الامام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى اللحد المجلد 1

هویة الکتاب

الامام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى اللحد

الجزء الأوّل

بقَلَم سَماحة العلّامة الخَطيب السَيّد مُحمّدكاظم القَزويني

محرر الرقمي:ولي رادمرد

ص: 1

اشارة

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى اللحد

ص: 2

مُقَدمة المُحقّق

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين، والصَلاة والسَلام على خَيرِ خَلْقِه و اَشرفِ بَريَّتِه، سيّدنا مُحمّدالمصطفى، وآله الطيبَينَ الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

وبَعْدَ، حِينَما قامَ السَيّد الوالد (رِضوَانُ اللّه عَلَيهِ) بالتاليف عن حياة الإمام الجَواد.. و الإمام الهادي.. و الإمام الحَسَن العَسكري (عليهم الصلاة والسلام) إنتَهَجَ نَهْجاً خاصاً في طريقة التاليف.. يَخْتَلِف عن

ص: 3

سائر مُؤلّفاته، فكَتبَ عَن هؤلاء الأئمَّة الثَلاثة الطاهرين.. بأسلوب إقترحَه عليه بعضُ أصدقائه، وهُوَ: اَنْ يَكتُبَ مُوجَزاً مُختَصَراً عن كُلِّ واحدً من هؤلاء الأئمَّة الأطهار.. في الكتاب المُخصّص له، ثُمَّ يَكتُب ما يَرتَبِط به من مَعلومات و احادیث.. من خلال تسجيل اَسماء أصحابِه.. وذِكر نُبذة عن حياة كُلِّ واحِدِ من الأصحاب، فيَذكُرُ ما يرتبط بالإمام.. عِنْدَ الكتابة عن الرّجُل الّذي رَوَى الخَبَر أو الحديث.. عن ذلك الإمام.

وقَد سَبَّبَ إنتِهاجُ هذا الأُسلُوب.. أَنْ يَكْتُب الوالد.. عن ميلاد الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَثَلاً.. في خَمسَة مَواضِع مِنْ كِتابه، وهِیَ مُوزّعة على فُصُول مُتعدّدة و مُتباعِدة! وهكذا بالنسبة لسائر المَواضيع، لانّ التركيز في مُخَطَّط الكتاب صارَ على ذِكْرِ حَياة الأصحاب، ثُمَّ سَرْد كُلّ موضوع.. عِنْدَ الكتابة عن الرّجُل الّذي رَوى الحَديث المُرتَبط بِذلك المَوضوع.

بَينَما كانَ الأفضَل التَحَدّث عن كُلِّ مَوضوعٍ.. في مَكانٍ واحِد، و دراستُه من جَوانبه المُتَعَدّدة.. الَّتي

ص: 4

وردت حولَها المَعلومات.

وقَد كانَ هَدف السَيّد الوالد.. مِنْ إنتهاج هذا الأُسلُوب : هُوَ جَلْب إنتباه القارىء.. إلى حَقيقة مُهِمَّة، و هِیَ: أنّ الإمامَ الجَواد.. رغْمَ قِصَرِ عُمُره.. و مُحاربة الحُكّام له، فَقَد كانَ لَه هذا العَدَد الكثير من الأَصحاب الّذين رَوَوا عَنهُ، و لَهُ هذا الكمّ الوافر.. من الأَحادِيث و الاَخبارالَّتي رُؤيَت عَنهُ.. في شَتّى المَجالات.

و فِعلاً.. هذا هَدف سامي، لكنَّ هُناك ما هُوَ أفضَل مِنْ هذا الأُسلُوب.. لاَيصال هذه الحَقيقة إلى أذهان القُرّاء، وهُوَ أنْ تُذكر اَسماء الأَصحاب و بَعض التَفاصيل عن حَياتهِم.. في قَصْلٍ مُخَصَّص لِذلك، أمّا سائر المَواضيع.. فتُذكر في فُصول مُخَصَّصة لها، وهِیَ تَحْمِل عَناوين تَدلُّ على الموضوع الّذي يُرادُ الكتابة عَنهُ.

فقُلتُ لِوالِدي- ذاتَ يَوم-: إنّكَ كَتبتَ هذه الكُتُب الثَلاثة.. بأُسلوب يَختلف عن مَنْهَجِك في سائر مُؤلَفاتك، ويا حَبَّذا لو قُمتَ بصِياغة هذه

ص: 5

الكُتُب الثلاثة.. مِنْ جَديد، لِكي يكون الأُسلُوب عَصْرياً.. ولَيسَ قَديماً؟

فقال: كلامُكَ صَحيح.. ومُقْنِع، ولكِنَّني مشغول الآن.. بمُؤلَّفاتي الأُخرى، ولَيسَ لَدَيَّ الوقتُ الكافي.. لإعادة صِياغة هذه الكُتُب الثلاثة.. رغمَ اَسفي على الأُسلُوب الّذي انتَهَجْتُه فيها، و إني أطلب مِنك- يا ولدي- اَنْ تَقُومَ أنت.. بهذه المُهمّة، و ساكونُ شاكراً لك، ولَكَ مِنّي كافة الصلاحيّات.. في مجال إعادة الصِياغة.. وانتِهاج الأُسلُوب الّذي تراه مُناسباً، دون حاجة إلى مُراجَعَتي في تفاصيل خريطة العَمَل.

فشَكرتُه على حُسن ظنّه بي، و بَداتُ بالعَمَل، ولكِنَّ العَوائق- في حياتي- كاَنتَ تحُول دون إكمال هذا المَشروع.

أمّا الآن.. فَقَد فَرغتُ من إعادة صِياغة الكتاب الأوّل، وهو: «الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى اللَحد».

ص: 6

اَساَلُ اللّه تعالى.. لِوالِدي الرَحمة والرِضوان، و لي قبول هذا الجهد المتَواضع.

و قَبْلَ أَنْ اَحْتِمَ هذه.. أقول: إنَّ التعبير والقَلَم.. هُوَ نَفْس قَلَم الوالد، مَعَ فارق تَغيير الهِیَكَل العام لِلكتاب، وإضافة هَمْزة الوصل.. بَينَ أجزاء الموضوع الوَاحِد، و وضع عناوين لبعض فُصول الكتاب.

وقَد سَجَّلْتُ مَصادِرَ كثير من الأحاديث.. بدقّة، و شَرَحْتُ بَعْض الكلمات، كُلّ ذلك في الهَامش، وخَتَمْتُها بكلمة «المُحقّق» لتَکُون علامة فارِقة بَينَ ما ذكره السَيّد الوالد.. وما ذَكرتُه اَنا.. من التوضيحات أو الشُروح.

ختاماً: تَرقَّبوا صُدور الطبعة المُحقّقة.. من كتاب «الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى

اللحد».

مصطفى بن مُحمّدكاظم القزويني

30 / 11 / 1428ه_

ص: 7

ص: 8

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المهد إلى اللحد الجزء الأوّل

بقلم سماحة العلّامة الخطيب السَيّد مُحمّدكاظم القزويني

ص: 9

ص: 10

الإهداء

لقَد أهديت أكثَرَ مُؤلفاتي- فيما مضى- إلى سيدنا و مولاَنا بقيّة اللّه في أرضه، الإمام المهدي (صلوات اللّه عليه).

ولكنّني أهدي هذا الكتاب إلى سيدنا و مولاَناالإمام عليّ بن موسى الرضا (صلوات اللّه عليه). لأنني راَيتُ في المنام قائلاً يَقولُ لي:

الإمام الرضا يَقولُ لك: «أكتُب عن الأئمَّة الأربعة مِنْ بَعْدَ ي».

و كانَ تاريخ هذه الرؤيا: لَيلَة الجمعة، المُوافِقَة للَيلَة17 /مِن شهر ربيع الثاني/من عام 1402 للهجرة.

ولِهذا.. فَإنني أَشرعُ بِتاليف هذا الكتاب،

ص: 11

إمتثالاً.. بَلْ إعتزازاً بأمر مولاَي الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و أهديه إلى مَن صَدَر مِنْهُ الأمرُ.. المَشْفُوع باللطف والعِناَية، والحَمد للّه على ما أَنعَم.

و كانَ سَبَب التأخير في تأليف هذا الكتاب، هُوَ اَنَّني كُنتُ مَشغولاً بِتاليف كتاَبي عن شخصيّة الإمام المَهْدي (عَلَيهِ السَّلَامُ). فراَيتُ أنَّ من الأفضَل إكمال تاليف الكِتاب الّذي في يدي، خاصةً و اَنَّ الإمام المهدي هُوَ الإبن الرابع للإمام الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فَبَقِيتُ مُنْتَظِراً إلى أنْ يَتُمَّ تأليف ذلك الكتاب. والآن.. قَد فرغتُ- و الحَمدُ لِلّه- من تاليفِه، وخَرَجَ إلى عالَم النُّور.. وتَسَلَّق أرفُفَ المَكْتَبات.

و ها اَناأبدا بالكتابة عن سَيَّدي ومولاَي الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

مُحمّدكاظم القزويني

17/ 4/1407 ه_

مدينة قم- ایران

ص: 12

المُقَدمَة

بِسمِ اللّهِ الرَّحمَن الرَّحِیم

الحَمْدُ للهِ الّذي بِنِعْمَتِه تَتُم الصالحات، وبِرَحْمَتِه تُمحى السيِّئات، وصلَّى اللّهُ على سيّدنا و مولاَناونَبَينَا مُحمّدسيّد السادات، وعلى آله أطهر البَريَّات، و اللعْنَةُ على أعدائهم.. مِنَ الآن إلى آخر الحياة.

وبَعْدَ : فَهذه صفحات تَتَضَمَّن بعض الجَوانِب مِن حَياة إمامٍ مِنْ أئمَّة أهل بَيت النُبوَّة، و موضع الرسالة ومَهْبَط الوحي و مَعْدِن الرَحْمَة.

الإمام.. الّذي جَعَلَهُ اللّه في ذروة العَظَمة، وقِمَّة الشَرف، و أوج الجَلالة والسيادة.

ص: 13

و كَيفَ استطيعُ أَنْ أَتَحَدَّثَ عن هذا الإمام العَظيم.. و نَحنُ في زَمَانِ قَد ضاعت فيه المَقاَييس، واختَلَّتْ فيه المَوازين، و أصبحت فيه القيم و المفاهِیَم مَهْجُورة، و الجوانب المادّية على الأفكار والأقلام، و نَسِيَ المُسلِمون- أو تناسوا- الحقائق الثاَبَتةَ، بَعْدَانْ استولى عليهم الفراغ العقائدي، فَجَرَفَتْهُمُ الَّتي ارات السياسية المَصْبُوعة بصبغَة الدين، فحارَبوا الدينَ باسم الدين، و كافَحُوا الإسلام باسم الإسلام، مِنْ حَيثُ يَشعُرُونَ أو لا يَشْعُرون!!

فَتَکَوَّنت المذَاهب، وتشَكّلت الطوائف، وظهَرَت ظَهَرَ الطرائق؛ فَصارَ المُسلِمون فِرَقاً و أحزاَبا، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِم فَرِحُون!

و قام أفراد- من ذوي الأطماع و المَصالح الشَخصيّة- يَدْعُونَ الناس إلى أنفُسِهِم باسم الخلافَة و هُم فاقَدونَ لِمُؤهّلاتها وشروطها، فالتفَّ الناس حولَهم، و راجت بضاعَتُهُم. و قام اَنا سٌ آخرون.. يَدْعُونَ الناس إلى آراء أُولئك

ص: 14

الأفراد.. و أفكارهم الشاذّة، الَّتي ما أنزلَ اللّه بِها مِنْ سُلطان، فَوَجَدوا التجاوب مِن اتباعِ كلّ ناعِق، و من الّذين يميلون مَعَ كلّ ريح.

و لكن.. يَجِب عَلَينا أَنْ نَتَساءَل: هَل إنّ الدين الإسلامي- بطبعه وطبيعَته- يَتَطَلبُ الإِنقِسامَ والتَفْرِقَة التشتُّت؟! أم أن الإسلام هُوَ الدين الوَحيد الّذي تأسَّسَ على الوحدة والاتّحاد، ونَهى عن التَفرقة و الإختلاف؟!

ولكي نَعْرِف الإجابة على هذا السؤال، نُلقي نظرة إلى القُرآن الكريم، فَنَراهُ يُصَرِّحُ بِقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أمَتُكُمْ أُمَّةً واحِدَة) (1).

وبقَوله (عَزَّ مِنْ قائل): ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جميعاً ولا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُمْ أعداءاً فَالّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخواَنا ﴾ (2).

ص: 15


1- سورة المؤمنون، الاَية 52
2- سورة آل عمران، الاَية 103

و يقوله سُبْحاَنه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ (1).

وغيرها من الاَيات.

وحينما تراجع السُنّة النَبويَّة الصحيحة، نجد آن هناك أحاديث كثيرة.. وَرَدَتْ عَنْ رَسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حَولَ هذا المَوضوع بالذات، و إذا أردنا أن نَذكُرَها- هنا- فَسَوفَ يَطُولُ الكلام، ويَخْرُجُ كِتابُنا من إطارِه.

فَمن اَينَ- إذن- جاءَتِ التفرقة؟!

وكَيفَ تَکَوَّنتِ المَذاهِب؟!

وكَيفَ حَصَلَ الإختِلافُ بَينَ المُسلِمين في عَقائدِهِم و أحكامهم؟!

من الوَاضِح أنّ الإجابة على هذه الأَسئلة، تَتَطلَّبُ الكثير مِنَ الشَرح والتَفصيل، ومُقَدمة هذا الكتاب لا تُناسِبُ إطالةَ الكلام في هذا المَوضوع، ولكنّنا نُلَخَّصُ القَولَ و نُوجِزه فيما يَلي:

ص: 16


1- سورة الحجرات، الاَية 10

لَقَد بَعَثَ اللّه نَبيّه مُحمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) رسولاً إلى الناس، فجاءَ بالدين الكامل الجامِع، الّذي يَضْمَنُ سَعادة الدُنيا و الآخِرة، و اَنزلَ اللّه القُرآن تِبياَناً للناس، فيه ما يَحْتاجُ إليه البَشَر مِنَ العَقائد و الاحكام و الأخلاق،- بشكل إجمالي أو تفصيلي-.

فَكانَ رَسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) يُفَسِّرُ مِنَ القُرآن ما يَحْتاجُ إلى تفسير، فَمَثَلاً:

اَمَرَ اللّه تَعَالَى عِبادَهُ بالصلاة و الصِيام والزَكاة والحجّ و غيرُ ذلك، فَكانَ رَسُولُ اللّه يُبَينَ للناس واجبات الصلاة و عَدَدَ ركعاتها، وأحكام الصوم، والأشياء الَّتي تجِبُ فيها الزكاة، ومَناسِكَ الحَجِّ، وغير ذلك.

فآمن برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) من آمن، و اهتَدى به مَنِ اهْتَدى.

و حَيثُ إنّ رسول اللّه هُوَ خاتم الأنَبيّاء و لا نَبيّ بَعْدَ ه.

وحَيثُ إِنَّ القُرآن هُوَ آخِرُ كتاب سماوي آنزلَهُ اللّه سُبحاَنه.

وحَيثُ إِنَّ اللّه أَرسَلَ رَسولَه إلى الناس كافّة.

ص: 17

و حَيثُ إنّ الشَريعة الإسلاميّة هِیَ آخِرُ الشرائع الإلهِیَة.

وحَيثُ إِنَّ «حَلالَ مُحمّدحَلال إلى يَوم القيامة، و حرامه حرام إلى يَوم القِيامَةِ»، فَلا نَسْخَ و لا تَغيير، و لا تبديل في أحكام الإسلام.

بَعْدَالإنتباه إلى هذه «الحَيثيّات».. لا بُدَّ وأَنْ يَكونَ الدينُ الإسلامي جامعاً لِجَميع جوانب الحياة البشريّة، حَتَّى لا يحتاج الناسُ إلى دينٍ آخر، أو إلى قوانين أُخرى، أو إلى شَريعَةِ غَير الشريعة الإسلامية.

و بما أنّ المُسلمين- في عَهْد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) - كانوا في دور التَكوين، و لَمْ يَكُنْ لَهُم يَوم ذاك النُّضْج الفِكري في العقائد و الأحكَام، من حَيثُ معرفة التحليل و الإطلاع على فلسَفَة الأحكام، كان لابُدَّ مِنْ تعیین افراد اكفاء، و عَناصِرَ شَريفَة، تَقومُ بِحِراسَة الدين عن التَحريف، وتَامين النواحي العلميَّة، في الأَجيال الَّتي سَوف تأتي بَعْدَعَصْر الرسول الكريم، وذلك لِدَفع شُبهات الملاحِدة، والإجابَة على أَسئلة

ص: 18

المُنْحَرفين، و حَلّ المشاكل العلميّة والمسائل الفِقهِیَة.

و كاَنتَ هُناك أحكام كثيرة غير معلومَة التَفاصِيل عِنْدَ المُسلمين، في شَتّى القضاَيا والأمور. فَكانَ ضَروريّاً اَنْ يُؤمنَ اللّه تعالى مصادر أمينَة، لِمَلْء هذه الفَراغات والنَقائص، وحراسَة الدين من الأَخطار المُحْتَمَلَة!

فَإذا كاَنتَ المَدرسة الاَبَتدائية تحتاج إلى مُدير.

الحكومة تَحْتاج إلى رئيس أو اَمير.

وقطيعة الغَنَم بحاجة إلى الراعي.

والعائلة الوَاحِدة تحتاج إلى كبيرٍ يُشْرِفُ على أمورِها، ويُوفِّرُ لَها ما تَحْتاجُ إليه.

أما يَحتاجُ المُجتَمَعُ الإسلامي إلى قائدِ مُحَنَّك، عالِمٍ بِجَميع الأمور، تَتَوفَّر فيه المُؤهّلات، وتَجْتَمِع فيه شروط القيادة الصَحيحَة الكفُوءَة، كي يَقْتَديَ بِه المُجتَمَع الإسلامي، ويَنْضَوي تَحْتَ لوائه؟!

ص: 19

وهَلْ يُمكِنُ أَنْ تَعيش أُمَّةٌ مِنَ الأمَم حَياة اَمنَ ة مُطْمَئِنَّة.. بِلا رئيس آمين.. أو اَمير مُخْلِص؟!

مِنَ الوَاضِح أنّ الجَواب هُوَ: لا.

ونَحْنُ نَقول: إنَّ رَسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) كانَ اكثرَ اهل العالَم عِلْماً و مَعْرفَةٌ وحِكْمَةً و بَصِيرةً بالأمور، فَهَلْ مِنَ المَعقول أن يُشرك هذا النَبيّ- الحكيم أَنْ العارف العالم- أمَّتَه بِلا قائد و بِلا إمام؟!!

فَإذا نَسَبْنا إلى سَيّد الأنَبيّاء إهمال أمور أمته.. فَقَد ظَلَمْناه و افْتَرَيْنا عليه.

و إذا قُلْنا: إنّ الرَسول الحَكيم.. قَد رَاعى هذه الأمور المُهِمَّة، و هذه الجوانب العَظيمة، وعَيَّنَ مَنْ يَقومُ مَقامَهُ لِسَدَّ هذا الفراغ، كي يَخْلُقَه مِنْ بَعْدَ هِ، فَمَنْ هُوَ ذلك الخليفة الّذي عَيَّنَهُ رَسولُ اللّه، ونَصَبَه لأمّتِه؟؟

يقولون: إنّ رسولَ اللّه جَعَلَ الاَمرَ شُورَى بَينَ أُمَّته، يَخْتارُونَ مَنْ شاؤوا، لِيَقومَ بأَعباء الخِلافة وقِيادة المُسلِمين!!

ص: 20

سُبحان اللّه!

ما أبَعْدَهذا القَول عن الصَواب!

كَيفَ يَصنَعُ رَسولُ اللّه هكذا؟! و هو القائل: «... و سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدَ ي إلى ثلاث وسبعين فِرْقَةِ، فرقَةٌ في الجِنّة، و الباقون في النار» )؟! (1).

اَ لَيسَ مَعنى ذلك أنّ رَسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) هُوَ الّذي ساعَدَ على اختلاف أُمَّتِه، وسَبَّبَ التَفْرِقَة بَينَ

ص: 21


1- لقَد جاءَ هذا النصّ- مَعَ فُروق في بعض كلماته_ في اكثر كُتُب المُسلمين، على اختلاف مذاهِبِهِم. ومِنْ جُملة ذلك: كتاب «الجامع الصغير» للسيوطي، ج 1، ص 184، حديث 1223، طبع دار الفكر، بيروت- لبنان، عام 1401 للهجرة؛ و كتاب «المُستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري، طبع دار الكتب العِلْميَّة، بيروت- لبنان، عام 1411 ه_.. وقَد جاء في كتاب «موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف» لِمُحمّد بن بسيوني، ج5، ص 216: أنّ هذا الحديث.. ذكِرَ في الكُتُب التالية: تفسير ابن كثير، ومُسْنَد الربيع بن حبيب، وشرف اصحاب الحديث.. للخطيب البغدادي، وتهذيب تاريخ دمشق لإبن عساكر.المُحقّق

المُسلِمين؟!

اَ لَيسَ مَعْنى هذا هُوَ الصّياعُ والإهمال لِلدين؟!

ذلك الدين الّذي بَذَلَ رَسُولُ اللّه لاجلِه كلَّ غال ونفيس و تَحَمَّلَ ما تَحَمَّلَ مِنَ الأذى في سبيل إرساء و تَثْبِيتِ قواعِدِه حَتَّى قال: «ما أُوذِيَ نَبيّ بِمِثْلِ ما أوذيت».

نَعَمْ، إِنَّ رَسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قام بما يَلْزَمُ وما يَجب تجاه هذه الأمور؛ واتَّخَذَ أَحسَنَ التداَبير اللازمة لِسَدَ كُلّ فَراغِ في الإسلام، وخَطَّط لِكُلّ ما يَحتاجُ إليه المسلمون.. من جميع النَواحي، واتَّخَذَ الوَسائل الوقائيّة أمامَ كلّ إنحرافٍ عقائدي، أو شذوذٍ فكري، و ذلك عن طريق نَصب الأئمَّة الّذين اختارهُم اللّه تعالى، وتَعيينهم مِنْ بَعْدَ ه.

فَكاَنتَ دَعْوَتَه إلى التوحيد و النُبوَّة.. مَشْفُوعَة و مَقرونة بالدَعوة إلى الإمامَة و الخِلافة من بَعْدَه؛ مُنْدُ فَجر الإسلام.. إلى آخر ساعةٍ من حَياته المُباركة.

و مِن الوَاضِح: أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يُقَدم على نَصْب الخليفة مِنْ عِنْدِ نَفْسِه، وإتّباعاً

ص: 22

لِهَواه أو عواطِفه.

حاشا رسول العظمة مِنْ هذه التَصَرُّفات!!

بَل لابدّ و أنْ يكونَ تَعيين الخليفة من عند اللّه الحَكيم الخَبير البَصير، الّذي يَعْلَمُ ضَمائرَ القُلوب، و عَواقِبَ الأمور. و لأنّ الخلافة تالِيَةٌ لِلنُّبُوَّةَ، فَلابُدَّ من توفر المؤهلات والكفاءة و الإستعداد.. للقيام بِما يَتَطلَّبه هذا المقام المنيع الرفيع.

و انطلاقاً من هذه الحَقيقة، فَلَقَد قَامَ الرَسولُ الأعظَم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بهذه المُهِمّة مِنْ أوائل بِعثَتَه، يَوم كانَ في مكّة، و كانَ عَدَدُ المُسلمين- يَوم ذاك- قليلاً جداً.

و إليكَ (اَيها القارىء) شَيئاً من التَفصيل:

ص: 23

رَسولُ اللّه يُعَيِّن خَليفَتَه

لَمّا نَزلَ قوله تعالى: (وأَنذِرْ عَشيرتك الأقربَينَ) (1) نَصَبَ رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة و الإمامة و الولاَية، في مادبة أقامها لعشيرته.. وهُمْ حوالي أربعينَ رَجُلاً، والقصّةٌ مُفَصَّلة مشهورة، مذكورة في اكثر كُتُب التفسير، الَّتيتَتَحَدِّثُ حَولَ هذه الاَية بالذات، و في أكثر كُتُب الأحاديث، مِنْ مُؤلّفات الشيعة والسُنَّة (2).

و بذل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) جهوداً كثيرة- خلالَ سنوات بِعْثَتِه- في سبيل تَثْبِيت قواعد الإمامة و الخِلافَة.

ص: 24


1- سورة الشعراء، الاَية 214
2- کتاب «تاريخ الطبري»، ج 2، ص 319- 321، باب «ذِكْر الخَبَر عَمّا كانَ مِنْ أَمر نَبيّ اللّه...». و كتاب «الكامل في التاريخ»، لابن الأثير الشافعي، ج 2، ص 62 «باب ذِكْر أمر اللّه تعالى نَبيّه.. بإظهار دعوته». وكتاب «مُسْنَد أَحمَد بن حنبل»، ج 1، ص 111، باب «مُسْنَد علي ابن اَبي طالب». المُحقّق

فتارة كانَ يَقول: «إني تاركٌ فيكم الثِقْلَين: كتاب اللّه و عِترتي: أَهلَ بَيتي، واَنهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضِ، وإنكُمْ لَنْ تَضِلُّوا ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما» (1).

ص: 25


1- يُعتَبَرُ هذا الحديث الشريف، مِنْ أهم الأحاديث النَبويَّةالمشهورة، المذكورة في كُتُب المُسلمين، وإليك بعض مصادر الحديث.. مِنْ كُتُب أهل السُنَّة: 1- كتاب «صحيح مُسلِم» المتوفّى سَنَة 261 للهجرة، ج 4 ص 1873، کتاب فضائل الصحابة، باب (4) من فضائل علي ابن اَبي طالب، حديث 36- (2408)، طبع دار الفكر بيروت- لبنان، عام 1403 ه_ 2- كتاب «صحيح الترمذي» المتوفّى سَنَة 297 للهجرة، ج 5 ص662- 663، كتاب المناقب، باب مناقب اهل بیت النَبيّ، حديث 3786 و 3788، طبع دار إحياء التراث العربي بيروت- لبنان. 3- کتاب «سُنَن الدارمي»، المتوفّى سَنَة 255 لِلّهجْرة ج 2 ص431، کتاب فضائل القرآن، باب «فَضْلِ مَنْ قَرأ القُرآن» طبع دار الفکر، بیروت – لبنان. 4 – كتاب «المُسْتَدرك على الصحيحين»، لِلْحاكِم النيسابوري، المتوفّى سَنَة 405 للهجرة، ج 3، ص109 كتاب معرفة الصحابة، باب «وصية النَبيّ في كتاب اللّه وعشرة رسوله»، طبع بيروت- لبنان، دار المعرفة. 5 – كتاب «الطَبَقات الكُبرى»، لإبن سَعْد، المتوفّى سَنَة 230 للهجرة، ج 2، ص 150، باب «ذكر ما قرب الرسول اللّه مِنْ اَجَله»، طبع دار الكتب العِلميّة، بيروت- لبنان، الطبعة الأوّلى سَنَة 1410ه_ 1990م. 6 – كتاب «السُنَن الكبرى»، لِلْبَيْهَقي، المتوفّى سَنَة 458 ه_، ج 10، ص 114، کتاب آداب القاضي، طبع دار المعرفة، بيروت- لبنان، طَبْع سَنَة 1413 ه_، سَنَة 1413ه_، المُوافِق لعام الموافق لعام 1992م. 7 – كتاب «الصواعِقِ المُحْرِقَة»، لإبن حَجَر الهِیَتَمي المتوفّى سَنَة 974 لِلّهجْرة، ص 226، طَبْع مَكتبة القاهرة- مصر، سَنَة 1375 ه_. 8- کتاب «مِنْهاج السنة»، لإبن تيميّة، ج 4، ص 104 طبع القاهرة- مصر. 9 – كتاب «السيرة الحلبية»، للحلبي الشافعي، المتوفّى سَنَة 1044 لِلّهجْرة، ج 3، ص 274، باب حَجّة الوداع، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، سنة 1320 ه_. 10 – كتاب «المُعْجَم الكبير» للطبراني، المتوفّى سَنَة 360 ه_، ج 3، ص 65 إلى 67، حديث 2679، طبع دار إحياء التُّراث العربي، بيروت- لبنان، سنة 1404 ه_. 11 – كتاب «ذخائر العقبى»، لِلطَّبَري، المتوفّى سَنَة 694 للهجرة، ص 16، طبع مكتبة القَدسي بمصر، عام 1356ه_. 12- الخصائص، للحافظ النسائي، ص 20، وغيرها من الكتب. المُحقّق

ص: 26

و تارة كانَ يَرفَعُ صَوتَه- يَومالغَدير- ويقول: «مَن كُنْتُ مَولاهُ.. فَهذا علي مولاه» (1).

ولَقَد تَكرّرَ مِنْه القول: «الأئمَّة بَعْدَ ي إثناعَشَر، کُلّه م مِنْ قُرَيش». (2).

ص: 27


1- راجِعْ كُتُب تفسير القرآن الكريم، عِنْدَ تَفسير الاَية 67 من سورة المائدة «اَية التبليغ»، والاَية 3 من نفس السورة «اَية إكمال الدين»، ولمعرفة المَزيد مِنَ التفاصِيل، راجع الجزء الأوّل من كتاب «الغدير» للعلامة المُحقّق الكبير، الشيخ الأميني
2- المَصادِر الَّتيذكرت هذا الحديث.. كثيرة، مع اختلاف يَسِير في بعض كلمات الحديث، ومِنْها: 1- کتاب «صحیح مُسلِم»، ج 3، کتاب الامارة، باب «الناس تَبَع لِقُرَيش و الخلافة في قريش»، حديث 5 و 6و7 و 8 و 9 و 10، طبع دار الفكر، عام 1403 ه_، 1983 م. 2 – كتاب «المُسْتَدرك على الصحيحين»، للحاكم النيسابوري، ج 4، ص501، كتاب الفتن و الملاحم. 3- كتاب «حِلية الأوّلياء» لاَبي نعيم الإصفهاني، المتوفّى عام 430 ه_، ج 4، ص 333، طبع دار الكتب العلميّة، بيروت- لبنان، الطبعة الأوّلى سَنَة 1409 ه_ 1998 م. و مَنْ اراد المزيد من المصادر.. فَليُراجع كتاب «فضائل الخَمسَة من الصحاح الستّة»، للسيد الفيروز اَبادي ج 2، صفحة 23 إلى26. المُحقّق

إلى غير ذلك من النصوص والتصريحات حَولَ الإمامة والأَئمَّة، والخِلافة والخُلفاء، مِمّا يَطُولُ الكلامُ بِذِكْرها وهِیَ مَذكورة في موسوعات كتب الحديث.

بَعْدَالإنتِباه إلى كُلِّ هذا..

اَنالا أريدُ أن أقول- في هذا البَحْث-: إنّ مقَداراً كثيراً مِنْ تِلكَ المَساعي و الجهود الَّتيبذلها رَسُولُ اللّه

ص: 28

(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذا السبيل.. قَد ذَهَبَتْ أدراج الرياح، وذلك بَعْدَوفاته، حَيثُ تبدّلت الأمور، و تَغَيّرت الأوضاع، ومَنعُوا الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن القيام بأعباء الخلافة، و إدارة الأمور، و حالُوا بَينَه و بَينَ إنجازاتِه و إنتاجاتِه، و أجلَسُوه في بَيْتِه وسَلَبُوهُ إمكانياتِه، وحاربُوه إقتصادياً وسياسياً وبكلّ صُورة مُمْكِنَة، وأخيراً قتلوه!!

و هكذا الأئمَّة الّذين جاؤا بَعْدَ ه، كانَ مَصِيرُهم مَصيرَ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).

اَجَل..

لا أُريدُ أن أقول: إنّ الجُهُود قَد ذَهَبَتْ، وإنمّا أُريدُ أن أقول: إنّ النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) لَمْ يَتْرك الأمَّة الإسلاميّة كقطيع غَنَم لا قائدَ ولا راعيَ لَه، بَلْ عَيَّنَ خُلَفَاءَ و أئمَّة إثني عشر،كلمّا غابَ مِنْهُم نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ آخَر، يُمَثَلُ رَسولَ اللّه، ويَتَولى القيادة الشرعيّة للأمة الإسلاميّة.

وهذا الكتاب يَتَحَدَّثُ عن أحدِ هؤلاء الأئمَّة

ص: 29

الطاهِرين، ويَتَضَمَّنُ بَعْض جوانب حَياتِه المُشْرِقَة و مزاَياه و مَواهِبه، وفضائِله و مَكارمَه.

أسألُ اللّه (تَبارك وتعالى) أنْ يَجْعَلَ هذا الجُهد المُتَواضع.. نافعاً و مُفيداً للقارىء الكريم، و ذخيرةً لي يَومأدلى في حُفْرَتي، و نُوراً في وَحْشَتي، و أنيساً في غُربَتي، وشفيعاً يَومحَشْري و نَشري، اَنه اَرحَمُ الراحمين، وهُوَ حَسْبُنَا ونِعْمَ الوكيل.

مُحمّدكاظم القزويني المُوسوي

ص: 30

نَظرة إجماليّة إلى حياة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الإمام أبو جعفر، مُحمّد بن علي، التَقي الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

غُصْنٌ مِن أغصَان الشجَرة النَبويَّةالطيّبة، وفَرحٌ مِنَ من الدوحة الهاشميّة المُحمّديّة المُباركة، والإمامُ التاسع من أئمَّة أهل البَيت، الّذين اختارَهم اللّه لِقيادة هذه الأمَّة، وانتَخَبَهم لهداَية العباد و إصلاح البلاد.

وقَد نَصَّ عليه جدُّه رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و اَباؤه الطاهِرون (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالإمامَة والولاَية، و الخِلافة و الوِصاَية.

ص: 31

وقَد توفَّرت فيه كافّة الصِفات والمؤهّلات الَّتييَجِبُ أَنْ تَتَوفّر في الإمامِ الحَقِّ، مِنْ: عُلُومِ غَزيرة لا تُقاس بِغَزارتها عُلُومُ الخلائق، و اتصال بالعالَم الأَعلى، والسَير على مُخَطَّطِ سَماوي، والنزاهَة عن كُلّ رِجسٍ ورَذيلة، والإنصاف بِكُلِّ مَنْقَبَةٍ وفَضيلة.

