز،و يعلم أن اللّه تعالى هو المسخر للقلوب،و أن من طمع في الخلق لم يخل عن الذل و المهانة و المنّة،و من أعرض عن الطمع في الخلق كفاه اللّه تعالى و سخر له القلوب.فإذا أحضر في قلبه نعيم الآخرة و الدرجات الرفيعة،و علم أن ذلك يفوت بالرياء أعرض قلبه عن الخلق و اجتمع همه و فاضت عليه أنوار الإخلاص و أمده اللّه سبحانه بمعونته و توفيقه.

[فصل علاج الريا]

لعلك تقول إني قرّرت هذا كله في نفسي،و نفر عن الرياء قلبي،و لكن ربما هجم عليّ وارد الرياء بغتة في بعض العبادات عند اطّلاع الخلق،فما العلاج منه عند هجومه؟ فاعلم أن أصل هذا العلاج،أن تخفي عبادتك كما تخفي فواحشك،ففيه السلامة.روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذمّ الدنيا و أهلها فقال له:أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه،لا تجالسنا بعد هذا.و إخفاء العبادة،إنما يشق في البداية، فإذا صار عادة ألف الطبع لذة المناجاة في الخلوة.و مهما هجم وارد الرياء فعلاجه أن تجدّد على قلبك ما رسخ فيه من قبل من المعرفة بالتعرض لمقت اللّه عز و جل،مع عجز الناس عن منفعتك و مضرّتك،حتى تنبعث منه كراهية لداعية الرياء.ثم الشهوة تدعو إلى إجابة الرياء بتحسين العمل و الفرح به،و الكراهية تدعو إلى رده و الإعراض عنه، و تكون اليد للأقوى.فإن قويت الكراهية حتى منعتك من الركون إليه،و استصحبت

ص: 106

حالتك التي كنت عليها،فلم تزد و لم تنقص و لم تتكلف إظهار الفعل و إيثاره،فقد اندفع عنك الإثم و لم تكلف أكثر من ذلك.و أما دفع الخواطر و دفع الطبع عن الميل إلى أقوال الناس،فلا يدخل تحت التكليف،و إنما منتهى التكليف الكراهية و الإباء عن إجابة الداعية.

[فصل يجوز إظهار الطاعات لأجل اقتداء الناس و ترغيبهم إذا صحت النية]

يجوز إظهار الطاعات لأجل اقتداء الناس و ترغيبهم إذا صحت النية،و لم يكن معه شهوة خفية،و علامته أن يقدّر أن الناس لو اقتدوا بأحد أقرانه و كفي مئونة الترغيب، و أخبر بأن أجره في الإسرار كأجره في الإظهار فلا يرغب في الإظهار؛فإن كان ميله إلى أن يكون هو المقتدى به أكثر،ففيه داعية الرياء،لأنه إن كان يطلب سعادة الناس و خلاصهم،فقد حصل ذلك بغيره و لم يفته إلا إظهار نفسه.و كذلك يجوز كتمان المعاصي و الذنوب،و لكن بشرط أن يكون غرضه أن لا يعتقد فيه الورع،بل لا يعتقد فيه الفسق،و لا بأس بفرحه باستتار معاصيه،و حزنه بانكشافها،إما فرحا بستر اللّه عليه، و إما فرحا بموافقة أمر اللّه تعالى،فإنه تعالى يحب كتمان المعاصي،و ينهى عن المجاهرة بها.و إما لأنه يكره أن يذم فيتألم به،إذ التألم بذم الناس ليس بحرام بل يوجبه الطبع،و إنما الحرام الفرح بمدح الناس إياه بالعبادة؛فإن ذلك كأجر يأخذه على العبادة.و إما لأنه يستحي من ظهورها،و الحياء غير الرياء،و لكن قد يمتزج به.و أما ترك الطاعة خوفا من الرياء فلا وجه له.

قال الفضيل:الرياء ترك العمل خوفا من الرياء،أما العمل لأجل الناس فهو شرك، بل ينبغي أن يعمل و يخلص،إلا إذا كان العمل فيما يتعلق بالخلق كالقضاء و الإمامة و الوعظ.فإذا علم من نفسه أنه بعد الخوض فيه لا يملك نفسه،بل يميل إلى دواعي الهوى،فيجب عليه الإعراض و الهرب،كذلك فعل جماعة من السلف.و أما الصلاة و الصدقة فلا يتركهما إلا إذا لم تحضره أصلانية العبادة.بل لو تجرّد نية الرياء فلا يصح عمله فليتركه (1).أما من اعتاد فعله فحضر جماعة فيخاف على نفسه من الرياء،فلا

ص: 107


1- هكذا في النسخة التي بين أيدينا و المعنى مهزوز.

ينبغي أن يتركه بل ينبغي أن يستمر على عبادته و يجتهد في دفع باعث الرياء.

خاتمة في مجامع الأخلاق و مواقع الغرور فيها:

اعلم ان الأخلاق المذمومة كثيرة،و لكن ترجع أصولها إلى ما ذكرناه.و لا يكفيك تزكية النفس عن بعضها حتى تتزكى عن جميعها.و لو تركت واحدا منها غالبا عليك، فذلك يدعوك إلى البقية،لأن بعض هذه يرتبط بالبعض،و يتقاضى بعض الأخلاق الذميمة بعضا،و لا ينجو إلا من أتى اللّه بقلب سليم،و السلامة المطلقة لا تنال بدفع بعض الأمراض،بل إنما تنال بالصحة المطلقة،كما أنّ الحسن لا يحصل بحسن بعض الأعضاء ما لم يحسن جميع الأطراف،و النجاة في حسن الخلق.قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أثقل ما يوضع في الميزان خلق حسن»،و قد قال النبي عليه السلام:«بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».و قيل له:ما الدين؟قال عليه السلام:«الخلق الحسن»،و قال عليه السلام:

«حسن الخلق خلق اللّه تعالى».و قال عليه السلام:«أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا».و قد كثرت الأقاويل في حقيقته و بيان حدّه؛و الأكثرون تعرضوا لبعض ثمراته، و لم يحيطوا بجميع تفصيله؛و الذي يطلعك على حقيقته،أن تعلم أن الخلق و الخلق عبارتان فيراد بالخلق الصورة الظاهرة،و بالخلق الصورة الباطنة،و ذلك لأن الإنسان مركّب من جسد يدرك بالبصر،و من روح و نفس يدرك بالبصيرة لا بالبصر،و لكل واحد منهما هيئة،إما قبيحة و إما حسنة.و النفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرا،و لذلك أضافه اللّه عز و جل إلى نفسه،و أضاف البدن إلى الطين،فقال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (1) [ص:71،72]،و وصف الروح بأنه أمر رباني فقال:

قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2) [الإسراء:85]،و أعني بالرّوح و النفس هاهنا معنى واحدا و هو الجوهر العارف المدرك من الإنسان بإلهام اللّه تعالى،كما قال: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (3) [الشمس:7- 10]،و كما أن للحسن الظاهر أركانا كالعين و الأنف و الفم و الخد-و لا يوصف الظاهر بالحسن ما لم يحسن جميعها-فكذلك الصورة الباطنة لها أركان لا بدّ من حسن جميعها حتى يحسن الخلق،و هي أربعة معان:قوة العلم،و قوة الغضب،و قوة الشهوة، و قوة العدل،بين هذه القوى الأربع؛فإذا استوت هذه الأركان الأربعة،و اعتدلت، و تناسقت،حصل حسن الخلق.

ص: 108


1- سوره 38 - آیه 71
2- سوره 17 - آیه 85
3- سوره 91 - آیه 7

أما قوّة العلم،فاعتدالها و حسنها أن تصير بحيث يدرك بها الفرق بين الصدق و الكذب في الأقوال،و بين الحق و الباطل في الاعتقادات،و بين الجميل و القبيح في الأعمال.فإذا انحصلت هذه القوة كذلك،حصلت منها ثمرة الحكمة،و هي رأس الفضائل؛قال اللّه عز و جل: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً،وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (1) [البقرة:269].

و أما قوة الغضب فاعتدالها أن يحصل انقباضها و انبساطها على موجب إشارة الحكمة و الشرع،و كذلك قوة الشهوة.

و أما قوة العدل فهي في ضبط قوة الغضب.و قوة الشهوة تحت إشارة الدين و العقل، فالعقل منزلته منزلة الناصح،و قوة العدل هي القدرة،و منزلتها منزلة المنفذ الممضي لإشارة العقل،و الغضب و الشهوة،و هما اللذان تنفّذ بهما الإشارة،و هما كالكلب و الفرس للصياد.فإن حسن بعض هذه دون بعض،كان كما لو حسن بعض أعضاء الوجه،فلا يطلق اسم الحسن له إلا إذا حسن الجميع و اعتدل،فإذا حسنت و اعتدلت انشعب منه جميع الأخلاق.و أما قوة الغضب،فيعبر عن اعتدالها بالشجاعة،و اللّه تعالى يحب الشجاعة،و إن مالت إلى طرف الزيادة سميت تهوّرا،و إن مالت إلى النقصان تسمّى جبنا.و يتشعب من اعتدالها:خلق الكرم،و النجدة،و الشهامة،و الحلم، و الثبات،و كظم الغيظ،و الوقار،و التّؤدة.و أما إفراطها فيحصل منه:خلق التهوّر، و الصّلف،و البذخ،و الاستشاطة،و الكبر،و العجب.و أما تفريطها فيحصل منه:

الجبن،و المهانة،و الذلة،و الخساسة،و عدم الغيرة،و ضعف الحمية على الأهل، و صغر النفس.و أما الشهوة،فيعبر عن اعتدالها بالعفة،و عن إفراطها بالشّره،و عن تفريطها و ضعفها بالخمود،فيصدر من العفة:السخاء،و الحياء،و الصبر،و السماحة، و القناعة،و الورع،و المساعدة،و الظرف،و قلة الطمع.و يصدر عن إفراطها:

الحرص،و الشره،و الوقاحة،و التبذير،و التقتير،و الرياء،و الهتكة،و المجانة، و الملق،و الحسد،و الشماتة،و التذلل للأغنياء،و استحقار الفقراء،و غير ذلك.و أما قوة العقل،فيصدر من اعتدالها:حسن التدبير،و جودة الذهن،و ثقابة الرأي،و إصابة الظن،و التفطن لدقائق الأعمال و خفايا آفات النفس.و أما إفراطها فيحصل منه:

ص: 109


1- سوره 2 - آیه 269

الجربزة (1)،و الدهاء،و المكر،و الخداع.و يحصل من تفريطها و ضعفها:البله، و الحمق،و الغمارة (2)،و البلادة،و الانخداع.

فهذه هي روابط الأخلاق؛و إنما معنى حسن الخلق في الجميع وسط بين الإفراط و التفريط،فخير الأمور أوسطها.و كلا طرفي قصد الأمور ذميم،و لذلك قال عز و جل:

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (3) [الإسراء:29]،و قال تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (4) [الفرقان:

67]،و قال تعالى: أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (5) [الفتح:29].و مهما مال واحد من هذه الجملة إلى الإفراط و التفريط فبعد لم يكمل حسن الخلق.

[فصل طريق إصلاح هذه الأخلاق كلها المجاهدة و الرياضة]

طريق إصلاح هذه الأخلاق كلها المجاهدة و الرياضة.و معنى المجاهدة أن يكلّف الصفة المفرطة الغالبة خلاف مقتضاها فتعمل بنقيض موجبها،فإن غلب البخل فلا تزال تتكلف البذل بالمجهود،و تداوم عليه مرة بعد أخرى،حتى يسهل عليك البذل في محله؛فإن غلب التبذير فلا تزال تتكلف الإمساك حتى يصير عادة فيسهل عليك الإمساك في محله.و كذلك في خلق الكبر و سائر الأخلاق،و قد ذكرناه في كتاب رياضة النفوس على التفصيل.و ينبغي أن تعلم أن من يبذل تكلّفا فليس بسخيّ،و أن من يتواضع تكلفا فهو ثقيل على نفسه،و هو عاطل عن خلق التواضع،بل الخلق عبارة عن هيئة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة من غير رويّة و تكلف.لكن التكلف هو طريق تحصيل الخلق،فإنه لا يزال يتكلف أوّلا حتى يصير طبعا و عادة.فيفهم من هذا أن البخيل قد يبذل و أن السخيّ قد يمسك.فلا تنظر إلى الفعل بل إلى الهيئة الراسخة التي تصدر منها الأفعال بيسر من غير تكلف.و اعلم أن تفاوت الناس في الحسن الباطن،كتفاوتهم في الحسن الظاهر،و لن يسلم الحسن المطلق إلا على الندور،و إنما سلم ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى أثنى اللّه سبحانه عليه فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (6) [القلم:4].و ليست النجاة موقوفة على الكمال البالغ لكن على أن يكون الميل إلى الحسن أكثر،فإن القبيح

ص: 110


1- الجربزة:الخبث.
2- الغمر:الحقد وزنا و معنى،و رجل غمر لم يجرّب الأمور.
3- سوره 17 - آیه 29
4- سوره 25 - آیه 67
5- سوره 48 - آیه 29
6- سوره 68 - آیه 4

المطلق في الظاهر ممقوت،و الحسن المطلق معشوق،و ما بينهما درجات،فالقريب من الحسن المطلق أسعد في الدنيا من القريب إلى القبح المطلق.و كذلك تتفاوت سعادة الآخرة بحسب تفاوت حسن الصورة الباطنة.

فصل

اعلم أنك قد تظن بنفسك حسن الخلق و أنت عاطل عنه،فإياك أن تغتر،و ينبغي ان تحكّم فيه غيرك فتسأل عنه صديقا بصيرا لا يداهنك.و بالجملة إذا نسبك غيرك إلى سوء الخلق أوشك أن تكون كذلك؛لأن أكثر الأخلاق يتعلق بالغير فينبغي أن تظهر لهم.

و من مواقع الغرور فيه مثلا أن تغضب فتظن أنك تغضب اللّه تعالى،و تظهر العبادة و تظن أنك تظهر للاقتداء،أو تكف عن الأكل أو طلب الدنيا أو تكظم الغيظ.و إنما يهون عليك ذلك أن تعرف به فيكون الرياء الباعث على الجميع.و كذلك يكثر مواقع الغرور فيه على ما ذكرناه في كتاب الغرور؛فإن هذا الكتاب لا يحتمل استقصاءه.

فصل

ينبغي أن تتفقد هذه الأخلاق في قلبك،و تبدأ بالأهم فالأهم،فتقبل على أغلب هذه الصفات فتكسرها على التدريج.و أظن أن الأغلب عليك حبّ الدنيا،و سائر المعاصي و الأخلاق المذمومة تتبعها.و لا يمكنك الخلاص من حب الدنيا إلا بأن تطلب خلوة خالية،و تتفكر في سبب إقبالك على الدنيا و إعراضك عن الآخرة،فلا تجد له سببا إلا محض الجهل و الغفلة،فإن أقصى عمرك في الدنيا مائة سنة.فهب أن مملكة وجه الأرض تسلم لك من المشرق إلى المغرب في مائة سنة،أ ليس يفوتك بها المملكة في مدة لا آخر لها و هي مملكة الآخرة؟فإن كان لا يدخل في خيالك طول الأبد،فقدّر الدنيا كلّها مملوءة ذرة،فقدّر طائرا يأخذ في كلّ ألف ألف سنة حبة واحدة فتفنى الذرة و لم ينقص من الأبد شيء،لأن الباقي أيضا لا نهاية له كما كان قبل ذلك.و أنت ترى نفسك ترضى بتعب الأسفار إمّا في تجارة أو طلب رئاسة،و هذا التعب الناجذ (1)لأجل شيء موهوم ربما يدركك الموت قبله،و ربما لا يصفو لك إن ظفرت به؛و إنما ترضى

ص: 111


1- الناجذ:الشديد المستحكم.

بذلك لأنك تستحقر التعب سنة مثلا بالإضافة إلى بقية العمر،و جملة عمرك بالإضافة إلى الأبد أقلّ من سنة بالإضافة إلى عمرك،بل لا إضافة بينهما،فتفكر فيه لينكشف لك جهلك على القرب.و لعلك تقول إنما أفعل ذلك على توقع العفو،فإن اللّه تعالى كريم رحيم.فأقول:و لم لا تترك الحراثة و التجارة و طلب المال على توقع العثور على كنز في خراب،فإن اللّه كريم لا ينقص من ملكه شيء لو عرّفك في منامك كنزا من الكنوز حتى تأخذه؟فإن قلت:ذلك نادر و إن كان داخلا في قدرة اللّه تعالى.فاعلم أن توقع العفو مع خراب الأعمال و الأخلاق كتوقع كنز في خراب بل أبعد منه و أندر؛و قد نبهك اللّه تعالى عليه و قال: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (1) [النجم:39]،و قال اللّه تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ (2) [ص:28]الآية.

و رغبك عن طلب المال فقال اللّه تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُها (3) [هود:6].

فما بالك تكذّب بكرمه في الدنيا و لا تتكل عليه،ثم تخدع نفسك بالكرم في الآخرة و أنت تعلم أن رب الدنيا و الآخرة واحد؟

فصل

لعلك تقول:عواقب أمور الدنيا قد انكشفت لي بالعيان و اطمأن قلبي إليها،و أما أمر الآخرة فلم أشاهده و لست أجد تصديقه الحقيقي في قلبي؛فلذلك فترت رغبتي في ترك الدنيا نقدا بما هو موعود نسيئة و لست أثق به.فأقول:لو كنت من أرباب البصائر لانكشف لك أمر الآخرة صريحا كما انكشف أمر الدنيا؛و إذا لم تكن من أهله فتفكر في أقاويل أرباب البصائر،فإن الناس في أمر الآخرة أربعة أصناف:

صنف أثبتوا الجنة و النار كما ورد به القرآن،و قد سمعت أنواع نعيمها و أنكال جحيمها.

و صنف لم يثبتوا اللّذات و الآلام الحسية بل أثبتوهما على سبيل التخيل،كما في المنام،حتى يكون كل واحد في جنة أو نار يراها وحده،و زعموا أن تأثير ذلك فيه كتأثير الحقيقة،لأن تألم النائم كتألم اليقظان،و إنما يخلص عنه بالتنبه،و ذلك في الآخرة دائم لا انقطاع له.

ص: 112


1- سوره 53 - آیه 39
2- سوره 38 - آیه 28
3- سوره 11 - آیه 6

و صنف ثالث أثبتوا آلاما عقلية و لذات عقلية،و زعموا أن ذلك أعظم من الحسية، و مثلوا ذلك باستشعار لذة الملك و استشعار زوالها؛فإن زوال الملك يؤرث (1)آلاما كثيرة بدنية على ما يظفر به عدوه و يأخذ مملكته و يستسخره،مع أن ظفر العدوّ لا يؤلم البدن.

و هؤلاء هم أصناف النظّار،أعني الأصناف الثلاثة،و هم الأنبياء و الأولياء و الحكماء،و كلّهم اتفقوا على إثبات سعادة مؤبدة و شقاوة مؤبدة.فإن السعادة لا تنال إلا بترك الدنيا و الإقبال على اللّه عزّ و جلّ،و لو مرضت و لم تكن من أهل البصيرة في طب و رأيت أفاضل الأطباء قد اتفقوا على شيء لم تتوقف في اتباعهم.

و صنف رابع ليسوا من النظّار في الأمور الإلهية،بل من الأطباء و المنجمين اقتصر نظرهم على الطبائع الأربع و مزاجها،و رأوا قوام الروح موقوفا عليها،و لم يتفطنوا لحقيقة الرّوح الإلهيّ الحقيقي الذي هو العارف باللّه تعالى،بل لم يدركوا إلا الروح الجسماني الذي هو بخار أنضجته حرارة القلب،ينتشر في العروق الضوارب إلى جميع البدن،فيقوم به الحس و الحركة،و هي الروح التي توجد للبهائم أيضا.

فأما الروح الخاص الإنساني المنسوب إلى اللّه سبحانه،حيث قال: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2) [الحجر:29،ص:72]،فلم يتفطنوا لها،فظنوا أن الموت عدم، و أنه يرجع إلى فساد المزاج.و أنت في حق هؤلاء بين أمرين:إما أن تجوّز غلطهم،أو تعلم قطعا صحة قولهم؛فإن جوّزت خطأهم لزمك الإعراض عن الدنيا بمجرد الاحتمال،فإنك لو كنت صادق الجوع و ظفرت بطعام و هممت بأكله،فأخبرك صبي أن فيه سمّا و أن حية و لغت فيه،قاسيت الجوع و تركت الأكل،لأنك تقول:إن كان كاذبا فليس تفوتني إلاّ لذة الأكل،و إن كان صادقا ففيه الهلاك؛و بمثل هذا الاحتمال لا يمكن الهجوم عليه.فليت شعري مع احتمال الخلود في النار كيف يستجرئ العاقل الهجوم عليه،فكيف لا يكون كاليقين التام في الحذر منه،حتى تنبه الشاعر عليه مع ركاكة عقله فقال:ر.

ص: 113


1- كانت في الأصل يؤثر و هو تصحيف ظاهر.
2- سوره 15 - آیه 29

زعم المنجم و الطبيب كلاهما لا تحشر الأموات قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر إن (1)صحّ قولي فالخسار عليكما

فإن قلت:إني أعلم ضرورة صدق هؤلاء،فإن الموت عدم و أنه لا عقاب و لا ثواب،فإن الأنبياء و الأولياء مغرورون أو ملبّسون،و إنما الذي انكشفت له حقيقة الحق هو هذا الطبيب الجاهل،و زعمت أني أعلم ذلك كما أعلم أن الاثنين أكثر من الواحد حتى لا يخالجني فيه ريب،فيدل هذا على فساد المزاج و ركاكة العقل و البعد عن قبول العلاج.و لكن مع هذا يقال لك:إن كنت تطلب الراحة في الدنيا فقد يتقاضاك عقلك أيضا مجاهدة الشهوات و كسرها؛فإن الراحة في الحرية،و الخلاص في كسر الشهوات لا في اتباعها،فإنها إذا سلطت على النفس فهي آلام ناجزة تحمل النفس على احتمال كل ذلّ و مشقة،و ما المستريح في الدنيا إلا تاركها و الزاهد فيها،و أما طالبها فلا يزال منها في عناء.فالمعطل أيضا-إن عقل قليلا-ترك الدنيا لكثرة عنائها و سرعة فنائها و خسة شركائها.فإن لم تكن في أمر الآخرة على تخمين،و لا من مشاهدة آفات الدنيا على يقين،فما أنت إلا من الحمقى المغرورين،و لتعلمنّ نبأه بعد حين،و لذلك قال اللّه تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (2) [الحجر:3].».

ص: 114


1- في رواية«أو».
2- سوره 15 - آیه 3

القسم الرابع: في الأخلاق المحمودة و هي أيضا عشرة أصول

الأصل الأول التوبة:

اشارة

فإنها مبدأ طريق السالكين،و مفتاح سعادة المريدين.قال اللّه تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (1) [البقرة:222].و قال اللّه تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً (2) [النور:31]،و قال النبي عليه السلام:«التائب حبيب اللّه،و التائب من الذنب كمن لا ذنب له».و قال عليه السلام:«اللّه أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية (3)مهلكة،معه راحلته عليها طعامه و شرابه،فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ و قد ذهبت راحلته فانفلتت،فطلبها حتى اشتد عليه الجوع و العطش أو ما شاء اللّه عز و جل؛قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت،فوضع رأسه على ساعده ليموت،فاستيقظ فإذا راحلته عنده،و عليها زاده و شرابه.فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته و زاده».

[فصل فى حقيقة التوبة]

حقيقة التوبة الرجوع عن طريق البعد إلى طريق القرب،و لكن لها ركن و مبدأ و كمال:أما مبدؤها فهو الإيمان،و معناه سطوع نور المعرفة على القلب حتى يتّضح فيه أن الذنوب سموم مهلكة،فيشتعل منه نار الخوف و الندم،و ينبعث من هذه النار صدق الرغبة في التلافي و الحذر.أما في الحال فبترك الذنوب،و أما في الاستقبال فبالعزم على الترك،و أما في الماضي فبالتلافي على حسب الإمكان؛و بذلك يحصل الكمال.

ص: 115


1- سوره 2 - آیه 222
2- سوره 24 - آیه 31
3- الدّوّيّة و الداوية:الفلاة.

[فصل فى وجوب التوبة على كل احد]

إذا عرفت حقيقة التوبة انكشف لك أنها واجبة على كل أحد،و في كل حال؛ و لذلك قال اللّه تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً (1) [النور:31]،فخاطب الجميع مطلقا.

أما وجوبها فلأن معناها معرفة كون الذنوب مهلكة،و الانبعاث لتركها،و هو جزء من الإيمان،أعني هذه المعرفة،فكيف لا تجب؟و أما وجوبها على كل واحد فهو أن الإنسان مركب من صفات بهيمية و سبعيّة و شيطانية و ربوبية،حتى يصدر من البهيمية الشهوة و الشره و الفجور،و من السّبعية الغضب و الحسد و العداوة و البغضاء،و من الشيطانية المكر و الحيلة و الخداع،و من الربوبية الكبر و العز و حب المدح و الاستيلاء.

و أصول هذه الأخلاق هذه الأربع،و قد عجنت في طينة الإنسان عجنا محكما لا يكاد يتخلص منها،و إنما ينجو من ظلماتها بنور الإيمان المستفاد من العقل و الشرع.فأول ما يخلق في الآدمي البهيمية فيغلب عليه الشّره و الشهوة في الصبا،ثم يخلق فيه السّبعية فيغلب عليه المعاداة و المنافسة،ثم يخلق فيه الشيطانية فيغلب عليه المكر و الخداع،إذ تدعوه السبعية و البهيمية إلى أن يستعمل كياسته في حيل قضاء الشهوة و تنفيذ الغضب.

ثم يظهر فيه بعد ذلك صفات الربوبية،و هو الكبر و الاستيلاء و طلب العلو.ثم بعد ذلك يخلق العقل الذي يظهر فيه نور الإيمان و هو من حزب اللّه و جنود الملائكة.و تلك الصفات من جنود الشيطان.و جنود العقل يكمل عند الأربعين،و يبدو أصله عند البلوغ.و أما سائر جنود الشيطان يكون قد سبق إلى القلب قبل البلوغ،و استولى عليه و ألفته النفس،و استرسلت في الشهوات متابعة لها،إلى أن يرد نور العقل فيقوم القتال و التطارد بينهما في معركة القلب.فإن ضعف جند العقل و نور الإيمان لم يقو على إزعاج جنود الشيطان فتبقى جنود الشيطان مستقرة آخرا كما سبق إلى النزول أولا،و قد سلم للشيطان مملكة القلب.و هذا القتال ضروري في فطرة الآدمي،إذ لا يتّسع له خلقة الولد لما لا يتسع له خلقة الأب؛و إنما حكى لك حال آدم صلوات اللّه عليه لتتنبّه به أن ذلك كان مكتوبا عليه،و هو مكتوب على جميع أولاده في القضاء الأزلي الذي لا يقبل التبديل؛فإذا لا يستغني أحد عن التوبة.

فصل

و أما وجوبها في كل حال،فلأن الإنسان لا يخلو في جميع أحواله عن ذنب في جوارحه أو في قلبه،و لا يخلو عن خلق من الأخلاق الذميمة مما يجب تزكية القلب عنه،

ص: 116


1- سوره 24 - آیه 31

فإنه مبعد عن اللّه،و الاشتغال بإماطته توبة،لأنه رجوع عن طريق البعد إلى طريق القرب.

فإن خلا عن جميع ذلك فلا يخلو عن غفلة عن اللّه،و ذلك أيضا طريق البعد.و يلزمه الرجوع عنه بالذكر،و لذلك قال اللّه تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (1) [الكهف:24]، و إن كان حاضرا على الدوام؛و أنّى يتصور ذلك؟فلا يخلو عن ملازمة مقام نازل عن المقامات الرفيعة وراءه،و عليه أن يترقى منه إلى ما فوقه؛و مهما ترقى منه استغفر عن مقامه الذي خلّفه،لأنه تقصير بالإضافة إلى ما أدركه؛و ذلك لا نهاية له،فذلك قال عليه السلام:«و إنه ليغان (2)على قلبي حتى أستغفر اللّه تعالى في اليوم و الليلة سبعين مرة».