و إذا ذكرنا جَميعَ أسباب العَظَمَة، راَينَاها مُجْتَمِعةٌ في الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَلا تَجِدُ فَراغاً لفضيلة منَ الفَضائل.. في حَياتِه الشَريفة.

والآن.. نَنْتَقل إلى قراءة الصفحات الأوّلى مِنْ حياة هذا الإمام العظيم، ثُمَّ نَسْتَمِرٌ مَعَه لِنُبارك أذهاننا بمعرفته.. وبتَخزين مَعلومات عن حَياته المُشرقَة المُباركة.

ص: 32

إسم الإمام الجَواد وكُنْيَتُه والقابُه

إِسمُهُ: مُحمّد

كُنْيَتُه المشهورة: أبو جعفر، ويُعَبَّرُ عَنهُبِهذِهِ الكُنْيَةِ.. في أكثَر الأَحاديث المرُوِيَة عَنهُ.

وسَتَعْرِف- عِندَ قراءة الأَحادِيث المَرُوِيَة عَنهُ- اَنّ أكثر الشيعة (بَل وغير الشيعة) كانوا يُعَبِّرون عَنهُب_ (اَبي جعفر الثاني) للفرق بَينَه وبَينَ الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) المُكنّى باَبي جعفر اَيضاً، كي لا تَشْتَبِه الرواَيات والأحاديث.. بَينَ هذَين الإمامَين.

و للإمام الجَواد كُنْيةٌ غَير مَشهُورة، و هِیَ (أبُو علي)

ص: 33

بِمُناسَبَة اَنه والِد لإبنِه الإمام علي الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و أمّا القابُه، فَهِیَ: التقي، الجَواد، المُنْتَجَب، المُرتَضى، المُختار، المُتَوكَّل، القانِع، الزكي، العالم (1).

وكُلُّ لَقَبٍ مِنْ هذه الالقاب.. يَدُلُّ على فَضيلَةٍ ومنقبة كاَنتَ متوفِّرة في الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ): فَهُوَ اَتقى أهلِ زماَنه.

و اكثرهُمْ جُوداً و سَخاءاً و كرماً.

إنتَخَبَهُ اللّه تعالى و اختارَه. وارتَضاه للإمامَة مِن صِغَرسِنَّه.

قَد تَوكَّل على اللّه في جَميع أموره

و كان قانعاً بِمَا قَدرَ اللّه تَعَالَى لَه.

قَدزَكَاهُ اللّه تَعالى عن كلِّ رِجْسٍ و رذيلة.

و قَذَفَ فِي قَلْبِه عُلوم الأوّلين والآخرين.

ص: 34


1- كتاب «بحار الأنوار» للعلامة المَجلِسی، ج 50، ص 16، باب 24، حديث 24

والد الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

والدُه: الإمام أَبو الحَسَن عليّ بن مُوسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

هو الإمام الثامِن من أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

و لا استطيعُ التَحَدُّثَ عَنهُفي هذه السطور (حَتَّى بِصُورةٍ مُوجَزة) فَحَياتُه مُتَلالاة و مُشرِقة وحافلَة بجَميع المَكارم، و التحَدّث عن شخصيّته يَحْتاجُ إلى كتابٍ مُسْتَقِلٌ، بَلْ إِلَى مَوسوعةٍ تَشمَل جَوانِبَ حَياتِه (عَلَيهِ السَّلَامُ) و مزاَياها.

ص: 35

والدة الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

والدته: السَيّدة خيزران، أو: دُرَّة، أو: سَبيكة، أو: رَيحانة، أو: سكينة.

وسُمِّيَت- أو عُرِفَت- بهذه الاَسماء المُتَعَدّدة لِمَصالِح و اَسباب، فَلعَلَّها سُمّيت «دُرَّةَ» لِتَلالؤ وَجهِها بِنُور الإمامة.. حينما كاَنتَ حاملاً بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسُمِّيَتْ «سَبيكة» بسَبَب إشراقة لون بشَرتها و لمَعان وَجهها كسَبيكة الذَهَب الخالِص، وسَمّاها الإمام الرضا

(عَلَيهِ السَّلَامُ): «الخيزران».

ص: 36

كُنيَتُها: أُمُّ الحَسَن (1).

و على كلّ حالٍ، فهِیَ سيّدة إفريقيّة من بلاد المّغرب أو مصر، أو بلاد النوبة (وهِیَ شَرق إفريقيا).

ولَيسَ هناك اختلاف جوهَري، وإنما هُوَ اختلاف في التَعاَبير، فَبِلادُ النوبة ومصر والمَغرب.. کُلّه ا تُعتبر من قارّة افريقيا.

ويُقال: اَنها كاَنتَ من أُسرة مارية القبطيّة، جارية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و أمّ إبراهِیَم ابن رسول اللّه (2).

إشتراها الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مكّة، وبَعْدَمُدَّةِ قصيرة.. حملت بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و قَد وفَّرَ اللّه تعالى المؤهلات في هذه السَيّدة السعيدة المُعَظَمة الجلَيلَة، لِتَکُون أُمّاً لِحُجّة اللّه: الإمام الجَواد.

ص: 37


1- كتاب «المناقب» لإبن شهر آشوب، ج 4، ص 379، باب «إمامة اَبي جعفر الثاني (عليه السلام)
2- كتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج 492، باب «مولد اَبي جعفر.. مُحمّد بن علي الثاني (عليهما السلام)»

وحِينَما يُبَشِّر الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أصحابَه بولادة

الإمام الجَواد، تراه يقول: «قَد وُلِدَ لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، و شبيه عيسى بن مريم، قَدسَتْ أُمُّ وَلَدَتْه، قَد خُلِقَتْ طاهرةٌ مُطَهَّرة...» إلى آخر كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).

إِنَّ تَشبية الإمام الرضا ولده الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بالنَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) باعتباره فالق البِحار، يُشير إلى قوله تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسى أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ البَحْر فَانقَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كالطَّوْدِ العَظيم) (2).

و قَد جاءَ في التفاسير: إن النَبيّ موسى لما أرادَ أَنْ يَعْبُرَ مَعَ أُمَّتِه البَحْرَ الاَبيض المُتَوسّط- أو البَحر الأحمَر على قَول آخر-، ضَرَبَ بِعَصاه البَحر، فانشَقّ وظَهر فيه إثنا عشر طريقاً يابساً، ووَقفَ الماءُ و تراكمَ عن يَمين كلّ طريق ويَساره، كالجَبَل العَظيم.

و هذا الأمر يُعتبر من أعظم مصاديق خَرق العادة

ص: 38


1- كتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 15، باب 24، حديث 19 و هُوَ يَنْقُل ذلك عن كتاب «عُيون المعجزات»
2- سورة الشعراء، الاَية 63

و الطبيعة، ومِنْ آهَمَ المَعاجِز الَّتيصَدَرَتْ على يَد النَبيّ موسی بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و وجه الشَبَه بَينَ موسى بن عمران فالِقِ البِحار، و بَينَ الإمام الجَواد غَير واضح لَدَينا. (1).

ص: 39


1- لَعَلَّ وَجْه الشَبَه هُوَ: أَن النَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمتازَ عن سائر الأنَبيّاء.. بكثرة المعجزات الَّتيصَدرَتْ مِنْه، كذلك الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمتازَ عن سائر الأئمَّة الطاهرين.. بكثرة المعجِزات الَّتي كاَنتَ تَصدر مِنْه.. باستِمرار، وبنسبةٍ عالية من الكثرة والأهميَّة، كُلُّ ذلك.. رَغْمَ صِغَر سنّه و قلة عُمْره. ولَعَلَّ كلمة «فالق البحار» هُوَ ذِكْر لِواحِدَة مِنْ آهَم المُعجزات القريدة.. الَّتيصدرت من النَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ). وقَد شاهَدَها جَمْعُ غَفير من الناس، ومِنْهُم: بنو إسرائيل.. الّذین كانوا يُرافقون النَبيّ موسى، وكان عَددهُم: مِئات الآلاف. و من المشاهدين: الطاغِيَة «فرعون»، و جميع أفراد جيشه. و لَعَلَّ وَجْه الشَبَه: سُمْرة لون البشرة، فَقَد كانَ النَبيّ موسى.. اَسمَرَ اللون.. بَلْ شَديد السُمّ رة، كذلك الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لعَلَّه وَرِثَ ذلك.. من والدَته المكرَّمة الإفريقيّة. المُحقّق

أمَا وَجْه الشَبَه بَينَه وبَينَ النَبيّ عيسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فَهُوَ انّ عيسى آتاه اللّه الكتابَ و النُبوَّة وهُوَ طِفْلٌ رَضيع، و تَكلَّمَ في المَهْد و هُوَ صَبي، كذلك الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) آتاه اللّه الإمامة وهُوَ طِفْل، و كانَ يُكلِّم الناس بِكلام الحُكماء والعُلَماء و هُوَ في مرحلة الطفولة، وسَنَذكُر شيئاً حَول هذا الموضوع عِنْدَ التَحَدُّث عن ولادتِه (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و أمّا قول الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قَدسَتْ أُمُّ ولدته»، فالجُمْلَةُ الَّتيبَعْدَ ها تُفَسِّرها، وهِیَ: «خُلِقَتْ طاهِرةٌ مُطَهَّرة» فالمُقَدس: هُوَ المُطَهَّر و المُبارك، و التقَديس: التَطهِیَر والتَنزيه، فالجُمْلَة تُشير إلى ما كاَنتَ تَمْتاز به والدة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنَ العفاف و النزاهة والتقوى والورع، و البركات المَعْنَويّة الَّتيجَعَلَها اللّه فيها.

ص: 40

الفرقة الواقِفیَّة

قبْلَ التَحدّث عن ولادة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) نَتَحَدَّث عن (1)، لاَنها سَبَقَتْ ولادته:

لقَد اختُصَّتْ حَياةُ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بظاه_رة تمتاز عن حياة بقيّة الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ). فَقَد عاصَرَت حياةُ والده: الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِحْنَةٌ عَقائدية.. إنصَبَّتْ على الشيعة، فَتَضَعْضَعَتْ قُلوبُ بَعضِهم، و اضطربَت افکارُ بعض، وثَبَت الكثيرون على الحَقِّ، ولَمْ تُؤثر فيهم تِلكَ الفتنة العقائديّة.

لَقَد تَکُونت فكرة الوقف، وتَولّدَتْ- مِنْ هذه

ص: 41


1- الواقِفِيّة: الّذین تَوَقفُوا عِنْدَ إمامة الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولَمْ يَعْتَقَدوا بالإمام الّذي بَعْدَ ه

الفكرة- الطائفة الواقفية الَّتيانفصَلَت عن الحَقِّ، و انحرَفت عن خط اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) و رفعت راَية الضلال، وسَلكت طريق الشيطان، و لكن الراَية سَقَطَتْ و الفكرة تَبَخَّرَتْ، وتِلكَ الطائفة إنقَرَضَتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم إلا الذِكْرُ السَّيِّىء في التاريخ.

نَعَمْ، يُقال: إنّ شِرذمة من الّذین يَحْمِلون تِلكَ الفِكْرة.. يقطنون بِلادَ الهِند، ولا يُعرَف عَنهُمْ اكثر مِن هذا.

ولا بَاسَ بِشَرح موجز عن هذه الفرقَة الَّتيضلت و أَضَلَّتْ، وتَلاعَبَت بالعقيدة الإسلاميّة، وباعَت الدين بالدُنيا، وفَضَّلت المال على العَقيدة والمبدا ﴿أولئك الّذین اشتَرَوُا الضلالَةَ بِالْهُدَى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِين﴾ (1).

و قَبْلَ اَنْ نَبْدا بالتَحَدَّث عن هذه الفِرقة التائهَة، تذكر سَبَب تولّدها، والدواعي و الأسباب الَّتيساعَدَت على نُمُوّها و تكاثُرها، فنقول:

إِنَّ المُستفاد من مَطاوي الأَحاديث و الاَخبار : هُوَ انّ

ص: 42


1- سُورة البقرة، الاَية 16

لتَکُون هذه الفِرقَة سَبَبَينَ:

السَبَب الأوّل: كانَ لِلإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)- في كل من البصرة والكوفة و مصر و غيرها من البلاد- وكلاء، ويُعَبّر عَنهُم ب_ (القُوّام) فكاَنتَ الأموال- من الحُقوق الشرعيّة والنذور، والهداَيا والأوقاف العائدة إلى الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)- تُحَمَّل إلى هؤلاء القُوّام.

و حَيثُإنّ الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى سَنَوات غير قلَيلَة- مِن عُمره- في السُجُون في البصرة و بغداد، ولَمْ يَكُنْ مَحْبُوساً في سِجنٍ عام، بَلْ كَانَ مَحْبُوساً في البيوت و تَحْتَ الرقابة المُشَدَّدة، لكي لا يَلْتَقي به أحد.. ولا يَلتَقي بأحَد، لهذا كان من الصَعب الوصول إليه و الإتّصال بِه، فاجتَمَعَتْ- عِنْدَ الوكلاء والنُوّاب- مبالغ ضَخمة من الأَموال والحُقُوق الشرعيّة الَّتيدَفَعَها الشيعة إلى أولئك النُوّابو الوكلاء.

ولَعَلّ الوكلاء و النُوّابكانوا يَعتَذِرون إلى الشيعة بَعْدَ م إمكان الوصول إلى الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و اَيصال الأَموال إليه. ولهذا فَقَد تَراكمَتْ عِنْدَهم الأموال،

ص: 43

و إليك الخَبر الآتى:

رُوِيَ عن يونس بن عبدالرحمن، قال: ماتَ أبو الحَسَن موسیٰ بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لَيسَ مِن قُوّامه أحد (1) إلّا و عِنْدَه المالُ الكثير، وكانَ ذلك سَبَب وقفِهِم وجُحُودهم مَوتَه، و كانَ عِنْدَ زِياد القَندي سبعون ألف دينار، وعِنْدَ علي بن اَبي حَمزة البَطائني ثَلاثون الف دينار.

قالَ [يونس بن عبد الرحمن]: و لَمّا راَيتُ ذلك و تَبَينَ لي الحَقِّ، وعَرفْتُ مِنْ أمر اَبي الحَسَن الرضا ما عرفتُ، فَكلّمْتُ ودَعَوتُ الناس إليه [اَي: إلى الإمام الرضا].

فَبَعَثا [القَنْدي والبَطائني] إليَّ، و قالا لي: ما يَدعوك إلى هذا؟ إِنْ كُنْتَ تُريد المال، فنَحْنُ نُغْنِيك، وضَمِنّا لَك عشرة آلاف دينار.

و قالا: كُفَّ. فَاَبيتُ، وقُلتُ لَهُما: إنَّنا رُوِيَنا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا ظَهَرَتِ البدع.. فَعَلى العالِمِ أنْ يُظْهِرَ عِلْمَه، وإِنْ لَمْ يَفعَلُ سُلِبَ نُورٌ الاَيمان من قَلبِه».

ص: 44


1- و في نُسْخَةِ: لَيسَ مِنْ نُوابه أحد

وما كُنتُ لأدَعَ الجهاد في أَمر اللّه.. على كُلّ حال.

قناصَباني، وأظهَرا لي العداوة (1).

السَبَب الثاني: التَلاعُب بحديث سماعة بن مهران، و إليك شيئاً من التفصيل والتَوضيح:

كان (سماعة بن مهران) من أصحاب الإمام الصادق والإمام موسیٰ بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) و كان من الثقاة، وقَد رَوى حديثاً سَمَعَه من الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه قال: «صاحِبُ هذا الأَمر [يعني الإمام المهدي] فيه شَبَهٌ مِنْ خَمسَة انَبيّاء:

يُحسَدُ كما حُسِدَ يوسف، ويَغِيبُ كما غاب يونس». و ذكر ثلاثة أشياء أخرى.. من وجوه الشبه بَينَ الإمام المهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) و بَينَ ثَلاثة من الأنَبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ).

وسَمِعَ «زرعة بن مُحمّدالحضرمي»، هذا الحديث مِنْ

ص: 45


1- کتاب «رجال الكشّي»، المُسَمّى ب_ «إختيار معرفة الرجال» ص 493، الجزء 6، حديث 946، طبع جامعة مشهد- ایران

سماعة بن مهران، و لكنّ اللَعين حَرَّفَ وزَوَّرَ الحَديث فَقال: «حَدَّثَني سماعة بن مهران: ان اَبا عبد اللّه [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: إنّ ابني هذا (يعني موسى بن جعفر) فيه شَبَه مِنْ خَمسَة انَبيّاء...» إلى آخر الحديث.

فيكون المَعنى: أَنَّ الإمام موسى بن جَعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيه شَبَه مِنْ خَمسَة انَبيّاء، واَنه يَغِيبُ كما غاب كماغَابَ يونس، فتَکُون النَتيجة: أنّ الإمَام موسى بن جَعفر لا يَمُوت.. بَلْ يَغِيب.

ووَجَدَ «زرعة بن مُحمّد» هذا الحديث- الّذي حرّفَه بنفسه- خَيرَ وَسيلة لإضلال الناس وإغوائهم، فَصارَ يُحدِّث الناس بهذا الحديث المُفتَعَل، ويَنْسِبُه إلى سماعة ابن مهران عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و ممّا ساعَدَه على إشاعة هذه الأكذوبَة: هُوَ انّ سماعة بن مهران.. كان قَد تُوفّى قَبْلَ وفاة الإمام موسى بن جعفر، و لهذا إنتَشَرَتْ هذه الأكذوبة بلا رادع و لا مانع، لأنّ سماعة لَمْ يَكُن موجوداً حَتَّى يُكذّب هذا الخَبَر المُزَوّر.

فَكانَ بَعْضُ ضُعَفاء العقيدة مِنَ الشيعة.. وبَعْضُ

ص: 46

الأفراد الّذین في قلوبهم مَرض، يَتَقَبَّلُونَ مِنْ «زرعة» هذه الأكذوبة.

و امّا الوكلاء الّذین تَراكمَت عندَهم الأَموَال، فإِنَّه م وجَدوا هذا الحديث المُزيف.. خَيرَ وسيلة لإستمِرارهم على الخِيانة، وتصرُّفهم في أَموال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فلَو كانوا يَعْتَرِفُونَ بِوَفاة الإمام موسى بن جعفر (صَلَواتُ اللّه عليه) لكانَ مِنَ الواجب عليهم: أَنْ يَدْفَعُوا الأموال إلى الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِصِفَتِه الإمامُ بَعْدَاَبيه، أو يَدْفَعوا الأموال إلى وَرَثة الإمام موسى بن جعفر، والنَتيجَة واحِدة؛ وهِیَ اَنَّ الوكلاء يَخْسَرُونَ ما لَدَيهم من أموال الإمام.

ولهذا جَعَلوا ينشُرون هذا الحَديث- الّذي يَعلَمون كِذبه- في الأَوساط الشيعيّة، كلّ ذلك طَمَعاً في حُطام الدُنيا!

و مِنَ المُؤسِف أنَّنا لَمْ نَجِد- في كُتُب التراجِم- الدافِع الّذي دَفَعَ زرعة بن مُحمّد.. إلى افتعِال هذا الخَبَر، و تزویره و تَحريفه، وياليتَنا كُنَّا نَعْلَم إنّجاهَ الرَجُل

ص: 47

و سَريرتَه.. حَتَّى نَعْلَم الدَواعي لهذا الإنحِراف، ولهذه الجَريمَة العَقائديّة، والجِنّاَية الدينيّة، والخيانَة العَظيمَة!!

فَهَلْ كان زرعة أحد وكلاء الإمام، فَتَراكمَتْ عِنْدَه أَموال الإمام، قطمِعَ الرَجُل في الأموال.. كما طَمِعَ زُمَلاؤه؟!

اَم أَنْ هُناك أسباب و تَفاصيل خَفِيَتْ علينا؟

نَعَم، ذكرَ عُلَماء عِلم الرجال: اَنه واقِفي، ويالَيتَهُمْ كتَبوا عَنهُاَنه أحد مؤسّسي هذه الفِكرة، و مُختَرِعي هذه العقيدة، و مُفتَعِلي هذه الأسطورة.

و على كلّ تَقَدير، فَقَد انتَهَزَ الوكلاء هذه الفرصة، و تَشَبَّثوا بذلك الحديث المُزوّر- الّذي حرّفه زرعة بن مُحمّد- فَجَعَلُوا يَتَصَرَّفون في أَموال الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) تَصَرُّفات غَير مَشْروعَة.

روى الكشّي بِسَنَدِه.. قال: «كان بدو الواقفة: اَنه اجتَمَعَ ثلاثون الف دينار عِنْدَ الأَشاعِثَة (1) زكاةُ

ص: 48


1- لَمْ أَجِدْ في كُتب اللغة مَعْنى لِلأَشاعِنَة، سوى اَنهم مَنْسوبون إلى الأشعث فقط، و التفصيل غير مَعلوم

أموالهم، و ما كان يَجبُ عليهِم فيها، فَحَمَلوها إلى وكيلَين لِمُوسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالكوفة، أَحَدُهما: حيّان السَرّاج، و آخرٌ كانَ مَعَه؛ وكانَ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحَبْس، فاتَّخَذوا بذلك دُوراً وعِقاراً، و اشتَرَوا الغَلّات، فَلَمّا ماتَ موسیٰ (عَلَيهِ السَّلَامُ) و انتهى الخَبَر إليهما.. أنكرا مَوتَه، و أذاعا في الشيعة: اَنه لا يمُوت، لاَنه القائم.

فاعتَمَدَتْ عليهما طائفة مِن الشيعة، وانتَشَرَ قَولُهما في النّاس، حَتَّى اَنهما عِنْدَ مَوتهما أوصيا بدَفع المال إلى وَرَثة موسی(عَلَيهِ السَّلَامُ) واستبانَ للشيعة.. اَنهما إنّما قالا ذلك.. حرصاً على المال» (1).

* * * *

أقول: إنّ هؤلاء الوكلاء أو النُوّابكانوا حَوَنَة.. غَيرَ أمَناء على الأَماَنا ت الَّتيأمَرَ اللّه تَعالى عِباده أن يُؤدّوا الأماَنا ت إلى أَهلِها.

ولَيسَ مَعْنى كلامي هذا.. أنّ الإمام إنتَمَنَ الخائن المَعروف بِخِيانتهِ، بَلْ إننّا نَجِدُ أنّ بعض الأئمَّة

ص: 49


1- كتاب «رِجال الكشّي» ص 459، الجزء السادس، حدیث 871

(عَلَيهِم السَّلَامُ) كانوا يُعامِلون الناسَ بظَواهِرهِمْ، فَهُناك افراد کانوا ظاهِري الصَلاح، وعُرفوا بالدِيانة و الأمانَة، فَكانَ الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يُسَلّمون إليهم الوَدائع و الأَماَنا ت، ثُمَّ - بَعْدَذلك- كاَنتَ الخِيانة تَظهَر مِنْهُم.

فَهذا عُبيدُ اللّه بن العَبّاس الّذي نَصَبَه الإمامُ الحَسَن المُجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائداً لجَيشه، فَتَرك الجَيش والتَحَقَ بِمُعاوية.. في مُقابِل مِقَدار منَ المال، وكم لَهُ مِنْ نَظیر!

نَعَم، إِنَّ الأئمَّة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) كانوا يُعاملونُ النّاس على الظاهِر (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ

بَينَةٍ، وَيُحْيِي مَنْ حَيَّ عَنْ بَينَة) (1).

يُضاف إلى هذا.. أنَّ الوكلاء كانوا أمناء في البِداَية، لكنَّهُم إختاروا لأنفُسِهِم سُوءَ العاقِبَة.. وهُوَ: الخِيانة بأَماَنا ت الناس.. الَّتي كَانَ الواجب اَيصالها إلى الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثُمَّ إلى الإمام الّذي بَعْدَ ه.

و هناك أسرار و مصالح قَد يَظهَرُ لَنا بَعْضُها،

ص: 50


1- سورة الأنفال، الاَية 42

ويَخفى علَينا اكثَرها، فاللّه تعالى يَخْتَبِرُ عِباده ويَمتَحِنُهم بأنواع مُختَلِفَة.. و أشكال مُتَعَدِّدة من الإمتحان، حَتَّى تَظهَر نَفْسيّاتُهُم وحَقائقُهُم، وبِذلك.. يَرُونَ جَزاءَ أَعمالِهم، إمّا الثَواب.. و إمّا العقاب. قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا اَمنَ ا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَد فَتَنَّا الّذین مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الّذین صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبَينَ) (1).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

لَقَد عَرَفتَ السَبَبِ لِتَولّد هذه الفِرقَة، و هذا المَذهَب الشيطاني الّذي يُعَبَّر عَنهُبالوَقف، ويُعَبَّر عن أتباعه بالواقفيَّة، لاَنهم وقفُوا على إمامة الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لم يعتَرفُوا بإمامَة مَنْ بَعْدَ ه.

و عرفتَ أنّ كلّ ذلك.. كان بدافع الطَمَع والخيانَة، و السَرقة باَبشَع صورها.

و قَد عَرَفت- اَيضاً- أن اكثَر اَقطاب هذه الفرقة..

ص: 51


1- سورة العنكبوت، الاَية.2-3

و رجال هذه الجَريمة، هُم من الوكلاء الّذي نَ تراكمَت عِنْدَهم أموالُ الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَتَلاعَبوا بها، وتَصَرَّفوا فيها تَصَرُّفات لا يَرضى بها اللّهُ ولا رسولُه، وخالَفوا الشَرع والعقلَ والوِجدان، والفَضيلة والإنسانية و الأَمانة والديانَة، ونَبَدُوا وَرَاءَهم جَميع هذه المَفاهِیَم و القِيَم، واتَّبَعُوا أهواءَهم.

وتُوجَد في كُتُب الحَديث.. كلمات لأئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) حَولَ هذه الفرقة، و حَولَ كَشف هَويّتها، ونَحنُ نَذكُرُ بَعْضَ ذلك فيما يلي:

في كتاب (رجال الكشّي) بِسَنَده عن الحَكم بن عيص، قال: دخَلْتُ مَعَ خالي سليمان (على الإمام الصادق (عليه السلام))

فقال- الإمام-: «مَنْ هذا الغُلام»؟

فقال خالي: إبنُ أختي.

فقال: «يَعْرِفُ هذا الأمر»؟ [اَي: التشيُّع]

فقال: نَعَم.

فقال- الإمام-: «الحَمْدُ لله الّذي لم يَخْلُقه شيطاَنا،

ص: 52

ثُمَّ قال: يا سُليمان تَعوَّذ باللّه ولدك (1) مِنْ فِتْنَةٌ شيعتنا»!

قُلتُ: جُعِلْتُ فِداك ومَا تِلكَ الفِتْنَة؟

قال: «إنكارهم الأئمَّة، و وقوفُهُم على إبني موسى، يُنْكِرُونَ مَوتَه، ويَزِعُمُونَ أَنْ لا إمام بَعْدَ ه، أولئك شَرٌّ الخَلْق» (2).

و روى الكشّي- اَيضاً- عن مُحمّد بن اَبي عمير، عن رَجُلٍ من أصحابِنا، قال: قُلتُ للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): جُعِلْتُ فداك، قومٌ قَد وقَفُوا على اَبيك، يَزعُمون اَنه لَمْ يَمُت.

قال: «كذبوا، وهُمْ كُفَّار بما أنزل اللّه (عَزّوجل) على مُحمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) ولو كانَ اللّه يَمُدُّ في أَجَلِ اَحَدٍ من بني آدم- لِحاجة الخلق إليهلَمَدَّ اللّه في أَجَلِ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )» (3).

و بِسَنَدِه عن يوسف بن يعقوب، قال: قُلتُ لاَبي الحَسَن

ص: 53


1- لَعَلَّ الأَصَحَ: وولدك...
2- كتاب «رجال الكشّي» ص 457، الجزء السادس، حديث 866
3- كتاب «رجال الكشّي» ص 458، الجزء السادس، حَديث 867

الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): أعطي- هؤلاء الّذین يَزِعُمُونَ أَن اَباك حَيّ [اَي: الواقفية]- من الزكاة شيئاً؟

قال: «لا تُعْطِهِم، فإِنَّه م كُفَّار، مُشرِكون، زنادقة » (1).

و عن مُحمّد بن عاصم قال: سَمِعْتُ الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقول: «يا مُحمّد، بَلَغَني أنّك تُجالِس الواقفة»؟

قُلتُ: نَعَم، جُعِلْتُ فِداك، أُجالسهُم و اَنامُخالِف لَهُمْ.

قال: «لا تُجالِسُهُم، فإنّ اللّه (عزّ وجلّ) يَقول: ﴿ وَقَد نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ اَياتِ اللّه يُكْفَرُبِها وَيُسْتَهْزَابِها، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حديث غَيْرِهِ، إِنَّكُمْ إِذا مِثْلُهُمْ ﴾ (2) يَعْني بِالاَيات: الأوصياء الّذین كفَرَ بِهِم الواقفة» (3).

و رُوِيَ عن الفَضل بن شاذان، عن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه سُئلَ عن الواقِفة.

ص: 54


1- کتاب «رجال الكشّي» ص 456، الجزء السادس، حديث 862
2- سورة النساء، الاَية 140
3- كتاب «رجال الكشّي» ص 457، الجزء السادس، حديث 864

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يَعيشونَ حَيارى، ويَمُوتونَ زنادقة»! (1)

و من الوَاضِح أنَّ هذه الفِرْقَة عاصرت الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و كانَ لَها مَوقِف- بَلْ مَواقِف- غَير حَسَنَة مَعَه، كما سَبَقَتْ مِنّا الإشارة إليه، فإِنَّه م كانوا يُنكرون إمامَة الإمام الرضا، ويَزْعُمُونَ أَنّ الإمام موسى بن جعفر لا يَزالُ حَيّاً، واَنه القائم المُنتَظَر، و يَزعُمُونَ ضَلالَةَ مَنْ يَدَّعي الإمامَة بَعْدَالإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و اقتضَت الحِكمة الإلهِیَة أن لا يُولد الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في اَيامشَباب والده الإمام الرضا، بَلْ يُولَدُ يَومكانَ عُمر الإمام الرضا أكثَر من اَربعين سَنَة، و هذا ممّا ساعَدَ في تَهريج هؤلاء ضدّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي تصعِيد درجة إمتِحان الناس!

ففي الوقت الّذي كانوا يُشَكِّكون في إمَامة الإمام الرضا، تَراهُمْ كانوا يَسْتَدِلُونَ- على ما يَدَّعُون- بانّ الإمام الرضا عَقِيم، والإمامُ لا يَكونُ عَقيماً.

ص: 55


1- كتاب «رجال الكشّي» ص 456، الجزء السادس، حديث 861

كلُّ ذلك قبل ولادة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). اما بَعْدَمِيلاده.. فقَد اَنهار ما كان يَسْتَدلُّ بِه أولئك المُنْحَرِفون!

و قَد كان بَعضُ الناس يدخُلون على الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويَسألونَه عن هذا المَوضوع، وإليك بَعض التَفصيل:

لَقَد وَرَدَ في كتاب «رجال الكشّي» بسنَده عن الحُسَين ابن يَسار، قال: إِستَاَذِنَتْ اَناو الحسين بن قياما.. على الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في (صريّا) (1) فاَذِن لنا، فَقال: افرغوا من حاجَتكم (2).

فقالَ لَهُ الحسين [بن قياما]: تَخْلو الأَرض من أَن يكونَ فيها إمام؟

فقال: «لا».

قال: فيكون فيها إثنان؟

ص: 56


1- صريّا، قرية كاَنتَ في ضواحي المدينة المُنَوَّرة
2- اَي: إسألوا عمّا تُريدون

قال: «لا، إلا و أَحَدُهما صامِتٌ لا يَتكلَّم».

قال (ابن قياما): قَد عَلِمْتُ أَنَّكَ لَسْتَ بإمام!

قال: «مِن اَينَ عَلِمت»؟!

قال: اَنه لَيسَ لَك وَلَد، وإنمّا هِیَ [اَي: الإمامة] في العَقِب.

فَقالَ [الإمام] لَه: «فو اللّهِ لا تَمضي الاَيام واللَيالي حَتَّى يولَد لي ذكر مِنْ صُلبي، يَقومُ مِثْلَ مَقامي» (1).

و يُروى هذا الحَديث بطُرق أُخرى.. كما يَلي:

في كتاب «الإرشاد» للشيخ المُفيد، عن كتاب «الكافي» بِسَنَدِه عن الحُسَين بن يَسار- أو بشّار- قال: كتَبَ إِبنُ قياما إلى اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتاَبا يقول فيه:

كَيفَ تَکُون إماماً ولَيسَ لك وَلَد؟

فاجابَه أبو الحَسَن (عَلَيهِ السَّلَامُ)- شِبْهَ المُغْضَب-: «و ما علمك اَنه لا يَكونُ لي وَلَد؟! واللّه لا تمضي الاَيام

ص: 57


1- کتاب «رجال الكشّي» 553 ص، الجزء السادس، حديث 1044

و اللَيالي حَتَّى يرزقَني اللّه ولداً ذكراً، يُفَرِّقُ بِه بَينَ الحَقِّ و الباطِل» (1).

و في كتاب «الكافي» اَيضاً عن ابن اَبي نَصْر قال: قالَ لي إبنُ النجاشي: مَنِ الإمام بَعْدَصاحبك؟ فَأَشتَهِیَ أَنْ تَسأَله حَتَّى أَعْلَم.

فَدَخَلْتُ على الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبرتُه، فقال لي:

«الإمام إبني، ثُمَّ قال: هَلْ يَتَجَرًا أَحَدٌ أَنْ يَقول: إبني.. ولَيسَ لَه ولَد»؟! (2)

و في كتاب «الكافي» عن ابن قياما الواسطي قال: دَخَلْتُ على عليّ بن موسى، فقُلتُ له: اَيكونُ إمامان؟

قال: «لا، إلّا و أَحَدُهما صامِت».