و كل ذلك كان توبة منه؛إلا أن توبة العوام عن الذنوب الظاهرة،و توبة الصالحين عن الأخلاق الذميمة الباطنة،و توبة المتقين عن مواقع الريبة،و توبة المحبين عن الغفلة المنسية للذكر،و توبة العارفين عن الوقوف على مقام يتصور أن يكون وراءه مقام:

و المقامات في القرب من اللّه لا نهاية لها،فتوبة العارف لا نهاية لها أيضا.

[فصل فى ان علاج التوبة حل عقدة الاصرار]

التوبة إذا اجتمعت شرائطها،فهي مقبولة لا محالة.و لا يخفى عليك ذلك إن فهمت معنى القبول؛فمعنى القبول:أن يحصل في قلبك استعداد القبول لتجلي أنوار المعرفة في القلب،و إنما قلبك كالمرآة يحجبه عن التجلي كدورات الشهوة و الرغبة فيها،و يرتفع من كل ذنب ظلمة إليه،و من كل حسنة نور إليه،فالحسنات تصقل النفس،و لذلك قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أتبع السيئة الحسنة تمحها».و نسبة التوبة إلى القلب نسبة الصابون إلى الثوب،و لا بد أن يزول منه الوسخ إذا استعمل فيه على وجهه.و من تاب فإنما يشك في قبول التوبة لأنه ليس يستيقن تمام شروطها،كما أن من شرب المسهل لا يستيقن حصول الإسهال به لأنه لا يدري وجود تمام الشرائط في أدويتها،و لو تصور أن يعلم ذلك،لتصوّر أن يعلم القبول في حق الشخص المعين.و لكن هذا الشك في الأعيان لا يشكّكنا في أنّ التوبة في نفسها بطريق القبول لا محالة.

فصل

علاج التوبة حل عقدة الإصرار،فإنه لا مانع منها سوى الإصرار،و لا حامل عليه

ص: 117


1- سوره 18 - آیه 24
2- يغان على قلبي:تغشته الشهوة.

سوى الغفلة و الشهوة؛و ذلك مرض في القلب،و علاجه كعلاج أمراض البدن.لكن هذا المرض أكثر من مرض الأبدان لثلاثة أسباب:

أحدها:أنه من مرض لا يعرف صاحبه أنه مريض،و هو كبرص على وجه من لا مرآة له،فإنه لا يعالجه لأنه لا يعرفه،و لو أخبره غيره ربما لم يصدقه.الثاني:أن عاقبة هذا المرض لم يشاهدها الإنسان و لم يجرّبها،فلذلك تراه يتكل على عفو اللّه و يجتهد في علاج مرض البدن غاية الجهد.الثالث:و هو الداء العضال فقد الأطباء؛فإن الطبيب هو العالم العامل.و قد مرض العلماء في هذه الأعصار مرضا عسر عليهم علاج أنفسهم، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا،و قد غلب ذلك على العلماء،و اضطرّوا إلى الكف عن تحذير الخلق من الدنيا كيلا تنكشف فضيحتهم،فافتضحوا لمّا اصطلحوا على الإقبال على الدنيا و التجاذب لها و التكالب عليها.فبهذا السبب عم الداء و انقطع الدواء، و اشتغل الأطباء بفنون الإغواء،فليتهم إذا لم يصلحوا لم يفسدوا،و ليتهم سكتوا و ما نطقوا،بل صار كل واحد كأنه صخرة في فم الوادي،لا هي تشرب و لا تترك الماء ليشر به غيرها.

و جملة القول في علاجه أن تنظر في سبب الإصرار و هو يرجع إلى خمسة أبواب:

أولها:أن العقاب الموعود ليس بنقد،و الطبع يستهين بما لا يوجد محققا في الحال.و علاجه أن تتفكر لتعلم أن كلّ ما هو آت قريب،و أن البعيد ما ليس بآت،و أن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله؛فما يدريه لعله في آخر أيامه،أو في آخر سنة من عمره،ثم يتفكر أنه كيف يتعب في الأسفار فيركب الأخطار خوفا من الفقر في الاستقبال.

الثاني:أن اللّذات و الشهوات أخذت بمخنقه في الحال،فليس يقدر على قلعها، و علاجه أن يتفكر أنه لو ذكر له طبيب نصرانيّ بأن شرب الماء البارد يضره و يسوقه إلى الموت،و هو ألذّ الأشياء عنده،كيف يتركه!فليعلم أن اللّه تعالى و رسوله صلى اللّه عليه و سلم أصدق من الطبيب النصراني،و الخلود في النار أشد من الموت بالمرض،و ليقرر على نفسه أنه إذا كان يشق عليه ترك اللذات أياما قلائل،فكيف لا يشق عليه ملابسة النار و الحرمان عن الفردوس و نعيمه أبد الدهر؟

الثالث:أنه يسوّف بالتوبة يوما فيوما؛و علاجه أن يتفكر و يعلم أن بناء خطر

ص: 118

السعادة و الشقاوة على ما ليس إليه جهل،فمن أين يعلم أنه يبقى إلى أن يتوب؟و إنّ أكثر صياح أهل النار من التسويف،لأنهم سوّفوا حتى فاجأهم مرض ساقهم إلى الموت، كيف،و إنما يسوّف لأنه يعجز عن قمع الشهوات في الحال!فإن كان ينتظر يوما يسهل فيه قمع الشهوات،فهذا يوم لم يخلق أصلا،بل مثاله مثال امرئ يريد أن يقلع شجرة عجز عنها لضعفه و قوة رسوخ الشجرة،فيؤخر إلى السنة القابلة و هو يعلم أن الشجرة تزداد كلّ يوم رسوخا،و قوته تزداد كل يوم قصورا و نقصانا،و ذلك غاية الجهل.

الرابع:أن يعد نفسه بالكرم و العفو،و ذلك غاية الحمق أوردها الشيطان في معرض الدّين؛قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«الكيّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت،و الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه تعالى».

الخامس:أن يكون-و العياذ باللّه-شاكّا في أمر الآخرة؛و قد ذكرنا علاجه في خاتمة الأخلاق الذميمة.

فصل

التوبة من الذنوب كلها مهمة واجبة،و عن الكبائر أهم؛و الإصرار على الصغيرة أيضا كبيرة؛فلا صغيرة مع إصرار و لا كبيرة مع رجوع و استغفار،و تواتر الصغائر عظيم التأثير في تسويد القلب،و هو كتواتر قطرات الماء على الحجر،فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة،مع لين الماء و صلابة الحجر.و تعظم الصغيرة بأسباب:

إحداها:أن يستصغرها العبد و يستهين بها،فلا يغتم بسببها؛قال بعضهم:

الذنب الذي لا يغفر قول العبد ليت كل شيء عملته مثل هذا.الثاني:السرور بها، و التبجح بسببها،و اعتقاد التمكن منها نعمة،حتى أن المذنب ليفتخر فيقول:ما رأيتني كيف شتمته،و كيف مزقت عرضه،و كيف خدعته في المعاملة؟و ذلك عظيم التأثير في تسويد القلب.الثالث:أن يتهاون بستر اللّه عليه،و يظن أن ذلك لكرامة عند اللّه تعالى، و لا يدري أنه ممقوت؛و قد أمهل ليزداد إثما فيكون في الدرك الأسفل من النار.الرابع:

أن يجاهر بالذنب و يظهره،أو يذكره بعد فعله؛و في الخبر:كل الناس معافى إلا المجاهرون.الخامس:أن يصدر الصغيرة عن عالم يقتدى به،فذلك عظيم،لأنه يبقى بعد موته،فطوبى لمن مات و ماتت معه ذنوبه؛و من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة.و روي أن بعض علماء بني إسرائيل تاب عن ذنوبه و بدعته،

ص: 119

فأوحى اللّه إلى نبيّ زمانه أن ذنبك لو كان فيما بيني و بينك لغفرته لك،و لكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار.و على الجملة،فلا باعث على التوبة إلا الخوف الصادر عن البصيرة و المعرفة،فلنذكر فضيلة الخوف.

الأصل الثاني في الخوف:

اشارة

و قد جمع اللّه تعالى للخائفين الهدى و الرحمة و العلم و الرضوان،و ناهيك بذلك فضلا،فقال تعالى: هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (1) [الأعراف:154]، و قال: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (2) [فاطر:28]،و قال اللّه تعالى: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ.ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (3) [البيّنة:8].و قال صلى اللّه عليه و سلم:«رأس الحكمة مخافة اللّه»،و قال عليه السلام:«من خاف اللّه تعالى خافه كل شيء،و من خاف غير اللّه تعالى خوّفه اللّه من كل شيء»،و قال عليه السلام:«قال اللّه تعالى:و عزتي و جلالي لا أجمع على عبدي خوفين،و لا أجمع له أمنين،فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، و إذا خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة».

[فصل فى حقيقة الخوف]

اعلم أن حقيقة الخوف هو تألم القلب و احتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال.

و قد يكون ذلك الخوف من جريان ذنوب،و قد يكون الخوف من اللّه تعالى بمعرفة صفاته التي توجب الخوف لا محالة،و هذا أكمل و أتم،لأن من عرف اللّه خافه بالضرورة، و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (4) [فاطر:28].و قد أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام:«خفني كما تخاف السّبع الضّاري»؛و لذلك قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«أنا أخوفكم للّه تعالى».و اعلم أن الواقع في مخالب السبع إنما لا يخافه إذا لم يعرف السّبع،فإنّ من علم أن من صفة السبع أنه يهلكه و لا يبالي،فإن تركه لم يكن لرقته عليه و شفقته،فإنه أحقر عنده من أن يشفق عليه،فلا بد من أن يخاف،و للّه المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم،و لكن من عرف أنه لو أهلك الأولين و الآخرين لم يبال و لم ينقص شيء من ملكه قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (5) [المائدة:17].و كم أهلك من عباده في الدنيا، و عرّضهم لأنواع العذاب و لم تأخذه رقة و لا شفقة،فإن ذلك محال عليه،فلا بد و أن

ص: 120


1- سوره 7 - آیه 154
2- سوره 35 - آیه 28
3- سوره 98 - آیه 8
4- سوره 35 - آیه 28
5- سوره 5 - آیه 17

يخاف.فمعرفة الجلال و العزة و الاستغناء،يورث الهيبة بالضرورة،و هذا أكمل أنواع الخوف و أفضلها.

[فصل فى علاج الخوف و تحصيله]

علاج الخوف و تحصيله على رتبتين:إحداهما،معرفة اللّه تعالى،فإنها توجب الخوف بالضرورة؛فإن الواقع في مخالب السبع لا يحتاج إلى علاج ليخاف إن كان يعرف السبع.و من عرف جلال اللّه تعالى و استغناءه و أنه خلق الجنة و خلق لها أهلا، و خلق النار و خلق لها أهلا،و أنه تمت كلمته بالسعادة و الشقاوة في حق كل أحد صدقا و عدلا،و أن ذلك لا يتصور تغييره و لا يصرفه عن تنفيذ قضائه الأزليّ صارف،و هو لا يدري ما الذي سبق به القضاء في حقه،و لا يدري ما الذي يختم له به،و احتمل عنده أن يكون مقضيّا له بشقاوة الأبد،فهذا لا يتصور أن لا يخاف.و أما من عجز عن حقيقة المعرفة فعلاجه النظر إلى الخائفين،و مشاهدة أحوالهم أو سماع ذلك؛فإن أخوف خلق اللّه الأنبياء،و الأولياء،و العلماء،و أهل البصيرة،و أعظم الخلق أمنا الغافلون الأغبياء، الذين لا يمتد نظرهم لا إلى السابقة،و لا إلى الخاتمة،و لا إلى معرفة جلال اللّه تعالى.

و هذا،كما أن الصبي لا يخاف الحية ما لم ينظر إلى أبيه يخافها و يهرب منها و ترتعد فرائصه إذا رآها،فينظر إليه فيقلده،و يستشعر خوفه،و إن لم يعرف بالحقيقة صفة الحية؛و قد قال صلى اللّه عليه و سلم:«ما جاءني جبرائيل عليه السلام قط إلا و هو يرتعد فرائصه فرقا (1)من النار»،و قيل لما ظهر على إبليس ما ظهر،طفق جبرائيل و ميكائيل يبكيان،فأوحى اللّه سبحانه إليهما:ما لكما تبكيان؟قالا:يا رب ما نأمن مكرك،فقال اللّه تعالى:هكذا كونا لا تأمنا مكري! فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (2) [الأعراف:99].

و قيل لما خلق اللّه تعالى النار،طارت أفئدة الملائكة عن أماكنها،فلما خلق بني آدم عادت.و كان أزيز (3)قلب إبراهيم-عليه السلام-يسمع في الصلاة من مسيرة ميل.

و بقي داود-عليه السلام-أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت الرعى (4)من

ص: 121


1- فرق فرقا من باب تعب:خاف.
2- سوره 7 - آیه 99
3- أزّت القدر:اشتد غليانها.
4- الرعى بالكسر الكلأ جمعه أرعاء.

دموعه.و قال أبو بكر الصديق-رضي اللّه عنه-لطائر:«ليتني مثلك يا طائر و لم أخلق».و قال أبو ذر-رضي اللّه عنه-:«وددت لو أني شجرة تعضد» (1).و قالت عائشة- رضي اللّه عنه:«وددت لو أني نسيا منسيّا».و قد حكينا أحوال الخائفين في كتاب الخوف فليتأمل القاصر عن ذروة المعرفة،أحوال الأنبياء و الأولياء و العارفين،ليعلم أنه أحقّ بالخوف منهم،و إذا تأمل ذلك بالحقيقة غلبه خوفه.

فصل

الخوف سوط يسوق العبد إلى السعادة.و لا ينبغي أن يفرط بحيث يورث القنوط، فذلك مذموم؛بل إذا غلب ينبغي أن يمزج الرجاء به.نعم،ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء ما دام العبد مقارفا للذنوب،فأما المطيع المتجرد للّه تعالى،فينبغي أن يعتدل خوفه و رجاؤه،مثل عمر-رضي اللّه عنه-حيث قال:«لو نودي ليدخلن الجنة جميع الخلق إلا رجل واحد لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل،و لو نودي ليدخلن النار جميع الخلق إلا رجل واحد لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل».و أما اذا قرب الموت فالرجاء و حسن الظن بربه أولى به،قال صلى اللّه عليه و سلم:«لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بربّه».

و الرجاء يخالف التمنّي،فإن من لا يتعاهد الأرض و لا يبث البذر،ثم ينتظر الزرع،فهو متمنّ مغرور فليس براج،إنما الرّاجي من تعهد الأرض و سقاها،و بث البذر و حصل كل سبب يتعلّق باختياره،ثم بقي يرجو أن يدفع اللّه الصواعق و القواطع، و أن يمكّنه من الحصاد بعد الإنبات،و لذلك قال عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2) [البقرة:

218].و بالجملة فثمرة الرجاء الترغيب في الطلب،و ثمرة الخوف الترغيب في الهرب.

و من رجا شيئا طلبه،و من خاف شيئا هرب منه.و أقلّ درجات الخوف ما يحمل على ترك الذنوب،و على الإعراض عن الدنيا،و ما لا يحمل على ذلك فهو حديث نفس،و خواطر لا وزن لها،تشبه رقة النساء،و لا ثمرة لها؛بل الخوف إذا تم أثمر الزهد في الدنيا، فلنذكر الزهد و معناه:

ص: 122


1- أي تقطع و عضده قطعه.
2- سوره 2 - آیه 218

الأصل الثالث في الزهد:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ،وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (1) [طه:131]،و قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ،وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها،وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (2) [الشورى:20].و قال اللّه تعالى في حق قارون: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ،قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ،إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً (3) [القصص:

79،80].فبيّن أن الزهد من ثمرات العلم.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من أصبح و همّه الدّنيا شتّت اللّه عليه أمره،و فرّق عليه ضيعته،و جعل فقره بين عينيه،و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.و من أصبح و همّه الآخرة،جمع اللّه له همه،و حفظ عليه ضيعته،و جعل غناه في قلبه،و أتته الدنيا و هي راغمة».

و لما سئل صلى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (4) [الأنعام:125]،و عن معنى الشرح،قال عليه السلام:«إن النور إذا دخل القلب انشرح الصدر و انفسح،قيل:و هل لذلك من علامة؟قال:نعم التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل نزوله».و قال عليه السلام:«استحيوا من اللّه حق الحياء».و قيل إنا نستحي،قال عليه السلام:«تبنون ما لا تسكنون،و تجمعون ما لا تأكلون».و قال عليه السلام:«من زهد في الدنيا أدخل اللّه الحكمة قلبه،و أنطق بها لسانه،و عرّفه داء الدنيا و دواءها، و أخرجه منها سالما إلى دار السلام».و قال عليه السلام:«لا يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف،و حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته».و قال عليه السلام:«إذا أراد اللّه بعبد خيرا،زهّده في الدنيا،و رغّبه في الآخرة،و بصّره بعيوب نفسه»و قال عليه السلام:«ازهد في الدنيا يحبك اللّه تعالى، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس».و قال عليه السلام:«من أراد أن يؤتيه اللّه علما بغير تعلم و هدى بغير هداية فليزهد في الدنيا».

[فصل فى ان للزهد في الدنيا حقيقة و أصل و ثمرة]

للزهد في الدنيا حقيقة و أصل و ثمرة؛أما حقيقته فهو عزوف النفس عن الدنيا

ص: 123


1- سوره 20 - آیه 131
2- سوره 42 - آیه 20
3- سوره 28 - آیه 79
4- سوره 6 - آیه 125

و انزواؤها عنها طوعا مع القدرة عليها،و أصلها العلم و النور الذي يشرق في القلب حتى ينشرح به الصدر،و يتضح به أنّ الآخرة خير و أبقى،و أن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقلّ من نسبة خزفة إلى جوهرة،و ثمرتها القناعة من الدنيا بقدر الضرورة،و هو قدر زاد الراكب، فالأصل نور المعرفة،فيثمر حال الانزواء،و يظهر على الجوارح بالكفّ إلا عن قدر الضرورة في زاد الطريق.و الضروريّ من زاد الطريق مسكن و ملبس و مطعم و أثات.

أما المطعم،فله طول و عرض:أما طوله،فبالإضافة إلى الزمان،و أقصر درجاته الاقتصار على دفع الجوع في الحال،فإذا دفعه غدوة لم يدخر شيئا لعشائه،و أوسطه أن يدّخر لشهر إلى أربعين يوما فقط؛و أدناه أن يدّخر لسنة؛فإن جاوز ذلك خرج عن جميع أبواب الزهد،إلا أن لا يكون له كسب و لا يأخذ من الأيدي،كداود الطائي،فإنه ملك عشرين دينارا،فأمسكها و قنع بها عشرين سنة؛فذلك لا يبطل مقام الزهد و درجته في الآخرة إلا عند من يشرط التوكل في الزّهد.و أما عرضه فأقله نصف رطل،و أوسطه رطل،و أعلاه مدّ؛و الزيادة عليه تبطل رتبة الزهد.و أما الجنس،فأقله ما يقوت و لو النخالة،و أوسطه خبز الشعير،و أعلاه خبز البرّ غير منخول،فإن نخل فهو تنعم لا زهد.

فأما الإدام فأقله الخل و البقل و الملح،و أوسطه الأدهان،و أعلاه اللّحم؛و ذلك في الأسبوع مرة أو مرتين،فإذا دام لم يكن صاحبه زاهدا.

قالت عائشة-رضي اللّه عنها-:«كان يأتي أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مصباح و لا نار»،و قيل:ما شبع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر.

و أما الملبس فأقله ما يستر العورة و يدفع الحرّ و البرد،و أعلاه قميص و سراويل و منديل من الجنس الخشن،و يكون بحيث لو غسل ثوبه لم يجد غيره؛فإن كان صاحب القميصين لم يكن زاهدا.قال أبو ذر:أخرجت عائشة-رضي اللّه عنها-كساء ملبدا و إزارا غليظا،فقالت:«قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في هذين».و صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في خميصة (1)لها علم،فلما سلم قال:«شغلني النظر إلى هذه،اذهبوا بها إلى أبي جهم..»الحديث.و كان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير جديد،فلما سلم عن صلاتهم.

ص: 124


1- الخميصة هي ثوب خز أو صوف معلم.

قال:«أعيدوا الشراك الخلق،فإني نظرت إليه في الصلاة».و كان عليه السلام قد احتذى نعلين جديدين،فأعجبه حسنهما فخرّ ساجدا،فقال عليه السلام:«أعجبني حسنهما فتواضعت لربي خشية أن يمقتني»،ثم خرج بهما فدفعهما إلى أول مسكين رآه.و قد عدّ على قميص عمر-رضي اللّه عنه-اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم.و اشترى علي- رضوان اللّه عليه-في خلافته ثوبا بثلاثة دراهم،و قطع كميه من الرّسغين،و قال:الحمد للّه الذي هذا من رياشه.و قال بعضهم:قوّمت ثوب سفيان و نعله بدرهم و دانقين.و قال علي-رضوان اللّه عليه-:إن اللّه عز و جل أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس،ليقتدي بهم الغني و لا يزري بالفقير فقره.

و أما المسكن،فأدناه أن تقنع بزاوية في مسجد أو رباط،كأهل الصّفّة،و أعلاه أن يطلب لنفسه موضعا خاصّا و هي حجرة إما بشراء أو إجارة،بشرط أن لا يزيد سعته على قدر الحاجة.و لا يرفع بناؤه،و لا يهتم بتجصيصه،و في الأثر:أن من يرفع بناءه فوق ستة أذرع ناداه مناد إلى أين يا أفسق الفاسقين؟و مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و لم يضع لبنة على لبنة،و لا قصبة على قصبة.و قال عبد اللّه بن عمر-رضي اللّه عنهما-:مرّ بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و نحن نعالج خصّا (1)فقال:إن الأمر أعجل من ذلك.و اتخذ نوح-عليه السلام-بيتا من خص،فقيل له:لو شئت لاتخذته من الطين،فقال:هذا كثير لمن يموت.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة»،و قال عليه السلام:«كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكنّ (2)من حرّ و برد».

و أما أثاث البيت ففيه أيضا درجات،و أدناها حال عيسى ابن مريم-عليه السلام-إذ لم يكن معه إلا مشط و كوز،فرأى إنسانا يمشط بأصابعه فرمى المشط، و رأى آخر يشرب بيده،فرمى الكوز.و أوسطه،أن يستعمل الجنس الخشن واحدا في كلّ غرض،و يجتهد أن يستعمل واحدا في أغراض.و قال عمر-رضي اللّه عنه- لعمير بن سعيد-و هو أمير حمص-:ما معك من الدنيا؟فقال:معي عصاي أتوكأ عليها،و أقتل بها حية إن لقيتها،و معي جرابي أحمل فيها طعامي،و معي قصعتي آكلى.

ص: 125


1- الخص بالضم البيت من القصب.
2- أكن:ستر أو حمى.

فيها و أغسل رأسي و ثوبي،و معي مطهرتي أحمل فيها شرابي و وضوئي،فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما معي.فقال:صدقت.و قال الحسن:أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه،و ما وضع أحدهم بينه و بين الأرض ثوبا.و كان فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الذي ينام عليه و سادة من أدم حشوها ليف،و عباءة خشنة.فهذه سيرة الزهّاد في الدنيا، فمن حرم هذه الرتبة فلا أقل من أن يتحسّر على فواتها،و يجتهد أن يكون قربه منهم أكثر من قربه من المتنعّمين في الدنيا.

[فصل فى ان الزهد على درجات]

الزهد على درجات:إحداها:أن يزهد و نفسه مائلة إلى الدنيا و لكن يجاهدها؛ و هذا متزهد،و ليس بزاهد؛و لكن بداية الزهد التزهد.الثانية:أن تفر نفسه عن الدنيا و لا تميل إليها،لعلمه أن الجمع بينها و بين نعيم الآخرة غير ممكن،فتسمح نفسه بتركها، كما تسمح نفس من يبذل درهما ليشتري جوهرة،و إن كان الدرهم محبوبا عنده؛و هذا زهد.الثالثة:أن لا تميل نفسه إلى الدنيا و لا تنفر عنها،بل يكون وجودها و عدمها عنده بمثابة واحدة،و يكون المال عنده كالماء،و خزانة اللّه تعالى كالبحر،فلا يلتفت قلبه إليه رغبة و نفورا،و هذا هو الأكمل؛لأن الذي يبغض شيئا فهو مشغول به،كالذي يحبه؛ و لذلك ذمّ الدنيا عند رابعة العدوية،فقالت:«لو لا قدرها في قلوبكم ما ذممتموها».

و حمل إلى عائشة-رضي اللّه عنها-مائة ألف درهم فلم تنفر عنها،و لكن فرقتها في يومها،فقالت خادمتها:لو اشتريت بدرهم لحما تفطرين عليه،فقالت:لو ذكرتني لفعلت.فهذا هو الغنى،و هو أكمل من الزّهد؛و لكنه مظنّة غرور الحمقى،إذ كل مغرور يستشعر في نفسه أن لا علاقة لقلبه مع الدنيا؛و علامة ذلك،أن لا يدرك الفرق بين أن يسرق جميع ماله أو يسرق مال غيره،فما دام يدرك التفرقة فهو مشغول به.

فصل

كمال الزهد،هو الزهد في الزهد،بأن لا يعتدّ به و لا يراه منصبا؛فإن من ترك الدنيا و ظن أنه ترك شيئا فقد عظّم الدنيا،إذ الدنيا عند ذوي البصائر لا شيء،و صاحبها كمن منعه عن دار الملك كلب على بابه،فألقى إليه لقمة خبز و شغله بها و دخل دار الملك و جلس على سرير الملك؛فإن الشيطان كلب على باب اللّه تعالى،و الدنيا كلها أقل من لقمة بالإضافة إلى الملك،إذ اللقمة لها نسبة إلى الملك إذ يفنى بأمثالها، و الآخرة لا يتصور أن تفنى بأمثالها الدنيا لأنها لا نهاية لها.

ص: 126

فصل

الزهد باعتبار الباعث عليه على ثلاث درجات:إحداها:أن يكون باعثه الخوف من النار و هذا زهد الخائفين.الثانية:و هي أعلى منه أن يكون باعثه الرغبة في نعيم الآخرة،و هذا زهد الراجين.و العبادة على الرجاء أفضل منها على الخوف،لأن الرجاء يقتضي المحبة.الثالثة:و هي أعلاها،أن يكون الباعث عليه الترفع عن الالتفات إلى ما سوى الحق،تنزيها للنفس عنه،و استحقارا لما سوى اللّه؛و هذا زهد العارفين،و هو الزهد المحقق،و ما قبله معاملة،إذ ينزل صاحبها عن شيء عاجلا ليعتاض عنه أضعافه آجلا.

فصل

الزهد باعتبار ما فيه من الزهد على درجات،و كماله الزهد في كلّ ما سوى اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة،و دونه الزهد في الدنيا خاصة دون الآخرة.ثم يدخل فيه كل ما فيه حظ و تمتع في الدنيا،من مال و جاه و تنعم.و دون ذلك أن يزهد في المال دون الجاه، أو في بعض الأشياء دون البعض،و ذلك ضعيف،لأن الجاه ألذّ و أشهى من المال، فالزهد فيه أهمّ.