ص: 58


1- کتاب «الكافي» ج 1، ص 320، باب «الإشارة و النص على اَبي جعفر الثاني (عليه السلام)، حديث رقم 4 وكتاب «الإرشاد» للشَيخ المُفيد، ص 318، باب «النص على إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، طبع مكتبة بَصيرتي، قم- اَيران
2- کتاب «الكافي»، ج 1، ص 320، حديث رقم 5

فَقُلتُ لَه: هُوَذا أَنتَ.. لَيسَ لكَ صَامت- ولَمْ يَكُن ولِدَ لَه أبو جعفر بَعْدَ-.

فقال لي: «واللّه لَيَجْعَلَنَّ اللّه مِنّي ما يُثَبِّتُ بِه الحقّ و أهلَه، ويَمْحَقُ بِه الباطلَ و أَهْلَه». فَوُلِدَ لَه

- بَعْدَسَنَة- أبو جعفر.

و كانَ ابن قياما.. واقفيّاً (1).

ص: 59


1- کتاب «الكافي»، ج 1، ص 321، حديث رقم 7

تاريخ ميلاد الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

لَيسَ مِن العَجيب أن يَختَلِف المُحَدِّثون والمؤرّخُون

في تاريخ ولادة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهذا الإختِلاف موجود في تاريخ ولادة أكثر الأئمَّة، بل وحَتَّى في ولادة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).

لقَد ذكرَ العيّاشي و الإربلي أنّ ولادة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)كاَنتَ في اليَومالعاشِر من شَهر رَجَب (1)، وهذا القول.. هُوَ المَشهور بَينَ الشيعة.

ص: 60


1- کتاب «كشف الغمة في معرفة الأئمَّة» ج 3، ص 133، طَبع دار الكتاب الإسلامي، بيروت- لبنان عام 1401 ه_- 1981 م

أمّا الشَيخ الكُليني، والشَيخ المُفيد، و الفَتّال، و ابنُ شَهر آشوب، فَقَد ذكروا أنّ ولادة الإمام الجَواد، كاَنتَ في شَهر رمَضان، مِنْ سَنَة مائة و خَمس وتِسعين(1).

و يُؤيِّدُ القول الأوّل: الدُّعاءُ المَرُوِيَ عن الإمام الحُجّة المهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والّذي يُقرا في اَيام شهر رَجَب، وهُوَ: «اللّهم إني أسالك بالمَولُود ين في رَجَب: مُحمّد بن علي الثاني و ابنِهِ عليّ بن مُحمّدالمُنْتَجَب...» إلى آخر الدعاء (2).

وتُقام الإحتفالات الدينيّة في هذا اليَوم.. مِنْ كُلّ سَنَة، في بَعض البلاد الشيعيّة- الواعيَة أهلُها- مَعَ شيء

ص: 61


1- کتاب «الكافي» ج 1 ص 492، باب مَولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عليه السلام). وكتاب «الإرشاد» ص 316، باب ذكر الإمام بَعْدَاَبي الحَسَن علي بن موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). وكتاب «رَوضَة الواعظين» ج 1، ص 243، طبع قم- اَيران مكتبة الشريف الرضي، الطبعة الأوّلى عام 1400 ه_. وكتاب «المَناقِب»، ج 4 ص 379، باب إمامة اَبي جعفر.. مُحمّد بن علي التَقي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- قال ابنُ عيّاش: «و خَرجَ- اَيضاً- من الناحِيَة المُقَدسة على يد الشيخ أبو القاسم الحُسين بن روح.. هذا الدعاء في اَيامرَجَب». كتاب «المِصْباح» للشيخ الكفعمي، ص 530

من مَظاهِر الزينة والأفراح بهذه المناسَبَة، وإن كاَنتَ تِلكَ الأعمال هِیَ أقلّ من القَليل.. ممّا ينبَغي أداؤه و القِيام به.. تجاه الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فَرحَةُ ميلاد الإمام الجَواد (عليه السلام)

يَعلَمُ اللّه تَعالى مَدَى الفَرحَةِ الَّتيغَمَرَتْ قَلْبَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تِلكَ اللَيلَة، الَّتيكانَ يَنْتَظِر ولادة وَلَده الأعزّ الأكرم.

ويَعلَمُ اللّه (عزّوجل) مَدى شوق الإمام إلى رؤية مُحَيّا شِبْلِه.. الّذي تَقَرَّرَ أَنْ يَطا الأرض، فَتُشْرِق الأرض بِنُورِه.

و اتَّخَدَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) التداَبير اللازمَة لِهذا الضيف العَزيز.. الّذي لَه شان عظيم، فَخَصَّصَ لولادته.. حُجْرةٌ مِنْ حُجُرات داره، و اَمَرَ أختَه السَيّدة حَكيمة بان تُرافق السَيّدة «خيزران» مَعَ القابِلَة إلى تِلكَ الحُجرة، إَستعداداً لاستِقبال المَولُودالمُقَدس.

وجَعَلَ فِي تِلكَ الحُجرة شمعة يَستضيؤنَ بها

ص: 62

واغلق عليهنَّ الباب لئلّا يدخُل عليهنَّ غَيرُهُن، وحَضَرَتْ لَحظة الولادة، و انطفاَت الشَمعة، فكاَنتَ الولادة.

و أضاءَ المكان، فاستَغْنَوا عن الشَمعة وعن كلّ سِراج.

و نظرَت السَيّدة حكيمة إلى الطفلِ وهوَ في الطست، و قَد غَطاه غشاء رَقيق، فاَخَذَته حكيمة ووَضَعَتْه في حِجْرِها.. فأزاحَتْ عَنهُالغِشاء.

و تبادرَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الحُجرة و فَتَح الباب، واسْتَلَمَ طفله العَزيز، ووَضَعَهُ في المَهْد، وصارَ يُلازمُ مَهْدَ ولَدِهِ لِيُناغِيه (1).(2)

تَقولُ السيدة حكيمة- وهِیَ تَحْكي جانباً مِنْ قِصَّة الميلاد-: «فلمّا كانَ اليَومالثالث، رفَعَ [الإمامُ الجَواد] بَصَرَهُ إلى السَماء، ثُمَّ قال: «أَشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللّه، وأَشهَدُ اَنَّ مُحمّداً رسول اللّه»، فقُمْتُ ذَعِرَةٌ

ص: 63


1- مُناغاة الصبي: مُلاطفتُه بالمُحادثَة والمُلاعبة، أو قراءَة شيء عِنْدَه وقت النوم.. ليهدا و بانَس ويَنام
2- کتاب «المَناقِب» لابن شهر آشوب، ج 4، ص 394، فصل في اَياته (عليه السلام). و الكلام- هنا- مَنْقول بالمضمون

فَزِعَة، فأتيت اَبا الحَسَن [الرضا] (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقُلتُ له: قَد سَمِعْتُ مِنْ هذا الصبي عَجَباً!!

فقال: وما ذاك؟

فَأَخبَرْتُه الخَبَر.

فقال: يا حكيمة، ما تَرَونَ مِنْ عَجائِبِه أكثر (1). (2)

ص: 64


1- المصدر السابق
2- اَي:الّذي سوف ترونه- في المُستَقْبَل- مِنْ عَجائب هذا الطِفل.. هُوَ اكثر مِنَ الّذي ظهَرَ مِنْه اليَوم، وهُوَ تَكلمه في اليَومالثالث مِنْ عُمْرِه. المُحقّق

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ظل والده العظيم

لقَد عاش الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بصُحبَة والدِه العظيم.. سَنَوات لا تَتَجاوز أصابع اليَد الوَاحِدة (1). وقَد حَلَّ في أوسَعِ مَكانٍ مِنْ قلب والدِه البارّ العَطوف، يَشمَلُه بِعَواطفِه.. ويَغمُرُهُ بالطافه.

و كان الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَعيداً و مَسْرُوراً مَعَ وَلَدِهِ العَزيز، ويُعْجِبُه أَنْ يَذكُرَ وَلَدَه الحَبِيب بِكُلِّ تعظیم و تجليل، فَلا يَذكُره بإِسمُهُ، بَلْ يَذكُره دائماً بِكُنْيَتِه، ويُخاطبُه باَبي جعفر و يذكُرُه باَبي جعفر.

ص: 65


1- هُناك قولان- بَينَ المؤرّخين- في مِقَدار عُمر الإمام الجَواد.. حِينَ سَفَر والده (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) إلى خُراسان: الأوّل: كانَ عُمْرُه حوالي خَمْس سَنَوات. الثاني: كانَ عُمْرُهُ سَبْع سنوات و شهور. واللّه هُوَ العالم بالواقع. المُحقّق

و حَتَّى بَعْدَسَفَر الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى خُراسان.. إسْتَمَرَّ الإمامُ على التعبير عن وَلده بالكُنْيَة، فَقَد رُوِيَ عن مُحمّد بن اَبي عبّاد- و كان كاتباً للإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)- اَنه قال:

ما كانَ يَذكر الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إبنه مُحمّداً إلا بِكُنُيَتِهِ، يَقول: «كتب إليَّ أبو جعفر» و «كُنتُ اكتُبُ إلى اَبي جعفر» و هُوَ صَبيّ بالمَدِينَة، فيُخاطِبُه بالتعظيم.

وتَرِدُ كُتُبُ اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نهاَية البَلاغة والحَسَن، فسمِعتُه [اَي: الإمام الرضا] يقول:

أبو جعفر وصيّي، وخليفتي في أهلي من بَعْدَ ي (1).

* * * *

ص: 66


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق، ج 2، ص 266، باب 60

الإمام الجَواد يُفكر فيما جرى على السَيّدة فاطمة الزهراء

رُوِيَ عن زكريّا بن آدم، قال:

إنِّي لَعِنْدَ الرضا إذ جيءَ باَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ)، و سِنُّهُ اَقلَّ مِنْ أَربَعَ سِنين، فَضَرَبَ بيده إلى الأرض، ورَفَع رأسه إلى السَماء فَأَطال الفِكر.

فَقالَ لَه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): بِنَفْسي، فِيمَ طَالَ فِكرُك؟ (1).

فقال: «فيما صُنِعَ بِأمّي فاطمة!! واللّه لأُخرِجَنَّهُما ثُمَّ لأُحرقَنَّهُما، ثُمَّ لأذريَنَّهُما، ثُمَّ لانسِفَنَّهُما في اليَمِّ نَسْفاً».

فاستَدْناه (2) وقَبَّلَ بَينَ عَينَيه، ثُمَّ قال: باَبي اَنتَ

ص: 67


1- بِنَفْسي: اَي: بِنَفْسي اَنتَ، أو: أفديك بِنَفْسي. وهِیَ كلمة إحِترام و عاطِفة، و لا تدلُّ دائماً على معنى التَّفْدِيَة. المُحقّق
2- اَي: قَرَّبَ الإمام الرضا ولده إليه

و أُمّي، اَنتَلَها، يَعْني الإمامة (1). (2).

* * * *

أقول: هذا الحديث مِنْ جُملة الأحاديث الَّتي يُسْتَدلُ بها على الإعتقاد بالرجعة، وقَد ذكرنا شيئاً يسيراً عن هذا الموضوع في الفصل الرابع و العشرين مِنْ كتابنا «الإمام المَهْدي مِن المهد إلى الظُهور».

ص: 68


1- اَي: اَنتَأهل للإمامة
2- کتاب «بحار الأنوار، ج 50، ص 59، باب مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 34

الإمام الجَواد مَعَ والده إلى الحَجَّ

إنقَضَت الاَيام والشهور، وخَرَجَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الحَجّ.. مُصْطَحِباً مَعَه نَجْلَه الاَرْهَر الآغَرّ، كي يُعَرِّفه للحجاج مِنْ شِيعَتِه، و يُزيّف أقوال مَنْ زَعَم أنّ الإمام الرضا لا يولد له، ويَرفَع الشبهة عن قلوب المُرتاَبَينَ، ويُزيل الشكّ عن عقائدهم، ويُتِمّ الحُجَّة على الجميع.

رُوِيَ عن يحيى بن موسى الصنعاني قال: دَخَلْتُ على اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمِنى و أبو جعفر الثاني على فَخِذِه.. وهُوَ يُقَشِّر له مَوزاً و يُطعمُه (1).

ص: 69


1- کتاب «الكافي» ج 6، ص 360، كتاب الأطعمة، باب الموز، حديث 1

الإمام الجَواد.. هُوَ المَولُودالمُبارك

رُوِيَ عن يحيى الصنعاني، اَنه قال: دَخَلْتُ على اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمَكَّة، وهُوَ يُقَشِّر موزاً ويُطعمه اَبا جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فقُلتُ لَه: جُعلتُ فِداك، هذا المَولُودالمبارك؟

قال: «نَعَم، يا يَحْيى هذا المَولُودالّذي لَمْ يُولَد في الإسلام مِثْله مولود أعظم بركةٌ على شيعتِنا مِنْه» (1).

و رُوِيَ عن اَبي يَحْيى الصنعاني(2) قال: كُنْتُ عِنْدَ اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَجيءَ بإبنِه اَبي جعفر [الجَواد] (عليه السلام)، وهُوَ صَغير، فقال [الإمام الرضا]: «هذا المَولُود الّذي لم يولَد مَولود أعظَم بَركة على

ص: 70


1- کتاب «الكافي» ج 6، ص 360، كتاب الأطعمة، باب المَوز، حديث 3
2- لا تعلم أن يُحيى الصَنعاني.. واَبا يَحيى الصَنعاني.. إثنان، أم اَنه رَجُلٌ واحِد.. واختَلَفَت نُسَخ الكُتُب في ضَبط إِسمُهُ؟ أو جاءَ الإِختلاف مِنْ سَهو النُسّاخ؟ نَعَمْ جَاءَ- في علم الرجال- أن اَبا يحيى الصَنعاني هُوَ من أَصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) و إِسمُهُ: عُمر بن توبة

شیعَتِنا مِنْه (1).

* * * *

توضيح الحديثَين: يُعتَبَر هذان الحَديثان مِن أعجَب الأحاديث الواردة في شَان الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). ومن المُمكِن أَن يتَبادر إلى أَذهانَ بَعْض الناس.. أنّ معنى الحَديثَين هُوَ: أنّ الإمام الجَواد أعظَم بَركة على الشيعة من جَميع الأئمَّة الّذین كانوا قَبلَه، أولئك الأئمَّة الطاهرين.. الّذین عَمَّت بركاتهُم العباد والبِلاد، وبَقيَت اَثَارَ تِلكَ البَركات إلى اليَومو بَعْدَ اليَوم !! أولئك الأئمَّة.. الّذین كانوا أعظَمَ شاَنا، وأَجَلَّ قَدراً، وأرفَع مكانةً من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ولكنّ هذا المعنى لَيسَ مَقْصُوداً من هذين الحَديثَين، ولا باسَ أَنْ نَضَعَهما على طاولة التشريح والتحليل، ثُمَّ نَنظُر إلى اَينَ يَنْتَهِیَ بِنا الكلام؟ وما هِیَ النتيجة العلميّة الَّتينَحْصَل عليها؟:

ص: 71


1- کتاب «الكافي» ج 1، ص 321، كتاب الحُجّة، باب «الإشارة و النص على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)» حديث 9

إنَّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَقُل: «إبني هذا لَمْ يُولد أعظَم بَركة على شيعتنا منه»، وإنَّما قال: «هذا المَولُودالّذي لم يُولد في الإسلام مثلُه مولُودٌ أعظَمَ بركةٌ على شيعَتِنا مِنْه».

لقَد ذكرَ عُلماء علم أصول الفقه: «اَنّ ذكْرَ الوَصف مُشعرٌ بالعلية».

وتطبيق هذه القاعدة- هُنا- يَعني: أنّ هذا المَولُودمَعَ وَصف كونه مولوداً، اَي: بِسَبَب ولادته.. لَمْ يُولد مولود في الإسلام أعظَم بركة مِنْه.

والتوضيح الأكثَر: إنّ كلمة: «المَولُود»- هُنا- هُوَ موضوعُ الحُكْم، والحُكْمُ يَنْطبق على المَولُود بصفته مولوداً.

و إليك المَزيد مِن الشَرح:

لَمْ يَحدُث في حياة إمامٍ مِنْ أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) شيء يُورث الشَك- عِنْدَ بَعض الشيعة- في إمامة ذلك الإمام، ولكِنْ حَياةَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كاَنتَ تَمْتاز بنوع من الخصائص.

ص: 72

فَقَد ذكرنا- في أوائل هذا الِكتاب- اَنّ الإمامَ الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) رزقَه اللّهُ الولَد، وهو في سنّ متأخّرة، فَقَد كانَ عُمْرُهُ- يَومولادة ولده الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- قَد تجاوزَ الأربعين سَنَة، ولَمْ يُعْهَد في حياة بقية الأئمَّة أنْ لا يُولد لَهُمْ إلى تِلكَ المَرحَلَة مِنَ السِنّ.

وصارَ هذا سَبَباً لإفتراء بعض الواقفيّة على الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) باَنه عقيم، والإمامُ لا يَكونُ عَقيماً.

و معنى كلامهِم: هُوَ الطعن في إمامة الإمام الرضا، فَتَکُون النتيجة الطَعن في إمامة الأئمَّة الّذین كانوا قبلَه، وقطع خطّ إمامة الأئمَّة الّذین بَعْدَ ه.

لاَن الأحاديث الواردة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) حول إمامة الأئمَّة.. تُصَرّح بأن الأئمَّة إثناعَشَر، لا أقل ولا اكثر، وتسعة مِنْهُمْ مِنْ صُلب الإمام الحُسَين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فإذا نَقَص عن هذا العَدَد واحد أو زادَ واحد، صارَ تَشکیکاً أو تكذيباً لكلام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و اختلّتِ المَقاَييس، و تَزلزَلت الحقائق، وحَصَلَ

ص: 73

الشك في الدين، وتَضَعْضَعَت مَفاهِیَم الإسلام، ولَم يَبْقَ حَجَرٌ عَلى حَجَر.

لكن لمّا وُلِدَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كاَنتَ ولادته سَبَباً لتكذيب كلام الواقفيّة وتفنِيد اَباطيلِهم، وإزاحة الشُبهات الَّتياَثَارَوها حولَ إمامة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و أَعادت ولادتُه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الحياة إلى هِیَكَلالإمامة، مَعَ الإنتِباه إلى ما تَمتاز به الإمامة.. مِنْ عَظَمة القَدسيّة وعُلو المنزلة ومُنْتَهى الأهميّة.

و بولادته (عليه السلام) ارتَفَعَت معنويّات الشيعة الثاَبَتين على الحَق.

ولَعَلَّ هذا.. هُوَ مَعْنى كلام الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هذا المَولُودالّذي لَمْ يُولَد في الإسلام مِثْلُهُ مولود أعظَمَ بَركة على شيعَتِنا مِنْه».

ذكرتُ هذا الشَرح المُتَواضع لهذا الحَديث، حَسَب ما تبادَر إلى ذهني، و اللّه هُوَ العالم بحقائق الأمور.

ص: 74

ويُمكن أن يكون للحَديث مَعانٍ أخرى، مُضافاً إلى المَعْنى الّذي ذكرناه.

فلَعَلَّ ولادة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كاَنتَ مشفوعة بأَنواع من البَركات، و قَد أَهمَلها التاريخ (كما هُوَ شَاَنه و دابه تجاه أهل البَيت) و لَمْ تَقْطن إليها أذهاننا.

ويُمكن أَن يَكون الحَديث.. إشارة إلى ما حَدَثَ مِن الإحتِجاج بَينَ الإمام الجَواد وبَينَ يحيى بن اَكثَم، و انتِصار الإمام عليه، فَلَمْ يُعهد في التاريخ أَنَّ صَبيّاً عُمْرُهُ عَشر سَنوات، يَدْخُل في ساحَة الإحتِجاج مَعَ اكبر شخصيّة علمية في الدَولة، وهُوَ قاضي القضاة فيَتَغَلَّب الصبيّ على تِلكَ الشخصيّة.. إلى دَرَجَة اَنها تَتَلجلَج في الكلام.. وتُظهِر عَجْزَها و حَجَلَها.. في ذلك المَجْلِس الرهِیَب المُهِیَب، وبمرایَ من شخصيّات الدَولة، ورجال الحُكومة، وعلى رأسِهِم المأمون العَبّاسي الّذي كانَ يَعتَبِر نَفْسَه خليفة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )!

و من الوَاضِح أن هذا الإنتصار الّذي تحقق على يد

ص: 75

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانَ له بركات عَظيمة، فَقَد رفَعَ مَعْنَويات الشيعة في كُلِّ مَكان، ورفَعَ رؤوسَهُم.. يَفْتَخِرون بِهذا الشرف و الموفقية الَّتيتَجَلَّتْ فيها نُبذة من عظمة إمامِهِم، و بَعض جَوانب قَدرته العلميّة.. وهُوَ في ذلك العُمر المُبكّر.

اَيُّها القارىء الكريم

و الآن.. نَقْرأ صفحة أُخرى في التاريخ.. عن حَياة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رِحْلَة الحَج مَعَ والدِه الإمام الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ):

رُوِيَ عن أمية بن علي، قال: كُنْتُ مَعَ اَبي الحَسَن [الرضا] بِمَكَّة- في السَنَة الَّتيحَجَّ فيها ثُمَّ صارَ إلى خُراسان- و مَعَه ابو جعفر [الجواد].

و أبو الحَسَن [الرضا] يُودِّعُ البَيت، فَلَمّا قَضى طوافَه.. عَدَلَ إِلَى المَقامِ فَصَلَّى عِنْدَه، فَصارَ ابو جعفر على عُنُق «مُوفّق» (1) يَطُوفُ بِه.

فَصارَ أبو جعفر إلى الحِجر، فَجَلَسَ فيه فَأَطالَ،

ص: 76


1- مُوفّق: إسم خادم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

فَقالَ لَه مُوفّق: قُمْ جُعِلْتُ فِداك.

فقال: ما أُريدُ اَنْ اَبرَحَ مِنْ مَكاني هذا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللّه! واستَبانَ في وَجْهِهِ الغَم.

فاتى مُوفّق اَبا الحَسَن [الرضا] فَقالَ لَه: جُعِلْتُ فداك، قَد جَلَسَ أبو جعفر في الحِجر، وهُوَ ياَبي آن يَقُوم.

فَقامَ أبو الحَسَن فَاتى اَبا جعفر فَقال: قُمْ یا حبيبي.

فقال: ما أريد أَن أبرَحَ مِنْ مَكاني هذا.

قال: بَلى يا حَبيبي.

ثُمَّ قالَ [أبو جعفر]: كَيفَ أقومُ و قَد ودَّعْتَ البيتَ وِداعاً لا ترجع إليه؟!

فَقالَ لَه: قم يا حَبيبي. فَقامَ مَعَه (1). (2).

ص: 77


1- کتاب «کشف الغمة» ج 3، ص 152- 153، باب ذكر الإمام التاسع، في مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- لَعَلَّ هذا الحَدَث.. كانَ في سَفْرةٍ ثانية أو ثالثة.. مِنْ حَجَ الإمام الرضا بِصُحْبَةِ ولده الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). المُحقّق

النُصوصُ على إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

يَنبَغي أن لا نَنسى بأنّ الإمامة- الَّتيهِیَ الخلافة و الوصاَية والولاَية- لا تثبُتُ لأحدٍ بانتِخاب الناس لَه، و لا بأَنْ يُرشّحَ أَحَدٌ نَفْسه لهذا المنصب الخَطير، بَلْ تَتَعَيَّن الإمامَةُ بأمر اللّه تعالى وانتِخابِه و اختياره، ويُعْلَمُ هذا التعيين والإنتخِاب و الإِختيِار بتصريحٍ و نَص من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و من الإمام السابق على الإمام اللاحق.

و الأحاديث النَبويَّة المَرُوِيَة في كُتُب الشيعة و السُنَّة حَولَ الأئمَّة الإثني عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) تُعتَبَر مِن أَشْهَر الأحاديث وأصحّها سَنَداً، ومعروفة بكثرة رُواتها الأجلّاء الثِقات.

ص: 78

وهذه الأَحاديث.. بَعضُها مُجْمَل، وبَعضُها مُفَصَّل

فالمُجْمَل مِثْلُ قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «الأئمَّة بَعْدَ ي إثناعَشَر.. کُلّه م مِنْ قُرَيَش».

والمُفصَّل هِیَ الأحاديث المُشتَمِلة على اَسماء الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) و انسابِهم و القابِهِم وصِفاتِهِم، وحَيثُإنَّنا ذكرنا بَعض التَفاصيل عن هذا البَحث.. و عن الأَحاديث الواردة في هذا المَوضوع، في كتابنا (الإمام المَهْدي مِن المَهْد إلى الظهور) فَلا داعِيَ للإعادة و التكرار.

و إنّما نَقول- هنا-: إنّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) هُوَ الإمام التاسع مِنْ أئمَّة اَهل البَيت الإثني عشر، الّذي نَصَّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) على إمامَتِهم و ولاَيتهِم و وصاَيتِهم و خلافتِهم.. في مَواطنَ عَديدة و مُناسبات مُختَلِفَة و مَواضِع شَتّى.

وكذلك الأئمَّة الّذین كانوا قَبْلَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَسكتوا عن هذه الحقيقة.

ص: 79

نَصَّ الإمام موسى بن جعفر على إمامة الإمام الجَواد

لَقَد اَخبَرَ الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) رَجُلاً من أصحابه (و هُوَ مُحمّد بن سنان) بإمامة الإمام عليّ ابن موسى الرضا و إمامَة ولده الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).

والحَديث طويل، لكنَّنا نَقْتَطِفُ مِنْه مَوضِعَ الحاجَة، من كتاب «الغيبة» للشيخ الطوسي:

... قال [اَي: الإمام موسى بن جعفر]: «مَنْ ظَلَمَ إبني هذا حَقَّه، وجَحَده إمامتَه مِنْ بَعْدَ ي.. كانَ كَمَنْ ظلم علي بن اَبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمامتَه، وجَحَده حَقَّه بَعْدَرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).

قالَ [مُحمّد بن سنان]: قُلتُ: واللّه لَئِنْ مَدَّ اللّه لي في العُمْر.. لأَسَلَّمَنَّ لَهُ حَقَّه، ولاُ قِرَّنَّ له.

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): صَدَقت، يا مُحمّد، يَمُدُّ اللّه في عُمرك، وتُسَلّم لَه حَقٌّه، وتُقِرُّ لَه بإمامَتِه و إمامة مَنْ يَكون بَعْدَ ه.

قال: قُلتُ: و مَن ذاك؟ [اَي: من الإمام بَعْدَه؟]

ص: 80

قال: إبنه مُحمّد.

قُلتُ لَه: الرضا و التسليم (1)». (2)

نَصّ الإمام الرضا على إمامَة الإمام الجَواد

رَغم أنّ وسائلَ الإعلام لَمْ تَكُن مُتوفّرة في ذلك العَصر، إلا اَنه كانَ من اللازم.. إنتِهاز الفرصَة في شتّى المَيادين.. للنّصّ على إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و تَثبیت قواعِد إمامَته في الأوساط الشيعيّة.. بِشكل خاص.

منْ هُنا.. فَقَد أعلن الإمام الرضا عن إمامة ولده الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مرّات كثيرة جداً، و بِشَتّى المُناسبات.

ص: 81


1- كتاب «الغَيبة» للشيخ الطوسي، ص 33، باب «نَص الإمام الكاظم على إمامة الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)»، حديث 8
2- لَعَلَّ العبارة تُقرأ هكذا: «قُلتُ: له الرضا و التسليم» اَي: للإمام الجَواد.. منّي الرضا بِه.. و التَسليم و الطاعة لَه. المُحقّق

يُضاف إلى هذا.. انّ دلائلَ إمامة الإمام الجَواد.. كاَنتَ تَظهَر يَوم اً بَعْدَيَوم، واَيات عظمتِه تَتَجَلی ساعة بَعْدَساعة، وعلامات جَلالَتِه تَنْكشِف في كُلِّ حين!

و الآن.. إليك بَعض الأحاديث الواردة حَولَ نصّ الإمام الرضا على إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ):

رُوِيَ اَنَّ صفوانَ بن يحيى.. سَاَلَ من الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلاً: قَد كُنّا نَسْأَلُكَ- قَبْلَ أَنْ يَهَبَ اللّه لك اَبا جعفر- فكُنتَ تقول: يَهَبُ اللّه لي غُلاماً.

فَقَد وَهَبَهُ اللّه لك، فأَقَرَّ عُيونَنا، فَلا اَراَنا اللّه يَوم ك (1) فإنْ كانَ كونٌ فإلى مَنْ؟ (2)

فأشار بيده إلى اَبي جعفر.. و هُوَ قائمٌ بَينَ يَدَيه.

فقال صفوان: جُعِلت فداك، هذا ابنُ ثلاث سنين؟!

فقال الإمام: و ما يَضُرُّهُ مِنْ ذلك؟! فَقَد قامَ عيسى

ص: 82


1- اَي: يَوموفاتك
2- اَي: إذا فارقت الحياة فمن الإمام بَعْدَ ك؟

(عَلَيهِ السَّلَامُ) بالحُجّة وهُوَ إبنُ ثلاث سِنين (1).

ورَوى الخيراني، عن اَبيه، هذا الحَديث، و أنّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إِنَّ اللّه تبارك و تعالى بَعَثَ عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) رسولاً نَبيّاً صاحبَ شريعة

مُبْتَدَاة.. في أصغَر من السن الّذي فيه أبو جعفر» (2).

و رُوِيَ عن مُعمر بن خلّاد، اَنه سَمعَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «... هذا ابو جعفر قَد أجلستُه مَجْلسي، وصَيَّرتُهُ مَكاني».

و قال: «اَناأَهلُ بَيتِ يَتَوارث أصاغِرُنا عن أكابرنا، القذَّة القذَّة» (3).

ص: 83


1- كتاب «الكافي» ج 1، ص 321، كتاب الحُجّة، «باب الإشارة و النص على اَبي جعفر الثاني (عليه السلام) حديث 10
2- المَصْدَر السابق، حديث 13
3- المَصْدَر السابق، حَديث 2. و القُذَّةَ- بِضَمّ القاف وفَتْح الذال-: تُضرَب مَثَلاً للشيئين إذا تساويا في المقَدار. فالمعنى: يتوارث أصاغِرنا جَميع المزاَيا المُتوفّرة في اكابرنا، مِنْ مُقوّمات وشُروط الإمامة، مثل: 1- الإختيار الإلهِیَ له، 2- إجتماع جميع الفضائل والمناقب فيه، 3- العصمة مِنْ كُلِّ رِجْس، 4- الإتّصال بالعالم الأعلى.. من خِلال طرُق قَد لا تستطيع إداركها أو إستيعابَها، 5- المعرفة التامة.. بجميع العلوم واللغات. وغير ذلك من المزاَيا. المُحقّق

و رُوِيَ أنّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) دَعى بالإمام الجَواد وهُوَ صَغير، وأَجْلَسَهُ في حِجْر الحَسَن بن الجهم- و هُوَ مِنْ أصحابه- وقال له: جَرِّده و انزَع قَميصَه، و انظُرْ بَينَ كتفيه، فنَظَرَ الحَسَن بن الجهم بَينَ كتفي الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فرأى في إحدى كتفيه شيئاً شبيهاً بالخاتَم.. داخلاً في اللَحم، فقالَ الإمامُ الرضا: اَترى هذا؟ كانَ مِثْلُه في هذا المَوضِع مِنْ اَبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).

* * * *

و للإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) نُصُوص و تَصریحات كثيرة حَولَ إمامة ولَدِه، نَذكُرُها خِلالَ فُصُول هذا الكتاب.. عنْدَ المُناسَبة، إِنْ شاء اللّه.

ص: 84


1- المَصْدَر السابق، حديث. ونَقَلنا الحديث- هُنا- بالمضمون

لا مَدْخَليَّة لمقَدار العُمر في النُبوَّة و الإمامة

بَعْدَثبوتِ الحقائق الَّتيتُمَهّد وتُسَهِّل لنا بَعْدَالإعتقاد و الإعتراف بإمامة الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإِنَّه لَيسَ لمقَدار العُمْر مَدْخَليّة في موضوع الإمامة، فَمن المُمكن أنْ يُوفِّرَ اللّه تَعَالَى مُؤهّلات الإمامة.. في اَي إنسان، و في اَية مَرحَلَة من العُمر، حَتَّى إذا كانَ طفلاً، فإنّ عظمة الإنسان بروحِه و نَفْسِه و مَواهِیَه الربانِيَّة، لا بِجِسْمِهِ و اَيامعُمره!!

والبحث عن موضوع عَدَم مَدخليّة مقَدار العُمر.. في النُبوَّة والإمامة.. يحتاج إلى شيءٍ مِن الشَرح، ولا باس بذِكر مُقَدمة تُمهِّدُ لنا سُهولةَ تَقَبُّل الأَحاديث

ص: 85

السابقة واللاحِقة، فَنَقول:

إنَّ البَشَر يالف الأمور العاديّة ويَستأنِس بها. أما إذا رأى أو سَمِعَ شيئاً يُخالف ما جَرَتْ به العادة، فإِنَّه يستَوحش مِنْ ذلك، لاَنه راى أو سَمِعَ شيئاً غَير مالوف عِنْدَه.

إنّ الناسَ يُشاهِدونَ الأطفال الّذین يولَدون ولا يَعرفون شيئاً. قال تعالى: ﴿ واللّه اَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (1).

حَتَّى نَظرات الطفل غير مُركَّزة، يَسْمَعُ الأَصوات ويَرى الأشياء ولا يُفَرِّق بَينَها، وتنقَضي الاَيام و الشُهور و السنوات.. حَتَّى يتعلَّم الطفل الحُروف والكلمات، ويتكلّم بِما سَمَعَه من الألفاظ الَّتي يكثُر استعمالها، ويَسْهُل التلفُّظ بها، ويَسْمَعَها كثيراً.

و مَشاعِرُه تَتَفَتَّح تَدريجيّاً، و مَداركُه تَنْضُج بِمُرور الزَمان، ويحتاج إلى زمانٍ طويل حَتَّى يَتَثَقَّف ويَتَعَلَّم، ويَحصل له شيء من المعرفة والثقافَة.