فصل

الزهد أن تنزوي عن الدنيا طوعا مع القدرة عليها،أما إن انزوت الدنيا عنك و أنت راغب فيها،فذلك فقر و ليس بزهد.و لكن للفقر أيضا فضل على الغنى،لأنه منع عن التمتع بالدنيا،و هذا هو أفضل ممن مكّن من الدنيا و التمتع بها حتى ألفها و اطمأن إليها، و لم يتجاف قلبه عنها،فيعظم الألم و الحسرة عند الموت،و تكون الدنيا كأنها جنة الغنيّ،و تكون كأنها سجن الفقير،إذ يشتهي الخلاص من آلامها.و الفقر من أسباب السعادة؛قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه تعالى يحمي عبده عن الدنيا و هو يحبه،كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام و الشّراب»،و قال عليه السلام:«يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام»،و قال عليه السلام:«خير هذه الأمة فقراؤها»،و قال عليه السلام:«إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصّالحين،و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجّلت عقوبته»،و قال موسى-عليه السلام-:يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟فقال:كل فقير.

ص: 127

و اعلم أن الفقير إن كان قانعا بما أعطي،غير شديد الحرص على الطلب، فدرجته قريب من درجة الزاهد.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«طوبى لمن هدي للإسلام و كان عيشه كفافا و قنع به».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«الفقراء الصبراء هم جلساء اللّه تبارك و تعالى».و قال عليه السلام:

«أحب العباد إلى اللّه تعالى الفقير القانع».و أوحى اللّه تعالى إلى إسماعيل-صلوات اللّه عليه و سلامه-اطلبني عند المنكسرة قلوبهم،قال:و من هم؟قال:الفقراء الصادقون.

و على الجملة،إنما يعظم ثواب الفقير عند القناعة و الصبر،و الرضى و الصبر على الفقر مبدأ الزهد،و لا تتم هذه المقامات إلا بالصبر فلنذكره:

الأصل الرابع في الصبر:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (1) [الأنفال:46]،و جمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم،فقال عزّ من قائل: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ،وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (2) [البقرة:157].و قال تعالى: وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (3) [النحل:96].و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا (4) [السجدة:24].و قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (5) [الزمر:10].و ذكر اللّه سبحانه في القرآن الصبر في نيف و سبعين موضعا.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«الصبر نصف الإيمان»،و قال عليه السلام:«من أقلّ ما أوتيتم، اليقين و عزيمة الصبر،و من أعطي حظّه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل و صيام النهار».و قال عليه السلام:«الصبر كنز من كنوز الجنّة».و سئل النبي-عليه السلام- مرة عن الإيمان فقال:«هو الصبر».و قال عيسى-عليه السلام-:إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون.

[فصل فى حقيقة الصبر]

حقيقة الصبر ثبات باعث الدّين في مقابلة باعث الهوى،و هو من خاصية الآدميّ الذي هو كالمركّب من شعب ملكيّة و بهيمية،لأن البهيمة لم يسلّط عليها إلا دواعي الشهوة،و الملائكة لم يسلّط عليهم الشهوة بل جرّدوا للشوق إلى مطالعة جمال الحضرة الربوبية،و الابتهاج بدرجة القرب منها،فهم يسبّحون الليل و النهار لا يفترون؛فليس فيهم داعية الشهوة.فلم يتصور الصبر لملك و لا بهيمة،بل الإنسان سلّط عليه جندان يتطاردان،أحدهما من حزب اللّه و ملائكته،و هو العقل و بواعثه،و الثاني من جنود

ص: 128


1- سوره 8 - آیه 46
2- سوره 2 - آیه 157
3- سوره 16 - آیه 96
4- سوره 32 - آیه 24
5- سوره 39 - آیه 10

الشيطان و هي الشهوات و دواعيها بعد البلوغ يظهر بواعث الدين و العقل إذ يحمل على النظر إلى العواقب،و تبتدئ بقتال جند الشيطان،فإن ثبت باعث الدين في مقابلة باعث الهوى حتى غلبه،فقد حصل مقام الصبر،إذ لا يتصور الصبر،إلا عند تعارض الباعثين على التناقض،و ذلك كالصبر على شرب الدواء البشيع،إذ يدعو إليه داعي العقل،و يمنع منه داعي الشهوة.و كل من غلبته شهوته لم يعزم عليه،و من غلب عقله شهوته صبر على مرارته لينال الشفاء.و شطر الإيمان إنما يتم بالصبر؛و لذلك قال النبي- عليه السلام-:«الصبر نصف الإيمان»،لأن الإيمان يطلق على المعارف و الأعمال جميعا،و سائر الأعمال في طرفي الكف و الإقدام و التزكية و التحلية لا يتم إلا بالصبر؛لأن جملة أعمال الإيمان على خلاف باعث الشهوة،فلا يتم إلا بثبات باعث الدين في مقابلته؛و لذلك قال-عليه السلام-:«الصوم نصف الصبر»،لأن الصبر تارة في مقابلة داعي الشهوة،و تارة في مقابلة داعي الغضب؛و الصوم هو كسر لداعية الشهوة.

[فصل فى درجات الصبر]

الصبر له ثلاث درجات بحسب ضعفه و قوته:

الدرجة العليا:أن تقمع داعية الهوى بالكلية،حتى لا يبقى لها قوة للمنازعة.

و يتوصل إليها بدوام الصبر و طول المجاهدة؛و ذلك من الذين قيل لهم: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا (1) [فصلت:30،الأحقاف:13]،و إياهم ينادي المنادي:

يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (2) [الفجر:27،28].

الدرجة السفلى:أن تقوى داعية الهوى و تسقط منازعة باعث الدين،و يغلب الهوى و يسلم القلب لجند الشيطان؛و ذلك من الذين قيل فيهم: وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ (3) [السجدة:13].و علامته شيئان:

أحدهما،أن يقول:أنا أشتاق إلى التوبة و لكن تعذرت عليّ،فلست أطمع فيها؛فهذا هو القانط و هو الهالك.الثاني:أن لا يبقى فيه شوق إلى التوبة،و لكن يقول:اللّه كريم رحيم و هو مستغن عن توبتي فلا تضيق الجنة الواسعة و المغفرة الشاملة عنّي.و هذا المسكين قد صار عقله أسير شهوته،و لا يستعمله إلا في استنباط حيل قضاء الشهوة، فصار عقله كالمسلم الأسير بين الكفّار،يستسخرونه في رعاية الخنازير،و حفظ الخمور،و حملها على العنق و الظهر إلى بيوتهم.فانظر كيف يكون حال العبد إذا أخذ

ص: 129


1- سوره 41 - آیه 30
2- سوره 89 - آیه 27
3- سوره 32 - آیه 13

أعز أولاد الملك و سلمه إلى أخس أعدائه حتى استرقه و استسخره،ففي مثل حاله يكون قدوم هذا الغافل المنهمك على اللّه تعالى.نعوذ باللّه منه.

الدرجة الوسطى:أن لا يفتر على المحاربة،و لكن يكون الحرب بينهما سجالا، تارة له اليد،و تارة عليه اليد؛و هذا من المجاهدين الذين خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً... (1) [التوبة:102]الآية.و علامة هذا أن يترك من الشهوات ما هو أضعف، و يعجز عما هو أغلب؛و ربما يغلبها في بعض الأوقات دون بعض،و هو في جميع الأحوال متحسر على عجزه،و مستمر المعاودة إلى مجاهدته و قتاله،و ذلك هو الجهاد الأكبر.و مهما اتقى و صدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى.و بالجملة فقد قصر عن البهيمة إنسيّ لم يقاوم بقوة عقله شهوته و قد أيد بالعقل و حرم عنه البهيمة،و لذلك قال اللّه تعالى:

«أولئك كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا» (2).

فصل

اعلم أن الحاجة إلى الصبر عامة في جميع الأحوال،لأن جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين:فإنه إمّا أن يوافق هواه أو يخالفه.فإن وافق هواه كالصحّة و السّلامة و الثروة و الجاه و كثرة العشيرة،فما أحوجه إلى الصبر معها،فإنه إن لم يضبط نفسه طغى و استرسل في التنعم و اتباع الهوى،و نسي المبتدى و المنتهى؛و لذلك قالت الصحابة-رضوان اللّه عليهم أجمعين-بلينا بفتنة الضرّاء فصبرنا،و بلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر؛و لذلك قيل:يصبر على البلاء كلّ مؤمن،و لا يصبر على العافية إلا صدّيق.

و معنى الصبر فيها،أن لا يركن إليها،و يعلم أن كل ذلك وديعة عنده،و يسترجع على القرب،و أن لا ينهمك في الغفلة و التنعّم،و يؤدي حق شكر النعمة،و ذلك مما يطول شرحه.

النوع الثاني:ما يخالف الهوى،و ذلك أربعة أقسام:

القسم الأول الطاعات:و النفس تنفر عن بعضها بمجرّد الكسل كالصلاة،و عن بعضها بالبخل كالزكاة،و عن بعضها بهما جميعا كالحج و الجهاد،و الصبر على الطاعة

ص: 130


1- سوره 9 - آیه 102
2- نصّ الآية 179 من سورة الأعراف: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ .و نص الآية 44 من سورة الفرقان: إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً .

من الشدائد.و يحتاج المطيع إلى الصبر في ثلاث أحوال:أحدها:أول العبادة بتصحيح الإخلاص،و الصبر عن شوائب الرياء و مكايد الشيطان،و مكايد النفس و غرورها.

الثانية:حالة العمل كيلا يتكاسل عن تحقيق أدائه بفروضه و سننه،و يوقع على شرط الأدب مع حضور القلب و نفي الوسواس.الثالثة:بعد الفراغ،و هو أن يصبر عن ذكره و إفشائه للتظاهر به رياء و سمعة.و كل ذلك من الصبر الشديد على النفس.

القسم الثاني المعاصي:و قد قال صلى اللّه عليه و سلم:«و المجاهد من جاهد هواه،و المهاجر من هجر السوء»،و الصبر عن المعاصي أشدّ،لا سيما عن معصية صارت عادة مألوفة،إذ يتظاهر فيه على بواعث الدين جندان:جند الهوى،و جند العادة.فإن انضم إلى ذلك سهولة و خفة المئونة فيه،لم يصبر عنها إلا الصدّيق؛و ذلك كمعاصي اللسان،فإنها هيّنة سهلة؛و ذلك كالغيبة و الكذب و المراء و الثناء على النفس.و يحتاج في دفع ذلك إلى أشد أنواع الصبر.

القسم الثالث:ما لا يرتبط باختيار العبد،و لكن له اختيار في دفعه و تداركه، كالأذى الذي يناله من غيره بيد أو لسان.فالصبر على ذلك بترك المكافاة تارة يجب، و تارة يستحب.قال بعض الصحابة:ما كنا نعد إيمان الرجل إيمانا إذا لم يصبر على الأذى.قال اللّه عز و جل: وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا،وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (1) [إبراهيم:12].و قال اللّه تعالى: وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (2) [الأحزاب:48].

و قال تعالى: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السّاجِدِينَ (3) [الحجر:97].

القسم الرابع:ما لا يدخل أوله و آخره تحت الاختيار،كالمصائب بموت الأعزّة، و هلاك الأموال،و المرض،و ذهاب بعض الأعضاء،و سائر أنواع البلاء،و الصبر عليه من أعلى المقامات.قال ابن عباس-رضي اللّه عنه-:الصبر في القرآن على ثلاث مقامات:صبر على أداء الفرائض و له ثلاثمائة درجة،و صبر على محارم اللّه تعالى و له ستمائة درجة،و صبر على المصيبة عند الصدمة الأولى و له تسعمائة درجة.و قال صلى اللّه عليه و سلم:

قال اللّه تعالى:«إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر و لم يشتك إلى عوّاده أبدلته لحما خيرا من لحمه،و دما خيرا من دمه،فإن أبرأته أبدلته و لا ذنب له،و إن توفيته فإلى رحمتي».و قال النبي-عليه السلام-:«قال اللّه تعالى:إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو

ص: 131


1- سوره 14 - آیه 12
2- سوره 33 - آیه 48
3- سوره 15 - آیه 97

في ماله أو ولده،ثم استقبل ذلك بصبر جميل،استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا،أو أنشر له ديوانا».و قال عليه السلام:«انتظار الفرج بالصبر عبادة».و قال عليه السلام:«من إجلال اللّه تعالى و معرفة حقه أن لا تشكو وجعك،و لا تذكر مصيبتك».

فقد عرفت أنك لا تستغني عن الصبر في جميع أوقاتك،و به يظهر أنه شطر الإيمان؛ و شطره الآخر فيما يتعلق بالأعمال و هو الشكر،فقد قال صلى اللّه عليه و سلم:«الإيمان نصفان:نصف صبر،و نصف شكر».و هذا باعتبار النظر إلى الأعمال و التعبير بالإيمان عنها.

الأصل الخامس الشكر:

اشارة

و قد قال اللّه تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (1) [سبأ:13]و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (2) [إبراهيم:7]،و قال: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (3) [البقرة:152]، و قال: وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ (4) [آل عمران:144]،و قال: ما يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ (5) [النساء:147].و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«للطاعم الشاكر منزلة الصائم الصابر عند اللّه».و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يبكي في تهجده،فقالت عائشة-رضي اللّه عنها- و ما يبكيك؟و قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخر.فقال-عليه السلام-:«أ فلا أكون عبدا شكورا؟»،و قال:«ينادى يوم القيامة ليقم الحامدون،فيقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنّة»،فقيل و من الحامدون؟قال:«الذين يشكرون اللّه على كل حال».و قال:«الحمد رداء الرحمن».

[فصل فى مقام الشكر]

اعلم أن الشكر من المقامات العالية،و هو أعلى من الصبر و الخوف و الزهد و جميع المقامات التي سبق ذكرها،لأنها ليست مقصودة في أنفسها،و إنما تراد لغيرها.

فالصبر يراد منه قهر الهوى،و الخوف سوط يسوق الخائف إلى المقامات المقصودة المحمودة،و الزهد هرب من العلائق الشاغلة عن اللّه تعالى،و أما الشكر فمقصود في نفسه و لذلك لا ينقطع في الجنة،و ليس فيها توبة و لا خوف و لا صبر و لا زهد.و الشكر دائم في الجنة،و لذلك قال اللّه تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (6) [يونس:10].و تعرف ذلك بأن تعرف حقيقة الشكر،و أنه ينتظم من علم و حال و عمل:

أما العلم،فالعلم بالنعمة و المنعم،بأن النّعم كلها من اللّه تعالى،و هو المنفرد بجميعها.و الوسائط كلّهم مسخرون مقهورون.و هذه المعرفة وراء التقديس و التوحيد،

ص: 132


1- سوره 34 - آیه 13
2- سوره 14 - آیه 7
3- سوره 2 - آیه 152
4- سوره 3 - آیه 144
5- سوره 4 - آیه 147
6- سوره 10 - آیه 10

فإنهما داخلان فيه؛بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس،ثم إذا عرفت ذاتا مقدسة و عرفت أنه لا مقدس إلا واحد،فهو التوحيد.ثم إذا علمت أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد،و الكل نعمة منه خاصة،فهو الحمد.و إلى هذا الترتيب الإشارة بقوله صلى اللّه عليه و سلم:«من قال سبحان اللّه،فله عشر حسنات،و من قال لا إله إلا اللّه،فله عشرون حسنة،و من قال الحمد للّه،فله ثلاثون حسنة».و هذا لأن التقديس و التوحيد داخلان في الحمد و زيادة،و هذه الدرجات بإزاء هذه المعارف.و أما حركة اللسان ففضلها بحسب صدورها عن المعرفة أو تجديدها للاعتقاد في القلب،فإن الفم آلة لإزالة الغفلة لينمحي أثرها.

و اعلم أنك إذا اعتقدت أن لغير اللّه دخلا في النعمة الواصلة إليك لم يصح حمدك،و لم تتم معرفتك و شكرك،و كنت كمن يخلع عليه الملك و هو يرى أن لعناية الوزير دخلا في خلعة الملك أو في إيصاله إليه.أو في تيسيرها؛و كل ذلك اشتراك في النعمة،و يتوزع فرحك في النعمة عليهما.نعم،لو رأيت الخلعة الواصلة إليك بتوقيع الملك بقلمه،فذلك لا يقصر من شكرك،لأنك تعلم أن القلم مسخر له،لا دخل له في النعمة بنفسه؛و لذلك لا يلتفت قلبك إلى الفرح بالقلم و الشكر له؛و لذلك قد لا يلتفت إلى الخازن و الوكيل إذ يعلم أنهما مضطران إلى العطاء بعد الأمر،مسخران لا مدخل لهما بأنفسهما في النّعمة.

فكذلك من انفتحت بصيرته علم أن الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمر اللّه تعالى،كالقلم و الكاغد (1)و الحبر في التّوقيع؛و أن قلوب الخلق خزائن اللّه تعالى، و مفاتيحها بيد اللّه عز و جل،فيفتحها بأن يسلط عليها دواعي جازمة حتى يعتقد أن خيرها في البذل مثلا،و عند ذلك لا يستطيع ترك البذل،فيكون مضطرا إلى الاختيار لما سلط عليه من دواعي الاختيار،فإنه لا يعطيك أحد شيئا إلا لغرض نفسه ليستفيد به في الآجل ثوابا،و في العاجل ثناء و ذكرا،أو غير ذلك؛و ما لم يعلم أن منفعته في منفعتك،فلا يعطيك؛فإذا ليس هو منعما عليك إذ يسعى لنفسه،إنما المنعم عليك من سخره و سلّط هذه الدواعي عليه،و قرر في نفسه أن غرضه منوط بالأداء و الإنعام.فإن عرفت الأمورة.

ص: 133


1- الكاغد:الورق،أو القرطاس،و الكلمة فارسية.

كذلك،كنت موحّدا و تصوّر منك الشكر،بل هذه المعرفة هي عين الشكر.قال موسى- عليه السلام-في مناجاته:إلهي خلقت آدم بيدك و فعلت و فعلت،فكيف شكرك؟قال:

علم أن ذلك منّي فكان معرفة ذلك شكرا.

الركن الثاني:الحال المستثمرة من المعرفة،و هي الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع و الإجلال.و من يرسل إليه بعض الملوك فرسا فيتصور أن يفرح به من ثلاثة أوجه:إحداها من حيث أنه ينتفع بالفرس،أو من حيث يستدل به على عناية الملك بشأنه،و أنه سينعم عليه بما هو أعظم منه،أو من حيث أن الفرس يكون مركبا له حتى يسافر إلى حضرة الملك و يخدمه.و الأول ليس من الشكر في شيء،فإنه فرح بالنعمة لا بالمنعم.و الثاني،داخل في الشكر شيئا،لكنه ضعيف بالإضافة إلى الثالث،فكمال الشكر أن يكون الفرح بما يفتح اللّه تعالى من نعمه،لا بالنعمة من حيث هي نعمة،بل بها من حيث إنها وسيلة إليه،إذ بنعمته تتم الصالحات،و علامة هذا أن لا يفرح بكلّ نعمة تلهيه عن ذكر اللّه تعالى،بل يغتمّ بها و يفرح بما زوى (1)اللّه تعالى عنه من شغل الدنيا و فضولها،و هذا أكمل الشكر.فمن لم يستطع فعليه بالثاني.و أما الأول،ففرح بالنّعمة لا بالمنعم،و ليس ذلك من الشكر في شيء.

الركن الثالث:العمل؛و ذلك بأن يستعمل نعمه في محابّه لا في معاصيه،و هذا لا يقوم به إلا من يعرف حكمة اللّه تعالى في جميع خلقه،و أنه لما ذا خلق كل شيء؛و شرح ذلك يطول.و قد ذكرنا منه طرفا في الإحياء (2)،و جملته أن يعلم مثلا أن عينه نعمة منه، فشكرها أن يستعملها في مطالعة كتاب اللّه،و كتب العلم،و مطالعة السموات و الأرض، ليعتبر بهما و يعظم خالقها،و أن يستر كلّ عورة يراها من المسلمين،و يستعمل أذنه في سماع الذكر،و ما ينفعه في الآخرة،و يعرض عن الإصغاء إلى الهجر و الفضول، و يستعمل اللسان في ذكر اللّه تعالى و الحمد له،في إظهار الشكر منه دون الشكوى؛و من سئل عن حاله فشكى فهو عاص،لأنه شكا ملك الملوك إلى عبد ذليل لا يقدر على شيء،فإن شكر فهو مطيع.و أما شكر القلب،فاستعماله في الفكر و الذكر و المعرفةي.

ص: 134


1- زوى:منع،و صرف.
2- إحياء علوم الدين من أعظم مؤلفات الغزالي.

و إضمار الخير للخلق و حسن النية،و كذلك في اليد و الرجل و سائر الأعضاء و الأموال، و غير ذلك مما لا ينحصر.

فصل

اعلم أنه إنما يتمكن في كمال الشكر،من شرح اللّه صدره للإسلام،فهو على نور من ربه،يرى في كل شيء حكمته و سره و محبوب اللّه فيه.و من لم ينكشف له ذلك فعليه باتباع السنّة و حدود الشرع،فتحتها أسرار الشكر.و ليعلم أنه لو نظر إلى غير محرم مثلا فقد كفر نعمة العين،و نعمة الشمس،و كل نعمة لا يتم النظر إليها إلا بها،فإن الإبصار إنما يتم بالعين و نور الشمس،و الشمس إنما تتم بالسماوات،فكأنه كفر أنعم اللّه تعالى في السموات و الأرض.و قس على هذا كل معصية،فإنها إنما تتمكن بأسباب تستدعي وجود جميعها خلق السموات و الأرض.و لهذا غور عميق أشرنا إليه في كتاب الشكر من كتاب الإحياء؛و يكفيك هاهنا مثال واحد:و هو أن اللّه تعالى خلق الدراهم و الدنانير لتكون حاكمة في الأحوال كلها،يقدّر بها القيم،و لولاها لتعذرت المعاملات،إذ لا يدرى كيف يشتري الثياب بالزّعفران،و الدواب بالأطعمة،فإنها لا مناسبة بينهما،و إنما يشتركان في روح المالية.و معيار مقدار أرواحهما هو النّقدان،فمن كنزهما كان كمن حبس حاكما من حكام المسلمين حتى تعطلت الأحكام.و من اتخذ منهما آنية،كان كمن استعمل حاكما من حكام المسلمين في الحياكة و الفلاحة التي يقدر عليها كلّ أحد حتى يتعطل الحكم،و ذلك أشد من الحبس.و من أربى فيهما و جعلهما مقصد تجارته بالمصارفة بين جيّدهما و رديئهما كان كمن شغل الحاكم عن الحكم،فاتخذه سخرة لنفسه ليحتطب له،و يكنس له،و يكتسب له القوت.و كل ذلك ظلم و تغيير لحكم اللّه عز و جل في خلقه و عباده و معاداة للّه تعالى في محابه.و من لا ينكشف له بنور البصيرة هذه الأسرار،عرف على لسان الشرع صورته دون معناه،و قيل له: اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1) إلى قوله تعالى:

...يَكْنِزُونَ (2) [التوبة:34،35].

و قيل:«من شرب في إناء من ذهب أو فضة،فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

و قيل: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ (3) [البقرة:

275]الآية.فالصالحون يقفون على الحدود و لا يعرفون أسرارها،و العارفون إذا

ص: 135


1- سوره 9 - آیه 34
2- سوره 9 - آیه 34
3- سوره 2 - آیه 275

اطّلعوا على الأسرار بأنفسهم و شاهدوا شواهد الشرع ازدادوا نورا على نور،و العميان الجاهلون يحرمون الوقوف على الحدود،و العثور على الأسرار جميعا،فلا هم كعبيد أتقياء،و لا كأحرار كرام؛و هم الذين قال فيهم: وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي... (1) (2)الآية.

و قال تعالى: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى... (3) [الرعد:

19]الآية.و قال: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي،فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً (4) ،إلى قوله: فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (5) [طه:124-126].و آيات اللّه حكمته في خلقه.و قد ألقيت إلى الخلق على لسان الأنبياء-صلوات اللّه عليهم-كما فصلت في جملة الشريعة من أولها إلى آخرها.و ما من حد من حدود الشرع إلا و فيه سر،و خاصية،و حكمة،يعرفها من يعرفها،و ينكرها من يجهلها.و شرح ذلك طويل،فليطلب من كتاب الشكر.و لا يتصور تمام الشكر إلا ممن قام للّه تعالى وحده،مخلصا لا رغبة فيه لغيره؛فلنذكر الإخلاص و الصّدق:

الأصل السادس الإخلاص و الصدق:

اشارة

اعلم أن للإخلاص حقيقة و أصلا و كمالا،فهذه ثلاثة أركان.و أصله النيّة،إذ فيها الإخلاص.و حقيقته نفي الشّوب (6)عن النية،و كماله الصدق.

[اركان الاخلاص]

الركن الأول النية:
اشارة

و قد قال اللّه تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (7) [الأنعام:52]و معنى النية إرادة وجهه.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إنما الأعمال بالنيات...»الحديث.و قال:«إن الملائكة ترفع صحيفة عمل العبد فيقول اللّه تعالى:ألقوها،فإنه لم يرد بها وجهي،و اكتبوا له كذا و كذا،فيقول الملائكة:إنه لم يعمل منها شيئا،فيقول اللّه عز و جل:إنه نواه إنه نواه».و قال صلى اللّه عليه و سلم:«الناس أربعة:رجل أتاه اللّه علما و مالا،فهو يعمل بعلمه في ماله،فيقول رجل:لو آتاني اللّه ما آتاه لعملت كما يعمل،فهما في الأجر سواء،و رجل آتاه اللّه مالا،و لم يؤته علما فهو يخبط بجهله في ماله،فيقول رجل:لو آتاني اللّه تعالى ما آتاه لعملت كما يعمل فهما في الوزر

ص: 136


1- سوره 32 - آیه 13
2- من الآية 13 من سورة السجدة؛و تمامها: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ .
3- سوره 13 - آیه 19
4- سوره 20 - آیه 124
5- سوره 20 - آیه 126
6- الشوب:ما خلطته بغيره.
7- سوره 6 - آیه 52

سواء»،و قال عليه السلام:«من غزى و لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى».و يقال إن رجلا في بني إسرائيل مرّ بكثبان رمل في أيام قحط،فقال في نفسه:لو كان لي هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس،فأوحى اللّه تعالى إلى نبيهم:«قل له إن اللّه تعالى قد قبل صدقتك، و شكر حسن نيتك،و أعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدّقت به».و قال عليه السلام:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما،فالقاتل و المقتول في النار».فقيل:ما بال المقتول؟فقال:

«أراد قتل صاحبه».و قال عليه السلام:«من تزوج امرأة على صداق و هو لا ينوي أداءه فهو زان،و من أدان دينا و هو لا ينوي قضاءه فهو سارق».

[فصل فى حقيقة النية]

حقيقة النية هي الإرادة الباعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة.و بيانه أن جميع أعمالك لا تصح إلا بقدرة و إرادة و علم؛و العلم يهيج الإرادة،و الإرادة باعثة للقدرة، و القدرة خادمة الإرادة بتحريك الأعضاء،مثاله:أنه خلق فيك شهوة الطّعام إلا أنها قد تكون فيك راكدة كأنها نائمة.و إذا وقع بصرك على طعام حصلت المعرفة بالطعام، فانتهضت الشهوة للطعام،فامتدت إليه اليد،و إنما امتدت اليد بالقوة التي فيها،المطيعة لإشارة الشهوة،و انتهضت الشهوة بحصول المعرفة المستفادة من طليعة الحسّ.و كما خلق فيك شهوة إلى الأشياء الحاضرة،خلق فيك أيضا ميل إلى اللذّات الآجلة ينتهض ذلك الميل بإشارة المعرفة الحاصلة من العقل،و القدرة أيضا تخدم هذا الميل بتحريك الأعضاء،فالنية عبارة عن الميل الجازم الباعث للقدرة،و الذي يغزو قد يكون الباعث له ميلا إلى المال فذلك نيته،و قد يكون الباعث ميلا إلى ثواب الآخرة فذلك نيته؛فإذا النية عبارة عن الإرادة الباعثة،و معنى إخلاصها تصفية الباعث عن الشّوب.

[فصل النية و العمل بهما تمام العبادة]

إذا حصل العمل بباعث النية،فالنية و العمل بهما تمام العبادة.فالنية أحد جزئي العبادة،لكنها خير الجزءين،لأن الأعمال بالجوارح ليست مرادة إلا لتأثيرها في القلب، ليميل إلى الخير،و ينفر عن الشر،فيتفرغ للفكر و الذكر الموصلين له إلى الأنس و المعرفة،اللذين هما سبب سعادته في الآخرة.فليس المقصود من وضع الجبهة على الأرض،وضع الجبهة على الأرض،بل خضوع القلب؛و لكن القلب يتأثر بأعمال الجوارح.و ليس المقصود من الزكاة إزالة الملك،بل إزالة رذيلة البخل،و هو قطع

ص: 137

علاقة القلب من المال.و ليس المقصود من الضحية لحومها و لا دماؤها،و لكن استشعار القلب للتقوى بتعظيم شعائر اللّه تعالى.و النية عبارة عن نفس ميل القلب إلى الخير،فهو متمكّن من حدقة المقصود،فهو خير من عمل الجوارح الذي إنما يراد منه سراية أثره إلى محل المقصود و هو القلب؛و لذلك يورث جميع أعمال القلب دون الجوارح فيه أثرا ما.

و عمل الجارحة دون حضور القلب هباء و لا أثر له.و مهما قصد فمعالجة المعدة بما يصل من الأدوية بالشّرب إليها أنفع لا محالة مما يطلى به ظاهر المعدة ليسري إليها أثره.

و كذلك إذا لم يسر أثر الطلاء إلى المعدة كان باطلا.و بهذا التحقيق يعرف سر قوله صلى اللّه عليه و سلم:

«نيّة المؤمن خير من عمله».

[فصل في فضل النية]

في فضل النية و أنها تحل حدقة المقصود فيؤثّر فيها،فاجتهد أن تستكثر من النية في جميع أعمالك،حتى تنوي بعمل واحد نيات كثيرة؛و لو صدقت رغبتك هديت لطريقه.و يكفيك مثال واحد،و هو أن الدخول في المسجد و القعود فيه عبادة.و يمكن أن تنوي فيه ثمانية أمور:

أولها:أن تعتقد أنه بيت اللّه عز و جل،و أن داخله زائر اللّه تعالى فتنوي ذلك؛قال عليه السلام:«من قعد في المسجد فقد زار اللّه تعالى».و حقّ على المزور إكرام زائره، و ثانيها:نية المرابطة،لقول اللّه تعالى: وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا (1) [آل عمران 200].و قيل معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة.و ثالثها:الاعتكاف،و معناه كفّ السمع و البصر و الأعضاء عن الحركات المعتادة،فإنه نوع صوم؛قال صلى اللّه عليه و سلم:«رهبانية أمّتي القعود في المساجد».و رابعها:الخلوة،و رفع الشواغل للزوم السرّ للفكر في الآخرة،و كيفية الاستعداد لها.و خامسها:التجرّد للذكر و سماعه أو إسماعه،لقوله صلى اللّه عليه و سلم:«من غدا إلى المسجد يذكر اللّه تعالى أو يذكر به،كان كالمجاهد في سبيل اللّه تعالى:».و سادسها:

أن يقصد إفادة علم و تنبيه من يسيء الصلاة و نهيا عن منكر و أمرا بمعروف،حتى يتيسر بسببه خيرات و يكون شريكا فيها.و سابعها:أن تترك الذنوب حياء من اللّه عز و جل بأن يحسن نيته في نفسه،و قوله و عمله،حتى يستحي منه من رآه أن يقارف (2)ذنبا.و ثامنها:

أن تستفيد أخا في اللّه،فإن ذلك غنيمة و ذخيرة لدار الآخرة.

ص: 138


1- سوره 3 - آیه 200
2- يقارف:يرتكب ذنبا.

و المسجد يعشّش أهل الدين المحبين للّه و في اللّه.و قس على هذا سائر الأعمال، فباجتماع هذه النيات،تزكو الأعمال،و تلتحق بأعمال المقرّبين،كما أنه بنقيضها يلتحق بأعمال الشياطين،كمن يقصد من القعود في المسجد التحدّث بالباطل،و التفكه بأعراض الناس،و مجالسة أخدان (1)اللهو و اللّعب،و ملاحظة من يجتاز به من النّسوان و الصبيان،و مناظرة من ينازعه من الأقران على سبيل المباهاة و المراءاة،باقتناص قلوب المستمعين لكلامه و ما يجري مجراه.و كذلك لا ينبغي أن يغفل في المباحات عن حسن النية،ففي الخبر:أن العبد يسأل يوم القيامة عن كلّ شيء حتى عن كحل عينيه،و عن فتات الطين بإصبعيه،و عن لمسه ثوب أخيه.و مثال النية في المباحات أن من يتطيب يوم الجمعة يمكنه أن يقصد التنعم بلذته و التفاخر بإظهار ثروته،أو التزويق للنساء و أخدان الفساد،و يتصور أن ينوي اتّباع السنّة و تعظيم بيت اللّه تعالى،و احترام يوم الجمعة، و دفع الأذى عن غيره بدفع الرائحة الكريهة،و إيصال الراحة إليهم بالرائحة الطيبة،و حسم باب الغيبة،إذا شموا منه رائحة كريهة.و إلى الفريقين الإشارة بقوله صلى اللّه عليه و سلم:«من تطيب في اللّه جاء يوم القيامة و ريحه أطيب من ريح المسك،و من تطيب لغير اللّه جاء يوم القيامة و ريحه أنتن من الجيفة».

[فصل فى أن النية لا تدخل تحت الاختيار]

اعلم أن النية لا تدخل تحت الاختيار،فلا ينبغي أن تغتر فتقول بلسانك و قلبك:

نويت من القعود في المسجد كذا و كذا؛و تظن أنك قد نويت،إذ عرفت من قبل أن النية هي الباعث المتحرك الذي لولاه لم يتصور وجود العمل.و النية المتكلّفة كقول القائل:

نويت أن أحب فلانا و أعشقه و أعظّمه؛أو نويت أن أعطش أو أجوع أو أشبع.فإن لكل هذه دواعي و صوارف،و تحقّقها أسبابها،إذ لا يتصور حصولها دون أسبابها.و قول القائل:نويتها قبل تحققها،حديث نفس لا نيّة.فمن وطئ لغلبة شهوة الوقاع من أين ينفعه قوله نويت الوطء لحراثة الولد و تكثير عدد من به المباهاة،بل لا تظفر بانبعاث هذه النيات من قلبك إلا إذا قوي إيمانك و تمّت معرفتك بحقارة الحظوظ العاجلة،و عظم ثواب الآخرة،حتى إذا غلب ذلك عليك انبعث منك الرغبة ضرورة في كل ما هو وسيلة

ص: 139


1- أخدان:جمع خدن،و هو الصاحب.

إلى ثواب الآخرة،و إن لم ينبعث فلا نيّة لك.و لمثل هذا توقف السّلف في جملة من الخيرات،حتى روي أن محمد بن سيرين لم يصلّ على جنازة الحسن البصري،و قال ليس تحضرني النيّة.و قيل لطاوس:ادع لنا!فقال:حتى أجد له نيّة.و قال بعضهم:أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر،فما صحّت لي نية بعد.

و من عرف حقيقة النية و علم أنها روح العمل،فلا يتعب نفسه بعمل لا روح له، و يحقق ذلك أن المباح قد يصير أفضل من العبادة إذا حضرت فيه نية.فمن له نية في الأكل و الشرب ليقوى على العبادة،و ليس تنبعث له نية الصوم في الحال،فالأكل أولى له.و من ملّ العبادة و علم أنه لو نام لعاد نشاطه،فالنوم أفضل له.بل لو علم مثلا أن الترفه بدعابة و حديث مزاح في ساعة يرد نشاطه،فذلك أفضل له من الصلاة مع الملال.

قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه لا يملّ حتى تملوا».و قال أبو الدرداء:إني لأستجمّ نفسي بشيء من اللّهو فيكون ذلك عونا لي على الحق.و قال علي-رضي اللّه عنه-:«روّحوا النفوس،فإنها إذا أكرهت عييت».و هذه دقائق يستثقلها الظاهريون من الفقهاء،كما يستثقل الطبيب الضعيف من الأطباء معالجة المحرور باللّحم؛و الحاذق منهم قد يأمر به ليعود قوة المريض حتى يحتمل الدواء النافع بعده.

الركن الثاني في إخلاص النية:
اشارة

و قد قال اللّه تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ (1) [البينة:5]،و قال اللّه تعالى: أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (2) [الزمر:3]،و قال: إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ (3) [النساء:146].و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:قال اللّه تعالى:«الإخلاص سرّ من سرّي استودعته قلب من أحببت من عبادي».و قال-عليه السلام-لمعاذ:«أخلص العمل،يجزك القليل منه».و قال-عليه السلام:«ما من عبد يخلص العمل أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

[فصل فى حقيقة الإخلاص]

حقيقة الإخلاص تجرد الباعث الواحد،و يضادّه الإشراك،و هو أن يشترك الباعثان،و هو كل ما يتطور أن يمازجه غيره؛فإن صفا من كل شوب منه يسمّى خالصا.

و قد عرفت أن النية هي الباعث،فمن لا يعمل إلا للرياء فهو مخلص،و من لا يعمل إلا

ص: 140


1- سوره 98 - آیه 5
2- سوره 39 - آیه 3
3- سوره 4 - آیه 146

للّه فهو مخلص،و لكن خصص الاسم بأحد الجانبين بالعادة،كالإلحاد،فإنه ميل، و لكن خصص بالميل إلى الباطل.و زوال الإخلاص بشوائب الرياء قد ذكرناه،و لكن قد يزول أيضا بأغراض أخر؛فإن الصائم قد يقصد من العبادة أن ينتفع بالحمية الصالحة الحاصلة بالصوم،و قد يقصد المعتق أن يتخلّص بالعتق من مئونة العبد و سوء خلقه، و الحاجّ يحجّ ليصحّ مزاجه بحركة السفر،أو يهرب من مشقة تعهد العيال،أو من إيذاء الأعداء،أو من التبرم (1)بالمقام مع الأهل،و المتعلم يتعلم العلم ليسهل عليه طلب المعاش،أو يكون محروسا بعز العلم عن الظلم،أو يكتب مصحفا ليجوّد خطّه،أو يحج ماشيا ليخفف مئونة الكراء،أو يتوضأ ليتنظف أو يتبرّد،أو يغتسل لتطيب رائحته، أو يعتكف ليخفف عليه كراء المسكن،أو يصوم ليخفف عن نفسه تعب الطّبخ و شراء الطعام،أو يتصدق ليدفع عن نفسه إبرام السائل،أو يعود مريضا ليعاد إذا مرض.فهذه الأغراض قد يتجرد منها و قد يشوب قصد العبادة شوبا خفيّا،فإذا خطر شيء من هذه الأغراض في الفعل،فقد ذهب الإخلاص،و ذلك عسير جدا،و لذلك قال بعضهم:في إخلاص ساعة،نجاة الأبد،و لكن ذلك عزيز.و قال أبو سليمان الداراني:طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا اللّه عز و جل.و كان معروف الكرخي يضرب نفسه و يقول:يا نفسي أخلصي تتخلّصي.

فصل

اعلم أن امتزاج هذه الشّوائب على مراتب،فإنها قد تغلب و قد تكون مغمورة، و قد تكون مساوية لقصد العبادة،و لا تمحو أصل الثواب في المباحات.و مهما بقي شوب من إرادة اللّه عز و جل،فله ثواب بقدر ذلك الشوب،و الباقي لا ثواب عليه.فأما إذا كان في العبادة أمر بأن يخلصها اللّه تعالى،فإن كان الشوب غالبا بطلت العبادة،و إن كان مساويا أو مغلوبا بطل الإخلاص.و لكن هل يتوقف انعقاد العبادة و حصول أصلها على انتفاء الشوائب كلها؟فيه نظر أشرنا إليه في الرياء.و يطلب استقصاؤه من كتاب الإحياء.

الركن الثالث الصدق:

و هو كمال الإخلاص؛قال اللّه تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما (2)

ص: 141


1- التبرم من برم مثل ضجر ضجرا وزنا و معنى.
2- سوره 33 - آیه 23

عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ... (1) [الأحزاب:23]الآية.و قال النبي عليه السلام:«إن الرجل ليصدق و يتحرّى الصدق حتى يكتب عند اللّه صدّيقا».و قال اللّه تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (2) [مريم:41].و يكفي بفضيلة الصدق أن يدرك به فضيلة الصّدّيقين.

و اعلم أن للصدق مراتب ستّا من بلغ في جميعها رتبة الكمال استحق اسم الصّدق:

أولها:الصدق في القول في جميع الأحوال،ما يتعلق بالماضي و المستقبل و الحال.و لهذا الصدق كمالان:أحدهما:الحذر عن المعاريض أيضا،فإنه و إن كان صدقا في نفسه،فيفهم خلاف الحق.و المحذور من الكذب تفهيم خلاف الحقّ،إذ يكتسب القلب صورة معوجّة كاذبة بإزاء كذب اللسان،و إذا مال وجه القلب من الصحة إلى الاعوجاج لم يتجلّ الحق له على الصحة حتى لا يصدق رؤياه أيضا.

و المعاريض لا توقع في هذا المحذور لأنه صدق في نفسه،لكن توقع في المحذور، الثاني:و هو تجهيل المعنى،فلا ينبغي أن يفعل ذلك إلا لغرض صحيح.و كمال الثاني، أن يرعى الصدق في أقاويله مع اللّه تعالى،فإذا قال:«وجّهت وجهي»،و في قلبه في تلك الحالة شيء سوى اللّه عز و جل،فهو كاذب،و إذا قال:«إياك نعبد»،و هو مع ذلك عبد للدنيا أو لنفسه أو لغيره لم يمكنه تحقيق صدق هذه الكلمة في القيامة؛و لذلك قال عيسى-عليه السلام-يا عبيد الدنيا.و قال نبينا صلى اللّه عليه و سلم:«تعس عبد الدرهم و الدينار».

الصدق الثاني:في النية؛و هو أن يتمحض فيه داعية الخير،فإن كان فيه شوب فقد فات الصدق للّه؛يقال هذا صادق الحموضة،و صادق الحلاوة،إذا كان محضا، فيرجع هذا إلى نفس الإخلاص.

و الصدق الثالث:في العزم؛فإن العبد قد يعزم على التصدّق إن رزق مالا،و على العدل إن رزق ولاية،و عزمه تارة يكون مع ضعف و تردد،و تارة يكون جزما قويّا لا تردد فيه.فالجزم القويّ يسمى قويّا صادقا،كما وجده عمر من نفسه-رضي اللّه عنه-حيث قال:لأن أقدّم فيضرب عنقي أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر-رضي اللّه عنه-.و درجات عزم الصديقين في القوة قد تتفاوت،و أقصاها أن ينتهي إلى الرضاء بضرب الرقبة دون الحقيقة.

ص: 142


1- سوره 33 - آیه 23
2- سوره 19 - آیه 41

و الصدق الرابع:الوفاء بالعزم؛فإن النفس قد تسخو بالعزم أوّلا،و لكن عند الوفاء ربما تتوانى عن كمال التحقيق؛لأن المئونة في العزم هيّن،و إنما الشدة في التحقيق،و لذلك قال تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ (1) [الأحزاب:23]، و قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ... (2) [التوبة:75]إلى قوله:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (3) [التوبة:77].

الصدق الخامس:في الأعمال؛بأن يكون بحيث لا يدل على شيء من الباطن إلا و الباطن متصف به.و معناه استواء السريرة و العلانية فالماشي على هدوء يدل بحكمه على أنه ذو وقار في باطنه،فإن لم يكن كذلك في الباطن و التفت قلبه إلى أن يخيّل إلى الناس أنه ذو وقار في باطنه فذلك الرياء.و إن لم يلتفت إلى الخلق قلبه،و لكنه غافل، فليس ذلك برياء،و لكن يفوت به الصدق؛و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم:«اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي،و اجعل لي علانية صالحة».و قال عبد الواحد:كان الحسن البصري إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به،و إذا نهى عن شيء كان من أترك الناس له،و لم أرقط أحدا أشبه سريرته بعلانيته منه.

الصدق السادس:-و هو أعلى أبوابه-الصدق في مقامات الدين؛كالخوف و الرجاء و الحب و الرضاء و التوكل و غيرها،فإن لهذه المقامات أوائل ينطلق الاسم بها،و لها حقائق و غايات؛إذ يقال هذا هو الخوف الصادق،و هي الشهوة الصادقة،و لذلك قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ،ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا... (4) إلى قوله:

أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ (5) [الحجرات:15]،و قال تعالى: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ... (6) إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا... (7) [البقرة:177]الآية.

فهذه درجات الصدق،فمن تحقق في جميعها فهو صدّيق،و من لم يصب بعضها فمرتبته بقدر صدقه.و من جملة الصدق تحقيق القلب بأن اللّه هو الرزّاق و التوكل عليه! فلنذكره.

الأصل السابع في التوكّل:

اشارة

قال اللّه تعالى: وَ عَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (8) [إبراهيم:12]،و قال اللّه تعالى: وَ عَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (9) [المائدة:23].و قال: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ (10)

ص: 143


1- سوره 33 - آیه 23
2- سوره 9 - آیه 75
3- سوره 9 - آیه 77
4- سوره 49 - آیه 15
5- سوره 49 - آیه 15
6- سوره 2 - آیه 177
7- سوره 2 - آیه 177
8- سوره 14 - آیه 12
9- سوره 5 - آیه 23
10- سوره 3 - آیه 159

اَلْمُتَوَكِّلِينَ (1) [آل عمران:159]و قال: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (2) [الطلاق:3] و قال: أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (3) [الزمر:36]و قال: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ (4) [العنكبوت:17]و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«لو أنكم تتوكّلون على اللّه حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا (5)»،و قال:«من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه تعالى كلّ مئونة و رزقه من حيث لا يحتسب،و من انقطع إلى الدنيا و كله اللّه إليها».و كان رسول اللّه إذا أصاب أهله خصاصة قال:«قوموا إلى الصلاة»،و يقول:«بهذا أمرني ربي فقال:و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا،نحن نرزقك،و العاقبة للتّقوى».

[فصل فى حقيقة التوكل]

اشارة

حقيقة التوكل عبارة عن حالة تصدر عن التوحيد،و يظهر أثرها على الأعمال،فهي ثلاثة أركان:المعرفة،و الحال،و العمل.

الركن الأول:المعرفة
اشارة

،و هي الأصل،و أعني بها التوحيد،فإنه إنما يتوكل على اللّه من لا يرى فاعلا سوى اللّه.و كمال هذه المعرفة يترجمه قولك:«لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،له الملك و له الحمد،و هو على كل شيء قدير»،إذ فيه إيمان بالتوحيد، و كمال القدرة و الجود و الحكمة التي يستحق بها الحمد.فمن قال ذلك صادقا مخلصا فقد تمّ توحيده،و ثبت في قلبه الأصل الذي منه ينبعث حال التوكل؛و أعني بالصدق فيه أن يصير معنى القول وصفا لازما لذاته،غالبا على قلبه،لا يتّسع لتقدير غيره.

[فصل التوحيد له لبّان و قشران]

هذا التوحيد له لبّان و قشران،و طباقه أربع،كاللوز،له لبّ ثم الدّهن لبّ لبّه، و القشرة العليا قشر قشره.فالقشرة العليا القول باللسان المجرّد.الثانية:الاعتقاد بالقلب جزما،و هو درجة عوام الخلق،و درجة المتكلمين،إذ لا يتميزون عن العوام إلا بمعرفة الحيلة في دفع تشويش المبتدعة عن هذه الاعتقادات.الثالثة:و هي اللّب،أن ينكشف بنور اللّه عز و جل حقيقة هذا التوحيد و سرّه بالحقيقة.و ذلك بأن يرى الأشياء الكثيرة، و يعلم أنها بجملتها صادرة عن فاعل واحد على الترتيب.و ذلك بأن يعرف سلسلة

ص: 144


1- سوره 3 - آیه 159
2- سوره 65 - آیه 3
3- سوره 39 - آیه 36
4- سوره 29 - آیه 17
5- خماصا جائعة،و بطانا:شبعانة.

الأسباب و كيفية تسلسلها و ارتباط أول السلسلة بسبب الأسباب.و صاحب هذا المقام بعد في تفرقة لأنه يرى الأفعال و كثرتها و ارتباطها بالفاعل.الرابعة:و هو لبّ اللب،أن لا يرى في الوجود إلا واحدا و يعلم أن الموجود بالحقيقة واحد،و إنما الكثرة فيه في حق من تفرق نظره كالذي يرى من الإنسان مثلا رجله،ثم يده،ثم وجهه،ثم رأسه،فيغلب عليه كثرته،فإن رأى الإنسان جملة واحدة لم يخطر بباله الآحاد،بل كان كمدرك الشيء الواحد.

فكذلك الموحّد لا يفرق نظره بين السماء و الأرض و سائر الموجودات،بل يرى الكلّ في حكم الشيء الواحد.و هذا له غور،و يستدعي كشفه تطويلا فاطلبه من كتاب التوحيد و الشكر من كتب الإحياء لتقف على تلويحات منه.و الفناء في التوحيد إنما يقع في هذا التوحيد؛و ذلك بأن يصير مستغرقا بالواحد الحق،حتى لا يلتفت قلبه إلى غيره و لا إلى نفسه،فإن نفسه-من حيث هي نفسه-غير اللّه،و إن لم يتحقق له معنى الغيرية بنظر آخر، و اعتبار على وجه آخر.

[فصل فى حقيقة التوكل]

حقيقة التوكل إنما يستدعي توحيد الفعل و لا يستدعي الفناء في توحيد الذات،بل المتوكل يجوز أن يرى الكثرة و الأسباب و المسببات،و لكن ينبغي أن يشاهد ارتباط السلسلة بمسببها.و ما عندي أن ذلك يخفى عليك فيما يدخل فيه اختيار الآدميين،فإنك إن رأيت المطر سببا في النبات،فتعلم أن المطر مسخّر بواسطة الغيم،و الغيم مسخر بواسطة الريح و أبخرة الجبال،و كذلك الجبال جمادات مسخرة إلى أن ينتهي إلى الأول لا محالة.و إن كنت لا تعرف عدد الوسائط فلا يضرّك ذلك،و إنما الذي يخفى عليك أفعال الآدميين، فإنك تقول:من أطعمني طعاما فإنه يطعمني باختياره،إن شاء أعطى،و إن شاء منع، فكيف لا أراه فاعلا.و إنما مثلك في الالتفات إليه مثل النملة،ترى الخط على البياض يحصل من حركة القلم.فتضيف ذلك إلى القلم،إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمد إلى الإصبع،و منها إلى اليد،و منها إلى القدرة المحركة لليد،و منها إلى الإرادة التي القدرة مسخّرة لها،و منها إلى المعرفة التي يتوقف انبعاث الإرادة و انجزامها عليها،و منها إلى صاحب القدرة و العلم و الإرادة.فكذلك أنت تضيف أفعال العباد إلى إرادتهم و معرفتهم و قدرتهم،إذ ليس يمتد نظرك إلى القلم الذي تنسطر المعرفة به في ألواح القلوب،و منه إلى الأصابع التي تنتهي إلى قلوب العباد،و منها إلى اليد التي بها خمرت طينة آدم،و منها إلى القدرة التي بها تتحرك اليد لتخمير الطينة،و منها إلى القادر الذي منه

ص: 145

يبدأ و إليه يعود.و ذلك لأنك لا تعرف معنى قول النبي صلى اللّه عليه و سلم:«إن اللّه خلق آدم على صورته»،و لا معنى قوله (1)تعالى:«خمرت طينة آدم بيدي»،و لا معنى قوله تعالى:

عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (2) [العلق:4،5،6].

فإنك لا تعلم قلما إلا من قصب،و لا يدا و لا أصابع إلا من لحوم و عظام،و لا صورة إلا للألوان و الأشكال.فإن انكشف لك ذلك علمت أنك إذا رميت ما رميت،و لكن اللّه رمى،حيث سلط عليك دواعي جازمة،و معرفة حاكمة على القطع،بأن نجاتك في الرمي مثلا.حتى انبعثت القدرة التي انفرد بخلقها خادمة للإرادة،و المعرفة خادمة بالتّسخير و الاضطرار،علمت أنك مضطر إلى عين الاختيار،فتفعل إن شئت ذلك،و تشاء إذا شاء اللّه،شئت أم أبيت.و هذا الآن فيه سرّ يحرّك قاعدة الجبر و الاختيار،و يوهم تناقض التوحيد و تكليف الشرع،و قد شرحناه في كتاب التوحيد و التوكل و الشكر من كتب الإحياء.فاطلبه منه إن كنت من أهله.

[فصل لا يكفي الإيمان بتوحيد الفعل و الذات]

لا يكفي الإيمان بتوحيد الفعل و الذات في إثارة حالة التوكل حتى ينضاف إليه الإيمان بالرحمة و الجود و الحكمة،إذ به تحصل الثقة بالوكيل الحق،و هو أن يعتقد جزما أو ينكشف لك بالبصيرة أن اللّه تعالى لو خلق الخلائق كلهم على عقل أعقلهم بل على أكمل ما يتصور أن يكون عليه حال العقل،ثم زادهم أضعاف ذلك علما و حكمة،ثم كشف لهم عواقب الأمور و أطلعهم على أسرار الملكوت و لطائف الحكمة،و دقائق الخير و الشر،ثم أمرهم أن يدبّروا الملك و الملكوت،لما دبّروه بأحسن مما هو عليه، و لم يمكنهم أن يزيدوا عليه أو ينقصوا منه جناح بعوضة،و لم يستصوبوا البتة دفع مرض و عيب و نقص و فقر و ضر و جهل و كفر،و لا أن يغيروا قسمة اللّه تعالى من رزق و أجل و قدرة و عجز و طاعة و معصية،بل شاهدوا جميع ذلك عدلا محضا لا جور فيه،و حقّا صرفا لا نقص فيه،و استقامة تامة لا قصور فيها و لا تفاوت،بل كل ما يرون نقصا فيرتبط به كمال آخر أعظم منه،و ما ظنّوه ضررا فتحته نفع أعظم منه،لا يتوصل إلى ذلك النفع إلا به.و علموا قطعا أن اللّه تعالى حكيم جواد رحيم،لم يبخل على الخلق أصلا،و لم

ص: 146


1- أي في الحديث القدسي.
2- سوره 96 - آیه 4

يدّخر في إصلاحهم أمرا،و هذا الآن بحر آخر في المعرفة،يحرّك أمواجه سرّ القدر الذي منع من ذكره المكاشفون،و تحير فيه الأكثرون،و لا يعقله إلا العالمون،و لا يدرك تأويله إلا الرّاسخون.و أن حظ العوام،أن يعتقدوا أن كل ما يصيبهم لم يكن ليخطئهم، و ما يخطئهم لم يكن ليصيبهم.و أن ذلك واجب الحصول بحكم المشيئة الأزلية،و أنه لا رادّ لحكمه،و لا معقّب لقضائه،بل كل صغير و كبير مستطر (1)،و حصوله بقدر معلوم منتظر، وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (2) [القمر:50].

الركن الثاني:حال التوكل
اشارة

؛و معناه أن تكل أمرك إلى اللّه عز و جل،و يثق به قلبك،و تطمئن بالتفويض إليه نفسك،و لا تلتفت إلى غير اللّه أصلا؛و يكون مثالك مثال من وكّل في خصومته في مجلس القاضي من علم أنه أشفق الناس عليه،و أقواهم في كشف الباطل،و أعرفهم به،و أحرصهم عليه،فإنه يكون ساكنا في بيته،مطمئن القلب غير متفكر في كل الخصومة،غير مستعين بآحاد الناس،لعلمه بأن وكيله حسبه و كافيه في غرضه،و أنه لا يقاومه غيره.