ص: 86


1- سورة النحل، الاَية 78

و هكذا جَرت العادَة بَينَ أفراد البَشَر على طول التاريخ و بصُورة دائمة.

ولكنّنا نَجِدُ أفراداً من البَشَر قَد خَرَقوا هذه العادة، و تَحَدَّوا قوانين الطبيعة، ولم يَحتاجُوا إلى طيّ المَراحِل وقَطع الزَمان، و إلى التعلُّم والدراسة، بَلْ كاَنتَ ولادتُهُم مَشفوعة بالنضج الكامل، والعقلِ الوافِر، و المَعرفة التامّة، كلّ ذلك بقَدرة اللّه الّذي هُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدير.

و القُرآنُ الكريم يُصَرِّح بإمكان هذا المعنى، فهذا يحيى بن زكريّا و قَد قالَ اللّه في حَقَّه: ﴿و اَتَيناه الحُكْمَ صَبِيّاً) (1) اَي: اَتَيناه النُبوَّة في حال صباه، و هو ابنُ ثلاث سنين، كما هُوَ المَرُوِيَ عن ابن عبّاس و عن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ونَقْرا في القرآن الكريم.. عن حادثة تكلم النَبيّ عیسی بن مریم (عَلَيهِ السَّلَامُ):

(قالُوا: كَيفَ نُكلّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً؟

ص: 87


1- سورة مريم، الاَية 12

قالَ: إِني عَبْدُ اللّه، آتَانِيَ الْكِتابَ، وَجَعَلَني نَبيّاً ﴾ (1).

اَي: قالوا: كَيفَ تُكلّمُ طِفلاً رضيعاً في حجر أمّه؟ أو كَيفَ تُكلّم مَنْ شاَنه أنْ يُوضَعَ في المَهد؟

فقال عيسى- و عُمره يَومواحِد، كما عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين-:

إِنِّي عَبْد اللّه أَقَرَّ على نَفْسِه بالعبودية، حَتَّى لا تُنْسَب إليه الربوبيّة والألوهِیَة (آتَانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَني نَبيّاً) فَقَد أَكمَلَ اللّه تعالى عقلَه في صغَره، و أرسَلَه إلى عِبادِه، و لذلك كاَنتَ له المُعْجِزة، وهِیَ التكلّم بكلامٍ مُركَّز.. في ذلك العُمر. وقَد ذكرَ اللّه تعالى هذه المُعجزة لعيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ثلاثة مَواضِع مِن القُرآن الكريم:

1- في سورة مريم- وقَد تَقَدم-.

2- في سورة آل عمران اَية 45- 46: ﴿إِذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمَ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ إِسمُهُ المَسيح عيسى

ص: 88


1- سورة مريم، الاَية 29- 30

ابْنُ مَرْيَمَ، وَجيهاً في الدُنيا والآخِرَةِ، وَمِنَ المُقَرَّبَينَ، وَيُكلّمُ النَّاسَ في المَهْدِ وَكهلاً، ومن الصّالِحين).

3- في سورة المائدة اَية 110: ﴿ إِذْ قالَ اللّه يا عيسى ابن مَرْيَمَ أذكرُ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى وَالِدَتِكَ إِذْ اَيدْتُكَ بِرُوحِ القَدسِ تُكلم النّاسَ في المَهْدِ وَ كهلاً).

ذكرَ المُفَسّرون آن روح القَدس هُوَ: جبرئيل، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقَدسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أو مَلَك آخر من الملائكة، أو الروح- الّذي لَيسَ هُوَ مِنْ جِنس المَلائكة- الّذي ذكره اللّه في مَواضِع عَديدة.. من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ﴾ (1)وقوله عزّ وجَلَ: (يُنَزِلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ اَمرَه ) (2).

و أمّا قولُه تَعالى: (اَيدتك) فالتاَييد: التَقوية والإعانَة، فيكون المَعْنى: إنّ اللّه تعالى أعانَ عيسى بنَ مريم.. بروح القَدس، و أمّا كَيفَيّة الإعانَة والتقوية، فإن اللّه تعالى يَعْلَمُها.

ص: 89


1- سورة القَدر، الاَية 4
2- سورة النحل، الاَية 2

بَعْدَ هذه المُقَدمة المُوجَزة.. يسهُلُ علينا أن نعتَقَد بإمكان تكلُّم الطفل يَومولادته.. بتَاَييد من اللّه تعالى بروح القَدس، وبإمكان وصول الطفل إلى درجة النُبوَّة وإلى مَرتبة نُزولِ الكتاب السُمّ اوي عليه.

ولا يَصْعب علينا- إذن- أَنْ نَقْبَل باَن يَبلُغ الطفلُ ابن ثلاث سنوات- درجةَ النُبوَّة: ﴿وَاَتَيناه الحُكْمَ صَبيّاً).

بَعْدَهذا نقول: كما أنّ النُبوَّة مَنْصَب إلهِیَ يَتَعَيَّن مِن عِنْدِ اللّه تعالى، كذلك الإمامَة يَجِبُ أَنْ تَتَعَيَّن مِنْ عِنْدِ اللّه، و نَصّ من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و اَخبارمن الإمام السابق عن الإمام اللاحق.

و كما اَنه يُمكن أنْ يَبْلُغَ الطفل دَرجَة النُبوَّة كذلك يُمكن للطفل- اَيضاً- أن يَبْلُغَ درجة الإمامة.

وقَد ذكرنا بعض التَفاصيل عن هذا الموضوع في الفَصل السادس مِنْ كِتابنا (الإمام المهدي مِن المَهد إلى الظهور).

و الآن.. إليك بعض الأحاديث المُرتَبِطة بهذا البَحْث:

ص: 90

رُوِيَ عن علي بن أَسباط، اَنه قال: رَاَیت اَبا جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَد خَرَجَ عليَّ، فَأَخَذْتُ النظر إليه (1) وجَعَلْتُ أنظر إلى راسه و رِجْلَيه لأصِف قامَتَه لأصحابنا بِمِصر.

فبَينَما اَناكذلك حَتَّى قَعَدَ وقال: «يا علي، إنّ اللّه احتَجَّفي الإمامة بمثل ما احتَجَّبِهِ في النُبوَّة.. فَقال: (واَتَيناه الحُكْمَ صَبِيّاً) (2) و ﴿ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ (3) و (وبلغ أربعين سنة) (4) فَقَد يَجوزُ أَنْ يُؤتى الحكمة وهُوَ صَبيّ (5)، ويجوز أَنْ يُؤتاها و هُوَ إبن اربعين سَنَة» (6).

ص: 91


1- لَعَلَّ الصّحيح قوله: فاحَدْتُ النظر إليه
2- سورة مريم، الاَية 12
3- سورة يوسف، الاَية 22
4- سورة الأحقاف، الاَية 15
5- يجوز: اَي: يُمكن
6- كتاب «الكافي»، ج 1، ص 384، كتاب الحُجّة، باب حالات الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في السن، حديث 7

ويُروى هذا الحَديث.. بكَيفَيّة أخرى، وهِیَ:

عن علي بن أسباط، قال: قُلتُ- لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)-: يا سَيَّدي إنّ الناس يُنكِرون عليك حداثة سنِّك.

قال: «وما يُنْكِرُونَ عَلَيَّ مِنْ ذلك؟! فوَ اللّه لَقَد قالَ اللّه لنَبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): (قل هذه سبيلي ادعُو إلى اللّه على بصيرة اَناو مَنِ اتَّبَعَني) (1) فَما تَبِعَه غَيرُ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكان إبن تِسع سِنين، واَناابنُ تِسْع سِنِين» (2).

و رُوِيَ عن مُعَلى بن مُحمّد، قال: خَرَجَ عليَّ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) حَدَثان مَوت اَبیه (3) فنَظَرْتُ إلى قَده لأصَفَ قامتَه لأصحابنا بِمِصْر، فقَعَد، ثُمَّ قال: يا مُعَلى إِنَّ اللّه احتَجَّ في الإمامة بمثل ما احتَجَّبه في النُبوَّة فقال

ص: 92


1- سورة يوسف، الاَية 108
2- كتاب تفسير القرآن الكريم، للعالِم الجَليل، علي بن إبراهِیَم القُمي، عِنْدَ تَفسير الاَية رقم 108 مِن سورة يوسف
3- حَدَثان: اَوائل موت اَبیه

[سُبحاَنه]: (واَتَيناه الحكمَ صَبيّاً) (1).

و رُوِيَ عن مُحمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سَالتُه [يعني الإمام الجَواد (عليه السلام)] عن شيء من أمر الإمام، فقُلتُ: يَكونُ الإمام إبن اَقلَّ مِنْ سَبْعَ سِنِين؟ (2).

فقال: «نَعَم، واقلٌ مِنْ خَمْس سنين» (3).

و رُوِيَ عن علي بن سَيف النَخعي، عن بَعْض أصحابِنا، اَنه قال لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن الناس يَتَكلّمون عن حداثة سنِّك.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن اللّه تعالى أوحى إلى داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنْ يَستَخلِف سُليمان و هُوَ صَبي يرعى الغنم.

فأنكرَ ذلك عُبّاد بَني إسرائيل و عُلماؤهم، فأَوحى

ص: 93


1- سورة مريم، الاَية.12
2- اَي: هَلْ يُمكن أن يكون عُمره اَقلّ من سبع سِنين؟
3- كتاب «الكافي» ج 1، ص 384، كتاب الحُجّة، باب «حالات الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في السِن»، حديث 5

اللّه إلى داود: أنْ خُذْ عَصا المتَكلّمين و عصا سُليمان واجعَلها في بَيت و اختم عليه_ا بخَواتيم القَوم، فإذا كانَ مِن الغَد.. فَمَنْ كاَنتَ عَصاه أورقَت و اَثمَرَتْ، فَهُوَ الخليفة، فأخبَرهُم بذلك داود، فقالوا: قَد رَضينا وسَلَّمْنا، [فَلَمْ يورق إلّا عصا سُلَيمان] (1)، (2).

ص: 94


1- التَكمِلة المَذكورة بَينَ المعقوفَتَين.. لا تُوجَد في كتاب «الكافي» لكنَّها مَذكورة في بعض المَصادر الأخرى.المُحقّق
2- کتاب «الكافي» ج 1، ص 383، كتاب الحجة، باب حالات الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في السِن، حديث 3

الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُغادر المَدينة المُنوّرة

لَقَد أَجْبَرَ الحاكِمُ العَبّاسي المامون.. الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) على أن يُرتَحِلَ من المَدينة

المُنَوِّرة إلى خُراسان، لكي يُنَفِّذ الخطّة الَّتي كاَنتَ في ذِهْنِه ضِدّ الشيعة، وضِدّ الإمام الرضا.. بشكل خاصّ.

خَرَجَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِن المَدينة نَحو مكّة، و مِنْها إِلى خُراسان، و فَرَّقَ الدَهرُ الخَوَّون.. بَينَ الوالد العَظيم وولَده الحَبيب العَزيز الصَغير، وفلذَة كبده وقُرَّة عَيْنه، و ثُمَّ رة فُؤادِه، فَكان يُرسل الرسائل العَديدة إلى ولده العَزيز، و ربما كتَبَ لَه: «فِداك أبوك»!

ص: 95

نَعَم، فارَق الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولدَه و هُوَ يَعْلَم اَنه لا يرجِع إليه بَعْدَذلك اليَوم، فإِنَّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) جَمَعَ عِياله و اَمرَه مْ أَنْ يَبكوا عليه وقال: إنّي لا أرجع إلى عيالي اَبَداً (1).

و جاء في كتاب «إثبات الوَصيّة» : ورَوَى جَماعة مِن أصحاب الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال الرضا: «لَمّا أَرَدْتُ الخُروجَ من المدينة.. جَمَعْتُ عِيالي و اَمَرتُهُمْ اَنْ يبكوا عَلَيَّ.. حَتَّى أسمَعَ بُكاءَهُم، ثُمَّ فَرَّقْتُ فيهم إثني عشر ألف دينار، لِعِلْمي أنّي لا أرجع إليهم أَبداً».

قال: ثُمَّ أَخَذ اَبا جعفر (2) فاَدخَله المَسجِدَ [النبوي] ووَضَعَ [الإمام الرضا] يَدَه [اَي: يَد الإمام الجَواد] على حائط القبر [اَي: قبر رسول اللّه] و الصَقَهُ به، واسْتَحْفَظه رسول اللّه!

فقالَ [الإمامُ الجَواد] لَه: «يا اَبَت، اَنتَ- واللّه- تَذهَب إلى اللّه».

ص: 96


1- كتاب «بحار الأنوار»، ج 49، ص 117، باب 10، حدیث 3
2- اَي: أَخَدَ الإمام الرضا وَلَده الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

ثُمَّ أمر أبو الحَسَن [الرضا] (عَلَيهِ السَّلَامُ) جميعَ وكلائه بالسُمّ ع والطاعة لَه [اَي: للإمام الجَواد] و تَرك مُخالَفَته، و نَصَّ عليه عِند ثِقاتِه، وعَرَّفَهُمْ اَنه القَيّم مَقامَه...» (1).

ص: 97


1- كتاب «إثبات الوصيّة» ص 224، إمامة الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، و رُوِيَ هذا الخَبَر في كتاب «دَلائل الإمامة» للطبري، ص 176، باب «خَبَر خُروجه إلى خُراسان»

رَسائل مِن الإمام الرضا إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

الرسالة الأوّلى

رُوِيَ عن البزنطي، قال:

قرأتُ كتاب اَبي الحَسَن الرضا إلى اَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِمَا السَّلَامُ):

«یا اَبا جعفر، بَلَغَني أن المَوالي- إذا ركبتَ- أخرجوكَ مِن الباب الصَغير، وإنَّما ذلك مِنْ يُخْلٍ بِهِم، لِثلاً يَنالَ مِنْكَ أَحَدٌ خَيراً، فأسألك بحقّي عليك: لا يَكُنْ مَدْخَلُك ومَخْرَجُك إلا من الباب الكبير، وإذا ركبت فَليَكُنْ مَعَكَ ذهبُ وفضّة، ثُمَّ لا

ص: 98

يسألك أَحَد إلّا أَعطَيتَه، و مَنْ سَأَلك- مِنْ عُمُومَتِكَ- اَنْ تَبرَّه.. فَلا تُعْطه أقل من خمسين ديناراً، و الكثيرُ إليك، ومَنْ سَالك- مِنْ عَمَّاتِك- فَلا تُعْطِها أقلّ مِنْ خَمسَة وعشرين ديناراً، و الكثيرُ إليك، إني أُريدُ أَنْ يَرفَعَك اللّه، فأنفِق ولا تَخْشَ مِنْ ذي العرش إقتاراً» (1).

اَيُّها القارىء الكريم

يُستفاد مِن هذه الرسالة: اَنه كانَ لِدار الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)- في المدينة المُنَوَّرة- باَبان: أَحَدُهما عام.. والآخَر خاص صَغير، وكانَ الخَدَم يُخْرِجُونَ الإمامَ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الباب الصَغير، حَتَّى لا يَلْتَقي بِهِ أَحَد فَيَسأله، ولهذا كتَبَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليه أنْ يَخرُج مِن الباب الكبير.

ص: 99


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 102، باب فَضائله و مَکارم أخلاقه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 16

الرسالة الثانية

قَبْلَ أَنْ اذكُرَ نَصَّ الرِسالة أجلِبُ إنتِباه القارىء الكريم.. إلى أنَّ مَصْدَر هذه الرسالة هُوَ كتاب «تفسير العيّاشي»، وقَد رواها الشيخ المجلسي عَنهُفي كتاب «بحار الأنوار» مَعَ تَفاوتٍ في بعض الكلمات.

وتُوجَد كلمات في هذه الرسالة في غاَية الغُمُوض والإبهام، بِسَبَب الأَغلاط المطبَعيّة أو رداءة الخَط في المخطوطات القَديمة، ونَحْنُ نَذكر نَصّ الرِسالة، و نُحاوِل اَنْ نَذكرها صحيحة.. حَسَب مَا يَتَبادَر إلى الذِهن.

ويُستفاد من هذه الرسالة.. أنّ امرأة إِسمُهُا سَعيدة كاَنتَ في دار الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المدينة المُنَوِّرة (1).

ص: 100


1- و جاءَ في كتاب «تَنْقيح المقال» : «إِنَّ سَعيدة جارية الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)». وعَدَّ الشيخ الطوسي سعيدة مِنْ أصحاب الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ). ولَعَلَّ إحداهُما هِیَ المذكورة في رسالة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَلعَلَّها عاشَت إلى اَيامالإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

وإنَّني أظنُّ اَنها كاَنتَ تُبدي راَيها في شؤون الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و تَتَدَخَل في بَذله وعطائه لِلناس، فَكَتَبَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) تِلكَ الرسالة إلى إبنِه، واَمرَهأَنْ لا يُصغي إلى كلام سَعيدة، ولا يَعمَل بِراَيها. وإليك نَصَّ الرسالة:

رُوِيَ عن مُحمّد بن عيسى بن زياد، قال:

كُنْتُ في ديوان ابن (1) عبّاد، فراَيتُ كِتاَبا يُنْسَخ (2)فَسَأَلت عَنهُ، فقالوا: كتابُ الرضا إلى إبنه [الجَواد] (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مِنْ خُراسان، فَسَأَلْتُهُم أَنْ يَدفَعُوه إليَّ، فإذا فيه:

بسمِ اللّه الرّحمنِ الرّحيم

أبقاكَ اللّه طَويلاً، وأعاذكَ مِنْ عَدوّك.

يا ولدي، فِداكَ أَبوك! قَد فَسَّرتُ لك ما ليَ و اَناحيٌ

ص: 101


1- و في نُسْخَةِ: اَبي
2- النسخ- هُنا-: كتابة مَكْتُوب أو رسالة أو كتاب حرفاً بِحَرْف، وكما يُقال: النَّص بالحرف الوَاحِد

سَويٌ (1)، رَجَاءَ أَنْ يُنميك اللّه (2) بالصِلَة لقراَبَتك، والمُوالي موسى و جعفر(رَضِيَ اللّه عَنهُما).

فَأَمَّا سَعيدة، فإِنَّها امرأة ترى (3) الحَزْمَ في البُخْلِ و الصَوابَ في دقة النظر (4) و لَيسَ كذلك، قالَ اللّه:

ص: 102


1- قَسَّرْتُ- هُنا-: كشَفْتُ وأَظْهَرْتُ. مالي: اَي: ما أملكه من النقود والعقار، و ما كُنتُ أشرِف عليه من الأَوقاف. سَوِيّ: اَي: في صحّة وسَلامة
2- يُنْميك اللّه: من النُموّ و الزيادة
3- في كتاب «تفسير العياشي» «قوي الحزم في النحل» وهُوَ تصحيف قطعاً، و في كتاب «بحار الأنوار» : «قويّة الحزم» وهُوَ تصحيح خطا بخَطَا آخَر
4- في المصدر: «رقة الفطر»، والصَحيح: ما ذكرناه. والمَقْصود: اَنّ سَعيدة تَرى الحَزْم- وهُوَ ضَبْط الأَمر، و الحذر من فواته- في البُخْل، وعَدَم إعطاء الناس شيئاً، و تَرى الصَواب في التَدقيق، اَي: شِدّة المحاسَبة في الإنفاق، كالتاكُّد من فَقْر السائل، و صدق قَوله، و مِقَدار إحتياجه إلى المُساعدة، وأَمثال ذلك مِمّا يُنافي سِعَة الصَدْر، وعُلُو النَّفْس

﴿مَنْ ذَا الّذي يُقْرِضُ اللّه قَرضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَه أضعافاً كثيرة﴾ (1) وقال: ﴿ لِيُنفق ذو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ومَنْ قَدرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاه اللّه (2).

و قَد أوسعَ اللّه عليك كثيراً، يا بُنَيَّ فِداك أبوك! لا تَسْتُردونيَ الأمور بِحَسْبِها (3)، فتُخْطى، حَظّك (4)، و السلام (5).

ص: 103


1- سورة البقرة، الاَية 245
2- سورة الطلاق، الاَية 7
3- في نُسْخَة كتاب «بحار الأنوار» : «لِحُبِّها». لكن الموجود في المصدر: «بحَسْبها» و هُوَ الصحيح، وهذه الكلمة: مَصْدَر «حَسِبَ يَحْسَبُ» مِنْ أفعال القُلوب، على ما هُوَ المُصطلح في علم النحو، كقَوله تَعالى: (أَحَسِبَ الناسُ أَنْ يُتركوا) والمَقصود: لا تَعْمَل كما تَظُنُّ سَعيدة
4- يُحتَمَل أَنْ يُقرا: بحَبسِها.. بمعنى: لا تَمْنَعْ وصول الاَخبارإليَّ.. مِنْ خِلال عَدَم اَخبار كَ اَياَي.. في رسائلك الَّتيتبعثها إليَّ. المُحقّق
5- كتاب «تفسير العياشي» عِنْدَ تَفسير الاَية رقم 245 من سورة البَقَرة؛ وكتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 103، باب «فضائله و مکارم اخلاقه (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 18

رسائل من الإمام الرضا إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

رُوِيَ عن إبراهِیَم بن اَبي محمود، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر [الجواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) و مَعي كُتُبُ إِلَيه مِنْ اَبيه [الإمام الرضا] فَجَعَلَ يَقْرؤها، ويَضَعُ كِتاَبا كبيراً على عينيه، ويقول: خطٌّ اَبي و اللّه (1) و يَبكي، حَتَّى سالت دُمُوعُه على خَدّيه، فقُلتُ لَه: جُعِلتُ فِداك، قَد كانَ أَبوك.. رُبما قال لي- في المَجلِس الوَاحِد مَرّات-: «اَسكَنَكَ اللّه الجِنّة، أدخلَكَ اللّه الجِنّة».

فَقالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «واَناأقول: أَدخَلَكَ اللّه الجِنّة».

فقُلتُ: جُعلت فداك، نَضْمَن لي على ربِّكَ اَن يُدخلني الجِنّة؟

قال: «نَعَمْ»!

فَأَخَذْتُ رِجْلَهُ فَقَبَّلْتُها (2).

* * * *

ص: 104


1- و في نُسْخَةِ: «خطُّ اَبي و اللّه، خطُّ اَبي و اللّه»
2- کتاب «رجال الكشّي» ص 567، الجزء 6، حديث رقم 1073

قالَ بَعضُ العُلماء المُعاصِرين: الظاهر أن الأصل

في قوله: «و مَعي كُتُب...- إلى قَوله:- على عَينيَه» هكذا: «ومَعي كتاب إليه من اَبيه، فَجَعَلَ يَقرؤه ويَضَعُه كثيراً على عينيه».

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

هُنا نَقطع شريط الكلام.. عن حَياة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِصُورة مُؤقتة، لكي نَتَحَدَّث عن مواضيع مُهِمّة جداً.. تَنْفَعُنا في مجال فَهُم بَعض جوانب حَياتِهِ (عَلَيهِ السَّلَامُ) و معرفة الأجواء الَّتيعاشَ فيها، والحكّام الّذین عاصَرَهم، ثُمَّ نَعُود لِنُواصِلَ الحَديث عن حَياة الإمام.. و ما جَرى عليه بَعْدَ سَفَر اَبيه إلى خُراسان.

ص: 105

مُوجبات العِداء بَينَ أئمَّة اَهلِ البَيت وبَينَ خُصُومِهِم

لَقَد اَبتُلي كُلُّ إمام مِنْ أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بطاغوت مِنْ طواغيت عَصْره، و فرعون من فَراعنة زَماَنه، يُجَرِّعُه الغُصَص، ويُحاربُه بكلّ ما أُوتِيَ مِن حَول و قُوّة، ويَسْعى في إطفاء نُورِ اللّه (وَيَأبى اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه) (1).

و لأَجل أَنْ نَعرف شيئاً من أسباب النزاع و الخصومَة، و دَواعي التَضاد، و موجبات العِداء والبَعْضاء بَينَ أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) و بَينَ الجانِب المُعادي لَهُمْ، لا باس بذكر مُقَدمة تُسَلّط الأضواء على هذا المَوضوع، فَنَقول:

ص: 106


1- سورة التّوبَة، الاَية 32

لَقَد كَانَ أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) مَظاهِر للحَقّ والحَقيقة، تَتَجَلّى فيهم فَضائل الأَخلاق، وتَتَفَجَّر مِنْ جوانبهم المَعارف والعُلوم، وتَنْبُعُ الحِكْمَة مِن أقوالهِم وأَفعالِهم.

فَلا تَجِدُ في حَياتِهِم مَوضِعاً لِلمَلاهِیَ والمَناهِیَ و المُنكرات، بَلْ تَجِدُ حياتهم زاخِرَةِ بِالمَكارِم- بجميع اَنواعها و أقسامها- لا يَسْبِقُهُم سابِق و لا يَلحَقهُم لاحِق.

فإذا نظَرتَ إليهِم من زاوية العِلْم، فَهُمْ َأعلَمُ أهلِ السَماء والأرض، قَذَفَ اللّه في قُلوبِهِم عُلومَ الأوّلين و الآخِرين.

و إذا بَحَثتَ عن حَياتهم الإقتصاديّة، تَجِدهم أَزْهَد الزُهّاد، لا يُبالون بِزَخارف الحياة، ولا يَعبَونَ بلَذائذ العَيش، و ينظُرونَ إلى مَتاع الحَياة الدُنيا.. نَظرة تَحقير واستِهانَة.

و إذا ذهبت إلى بيوته_م- في ساعات متاخِّرة من اللَيل- فإِنَّكَ تَسمَع- هُناك- أَصوات تِلاوة القُرآن بِكُلِّ خُضوع و خُشوع، يَتْلُونَ القُرآن حَقَّ تِلاوتِه، لا يَمُرُّونَ بِاَيةٍ مِنْ

ص: 107

آياتِه إلا وهُم يَعْلَمُونَ ظاهِرَها وباطنَها، وتَفسيرَها و تأويلَها، و المَعنى المُراد مِنها، و المَفاهِیَم المَقصُودة بها.

يقرأون القُرآن بِكلّ وعي و مَعْرفة، وتَدَبَرٍ وتَفَكَّر، تَنْسَجِمُ نُفوسهم مَعَ معانيه، وتَندَمِجُ أرواحُهُم وقُلوبُهُم بما أوحى اللّه إلى نَبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).

قَد مَلَكَ القُرآن مَشاعِرَهم، و جَذَبَ اَفکارَهُم، فكاَنهم فَقَدوا الوعيَ عن كُلِّ شيء إلّا عن كتاب اللّه.. الّذي اَخَذَ بِمَجامِع قُلوبهم.

فَتَراهُم بَينَ تِلاوة القرآن وبَينَ التَهَجُّد والصلاة، يَستَلِذّونَ بمناجاة رَبِّهم، وهُمْ في قِيامِهم وركوعهِم و سُجودهم و قُنوتهم.. مُتَوجّهونَ إلى اللّه تعالى بِکُلّه م، بِقُلوبهم و أرواحِهِم و مَشاعِرهم، و كاَنهم- في تِلكَ اللَحَظات- لا يُدركون عن العالَم الخارجي شيئاً، بَلْ و كاَنهم غافِلون عمّا حَولَهم من الزَمان والمَكان، بَلْ و حَتَّى عن ذَواتهِم. قَد أَغرَقَتْهُم العِبادة، واستَولى على وُجودهم التَوجُّه إلى اللّه تعالى.

ص: 108

عَظُمَ الخالِقُ في أَنفُسِهِم، فَصاروا لا يَمْلِكُونَ دُموعَهُم عن الجَرَيان، ولا يستطيعُونَ حَبْس أَصواتهم عن الخُشوع والبكاء، يَعتَبرون أَنفسُهم مُقَصِّرِينَ أمامَ عظمة اللّه سبحاَنه، فَيَلوذونَ بِعَفوه، ويَعُوذُونَ بِحِلْمِه، ويَستَغفِرونَه.. و قَد عَصَمَهُمُ اللّه من الزلَل، و أذهَبَ اللّه عَنهُم الرِجْسَ وطَهَّرَهُم تَطهِیَراً.

و في النَهار.. يَدْخُلُ عليهم الزائر فَيَجِد فيهم البَشاشَة وسِعة الصَدر و التَرحيب، و التَواضُع و التجاوُب و أنواع العَطف والرافة، قَد ضَرَبوا الرَقَم القِياسي في أصول الإنسانيّة والأخلاق.. و قواعِد حُسن التَعامُل مع الآخَرين، وصفاء القلب، وطيب النَفس و حُبّ الخَير للناس، والإحسان حَتَّى إلى مَن أساء إليهم.

يَسألهُم السائل عن الدين والدُنيا و الآخرة و عن السَماء و الأَرض و عن الفِقه وغيره، و عن كلّ موضوع، فَلا يَسْمَعُ إلّا الجَواب الصَحيح المُقْنِع، ولَمْ يُسَجِّل التاريخ في حَياة أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كلمة: لا أدري، لا أَعلَم، لا أَعرف، في مقابل الأَسئلة المُوَجِّهة إليهم!!

ص: 109

هذه رَوزَنَة ضَيِّقة نَظَرنا منها إلى جانب من حياة أئمَّة اَهل البَيت الإثني عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ).

وإذا اَرَدْنا أَنْ نَتَحَدَّثَ عن حَياة طَواغيت عَصْرِهم و فَراعِنَة زَماَنهم، فسوفَ يَتَبَدَّل هذا الكتاب إلى مَلَفّات سَوداء مُظلِمَة، و إلى تَراجِم اَنا سٍ لَطَخُوا صَفَحات التاريخ بفَجائعِهِم و شنائعِهِم وجرائمِهِم وجناَياتِهِم، فَكانَ وَرَاءَهُمْ لَعْنَةُ الدَهْر.. و مَسَبَّةُ الأَجيال!!

ونَكْتَفي بالقَول: إنّ أولئك الطواغيت كانوا على خِلاف ما ذكرناه مِنْ سِيرة أئمَّة اَهلِ البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) مائةً بالمائة.

و حَيثُ إنّ هذا الكتاب يَتَضَمّن شيئاً من حياة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَسَيَكون الحديث- هُنا- عن فراعنة زَماَنه و طواغيت عَصره، و على راسِهِم المامون العَبّاسي والمُعْتَصِم العَبّاسي.

ص: 110

المَامُون العَبّاسي

كان المأمون العَبّاسي ابن هارون الرشيد يَمتاز عن أسلافه بثقافة مَشفوعة بالدهاء و الذكاء، وسياسةٍ مُرادفة للشَيطَنة و النِفاق، وهذا شأن كلّ سياسي يَلْعَبُ على حبال عديدة، ويَظهَر بمَظاهِر مُختلفة.

وقَد شاهدنا- في زماننا هذا- الكثيرين من الحُكّام.. كَيفَ يَتَلَوَّنونَ بِالوان مُختَلِفَة ومُتَناقِضَة.. حَسَب ما يَفْرُضُه عليهم الوَضْعُ السياسي.

فَتَرى بَعْضَهُمْ يُحارِبُ الدين بلا هوادة، ويُطارِد المُتَدينين أَشَدَّ المُطاردة، وبَعْدَفَتْرَةِ يُظهِر نَفْسَه بمَظهَر المُتديّن الغَيور على الدين، المُتَحَمّس لِلإسلام و المُسلِمين!! ثمَّ يَتَغَيَّر، ثُمَّ يَتَبَدل، و هكذا وهلمَّ جَرّا.

ص: 111

و لا مانِعَ لَدَيه مِن أنْ يَتَلَوَّن في كلّ ساعة بلَون، ويَتَظاهَرَ في كُلِّ آن بمَظْهَر.

كانَ المامون العَبّاسي هكذا، ولَقَد كانَ ذكيّاً في شيطنَتَه و خُداعه، بحَيثُالتبَسَ اَمرَهعلى أهل زَماَنه، و على الأزمنة الَّتيتَاخَرَتْ عَنهُ.. وإلى زماننا هذا، و لذلك ترى البَعض يُحْسِن الظنّ بالمأمون، بَلْ و يَعتَبره من الشيعة، إعتماداً على كلامٍ مَنقُولٍ عَنهُاَنه قال: «اَتَدْرُون مَنْ عَلَمَني التَشَيُّع»؟! (1)

و على كُلِّ حال.. فَإنّ السياسَة فَرَضَتْ على المامون اَنْ يَخْضَع للإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَلْ و يَتَنازل لَه عَنْ عَرش الخِلافة!! لكي يَمْتَصَّ نقمة الشُعوب الإسلاميّة يَومذاك، والَّتي كاَنتَ غاضِبة على الحكّام العَبّاسيّين، و بذلك يَجْعَل المامون.. الراَي العام.. إلى جانبِه، ويَتظاهَر بتعاطفِه مع العلَويّين.

و لكنّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَنْخَدع بتِلكَ

ص: 112


1- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)»، ج 1، ص 84، باب 7، ضِمن حَديث 11

الألعاب السياسيّة، وامتَنَع عن قَبول الخِلافَة الَّتييَهَبُها لَه المَامُون!!

فإنّ إمامة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و خِلافتَه.. ثاَبَتة مِنْ عِنْدِ اللّه و رسوله، سواءاً رضيَ الناس بذلك أم أَبَوا، و قَد نَصَّ عليه جَدّه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في أحاديث مُتواترة صَحيحة مَشهورة عِند المُسلمين.

و أمّا الخلافة الَّتي معناها المَنْصَب الإلهِیَ، التالي لمَنصب النُبوَّة، الخلافة الَّتي تَثبت بانتِخاب اللّه تَعالى و اختياره، وبنَصّ من النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) وغير ذلك من الشروط والمؤهّلات) فإن كاَنتَ وصَلَتْ إلى المامون بِصُورة شرعيّة.. فَلا يَجوزُ لَه أَنْ يَتَنازل عن حقّه الشَرعي، و عن مَقامِه الّذي جَعَلَهُ اللّه لَه.

و إن كاَنتَ الخِلافة (بالمعنى الّذي ذكرناه) وَصَلَتْ إِلى المَامون بصورة غير شرعيّة، فَلا يَجُوزُ لَه أَنْ يَهَب مالا يَمْلِك.

و من الّذي أعطاه حَقَّ الإِنتخاب و الإختيار لأمور المُسلِمين؟!

ص: 113

نَعَم، يَجب عليه أَن يَستَقِيلَ عن الخِلافة و يَعتَرف باَنه كانَ غاصِباً للخِلافة، ظالماً لآلِ مُحمّدالطاهِرين، فاقَداً للمؤهِّلات، ويُعلِن للأمة الإسلاميّة بأن الخليفة الشرعي هُوَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما قامَ بهذا العَمَل.. مُعاويةُ ابن يزيد بن مُعاوية، الّذي استقالَ عن الخلافة، وعَزلَ نَفْسه عَنها، وأَعلَنَ لأهل الشام أنّ الخليفة الشرعي لِرَسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) هُوَ الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) و القصة مشهورة ومذكورة في التاريخ.

و لكن المامون كان قَد خَطَّط بأنْ يُجْبِرَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالرَحِيل من المدينة المنَوّرة.. إلى خراسان، ويتَنازَل له المامون عن الخِلافة. ومَن الطبيعي أنّ الإمام الرضا سَيَجعَلُ المَامونَ وَليّاً للعَهْد، جزاءاً لإحساَنه، (حَسَب تفكير المامون) وعِنْدَ ذلك يَسْهُلُ لَه إغتيالَ الإمام، فَتَنتقِل الخلافة إليه.. بِصِفَته وليّاً لِلعَهْد.

و هكذا يَتَخَلَّص مِنْ مَشاكل السياسة الَّتي فَرَضَتْ عليه الخُضوعَ للعلويّين، وتَغييرَ السُلوك مَعَهم، وفَسْحَ

ص: 114

المَجال أَمامَهم، وإعطاءَهُم الحُرّيات الَّتي كاَنتَ مَكْبُوتَة اَیّام اَبیه هارون الرشيد.

و كانَ المَأمون يَجهَل اَنّ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هُوَ اَعلَم و أَعرَف و اَذكى مِنْ أَنْ تَتَلاعَبَ بِه الأَهواء، و أن يَصير العوبَة لِسياسة المَأمون الشيطان!!

و لمّا رأى المامون إمتناعَ الإمام الرضا عن قبول الخِلافة المَوهوبَة له! و رأى أنّ هذه الخطّة باءت بالفَشَل، و اَنّ فِكْرتَه الشيطانيّة.. لَمْ تَنْجَح، دَخَلَ مِنْ باب آخَر، فَعَرَضَ على الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبول ولاَية العَهد، وهذا تَنْزِيلُ لمَكانَة الإمام الرضا عن مَقامِه الأسمى.

فالإمام الّذي لا يَرضى بالخِلافة المَوهوبَة له من المامون، كَيفَ يَرضى أن يكون وليّاً للعَهْد؟

ولهذا امتنع الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَشدَّ الإمتناع، و لكنّ الأَجواء السياسيّة ضَيَّقَت الخَناق على المامون، و لهذا هَدَّدَ المَامونُ الإمامَ الرضا بالقَتْل.. إِنْ هُوَ اَمتَنَعَ عن قَبول ولاَية العهد!!

ص: 115

ومِنْ هُنا يَنكشِف لَنا أنّ المامون لَمْ يَكُنْ يَحْمِل في قَلْبه شيئاً من المَحَبَّة و الولاء للإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلو كان يَعتَقَد في الإمام الرضا إعتقاداً سليماً.. لَمْ يَتَجَرًا على تهديده بالقَتل!! و لكنّها السياسَة الَّتي لا تُؤمِن بالديانَة ولا بالمعتَقَدات، وإنَّما تُؤمِن بالظُروف و المَصالِح فقَط و فقَط!!

و لمّا رأى الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ الأَمر قَد وَصَلَ إلى هذه الدرَجة، و أنّ حياته مُهدَّدة بالقَتْل، وافَقَ على ولاَية العَهْد.. بِشَرط عَدَم التدخُّل نهائيّاً في شؤون الدَّولة، مِن العَزل و النَّصب، وغير ذلك من التَصَرُّفات.

وهذا البَحث يَحتاج إلى مَزيد مِن الشَرح والتَفصيل، و الدراسة و التَحليل، وأَرجو من اللّه تعالى أَن يُوفِّقَني لتأليف كتاب حَولَ حَياة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِكي اَذكر- هُناك- ما يُناسِب المَقام.

و على كلّ حال.. فإنّ المامون سَوّلَت له نَفْسُه الشِرّيرة أَنْ يَدُسّ السُمّإلى الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ففارقَ الإمامُ الحياة مَسْموماً شهِیَداً، وخَرَجَ المأمون الشيطان في تَشييع جنازته

ص: 116

(عَلَيهِ السَّلَامُ) حافي القَدمين، قَد حَلَ اَزرار ثيابه حِداداً وحُزْناً- على حَدّ زعمه-!!

و لكنّ المُجتَمَع لا يَخلو من اَنا س أَذكياء، لا تَلْتَبِس عليهم الحَقائق، ولا يَنخَدِعُون بالمَظاهر و الظواهِر.

و أخيراً، أشيعَ في خُراسان: أنّ المامون هُوَ الّذي دَسَّ السُمّإلى الإمام الرضا و قَتَلَه.

و من الطبيعي أنّ الإستياء و التنفُّر و الإنزجار مِن المَامون.. إنتَشَر بَينَ الناس، ولَمْ يَستَطع المامون اَنْ يَبْقى في خُراسان، فَقَصَدَ نَحْو بغداد، تغطية للجَريمة، وابتِعاداً عن المُجتَمَع المُنْزَعج.. الناقِم عليه.

ص: 117

حضور الإمام الجَواد عِنْدَ والده قَبْلَ الوفاة

انقَضَتْ سَنَوات أَربَع أو خَمْس.. مِنْ سَفَر الإمام الرضا إلى خُراسان، واستُشهِد الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بلاد الغُربَة، وقَضى نَحْبَه مَسْموماً.

و حَضَر الإمامُ الجَواد عِنْدَ والدِه قبلَ وفاته- و هُوَ ابْنُ تِسع سِنين- و لَمّا تُوفّي الإمامُ الرضا.. قامَ الإمامُ الجَواد بتجهِیَز جُثمان والِدِه، من التَغسيل و التَحنيط والتكفين.. و الصَلاة عليه، و كانَ حُضُوره عِنْدَ والده عِنْدَوالِدِهِ بخُراسان.. بقَدرة اللّه تعالى.. و مُعجِزة الإمامة.

رَوى الشيخُ الصَدوق في كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)» حديث اَبي الصَلت.. حَولَ دسّ السُمّإلى

ص: 118

الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و كَيفَيّة وفاته، وحُضور الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) عندَ والدِه حِينَ مَوته.

ونَذكُر- هُنا- بَعض ما يَرتَبِط بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال أبو الصَلت: «... و مَكثت واقِفاً في صَحْنِ الدار مَهْمُوماً مَحْزُوناً، فَبَينَما اَناكذلك إذ دَخَلَ عَلَيَّ شابٌ حَسَنُ الوَجْه، قطَطُ الشَعْر (1)، أَشبَهُ الناس بالرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَبادرتُ إليه، فَقُلتُ لَه: من اَينَ دَخَلْتَ و الباب مُغلَق؟

فقال: الّذي جاءَ بي مِن المَدينة في هذا الوقت.. هُوَ الّذي أَدخَلَني الدار و البابُ مُغلَق!!

فَقُلتُ لَه: مَنْ اَنتَ؟

فَقالَ لي: اَناحُجَّةُ اللّه عليك يا اَبا الصَلت، اَنامُحمّد بن علي.

ثُمَّ مَضى نَحْو اَبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَدَخَل، وأمَرَني

بالدُخول مَعَه، فَلَمّا نَظَرَ إليه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَثَبَ إليه، فَعانَقَه، وضَمَّه إلى صَدْرِه، وقَبَّلَ ما بَينَ

ص: 119


1- قَطَط الشعر: مُجَعّد الشَعر

عَينَيه، ثُمَّ سَحَبَه سَحْباً إلى فِراشِه، و اكبَّ عليه مُحمّد بن علي [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُقَبِّلُه، ويسارُّه بشيء لَمْ أَفهَمْه...

إلى أَن يَقول: ومَضى [اَي: تُوفّي] الرضا، فَقالَ ابو جعفر (علیه السلام): قُم يا اَبا الصَلت اَيتِني بِالمُغتَسَل و الماء مِن الخُزانة.

فَقُلتُ: ما في الخزانة مُغتَسَل و ماء.

فقال: إنتَهِ إلى ما آمُرُك بِه.

فَدَخَلْتُ الخُزانة، فإذا فيها مُغتَسَل وماء، فاَخرَجْتُه، وشَمَّرْتُ ثِياَبي لأغَسّلَه، فَقالَ لي: تَنَحَ يا اَبا الصَّلت، فَإنَّ لي مَنْ يُعِينُني غَيرك.

فَغَسَّلَه، ثُمَّ قال لي: أُدخُل الخُزانة فَأَخرِج إليَّ السَفَط الّذي فيه كفَنُه و حنُوطُه.

فَدَخَلْتُ، فإذا اَنابِسَقَط لَمْ آرهُ في تِلكَ الخزانة قَطّ!! فَحَمَلْتُه إليه، فَكَفَّنَه، وصَلّى عليه، ثُمَّ قَالَ لي: اَيتني بِالتابوت.

فَقُلتُ: أمضي إلى النجّار حَتَّى يُصْلِحَ التابوت.

ص: 120

قال: قُمْ، فَإنَّ في الخزانة تابوتاً، فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُ تابوتاً لَمْ اَره قطّ، فاتيتُه به، فأَخَذَ [الإمام الجَواد.. جَسَد الإمام] الرضا بَعْدَ ما صَلّى عليه، فَوَضَعَه في التابوت،...» إلى آخر الخَبَر (1)

ص: 121


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام) ج 2، ص 271، باب 63، حديث 1. ويُروى هذا الخبر في كتاب «الخرائج»- اَيضاً- مَعَ اختلاف يسير.. في بعض الكلمات. الخرائج ج 1، ص 352، الباب التاسع «في مُعجزات الإمام علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 8

الإمام الجَواد في مُصيبة مَقتَل الإمام الرضا

و بَعْدَ ما فَرغَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من إجراء المَراسِم الدينيَّة، على جَسَد والده الغَريب، مِن التَغسيل و التَكفين و الصَلاة عليه، رجَعَ مِنْ خُراسان إلى المدينة المُنَوّرة، و اَخبَرَ الأسرة الكريمة والعائلة الشريفة.. باستشهاد والده، واَمرَه مْ أَنْ يُقيموا المَاتَم على ذلك الإمام الّذي قُتِلَ بِالسُمّ.. غريباً عن اَهله وعَشيرته.

***

ص: 122

رُوِيَ عن أميّة بن علي، قال: كُنْتُ بِالمَدينة.. اَختَلِف إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) و أبو الحَسَن [الرضا] بخُراسان، وكانَ أهلُ بيته و عُمُومةُ اَبيه يَاتونَه ويُسَلّمونَ عليه، فَدَعا- يَوماً- جاريَتَه.. فَقالَ لَها: قولي لَهُم: يَتَهِیَؤونَ لِلمَاتَم، فَلَمّا تَفَرّقنا مِنْ مَجْلِسِنا.. اَناوجماعة، قُلْنَا: هَلاّ سَالناه لِمَن المَاتَم؟

فَلَمّا كَانَ مِنَ الغَد.. أعادَ القَولَ، فقُلْنا: ماتَم مَن؟

قال: ماتم خَيرِ مَنْ على ظَهرِها [اَي: ظهر الأرض].

فاَتاَناخَبَرُ [وفاة] اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَذلك باَيام، فَإذا هُوَ قَدماتَ في ذلك اليَوم (2).

ص: 123


1- اَختَلفُ: أتردّد عليه.. و اَزوره باستمرار.. في اكثر الاَيام. المُحقّق
2- کتاب «كشف الغُمّة» للإربلي، ج 3، ص 159، في مُعْجِزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ). و كتاب «دلائل الإمامة» للطبري، ص 212، في مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ماذا بَعْدَمَقتل الإمام الرضا؟

لقَد ذكرنا أنّ المَامون العَبّاسي.. بَعْدَ ما قَتَلَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْ أَنْ يَبْقى في خُراسان، فتوجَّهَ نَحْوَ بغداد، لِيَتَخَلَّصَ من المُجتَمَع الناقِم عليه.

وهُناك في بَغداد.. إسْتَمَرَّ المَامون مُنهَمِكاً في مَلذاته، مَشغولاً بِشَهَواتِه، بَينَ كُؤوس الخَمْر و الحان المُغَنّيات والمُغَنّين، يَتَقَنَّن بأنواع التَرَف و البَذَخ.

و الآن.. لِنَذهَب إلى المدينة المنوّرة، حَتَّى نَسْمَع صَدى وفاة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هُناك:

إنتَشَر خبرُ وفاة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في البلاد الإسلاميّة، ولَمْ يَكُن الكثير منَ الشيعة القاطِنين

ص: 124

في البلاد النائيَة.. يعرفون الإمامَ القائم مقام الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لَمْ يَسمَعوا- حينَذاك- النصوص الدَّالَةعلى إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و المدينةُ المُنَوِّرة.. مَوطنُ آل رسول اللّه ويَسْكُنُها اكثرُ العلويين مِنْ آلِ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فلابُدَّ مِن التحقيق و البحث عن الإمام بَعْدَالإمام الرضا في المَدينة المُنَوَّرة.

ص: 125

لِقاء الوُفَود بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

توافَدَت الوفود من شتّى الأقطار الإسلامية.. إلى المدينة المُنَوِّرة لمعرفة الإمام، وجاءَ مِن بغداد حوالي ثَمانینَ رَجُلاً مِنْ مَشاهِیَر الشيعة وفُقهائهم.. للتحقيق عن الموضوع (1)، و من الطبيعي اَنهم قصَدوا دار الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) الَّتي كانَ يَسكنُها قَبْلَ سَفَره إلى خراسان، وهِیَ دار الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الَّتي قَد تَعَوّدت الشيعة على التَردُّد إليها، فالباب مفتوح في وجوه الوفود و الحُجّاج، ويَمْتَلىء بهم المكان.

كانَ الجميع في حالة الإنتِظار، يَنْتَظِرُون مَنْ سَيَخْرج

ص: 126


1- کتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 100، باب 28 «فَضائله و مکارم اخلاقه»، حدیث 12؛ و کتاب «عُيون المعجزات»، ص 304

مِن داخِل الدار.. كي يسأَلونه عن الإمام.. ويُحقِّقونمنه عن المَوضُوع.

فدَخَلَ عليهِم عبدُ اللّه بنُ الإمام موسى بن جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ)- عمُّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- وه_و شيخ كبير.

ثُمَّ دَخَلَ الإمام الجَواد، فَقامَ أَهلُ المَجلِس کُلّه م إحتراماً للإمام، وصاروا ينظُرون إليه.. و يَنظُرُ بَعضُهم إلى بَعض.. نَظَرَ تَعَجِّبِ مِنْ صِغَر سنّ الإمام!!

وتَقَدمَ أَحَدُ الحاضِرين و وَجَّهَ سُؤالاً فِقْهِیَا إلى عبدُاللّه بن موسى، فاجابَه عبدُ اللّه جواَبا غيرَ صَحيح.

وهُناظَهَرَتْ علامةُ الغَضَب على وَجه الإمام الجَواد و زَجَرَ عَمّه على إجاَبتِه- لتِلكَ المَسأَلة- بغَير ما انزَل اللّه!! فَتَراجَع عبد اللّه و اعتَذَر.. واستغفَرَ اللّه، لاَنه أفتى بِما لا يَعلَم.

ثُمَّ أجابَ الإمام الجَواد جواَبا صحيحاً، على خِلاف جواب عمّه عبداللّه بن موسی (1).

ص: 127


1- سوف نَذكر تفاصيل هذا المَوضوع.. في فَصل، إن شاء اللّه تعالى

و تبادَر الناس إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِيُوجِّهوا إليه الأسئلة الفقهِیَة، وإنَّني أعتَقَد أنّ اكثَر تِلكَ الأَسئلة.. كاَنتَ بقَصد الإمتحان و الإختبِار.

فَقَد كانَ في تِلكَ الجماهِیَر عَدَدٌ مِنْ فُقَهاء الشيعة وعلمائهم، و أجلّاء أصحاب الأئمَّة مِمَّنْ يَعْرِفون الأحكام الشرعيّة. وإنما سالوا الإمامَ الجَواد.. لِيَتَاكدوا مِنْ صحّة إمامته.

فكانَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُجيب على تِلكَ الأَسئلة بِسُرعة، و بلا تامُّل أو تفكير، يُجيبُهم بالأحكام الإلهِیَة الواقعيّة.. القطعيّة، لا إعتماداً على الظَّنّ والوَهم و الحَدس و القياس و الراَي.. و أمثال ذلك

و يَعلَمُ اللّه تَعَالَى عَدَد الأسئلة الَّتي وجِّهَت إلى الإمام الجَواد في ذلك المَجْلِس، وانقضّ المَجْلِس، وتَفَرَّقَ الحاضِرون وهُم مُقْتَنِعُون بإمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

* * * *

لقَد كان الحِوار و السُؤال.. طريقة ناجحة لتاكُّد الناس.. مِن إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 128

رُوِيَ عن مُحمّد بن عيسى، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) فناظَرني في أشياء (1)، ثُمَّ قال: یا اَبا علي، إرتَفَعَ الشَك؟! ما لاَبي غَيري (2).(3).

و كان الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قَد اَسَّس قَريَة في ضَواحي المدينة سَمّاها (صريّا) وكاَنتَ هذه القَرية موجودة في زَمَن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَكانَ الإمام يَخرج إلى تِلكَ القَرية ليَبتَعدَ عن العُيون والجواسيس الَّتي كاَنتَ تُراقِبُه، و لكنّ الكثيرين من الشيعة كانوا يَذهَبون إلى(صريّا) بَحْثاً عن الحقّ والحَقيقة، فكان الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُفيضُ عليهم المعارف، ويُظهِر لَهُم الدلائل فَلا يَبْرَحُون عن مكاَنهم إلا وهُم يَعتقَدون بإمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 129


1- المَقْصود: جَرى بَينَنا حوار حول الإمامة.المُحقّق
2- اَي: لَيسَ لاَبي خليفة غَيري
3- کتاب «الكافي» ج 1، ص 320، كتاب الحُجّة، باب الإشارة و النَص على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حَديث 3

اَيُّها القارىء الكريم

لقَد ذكرنا- قَبْلَ صَفحات- رواَيتين حَولَ لقاء الوفود بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و نَعُودُ الآن..

لِنَذكُرَهما- هنا- مَرّةً أخرى.. للأهمّية.. وتَكْميلاً للفائدة:

رُوِيَ عن مُعَلَّى بن مُحمّد، قال: خَرَجَ عَلَيَّ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) حَدَثان مَوت اَبیه (1) فنَظَرْتُ إلى قَده لأصِفَ قامتَه لأصحابنا بمِصر، فقَعَد، ثُمَّ قال: يا مُعَلَى إِنَّ اللّه احتَجَّفي الإمامة بمثل ما احتَجَّبِهِ في النُبوَّة، فقال [سُبحاَنه]: (واَتَيناه الحكمَ صَبيّاً) (2).

رُوِيَ عن علي بن أَسباط، اَنه قال: رَاَیت اَبا جعفر[الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَد خَرَجَ عليّ، فَأَخَذْتُ النَظر إليه (3) و جَعَلْتُ أنظُر إلى راسِه ورِجلَيه لأصِف قامَتَه لأصحابنا بمِصر.

ص: 130


1- حَدَثان: أوائل موت اَبیه
2- سورة مريم، الاَية 12
3- لَعَلَّ الصّحيح قوله: فأَحَدْتُ النظَر إليه

فبَينَما اَناكذلك حَتَّى قَعَدَ وقال: «يا علي، إنَّ اللّه احتَجَّفي الإمامة بمثِل ما احتَجَّبِهِ في النُبوَّة.. فَقال: (واَتَيناه الحُكْمَ صَبِيّاً) (1) و ﴿ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾(2) و (وبَلَغَ أربعينَ سَنَة) (3) فَقَد يَجوزُ أَنْ يُؤتى الحكمة وهُوَ صَبيَّ (4)، ويجوز أَن يُؤتاها و هُوَ إبن اربعين، سَنَة» (5).

* * * *

عَظيم.. لكن في عُمر الصِبى!

رُوِيَ عن علي بن حسان الواسِطي المعروف ب_«العمش» (6)

ص: 131


1- سورة مريم، الاَية 12
2- سورة يوسف، الاَية.22. قال تعالى- في قصّة النَبيّ يوسف (عليه السلام)-: (و لَمّا بَلَغَ أَشُدَّه اَتَيناه حُكْماً و عِلماً)
3- سورة الأحقاف، الاَية 15
4- يَجُوز: اَي يُمكن
5- کتاب «الكافي»، ج 1، ص 384، کتاب الحجة، باب حالات الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في السن، حديث77
6- هكذا وجَدْنا في كتاب «بحار الأنوار»، والصحيح: المُنمّس

قال: حَمَلْتُ مَعي إليه [اَي: إلى الإمام الجَواد] من الآلة الَّتي للصبيان (1) بَعْضاً مِنْ فِضَّة وقُلتُ: أتحِفُ مولاَي اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بها.

فلَمّا تَفَرَّق الناسُ عَنهُ.. بَعْدَجَوابِ الجَميع، قامَ فَمَضى إلى صرِيّا (2) و اتبَعْتُه.. فَلَقِيتُ مُوَفَّقاً [خادِمَ الإمام] فقُلتُ: إستَاذن لي على اَبي جعفر.

فدَخَلْتُ، وَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَلام، و في وَجْهِه الكراهة، ولَمْ يَاذن لي بِالجُلوس، فدَنَوتُ مِنْه وفَرَّغْتُ ما كانَ في كُمّي بَينَ يَدَيه، فنَظَرَ إِليَّ نَظَرَ مُغْضَب، ثُمَّ رَمَى يَميناً وشمالاً، ثُمَّ قال: ما لهذا خَلَقَني اللّه، ما اَناو اللَعب؟! فاستَعْقَيتُهُ، فَعَفى عَنِّي، فخَرجت (3).

ص: 132


1- يعني: الاعيب الأطفال.. و الآلات الَّتي يستعملونَها لِلتَسْلِيَّة
2- صرِيّا: قرية بناها الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خارج المدينة المُنَوِّرة
3- کتاب «بحار الأنوار» ج50 ص 59، باب معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضِمِّن حَديث 34، و كتاب «دلائل الإمامة» للطبري، ص 213، باب في مُعجزاته (عليه السلام)»

مَوقِف المامون من الإمام الجَواد

من الوَاضِح أن حاكم المدينة المنوّرة- يَومذاك- كانَ يَرفَع التقارير إلى المأمون العَبّاسي ضدّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتقارير الَّتي يَرفَعُها أعوانٌ الظلمة لا تخلو مِنْ تَهْويل و مُبالَغَة في الكذب والتُهمة، وهُم يعتَبِرون ذلك مِنْ وَسائل التَقَرُّب إلى الظالمين، بَلْ مِنْ أَسباب تَرفيعِهِم وتَرْقِياتِهِم في المَناصِب.

و كانَ المامون يقرأ التَقارير، ويَعْلَم بإلتِفاف الناس حَولَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَعْدَثبوت إمامَته لدَيهم.. وظُهور دَلائلِها عِنْدَهم.

* * * *

و الآن.. نَذهَب إلى بغداد، لنرى الخُطّة الَّتي أعدَّها

ص: 133

المامون ضد الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

لَقَد خَطَّط المامون تخطيطاً آخَر، لِلتَلَوّن بِلَون آخر، فَقَد َكتَبَ إلى والي المدينة ياَمرَهبإرسال الإمام الجَواد إلى بغداد، ليكونَ تحت الرقَابة المُشَدّدة، بَعيداً عن مدينة جدّه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و ممنوعاً عن كُل نشاط ديني.

و وَصَل الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بغداد، وهُوَ في العاشرة أو الحادية عشرة من العُمْر، ولكن قَد تَكامَلَتْ فيه مِنَ صفات العظمة، و شروط الإمامة، وتَوَفَّرَتْ فيه المؤهّلات بجَميع مَعنى الكلمة.

ويَتبادَر إلى ذِهني.. أن الإمام الجَواد وَصَلَ إلى بغداد بِدون إعلام مُسْبَق، ولا نعلَم من الّذي رافَقَه في رِحلتِه من المدينة إلى بغداد؟ ولا نَعْلَم اَينَ نَزَلَ الإمام؟

و لَعَلّ الإمام ما أَرادَ اَنْ يَذهَب إلى بلاط المَامون لِيَلتَقي به هُناك، فكَيفَ- إذن- يتُمّ اللقاء بالمامون؟

كانَ الإمام يعلم اليَوم الّذي يخرج فيه المامون إلى الصَيد

ص: 134

لَهوا و لعباً- و لهذا وقَفَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في طريقه حينَ خُروجه.. و كان في الطريق أَطفال يَلعَبون.

و وَصَلَ موكب المامون مَعَ الخَدَم و الحَرَس.. و كِلابِ الصَيد و صُقورِه، فَتَفَرق الاطفال- الّذین كانوا يلعبون في الطريق- إتّقاءاً من شرّ ذلك المَوكب، و لكنّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بَقي في مكاَنه، لا يعبا بذلك الموكب المُحاط بالبذخ والكِبرياء.

ويَجْلِب وقوفه إنتباه المامون.. فيَتَقَدم إليه ويساله لماذا لَمْ يُهرَب مَعَ مَنْ هَرَب؟!

ويُجيبه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنّ الطريق لم يكن ضيّقاً حَتَّى أوسّعه، و لم اَرتكِب ذنباً حَتَّى أخشى العُقوبَة! (1)

فتَنكسِر شخصيّة المأمون ويَتَصاغَر أَمامَ هذا الجَواب الجَريء.

هنا.. تقول بعض الرواَيات: إن المامون ترك الإمام و خَرَجَ للصَيد،، وتقول رواَية أخرى: اَنه سالَ الإمامَ عن إِسمُهُ؟

ص: 135


1- كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمَّة» للإريلي، ج 2، ص 344، باب ذكر الإمام التاسع

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): اَنامُحمّد بن علي بن موسى بن جعفر ابن مُحمّد بن عليّ بن الحُسين بن علي بن اَبي طالب.

يفتَخر الإمام بآبائه الأئمَّة الطاهرين الّذین هُم أَشرف المخلوقين و أَطهَر الكائنات.

يَفتَخِر بِهذا النَسَب الأرفع الأَقَدس.. وحَقِّ لَهُ أَنْ يَتَمَثَّل بقول الفرزدق الشاعر:

أولئك اَبائي فجئني بمِثْلِهِم *** إذا جَمَعْتَنا- يا جرير- المَجامِعُ

ويَتَذكَّر المَامون أنّ هذا الفتى هُوَ يَتيمُ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و اَنه هُوَ الّذي اَيتَمَ هذا الشاب و حَرَمَهُ مِنْ عواطف والده.

يَتَذكَّر أنّ هذا الفَتى هُوَ ضَحيّة جَرائم المامون!!

ويَترك المأمون الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و يَخْرُجُ مِن البلد للصَيد. و هناك يُطلق صَفْرَه فيَطير ويُحلّق في الجوّ و يغيب في الغُيَومالمتَراكمة، ثُمَّ يَعود و في مِنْقاره سَمَكة صغيرة فيها بقيّة من الحَياة.. ويَأخذ المَامون

ص: 136

تِلكَ السُمّ كة ويَعود إلى البلَد، و كاَنه قَد وَصَلَ إلى آماله بِصَيد سَمَكة صغيرة.. وتَحَقَّقَت أمانيه بهذا العَمَل الصِبياني، و هُوَ يَدَّعي اَنه خليفة المسلمين و الحاكم على نِصف الكرة الأرضيّة، ويُنَوَّه بإِسمُهُ على آلاف المَنابِر في الجمعات و غيرها!!

نعم.. هذا الرّجُل يَخرج بذلك الموكب لِيَصيد سَمَكة صغيرة كاَنه فقير لا يَمْلِك قوت يَومه، و كاَنه غير مَسؤول عن شُؤون المُسلمين و تدبير أمورهم!

ويَمُرّ المامون من نَفْس الطريق الّذي التَقى فيه بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَد قَبَضَ على السُمّ كة في كفّه، فَيَتَفرِّق مَنْ كان في الطريق إلا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإِنَّهيَبْقى في مَكاَنه كما في المرّة الأوّلى.

فَيَقول للإمام: قُلْ اَي شيء في يدي؟

فَيَقول (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«إنّ الغيم حِينَ يَأخُذ من ماء البَحر يُداخِلُه سَمَك صِغار، فتَسقط منه، فَتَصطادها صُقور المُلوك،

ص: 137

فيَمتَحِنُون بِها سُلالة النُبوَّة!!» (1).

فَيُدهِش ذلك الجَوابُ المامونَ، ويَنْزِل عن فَرَسِه و يُقَبِّل

ص: 138


1- أقول: لَيسَ في كلام الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يَدعو إلى الإستغراب، و قَد راَينا في زماننا في العراق- مَرّات عديدة- آنّ السَماء أمطرت مئات الألوف- بل الملاَيين- من الضفادع، و كاَنتَ كل ضفدعة على حَجم البندقة.. أو أكبر منها و في هذه السَنَة بالذات- 1406 ه_- أمطرت السَماء في مدينة شادگان (الدورق)- في محافظة خوزستان جنوب ایران- ملاَيين الضَفادع، و امتَلأت بها البيوت و البساتين و غيرها. و على كلّ حال.. فهذا أمرٌ واقع و حقيقة ثاَبَتة، ولَيسَ ت نظريّة حَتَّى يُمكن تكذيبها أو التشكيك فيها. ويُمكن أن يُقال- في مقام تحليل هذه الظاهرة-: إن الزوابع- جَمْع زوبعة، وهِیَ هِیَجان الرياح في الأرض وتصاعدها بصورة مُستديرة- تسير بصورة سريعة و تحمل الغُبار وترتفع إلى السَماء بشكل عَمُودي. فإذا هَبَّت الزوابع على الشطوط و البحار فإِنَّها تَحْمِل السحب والحيواَنا ت المتواجِدة على سطح الماء- مِن السُمّ ك الصغار و الضفادع- و تصعد بها إلى الجَوِّ، فتبقى نَ َطيّات السحب المُتَكاثِفَة، ويُمكن أنْ يَعيش السُمّ ك بَينَ أطباق الغيَوم، لاَنها أبخرة الماء. هذا.. و الرواَيات الواردة- حَولَ جواب الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لسُؤال المامون- مُتَعَدِّدة ومختلفة، وقَد اختَرنا أقربَها إلى العَقل

رأس الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) و يعرف أنّ هذا الفتى لَيسَ كبقيّة الفتيان، بَلْ اَنه مُمتَلىء علماً و حكمة.. وفصاحة وبلاغة وشجاعَة، واَنه الإمام بالحق بَعدَ ابيه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فَيُخَطَّط المامون (بَعْدَذلك) لتَجميد هذه الشخصيّة الَّتي يَعْتَبرها خطراً عليه، ويُقَرِّر أنْ يُزوّجه ابنته أمّ الفضل الَّتي كاَنتَ - يَومذاك- صغيرة.

ص: 139


1- کتاب «مفتاح الفلاح» للشيخ البهائي، ص 177

المامون يُزَوّج ابْنَتَه لِلإمام الجَواد

حِينَما أَراد المامون العَبّاسي.. أَنْ يُزَوّج إبنَتَه للإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قامت القيامَة على العَبّاسيّين، الّذین كانوا يَومذاك أصحابَ السُلطة و رجال الدَولة، ويُشكّلون طائفة كبيرة، فقَد قِيلَ: إنّ الإحصائيّات أجريَت في ولد العَبّاس- في عهد المامون- فكانوا ثَلاثاً وثلاثين ألف نَسَمة!

ولكنّهم لَمْ يَفْهَموا هَدَف المامون من ذلك التَزويج، و لَمْ يَعْرِفوا باطن الأمر، فَظَنّوا أنّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) سَوفَ يَستَلم زمام الحُكْم، وسوف يَتَقَلّص نُفوذهم و تَضعف إمكانياتهم.. إذا تم زواج الإمام الجَواد بإبنة المأمون.

و لهذا قاموا و قَعَدوا، وبَذَلوا مُحاولات كثيرة لِلحَيلولة

ص: 140

دونَ هذا الزَواج، و لكن المأمون كان مُصِرّاً على ذلك، وما كان يَستَطيع أنْ يَقول لهم: إنّ هذه خُطّة ضدّ الإمام الجَواد، و لعَلَّه كان يَسْتَعين بالكتمان في قضاَياه السياسيّة.

رَوى الشيخ الطَبرسي في كتاب «الاحتَجَّاج» عن الريّان، قال: لَمّا أَراد المامون اَنْ يُزَوّج إبنَتَه أُمّ الفَضْل.. اَبا جعفر مُحمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بَلَغَ ذلك العَبّاسيّين، فَغَلُظ عليهم (1)، واستنكروه منه، و خافوا أَنْ يَنْتَهِیَ الاَمرُ مَعَه.. إلى ما انتهى مَعَ الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فَخاضوا في ذلك (2)، و اجتَمَعَ مِنْهُم أَهلُ بَيته الأَدنَونَ منْه، فقالوا: نُنشدُك اللّه يا اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَن تُقيمَ على هذا الأمر الّذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا.

فاَنانَخَافُ أَنْ يَخرُجَ بِهِ عَنَّا أَمرٌ قَد مَلَّكناهُ اللّهُ

ص: 141


1- غَلُظ عليهم: صَعُبَ عليهم ذلك.المُحقّق
2- اَي: تَكلّمُوا فيما بَينَهم عن هذا الموضوع، وعَمّا يُمكن إتخاذه من تداَبير لصرف المامون عن فكرة تزويج إبنته للإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). المُحقّق

(عَزّ وجَلٌ) (1) و يَنْزعَ مِنّا عِزّاً قَد البسناه اللّه، وقَد عرفت ما بَينَنا و بَينَ هؤلاء القوم قَديماً وحديثاً، وما كان عليه الخُلفاء الراشدون قَبْلَك، مِنْ تَبعيدهم والتصغير بهم!!