فمن تحققت معرفته بأن الرزق و الأجل و الخلق و الأمر بيد اللّه تعالى،و هو منفرد به لا شريك له،و أن جوده و حكمته و رحمته لا نهاية لها و لا يوازيها رحمة غيره و جوده، و اتّكل قلبه بالضرورة عليه،و انقطع نظره عن غيره؛فإن لم ينقطع فلا يكون ذلك إلا لأحد أمرين:

أحدهما:ضعف اليقين بما ذكرناه؛و ضعف اليقين إنما يكون لتطرق شك إليه أو لعدم استيلائه على القلب.فإن الموت يقين لا شك فيه،و لكنه إذ لا يستولي على القلب فهو كشكّ لا يقين فيه.

الأمر الثاني:أن يكون القلب في الفطرة جبانا ضعيفا،فالجبن و الجرأة فطرتان، و الجبن يوجب كون النفس مطيعة لأوهام لا شكّ في بطلانها،حتى قد يخاف الإنسان أن يبيت مع الميت في فراش،أو في بيت،مع علمه بأن اللّه لا يحييه،و أن قدرته عليه كقدرته على أن يقلب في يده العصا حيّة،و هو لا يخاف ذلك.بل قد يشبه العسل

ص: 147


1- مستطر:مكتوب.
2- سوره 54 - آیه 50

بالعذرة فيتعذر عليه تناوله مع علمه بأنه تشبيه كاذب،و ذلك لخور النفس و طاعة الأوهام.

فكما لا يخلو الإنسان عن شيء منه و إن ضعف،فكذلك لا يبعد أن يحصل اليقين بالتوحيد بحيث لا يخالجه ريب،و مع ذلك فيفرغ القلب إلى الأسباب.

[فصل فى درجات التوكل]

إذا عرفت أن التوكل عبارة عن حالة القلب في الثقة بالوكيل الحق،و قطع الالتفات إلى غيره،فاعلم أن فيه ثلاث درجات:إحداها ما ذكرناه،و هو كالثقة بالوكيل في الخصومة،بعد اعتقاد كماله في الهداية و القدرة و الشفقة.الثانية،و هي أقوى منها، تضاهي حالة الصبيّ في ثقته بأمه،و فزعه إليها في كلّ ما يصيبه،و ذلك لثقته بشفقتها و كفالتها؛و لكنه في توكله فان عن توكله (1)فإنه ليس يحصله بفكر و كسب،و إن كان لا يخلو توكله عن نوع إدراك؛و أما التوكل على الوكيل بالخصومة،فكالمكتسب بالفكر و النظر.و الثالثة:و هي الأعلى،أن يكون بين يدي اللّه تعالى كالميت بين يدي الغاسل، لا كالصبي،فإنه يزعق بأمه و يتعلق بذيلها،بل هذا كالصبي علم أنه و إن لم يزعق بأمه فإنها تطلبه،و إن لم يتعلق بذيلها فهي تحمله،و إن لم يسألها فهي تبتدئ بإرضاعه، فيكون هذا الشخص في حق اللّه عزّ و جلّ ساقط الاختيار،لعلمه بأنه مجري القدر فلا يبقى فيه متسع لغير الانتظار لما يجري عليه.و هذا المقام يأبى الدعاء و السؤال،و لا يمتنع الدعاء في المقام الثاني و الأول،و يمتنع التدبير في المقام الأخير،و يمتنع في الثاني أيضا،إلا في التعلق بالوكيل فقط.و في الأول يمتنع التدبير بالتعلق بغيره،و لا يمتنع بالطريق الذي رسمه الوكيل و سنّه له و أمره به.

الركن الثالث في الأعمال:
اشارة

و قد يظن الجهال أن شرط التوكل ترك الكسب،و ترك التداوي،و الاستسلام للمهلكات؛و ذلك خطأ،لأن ذلك حرام في الشرع،و الشرع قد أثنى على التوكل، و ندب إليه فكيف ينال ذلك بمحظوره.و تحقيقه أنّ سعي العبد لا يعدو أربعة أوجه:و هو جلب ما ليس بموجود من المنفعة،أو حفظ الموجود،أو دفع الضرر كي لا يحصل،أو قطعه كي يزول.الأول:جلب النافع،و أسبابه ثلاثة:إما مقطوع به،و إما مظنون ظنّا

ص: 148


1- هكذا وردت هذه الجملة و لم نرها وجها اللهم إلا أن يكون تعبيرا فقهيا خالصا.

غالبا ظاهرا يوثق به،أو موهوم.أما المقطوع به فمثاله أن لا تمتد اليد إلى الطعام و هو جائع،و يقول هذا سعي،و أنا متوكل،أو يريد الولد و لا يواقع أهله،أو يريد الزرع، و لا يبث البذر.و هذا جهل؛لأن سنّة اللّه تعالى لا تتغير،و قد عرفك أن ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب من السنّة التي لا تجد لها تبديلا.و إنما التوكل فيه بأمرين:

أحدهما،أن تعلم أن اليد و الطعام و البذر و قدرة التناول و جميع ذلك من قدرة اللّه تعالى.

و الثاني،أن لا يتكل عليها بقلبه بل على خالقها،و كيف يتكل على اليد!و ربما يفلج في الحال أو يهلك الطعام،و ذلك تحقيق قولك«لا حول و لا قوة إلا باللّه»،فالحول هي الحركة، و القوة هي القدرة.فإذا كان هذا حالك،فأنت متوكل و إن سعيت.و أما المظنون فكاستصحاب الزاد في البوادي و الأسفار،فليس تركه شرطا في التوكل،بل هي سنّة الأوّلين،بل يكون الاعتماد على فضل اللّه تعالى بدفع السّراق و إبقاء الزاد و الحياة، و القدرة على التناول.و أما الموهومات،فكالاستقصاء في حيل المعيشة،و استنباط دقائق الأمور فيها؛و ذلك ثمرة الحرص،و قد يحمل على أخذ الشبهة.فكل ذلك يناقض التوكل،و الدليل عليه أن النبي صلى اللّه عليه و سلم وصف المتوكلين بأنهم لا يكتنون و لا يسترقون،و لم يصفهم بأنهم لا يسكنون الأمصار،و لا يكتسبون،فما نسبته إلى السبب،كنسبة الرّقية و الكي فتركهما من شروط التوكل.

الفن الثاني:من تدبير الأسباب الادخار.فالمتوكل إذا ورث مالا و ادخر لسنة فما فوقه أبطل توكله،و إن قنع بقوت يومه و فرق الباقي فهو تمام التوكل،و إن ادخر لأربعين يوما،قال سهل التستري:بطل توكله،و لا ينال المقام المحمود الذي وعد للمتوكلين؛ و قال الخواص:لا يبطل.و اتفقوا على أن الزيادة عليه يبطل التوكل إلا إذا كان معيلا، فله أن يدخر قوت عياله لسنة،كذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في حق عياله و في حق نفسه؛ كان لا يدخر من غدائه لعشائه.و لا شك أن طول الأمل يناقض التوكل،و مهما قلّت مدة الادخار كانت الرتبة أعظم؛و لكن سنّة اللّه تعالى جارية بتكرر الأرزاق عند تكرار السنة.

فالادخار لأكثر من سنة غاية الضعف و ليس من التوكل في شيء.

فأما ادخار الكوز و أثاث البيت فذلك جائز،لأن سنة اللّه تعالى لم تجر بتكررها كتكرر الأرزاق،و يحتاج إليها في كل وقت،و ليس كثوب الشتاء،فإنه لا يحتاج إليه في الصيف،و ادخاره على خلاف التوكل؛قال النبي صلى اللّه عليه و سلم في فقير دفن:«إنه يحشر يوم

ص: 149

القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر،و لو لا خصلة كان كالشمس الضاحية؛كان إذا جاء الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه».

الفن الثالث:في مباشرة الأسباب الدافعة،كالفرار من السبع،و من الجدار المائل،و مجرى السيل،و دفع الأمراض بالأدوية.و ذلك أيضا له درجات؛فاستنبطها بالقياس إلى ما ذكرناه و قد فسرناه في الإحياء.

[فصل ترك الادخار محمود لمن غلب يقينه]

اعلم أن ترك الادخار محمود لمن غلب يقينه،و قوي قلبه.و أما الضعيف الذي يضطرب قلبه لو لم يدخر لم يتفرغ للعبادة،فالأفضل له أن يدع طريق المتوكلين.و لا يحمّل نفسه ما لا يطيقه،إذ فساد ذلك في حقه أكثر من صلاحه،بل يعالج كل واحد على حسب حاله و قوته.و قد تنتهي القوة إلى أن يجوز السفر في البوادي من غير زاد،و ذلك لمن يصبر عن الطعام أسبوعا،و يقنع بالحشيش؛فإن ذلك لا يعوزه غالبا في البادية.فأما الضعيف إذا فعل ذلك فهو عاص ملق نفسه في التهلكة.و القويّ إن حبس نفسه في كهف جبل ليس فيه حشيش و لا يجتاز به إنسان،فذلك أيضا حرام؛لأنه خالف سنّة اللّه تعالى في خلقه؛و إنما جاز له ذلك في البوادي،لأن سنّة اللّه جارية بأنها لا تخلو عن الحشيش،و قد يجتاز بها الآدميون،فإذا قوي كان هلاكه نادرا،فلم يكن بذلك عاصيا، فله أن يسافر في البادية متّكلا على لطيف صنع اللّه تعالى،و غير قاصر التفاته على الأسباب الجليّة الواضحة.

الأصل الثامن في المحبة:

اشارة

قال اللّه تعالى: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (1) [المائدة:54]،و قال: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ... (2) [التوبة:24]الآية.و قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّه و رسوله أحب إليه مما سواهما».و قال عليه السلام:«أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمة،و أحبوني لحب اللّه عز و جل».و قال أبو بكر الصديق-رضي اللّه عنه-«من ذاق خالص محبة اللّه عز و جل منعه ذلك من طلب الدنيا،و أوحشه من جميع البشر».و قال الحسن البصريّ-رحمة اللّه عليه-من عرف

ص: 150


1- سوره 5 - آیه 54
2- سوره 9 - آیه 24

اللّه تعالى أحبّه،و من عرف الدنيا زهد فيها.و المؤمن لا يلهو حتى يغفل،و إذا تفكر حزن.

[فصل فى أن أكثر المتكلمين أنكروا محبّة اللّه تعالى]

اعلم أن أكثر المتكلمين أنكروا محبّة اللّه تعالى و أوّلوها،و قالوا:لا معنى لها إلا لامتثال أوامره،و إلا فما لا يشبهه شيء و لا يشبه شيئا،و لا يناسب طباعنا،فكيف نحبه؟ و إنما يتصور منّا أن نحب من هو من جنسنا،و هؤلاء محرومون بجهلهم بحقائق الأمور.

و قد كشف الغطاء عن هذا في كتاب المحبة من كتب الإحياء فطالعها لتصادف منها أسرارا تخلو الكتب عنها.فاقنع في هذا المختصر بتلويحات و إشارات.

[فصل فى أن كلّ لذيذ محبوب]

اعلم أن كلّ لذيذ محبوب،و معنى كونه محبوبا ميل النفس إليه،فإن قوي الميل سمّي عشقا،و معنى كونه مبغوضا نفرة النفس عنه لكونه مؤلما.فإن قوي البغض و النّفرة سمي مقتا.و اعلم أن الأشياء التي تدركها بحواسك و جميع مشاعرك،إما أن تكون موافقة لك ملائمة،و هو اللذيذ،أو تكون منافية مخالفة،و هو المؤلم.أو لا موافقة و لا مخالفة،و هو الذي لا ألم فيها و لا لذة.و كل لذيذ محبوب،أي للنفس الملتذة به ميل لا محالة إليه.

و اعلم أن اللذة تتبع الإدراك،و الإدراك إدراكان:ظاهر و باطن.أمّا الظاهر فبالحواس الخمس،فلا جرم لذة العين في الصور الجميلة،و لذة الأذن في النغمات الموزونة الطيبة،و لذة الذوق و الشم في الطعوم و الروائح الملائمة الموافقة،و لذة جملة البدن في ملابسة الناعم اللين،و جملة ذلك محبوبة للنفس،أي للنفس ميل إليها.و أما الإدراك الباطن،فهو اللطيفة التي محلها القلب،تارة يعبر عنها بالعقل،و تارة بالنور،و تارة بالحس السادس.و لا تنظر إلى العبارات فتغلط،بل قال النبي صلى اللّه عليه و سلم:«حبب إليّ من دنياكم ثلاث:الطيب و النساء و قرة عيني في الصلاة».فتعلم أن الطيب و النساء فيهما حظ الشم و اللمس و البصر،و الصلاة لا حظ فيها للحواس الخمس،بل للإدراك السادس الذي محله القلب،و لا يدركها من لا قلب له،و أن اللّه يحول بين المرء و قلبه.و من اقتصر من لذته على الحواس الخمس فهو بهيمة،لأن البهيمة تشاركه فيها؛و إنما

ص: 151

خاصية الإنسان التمييز بالبصيرة الباطنة.و لذة البصر الظاهر،في الصور الجميلة الظاهرة،و لذة البصيرة الباطنة،في الصور الجميلة الباطنة.

[فصل ما معنى الصور الجميلة الباطنة؟]

لعلك تقول:ما معنى الصور الجميلة الباطنة؟فأقول ما عندي أنك لا تحس من نفسك حب الأنبياء و العلماء و الصحابة،و لا تدرك من نفسك تفرقة بين الملك العادل العالم الشجاع الكريم العطوف على الخلق،و بين الظالم الجاهل البخيل الفظّ الغليظ.

و ما عندي أنك إذا حكي لك صدق أبي بكر،و سياسة عمر،و سخاوة عثمان،و شجاعة علي-رضوان اللّه عليهم-لا تجد في نفسك هزة و ارتياحا و ميلا إلى هؤلاء،و إلى كل موصوف بخلال الكمال من نبيّ و صدّيق و عالم.و كيف تنكر هذا،و في الناس من يقتدي بنفسه أرباب المذاهب،و يحمله حبه لهم على البذل بالمال و النفس في الذب عنهم، و تجاوز ذلك حدّ العشق،و أنت تعلم أن حبك لهؤلاء ليس لصورهم الظاهرة،فإنك لم تشاهدها،و لو شاهدتها ربما لم تستحسنها،و إن استحسنت،فلو تشوهت صورهم الظاهرة،و بقيت صفاتهم المعنوية الباطنة،لبقي حبهم.و إذا فتشت عن محبوبك منهم،رجع-بعد التفصيل الطويل الذي لا يحتمله هذا الكتاب- إلى ثلاث صفات:العلم و القدرة و النزاهة عن العيوب.أما العلم،فكعلمهم باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و عجائب ملكوته و دقائق شريعة أنبيائه.و أما القدرة،فكقدرتهم على أنفسهم بكسر شهوتها،و حملها على الصراط المستقيم.و قدرتهم على العبادة بسياستهم،و إرشادهم إلى الحق.و أما النزاهة،فكسلامة باطنهم من عيب الجهل و البخل و الحسد و خبائث الأخلاق؛و اجتماع كمال العلم و القدرة مع حسن الأخلاق، و هو حسن الباطن،و هي الصورة الباطنة التي لا تدركها البهيمة،و من في مثل حالها بالبصر الظاهر.

ثم إذا أحببت هؤلاء بهذه الصفات،و علمت أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان أجمع منهم لهذه الخصال،كان حبك له أشد بالضرورة،فارتفع نظرك الآن من النبي إلى مرسل النبي و خالقه و المتفضل على الخلق ببعثه،لتعلم أن بعثه الأنبياء حسنة من حسناته.ثم انسب قدرة الأنبياء و علمهم و طهارتهم إلى علم اللّه سبحانه و قدرته و قدسه،لتعلم أنه لا قدّوس سوى الواحد الحق،و أن غيره لا يخلو من عيب و نقص؛بل العبودية أعظم أنواع

ص: 152

النقص،فأيّ كمال لمن لا قوام له بنفسه،و لا يملك لنفسه موتا و لا حياة و لا رزقا و لا أجلا!و أيّ علم لمن يشكل عليه صفات باطنه في مرضه و صحته،بل لا يعلم جميع جوارحه الباطنة،و تفصيلها و حكمها بالتحقيق،فضلا عن ملكوت السموات و الأرض! و انسب هذا إلى العلم الأزليّ المحيط بجميع الموجودات،و معلومات لا نهاية لها إلى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات و لا في الأرض،و إلى قدرة خالق السموات و الأرض الذي لا يخرج موجود عن قبضة قدرته في وجوده و بقائه و عدمه؛و انسب نزاهته من العيوب إلى قدسه،لتعلم أنه لا قدس و لا قدرة و لا علم إلا للواحد الحق،و إنما لغيره القدرة التي أعطاه، وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ (1) [البقرة:255] وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (2) [الإسراء:85]فانظر الآن هل يمكنك أن تنكر أن هذه الصفات و المحامد محبوبة،أو تنكر أن الموصوف بكمال الجلال هو اللّه تعالى؟و انظر كيف تنكر حبه بعد ذلك!

[فصل الميل إلى المنعم المحسن]

إن قصّرت بصيرتك عن إدراك الجلال و الكمال و الميل إلى مطالعته و الفرح به و العشق له،فلا تقصر عن الميل إلى المنعم المحسن إليك،و لا تكوننّ أقلّ من الكلب، فإنه يحب صاحبه الذي يحسن إليه.و تأمل هذا في العالم،هل لأحد إحسان إليك سوى اللّه تعالى؟و هل لك حظ و لذة و تنعّم في شيء و حرص على نعمة إلا و اللّه سبحانه خالقها و مبديها و مبقيها و خالق الشهوة إليها و التلذذ بها؟و تفكر في أعضائك و لطف صنع اللّه تعالى بك فيها،لتحبه بإحسانه إليك،فتكون من عوام الخلق إن لم تقدر أن تحبه لجماله و جلاله و كماله،كما تحبه الملائكة لذلك،و امتثال قوله عليه السلام:«أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه و أحبوني لحبّ اللّه».و عند هذا تكون كالعبد السوء،يحب و يعمل للأجرة و النفقة،فلا جرم يزيد حبّك و ينقص بزيادة الإحسان و نقصانه؛و ذلك ضعيف جدا؛بل الكامل من يحب اللّه لجلاله و جماله و محامد صفاته التي لا يتصور أن يشارك فيها.و لذلك أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام:«إن أودّ الأودّاء إليّ من عبدني بغير نوال،لكن ليعطي الربوبية حقها».و في الزبور:«من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار،لو لم أخلق جنة و لا نارا،أ لم أكن أهلا أن أطاع؟»و مرّ عيسى-عليه السلام-بطائفة من العبّاد و قد تخلّوا للعبادة،و قالوا نخاف النار و نرجو الجنة،فقال:

ص: 153


1- سوره 2 - آیه 255
2- سوره 17 - آیه 85

مخلوقا خفتم و مخلوقا رجوتم.و مر بقوم آخرين كذلك،فقالوا:نعبده حبّا و تعظيما لجلاله،فقال:أنتم أولياء اللّه حقّا،و معكم أمرت أن أقيم.

[فصل العارف لا يحب إلا اللّه تعالى]

العارف لا يحب إلا اللّه تعالى،فإن أحبّ غيره فيحبه للّه عز و جل،إذ قد يحبّ المحبّ عبد المحبوب و أقاربه و بلده و ثيابه و ضيعته و تصنيفه،و كل ما هو منه و إليه نسبته.و كل ما في الوجود صنع اللّه عز و جل و تصنيفه،و كل الخلق عباد اللّه تعالى؛فإن أحبّ الرسول أحبّه لأنه رسول محبوبه و حبيبه.و إن أحب الصحابة فلأنهم محبوبو رسوله،و لأنهم محبوه و عبيده و المواظبون على طاعته.و إن أحب طعاما فلأنه يقوّي مركبه الذي به يصل إلى محبوبه،أعني البدن.و إن أحب الدنيا،فلأنها زاده إلى محبوبه.و إن أحب النظر إلى الأزهار و الأنهار و الأنوار و الصور الجميلة،فلأنها صنعة محبوبه،و هي دلالات على جماله و جلاله،و مذكّرات لصفات المحامد التي هي المحبوبة في ذاتها.و إن أحبّ المحسن إليه و المعلم إياه علوم الدين،فيحبه لأنه واسطة بينه و بين محبوبه في إيصال علمه و حكمه إليه.و يعلم أنه الذي قيّضه لتعليمه و إرشاده، و الإنفاق عليه من ماله،و أنه لو لا تسليط الدواعي إليه و اضطراره بسلسلة البواعث و الأغراض إلى إرشاده و الإنفاق عليه لما فعله.و أعظم الخلق إحسانا علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و للّه المنّة و الفضل بخلقه و بعثه،كما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (1) [الجمعة:2].و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ،وَ لكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (2) [القصص:56].

و تأمل سورة الفتح و قوله تعالى: وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً (3) [النصر:2،3].فقد أنزله منزلة النظارة و قال:إذا رأيت عباد اللّه يدخلون في دين اللّه فقل بحمد اللّه لا بحمدي،و هو معنى التسبيح بحمد ربه.فإن التفت قلبك إلى نفسك و سعيك فاستغفره ليتوب عليك.

و اعلم أنه ليس لك من الأمر شيء.و من هاهنا نظر عمر-رضي اللّه عنه-حيث وصل كتاب خالد بعد فتح مكة:«من خالد سيف اللّه المسلول على المشركين إلى أبي بكر أمير المؤمنين».فقال:إن نصر اللّه المسلمين نظر خالد إلى نفسه و يسميها سيفا مسلولا على المشركين.و لو لاحظ الحق كما هو لعلم أن ليس ذلك بسيفه و لكن للّه

ص: 154


1- سوره 62 - آیه 2
2- سوره 28 - آیه 56
3- سوره 110 - آیه 2

تعالى سر في إرادته بنصرة الإسلام،فينصره بخطرة واحدة و هو خاطر رعب يلقيه في قلب كافر فينهزم،و ينظر إليه غيره فينهزم و تعم الهزيمة،فينظر خالد و من هو في مثل حاله أنه علا كلمة الإسلام بصرامته وحدة سيفه،و يطلع عمر-رضي اللّه عنه-و من هو في مثل حاله من الصّديقين و الأولياء على حقيقة الحال،و يعلم حاجة خالد إلى الاستغفار،و أن يسبح بحمد ربه إذا رأى ذلك كما أمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.

فإذا لا موجب للمحبة إلا أمران:أحدهما الإحسان و الآخر غاية الجلال و الجمال بكمال الجود و الحكمة و العلو و القدرة و التقديس من العيب و النقص.و لا إحسان إلا منه،و لا جلال و لا جمال و لا قدس إلا له.فكل ما في العالم من حسن و إحسان فهو حسنة من حسنات جوده،يسوقها إلى عباده بخطرة واحدة يخلقها في قلب المحسن.

فكل ما في العالم من صور مليحة،و هيئة جميلة يدرك بعين أو سمع أو شم،فأثر من آثار قدرته،و هي بعض معاني جماله.فليت شعري!لمن عرف بالمشاهدة المحققة و البرهان القاطع جميع هذا،كيف يتصور أن يلتفت إلى غير اللّه تعالى،أو يحب غير اللّه عز و جل؟

[فصل اعلم أن لذة العارف في الدنيا من مطالعة جمال الحضرة الربوبية]

اعلم أن لذة العارف في الدنيا من مطالعة جمال الحضرة الربوبية،أعظم من كل لذة يتصور أن يكون في الدنيا سواها؛و ذلك لأن اللذة على قدر الشهوة،و قوة الشهوة على قدر الملاءمة و الموافقة مع المشتهي.و كما أن أوفق الأشياء للأبدان الأغذية،فأوفق الأشياء للقلوب المعرفة،فالمعرفة غذاء القلب،و أعني بالقلب الروح الرباني الذي قال اللّه تعالى فيه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (1) [الإسراء:85]،و قال تعالى: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2) [الحجر:29،ص:72]فأضافه إلى نفسه.و هذا الروح لا يكون للبهائم و لمن هو في مثل حالها من الإنس،بل يختص به الأنبياء و الأولياء؛و لذلك قال تعالى:

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (3) [الشورى:52]فالمعرفة أوفق الأشياء لهذه الروح، لأن الأوفق لكل شيء خاصيته؛فالصوت الطيب لا يوافق البصر،لأنه ليس من خاصيته.

و خاصية روح الإنساني معرفة الحقائق،و كلما كان المعلوم أشرف،كان العلم به ألذ؛ و لا أشرف من اللّه و ملكوته و لا أجلّ منه،فمعرفته و معرفة صفاته و ذاته و عجائب ملكه

ص: 155


1- سوره 17 - آیه 85
2- سوره 15 - آیه 29
3- سوره 42 - آیه 52

و ملكوته ألذّ الأشياء عند القلب؛لأن شهوة ذلك أشدّ الشهوات؛و لذلك يخلق آخرا بعد سائر الشهوات.و كل شهوة تأخرت فهي أقوى مما قبلها؛فأول ما يخلق شهوة الطعام، ثم يخلق له شهوة الوقاع،فيترك شهوة الطعام لأجله و يستحقر فيه.ثم يخلق له شهوة الرئاسة و الجاه و الغلبة،و يستحقر فيها شهوة المنكح و المطعم.ثم يخلق له شهوة المعرفة التي هي استيلاء على كلّ الموجودات،فيستحقر فيها الجاه و الرئاسة؛و هي آخر شهوات الدنيا و أقواها.

و كما أن الصبي ينكر شهوة الوقاع،و يتعجب ممن يتحمل مئونة النكاح لأجلها، فإذا بلغ شهوة الوقاع أكبّ عليها و أنكر الجاه و الرئاسة و لم يبال بفواتها في قضاء شهوة الفرج؛فكذلك المشعوف (1)بشهوة الجاه و الرئاسة،ينكر لذة المعرفة،إذ لم يخلق فيه بعد شهوتها؛و قد تنتهي شهوة شرهه للجاه إلى مرض قلبه،حتى لا يقبل شهوة معرفة اللّه عز و جل أصلا،كما يفسد مزاج المريض شهوته للغذاء حتى يموت.و قد ينعكس طبعه،فيشتهي الطين و الأشياء المضرة المهلكة،و هي مقدّمات الموت.فكذلك مرض القلب،قد ينتهي إلى حد ينكر المعرفة و يبغضها،و يبغض أهلها و المقبلين عليها،و لا يدرك إلاّ لذة الرئاسة أو المطعم و المنكح.و ذلك هو الميت الذي لا يقبل العلاج،و في مثله قيل: إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً،وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (2) [الكهف:57]و فيهم قيل: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ (3) [النحل:21].

[فصل لذة النظر إلى وجه اللّه الكريم]

هذه المعرفة و إن عظمت لذتها،فلا نسبة لها إلى لذة النظر إلى وجه اللّه الكريم في الدار الآخرة.و ذلك لا يتصور في الدنيا لسرّ لا يمكن الآن كشفه،و لا ينبغي أن تفهم من النظر ما يفهمه العوام و المتكلمون،فيحتاج في تقديره إلى جهة و مقابلة.فذلك من نظر من أقعده القصور في بحبوحة عالم الشهادة،حتى لم يجاوز المحسوسات التي هي مدركات البهائم.لكن ينبغي أن تفهم أن الحضرة الربوبية،تنطبع صورتها و ترتيبها

ص: 156


1- المشعوف:لغة في المشغوف.
2- سوره 18 - آیه 57
3- سوره 16 - آیه 21

العجيب على ما هو عليه من البهاء و العظمة و الجلال و المجد،في قلب العارف،كما تنطبع مثلا صورة العالم المحسوس في حواسك،فكأنك تنظر إليه و إن غمضت عينيك.فإن فتحت العين و وجدت الصورة المبصرة مثل الصورة المتخيلة قبل فتح العين لا تخالفها في شيء إلاّ أن الإبصار في غاية الوضوح بالنسبة إلى التخيل.و كذلك ينبغي أن تعلم أن في إدراك ما لا يدخل في الخيال و الحس أيضا في درجتين متفاوتتين في الوضوح غاية التفاوت،و نسبة الثانية إلى الأولى كنسبة الإبصار إلى التخيل،فتكون الثانية غاية الكشف،فيسمى لذلك مشاهدة و رؤية.و الرؤية لم تسمّ رؤية لأنها في العين،إذ لو خلقت في الجبهة لكانت رؤية؛بل لأنها غاية الكشف.و كما أن تغميض الأجفان حجاب من غاية الكشف في المبصر،فكدورة الشهوات و شواغل هذا القالب المظلم حجاب عن غاية المشاهدة؛و لذلك قال اللّه تعالى: لَنْ تَرانِي (1) [الأعراف:

143].و قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (2) [الأنعام:103].فإذا ارتفع هذا الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة،و يكون مشاهدة كل واحد على قدر معرفته؛ و لذلك تزيد لذة أولياء اللّه سبحانه في النظر على لذة غيرهم،و يتجلّى اللّه تعالى لأبي بكر-رضي اللّه عنه-خاصة،و يتجلى للناس عامة.و كذلك لا يراه إلا العارفون؛لأن المعرفة بدء النظر،بل هي التي تنقلب مشاهدة،كما ينقلب التخيل إبصارا.فلذلك لا يقتضي مقابلة وجهه.و سرّ هذا طويل،فاطلبه من كتاب المحبة في الإحياء.

فصل

لو كان معشوقك و أنت تراه من وراء ستر رقيق في وقت الإسفار و في حالة ضعف الضوء،و في حالة اجتمع عليك تحت ثوبك عقارب و زنابير تلدغك و تشغلك،فلا يخفى أن لذتك من مشاهدة معشوقك تضعف.فلو أشرقت الشمس دفعة واحدة فارتفع الستر الرّقيق،و انصرفت عنك العقارب و الزنابير،و هجم عليك العشق المفرط البليغ، فلا نسبة لهذه اللذة العظيمة التي تحصل الآن إلى ما كان قبل ذلك.و كذلك فافهم أنه لا يشبه لذة النظر إلا لذة المعرفة بل هي أعظم منها كثيرا.و الستر الرّقيق قالبك.و العقارب شواغل الدنيا و غمومها و شهواتها،و هجوم العشق شدة الشهوة لانقطاع المضعّفات و المنغّصات عنها،و إشراق الشمس هو استعداد حدقة القلب لاحتمال تمام التجلّي، فإنها في هذه الحياة لا يحتمل بصر الخفّاش نور الشمس.

ص: 157


1- سوره 7 - آیه 143
2- سوره 6 - آیه 103

[فصل إنما ضعفت شهوة معرفة اللّه تعالى لزحمة سائر الشهوات]

إنما ضعفت شهوة معرفة اللّه تعالى لزحمة سائر الشهوات،و إنما خفيت معرفة اللّه تعالى مع جلائها لشدة ظهورها؛و مثاله:أنك تعلم أن أظهر الأشياء المحسوسات، و منها المبصرات،و منها النور الذي به يظهر لك الأشياء.ثم لو كانت الشمس دائمة لا تغيب و لا يقع لها ظل،لكنت لا تعرف وجود النور،و كنت تنظر إلى الألوان فلا ترى إلا الحمرة و السواد و البياض.فأما النور فلا تدركه إلا بأن تغيب الشمس،أو يقع لها حجاب بما له ظل،فتدرك-باختلاف الأحوال بين الظلمة و الضياء-أن النور شيء آخر،يعرض للألوان فتصير مبصرة؛و لو تصوّر للّه سبحانه غيبة أو لأنوار قدرته حجاب عن بعض الأشياء لأدركت من التفاوت ما يضطر معه إلى المعرفة.و لكن الموجودات كلها،لما تساوت في الشهادة لخالقها بالوحدانية من غير تفاوت،خفي الأمر لشدّة جلائه.و لو تصور انقطاع أنوار قدرته عن السموات و الأرض،لانهدمت و انمحقت و أدرك في الحال من التفاوت ما يضطر إلى المعرفة بالقدرة و القادر.

و هذا مثال ما ذكرناه،و تحته أسرار،و فيه مواقع غلط؛فاجتهد،لعلك تقف على أسراره،و لا ترتبك في مواقع غلطه،فمنه غلط من قال:إنه في كل مكان.و كل من نسبه إلى مكان أو جهة فقد ذلّ فضلّ،و رجع غاية نظره إلى التصرف في محسوسات البهائم، و لم يجاوز الأجسام و علائقها.و أول درجات الإيمان مجاوزتها،فيه يصير الإنسان إنسانا فضلا عن أن يصير مؤمنا.

[فصل فى أن للمحبة علامات كثيرة]

اعلم أن للمحبة علامات كثيرة،يطول إحصاؤها.و من علاماتها تقديم أوامر اللّه تعالى على هوى النفس،و التوقّي بالورع،و رعاية حدود الشرع.و من علاماتها الشوق إلى لقاء اللّه،و الخلو عن كراهية الموت إلا من حيث يتشوق إلى زيادة المعرفة،فإن لذة المشاهدة بقدر كمال المعرفة،فإنها بدء المشاهدة،فتختلف لا محالة باختلافها.و من علاماتها الرضاء بالقضاء بمواقع قدر اللّه عز و جل؛فلنذكر معنى الرضاء حتى لا يغتر الإنسان بما يصادف في نفسه من خطرات تخطر،فيظن أنها حقيقة الحب للّه تعالى،فإن ذلك عزيز جدّا.

ص: 158

الأصل التاسع،الرضاء بالقضاء:

اشارة

قال اللّه تعالى: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ (1) [المائدة:119، التوبة:100،المجادلة:22،البينة:8].و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه،فإن صبر اجتباه،و إن رضي اصطفاه»،و قال-عليه السلام-:«اعبد اللّه تعالى بالرضا،فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير»،و قال-عليه السلام-لطائفة:«ما أنتم؟ فقالوا:مؤمنون.فقال:و ما علامة إيمانكم؟فقالوا:نصبر على البلاء و نشكر عند الرخاء،و نرضى بمواقع القضاء.فقال:مؤمنون و رب الكعبة».و في رواية أنه قال:

«حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء».و مما أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام:ما لأوليائي و الهمّ بالدنيا،إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم،إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمّون.و قال صلى اللّه عليه و سلم:«قال اللّه تعالى:أنا اللّه لا إله إلا أنا،فمن لم يصبر على بلائي،و لم يشكر نعمائي،و لم يرض بقضائي،فليطلب ربّا سواي»،و قال عليه السلام:قال اللّه تعالى:«خلقت الخير،و خلقت له أهلا،و خلقت الشر،و خلقت له أهلا،فطوبى لمن خلقته للخير و يسّرته على يديه،و ويل لمن خلقته للشر،و يسرت الشر على يديه،و ويل ثم ويل لمن قال:لم و كيف».و أوحى اللّه سبحانه إلى داود عليه السلام:يا داود تريد و أريد،و إنما يكون ما أريد،فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد،و إن لم تسلّم لما أريد أتعبتك فيما تريد،ثم لا يكون إلا ما أريد.

[فصل قد أنكر الرضا جماعة]

قد أنكر الرضا جماعة و قالوا:لا يتصور الرضاء بما يخالف الهوى،و إنما يتصور الصبر فقط.و إنما أوتوا من إنكار المحبة و نحن نحققها،و علامتها الرضاء بالبلاء و بما يخالف الطبع و الهوى،و ذلك يتصور من ثلاثة أوجه:

أحدها:أن يدهشه مشاهدة الحب و إفراطها عن الإحساس بالألم،ذلك مشاهد في حب المخلوقين و في غلبة الشهوة و الغضب،حتى أن الغضبان تصيبه الجراحة فلا يحس بها في الوقت،و حتى أن الحريص تصيبه شوكة في رجله فلا يحس بها،ثم إذا سكن غضبه و ظفر بمراده عظم ألمه.و إذا تصور أن ينغمر ألم يسير بحب يسير،تصور أن ينغمر ألم كثير بحب قوي بالغ،فإن كل واحد-من الحب و الألم-يقبل الزيادة و الشدة.و مهما تصور مثل هذا في عشق يرجع إلى الميل إلى صورة مركبة من لحم و دم

ص: 159


1- سوره 5 - آیه 119

مشحون بالأقذار و الخبائث؛و إنما يدرك بعين ظاهرة يغلب الغلط عليها،حتى ترى الكبير صغيرا،و البعيد قريبا،و القبيح جميلا.فكيف لا يتصور بالإدراك جمال الحضرة الربوبية،و الجلال الأزلي الأبدي،الذي لا يتصور انقطاعه و نقصانه،المدرك بالبصيرة الباطنة،التي هي أصدق و أوضح عند أهلها من البصر الظاهر؟و من هذا الأصل قال الجنيد-رحمه اللّه-قلت لسرّي السقطي-رحمه اللّه-:هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال:لا.قلت:و إن ضرب بالسيف؟قال:لا،و إن ضرب بالسيف سبعين ضربة، ضربة على ضربة.و قال بعضهم:أحببت كل شيء لحبه،حتى لو أحب النار أحببت الدخول في النار.

و قال عمر بن عبد العزيز-رحمه اللّه-:ما بقي لي فرح إلا في موقع قدر اللّه تعالى.و ضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام،فقيل له:لو سألت اللّه تعالى أن يرده عليك!فقال:اعتراضي عليه فيما قضى أشدّ علي من ذهاب ولدي.

الوجه الثاني من الرضاء:أن يحس بالألم و يكرهه بالطبع،و لكن يرضى به بعقله و إيمانه لمعرفته بجزالة الثواب على البلاء،كما يرضى المريض بألم الفصد،و شرب الدواء،لعلمه بأنه سبب الشفاء،حتى إنه ليفرح بمن يهدي إليه الدواء و إن كان بشعا.

و كذلك يرضى التاجر بمشقة السفر و هو خلاف طبعه.و هذا أيضا يشاهد مثله في الأغراض الدنيوية،فكيف ينكر في السعادة الأخروية؟و روي أن امرأة فتح الموصلي الأنصاري عثرت فانقطع ظفرها فضحكت،فقيل لها:أ ما تجدين ألم الوجع؟فقالت:

إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.فإذا من أيقن أن ثواب البلاء أعظم مما يقاسيه، لم يبعد أن يرضى به.

الوجه الثالث:أن تعتقد أن للّه تعالى تحت كل أعجوبة لطيفة بل لطائف،و ذلك يخرج عن قلبه.(لم و كيف)حتى لا يتعجب مما يجري على العالم مما يظنه الجاهل تشويشا و اضطرابا،و ميلا عن الاستقامة و يعلم أن تعجبه كتعجب موسى من الخضر- عليه السلام-لما خرق سفينة الأيتام،و قتل الغلام،و أعاد بناء الجدار،كما في سورة «الكهف».فلما كشف الخضر عن السر الذي اطلع عليه،سقط تعجبه،و كان تعجبه بناء على ما أخفي عنه من تلك الأسرار.و كذلك أفعال اللّه تعالى،مثاله:ما حكي عن رجل

ص: 160

من الراضين أنه كان يقول في كل ما يصيبه:«الخير فيما قدّره اللّه تعالى»و كان في بادية و معه أهله و ليس له إلا حمار يحمل عليه خباءه،و كلب يحرسهم،و ديك يوقظهم،فجاء ثعلب و أخذ الديك فقال:خيرة،و جاء ذئب و قتل الحمار،فحزن أهله فقال:خيرة،ثم أصيب الكلب فمات،فقال:خيرة؛فتعجب أهله من ذلك،حتى أصبحوا و قد سبي من حولهم،و استرقّ أولادهم،و كان قد عرف مكانهم بصوت الديك،و مكان بعضهم بنبيح الكلب،و مكان بعضهم بنهيق الحمار،فقال:قد رأيتم أن الخيرة فيما قدره اللّه سبحانه، فلو لم يهلكهم اللّه عز و جل لهلكتم و هلكنا.

و روي أن نبيّا كان يتعبد في جبل و كان بالقرب منه عين،فاجتاز بها فارس و شرب و نسي عندها صرة فيها ألف دينار،و جاء آخر فأخذ الصرة،ثم جاء رجل فقير على ظهره حزمة حطب،فشرب و استلقى ليستريح فرجع الفارس في طلب الصرة فلم يرها،فأخذ الفقير فطالبه و عذبه فلم يجدها عنده فقتله.فقال النبي:إلهي ما هذا؟أخذ الصرة ظالم آخر،و سلطت هذا الظالم على هذا الفقير حتى قتله!فأوحى اللّه إليه:اشتغل بعبادتك، فليس معرفة أسرار الملك من شأنك،إن هذا الفقير كان قد قتل أبا الفارس فمكّنته من القصاص،و إن أبا الفارس كان قد أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة،فرددته إليه من تركته.فمن أيقن بأمثال هذه الأسرار لم يتعجب من أفعال اللّه تعالى،و تعجب من جهل نفسه،و لم يقل لم و كيف فرضي بما دبره اللّه في ملكوته.

و هاهنا وجوه أربعة تتشعب عن محض المعرفة بكمال الجود و الحكمة،و بكيفية ترتيب الأسباب المتوجبة إلى المسببات،و معرفة القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، و معرفة القدر الذي هو سبب ظهور تفاصيل القضاء،و أنها رتبت على أكمل الوجوه و أحسنها،و ليس في الإمكان أحسن منها و أكمل.و لو كان و ادّخر،لكان بخلا لا جودا و عجزا يناقض القدرة،و ينطوي تحت ذلك معرفة سرّ القدر،و كما أن من أيقن ذلك،لم ينطو ضميره إلا على الرضا بكل ما يجري من اللّه.و شرح ذلك يطول،و لا رخصة فيه أيضا فلنتجاوزه.

[فصل كيف أجمع بين الرضا بقضاء اللّه تعالى،و بين بغض أهل الكفر]

لعلك تقول:كيف أجمع بين الرضا بقضاء اللّه تعالى،و بين بغض أهل الكفر

ص: 161

و العصيان،و قد تعبدت به شرعا و ذلك مراد اللّه تعالى فيهم؟

فاعلم أن طائفة من الضعفاء ظنوا أن ترك الأمر بالمعروف من جملة الرضا بالقضاء،و سمّوه حسن الخلق و هو جهل محض،بل عليك أن ترضى و أن تكره جميعا.

و الرضا و الكراهية يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من وجه واحد،و لا يتناقض أن يقتل عدوّك الذي هو عدوّ عدوّك أيضا،فترضاه من حيث إنه عدوّك،و تكرهه من حيث إنه عدوّ عدوّك.فكذلك للمعصية وجهان:وجه إلى اللّه تعالى من حيث إنها بقضائه و مشيئته فهو من هذا الوجه مرضيّ به،و وجه إلى العاصي من حيث إنه صفته و كسبه، و علامة كونه ممقوتا من اللّه تعالى فهو من هذا الوجه مكروه.و قد تعبّدك اللّه تعالى ببغض من يبغضه من المخالفين لأمره،فعليك بما تعبّدك به و الامتثال له.و لو قال لك محبوبك إني أريد أن أمتحن حبك بأن أضرب عبدي و أرهقه إلى أن يشتمني فمن أبغضه فهو محبّي و من أحبه فهو عدوي،فيمكنك أن تبغض عبده إذا شتمه،مع أنك تعلم أنه الذي اضطره إلى الشتم،و كان ذلك مرادا منه،فيقول:أمّا فعله في الشتم فإني أرضى به من حيث إنه تدبيرك في عبدك،و مرادك ممن أردت إبعاده،و أما شتمه من حيث هو صفته و علامة عداوته،فإني أبغضه لأني أحبك،فأبغض لا محالة من عليه علامة عداوتك؛و هذه دقيقة زلّ فيها الضعفاء،فلذلك يتهافتون فيها.

[فصل ينبغي أن لا يظن أن معنى الرضا بالقضاء ترك الدعاء]

كذلك ينبغي أن لا تظن أن معنى الرضا بالقضاء ترك الدعاء،بل ترك السهم الذي أرسل إليك حتى يصيبك،مع قدرتك على دفعه بالترس،بل تعبدك اللّه عز و جل بالدعاء،ليستخرج به من قلبك صفاء الذكر،و خشوع القلب و رقته،لتستعد به لقبول الألطاف و الأنوار.فمن جملة الرضا بقضائه،أن يتوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله سببا له؛بل ترك الأسباب مخالفة لمحبوبه و مناقضة لرضاه،فليس من الرضاء للعطشان أن لا يمدّ اليد إلى الماء البارد،زاعما أنه رضي بالعطش الذي هو من قضاء اللّه تعالى؛ بل من قضاء اللّه تعالى و محبته أن يزال العطش بالماء.فليس في الرضا بالقضاء ما يوجب الخروج عن حدود الشرع و رعاية سنة اللّه تعالى أصلا،بل معناه ترك الاعتراض على اللّه عز و جل إظهارا و إضمارا،مع بذل الجهد في التوصل إلى محاب اللّه تعالى من عباده،و ذلك بحفظ الأوامر و ترك النواهي.

ص: 162

الأصل العاشر،ذكر الموت و حقيقته

اشارة

و أصناف العقوبات الروحانية:

اعلم أن المقامات التسع التي ذكرناها ليست هي على رتبة واحدة،بل بعضها مقصود لذاتها،كالمحبة و الرضا،فإنهما أعلى المقامات،و بعضها مطلوبة لغيرها، كالتوبة و الزهد،و الخوف و الصبر،إذ التوبة رجوع عن طريق البعد،للإقبال على طريق القرب.و الزهد ترك الشواغل عن القرب.و الخوف سوط يسوق إلى ترك الشواغل، و الصبر جهاد مع الشهوات القاطعة لطريق القرب.و كل ذلك غير مطلوب لذاته، بل المطلوب القرب و ذلك بالمعرفة و المحبة فإنها مطلوبة لذاتها لا لغيرها، و لكن لا يتم ذلك إلا بقطع حبّ غير اللّه تعالى عن القلب،فاحتيج إلى الخوف و الصبر و الزهد لذلك.و من الأمور العظيمة النفع فيه ذكر الموت،فلذلك أوردناه،و لذلك عظّم الشرع ثواب ذكره،إذ به يتنغص حب الدنيا،و تنقطع علاقة القلب عنها؛قال اللّه تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (1) [الجمعة:8]و قال صلى اللّه عليه و سلم:

«أكثروا من ذكر هادم اللذات»،و قال عليه السلام:«من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه»، و قالت عائشة-رضي اللّه عنها-:يا رسول اللّه هل يحشر مع الشهداء أحد؟قال:«نعم، من يذكر الموت في اليوم و الليلة عشرين مرة».و مر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمجلس و قد استعلاه الضحك،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«شوبوا مجلسكم بذكر مكدّر اللّذات».قيل:و ما هو؟ قال عليه السلام:«الموت».و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم،لما أكلتم منها لحما سمينا».و قال عليه السلام:«كفى بالموت واعظا».و قال عليه السلام:«تركت فيكم واعظين صامتا و ناطقا،فالصامت الموت،و الناطق القرآن».

و ذكر رجل عند النبي-عليه السلام-و أحسن الثناء عليه،فقال عليه السلام:

كيف كان ذكر صاحبكم للموت؟قالوا:ما كنا نكاد نسمعه يذكر الموت.قال:إن صاحبكم ليس هناك.و قال رجل من الأنصار:يا رسول اللّه من أكيس الناس و أكرم الناس؟فقال:أكثرهم للموت ذكرا،و أشدهم له استعدادا،أولئك هم الأكياس،ذهبوا براحة الدنيا و كرامة الآخرة.

[فصل فى أن الموت عظيم هائل]

اعلم أن الموت عظيم هائل،و ما بعده أعظم منه،و في ذكره منفعة عظيمة،فإنه

ص: 163


1- سوره 62 - آیه 8

ينغّص الدنيا و يبغّضها إلى القلب،و بغضها رأس كلّ حسنة،كما أن حبها رأس كل خطيئة،و للعارف في ذكره فائدتان:إحداهما:النفرة من الدنيا،و الأخرى:الشوق إلى الآخرة،فإن المحب لا محالة مشتاق،و معنى الشوق في المحسوسات استكمال الخيال بالترقي إلى المشاهدة،فإن المشتاق إليه مدرك لا محالة بالخيال،و غائب عن الأبصار، و أحوال الآخرة و نعيمها،و جمال الحضرة الربوبية،مدرك كل ذلك للعارف يعرفه كأنه نظر من وراء ستر رقيق في وقت الإسفار و ضعف النور،فهو مشتاق إلى استكمال ذلك بالتجلي و المشاهدة،و يعلم أن ذلك لا يكون إلا بالموت؛فلذلك لا يكره الموت،لأنه لا يكره لقاء اللّه تعالى.و لا سبب لإقبال الخلق على الدنيا إلا قلة التفكر في الموت، و طريق الفكر فيه أن يفرّغ الإنسان قلبه عن كل فكر سواه؛و يجلس في خلوة و يباشر ذكر الموت بصميم قلبه،و يتفكر أولا في أخدانه و أشكاله الذين مضوا،فيتذكرهم واحدا واحدا،و يتذكر حرصهم و أملهم و ركونهم إلى الجاه و المال،ثم يتذكر مصارعهم عند الموت،و تحسرهم على فوات العمر و تضييعه،ثم يتفكر في أجسادهم كيف تمزقت في التراب و صارت جيفة يأكلها الديدان،ثم يرجع إلى نفسه و يعلم أنه كواحد منهم أمله كأملهم،و مصرعه كمصرعهم،ثم ينظر في أعضائه و ينظر كيف تتفتت،و إلى حدقته كيف يأكلها الدود،و إلى لسانه كيف يتهرأ و يصير جيفة في فيه.فإذا فعلت ذلك تتنغص عليك الدنيا و كنت سعيدا،إذ السعيد من وعظ بغيره،فلذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:«أيها الناس، كأن الموت فيها على غيرنا كتب،و كأن الحق فيها على غيرنا وجب،و كأن الذين نشيّع من الأموات سفر عن قريب إلينا راجعون نبوؤهم أجداثهم و نأكل تراثهم،كأنا مخلدون بعدهم،قد نسينا كل واعظة و أمنّا كل جائحة».

[فصل أصل الغفلة عن الموت طول الأمل]

أصل الغفلة عن الموت طول الأمل،و ذلك عين الجهل؛و لذلك قال صلى اللّه عليه و سلم لعبد اللّه ابن عمر-رضي اللّه عنهما-:«إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء،و إذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح،و خذ من حياتك لموتك،و من صحتك لسقمك،فإنك يا عبد اللّه لا تدري ما اسمك غدا»،و قال صلى اللّه عليه و سلم:«إن أخوف ما أخاف على أمتي خصلتان:

اتباع الهوى،و طول الأمل».و اشترى أسامة وليدة إلى شهرين بمائة،فقال عليه السلام:«ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهرين؟إن أسامة لطويل الأمل،و الذي

ص: 164

نفسي بيده ما طرفت عيناي إلاّ ظننت أن شفريّ (1)لا يلتقيان حتى يقبض اللّه عز و جل روحي،و لا رفعت طرفي و ظننت أني واضعها حتى أقبض،و لا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت».ثم قال«يا بني آدم،إن كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى،و الذي نفسي بيده إنما توعدون لآت،و ما أنتم بمعجزين».

و قال صلى اللّه عليه و سلم:«نجا أول هذه الأمة باليقين و الزهد،و يهلك آخر هذه الأمة بالبخل و الأمل».

و قال عليه السلام:«أ كلّكم يحب أن يدخل الجنة؟»قالوا:نعم،قال عليه السلام:

«قصّروا آمالكم،و اجعلوا آجالكم بين أبصاركم،و استحيوا من اللّه حق الحياء».

[فصل أن العارف الكامل المستهتر بذكر اللّه تعالى مستغن عن ذكر الموت]

اعلم أن العارف الكامل المستهتر بذكر اللّه تعالى مستغن عن ذكر الموت،بل حاله الفناء في التوحيد،لا التفات له إلى ماض و لا إلى مستقبل،و لا إلى حال من حيث أنه حال؛بل هو ابن وقته،يعني أنه كالمتّحد بمذكوره؛لست أقول متحدا بالذات،فلا تعقل فتغلط،و تسيء الظن.و كذلك يفارقه الخوف و الرجاء،لأنهما سوطان يسوقان العبد إلى هذه الحالة التي هو ملابسها بالذوق؛و كيف يذكر الموت و إنما يراد ذكر الموت لينقطع علاقة قلبه عما يفارقه بالموت.و العارف قد مات مرة في حق الدنيا و في حق كل ما يفارقه بالموت،فإنه ترفع و تنزه عن الالتفات إلى الآخرة أيضا،فضلا عن الدنيا،و قد تنغص عليه ما سوى اللّه تعالى،و لم يبق له من الموت إلا كشف الغطاء ليزداد به وضوحا،لا ليزداد يقينا،و هو معنى قول علي-رضي اللّه عنه-«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»،فإن الناظر إلى غيره من وراء ستر،لا يزداد برفع الستر يقينا،بل وضوحا فقط؛فإذا ذكر الموت يحتاج إليه من لقلبه التفات إلى الدنيا،ليعلم أنه سيفارقها،فلا يعتكف بهمته عليها،و لذلك قال عليه السلام:«إن روح القدس نفث في روعي أحبب ما أحببت،فإنك مفارقه،و عش ما عشت،فإنك ميت،و اعمل ما شئت،فإنك مجزيّ به».

[فصل حقيقة الموت و ماهيته]

لعلك تشتهي أن تعرف حقيقة الموت و ماهيته؛و لن تعرف ذلك ما لم تعرف حقيقة

ص: 165


1- الشفر:أصل منبت شعر الجفن.

الحياة،و لن تعرف حقيقة الحياة،ما لم تعرف حقيقة الروح و هي نفسك،و حقيقتك و هي أخفى الأشياء عنك،و لا تطمع في أن تعرف ربك قبل أن تعرف نفسك،و أعني بنفسك روحك التي هي خاصية الأمر المضافة إلى اللّه تعالى في قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (1) [الإسراء:85]و في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2) [الحجر:29، ص:72]دون الروح الجسماني اللطيف،الذي هو حامل قوة الحسّ و الحركة،التي تنبعث من القلب،و تنتشر في جملة البدن،في تجاويف العروق الضوارب،فيفيض منها نور حس البصر على العين،و نور السمع على الأذن،و كذا سائر القوى و الحواس، كما يفيض من السراج نور على حيطان البيت إذا أدير في جوانبه؛فإن هذه الروح تشارك البهائم فيها و تنمحق بالموت،لأنه بخار اعتدل نضجه عند اعتدال مزاج الأخلاط.فإذا انحل المزاج بطل كما يبطل النور الفائض من السراج عند انطفاء السراج؛بانقطاع الدهن عنه،أو بالنفخ فيه.و بانقطاع الغذاء عن الحيوان تفسد هذه الروح؛لأن الغذاء له كالدهن للسراج،و القتل له كالنفخ في السراج.و هذه هي الروح التي يتصرف في تعديلها و تقويتها علم الطب،و لا تحمل هذه الروح المعرفة و الأمانة،بل الحمّال للأمانة الروح الخاصة للإنسان،و نعني بالأمانة تقلد عهدة التكليف،بأن يتعرض لخطر الثواب و العقاب بالطاعة و المعصية.و هذه الروح لا تموت و لا تفنى،بل تبقى بعد الموت،إما في نعيم و سعادة،أو جحيم و شقاوة،فإنه محلّ المعرفة.و التراب لا يأكل محل الإيمان و المعرفة أصلا كما نطقت به الأخبار،و شهدت له شواهد الاستبصار.و لم يأذن الشرع في ذكر تحقيق صفته،إذ لا يحتمله إلا الراسخون في العلم؛و كيف يذكر،و له من عجائب الأوصاف ما لم يحتمله أكثر عقول الخلق في حق اللّه تعالى!فلا تطمع في ذكر حقيقته،و انتظر تلويحا يسيرا في ذكر صفته بعد الموت.