وقَد كُنّا فِي وَهْلَةٍ مِنْ عَمَلِك مَعَ الرضا ما عَمِلْت، فَكفاَنااللّه المُهمَّ مِنْ ذلك (2).

فاللّه اللّه! أَنْ تَرُدْنَا إلى غَمَ قَد إنحَسَرَ عَنَّا، و اصرف راَيكَ عن ابنِ الرضا.. واعدِلُ إِلَى مَنْ تَراهِ مِنْ أَهلِ بَيْتِك.. يَصْلُحُ لِذلك دُونَ غَيره.

فَقالَ لَهُم المامون: أما ما بَينَكم وبَينَ آل اَبي طالب، فاَنتُم السَبَبُ فيه، ولَو اَنصَفْتُمُ القَومَ لكانوا أولى بِكُم.

و أمّا ما كانَ يَفعَلُه مَنْ قَبْلي بِهِم، فَقَد كانَ قاطعاً للرَّحِم، وأعوذُ باللّه من ذلك، واللّه ما نَدمُتُ على ما كانَ

ص: 142


1- يَقْصُدون: السُلطة، و على زعمِهِم الخلافة
2- يَقْصُدونَ بذلك وفاة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

مِنّي مِن استخِلاف الرضا، وقَد سَاَلتُه أَنْ يَقُومَ بِالأمر.. و أَنزَعَهُ مِنْ نَفْسي، وكانَ اَمرُ اللّه قَدراً مَقَدوراً!! (1).

و أما أبو جعفر مُحمّدالجَواد] بن على، فَقَد اختَرتُه لِتَبَرُّزه [اَي: تَفَوقه] على كافة أهل الفَضل في العِلم والفَضل.. مَعَ صِغَر سِنّه، والأعجُوبَة فيه بذلك، و اَناأرجو أنْ يَظهَرَ للناس ما قَد عرفتُه مِنْه، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الراَي ما راَيتُ فيه.

فقالوا له: إنَّ هذا الفتى- وإنْ راقكَ منْه هَدْيه (2)- فإِنَّهصَبيٍّ لا مَعْرفة له ولا فِقْه، فأَمهِلْهُ لِيَتَادَّب، ثُمَّ اصنَعْ ما تراه بَعْدَذلك

فَقالَ لَهُمْ: وَيَحَكُم! إني أعرفُ بِهذا الفَتى

ص: 143


1- قَد ذكرنا- في ترجمة المَامون- اَنه كان ذكيّاً في شَيطنته، وهُنا يَظهر لك ذلك، فَتَراه يَقولُ لِلعبّاسيّين: «واللّه ما ندمت على ما كان منّي من إستخلاف الرضا...، ثُمَّ هُوَ يُقَدم على قتل الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن طريق دسّ السُمّإليه، و هذا التَلَوّن والتناقُض بَينَ القول والعَمَل داب كُلّ سِياسي تابع للظُروف
2- اَي: و إن أعجبك سُلوكه و سِيرته

مِنْكُم، و إنّ أهلَ هذا البَيت.. عِلْمُهُم مِن اللّه تَعَالَى و موادّه و إلهامه، لَمْ يَزل اَباؤه أغنياء- في علم الدين و الادَب- عن الرعاَيا الناقصة عَنْ حَد الكمال، فَإِنْ شِئْتُم فامتَحِنُوا اَبا جعفر بِما يَتَبَينَ لَكُم بِه ما وَصَفْتُ لَكُم من حالِه.

قالوا: قَد رَضِينا لَكَ- يا اَمير المؤمنين!! (1) ولأنفُسِنا بامتحاَنه، فَخَلَّ بَينَنا وبَينَه، لِنَنْصِبَ مَنْ يَساله بحَضرتك.. عن شيء مِنْ فِقه الشَريعة، فَإن أصابَ في الجَواب عَنهُ.. لَمْ يَكُنْ لَنا اعتِراض في اَمرَه، وظهَرَ لِلخاصة والعامة سَديد راَي اَمير المؤمنين فيه!!

و إِنْ عَجَزَ عن ذلك فَقَد كُفِينا الخَطب في مَعناه.

فَقالَ لَهُم المَامون: شانكُم، و ذلك مَتى أَردتُم.

ص: 144


1- سَوفَ نَذكر كلمة حَولَ لَقَب (اَمير المؤمنين) و اَنّه خاص بخليفة رسول اللّه: الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) و أن مَنْ رَضِيَ بهذا اللقب- مِن الحُكّام- فَهُوَ عَلامة على شذوذه الجِنّسي- كما في الحديث-

فَخَرَجوا مِنْ عِنْدِه و اجتَمَعَ راَيهُمْ على مَسأَلة يحيى بن اَكثَم، وهُوَ- يَومئِذٍ- قاضي الزمان، على اَنْ يَسأله مَسأَلة لا يَعرف الجَواب فيها، و وَعَدُوه بِأموال نفيسة على ذلك، و عادوا إلى المَامون و سَالوه أَنْ يَختار لهُم يَوم اً للإجتماع، فأَجابَهم إلى ذلك.

فاجتَمَعُوا في اليَومالّذي اتفقوا عليه، وحَضَرَ مَعَهم يحيى بن اَكثَم، و أمَرَ المَامونُ أَنْ يُفْرَش لاَبي جعفر [الجَواد] دَست (1) و يُجعَل فيه مِسْوَرتان (2) فَفُعل ذلك، و خَرَجَ أبو جعفر [الجَواد]- وهُوَ يَومئِذٍ ابنُ تِسْع سنين- فَجَلَسَ بَينَ المِسْوَرَتَين، وجَلَسَ يحيى بن اَكثَم بَينَ يديه، وقام الناس في مراتبهم (3) والمامونُ جَالِسٌ على دَستِ مُتَّصِلِ بِدَستِ اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 145


1- الدَست- كلمة فارسيّة-: الفرش الّذي يُجلَس عليه
2- المسورة: المُتَّكا المَصْنُوع من الجلد، كما في كتاب «المعجم الوسيط»
3- اَي: جَلَسُوا في الأماكن المُعَدَّة لهُم

فَقال يَحيى بن اَكثَم- للمامون-: يَاذن لي اَمير المُؤمنين أن أسأل اَبا جعفر عن مَسأَلة؟

فَقالَ لَهُ المَامون: إستاذنه في ذلك.

فَأَقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتاذن لي- جعلت فداك- في مَسأَلة؟

فَقالَ ابو جعفر [الجَواد]: سَلْ إِن شئت.

قالَ يَحيى: ما تقول- جُعِلْتُ فِداك- في مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيداً؟

فَقالَ ابو جعفر: قَتَلَه في حِلّ أَو حَرَم؟

عالماً كانَ المُحرِم أو جاهلاً؟

قَتَلَهُ عَمْداً أَو خَطأَ؟

حُرّا كانَ المُحْرِمِ اَم عَبْداً؟

صغيراً كان أو كبيراً؟ (1)

مُبتدءاً بالقتل أو معيداً؟

ص: 146


1- اَي: إن القاتل للصَيد.. صَبِيّاً كانَ.. أو بالغاً؟ المُحقّق

مِنْ ذَواتِ الطَّير كانَ الصَّيد اَم مِنْ غَيرها؟ (1)

من صِغار الصَيد اَم مِنْ كِبارها؟

مُصراً على ما فَعَلَ أو نادِماً؟

في اللَّيلِ كَانَ قَتْلُه لِلصّيدِ اَم في النَّهار؟

مُحْرِماً كانَ بِالعُمْرة- إذْ قَتَلَه- أو بِالحَجِّ كَانَ مُحْرِماً؟

فَتَحَيَّرَ يَحيى بن اَكثَم، وبانَ في وَجْهِهِ العَجْرُ والإنقطاع، ولَجْلَجَ حَتَّى عرف جماعةُ أهل المَجلِس عَجْزَه!!

فَقالَ المامون: الحَمْدُ لله على هذه النعمة.. و التوفيق لي في الراَي!

ثُمَّ نَظَرَ [المامون] إلى أهلِ بَيْتِه.. فَقالَ لَهُم: أَعَرفتُم الآن ما كُنْتُم تُنْكِرُونَه؟!

ثُمَّ أقبل على اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقالَ لَه:

ص: 147


1- اَي: هَلْ كانَ الصيد المقتول.. مِنْ فَصيلة الطيوراَم مِنْ سائرالحيواَنا ت،كالسِباع أو الزَواحِف. المُحقّق

اَتَخطب یا اَبا جعفر؟

فَقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): نَعَم.

فَقالَ لَه المامون: اخطب لِنَفْسِك- جُعِلْتُ فِداك- قَد رَضيتُكَ لِنَفْسي، واَنامُزَوِّجُكَ «أُمَّ الفَضْل» إبنتي وإِنْ رُغمَ قَومٌ لِذلك.

فَقالَ ابو جعفر (علیه السلام): «الحَمْدُ لِلّه إقراراً بِنِعْمَتِه، ولا إله إلا اللّه إخلاصاً لِوَحْدانِيَّتِه، وصلى اللّه على مُحمّدسيّد بَريَّتِه، و الأصفياء من عِترَته.

أما بَعْدَ : فَقَد كانَ مِنْ فَضْل اللّه على الاَنا م، اَن اَغناهُم بالحَلال عن الحَرام، و قال سبحاَنه: (و وأَنكِحُوا الاَيامى مِنْكُم و الصالحين من عبادِكُمْ و إمائكم، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِه، و اللّه واسِعُ عليم) (1).

ثُمَّ إِنَّ مُحمّد بن علي بن موسى.. يَخْطب أُمَّ الفَضْل بنت عبداللّه المامون، و قَد بذَلَ لَها مِن الصَداق مَهْرَ

ص: 148


1- سورة النور، الاَية 32

جدّته فاطمة بنت مُحمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و هُوَ خمسمائة درَهم جياداً (1) فَهَلْ زَوَّجْتَه بها على هذا الصَداق المذكور»؟

فقال المامون: نَعَم، قَد زَوَّجْتُك- يا اَبا جعفر- أمّ الفَضل على الصداق المذكور، فَهَلْ قَبِلْت النِكاح؟

قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قَد قبلت ذلك و رَضِيتُ بِه».

فَامَرَ المامون أنْ يَقعُدَ الناس على مراتبِهم في الخَاصَّة والعامَّة.

قال الريَّان: فلَم تلبَث أن سَمِعْنا أصواتاً تَشبه أصوات المَلاّحين في مُحاوراتهِم، فَإِذا الخَدَم يَجُرُّونَ سفينة مصنُوعة مِنْ فِضَّة، مشدودة بالحِبال من الأَبريسَم، على عَجَلة، مملوة من الغالية (2).

ص: 149


1- الجياد- جَمْع جَيّد-: ضِدّ الرديء، وهُوَ وَصفٌ للدَراهم
2- الغالية: العطر الّذي يتَکُون من خلطة أنواع من العُطور الفاخِرة

ثُمَّ أَمَرَ المَامونُ أَنْ تُخضَبَ لحاء الخَاصَّة مِنْ تِلكَ الغالِيَة (1) ثُمَّ مُدَّت إلى دار العامّة، فَتَطيَّبُوا مِنْها، ووُضِعَت المَوائد فَاكلَ الناس، وخَرجَت الجَوائز إلى كُلِّ قَوم على قَدرِهم (2).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

هُنا نَقطع شَريط الكلام، لِنَذكُر حَديثاً يَرتَبِطُ بهذا الجانب مِنْ مَراسِم زَواج الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثُمَّ نَعود لتَكمِلة الخبَر:

رُوِيَ عن إبراهِیَم بن مُحمّد بن الحارث النوفلي، قال:

حَدَّثَني اَبي- و كان خادِماً لمحمد بن علي الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)-: لَمّا زوَّج المامونُ اَبا جعفر مُحمّد بن علي بن

ص: 150


1- لحاء: جَمْع لِحْيَة
2- لَمْ يَكُن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) راضياً بتِلكَ التَشريفات- البَعيدة عن الزهد و بساطة العَيش- و لكن الأمر كانَ خارجاً عن إختياره، ولم يَكُن مسؤولاً عن ذلك الإسراف والتَبذير

موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إبنتشه، كتَبَ [الإمام الجَواد] إليه (1): «إِنَّ لِكُلِّ زَوجَة صَداقاً مِنْ مالِ زَوجها، وقَد جَعَلَ اللّه أموالنا في الآخرة، مُؤجَّلة مذخورة هُناك كما جَعَلَ أموالكُمْ مُعَجَّلة في الدُنيا، وكنَزَها هاهُنا.

و قَد أمهَرْتُ إبنتك: «الوَسائل إلى المَسائل» و هِیَ مناجاة دفَعَها إليَّ اَبي، قال: دفَعَها إليَّ اَبي: موسى، قال: دفَعَها إِليَّ اَبي: جعفر [الصادق] قال: دفَعَها إليَّ مُحمّد [الباقر] اَبي، قال: دفَعَها إليَّ علي بن الحُسَين: اَبي، قال: دفَعَها إلىّ الحُسَينُ اَبي، قال: دفَعَها إليَّ الحَسَن أخي، قال: دفَعَها إليَّ اَمير المؤمنين علي بن اَبي طالب (صَلَواتُ اللّه عليه)، قال: دفَعَها إليَّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: دفَعَها إليَّ جبرئيلُ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: يا مُحمّد، ربُّ العزّة يُقرؤك السلام ويقولُ لك: هذه مَفاتيح كُنُوزِ الدُّنيا والآخرة، فاجعَلْها وسائلَك إلى مَسائلِكَ، تَصِلُ إِلَى بُغْيَتِك (2) وتَنْجَح في طلبِتِك، فَلا تُؤثرها في حَوائج

ص: 151


1- اَي: إلى المامون
2- البُغْيَة: الهدف والمَقْصود

الدُّنيا.. فتُبْخَس بِبها الحَظَّ مِنْ آخِرتِك.

وهِیَ عَشرُ وَسائل إلى عشر مَسائل، تُطرَق بها ابواب الرغبات فتُفتح، وتُطلب بها الحاجات فتُنْجَح...» (1).

اَيها القارىء الكريم.

سَوفَ نَذكر الخَبَر مَعَ المُناجاة.. في فَصل «الإمام الجَواد و الدعاء» إن شاء اللّه. والآن نَعُود لنَذكر تكمِلَة خبر مَجلِس عَقَد الزَواج:

فَلَمّا تَفَرَّقَ الناس، وبَقِيَ مِن الخَاصَّة مَنْ بَقي قال المامون لاَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ):

إن راَيتَ- جُعِلْتُ فِداك- اَنْ تَذكُر الفِقْه الّذي فَصَّلْتَه مِنْ وُجوه قتل المُحْرِم، لنَعلَمه و نَستَفيدَه؟

فقالَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): نَعَم، إِنَّ المُحْرِمِ إذا قَتَلَ صَيداً في الحلّ.. وكان الصَيد من ذَواتِ الطَير،

ص: 152


1- كتاب «مُهَج الدَعَوات» للسيد ابن طاووس، باب ادعِيَة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ص 259- 265 من الطبعة القَديمة، و ص 309- 317 من الطبعة الحَديثة

و كانَ مِنْ كِبارها.. فَعلَيه شاة.

فَإِنْ أصابَه في الحَرَم.. فَعَلَيه الجَزاء مُضاعفاً.

و إذا قَتَلَ فَرخاً في الحِلِّ.. فَعَليه حَمَل قَد فُلِمَ مِن اللَبَن.

و إذا قَتَلَه في الحَرَمَ فَعَليه الحَمَل (1)و قيمة الفَرخ.

فَإذا كانَ مِن الوَحْش و كانَ حِمار وحش فَعَلَيه بَقَرة.

و إنْ كانَ نعامة.. فَعَلَيه بَدَنة.

و إنْ كانَ ظَبْياً.. فَعَلَيه شاة.

و إنْ كانَ قَتَلَ شيئاً من ذلك في الحَرَمَ فَعَليه الجَزاء مُضاعَفاً هَدْياً بالغَ الكعبة.

و إذا أصابَ المُحْرِم ما يجب عليه الهَدْي فيه (2) و كانَ إحرامُه بالحَج نَحَرَه (3) بمنى، وإنْ كانَ إحرامُه بالعُمْرة

ص: 153


1- الحَمَل: الخَروف إذا بَلَغَ سِتَّة أشهر
2- الضمير يَعُودُ إلى الحَرَم
3- الضمير يَعُودُ إلى الهَدْي

نَحَرَه بمكّة، وجَزاءُ الصيد على العالِم و الجاهِل سواء، و في العَمد عليه الماثَم، وهُوَ مَوضوع عَنهُفي الخَطا.

و الكفّارة على الحُرِّ في نَفْسِه، وعلى السَيّد في عَبْدِه، والصغير لا كفّارة عليه، وهِیَ على الكبير واجبَة، والنادِمِ يُسقِط نَدَمَه عَنهُعِقابَ الآخِرة، والمُصِرُّ يَجِبُ عليه العِقاب في الآخِرة.

* * * *

فَقالَ المَامون: أحسنت يا اَبا جعفر، أحسَنَ اللّه إليك، فَإِنْ راَيتَ أَنْ تَسالَ يَحيى عن مَسأَلة كما سأَلك.

فَقالَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)- لِيَحيى- أسالك؟

قال: ذلك إليك جُعلتُ فداك! فَإِنْ عَرفْتُ جَواب ما تسألني عَنهُ.. وإلا استَقَدتُه منك!!

فَقالَ ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): أخبرني عن رَجُلٍ نَظَرَ إلى امرأة في أوّلِ النّهار.. فَكانَ نَظَرهُ إليها حَراماً عليه.

فَلَمَّا ارتَفَعَ النَّهار.. حَلَّتْ لَه.

ص: 154

فَلَمّا زالت الشَّمْس [اَي: صارَ الظهر] حَرمت عليه.

فَلَمّا كانَ وقتُ العَصْر.. حَلَّتْ لَه.

فَلَمَّا غَربَتِ الشَمس.. حَرمت عليه.

فَلَمّا دَخَلَ وقت العِشاء الآخرة.. حَلَّتْ لَه.

فلما كانَ وقت انتِصاف اللَيل.. حَرُمت عليه.

فَلَمّا طَلَعَ الفَجْر.. حَلَّتْ لَه.

ما حال هذه المرأة، وبماذا حَلَّتْ لَه و حرُمت عليه؟

قالَ يحيى بن اكثَم: واللّه لا اَهتَدي إلى جَواب هذا السُؤال، و لا أَعرِف الوَجه فيه، فَإن راَيتَ أَنْ تُفيدناه!!

فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): هذه اَمَة (1) لِرَجُل من الناس، نَظَرَ إليها أجنَبيّ في أوّل النّهار فَكانَ نَظره إليها حراماً.

فَلَمّا ارتَفَعَ النَّهار إِبَتاعَها مِنْ مَولاها (2) فَحَلَّتْ لَه.

ص: 155


1- اَي: جارية
2- اَبَتاع: إشترى

فَلَمّا كانَ عِنْدَ الظهر اعتَقَها فَحَرُمَتْ عليه.

فَلَمّا كانَ وقت العَصْرِ تَزَوَّجَهَا فَحَلَّتْ لَه.

فَلمّا كانَ وقت المَغْرِب ظاهَرَ مِنْها (1) فَحَرُمَتْ عليه.

فَلَمّا كان وقت العِشاء الآخرة.. كفَّرَ عن الظِهار فَحَلَّتْ لَه.

فَلَمّا كانَ نصف الليل طلقها واحدةٌ.. فَحَرُمَتْ عليه.

فَلَمّا كانَ عِنْدَ الفَجْر راجَعَها.. فَحَلَّتْ لَه.

قال: فَأَقبَلَ المَامون على مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ بَيتِه فَقالَ لَهُم: هَلْ فِيكُم مِنْ يُجيب هذه المَسأَلة بِمِثْل هذا الجَواب، أو يعرف القول فيما تَقَدمَ مِن السُؤال؟

قالوا: لا واللّه، إنَّ اَمير المؤمنين (!!) اَعلَم و ما راى.

ص: 156


1- ظاهَرَ مِنْها: قالَ لَها: اَنتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمي

فقال: وَيَحَكُم! إِنَّ أهلَ هذا البيت خُصُّوا من الخَلْقِ بِما تَرَون من الفَضل، وإِنَّ صِغَرَ السِنَّ فيهِم لا يَمنَعهُم مِن الكمال.

أما عَلِمْتُم أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) افتَتَحَ دَعوتَه بدُعاء اَمير المؤمنين علي بن اَبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هُوَ ابنُ عشر سنين، و قَبِلَ مِنْه الإسلام و حَكمَ لَه بِه، ولَمْ يَدْعُ أَحَداً في سِنّه غَيرَه؟

و باَيعَ- النَبيّ- الحَسَن و الحُسَين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) و هما ابنا دونَ الستّ سنين، ولَمْ يُباَيع صَبيّاً غَيرهما؟

أَو لا تَعلَمون ما اختَصَّ اللّه بِهِ هؤلاء القَوم، و اَنَّهمذُريَّة بَعضُها مِنْ بَعْض، يَجْري لآخِرِهم ما يجري لأوَّلِهم؟

فَقالوا: صَدقت يا اَمير المؤمنين!!

ثُمَّ نَهَضَ القَوم.

فَلَمّا كانَ من الغَد أحضَرَ الناس، و حَضَرَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسارَ القوّاد والحُجَّاب و الخَاصَّة

ص: 157

و العُمّال (1) لتَهنئة المَامون و اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فَأخرجَت ثلاثة أطباق من الفِضَّة، فيها بَنادق مِسك و زعفران مَعْجُوناً في أَجواف تِلكَ البنادق رقاع مَكْتوبة بأموال جزيلة، وعطاَيا سنيّة، واقطاعات.

فَأَمَرَ المَامون بِنَثرِها على القَومِ مِنْ خَاصَّتِهِ، فَكانَ كُلِّ مَنْ وقَعَ في يَدِهِ بُندقة أخرج الرقعة الَّتي فيها، و التَمَسَه، فاطلق يده له.

و وُضِعَت البُدُر (2) فَنُثِرَ ما فيها على القُوّاد و غيرهم، و انصَرف الناس و هُم أغنياء بالجَوائز و العطاَيا... (3).

ص: 158


1- العُمّال: الولاة
2- البُدُر- جمع بدرة-: كيس فيه عشرة آلاف درهم
3- كتاب «الاحتَجَّاج» للشيخ الطبرسي، ج 2، ص 473 - 476، باب احتَجَّ اجات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). و في كتاب تفسير علي بن إبراهِیَم»، عن مُحمّد بن عَون النصيبي رَوَى مِثْلَ هذا الخَبَر، وكذلك في كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد، بِسَنَد آخَر.. عن الريان بن شبيب

ماذا حَدَتْ بَعْدَالزَواج؟

بَعْدَ إنتهاء مَراسم عقَد زَواج الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإبنة المَامون.. يَنْقطع بعض حَلَقات التاريخ حَول حَياة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وانقضت الاَيّام.. و رَجَعَ الإمام الجَواد إلى المَدينة المُنَوِّرة، وانقَضَتْ سَنَوات، إلى أنْ بَلَغَ الإمامُ مِن العُمر ثَمَانیَة عَشَر سَنَة، ثُمَّ جاء إلى العراق في الوقت الّذي كانَ المَامون عازماً على غزو بلاد الروم، و قَد وَصَلَ إلى مدينة تکریت، وَصَل الإمام الجَواد إلى تكريت اَيضاً.

قال الطبري في تاريخه ج 8 ص 623 في حوادث سَنَة 215:

فلمّا صارَ المأمون إلى تكريت قَدمَ عليه مُحمّد بن علي بن موسی بن جعفر بن مُحمّد بن علي بن الحُسَين بن علي ابن اَبي طالب (رَحِمَه اللّه) من المَدينة، في صَفَر لَيلَة

ص: 159

الجمعة منْ هذه السَنَة، و لَقيَه بِها، فاجازَه و اَمرَهاَن يَدخُل بإبنته أمّ الفضل، و كان زوَّجَها مِنْه، فأدخلَت عليه في دار أَحمَد بن يوسُف، الَّتي على شاطيء دجلة، فاقامَ بِها، فَلَمّا كانَ اَيامالحَجّ.. خَرَجَ بِأهله و عياله حَتَّى أتى مكّة، ثُمَّ اتى منزله بالمَدينة فاَقامَ بها.

ص: 160

أمّ الفَضل بِنْتُ المامون

أمّ الفَضْل: بنت المأمون العَبّاسي، و زوجة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). تِلكَ الزوجة المَشؤومة، تِلكَ المرأة المُعقَدة بالعُقَدة النفسيّة، لاَنها لم تُنجِب طفلاً للإمام الجَواد.

و كانَ مِنْ الطاف اللّه تعالى: أنّ هذه المَرأة ما أَنجَبَتْ مِن الإمام الجَواد، لأنّ اللّه (عَزّوجل) لَمْ يَرَ فيها المُؤهّلات لتَکُون أمّاً لإمامٍ مَعصوم، فَتَفوزَ بسَعادة الدُنيا و الآخِرة.

اَنها كاَنتَ تَتَوقَّعُ أَنْ يَبقى الإمامُ الجَواد مَعَها مَقطوع النسل، محروماً عن الذريّة، كرامةً لعِدائها و مُشاغَباتها ضِدّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)!!

إن كاَنتَ أُمُّ الفَضل لا تَفْهَم القيَم والمَعنَوّيات، ولا

ص: 161

يُهِمُّها إلّا عَواطفها فقط، فإنّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَجِب أن يُحافظ على نَسلِه، ولا يَكتَفي بالمَراة العَقيم العاقِر.

يَجِب على الإمام أنْ يَتَزوَّج إمرأة أخرى كي لا يَنقَطع حَبْلُ الإمامة، وهُوَ يَعْلَم أنّ ثَلاثَة من أئمَّة الهُدى سَيَكونونَ مِنْ نَسْلِه، آخِرُهُم: الإمام المهدي صاحب الزمان (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فإذا كاَنتَ أُمُّ الفَضل تَنْزَعِج مِنْ زَواج الإمام الجَواد بامراةٍ أُخرى.. فليَكُن، فلَيسَ هذا مُهِمّاً اَمامَ ذلك الهَدَف العَظيم الاَسمى.

لقَد تَزوَّجَ الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بامراة أُخرى، و بعبارة أُخرى: إشتَرى جاريَةً مَغربيّة إِسمُهُا سمانَة، و هِیَ السَيّدة الَّتيانجَبَتْ للإمام الجَواد أولاداً و بَنات، فثَارت في أمّ الفَضل رَذيلة الحِقَد والحَسَد.

و كاَنتَ تَشكو الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى اَبيها المأمون.. بِسَبَب زَواجه أو شرائه الجاريَة، و كانَ المأمون لا يُبالي بِكلامِها، ولا يَعْبَاً بقَولها، لأنّ قُصور المأمون كاَنتَ

ص: 162

مليئة بالجَواري، و كان يقضي أكثر أوقاته مَعَهنٌ.

و ربما كاَنتَ أُمّ الفَضْل تَنتَهِز الفُرصة، فَتَدْخُل على اَبيها في ساعةٍ تَکُون الخَمْرة قَد لَعِبَتْ بِعَقله، و استولى السِّكْر على جَميع مَشاعِرِه و مَداركه!

كاَنت َتدخُل عليه وتَبكي، وتشكو من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و تَفْتَري عليه وتقول- للمامون-: اَنّه يَشْتِمُني ويَشتِمُك ويشتم العَبّاس ووُلده، فيَسْتَولي الغَضَب (المَقرون بالسُكْر) على المأمون، فيَهْجِم على الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكنَّ اللّه تَعالى كانَ يَدفَع شَرِّ ذلك.. عن الإمام، وسَوف تَقرا- اَيُّها القارىء- تفاصِيل ذلك.. في فصل «» من هذا الكتاب.

و اخيراً.. ماتَ المَامون، و قامَ المُعتَصِم مَقامَه، وهُوَ يَعْلَم أنَّ إبنة أخيه أمّ الفَضل.. تَطِيبُ نَفْسها اَنْ تَقْتُل ابنَ رسول اللّه في رَيَعان شبابه و نَضارة عُمره، بِسَبَب الحِقَد الدَفين و انحِرافها المَوروث.

فلِماذا لا يَنْتَهِز المُعتَصِم هذه الفُرصة، ويَطلُب مِنْ أُمّ الفضل تنفيذ هذه الجَريمة الكُبرى و الفاجِعة

ص: 163

العظمى؟!

إذ لا مانعَ لَدى أمّ الفَضل أنْ تَعْتالَ زَوجَها؛ ذلك الزَوج الّذي لا مَثيلَ لَهُ على وَجه الكُرة الأرضيّة.. نَسَباً وحَسَباً، وعِلْماً و شَرَفاً وفَضْلاً، وعَظَمَة وعِبادة.

و لَيسَ تْ هِیَ أوّل امرأةٍ ارتكبَتْ هذه الجَريمَة، فَقَد سَبَقَتْها جُعدة بنتُ الأشعث.. الَّتيدَسَّت السُمّ إلى زوجها الإمام الحَسَن المُجتَبى.. سيد شباب أهل الجِنّة و ريحانة رَسولِ اللّه و سبطِه الاكبَر.

دَسّت إليه السُمّ بِطَلَب مِنْ مُعاوية.. في مُقابل مَبْلَغ من المال، ووَعَدَها أَنْ يُزوّجها مِنْ يَزيد ابن ميسون النَصرانيّة، حفيد اَبي سُفيان، قُطبِ المُشركين، وشيخ الكُفّار.

نَعَم!! هكذا تَضِيعُ المَقاَييس، وتَتَبَدِّل المفاهِیَم وتَختَلِف النَظَريّات.. عِنْدَ الشواذ مِن الناس.

ص: 164

المُعتَصِمِ العَبّاسي

لمّا ماتَ المامون العَبّاسي.. قام من بَعْدَه أخوه مُحمّد بن هارون الرشيد، المُلَقَّب بالمُعتصِم باللّه، وهُوَ الثامِن مِنْ خُلَفاء بني العَبّاس، وقَد أَخبَرَ عَنهُالإمام اَمير المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)- في اَخبار اته الغَيبيّة- بقَوله: «وثامِنُهُمْ كَلْبُهُم».

و أُمُّهُ جاريَة إِسمُهُا: ماردة.

عاش المُعْتَصِم ثَمَانیَة وأربعين سَنَة، وحَكمَ ثَمَان سنين، وبَلَغَ في الترف و البذخ و الكبرياء درجة لَمْ يَسبِقه إليها أسلافه.

فإِنَّهلمّا ماتَ ترك ثَمَانیَة آلاف دينار، و ثَمَانیَة عشر مليون درهم، و ثَمانینَألف مِن الخَيل، وثَمانینَ ألف من الجِمال

ص: 165

و البِغال، و ثَمَانیَة آلاف مملوك، و ثَمَانیَة آلاف جاريَة!!

و قَتَلَ من البَشَر عَشَرات الآلاف!! (1)

و كاَنت لَهُ رُوح سَبُعيّة، فإذا غَضبَ لا يُبالي بِما يَفْعَل، و كان فاقَداً للثقافة، جاهلاً بالأَحكام، وكانَ يَقتُل كلّ مَن يَخْشى منه الثورة عليه، حَتَّى اَنه قَتَلَ إبن أخيه: العَبّاس بن المَامون!

و قال دعبل الخزاعي في هِجاء المُعْتَصِم:

مُلوكُ بَني العَبّاس في الكتب سَبْعَةٌ *** و لَمْ يَاتِنَا مِنْ ثَامِن مِنْهُم الكُتُبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سَبْعَةٌ *** غَداةَ تَوَوا فيها، وثامِنْهُمْ كَلْبُ

و إني لأزهِیَ كلبَهُمْ عَنْك رَغْبَةٌ *** لأنّك ذو ذَنبٍ، و لَيسَ لَهُ ذَنْبُ

ص: 166


1- كتاب «تَتمّة المُنْتَهى» لِلمُحَدّث الجليل الشيخ عباس القُمّي، ص372، باب خلافة المُعْتَصِم العَبّاسي، طبع ایران، عام 1426ه_

لَقَد ضاعَ اَمرُ الناس حَيثُيَسُومُهُم *** وَصِيف و «اَشناس» و قَد عَظُمَ الخَطْبُ

و إني لأَرجو أنْ تُرى مِنْ مَغِيبِها *** مطالع شَمس قَد يغصّ بها الشرب

* * * *

اَيها القاريء الكريم

إنَّني لا أريد أنْ أُسَوِّدَ كِتاَبي- هذا- بتَراجِم هؤلاء الظَلَمة الجِنّاة المُجْرِمين، ولكنَّ الكتاب يَتَطلب مِنّي اَنْ اَذكُرَ شيئاً عن حياة هؤلاء، حَتَّى تعرف الّذین تَلَطَّخَتْ اَيديهِم بِدِماء آلِ رسولِ اللّه و عترته الطاهرة.

و حَتَّى تعرف: ان الّذین كانوا يَدَّعُون خلافةَ رَسولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) كانوا قَد تَجاوَزوا الحُدودَ في كُلِّ فِسْق وفُجُور، واَنَّهم جَرَّوْا الناسَ على المُنكرات في البِلاد الإسلاميَّة، إلى درجَة اَنَّه زالَ قُبْحُ المَعاصِي عِنْدَ بَعض الناس في تِلكَ العُصور.

فَما تَقولُ في شَعْب يَكونُ خليفَتُهم سِكّيراً، مُولَعاً

ص: 167

بالغناء، يَقضي لَيلَه ونَهارَه بَينَ المُغَنّيات والمُغَنِّين وبَينَ كُؤوس الخُمُور، و في أحضان العاهِرات؟!

يَشرَبُ الخَمْرَ ويَسْقي نُدَمَاءَه السَفَلَة المُتَمَلّقين، الّذین كانوا يَتَقَرَّبون إليه بِشَتّى أنواع الجرائم و الجِنّاَيات، فَكانَ الخَليفة يَهَبُ الآلاف وعشرات الآلاف من الأموال.. لهؤلاء الّذین باعُوا ضَمائرَهم و دينَهم وشَرفَهم للخَليفة، في مُقابل حُصُولِهِم على الأموال الَّتيجَعَلَها اللّه تعالى للفُقَراء والمساكين والأَرامل والاَيتام والعَجَزة و امثالهم!!