[فصل الروح لا تفنى البتة]

هذه الروح لا تفنى البتة،و لا تموت،بل تتبدل بالموت حالها فقط،و يتبدل منزلها،فتترقى من منزل إلى منزل.و القبر في حقها إما روضة من رياض الجنة،أو حفرة من حفر النيران،إذ لم يكن لها مع البدن علاقة سوى استعمالها البدن،و اقتناصها أوائل المعرفة به بواسطة شبكة الحواس.فالبدن آلتها و مركبها و شبكتها،و بطلان الآلة و المركب و الشبكة لا توجب بطلان الصائد؛نعم،إن بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد فبطلانه غنيمة،إذ يتخلص من ثقله و حمله،و لذلك قال عليه السلام:«الموت

ص: 166


1- سوره 17 - آیه 85
2- سوره 15 - آیه 29

تحفة المؤمن»؛و إن بطلت الشبكة قبل الصيد عظمت فيه الحسرة و الندامة و الألم، فلذلك يقول المقصّر: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ (1) [المؤمنون:99، 100].بل إن كان ألف الشبكة و أحبها و تعلق قلبه بها،و حسّن صورتها و صنعتها،و ما يتعلق بها،كان له من العذاب ضعفان:أحدهما:حسرة فوات الصيد الذي لا يقتنص إلا بشبكة البدن،و الثاني:زوال الشبكة مع تعلق القلب بها و إلفه لها.و هذا مبدأ من مبادي معرفة عذاب القبر،إن استقصيته تحققته قطعا.

[فصل فى أن معنى الموت زمانة البدن]

لعلك تشتهي الاستقصاء المفضي إلى التحقيق؛فاعلم أن هذا الكتاب لا يحتمله،فاقنع منه بأنموذج يسير،و افهم أن معنى الموت زمانة (2)البدن.و أنت تعرف أن زمانة اليد خروجها عن طاعتك مع وجود شخصها ببطلان القوة التي بواسطتها تستعمل اليد.فافهم أن الموت زمانة مطلقة في جميع الأعضاء ببطلان قواها،فيسلب الموت منك يدك و رجلك و عينك و سائر حواسك،و أنت باق،أعني حقيقتك التي أنت بها أنت؛ فإنك الآن الإنسان الذي كنت في الصّبا،و لعله لم يبق فيك من تلك الأجسام شيء،بل انحل كلّها و حصل بالغذاء بدلها،و أنت أنت،و جسدك غير ذلك الجسد.فإن كان لك معشوق تفتقر فيه إلى حواسك،عظم عذابك بفراق معشوقك.و جميع ملاذ الدنيا معشوق،و لا تنال إلا بالحواس،و لا فرق في عذاب العاشق بين أن يحجب عنه معشوقه،و بين أن يفقأ عينه،أو يسلب هو عنه بأن يحمل إلى موضع حتى لا يراه،فإن ألمه من عدم الرؤية.و من أحب أهله و ماله و عقاره و فرسه و جاريته و ثيابه يألم بفراقها، سواء سلبت هذه الأشياء عنه،أو سلب هو عنها،بأن حمل إلى موضع آخر،و حيل بينه و بينها.فالموت يسلبك هذه الأشياء.و يحول بينك و بينها،فيكون عذابك بقدر عشقك لها.و الموت يخلي بينك و بين اللّه تعالى،و يقطع عنك هذه الحواس الشاغلة المشوّشة،فتكون لذّتك في القدوم على اللّه تعالى بقدر حبك له و أنسك بذكره؛و لأجل هذا نبّهك و قال اللّه تعالى:«أنا بدّك (3)اللازم فالزم بدّك».و أجمع العبارات عن نعيم

ص: 167


1- سوره 23 - آیه 99
2- زمانة:عاهة.
3- البدّ:النصيب،و من معانيها العوض،و البدّ بكسر الباء النظير و المثيل.

الجنة:«إن لهم فيها ما يشتهون» (1).و أجمع العبارات لعذاب الآخرة قوله: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ (2) [سبأ:54].و لا ملذ إلا الشهوة،و لكن عند مصادمة المشتهى،و لا مؤلم إلا الشهوة،و لكن عند مفارقة المشتهى.و لا ينبغي أن تغتر الآن و تقول:إن كان هذا سبب عذاب القبر فأنا في أمان منه،إذ لا علاقة بين قلبي و بين متاع الدنيا؛فإن هذا لا تدركه بالحقيقة ما لم تطرح الدنيا و تخرج عنها بالكلية،فكم من رجل باع جارية على ظن أنه لا علاقة بينه و بينها،فلما أخذها المشتري اشتعل في قلبه من نيران الفراق،و احترق بها احتراقا،و ربما ألقى نفسه في الماء و النار ليقتل نفسه و يتخلص منها.فكذلك يكون حالك في القبر في كل ما يتعلق به قلبك من الدنيا؛ و لذلك قال المصطفى عليه السلام:«أحبب ما أحببت فإنك مفارقه».و وراء هذا عذاب أعظم منه،و هو حسرة الحرمان عن القرب من اللّه تعالى،و النظر إلى وجهه الكريم.

و ينكشف بالموت عظم قدر ما فات منه،و إن كان لا يعظم قدره عندك قبل الموت؛لأن الموت سبب الانكشاف،ما لم تكن المكاشفة قبله،كما أن النوم سبب انكشاف الغيب بمثال أو غير مثال.و النوم أخ الموت،و لكنه دونه يكبر.فهذان عذابان يتضاعفان على كل ميت كأن غير اللّه تعالى أحب إليه من اللّه تعالى؛و كأن أنسه بغير اللّه تعالى،أكثر من أنسه باللّه؛و هما ضروريان إن عرفت بالحقيقة الروح و بقاءه بعد الموت،و علائقه،و ما يضادّه بالطبع و ما يوافقه بالطبع.

[فصل أن الإنسان يعدم بالموت ثم يعاد]

لعلك تقول:المشهور عند أهل العلم،أن الإنسان يعدم بالموت ثم يعاد،و أن عذاب القبر يكون بنيران و عقارب و حيات،و ما ذكرته بخلاف ذلك.

فاعلم أن من قال إن الموت معناه العدم فهو محجوب عن حضيض التقليد و يفاع (3)الاستبصار جميعا،أما حرمانه عن ذروة الاستبصار فلا تدركه ما لم تستبصر؛ و أما حرمانه عن التقليد فتعرفه بتلاوة الآيات و الأخبار،قال اللّه تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ... (4) [آل عمران:

ص: 168


1- ليس هذا نص آية كما قد يتوهم.
2- سوره 34 - آیه 54
3- يفاع:علو.
4- سوره 3 - آیه 169

169،170]الآية.هذا في السعداء؛و أما في الأشقياء فقد ناداهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم بدر لما قتلوا،فكان يقول:«يا فلان يا فلان-يذكر واحدا واحدا من صناديدهم-فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّا،فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا»؟فقيل يا رسول اللّه أ تناديهم و هم أموات؟فقال عليه السلام:«و الذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لكلامي منهم،لكنهم لا يقدرون على الجواب».و قال عليه السلام:«الموت هو القيامة،و من مات فقد قامت قيامته»و أراد بهذه القيامة الصغرى،و القيامة الكبرى تكون بعده.و شرح قيامة الصغرى إن أردته فاطلبه من كتاب الصبر من كتب الإحياء.و الأخبار في الدلالة على بقاء أرواح الموتى و شعورهم مما يجري في هذا العالم أيضا كثيرة.

[فصل فى إن المشهور من عذاب القبر التألم بالنيران و العقارب و الحيات،صحيح]

أما قولك:إن المشهور من عذاب القبر التألم بالنيران و العقارب و الحيات،فهذا صحيح،و هو كذلك؛و لكني أراك عاجزا عن فهمه و درك سره و حقيقته،إلا أني أنبّهك على أنموذج منه تشويقا لك إلى معرفة الحقائق،و التشمر للاستعداد لأمر الآخرة،فإنه نبأ عظيم أنتم عنه معرضون؛فقد قال عليه السلام:«المؤمن في قبره في روضة خضراء قد فرّج له قبره سبعين ذراعا،و يضيء وجهه حتى يكون كالقمر ليلة البدر،هل تدرون في ما ذا أنزلت فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً؟ (1) قالوا:اللّه و رسوله أعلم:قال:عذاب الكافر في قبره،يسلّط عليه تسعة و تسعون تنّينا،هل تدرون ما التّنين؟تسع و تسعون حية،لكل حية تسعة رءوس ينهشونه و يلحسونه و ينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون».فانظر إلى هذا الحديث،و اعلم أن هذا حق على الوجه الذي شاهده أرباب البصائر ببصيرة أوضح من البصر الظاهر.

و الجاهل ينكره إذ يقول:إني أنظر في قبره فلا أرى ذلك أصلا.فليعلم الجاهل أن هذا التنين ليس خارجا عن ذات الميت،أعني ذات روحه لا ذات جسده،فإن الروح هي التي تتألم و تتنعم،بل كان معه قبل موته متمكنا من باطنه،لكنه لم يكن يحس بلدغه لخدر كان فيه لغلبة الشهوات فأحس بلدغه بعد الموت.و ليتحقق أن هذا التنين مركب من صفاته و عدد رءوسه بقدر عدد أخلاقه الذميمة،و شهواته لمتاع الدنيا.و أصل هذا التنين حبّ الدنيا،و تتشعب عنه رءوس بعدد ما يتشعب عن حب الدنيا من الحسد و الحقد و الرياء و الكبر و الثروة و المكر و الخداع و حب الجاه و المال و العداوة

ص: 169


1- سوره 20 - آیه 124

و البغضاء.و أصل ذلك معلوم بالبصيرة،و كذلك كثرة رءوسه اللداغة؛أما انحصار عددها في تسعة و تسعين،إنما يوقف عليه بنور النبوة فقط.فهذا التنين متمكن في صميم فؤاد الكافر،لا بمجرّد جهله بالكفر،بل لما يدعو إليه الكفر،كما قال اللّه تعالى:

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ (1) [النحل:107].و قال اللّه تعالى:

أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها... (2) [الأحقاف:20]الآية.و هذا التنين لو كان كما تظنه خارجا من ذات الميت،لكان أهون،إذ ربما يتصور أن ينحرف عنه التنين أو ينحرف هو عنه،لا بل هو متمكن من صميم فؤاده،تلدغه التنين لدغا أعظم مما تفهمه من لدغ التنين،و هو بعينه صفاته التي كانت معه في حياته كما أن التنين التي تلدغ قلب العاشق إذا باع جاريته،هو بعينه الذي كان مستكنّا في قلبه استكنان النار في الحجر و هو غافل عنه.فقد انقلب ما كان سبب لذّته سبب ألمه،و هذا سرّ قوله عليه السلام:

«إنما هي أعمالكم ترد عليكم»،و قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً،وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً،وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (3) [آل عمران:30]،بل سر قوله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (4) [التكاثر:5،6]،أي أن الجحيم في باطنكم فاطلبوها بعلم اليقين، لترونّها قبل أن تدركوها بعين اليقين؛بل هو سر قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (5) [العنكبوت:54]؛و لم يقل إنها ستحيط؛بل قال:هي محيطة؛و قوله تعالى: إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها (6) [الكهف:29]، و لم يقل يحيط بهم،و هو معنى قول من قال:إن الجنة و النار مخلوقتان.و قد أنطق اللّه لسانه بالحق،و لعله لا يطلع على سر ما يقوله،فإن لم تفهم بعض معاني القرآن كذلك، فليس لك نصيب من القرآن إلا في قشوره،كما ليس للبهيمة نصيب من البر (7)إلا في قشوره الذي هو التّبن.و القرآن غذاء الخلق كلهم على اختلاف أصنافهم،و لكن اغتذاؤهم به على قدر درجاتهم؛و في كل غذاء مخّ و نخالة و تبن؛و حرص الحمار على التبن أشد منه من الخبز المتخذ من اللّب.و أنت شديد الحرص على أن لا تفارق درجة البهيمة،و لا تترقى إلى رتبة الإنسانية،بل إلى الملكية،فدونك و الانسراح في رياض القرآن،ففيه متاع لكم و لأنعامكم.ة.

ص: 170


1- سوره 16 - آیه 107
2- سوره 46 - آیه 20
3- سوره 3 - آیه 30
4- سوره 102 - آیه 5
5- سوره 29 - آیه 54
6- سوره 18 - آیه 29
7- البر:القمح و الحنطة.

[فصل فهل يتمثل التنين تمثلا يشاهده مشاهدة تضاهي إدراك البصر]

فإن قلت:فهل يتمثل هذا التنين تمثلا تشاهده مشاهدة تضاهي إدراك البصر،أم هو تألم محض في ذاته كتألم العاشق إذا حيل بينه و بين معشوقه؟

فأقول:لا بل يتمثل لك حتى تشاهده،و لكن تمثلا روحانيا لا على وجه يدركه من هو بعد في عالم الشهادة إذا نظر في قبره،فإن ذلك من عالم الملكوت.نعم،العاشق أيضا قد ينام فيتمثل له حاله في المنام،فربما يرى حية تلدغ صميم فؤاده.لأنه بعد بالنوم من عالم الشهادة قليلا،فيتمثل له حقائق الأشياء تمثلا محاكيا للحقيقة،منكمشا له من عالم الملكوت،و الموت أبلغ في الكشف من النوم،لأنه أقمع لنوازع الحس و الخيال،و أبلغ في تجريد الروح عن غشاوة هذا العالم.فلذلك يكون ذلك التمثل تامّا متحققا دائما لا يزول،فإنه نوم لا ينتبه منه إلا يوم القيامة: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (1) [ق:22].و اعلم أن المتيقظ بجنب النائم إن كان لا يشاهد الحية التي تلدغ النائم،فذلك غير مانع من وجود الحية في حقه،و حصول الألم به؛فكذلك حال الميت في القبر.

[فصل أنواع عذاب الآخرة يدرك بنور البصيرة و المشاهدة]

لعلك تقول:قد أبدعت قولا مخالفا للمشهور،منكرا عند الجمهور،إذ زعمت أن أنواع عذاب الآخرة يدرك بنور البصيرة و المشاهدة إدراكا مجاوزا حدّ تقليد الشّرائع، فهل يمكنك-إن كان كذلك-حصر أصناف العذاب و تفاصيله؟

فاعلم أن مخالفتي للجمهور لا أنكره،و كيف تنكر مخالفة المسافر للجمهور!فإن الجمهور يستقرون في البلد الذي هو مسقط رءوسهم و محل ولادتهم،و هو المنزل الأول من منازل وجودهم،و إنما يسافر منهم الآحاد.و اعلم أن البلد منزل البدن و القال؛و إنما منزل الروح الإنساني عوالم الإدراكات،و المحسوسات منزله الأول، و المتخيّلات منزله الثاني،و الموهومات منزله الثالث.و ما دام الإنسان في المنزل الأول فهو دود و فراش؛فإن فراش النار ليس له إلا الإحساس،و لو كان له تخيل و حفظ للمتخيّل بعد الإحساس لما تهافت على النار مرة بعد أخرى،و قد تأذى بها أولا،فإن الطير و سائر الحيوان إذا تأذى في موضع بالضرب يفرّ منه و لم يعاوده لأنه بلغ المنزل الثاني،و هو حفظ المتخيّلات بعد غيبوبتها عن الحس.و ما دام الإنسان في المنزل الثاني بعد فهو بهيمة

ص: 171


1- سوره 50 - آیه 22

ناقصة،إنما حدّه أن يحذر عن شيء تأذّى به مرة و ما لم يتأذّ بشيء فلا يدري أنه يحذر منه.و ما دام في المنزل الثالث-و هو الموهومات-فهو بهيمة كاملة كالفرس مثلا؛فإنه قد يحذر من الأسد إذا رآه أولا،و إن لم يتأذّ به قط،فلا يكون حذره موقوفا على أن يتأذى به مرة؛بل الشاة ترى الذئب أولا فتحذره،و ترى الجمل و البقر و هما أعظم منه شكلا و أهول منه صورة و لا تحذرهما،إذ ليس من طبعهما إيذاء.و هؤلاء إلى الآن تشاركهم البهائم،فبعد هذا يترقى الإنسان إلى عالم الإنسانية فيدرك أشياء لا تدخل في حس و لا تخيل و لا و هم،و يحذر به الأمور المستقبلة،و لا يقتصر حذره على العاجلة اقتصار حذر الشاة على ما يشاهده في الحال من الذئب؛و من هاهنا يصير إلى حقيقة الإنسانية، الحقيقة هي الروح المنسوبة إلى اللّه تعالى في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (1) [الحجر:29،ص:72].و في هذا العالم يفتح له باب الملكوت فيشاهد الأرواح المجردة عن كسوة التلبيس،و غشاوة الأشكال.و هذا العالم لا نهاية له.

أما عوالم المحسوسات و المتخيلات و الموهومات فمتناهية،لأنها مجاورة للأجسام و ملتصقة بها؛و الأجسام لا يتصور أن تكون غير متناهية.و السير في هذا العالم مثاله المشي إلى الخيال على الماء،ثم يترقى منه إلى المشي في الهواء؛و لذلك لما قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم:إن عيسى-صلوات اللّه عليه و سلامه-مشى على الماء،فقال-عليه السلام:«نعم و لو ازداد يقينا لمشى في الهواء».و أما التردد على المحسوسات،فهو كالمشي على الأرض،و بينها و بين الماء عالم يجري مجرى السفينة،و فيها يتولد درجات الشياطين،حتى يجاوز الإنسان عوالم البهائم،فينتهي إلى عالم الشياطين؛و منه يسافر إلى عالم الملائكة،و قد ينزل فيه و يستقر،و شرح ذلك يطول.و هذه العوالم كلها منازل الهدى،و لكن الهدى المنسوب إلى اللّه تعالى يوجد في هذا العوالم الرابع،و هو عالم الأرواح،و هو قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللّهِ (2) [آل عمران:73].و مقام كلّ إنسان و محله و منزله في العلوّ و السّفل بقدر إدراكه،و هو معنى قول علي-رضي اللّه عنه-:«الناس أبناء ما يحسنون».فالإنسان بين أن يكون دودا أو حمارا أو فرسا أو شيطانا،ثم يجاوز ذلك فيصير ملكا.

و للملائكة درجات،فمنهم الأرضية،و منهم السماوية،و منهم المقرّبون المترفعون عن الالتفات إلى السماء و الأرض،القاصرون على جمال الحضرة الربوبية،

ص: 172


1- سوره 15 - آیه 29
2- سوره 3 - آیه 73

و ملاحظة الوجه خاصة.و هم أبدا في دار البقاء،إذ ملحوظهم على الوجه الباقي،و ما عدا ذلك فإلى الفناء مصيره؛أعني السماء و الأرض،و ما يتعلق بهما من المحسوسات و المتخيلات و الموهومات؛و هو معنى قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (1) [الرحمن:26،27].و هذه العوالم منازل سفر الإنسانية،يترقى من حضيض درجة البهائم إلى يفاع رتبة الملائكة؛ثم يترقّى من رتبتهم إلى رتبة العشّاق منهم،و هم العاكفون على ملاحظة جمال الوجه،يسبحون للوجه و يقدسونه بالليل و النهار لا يفترون.

فانظر الآن إلى خسّة الإنسان و شرفه،و إلى بعد مراقيه في معارجه،و إلى انحطاط درجاته في تسفّله.و كلّ الآدميين مردودون إلى أسفل السّافلين،ثم الذين آمنوا و عملوا الصالحات يترقون منها فلهم أجر غير ممنون،و هو جمال الوجه،و بهذا يفهم معنى قوله تعالى: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ... (2) [الأحزاب:72]الآية.لأن معنى الأمانة التعرض للعهدة و الخطرة،و لا خطر على سكان الأرض،و هم البهائم،إذ ليس لهم إمكان الترقّي من المنزل الثالث؛و لا خطر على الملائكة،إذ ليس لهم خوف الانحطاط إلى حضيض عالم البهائم.

و انظر إلى الإنسان و عجائب عوالمه كيف يعرج إلى السماء العلوي رقيّا،و يهوى إلى أرض الحقارة هويّا،متقلدا هذا الخطر العظيم الذي لم يتقلده في الوجود غيره.فيا مسكين!كيف تهدّدني بالعاقبة،و تخوّفني مجاوزة الجمهور و مخالفة المشهور،و بذلك فرحي و سروري!إن الذين يكرهون مني ذلك الذي يشتهيه قلبي.فاطو طومار (3)الهذيان و لا تقعقعني بعد هذا بالشّنان (4).م.

ص: 173


1- سوره 55 - آیه 26
2- سوره 33 - آیه 72
3- طومار:صحيفة.
4- في القاموس و ما يقعقع له بالشنان بفتح القافين يضرب لمن لا يتضع لحوادث الدهر و لا يروعه ما لا حقيقة له.و القعاقع تتابع أصوات الرعد.و الشنان كسحاب لغة في الشنآن و كغراب الماء البارد و ككتاب واد بالشام.

[فصل فى العذاب الآخرة]

و أما مطالبتك إياي بتفصيل عذاب الآخرة،و ذكر أصنافه،فلا تطمع بالتفصيل، فذلك داعية إلى الملال و التطويل،و اقنع بذكر الأصناف؛فقد ظهر لي بالمشاهدة ظهورا أوضح من العيان،أن أصناف عذاب الآخرة ثلاثة:أعني الروحاني منها حرمة المشتهيات،و خزي خجلة المفضحات،و حسرة فوات المحبوبات.فهذه ثلاثة أنواع من النيران الروحانية يتعاقب على روح من آثر الحياة الدنيا إلى أن ينتهي إلى مقامات النار الجسمانية،فإن ذلك يكون في آخر الأمر،فخذ الآن شرح هذه الأوصاف.

الصنف الأول:حرقة فرقة المشتهيات،فصورته المستعارة من عالم الحس و التخيل،التنين الذي وصفه الشرع،و عدد رءوسه و هي بعدد الشهوات،و رذائل الصفات تلدغ صميم الفؤاد لدغا مؤلما،و إن كان البدن بمعزل عنه.فقدّر في عالمك هذا ملكا مستوليا على جميع الأرض،متمكنا من جميع الملاذّ،متمتعا بها،مستهترا بالوجوه الحسان،متهالكا عليها،مشعوفا بالإمارة و استعباد الخلق بالطاعة،مطاعا فيهم، غافصه (1)عدوه و استرقه و استعمله على ملأ من رعيته في تعهد الكلاب،و صار يتمتع بنعمه و يتمتع بأهله و جواريه بين يديه،و يتصرف في خزائنه و ذخائر أمواله،فيفرقها على أعدائه و معانديه.و انظر الآن هل ترى على قلبه تنّينا ذا رءوس كثيرة،تلدغ صميم فؤاده و بدنه بمعزل عنه،و هو يريد أن يبتلى بدنه بأمراض و آلام ليتخلص منه!فتوهم هذا،فربما تشتم به قليلا من رائحة الحطمة (2)التي فيها نار اللّه الموقدة التي لا تطلع إلا على الأفئدة،أعدت لمن جمع مالا و عدده يحسب أن ماله أخلده.

و اعلم أن عذاب كل ميت بقدر رءوس هذا التنين،و عدد الرءوس بقدر المشتهيات،فلهذا من كان أفقر و تمتعه في الدنيا أقل،كان العذاب عليه أخف،و من لا علاقة له مع الدنيا أصلا فلا عقاب عليه أصلا.

الصنف الثاني:خزي خجلة المفضحات؛فقدّر رجلا خسيسا رذيلا فقيرا عاجزا،قرّبه ملك من الملوك و رفعه و قوّاه و خلع عليه،و سلم إليه نيابة ملكه،و مكنه من

ص: 174


1- قوله غافصه أي فاجأه و أخذه على غرّة.
2- الحطمة:النار الشديدة لأنها تحطم ما يلقى فيها.

دخول حريمه و جملة خزائنه اعتمادا على أمانته.فلما عظمت عليه النعمة،طغى و بغى، و صار يخون في خزانته،و يفجر بأهل الملك و بناته و سريّاته،و هو في جميع ذلك يظهر الأمانة للملك،و يعتقد أنه غير مطلع على خيانته.فبينما هو في غمرة فجوره و خيانته،إذ لاحظ روزنة (1)فرأى فيها الملك مطّلعا عليه منها،و علم أن الملك كان يطلع عليه كل يوم و ليلة،و لكنه كان يغض عنه و يمهله حتى يزداد خبثا و فجورا،و يزداد استحقاقا للنكال ليصب عليه في الآخرة أنواع العذاب صبّا.فانظر الآن إلى قلبه كيف يحترق بنار الخزي و الخجلة،و بدنه بمعزل منه،و كيف يود أن يعذب بدنه بكل عذاب و ينكتم خزيه.فكذلك أنت تتعاطى في الدنيا أعمالا هي مشتهياتك،و لتلك الأعمال أرواح و حقائق خبيثة قبيحة،و أنت جاهل بها معتقد حسنها؛فينكشف لك في الآخرة حقائقها في صورها القبيحة،فتختزي و تخجل خجلة تؤثر عليها آلاما بدنية.

فإن قلت كيف ينكشف إليّ أرواحها و حقائقها؟ فاعلم أن ذلك لا تفهمه إلا بمثال؛فمن جملته مثلا أن يؤذّن المؤذّن في رمضان قبل الصبح،فيرى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الرجال و فروج النساء،فيقول له ابن سيرين:هذا رأيته لأذانك قبل الصبح.فتأمل الآن أنه لما بعد بالنوم قليلا عن عالم الحس الجسماني،انكشف له روح عمله.لكن لما بعد في عالم التخيل-لأن النائم لا يزول تخيله-غشاه الخيال بمثال متخيل،و هو الخاتم و الختم،و لكنه مثال أدل على روح العمل من نفس الأذان،لأن عالم المنام أقرب إلى عالم الآخرة،فالتلبيس فيه أضعف قليلا و ليس يخلو عن تلبيس،و لأجله يحتاج إلى التعبير.

و لو قال قائل لهذا المؤذن:أ ما تستحي أن تختم أفواه الرجال و فروج النساء؟ لقال:معاذ اللّه أن أفعل هذا،فلأن أقدّم و يضرب عنقي أحب إليّ من أن أفعل ذلك.فهو ينكره،لأنه يجهله،مع أنه فعله،لأن روحه قاصرة عن إدراك أرواح الأشياء.و كذلك لو أكلت لحما طيبا على اعتقاد أنه لحم طير،فقال قائل:أ ما تستحي أن تأكل لحم أخيك الميت فلان؟لقلت:معاذ اللّه أن أفعل ذلك،و لأن أموت جوعا أهون عليّ من ذلك، فنظرت فإذا هو لحم أخيك الميت قد طبخ و قدّم إليك و لبّس عليك.فانظر كيف تختزية.

ص: 175


1- روزنة:الكوة،الطاقة،و الكلمة من الفارسية.

و تفتضح به،و بدنك في معزل من ألمه.فكذلك يرى المغتاب نفسه في الآخرة،و لأنّ روح الغيبة تمزيق أعراض الإخوان و التفكه بها.

و في عالم الآخرة ينكشف أرواح الأشياء و حقائقها.و كذلك لو كنت ترمي حجارة إلى حائط،فقال لك قائل:أ ما تستحي أن تفعل ذلك،و الحجارة ترتد من الحائط و تقع في دارك،و تصيب حدقة أولادك،فقد غيبت أحداقهم كلهم!قلت:معاذ اللّه أن أفعل ذلك.فقال:ادخل دارك.فدخلت فإذا هو كذلك.فانظر كيف تفتضح و يحترق قلبك تحسّرا على عملك الذي ظننته هيّنا و هو عند اللّه عظيم.و هذا روح حسدك لأخيك، فإنك تحسده و لا تضره و ينعكس عليك و يهلك دينك،و ينقل حسناتك إلى ديوانه-و هي قرّة عينك-لأنها سبب سعادة الأبد،فهي أعز من حدقة الولد.فإذا انكشف لك هذه الروح،فانظر كيف تحترق بنيران الفضيحة و بدنك بمعزل عنه.