أو كان يَشْتَري بتِلكَ الأموال أنواع الخُمُور.. لِنَفْسِه ولِحاشيَتِه القَذِرة.

نَعَمْ، كاَنتَ أَموالُ المُسلمين تُصرف في هذه الموارد! ولَيسَ المُعْتَصِم هُوَ الّذي تَفَرَّدَ بِهذه الجرائم و المخازي، بَلْ سَبَقَه أسلافه مِنْ طواغيت بني أمية، و حُكّام بني العَبّاس.

وماتَ المامون و جَلَسَ المُعْتَصِم مكاَنه، و جُلَساؤه و نُدَماؤه هُمْ حاشيةُ المامون، و هُمُ الحاسِدون والحاقَدون الّذين

ص: 168

كانوا يَحْسُدون الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عَهد المأمون.

وتَجِدُهُمْ هُنا يَتَقَرَّبون إلى المُعْتَصِم بكلّ ما يُعجِبُه، ولا يُهِمُّهمْ سَخَطُ اللّه تَعالى وغَضَبُه.

فَلا عَجَبَ إذا قاموا بالوشاَية ضد الإمام الجَواد، و اَثَارَوا الحقَد و العداء في قلب المُعتصم الّذي تَلَطَّخَتْ يَدُ اَبيه هارون الرشيد.. بدَم الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و تَلطَّخَتْ يَدُ أخيه المامون بدم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فلماذا لا يَتَّبِع المُعتَصِم خُطّة أسلافه، ويُلَطَّخ يَدَه بدم الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟!

الَيسَ المُعتَصِم هُوَ الّذي قَتَلَ عَشرات الآلاف مِنَ البَشَر؟!

فلماذا يَخاف مِن إغتِيال الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟!

أَجَل!

سَنَقْرا- في أواخر هذا الكتاب- اَخبارو تَفاصِيل جَريمة قَتل الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 169

القاضي ابن اَبي دؤاد

إِسمُهُ: أَحمَد، ويُعَبر عَنهُبابن اَبي دؤاد، و دؤاد على وَزْن غُراب، أو على وزن فؤاد.

كانَ هذا القاضي مِن فُقَهاء البِلاط العَبّاسي، ومِمّنْ باعَ دينَه بدُنياه، وسَلَّمَ نَفْسَه لِتِلكَ السُلطة الغاشِمة ووَقَعَ على وَرقة بَيضاء، اَي: وَرقة الطاعة العَمياء للسُلطة.. وبلا مُناقشة!

و هذا الخَبيث هُوَ الّذي سَعى في قتل الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِسَبَب تافه، وهُوَ جَهْلُ فُقَهاء البِلاط العَبّاسي.. بمَسأَلة فقهِیَّة، أجاب عَنهُا الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 170

وتَجِد التَفصيل.. في حَديثِنا عن سَبَب قَتْل الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 171

معجزات و کرامات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

لقَد ذكر العُلَماء.. تعاريف مُتَعَدِّدة.. لكلمة «المُعْجِزة»، ومنها: اَنَّها الأمور الخارقَة للعادة.. والَّتيتَصدر من النَبيّ أو الإمام.. في مقام التحَدّي. أما الكرامة، فَهِیَ الأمور الَّتييُمْكِن أَنْ تَصْدِر مِنْ غَير النَبيّ أو الإمام.. اَيضاً، كالأَفراد الّذین قَطعوا مَراحِل كثيرة.. مِنْ تَهذيب النَفس.. و الرياضة الرُوحيّة، فَوَصَلوا إلى مَراتِب عاليَة.. من قوَّة النَّفْس.. والقَدرة... على التَصَرُّف في الأشياء.

والآن.. تَذكُر بَعْض ما وَصَلَنا من الاَخبار.. عن معجزات وكرامات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 172

مُعجزة الإمام الجَواد عليه السلام عِنْدَ شَجَرة النَبُق

روى الشيخ المفيد.. في كتاب «الإرشاد» : لَمّا توجه أبو جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) من بغداد.. منصرفاً مِنْ عِنْد المامون- و مَعَه أُمّ الفضل قاصداً بها المَدينة- صارَ إلى شارع باب الكوفة، و مَعَه الناس يُشيِّعونَه، فانتهى إلى دار المُسيِّب عِنْدَ مَغيب الشَمس، نَزل و دَخَلَ المَسجد، و كان في صَحْنِه نَبُقة (1) لَمْ تَحْمِل بَعْدَ (2).

فَدَعا [الإمامُ] بكُوز فيه ماء.. فَتَوضا في أَصْلِ النبقة (3)، فصلّى بالناس صَلاةِ المَغْرِب، فَقَرافي [الركعة] الأوّلى مِنْها: الحَمْد و «إِذا جاءَ نَصْرُ اللّه» و قرأ في [الركعة] الثانية: الحمد و «قُلْ هُوَ اللّه أَحَد»

ص: 173


1- النَّبقِ ثُمَّ رة شَجَر السدر، وهِیَ فاكهة تشبه العنّاب.. في شکُلّه ا، وتُسَمّى اَيضاً (الكُنار»
2- لَمْ تَحْمِل بَعْدَ : لَمْ تُنْمِرٌ بَعْدَ
3- اَي: تَوضّا عِنْدَ ساق الشجرة

وقَنَتَ قَبْلَ ركوعه فيها، وصلّى [الركعة] الثالثة وتَشَهَّدَ وسَلَّم، ثُمَّ جَلَسَ هُنَيْنَة يَذكُرُ اللّه تَعالى، وقامَ مِنْ غَير تعقیب (1) فَصَلَّى النَوافِلَ أربع ركعات، وعَقَبَ بَعْدَ ها، وسَجَدَ سجدتَي الشكر، ثُمَّ خَرَج.

فلمّا انتهى إلى النَبُقة.. رآها الناس و قَد حَمَلَتْ حَمْلاً حَسَناً، فَتَعَجَّبوا مِنْ ذلك!! و أكلوا مِنها، فَوَجَدوه نَبْقاً حُلواً لا عُجمَ لَه (2)، و ودّعوه، و مَضى (عَلَيهِ السَّلَامُ) من وقتِه إلى المَدينة.

قال الشيخ المفيد: و قَد اكلتُ مِنْ ثَمشرِها.. وكانَ لا عُجمَ لَه! (3).

* * * *

و رُوِيَ عن اَبي هاشِم الجعفري، قال:

ص: 174


1- التعقيب: ما يُقرا عقيب الصلاة.. من الأدعِيَة والقرآن. المُحقّق
2- العُجم: النواة
3- كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد، ج، ج 2، ص 288، باب «اَخبارو مناقب الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)»

صَلَّيتُ مَعَ اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مَسجِد المُسيّب، وصَلّى بنا في مَوضع القِبلَة سَواء.

و ذكر: ان السدرة [اَي: شَجَرة النبق] الَّتيكاَنتَ في المَسجِد.. كاَنتَ يابسة، لَيسَ عليها ورق، فَدَعا الإمام الجَواد] بِماءٍ فَتَهِیَاً [اَي: تَوَضَا] تَحْتَ السدرة، فَعادَت السِدرة و أَورقَت و حَمَلَتْ مِنْ عامِها (1).

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُخلص رَجُلاً من السجن

حِينَما دَسَّ المَامون السُمّإلى الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصارَ الإمام يُعاني مِنْ ذلك السُمّ، كانَ أبو الصَلت عِنْدَ الإمام الرضا.. فاَمرَه الإمامُ أَنْ يُغَلّق جميع الأبواب، اَي: باب الدار.. و الباب الداخلي المُؤدّي إلى قَصر المَامون.. وبابَ الحُجرة التى كان الإمام الرضا فيها.. يُعاني مِنْ مُضاعَفات ذلك السُمّالقَتّال.

ص: 175


1- كتاب «الكافي» ج 1، ص 497، كتاب الحُجَّة، باب «مَولد اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 10

فاَعْلَقَ أبو الصَلت.. الأَبوابَ کُلّه ا.

يقول:... و مكثتُ واقفاً في صَحْنِ الدار مَهْمُوماً مَحْزُوناً، فَبَينَما اَناكذلك.. إذ دَخَلَ عَلَيَّ شابٌ حَسَنُ الوجه، قطَطُ الشَعر (1)، أَشبَه الناس بالرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَبادرتُ إليه فَقُلتُ لَه: مِن اَينَ دَخَلْتَ و الباب مُغْلَق؟

فقال: الّذي جاءَ بي مِن المدينة في هذا الوقت... هُوَ الّذي أدخلني الدار و البابُ مُغلَق!!

فَقُلتُ لَه: مَنْ اَنتَ؟

فَقالَ لي: اَناحُجَّةَ اللّه عليك يا اَبا الصَّلت، اَنامُحمّد بن علي.

ثُمَّ مَضى نحو ابيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَدَخَل، و أَمَرَني بالدُخول مَعَه، فَلَمّا نَظَرَ إليه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وَثَبَ إليه، فَعانَقَه، وضَمَّه إلى صَدْرِهِ، وقَبَّلَ ما بَينَ عَينَيه...

يَقولُ أَبو الصَلْت:

ص: 176


1- قَطَط الشَعر: مُجَعّد الشَعر

فَاَمَرَ المَامون بِحَبْسي، فَحُبِسْتُ سَنَةٍ، فَضاقَ عَلَيَّ الحَبْس، وسَهَرْتُ اللَيلَةودَعَوتُ اللّه (تبارك وتعالى) بدعاء ذكرت فيه مُحمّداً وآل مُحمّد(صَلَواتُ اللّه عَلَيهِم) وسألتُ اللّه بِحَقِّهِم أَنْ يُفَرِّج عَنِّي.

فَما استَتَمَّ دُعائي حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ أبو جعفر مُحمّدابن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قال: يا اَبا الصَلْت ضاقَ صَدرُك؟

فَقُلتُ: اَي واللّه.

قال: قم. فاَخرَجَني من الدار [الّذي كُنتُ مَسْجوناً فيها]، والحَرسَة والغِلْمَان يَرَونَني.. فَلَمْ يَستَطيعوا أَنْ يُكلِّموني.

و خَرَجْتُ من باب الدار، ثُمَّ قال لي [الإمامُ الجَواد]: إمض في وَدائع اللّه، فإنَّك لن تَصِلَ إليه [اَي: إلى المأمون] ولا يصلُ إليك اَبَداً.

قال أبو الصَلت: فَلَم اَلقَ المامون إلى هذا الوقت (1).

ص: 177


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)» ج 2، ص 271، باب 63، حدیث 1

الإمام الجَواد يَتَخَلَّص من مُؤامرة ضدَّه

رُوِيَ عن مُحمّد بن ارومة، اَنّه قال:

إنَّ المُعتَصِمِ دَعَا جَمَاعَةٌ مِنْ وزرائه، فَقال: إشهَدوا على مُحمّد[الجَواد] بن علي بن موسى.. زُوراً، واكتُبُوا اَنّه أَرادَ أَنْ يَخْرُج (1).

ثُمَّ دَعاه (2) فَقالَ [المُعْتَصِم]: إِنَّكَ أَردت أَنْ تَخْرُجَ عليَّ.

فقال: واللّه ما فَعَلْتُ شيئاً من ذلك.

قالَ [المُعتَصِم]: إِنَّ فُلاناو فُلاناشَهِدوا عليك!

فأحضروا.. فَقالوا: نَعَمْ، هذه الكُتُبِ اَخَذْناها مِن بَعض غلمانك!

قال [الراوي]: وكانَ [المُعتصم] جالساً في بهو (3)

ص: 178


1- اَي: يَقوم بالثورة ضِدّ المُعْتَصِم
2- اَي: دَعا المُعتَصِمُ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)
3- البهو: البيت المُقَدم أمام الحُجُرات، ويُقالُ لَه- في زَمانِنا-: صالة، أو: هال. ولعَلَّه المكان المُخصّص لإستقبال الضيوف

فَرفَعَ أبو جعفر [اَي: الإمام الجَواد] يَدَه و قال:

«اللّهمَّ إنْ كانوا كذبوا عَلَيَّ فَخُذْهُمْ».

قال: فنَظَرْنَا إلى ذلك البهو كَيفَ يُرجف، ويَذهَب ويجيء، كُلَّما قامَ واحِدٌ وقَعَ!!

فقالَ المُعتَصِم: يابن رسول اللّه، إني تائبٌ ممَّا قُلتُ، فادعُ رَبَّكَ أَنْ يُسَكِّنَه.

فقال الإمام: (اللّهمَّ سَكْنُه، إِنَّكَ تَعْلَم (1) اَنهمْ أعداؤك و أعدائي»، فَسَكن (2).

إِنَّ اللّه يَرزقك غُلاماً

رُوِيَ عن شاذويه بن الحَسَن بن داود القُمّي، قال: دخلت على اَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) و باَهلي حَبْل (3) فَقُلتُ لَه: جُعِلْتُ فِداك أدعُ اللّه أَنْ يَرزُقني ولداً ذكراً.

ص: 179


1- و في نُسْخَةِ: إِنْ كُنْتَ تَعْلَم...
2- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 45، باب معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حدیث 18
3- اَي: و كاَنتَ زوجتي حاملاً

فاَطرَقَ مَلِيّاً (1) ثُمَّ رَفَع راسَه فَقال: «إذهَب، فَإِنَّ اللّه يَرزقك غُلاماً ذكراً»- ثلاث مرّات..

فَقَدمْتُ مكّة، فَصِرْتُ إلى المَسجِد، فآتى مُحمّدابن الحَسَن بن صباح.. برسالة من جماعة من أصحابِنا، مِنْهُم: صَفوان بن يحيى و مُحمّد بن سنان و ابن اَبي عُمير و غيرهم.

فاتيتُهُمْ فَسَالوني، فَخَبَّرتُهُم بِما قالَ (عليه السلام).

فقالوالي: فَهِمْت عَنهُذكر أو ذكي؟

فَقُلتُ: ذكراً قَد فَهِمْتُ.

قالَ ابنُ سَنان: أما اَنتَ سَتُرزَق ولداً ذكراً، أما اَنّه يَمُوت على المكان، أو يكونُ مَيّتاً (2).

فَقالَ أصحابنا لِمُحمد بن سنان-: اَسات، قَد عَلِمْنَا الّذي عَلِمْتَ.

فاَتى غُلام في المَسجِد، فَقالَ [لِشاذويه]: اَدرِك،

ص: 180


1- مَلِيّاً: طَويلاً
2- اَي: يَموتُ بَعْدَولادته قوراً، أو يُولد و هُوَ مَيّت. المُحقّق

فقَد ماتَت أهلُك، فذهَبْتُ مُسْرِعاً، فَوَجَدتُها على شُرف الموت، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثْ اَنْ ولَدَتْ غُلاماً ذكراً مَيّتاً (1).

* * * *

قالَ الشيحُ المَجلِسي: قوله «ذكر أو ذكي» : لَعَلَّ المَعْنى اَنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمّا قال «غُلاماً» لَمْ يَحْتَجْ إلى الوصف بالذكورة، فقالوا: لعَلَّه قال ذكيّاً، مِن التَّذْكِيَة بِمَعْنى الذبح.. كناَية عن المَوت (2).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

إنَّ الرَجُل سَالَ من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَن يَدعو اللّهَ له بأن يرزُقه ولداً، واستَجابَ اللّه دعاءَ الإمام، فَكانَ الحَمْل ولداً و لكنّه ما عاش، فلو كانَ الرَّجُل يُسأل أنْ يَرزُقه اللّه ولداً ويعيش.. وكان الإمام يدعو بذلك.. لما مات الولد.

ص: 181


1- كتاب «رجال الكشّي» ص 581، الجزء السادس، حدیث 1090
2- کتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 66، باب 26 «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»

شفاء الأَعمى.. بِبَركة الإمام الجَواد

رُوِيَ عن مُحمّد بن میمون، اَنه كانَ مَعَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمكة.. قبل خروجه إلى خراسان.

قال: قُلتُ لَه: إنّي أُريد أَن أَتَقَدم إلى المَدينة، فاكتُب مَعي كتاَبا إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فتَبَسَّم وكتَب، و صِرتُ إلى المَدينة، و قَد كانَ ذهَبَ بَصَري.

فاَخرَجَ الخادِمُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلينا، فَحَمَلَه في المهد (1) فناولته الكتاب، فقال- لموفّق الخادِم-: فُضَّه وانشُره.

فَفَضَّه، ونَشَرَه بَينَ يَدَيه، فَنَظَرَ فيه، ثُمَّ قالَ لي: يا مُحمّدما حالُ بَصَرِك؟

قُلتُ: يابن رسول اللّه، إعتَلَتْ عَيناَي، فذهَبَ بَصَري كما تَرى.

ص: 182


1- المَهْد: مَوضع يُهِیَا للصَبي، يَشبَه الصندوق ولكنَّه بدون غِطاء، يَنام فيه الصَبي، وقَد يَكون المَهْدِ بِكَيفَيّةٍ يُحمّل فيه الصَبي. أقول: كانَ عُمر الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)- يَومئذٍ- بَينَ الرابعة والخامِسة

قال: فَمَدَّ يَدَه، فَمَسَحَ بِها على عَيني، فَعادَ إليَّ بَصَري كاصَحَّ ما كان!! فقَبَّلْتُ يَدَهُ ورِجْلَه، وانصَرفتُ مِنْ عِنْدِه و اَنابصير (1).

مِنْ أَعجَب مُعجزات الإمام الجَواد

رَوَى مُحمّد بن إبراهِیَم الجعفري، عن حَكيمة بنت الإمام الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قالت: لَمّا تُوفّي أخي محمَّد بن الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) صِرْتُ إلى امرأته أمّ الفَضْل، بسَبَبِ احتَجَّتُ إليها فيه.

قالت: فَبَينَما نَحْنُ نَتَذاكر فَضْلَ مُحمّد(عَلَيهِ السَّلَامُ) و كرمه، و ما أعطاه اللّه تعالى من العلم والحِكمة، إذ قالت امرأتُه أمُّ الفضل: يا حَكيمة، أخبرك عن اَبي جعفر ابن الرضا بأعجوبة لَمْ يَسمَعْ أَحدٌ بِمِثْلِها.

قُلتُ: و ما ذاك؟

ص: 183


1- کتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 46، باب 26 «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ) »، حديث 20

قالت: اَنه كان ربما آغارني (1) مَرَّة بجارية و مَرّة بِتَزويج، فكُنْتُ أَشكُوه إلى المامون، فيَقول: يا بُنَيّة إحتَمِلي.. فإِنَّهابن رسولِ اللّه.

فبَينَما اَناذات لَيلَةجالِسة إذ اَتَتَ امرأة، و كاَنّها

قَضيبُ بان، أو غُصْن خَيزران، فقُلتُ: مَنْ اَنتَ؟ (2).

قالَت: اَنازَوجة لاَبي جعفر.

قُلتُ: مَنْ أبو جعفر؟

قالت: مُحمّدابن الرضا، و اَناامرأة منْ وُلد عَمّار ابن ياسر.

فَدَخَلَ عليَّ مِن الغيرة ما لَمْ أمَلِك نَفْسي، فنَهَضْتُ

ص: 184


1- اَغارني: اَثَارَ غيرتي بِسَبَب زواجه عَلَيَّ
2- المقصود اَنها كاَنتَ طويلة القامة.. رَشيقة القَد. القَضيب: العُود. البان: شَجَر سبط القوام، ليّن ووَرقه كوَرق الصَفصاف، ويُشَبَّه بِه الإنسان.. لِطول قامتِه ولطافة بَدنه. و هكذا الخَيزران- بضَمّ الزاَي- فَهُوَ شَجَر هِندي و له عُروق مُمتَدّة في الأَرض، يُضرَب به المَثَل في اللِين واللطافة

مِنْ ساعَتي وصِرتُ إلى المامون، وقَد كانَ ثَمِلاً من الشراب (1) و قَد مَضى من اللَيل ساعات، فأَخبَرتُه بِحالي، وقُلتُ لَه: اَنه يَسْتِمُني ويَشتِمُك و يَشْتِمُ العَبّاس و وُلده، وقُلتُ ما لَمْ يَكُن قاله [الإمام].

فغاظه ذلك مِنّي جدّاً، ولَمْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ مِن السُكر، وقامَ مُسْرِعاً وضَرَبَ بِيَدِهِ إِلى سَيفِهِ و حَلَفَ اَنه يُقَطِّعُه بهذا السيف.. ما بَقِيَ في يَدِه، وصار إليه.

قالت [أمّ الفضل]: فنَدِمتُ عِنْدَ ذلك، وقُلتُ- في نَفْسي-: ما صَنَعْتُ؟! هلَكْتُ و أهلكْتُ!

قالت: فعَدَوتُ خَلْفَه لأنظر ما يَصْنَع، فَدَخَلَ إليه وهُوَ نائم، فوَضَعَ السَيف فقَطَعَهُ قِطعةً قطعة، ثُمَّ وَضَعَ سَيفَه على حَلْقِه فذبَحَه، و اَناأنظُر إليه و ياسِر الخادِم، وانصَرفَ [المامون] و هُوَ يَزبُد مِثْلَ الجَمَل (2).

ص: 185


1- الثَمِل: السكران
2- الزَبَد: الرغوة. زَبَد الجَمَل: الرغوة تَعلو مَشافره إذا هاج. فَقَولُها: «يَزبُد مِثْلَ الجَمَل» إشارة إلى غَضَبِه و ظُهور الرغوة على جانِبَيّ الفم

قالت: فلَمّا راَيتُ ذلك.. هَربْتُ على وَجْهِیَ حَتَّى رجَعْتُ إلى مَنْزل اَبي، فبِثُّ بلَيلَةلَمْ اَنَم فيها، إلى أنْ أَصبَحْتُ، فلما أصبَحْتُ دَخَلْتُ إليه وهُوَ يُصَلّي!! و قَد اَفاقَ من السُكر، فقُلتُ له: يا اَمير المُؤمنين! هَلْ تَعْلَم ما صَنَعْتَ اللَيلَة ؟

قال: لا واللّهِ، فَما الّذي صَنَعْتُ.. وَيلَكِ؟

قُلتُ: فإنَّك صِرتَ إلى ابن الرضا و هُوَ نائم، فقَطَّعْتَه إِرباً إرباً (1) و ذبَحْتَه بِسَيْفِك وخَرَجْتَ مِنْ عنده.

قال: يا وَيلَكِ ما تقولين؟!

قُلتُ: أَقولُ ما فَعلتَ.

فصاحَ [المامون]: يا ياسِر ما تَقول هذه المَلعونة... وَيلَكِ؟!

قال: صدقت في كُلِّ ما قالت.

قال: أَنّالله وأنّاإليه راجعُون، هَلَكْنَا وافتَضَحْنا

ص: 186


1- الإرب: القطعة

وَيلَكِ- يا ياسِر- بادِر إليه وأتِني بِخَبَرِه.

فَمَضى إليه، ثُمَّ عادَ مُسْرِعاً و قال: يا اَمير المُؤمنين! البُشرى.

قال: و ما وَرَاءَك؟

قال [ياسِر]: دَخَلْتُ عليه (1) فإذا هُوَ قاعِد يَستاك (2) و عليه قميص و دُواج (3) فَبَقيتُ مُتَحَيِّراً في اَمرَه، ثُمَّ و اردْتُ أَنْ أَنظر إلى بَدنِه، هَلْ فيه شيء من الاَثر، فقُلتُ لَه: أُحبُّ أَنْ تَهَب لى هذا القميص الّذي عليك لا تبرَّكَ به.

فنَظَرَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليَّ وتَبَسَّم، كاَنه عَلِمَ ما اَردتُ بذلك، فقال: اكسُوك كِسوة فاخِرة.

فقُلتُ: لَسْتُ أُريد غَير هذا القميص الّذي عليك فخَلَعَه و كشف لي عن بَدنِه.. فواللّه ما راَيتُ اثراً.

ص: 187


1- اَي: على الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- يَسْتاكَ: يُنَظّف أسناَنه بالمسواك
3- الدواج: ثوب كالمعطف.. يُلبس للوقاَية من البرد

فَخَرَّ المامون ساجداً، ووَهَبَ لِياسِر الف دينار وقال: الحَمْدُ لِلّه الّذي لَمْ يَبْتَلِني بِدَمِه.

ثُمَّ قال: يا ياسِر، أما مَجيء هذه المَلعونة إلَيَّ وبُكاؤها بَينَ يَدَيَّ فاذكُرُه، وأمّا مصيري إليه فلَسْتُ اذكره.

فقال ياسر: واللّه ما زِلتَ تَضربه بالسيف و اَناو هذه نَنْظُر إليك وإليه، فقَطَعْتَه قِطعة قطعة، ثُمَّ وَضَعْت سَيفَك على حَلْقِه فذبَحْتَه، واَنتَ تَزبُدُ كما يَزبُدُ البَعير.

فقال [المامون]: الحَمْدُ لله.

[قالت أمّ الفَضْل]: ثُمَّ قال لي: واللّه لَئِنْ عُدْتِ بَعْدَ ها إِلى شَكْواكِ مِمَّا يَجْرِي بَينَكُما لاقتُلَنَّك.

ثُمَّ قالَ لياسر: إِحمل إليه عشرة آلاف دينار، وسَلْهُ الركوبَ إليَّ، و ابعَث إلى اله_اشميّين و الأشراف و القُوّاد (1) لِيَركَبُوا مَعَه ويَأتوا إليَّ، ويَبدَوا بالدُخول إليه والتَسليم عليه.

ص: 188


1- القُوّاد: جَمْع قائد

ففَعَلَ ياسر ذلك، وصارَ الجَميع بَينَ يَدَيه [عليه السلام] و اَذِنَ للجميع، فقال [عليه السلام]: يا ياسر! هذا كان العَهْدُ بَينَي وَبَينَه [حَتَّى يَهجم عَلَيَّ بالسيف؟! أما عَلِمَ أن لي ناصراً و حاجزاً يحجز بَينَي و بَينَه؟!] (1).

قال: يابن رسول اللّه، لَيسَ هذا وقتُ العِتاب، فوَحَقِّ مُحمّدٍ و علي.. ما كانَ يَعقِل مِنْ اَمرَهشيئاً (2).

ثُمَّ اَذِنَ [عليه السلام] للأَشراف کُلّه م بالدُخول، إلّا عبداللّه و حمزة ابني الحَسَن، لاَنَّهما كاَناوقَعا فيه عِنْدَ المَامون (3) و سَعَيا بِه مَرَّة بَعْدَأخرى، ثُمَّ قامَ [عليه السلام] فركبَ مَعَ الجَماعة وصارَ إلى المامون، فتلقَّاه

ص: 189


1- هذه الزيادة وردت في رواَية أخرى مذكورة في كتاب «مُهَج الدَعَوات»، للسيد ابن طاووس
2- و في الرواَية الأخرى: أنَّ ياسِر قال للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا سَيَّدي يابنَ رسول اللّه، دَعْ عَنْك هذا العتاب واصفَح، و اللّه وحَقِّ جَدّك رسول اللّه، ما كانَ يَيُعقل شيئاً من اَمرَه، و ما عَلِمَ اَين هُوَ مِنْ أرض اللّه
3- وقع فيه: إغتابه و ذكره بسوء

و قَبَّلَ ما بَينَ عَينَيه، و أقعده على المَقْعَد في الصَدْر (1)، و أَمَرَ أَنْ يَجْلِس الناس ناحية، و خَلابِه يَعتَذِر إليه.

فقال أبو جعفر [علیه السلام]: لَكَ عِنْدي نَصيحة فاسمَعَها مِنّي.

قال: هاتها.

قال [عليه السلام): أشيرُ عليك بِتَرك الشَراب المُسكر.

قال: فِداك ابنُ عَمِّكَ، قَد قَبِلْتُ نَصيحتَك (2).

****

اَيُّها القارىء الكريم

لَقَد قرأتَ أن المامون العَبّاسي وَضَعَ السَيف في الإمام الجَواد، فقطَّعه قطعةً قطعة، ثُمَّ وَضَعَ سَيف على حَلْق الإمام فذبحه.

ص: 190


1- اَي: في صَدْر المجلس: وهُوَ المكان المُخصّص الجُلوس الشخصيّات البارزة.المُحقّق
2- كتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 69- 71، باب «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 47، نقلاً عن كتاب «الخرائج»

ويُحتمل في تحليل هذه الحكاَية- بناء على صحَّتِه_ا- إحتمالان:

الأوّل: إنّ المامون العَبّاسي قطَّعَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إربا إرباً حقيقة، اَي: قَد تَحقَّق هذا العَمَل في الواقِع، ووقعت هذه الجريمة النكراء من المامون العَبّاسي، و لكن اللّه تعالى- بِقَدرَتِه- أفاض على الإمام الجَواد.. العافية بإبراء جَميع جُراحاته، كما حَدَثَ في قصّة النَبيّ إبراهِیَم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال تَعالى:

(وإذ قال إبراهِیَمُ: رَبِّ أرني كَيفَ تُحيي الموتى، قال: اَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال: بَلَى، ولكِنْ لِيَطمَئِنَّ قَلبي قال: فَخُدْ أَربَعَةً مِن الطيرِ فَصُرْهُنَّ إِليك، ثُمَّ اجْعَلْ على كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعياً، واعلَمْ اَنَّ اللّه عَزيزٌ حَكيم) (1).

فَقَد جاءَ في التفسير: ان اللّه تعالى أمَرَ إبراهِیَم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنْ يَأخُذ اربعة من الطير، مُختَلِفة الأجناس، وهِیَ: الطاووس و الديك، و الحَمام

ص: 191


1- سورة البَقَرة، الاَية 260

و الغُراب، وأمَرَ أَنْ يُقَطَّعَها، ويُخلط رِيشَها بِدَمِها ويُفَرِّق أجزاءها على عشرة جبال.

ففَعَلَ النَبيّ إبراهِیَم ذلك، ثُمَّ دَعاهُنَّ و قال:

«أَجِبْنَ بإذن اللّه».

فكان إبراهِیَم يَنْظُرُ إلى الريش يتطاَير بَعضُها إلى بَعض، وصَارَت العظام و اللُحوم تَجتَمع مِنْ هُنا وهُناك، ويَأتلِف لَحْمُ كُلّ واحدٍ من الطُيور.. وعَظمُها وتَنْضَمُّ إلى راسِه، ثُمَّ اَتَيْنَه مَشْياً على أَرْجُلِهِنَّ!!

الإحتمال الثاني: إنّ عمليّة ضَرْب المامون جَسَدَ الإمام الجَواد بالسيف، وتقطيعه إربا إرباً.. لَمْ تَحدُث و لَمْ تَقَع في الواقِع، بَلْ إِنَّ اللّه تَعالى القى شَبَهَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) على شيء من الأشياء المَوجودة هُناك، فَظَنّ المامون أن ذلك الشيء هُوَ الإمام الجَواد، فَقَطَعَه إرباً إرباً، كما حَدَث هذا المعنى في قضيّة عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقَد قالَ اللّه تَعالى: ﴿ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وإن الّذین اختَلَفُوا فيه لفي شَكٍّ مِنْهُ، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتباعَ الظَّنِّ، وما قَتَلُوهُ

ص: 192

يَقيناً ﴾ (1) فَقَد القى اللّه تعالى شَبَه عيسى بن مريم.. على يهوذا اسخريوطي، أو طيطانوس أو إنسان آخر على اختلافِ بَينَ المُفَسِّرين في إسم الرجُل الّذي ارَسلَه رَأس اليَهود.. للبحث عن عيسى بن مريم- فَرفَعَ اللّه عيسى إلى السُمّاء، و القى اللّه شَبَه وَجْه عيسى او شَبَهَ جَسَد عيسى على طيطانوس، فَصَلَبُوه َو هُوَ يقول: لَسْتُ بِصاحِبِكُم (2) اَنا الّذي دللْتُكُم عليه، ولكِنَّهُم لَمْ يُصَدِّقوا كلامَه، لاَنَّهم رأَوه شَبيهَ عيسى، فَصَلَبُوه.

فإنّ اللّه الّذي خَلَقَ عيسى بن مريم.. على صُورَةٍ مِن الصُوَر.. قادر على أنْ يَجْعَلَ مَلاَيين البشر على صُورة عيسى أو غَير عيسى.. ممّا يَشاء، ولا يُعجِزُه عن ذلك شيء.

* * * *

و لأَجل تَقريب المَعنى إلى الأذهَان.. نَقول:

ص: 193


1- سورة النساء، الاَية 157
2- اَي: لست اَناعيسى الّذي تُريدونَ قتلَه. المُحقّق

مِن المُمكِن أن يَكون إلقاء الشَبَه عن طريق التَصَرُّف في الشيء المَرئي، كما حَدَث هذا المَعْنى في ذلك الرّجُل الّذي القى اللّهُ عليه شبه عيسى بن مَريم.

وقَد يكون عن طريق التَصَرُّف في عَين الرائي، كما حَدَث ذلك في قِصَّة سَحَرة فِرْعَون الّذین (سَحَرُوا أَعْيُنَ الناس) (1) ( فَإذا حبالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إليهِ مِنْ سِحْرِهِمْ اَنها تَسْعى) (2) فَقَد جاءَ في التفسير: ( يُخَيَّلُ إليه) اَي: يُخَيَّلُ إلى موسى.. أو إلى فرعون، وإنَّما قال: «يُخَيَّل» لاَنّها لَمْ تَكُنْ تَسْعَى حَقيقةً، وإنَّما تَحَرَّكت لاَنَّهم جَعَلُوا الزئبَق مَعَ تِلكَ الحِبال والعِصِيّ، فَلَمّا حَمِيَت الشَمس.. صارَ الزئبَق- بطبيعَتِهِ- يَطلب الصُعود، فحرَّكت الشَمسُ ذلك فَظَنّوا أنَّ الحِبال تسعى، اَي: تسير و تَعْدُو، مِثلَ سَير الحَيّات.