فالقرآن كثيرا ما يعبّر عن الأرواح،و لذلك قال تعالى في الغيبة: أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ (1) [الحجرات:12].و قال اللّه تعالى في الحسد: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (2) [يونس:23].فيكفيك من الأمثلة مثال الأذان و الغيبة و الحسد.فقس عليه كل فعل نهاك الشرع عنه،فذلك لقبح روح الفعل و حقيقته،و حسن ظاهره،أي ظاهره حسن للبصر الظاهر،و باطنه قبيح للبصيرة الناظرة في مشكاة نور اللّه تعالى.

و عن هذا عبر الشرع حيث قال:تعرض الدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شوهاء زرقاء،صفتها كيت و كيت،لا يراها أحد إلا و يقول أعوذ باللّه منها،فيقال هذه دنياكم التي كنتم تتهالكون عليها،فيصادفون في نفوسهم من الخزي و الفضيحة ما يؤثرون النار عليه.و إن أردت أن تفهم كيفية هذه الخجلة،فاسمع حكاية رجل من أبناء الملوك، زوج بأجمل امرأة من بنات الملوك،فشرب تلك الليلة فسكر،و أخطأ باب الحجرة فخرج من الدار و ضلّ فرأى ضوء سراج فقصده على ظنّ أنها حجرته،فدخل الموضع فرأى جماعة نياما،فصاح بهم فلم يجيبوه،فظنّ أنهم نيام،فطلب العروس فرأى واحدا نائما في ثياب جديدة فظن أنها العروس،فضاجعها و أخذ يقبلها و يغشاها،و يجعل لسانه في فيها و يمتص ريقها متلذذا بذلك في سكره غاية التلذذ،و يتمسح بالرطوبات التي تصيبه من جميع بدنها،على ظن أن ذلك عطر ادّخرته له.فلما أصبح أفاق فإذا هو

ص: 176


1- سوره 49 - آیه 12
2- سوره 10 - آیه 23

في ناووس المجوس،و إذا النيام موتى.و هذه عجوز شوهاء قريبة العهد بالموت،عليها الحنوط،و كفنها الجديد،فصادف في فمه و أنفه من رطوبات ريقها و مخاطها،و على بدنه من قاذورات أسافلها،فإذا هو من قرنه إلى قدمه ممتلئ في قاذوراتها،ثم تفكر في غشيانه إياها و ابتلاعه ريقها،فهجم على قلبه من الخزي ما تمنّى أن يخسف اللّه به الأرض،حتى ينسى ما جرى عليه.و لا يزال يعاود ذكره و لا ينساه أصلا،بل تجد نفسه ما عمله من سوء محضرا يود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا،و بدنه بمعزل من هذه المخازي و الآلام،و هو في عذاب دائم في الغثيان و القيء،و تذكر تلك المخازي،و يحذر أن يطلع عليه أحد فيتضاعف حزنه،فإذا هو بأبيه و جميع حشمه قد جاءوا في طلبه،و اطلعوا على جميع مخازيه.فهذه حال من تمتع بالدنيا،ينكشف له كذلك في الآخرة روحه و حقيقته،و هي معنى قوله تعالى: وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (1) [العاديات:10]أي يعرض عليها حاصلها أي روحها و حقيقتها،و هي معنى قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (2) [الطارق:9].أي يكشف عن أسرار الأعمال و أرواحها القبيحة أو الحسنة.و كما أن ألذ الأطعمة رجيعه (3)أقذر و أنتن،فألذ تنعمات الدنيا و حاصلها و سرها في الآخرة أقبح و أفضح؛و لذلك شبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الدنيا بالطعام،و عاقبته بالرجيع.

الصنف الثالث:حسرة فوات المحبوبات؛فقدّر نفسك مع جماعة من أقرانك دخلتم في ظلمة،فكان فيها حجارة لا يرى ألوانها،فقال أقرانك:احمل من هذا ما تطيق،فلعله يكون فيها ما ينتفع بها إذا خرجنا من الظلمة،فقلت فما ذا أصنع بها؟ أتحمل في الحال ثقلها،و أكدّ بنفسي فيها و أنا لا أدري عاقبتها!ما هذا إلا جهل عظيم.

فإن العاقل لا يترك الراحة نقدا بما يتوقعه نسيئة،و لا يستيقنه.فأخذ كل واحد من أقرانك ما أطاق أخذه،و أعرضت عن ذلك تستحمقهم و تسخر بهم،لأنهم ينوءون تحت أعبائه و ثقله،و أنت مرفّه في الطريق تعدو و تضحك منهم.فلما جاوزوا الظلمة نظروا،فإذا هي جواهر و يواقيت يساوي كل واحد ألف دينار،فأقبلوا على بيعها و توصلوا بها إلى الجاه و النعمة و أصبحوا ملوك الأرض.فأخذوك فاستسخروك لتعهد دوابّهم لينفقوا عليك في كل يوم قدرا يسيرا من فضلات الطعام.م.

ص: 177


1- سوره 100 - آیه 10
2- سوره 86 - آیه 9
3- رجيعه:ما يقذف من الجوف عبر الفم.

فكيف ترى اشتعال نيران الحسرة في قلبك،و بدنك بمعزل منه؟و كم تقول: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ (1) [الزمر:56]و يا ليتنا نردّ و نعمل غير الذي كنا نعمل؟،فتقول لهم:أفيضوا علينا من الماء ممّا أفيض عليكم،فيقولون لك:هذا حرام عليك،أ لم تكن تسخر منّا و تضحك علينا،فلا بد و أن نسخر اليوم منك كما سخرت منّا.

فلا يزال ينقطع نياط (2)قلبك من التحسر و لا ينفعك التحسر،و لكن تتسلى و تقول:

الموت يخلصني من هذا.

فاعلم أن حال تارك الطاعات في الآخرة كذلك ينكشف له،و لكن لا مطمع في الموت المخلّص،بل هي حسرة أبدية دائمة،و الألم يتضاعف كل يوم،و إن كان البدن بمعزل عنه،و عنه العبارة بقوله تعالى: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ،قالُوا: (3)

إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (4) [الأعراف:50].

و كذلك يفيض على أهل المعرفة و الطاعة من أنوار جمال الوجه ما تحصل به من اللّذّة مبلغ لا يوازيه نعيم الدنيا،بل يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات كما ورد به الخبر،لا بمعنى تضاعف المقدار بالمساحة،بل بتضاعف الأرواح،كما أن الجوهر يكون عشرة أمثال الفرس لا بالوزن و المقدار،بل بروح المالية،إذ قيمته عشرة أمثاله.

و اعلم أن تحريم تلك اللذات و إفاضتها عليهم ليس من جنس تحريم الرجل نعمه على عبده بغضب أو باختيار،حتى يتصور تغييره،بل هو كتحريم اللّه تعالى على الأبيض أن يكون أسود في حالة البياض،و على الحار أن يكون باردا في حالة الحرارة؛و ذلك لا يتصور فيه التبديل،بل مثال ذلك أن يقول للعالم الكامل رجل شيخ هرم من الجهال الذي كان بليدا في أصل الفطرة و لم يمارس قطّ علما و لم يتعلم لغة:أفض على قلبي من دقائق علومك،فيقول:إن اللّه حرّمه على الجاهلين:معناه أن الاستعداد لقبوله إنما يكتسب بذكاء فطريّ،و ممارسة طويلة للعلم،بعد تعلم اللغة العربية و أمور أخر كثيرة.

و إذا بطل الاستعداد و فات استحالة الإفاضة،كما يستحيل إفاضة الحرارة على البرودة مع بقاء البرودة،فلا تظنن أن اللّه تعالى يغضب عليك فيعاقبك انتقاما،ثم تخدع نفسكه.

ص: 178


1- سوره 39 - آیه 56
2- نياط:شريان أو هو العرق الغليظ المتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه من فوره.
3- سوره 7 - آیه 50
4- سوره 7 - آیه 50

برجاء العفو فتقول:لم يعذبني و لم يضره معصيتي بل يلزم العذاب من المعصية كما يلزم الموت من السمّ.

و اعلم أن هذه الحسرة دائمة لأن منشأها تضاد صفتين لا يزول تضادهما أبدا؛ مثاله أن الذي يعلّق بحبل في عنقه أو رجله إنما يتألم لتضاد الصفتين،لا لصورة الحبل و التعلق؛لكن صفته الطبعية تطلب الهويّ إلى أسفل،و المنع القهري بالحبل يمانع الطبعية فيتولد الألم فيه من تمانعهما،فكذلك الروح الإنساني من الروح الروحاني الإلهي بأصل فطرته،فله بحكم الطبع حنين و شوق إلى عالم العلوّ،عالم الأرواح، و إلى مرافقة الملأ الأعلى؛و لكن أغلال الشهوات و سلاسلها يجذبها إلى أسفل السافلين،و هي شهوات الدنيا،و هي صفة عارضة قهرت الصفة الطبعية،و منعتها عن نيل مقتضاها،و الألم يتولد من بينهما؛و النار أيضا إنما تؤلم للمضادة،فإن الملائم للتركيب بقاء الاتصال.و النار تضاد الاتصال بالتفريق بين الأجزاء.و لو لم يكن قد رأيت النار، و سمعت بأن شيئا لطيفا ليّنا يماسّ بدنك فيؤلمك،لاستنكرته و قلت:شيء لا صلابة فيه كيف يؤلم باللمس؟

و اعلم أن التضاد مؤلم،سواء كان بسبب خارج أو داخل؛فإن سمّ العقرب في العضو يؤلم لفرط برودته المضادة لحرارة البدن.فلا تظنن أن الآلام كلّها تدخل من خارج.فإن قلت:إن العقرب إنما لدغت من خارج فاعلم أن ألم السّن و ألم العين لا يقصر عنه،و إنما سببه انصباب خلط داخل مضادّ لمزاج العين و السن.و ليس ذلك بأهون من لدغ العقرب و الحية.

و اعلم أن تضادّ الصفات في القلب،يؤلم القلب إيلاما لا ينقص عما يؤلم السن و العين،و مثاله في أضعف الصفات،أن البخيل المرائي إذا طلب منه عطية على ملأ من الناس عند من يريد أن يعرفوه بالسخاء؛يتألم قلبه لتضادّ صفتين،إذ البخل يتقاضاه أن لا يعطي،و حب الجاه يتقاضاه أن يعطي،و قلبه بين هاتين الصفتين كشخص ينشر بمنشار بنصفين.فهذا مثال حسرة الفوت و عظمها بقدر ما ينكشف من جلالة قدر الفائت،و لا تعلمه بالحقيقة في هذا العالم بل في عالم الكشف،و هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون.

و اعلم أن هذه الأصناف الثلاثة،لها ترتيب:

فالصنف الأول الذي يلقاه الميت المعذب،هو حرقة فرقة المشتهيات،و ذلك

ص: 179

تنين حب الدنيا و لذلك أضيف ذلك إلى القبر؛و إنما سبق هذا لأن أغلب الأشياء على قلب الميت في الحال فراق ما يفوته في الدنيا من جاه و مال و منصب و نعمة،ثم بعد ذلك ينكشف له أرواح الأعمال و حقائقها القبيحة.و ذلك عند الانغمار التام في الموت،و بعد العهد بغشاوة صفات الدنيا.و كل ما كان أعقابه بعد الموت أشد،فهو للكشف أقبل، فيفيض عنه ذلك عليه الخزي و الفضيحة،و لذلك أضيف هذا إلى القيامة،لأنه وسط بين منزل القبر و بين دار القرار؛و لذلك قال اللّه تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ (1) [التحريم:8]،أي يوم القيامة.

و أما حسرة فوت المحبوبات،فيستولي عليه آخرا عند القرار في النار،ففيها يقول: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ (2) [الأعراف:50].و ذلك أن بعد العهد عن الدنيا ربما يخفف عنه عذاب النزوع إليها.

و طول العهد بالكشف يوجب خروجه عن خزي الافتضاح،فإن سورة عذاب الخزي تكون عند هجوم الافتضاح،ثم يألف الفضيحة و الخزي إلفا ما،ثم عند فتورهما قليلا،تنبعث حسرة الفوت،إذ يظهر جلالة الفوائت،ثم تبقى حسرة الفوت آخرا، و يشبه أن يكون ذلك لا آخر له.و هذا كله تعرفه قطعا،إذا عرفت نفسك،و عرفت أنك لا تموت،لكن تعمى عينك،و تصم أذنك،و تفلج أعضاؤك.

فأما الحقيقة التي أنت بها أنت،فلا تفنى بالموت أصلا،بل يتغير حالك فقط، فيبقى معك جميع معارفك،و إدراكاتك الباطنة،و شهواتك،و إنما تعذبك بفراق ما أحببت،و افتضاحك بظهور ما ينكشف في تلك الحال،و تحسرك على فوات ما تعرف عظم قدره بعد الموت لا قبله،و هذا كله مقدّمات العذاب الحسي البدني،و ذلك أيضا حق و له ميعاد معلوم،كما ورد به الآي و الأخبار.

فاقنع الآن بهذا القدر،فإن هذا الكلام يكاد يجاوز حد مثل هذا الكتاب،و لا بد و أن يحرك سلسلة الحمقى الجاهلين؛و لكنهم أخس من أن يلتفت إليهم؛قال اللّه تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ (3) [النجم:29،30].

فلنقتصر على هذا و لنختم به أصول الأربعين لنختم به كتاب جواهر القرآن.و من

ص: 180


1- سوره 66 - آیه 8
2- سوره 7 - آیه 50
3- سوره 53 - آیه 29

طلب مزيدا على هذا فليطلبه من كتاب ذكر الموت من كتب الإحياء.فالغرض الأظهر من هذا الكتاب،التلويحات مع التشويق إلى الاستقصاء المذكور في ذلك الكتاب، ففيه تنكشف أسرار علوم الدين،و لا يفتر عن طلبه إلا مشغوف بالدنيا لا يطلب من العلوم إلا ما يتخذه شبكة للحطام،و آلة لكسب الحرام،فلا يناسبه علوم ذلك الكتاب أصلا البتّة.

ص: 181

ص: 182

خاتمة في مناظرة النفس

اعلم أنا قد نبهناك و شوقناك،فإن أعرضت عن الإصغاء أو أصغيت بظاهر قلبك، كما تصغي إلى الكلام الرسمي،فقد خبت و خسرت،و ما ظلمت إلا نفسك: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ،إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً،وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (1) [الكهف:

57]،و إن أصغيت إصغاء ذي فطنة و بصر حديد،و تفكرت تفكر من له قلب عتيد،و قد ألقى السمع و هو شهيد،فاخرج عن جميع ما يصدّك عن سلوك الصراط المستقيم،و ما يصدّ عنها إلا حب الدنيا و الغفلة عن اللّه تعالى و اليوم الآخر.و اجتهد أن تفرغ قلبك كلّ يوم ساعة عقيب صلاة الصبح،و ذلك عند صفاء الذهن؛فتتفكر في شأنك و تنظر في مبدئك و معادك،و تحاسب نفسك،و تقول لها:إني مسافر و تاجر،و ربحي سعادة الأبد و لقاء اللّه تعالى،و خسراني شقاوة الأبد و الحجاب عن اللّه تعالى،و رأس مالي عمري.

و كل نفس من الأنفاس كنز من الكنوز،و جوهرة من الجواهر،إذ تجارته به سعادة الأبد، و أي كنز أعظم من هذا!و إذا فني العمر انقطعت التجارة و حصل اليأس.و هذا اليوم يوم جديد قد أمهلني اللّه تعالى فيه،و لو توفاني لكنت اشتهي أن يرجعني إلى الدنيا لأعمل صالحا،فاحسبي يا نفسي أنك توفيت و رجعت إلى الدنيا يوما واحدا،و اجتهدي في هذا اليوم الواحد،و انظري لنفسك،فإن لم تمهلي للغد فقد استوفيت ربح هذا اليوم و لم تتحسّري،و إن أمهلت فاستأنفي للغد مثل ذلك و لا تخدعي نفسك بتمني العفو،فإن ذلك ظن قد يكذب و لا ينفع التحسّر.

ثم هب أنه قد عفي عنك،أ ليس قد فاتك ثواب المحسنين؟و ناهيك به حسرة

ص: 183


1- سوره 18 - آیه 57

و ندامة!فإذا قالت نفسك ما ذا أعمل و كيف أجتهد؟فتقول:اتركي ما يفارقك بالموت، و الزمي بدّك اللاّزم و هو اللّه تعالى،و اطلبي الأنس بذكره.

فإذا قالت:فكيف أترك الدنيا؟فقد استحكمت علائقها في قلبي فتقول:أقبلي على قطع علائقها من باطن القلب،كما أعلمناك في الأصول العشرة من المهلكات.

ففتشي عن أغلب علاقة من علائقها من حب مال أو جاه أو حسب أو عداوة أو شهوة بطن أو فرج أو غير ذلك من المهلكات.فليس إلا أن يتفكر في عظم آفاتها و إهلاكها إياك، فتنبعث لمجاهدتها و مخالفة مقتضاها،فقد تخلصت منها و أيدك اللّه بتوفيقه و معونته.

فقدّري أنك مريضة العمر مدة الحياة،و قد أنبأك طبيب تظنين صدقه أن ملاذّ الأطعمة تضرك،و أن الأدوية البشعة تنفعك،أ لست تتصبّرين بقوله على مرارة الدواء طمعا في الشفاء؟أ لست تتصبّرين على الكدّ و التّعب في السفر الطويل طمعا في الاستراحة في المنزل و أنت مسافرة و منزلك الآخرة؟و المسافر لا يستريح و يتحمل التعب و الكدّ،فإن استراح انقطع في الطريق و هلك.

و يقول يا نفس:ما الذي تطلبين من الدنيا إن طلبت المال و وجدته،و هيهات، فتكون في اليهود جماعة أغنى منك.و إن طلبت الجاه و نلت،و هيهات،فيكون في أجلاف الأتراك و حمقى الأكراد من يستولي عليك،و يكون جاهه أعظم من جاهك.فإن كنت لا تدركين آفة الدنيا و شدة عذابها في الآخرة و بلائها،أ فلا تترفعين عنها لخسة شركائها؟أ ما تعلمين أنك لو أعرضت عن الدنيا،و أقبلت على الآخرة،كنت وحيد الدهر فريد العصر لا يوجد في الأقاليم نظيرك؟و إن طلبت الدنيا كان في اليهود و الحمقى من سبقك بها؛فأفّ لدنيا سبقك بها حمير!فتفكري يا نفس،و انظري لنفسك،فلا ينظر لك أحد غيرك.

و كذلك لا تزال تناظر نفسك حتى تطاوعك على سلوك الصراط المستقيم إلى اللّه تعالى.فهذه المناظرة أهم لك-إن كنت عاقلا-من مناظرة الحنفية و الشفعوية و المعتزلة و غيرهم.فلم تعاديهم و تجادلهم و لا يضرّك خطؤهم و لا خطأ غيرهم،و لا هم يقبلون منك و لا أنت تقبل منهم الصواب،و إن صار أظهر من الشمس،و تترك أعدى عدوّك بين جنبيك لا تنازعه و لا تناظره،بل تساعده على ما يطالبك به من شهواته الباطلة الباطنة، فتستنبط بالفكر الدقيق الحيل لقضاء الشهوة!هل هذا إلاّ عين الانعكاس و الانتكاس

ص: 184

على قمة الرأس؟فهل رأيت قط رجلا يشاهد تحت ثوبه حيات و عقارب أقبلت عليه لتهلكه،فأخذ المروحة ليدفع الذباب عن وجه غيره؛فهل يستحق من يفعل ذلك إلا الخزي؟

فاعلم أن هذا حالك في اشتغالك بمناظرة غيرك،و إعراضك عن مناظرة نفسك.

و في هذا المعرض ينكشف لك روح عملك،يوم تبلى السرائر،كما نبهتك على كيفية مكاشفات الآخرة بأسرار الأعمال و أرواحها.و ما لم تناظر نفسك مدة طويلة،لا تخليك لمناجاة ربك و ذكره و الإقبال عليه.ثم طريقك مع النفس-إذا خالفتك-أن تعاقبها بما يزجرها،و تعلم أنها كالكلب،لا يتأدب إلا بالصرب.و إن أردت أن تتعلم طريق مناظرتها و مراقبتها و محاسبتها و معاقبتها،فاطلبه من كتاب المحاسبة و المراقبة،فإن هذا الكتاب لا يحتمله؛و اللّه تعالى يوفقنا و إياك بفضله و جوده و كرمه.

[انتهى]

ص: 185

ص: 186

الفهرس

الموضوع الصفحة

المقدمة 3

القسم الأول:في جمل العلوم و أصولها و هي عشرة 5

الأصل الأول:في الذات 5

الأصل الثاني:في التقديس 5

الأصل الثالث:في القدرة 6

الأصل الرابع:في العلم 6

الأصل الخامس:في الإرادة 6

الكلام في المعتقدات القدرية و الجبرية و المعتزلة..الخ 8

الأصل السادس:في السمع و البصر 12

الأصل السابع:في الكلام 13

الأصل الثامن:في الأفعال 13

الأصل التاسع:في اليوم الآخر 14

الأصل العاشر:في النبوة 15

خاتمة في التنبيه على الكتب التي تطلب فيها حقيقة هذه العقيدة 16

القسم الثاني:في الأعمال الظاهرة و هي أيضا عشرة أصول 18

الأصل الأول:في الصلاة 18

الأصل الثاني:في الزكاة و الصدقة 22

المحافظة في الزكاة و الصدقة على خمسة أمور 23

ص: 187

الموضوع الصفحة الأول:الإسرار 23

الثاني:أن تحذر من المن 23

الثالث:أن تخرجه من أطيب أموالك 24

الرابع:أن تعطي بوجه طلق 24

الخامس:أن تتخير لصدقتك محلا تزكو به الصدقة 24

الأصل الثالث:في الصيام 24

الكلام في أن طب القلوب قريب من طب الأبدان 25

الكلام في درجات أسرار الصوم 25

الأصل الرابع:في الحج 26

آداب الحج سبعة 26

الأول:أن ترتاد للطريق رفيقا صالحا و نفقة طيبة حلالا 26

الثاني:أن يخلي يده عن مال التجارة كيلا يتشعب فكره 26

الثالث:أن يوسع في الطريق بالطعام و يطيب الكلام مع الرفقاء و المكاري 26

الرابع:أن يترك الرفث و الجدال 26

الخامس:أن يركب راحلة دون المحمل 27

السادس:أن ينزل عن الدابة أحيانا ترفيها للدابة 27

السابع:أن يكون طيب النفس بما أنفق من نفقة 27

الأصل الخامس:في قراءة القرآن 28

آداب قراءة القرآن الظاهرة 28

أسراره الباطنة 29

الأصل السادس:ذكر اللّه عز و جل في كل حال 33

الأصل السابع:في طلب الحلال 39

فصل في أن طيب المطعم له خاصية عظيمة في تصفية القلب 40

فصل إياك أن تشدد على نفسك فتقول أموال الدنيا كلها حرام 43

الأصل الثامن:في القيام بحقوق المسلمين و حسن الصحبة معهم 45

فصل من أصل الدين في أمر الصحبة اتخاذ الاخوان في اللّه 51

ص: 188

الموضوع الصفحة الأصل التاسع:في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 53

فصل كل من شاهد منكرا و لم ينكره و سكت عنه فهو شريك فيه 53

فصل عمدة الحسبة شيئان 54

أحدهما:الرفق و اللطف و البداية بالوعظ 54

العمدة الثانية:أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها 55

الأصل العاشر:في اتباع السنة 55

فصل السبب المرغب في الاتباع في هذه الأفعال 56

فصل التحريض الذي ذكر إنما هو في العادات 59

خاتمة في ترتيب الأوراد و تنعطف على الأمور العشرة 61

القسم الثالث:في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة و هي أيضا عشرة أصول 63

الأصل الأول:شره الطعام 63

فصل السر في تعظيم الجوع و مناسبته لطريق الآخرة 64

فصل كيفية ترك عادة الشبع و الإكثار 65

الأصل الثاني:شره الكلام 67

فصل أن للسان عشرين آفة 67

فصل تفصيل بعض الآفات 68

الآفة الأولى:الكذب 68

فصل الكذب حرام في كل شيء إلا لضرورة 68

الآفة الثانية:الغيبة 69

فصل يرخص في الغيبة في ستة مواضع 71

فصل علاج النفس في كفها عن الغيبة 71

الآفة الثالثة:المراء و المجادلة 72

الآفة الرابعة:المزاح 72

الآفة الخامسة:المدح 73

فصل حق على الممدوح أن يتأمل في خطر الخاتمة 74

الأصل الثالث:في الغضب 74

ص: 189

الموضوع الصفحة فصل عليك في صفة الغضب وظيفتان 74

الأصل الرابع:في الحسد 76

فصل الحسد من الأمراض العظيمة للقلب 76

فصل لعل نفسك لا تطاوعك على التسوية بين عدوك و صديقك الخ 77

الأصل الخامس:في البخل و حب المال 78

فصل في أن أصل البخل حب المال 78

فصل في أن المال ليس مذموما من كل وجه 79

فصل في معرفة مقدار الكفاية 80

فصل في أن الذي ذكر تقريب يمكن الزيادة عليه و النقصان منه 81

فصل في معرفة حد البخل 82

فصل في معرفة علاج البخل 82

الأصل السادس:الرعونة و حب الجاه 83

فصل حقيقة الجاه هي ملك القلوب لتتسخر لذي الجاه على حسب مراده 84

فصل لم كان طلب الرفعة مذموما الخ 85

فصل في أن طريق علاج حب الجاه هو قمع هذا الحب 86

فصل من البواعث على طلب الجاه حب المدح 87

الأصل السابع:حب الدنيا 87

فصل في أن هذه الدنيا المذمومة هي بعينها مزرعة الآخرة 88

فصل في أن من عرف نفسه و عرف ربه عرف وجه عداوة الدنيا للآخرة 89

فصل في أن من ظن أنه يلابس الدنيا ببدنه و يخلو عنها بقلبه فهو مغرور 91

الأصل الثامن:في الكبر 92

فصل حقيقة الكبر أن يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال 92

فصل في أن العلاج الجملي لقمع رذيلة الكبر أن يعرف الانسان نفسه 93

فصل في علاج الكبر على التفصيل 94

الأصل التاسع:العجب 97

فصل في أن حقيقة العجب استعظام النفس و خصالها الخ 98

ص: 190

الموضوع الصفحة فصل العجب جهل محض فعلاجه العلم المحض 98

فصل من العجائب أن يعجب بعلمه و عقله 98

الأصل العاشر:في الرياء 99

خاتمة في مجامع الأخلاق و مواقع الغرور فيها 108

القسم الرابع:في الأخلاق المحمودة و هي أيضا عشرة أصول 115

الأصل الأول:التوبة 115

فصل في حقيقة التوبة 115

فصل في وجوب التوبة على كل أحد 116

فصل في أن علاج التوبة حل عقدة الإصرار 117

الأصل الثاني:في الخوف 120

فصل في حقيقة الخوف 120

فصل في علاج الخوف و تحصيله 121

الأصل الثالث:في الزهد 123

فصل في أن للزهد في الدنيا حقيقة و أصل و ثمرة 123

فصل في أن الزهد على درجات 126

الأصل الرابع:في الصبر 128

فصل في حقيقة الصبر 128

فصل في درجات الصبر 129

الأصل الخامس:الشكر 132

فصل في مقام الشكر 132

الأصل السادس:الاخلاص و الصدق 136

أركان الاخلاص 136

الركن الأول:النية 136

الركن الثاني:في إخلاص النية 140

الركن الثالث:الصدق 141

الأصل السابع:التوكل 143

ص: 191

الموضوع الصفحة فصل في حقيقة التوكل و هي ثلاثة أركان 144

الركن الأول:المعرفة 144

الركن الثاني:حال التوكل 147

الركن الثالث:في الأعمال 148

الأصل الثامن:في المحبة 150

الأصل التاسع:الرخاء بالقضاء 159

الأصل العاشر:ذكر الموت و حقيقته و أصناف العقوبات الروحانية 163

فصل في أن أصل الغفلة عن الموت طول الأمل 164

فصل في معرفة حقيقة الموت و ماهيته 165

فصل في عذاب الآخرة و ذكر أصنافه 174

خاتمة في مناظرة النفس 183

الفهرس 187

ص: 192

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.