فإذا كان الإنسان المَخلوق.. قادراً على التَصَرُّف في أعيُنِ الناس، بحَيثُيَرَونَ الأَشياء على خِلاف حَقيقَتِها،

ص: 194


1- سورة الأعراف، الاَية 116
2- سورة طه، الاَية 66

فإنّ الله تعالى الخالِق.. أَقوى و أَقَدر على التَصَرُّف في أعْيُنِ الناس، و لكن لا عن طريق السِحر و اَمثاله، و إنَّما بإرادتِه الَّتيتَخْضَع لها الأشياء، قالَ سُبحاَنه: (إنما اَمرَهإذا أراد شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ) (1).

فَلا يَبَعْدَاَنْ يَكون الّذي حَصَلَ لِلمَامون- في تِلكَ اللَيلَةالَّتيهَجَمَ فيها على الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و ضَربَه بِسَيفه- كانَ تَصَرُّفاً من اللّه تعالى في عينيه واعين مَنْ كانَ مَعَه، فَكانَ المامون يضرب بالسيف شيئاً آخر، و يُخَيَّل إليه اَنه يضرب الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و هذه الوجوه المُحتمَلة.. کُلّه ا تحليلات مادّية لِتَقْريب المَعْنى إلى الذهن، و أمّا المُعجزة.. فَهِیَ فوق المقاَييس الطَبيعيّة والمادّية، ولا يُمكن تحليلُها على ضَوء المادّة أبداً. ولا شك أن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ردّ كيد المأمون عن طريق المُعجزة الَّتيمَكَنَهُ اللّه منها، يَستَخدِمُها مَتى شاء ذلك.

ص: 195


1- سورة يس، الاَية 82

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَرُدُّ لِلرجل عِمامَتَه

رُوِيَ عن القاسم بن المُحسِن، قال: كنتُ فيما بَينَ مكّة والمَدينة، فَمَرَّ أعراَبيٌ ضَعيف الحال، فَسَأَلني شيئاً فَرَحِمْتُه، فاَخرَجْتُ لَهُ رغيفاً فَناولتُه اَيّاه، فلَمّا مَضى عنِّي.. هَبَّتْ رِيحَ زَوَبَعَة (1) فَذَهَبَتْ بِعِمامَتي من راسي، فَلَم اَره_ا كيف ذَهَبَتْ، ولا اَين مَرَّت.

فلَمّا دَخَلْتُ المَدينة.. صِرْتُ إلى اَبي جعفر [الجَواد] ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لي: يا قاسِم، ذَهَبت عِمامَتَك في الطريق؟

قُلتُ: نَعَم.

فقال: يا غُلام، أخرج إليه عِمامَتَه، فأخرج إليَّ عِمامَتي بعَينِها!

قُلتُ: يابن رسول اللّه، كَيفَ صَارَت إليك؟

ص: 196


1- الزَوبعة: الريح الشَديدة، ويُعبَّر عَنهُا ب_ «العاصفة» اَيضاً

قال: تَصَدَّقت على أعراَبي، فشكرهُ اللّه لَك، فَرَدَّ إليك عِمامَتَك، وإنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنين (1).

شَفاء رُكبَة الجاريَة بِبَركة الإمام الجَواد

رُوِيَ عن اَبي بَكر بن إسماعيل، قال: قُلتُ لاَبي جعفر ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنَّ لي جاريَةٌ تَشتَكي مِنْ رِيحٍ بها. فقال: إئتِني بِها.

فاَتَيتُ بها، فقال: ماتَشتَكين يا جاريَة؟

قالت: ريحاً في ركبتي. فَمَسَحَ يَدَه على رُكَبَتِها مِنْ وَرَاءِ الثياب، فَخَرَجَتِ الجارية مِنْ عِنْدِهِ و لَمْ تَشتَكِ وَجعاً بَعْدَذلك! (2).

ص: 197


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي، ج 50، ص 47، باب «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 24
2- كتاب «الخرائج» للراوندي، ج1، ص 376، حديث 3، باب «معجزات الإمام مُحمّد بن علي التقي (عَلَيهِ السَّلَامُ)»

شفاء أُذُن الرَجُل ببركة الإمام الجَواد

رُوِيَ عن اَبي سلمة، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و كانَ بي صَمَمٌ (1) شديد، فخُبّرَ بذلك لَمّا أَنْ دَخَلْتُ عليه، فدعاني إليه فَمَسَحَ يَدَه على أذني و رأسي، ثُمَّ قال: «إِسْمَعْ وَعِهُ». فَوَ اللّه إنّي لاَسْمَعُ الشيء الخفي عن اَسماعِ الناس مِنْ بَعْدَدعوته [اَي: بَعْدَدُعائه] (2).

الإمام الجَواد و مُعجزة طيّ الأرض

تُعتَبَر مُعْجِزة «طيّ الأرض» من الأمور الَّتييَخْتَص اللّه بِها بَعْض أوليائه، وهُوَ عِبارة عن قَطع مَسافة طويلة من الطريق.. خِلالَ مُدَّةِ زَمَنيّة.. قَد تَکُون اَقَلَّ من دقيقة واحِدة!

ص: 198


1- بي صَمَم: اَي: لا اسمع شيئاً
2- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص57، باب «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ) »، ضمن حديث 31

و قَد كانَ أئمَّة اَهل البَيت (عليهم الصَلاة و السَّلام) في رأس قأئمَّة الّذین كانوا يمتازون بهذه القَدرة النادرة.

وقَد اَشَارَ القُرآن الكريم.. إلى هذه الحَقيقة في قصَّة النَبيّ سليمان بن داود (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حَيثُقال:

(اَيكُمْ يَاتيني بَعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَاتوني مُسلِمين؟ قالَ عِفْريتٌ مِن الجِنّ: اَناآتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِك، وإني عليه لقويٌ اَمين، قال الّذي عِنْدَه عِلم من الكتاب: أنا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرتَدَّ إليكَ طَرْفُكَ، فَلَمّا رآه مُستَقِراً عِنْدَه، قال: هذا من مِنْ فَضلِ ربّي)(1) إلى آخِر الاَية.

فإذا كاَنتَ هذه القَدرة موجودة لعفريت من الجِنّ َن ياتي بِعَرش بِلقيس من مدينة سَبَبًا في اليمن.. إلى الأردُن.. خلال ساعات، وكاَنتَ هذه القَدرة موجودة لوصيّ سلیمان بن داود(و هُوَ: آصف بن برخيا) أَنْ ياتي بالعَرش في طَرفة عَين، فَما المانع أن تَکُون هذه القَدرة مَوجودة للإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهُوَ وَصيُ رسولِ

ص: 199


1- سورة النمل، الاَية 38- 40

اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و خليفتُه؟!

و الآن.. إليك الخَبَر التالي:

رُوِيَ عن مُحمّد بن حسان، عن علي بن خالد، قال: كُنتُ بالعَسكر (1)، فَبلغَني أنَّ هُناك رَجُلاً مَحبُوساً أُتِيَ بِه مِنْ ناحِيّة الشام مَكْبولاً (2) وقالوا: اَنه تَنَبَّا (3).

فاَتَيتُ الباب، و داريتُ البوّاَبَينَ و الحَجَبة (4) حَتَّى وَصَلْتُ إليه (5)، فإذا رَجُلٌ لَهُ فَهم، فقُلتُ: يا هذا.. ما قصَّتُك و ما أَمرُك؟

قال: إني كُنتُ رَجُلاً بالشام، أعبد اللّه في الموضع الّذي يُقالُ لَه: مَوضعُ «راس الحُسَين»،

ص: 200


1- العسكر- هنا-: إسم موضع في بغداد، نَزَلَ فيه المنْصُور الدوانيقي مَعَ جيشه، فسُمِّي المكان ب- «العسكر»
2- مَكْبولاً: مُقَيَّداً بالحديد
3- اَي: إدعى النُبوَّة
4- الحَجَبة- جَمْع حاجب-: البوّاب و الحارس
5- داریت: أعطَيتَ له_م بَعض المال، أو تَكَلَّمْتُ مَعَهم بِكَلامِ ليّن.. كي يَاذنوا لي بِمُقابَلَة الرَجُل المسجون. المُحقّق

فَبَينَما اَنافي عِبادتي إذ أَتاني شخص فقال: قُم بنا.

فقُمْتُ مَعَه، فبَينَا اَنامَعَه إذا اَنافي مَسجِد الكوفة.

فقالَ لي: تَعرف هذا المَسجِد؟

فقُلتُ: نَعَم، هذا مسجد الكوفة.

فصَلَّى.. وصَلَّيتُ مَعَه.

فبَينَا اَنامَعَه إذا اَنافي مسجد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) بالمدينة، فَسَلَّمَ على رسول اللّه.. و سَلّمتُ وصلى و صَلَّيتُ مَعَه، وصلى على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ).

فبَينَا اَنامَعَه، إذا اَنابمكة، فلم أزل مَعَه حَتَّى قَضی مَناسِكه، وقضَيتُ مَناسِكي مَعَه.

فبينا أنا مَعَه، إذا اَنافي الموضع الّذي كُنتُ أَعْبُدُ اللّه فيه بالشام، و مَضى الرَجُل.

فلمّا كانَ العام القابل، إذا اَنابه، ففَعَلَ مِثْلَ

ص: 201

فِعْلَته الأوّلى(1).

فلَمَّا قَرِغْنَا مِنْ مَناسِكِنا، و ردَّني إلى الشام،

وهَمَّ بِمُفارقتي قُلتُ له: سالتُك بالحق (2) الّذي أقَدرَكَ على ما راَيتُ... إلا أخبَرتَني مَن اَنتَ؟

فقال: أنا مُحمّد بن علي بن موسى.

قالَ [الرَجُل]: فَتَراقى الخَبَر (3) حَتَّى انتهى [اَي: وَصَلَ] إلى مُحمّد بن عبد المَلِك الزَيَّات (4)، فبَعَثَ إِليَّ و أَخَذَني و كبَّلَني في الحديد (5) و حَمَلني إلى العراق.

ص: 202


1- اَي: مِثْل ما فعَلَه في العام الماضي
2- و في نُسْخَةِ: بِحَقِّ الّذي...
3- تراقى الخَبَر: ارتفع
4- مُحمّد بن عبد المَلِك: كان حاكماً مِن أعوان العَبّاسيين، ثُمَّ صار وزيراً للمُعتَصم العَبّاسي، وضَرَبَ الرقَم القياسي.. في تَعذيب السجناء. المُحقّق
5- كبَّلني: قيَّدني. الحديد: الأغلال و السَلاسِل

قال [علي بن خالد]: فقُلتُ لَه: فارقَعُ القِصَّة إلى مُحمّد بن عبدالملك، ففَعل، وذكرَ في قصَّتِه ما كان.

فوَقَعَ [مُحمّد بن عبد الملِك] في قصَّتِه: «قُلْ للذي أَخرَجَكَ من الشام في لَيلَةإلى الكوفة و من الكوفة إلى المدينة، و من المَدينة إلى مكّة، و رَدَّكَ مِنْ مكّة إلى الشام.. أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ حَبْسِك هذا».

قال عليّ بن خالد: فَغَمَّني ذلك مِنْ اَمرَه، و رقَقْتُ لَه، و أَمَرْتُه بالعزاء (1) و الصَبر.

قال: ثُمَّ بَكَّرتُ (2) عليه، فإذا الجِنّد، وصاحِبُ الحَرَس، وصاحبُ السِجن، وخَلْقُ اللّه، فقُلتُ: ما هذا [الإزدحام]؟

فقالوا: المَحمول مِن الشام، الّذي تَنَبّا إفتُقَد البارحة

ص: 203


1- رفقْتُ له: رَقَ قَلبي له. العَزاء: التَسَلِّي عِنْدَ المُصيبة
2- بَكّرت: اَتيَت في الصَباح الباكِر

فَلا يُدْرَى اخْسِفَتْ به الأرض، أو اختَطَقَه الطَير (1).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

لقَد رَوى الشيخُ المُفيد.. هذا الحَديث في كتاب «الإرشاد» مَعَ اختِلافِ يَسير.. بَينَه و بَينَ ما ذكرناه عن كتاب «الكافي»، و لا بأس أن نذكرَ النّصّ الّذي ذكرَه

الشيخ المفيد.. تَتميماً للفائدة، فإِنَّهذكر إلى قَوله: «كُنتُ رَجُلاً بالشام أعبُدُ اللّه في الموضع الّذي يُقال...» هكذا:

«في الموضع الّذي يُقال: اَنه نُصِبَ فيه رأس الحُسَين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فبَينَا اَناذات لَيلَةفي مَوضِعي مُقْبِلٌ على

ص: 204


1- کتاب «الكافي»ج1، ص 492- 493، کتاب الحجّة، باب مولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 1. و كتاب «الإرشاد للشيخ المفيد و كتاب «السرائر» لإبن إدريس، وكتاب «الخرائج»، مَعَ اختِلافِ يَسير.. في بعض تفاصيل القصَّة

المحراب اذكر اللّه تعالى، إذ راَيتُ شخصاً بَينَ يَدَيَّ فنظرتُ إليه، فقال لي: قم. فقُمْتُ، فمَشى بي قَليلاً، فإذا اَنافي مسجد الكوفة.

فقال لي: أَتعرِف هذا المَسجِد؟

فقُلتُ: نَعَم، هذا مَسجِد الكوفة.

فَصَلى، وصَلَّيتُ مَعَه، ثُمَّ انصرف وانصرفت مَعَه، فَمَشى قليلاً، فإذا نَحْنُ بِمَسجِد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فَسَلَّمَ على الرسول، وصَلَّيتُ مَعَه، ثُمَّ خَرجَ وخَرَجْتُ مَعَه، فَمَشى قليلاً فإذا اَنابمكّة، قطافَ بالبَيت و طفتُ مَعَه، ثُمَّ خَرَجَ و مَشى قليلاً فإذا اَنافي موضعي الّذي كُنتُ أَعْبُدُ اللّهَ فيه بِالشام.

و غابَ الشخص عن عَيني، فبَقيتُ مُتَعَجِّباً حَولاً [اَي: سَنَة كاملة] ممَّا راَيت.

فلَمّا كانَ في العام المُقْبِل، راَيت ذلك الشخص، فاستَبْشَرْتُ به، ودعاني فأَجَبْتُه، ففَعَل كما فَعَلَ في العام الماضي، فلمّا اَرادَ مُفارقَتي بِالشام.. قُلتُ له: سالتُك بالّذي أقَدركَ على ما راَيتُ مِنْك.. إلا أَخبَرتَني

ص: 205

مَنْ اَنتَ؟

قال: اَنامُحمّد بن على بن موسى بن جعفر بن مُحمّد بن علي بن الحسين بن علي بن اَبي طالِب.

فَحَدَّثَتُ مَنْ كانَ يَصيرُ إِليَّ بِخَبَرِه، فرقى [اَي: ارتَفَع] ذلك إلى مُحمّد بن عبد المَلِك الزَيّات، فَبَعَثَ إليَّ مَنْ أَخَذني و كبَّلَني في الحَديد، وحَمَلَني إلى العراق، وحُبِست كما ترى، وادَّعَى عَلَيَّ المُحال (1).

فقُلتُ لَه: أَرفَعُ القِصَّة إلى مُحمّد بن عبد الملك؟

قال: إفعَلُ. فكتَبْتُ عَنهُقِصَّتَه وشَرَحْتُ اَمرَهفيها، ورقَعْتُها إلى مُحمّد بن عبدالملك، فوقّع في ظَهْرِها [اَي: كتَبَ خَلْفَ الورقة]:

قُلْ لِلَذي أَخرَجَك من الشام في لَيلَةإلى الكوفة و من الكوفة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكّة، و رَدَّكَ مِنْ مكة إلى الشام.. أنْ يُخْرِجَكَ مِنْ حَبْسِك هذا.

قالَ علي بن خالد: فغَمَّني ذلك مِنْ اَمرَه،

ص: 206


1- اَي: إدعى أَنِّي إِدَّعَيتُ النُبوَّة، وهذا مُحال

وانصرفتُ مَحْزوناً عليه.

فلمّا كانَ من الغَد، باكرتُ إلى الحَبْس لأعلَم الحال، و آمَرَهبالصَبر والعزاء، فَوَجَدْتُ الجِنّد وأصحاب الحَرَس، وخَلْقاً عَظيماً من الناس.. يُهرعون.

فسَالتُ عن حالِهِم، فَقِيلَ لي: المُتَنَبيّ [اَي: مدعي النُبوَّة] المَحْمول من الشام.. إفتُقَد البارحة من الحبس...».

يَمْتَنع مِنْ اكل الطِين

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: دَخَلْتُ عليه (1) ذات يَومبُستاَنا، فَقُلتُ لَه: جُعِلْتُ فِداك، إنِّي مُولَعٌ باَكل الطين، فادْعُ اللّه لي.

فَسَکت، ثُمَّ قالَ- بَعْدَاَيام-: «یا اَبا هاشم، قَد اَذهَبَ اللّه عَنْكَ أكل الطين».

قُلتُ: «ما شيء أبغَض إليَّ منْه» (2).

ص: 207


1- اَي: على الإمام الجَواد (عليه السلام)
2- کتاب «الكافي» ج1، ص 495، كتاب الحُجَّة، باب «مَولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 5

الإمام الجَواد و استجابة دُعائه

إنَّ مِن الأمور الثاَبَتة: اَنّه لَمْ يَكُن شيء مِن مَوانع إستِجابة الدُعاء.. في حياة الأئمَّة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) و إذا كانَ يَحصل التَاخير في إستجابَة بَعض اَدعيَتهِم، فذلك دليل على اَنَّهم لَمْ يَقْصُدوا (حِينَ الدُّعاء) تَعجيلَ الإستجابة.

وهذه بعض الاَخبارالَّتيتذكُر إستِجابة دُعاء الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

شفاء رَجُل مُبْتَلى بالبُهر.

رُوِيَ عن مُحمّد بن عُمَير بن واقَد الرازي، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و مَعي أخي بِه بُهْر

ص: 208

شَديد (1) فَشَكى إليه ذلك البُهر، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): عافاكَ اللّه ممّا تشكو.

فَخَرَجْنا مِنْ عِنْدِه وقَد عُوفي، فما عاد إليه ذلك البُهر إلى أَن مات.

قال مُحمّد بن عُمَير: وكان يُصيبُني وجعٌ في خاصِرتي في كُلِّ أُسبوع، فَيَسْتَدُّ ذلك الوَجَعُ بي اَياماً، و سالتُه أَنْ يَدعو لي بِزَوالِهِ عَنِّي.

فقال: واَنتَ فَعافاكَ اللّه.

فَما عادَ [الوَجَع] إلى هذه الغاَية (2).

الشفاء ببَركة دُعاء الإمام الجَواد(عَلَيهِ السَّلَامُ)

رُوِيَ عَنهُبن سنان، قال: شكوت إلى الرضا

ص: 209


1- البُهر- يضَمّ الباء-: تَتابع النَفَس وانقِطاعه من الإعياء وغَيره. وفي نُسْخَةِ: البَهَق: وهُوَ مَرض في الجِلد.. يَشبَه البَرَص
2- کتاب «الخرائج» ج1 ص377، الباب العاشر، في مُعجزات الإمام مُحمّد بن علي التقي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، حديث5

(عَلَيهِ السَّلَامُ) وَجَعَ العَين، فأَخَذَ قِرْطاساً، فكتَبَ إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهُوَ أوّل ما بدى (1) ودفَعَ الكتاب إلى الخادِم (2)، و أمرني أَنْ أَذهَبَ مَعَه، وقال: أكتُمْ.

فاَتَيناه، و خادِمَ يَحْمِلُه (3).

فَفَتَحَ الخادِم الكتاب بَينَ يَدَي اَبي جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ) (4) فجَعَلَ أبو جعفر يَنظُر في الكتاب، ويُرفَع راسَه إلى السَماء و يقول: ناج.

ففَعَلَ ذلك مراراً، فذهَبَ كُلُّ وَجَع في عَيني، و اَبصَرْتُ بَصراً لا يُبْصِره أَحَد.

قالَ [مُحمّد بن سنان]: قُلتُ لاَبي جعفر

ص: 210


1- اَي: في أوائل طفولته
2- و روى الكشّي حَديثاً قريباً من هذا الحَديث، يَدلُّ على أنّ مِنْ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتب ذلك الكِتاب و هُوَ في مكة إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هُوَ في المدينة. كتاب «رجال الكشّي»، ص 582، رقم 1092
3- و في نُسخةٍ: و خادِم قَد حَمَلَه
4- المَعْنى: فَتَحَ الخادِمُ.. الرسالة، و أخذها أمامَ وَجْهِ الإمام الجَواد.. ليقرأه. المُحقّق

(عَلَيهِ السَّلَامُ): جَعَلَكَ اللّه شيخاً على هذه الأمَّة، كما جَعَل عيسى بن مريم شيخا على بني إسرائيل (1).

ثُمَّ قُلتُ لَه: يا شَبيهَ صاحِبِ فُطرس.

فانصَرفتُ و قَد اَمَرَني الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَنْ اكتُم. فَما زِلتُ صَحيحَ النظر حَتَّى أذعْتُ ما كانَ مِنْ أَمرِ اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَعاودني الوَجَع

قالَ [مُحمّد بن مرزبان]: فقُلتُ لمُحمّد بن سنان: ما عَنَيتَ بقولك: يا شبيه صاحب فطرس؟

فقال: إنّ اللّه تَعَالى غَضِبَ على مَلَكِ مِن الملائكة يُدعى (فُطرس) فَدَقَ جَناحَه، ورَمَى به في جزيرة مِنْ جزائر البَحْر. فَلَمّا وُلِدَ الحُسَين (صَلَواتُ اللّه عليه) بَعَث اللّه (عَزّ وجَلَّ) جبرئيل إلى مُحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) لِيُهَنّئه بولادة الحُسَين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و كان جبرئيل صديقاً لِفُطرس، فَمَرَّ بِه وهُوَ فِي الجزيرة مطروح، فَخَبَّرَه بولادة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 211


1- مَعْنى «الشيخ»- هُنا-: مَنْ هُوَ بِمَكانةٍ رفيعةٍ.. مِن العِلم أو الفَضل أو الرئاسة

و ما أمر اللّه به [من التَهنِئة].

و قال [جبرئيل] لَه: هَلْ لَكَ أَنْ أَحْمِلَك على جناح مِنْ أَجْنِحَتي، و أمضي بِك إلى مُحمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ )يَشْفَعُ لك؟

قالَ لَه فُطرس: نَعَم.

فَحَمَلَه على جَناحَ مِنْ أَجْنِحَتِه حَتَّى أتى به مُحمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) فَبَلَّغَه تَهنئة ربِّه تَعالى، ثُمَّ حَدِّثَه بِقِصَّة فُطرس. فقالَ مُحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) لِفُطرس: إمسَحْ جَناحَكَ على مَهْدِ الحُسَين، وتَمَسَّح به.

ففَعَل ذلك فطرس، فَجَبَرَ اللّه جَناحَه، وردَّه إلى مَنْزلته مَعَ المَلائكة (1).

ص: 212


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المَجْلِسي، ج 50، ص 66، باب 26 «مُعجزاته (عليه السلام)»، حديث 43

الإمام الجواد و إخباراته الغیبیّة

إِنَّ مِن الحَقائق الوَاضِحة: أنَّ الإنسان يَطَّلِعُ على الأشياء.. إمّا عن طريق الرُؤية و المُشاهدة، وإمّا عن طريق الإستماع من الآخَرين، وإما عن طريق ثالث.. كالإلهام، أو التَبادُر إلى الذِهن.. بطريقةٍ خاصَّة.

و إِنَّ مِنْ جُملة الخَصائص الَّتيامتازَ بها أئمَّة اَهل البَيت عن غيرِهم من البَشَر: هُوَ انَّ اللّه تَعالى قَد وفَّرَ لَهُم وَسائل و طُرق.. و زودهم بطاقات و قَدرات.. للإطّلاع على الأمور، و لمَعرفة الحوادث الغيبيَّة.

وقَد اقتَضَت الحكمة الإلهِیَة أنْ يَعْلَمَ الأئمَّة الطاهرون.. كُلَّ ما يحدث في الكُرة الأرضيّة.. وكُلّ

ص: 213

ما يَجري على أهل الأَرض.

و سَوفَ نَتَحَدَّث عن هذا البَحْث- بشيء مِن التَفصيل- في كتابنا «الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِن المَهْد إلى اللحد».

لكنَّنا نَذكُر- الآن- بَعض مَا سَجَّلَهُ التاريخُ و كُتُبُ الحديث.. عن اَخبارات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) غَيْبِيّاً.. عن بعض القضاَيا و الحوادث.

وقَد ذكرنا- خِلالَ فُصُول هذا الكتاب- مجموعة مِنْ اَخباراته الغيبيّة، ومنها: أن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَخبَر عن وفاة والدِه الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نفس يَومالوفاة، مَعَ اَنّ الإمام الرضا قُتِلَ في خُراسان، و كانَ الإمام الجَواد في المدينة المُنَوِّرة.

الاَخبارعن بضاعة المَراتَين

رُوِيَ عن مُحمّد بن ارومة، قال:

حَمَلَتْ [اَي: أرسَلَتْ] إمرأة مَعِي شيئاً مِنْ حُليّ،

ص: 214

وشَيئاً مِنْ دَرَاهِم، وشيئاً مِنْ ثِياب، فَتَوَهَّمْتُ أَنَّ ذلك کُلّهلها، ولم اَسأَلها أن [هَلْ] الغَيرها في ذلك شيئاً.

فَحَمَلْتُ [تِلكَ الأموال] إلى المَدينة.. مَعَ بِضاعات لأَصحابنا، فَوَجَهتُ ذلك کُلّه إليه [اَي: إلى الإمام الجَواد] وكتبت في الكتاب: إنّي قَد بَعَثْتُ إِليك مِنْ قِبَل فُلانة بكذا، ومِن قِبَل فُلان و فُلان بكذا.

فخَرَجَ في التوقيع (1) : «قَد وَصَلَ ما بَعَثْتَ مِنْ قِبَلِ فُلان وفُلان، و مِنْ قِبل المرأتين، تَقَبَّلَ اللّه مِنْكَ ورَضِيَ اللّه عنك، وجَعَلَكَ مَعَنا في الدُّنيا والآخرة».

فَلَمّا سَمعتُ ذِكر «المراتين» شككت في الكِتاب: اَنه غَيرُ كِتابِه، و اَنه قَد عُمِلَ عَلَيَّ دونَه (2) لأنّي كُنْتُ في نَفْسي على يَقين.. أن الّذي دفَعَتْ إِليَّ المرأة.. كان کُلّهلها، وهِیَ إمرأة واحِدة، فلما راَيتُ

ص: 215


1- المُراد من التوقيع- هنا-: كتابة خبر إستلام الأشياء المُرسَلة.. على نَفْس ورقة رسالة المُرسِل. المُحقّق
2- اَي: الشَكَ مِنْ أنْ تَکُون الرسالة مُزوّرة.. و لَيسَ ت من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

[كلمة]: المَرأتين.. إتَّهَمْتُ مُوصل كتاَبي [اَي: الرّجُلَ الّذي أوصَلَ كِتاَبي- مَعَ الأموال- إلى الإمام].

فلَمّا انصرفت إلى البلاد.. جاءَتني المرأة، فَقالت: هَلْ أَوصَلْتَ بِضاعَتي؟

فقُلتُ: نَعَم

قالت: وبِضاعةَ فُلانة؟

قُلتُ: هَلْ كان فيها لِغَيرِك شيء؟

قالت: نَعَمْ، كان لي فيها كذا.. ولأُختي فُلانة کذا.

فقُلتُ: بَلَى أَوصَلْتُ.

و زالَ ما كانَ عِنْدي [من الشك] (1).

ص: 216


1- کتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي، ج 50، ص52-53، باب مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حَديث 26

عِلمُ الإمام بِمَجيء السَيل

رُوِيَ عن أميّة بن علي، قال:

دَخَلْتُ اَناوحمّاد بن عيسى على اَبي جعفر [الجَواد] بالمدينة لِنُودِّعه، فَقال لنا: لا تَخرُجا، اَقيما إلى غَدٍ.

فَلَمّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه.. قال حمَّاد: اَنا أَخرُج فَقَد خَرَجَ ثَقَلي. قُلتُ: اَمّا اَنافأقيم، فَخَرَجَ حمّاد،(1) فَجَرى به الوادي في تِلكَ اللَيلَة.. فَغَرِقَ فيه، وقَبْره بسيّالة (2).

اَخباره عن مكان الشاة المَفقودة

رُوِيَ عن علي بن جرير، قال: كنتُ عِنْدَ اَبي جعفر ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) جالساً، وقَد ذهَبَتْ شاة لِمَولاةٍ

ص: 217


1- الثقل- بِفَتْح الثاء و القاف-: مَتاعَ المُسافِر و حَشَمه
2- کتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 43، باب «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 10

لَه، فأَخَذوا بَعضَ الجِيران يَجُرُّونَهُمْ إِليه، و يَقولون: اَنتُم سَرقْتُم الشاة.

فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وَيلَكِمْ خَلّوا عن جِيراننا، فلَمْ يَسْرِقوا شاتَكُم، الشاة في دار فُلان، فاذهَ_بوا فاَخرِجُوه_ا من داره».

فَخَرَجوا، فوَجَدوها في دارِه، و أَخَذوا الرَجُل وضَرَبوه و خَرقوا ثيابَه، وهُوَ يَحْلِف اَنه لَم يَسرق هذه الشاة.

إلى أَن صاروا إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «وَيَحَكُمْ! ظَلَمْتُم الرَجُل، فإنّ الشاة دَخَلت داره و هُوَ لا يَعْلَم بها».

فَدَعاه (1)، فَوَهَبَ له شيئاً.. بَدلَ ما خُرِفَ مِنْ ثِيَابِه و ضَربه (2).

ص: 218


1- اَي: ان الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أحضَرَ الرَجُل الّذي وُجدَت الشاة في دارِه. المُحقّق
2- كتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 47، باب 26 0 معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 22

عِلمُ الإمام يموت المرأة

رُوِيَ عن عمران بن مُحمّدالأَشعَري، قال:

دَخَلْتُ على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَضَيتُ حَوائجي، فقُلتُ لَه: إنّ أم الحَسَن (1) تقرؤك السَلام، وتساَلُكَ ثوباً مِن ثِيابك.. تَجْعَلُه كَفَناً لَها.

قال: قَد استَغْنَتْ عن ذلك. فَخَرَجْتُ وَ لَسْتُ أَدري ما مَعنى ذلك، فأَتاني الخَبَر بِاَنَّها قَد ماتَت قَبْلَ ذلك.. بِثَلاثة عَشَر يَوماً.. أو أَربعة عَشَر يَوماً (2).

الإمام يُخبِر عَمّا في قَلْب رجُلٍ زَيدي

رُوِيَ عن القاسم بن عبد الرحمن- و كانَ زَيديّاً- قال: خَرَجْتُ إلى بغداد، فبَينَا اَنابِها.. إذ راَيتُ الناس

ص: 219


1- أمّ الحَسَن هِیَ: والدة عمران، كما يظه_ر من حديثٍ آخَر
2- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 43، باب 26 «مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 11

يَتَعادون (1) ويَتَشوّفون (2) ويقفون.

فقُلتُ: ما هذا؟

فقالوا: إبن الرضا [يَعني الإمام الجَواد].

فقُلتُ: واللّه لأنظُرَنَّ إليه. فطَلَعَ على بَغْلٍ أو بَغْلَة، فقُلتُ: لَعَنَ اللّه أصحاب الإمامة.. حَيثُيقولون: إنَّ اللّه افتَرَضَ طاعةَ هذا.

فعَدَل [الإمامُ] إليَّ فقال: يا قاسم بن عَبدالرحمن اَبَشَراً مِنّا واحِداً نَتَّبِعُه؟ اَنا إذاً لَفِي ضَلالٍ و شعر)!! (3)

فقُلتُ- في نَفْسي-: ساحِرٌ و اللّه!

فقالَ [الإمامُ]: )ءَ القِيَ الذِكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَينَنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أشر( (4).

ص: 220


1- يَتَعادون: يُسرعون في المَشي
2- و في نُسْخَةِ: يَتَشَرِّفون، اَي: يَتَطلَّعون إليه
3- سورة القمر، الاَية 24
4- سورة القمر، الاَية 25

قال: فانصَرفت، وقُلتُ بالإمامة، وشَهِدْتُ اَنَّه حُجَّةُ اللّه على خَلْقه، واعتَقَدتُ (1).

* * * *

تَوضيح الخَبَر: الآيتان اللتان تَلاهُما الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) تَرتَبِطان بِالنَبيّ صالح (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَومِه، يقول تعالى: (كذَّبَتْثَمُود بالنذر، فقالوا: اَبَشَراً مِنّا واحِداً نَتَّبِعُه...) اَي: إِنَّ قَومَ ثَمَود كَذَّبوا نَبيّهُمْ، لكونِه رَجُلاً واحِداً.. لا يَصْلُحُ لِتَحَمُّل أعباء الرسالة، (فَقالوا: اَبَشَراً واحِداً مِنّا نَتَّبِعُه؟! اِنّا إِذاً لَفِي ضَلال و سُعُر!ءَ القِي الذِكرُ عَلَيْهِ مِنْ بَينَنا؟!).

هذا إستفهام إنكاري، والمَعنى: كَيفَ أُلقِيَ الوَحْيُ عليه، وخُصَّ بِالنُبوَّة دُونَنا، وهُوَ وَاحِدٌ مِنّا؟!

و وَجْهُ إستِشهاد الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِهاتَين الاَيتين: هُوَ أنّ ذلك الرّجُل الزَيدي.. إسْتَصْغَرَ الإمامَ الجَواد بِسَبَبِ صِغَرسِنّه، فَشَبَّهَهُ الإمامُ بِقَوم ثَمُود..

ص: 221


1- كتاب «كشف الغمة» للإربلي، ج 3، ص 153، باب «في مُعجزاته (عليه السلام)»

الّذین اسْتَصْغَرُوا نَبيّهُمْ صالِحاً. ولَمّا ظنَّ الرَجُل الزَيدي أنّ اَخبارالإمام عَمّا في قَلْبِه.. هُوَ مِن السحر، شَبَّهَ الإمام ذلك الظن والإفتراء.. بما افتراه قومثَمُود على النَبيّ صالح.. باَنَّه كذّاب اَشِر.

و حَيثُإنَّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) أخبَرَ ذلك الرَجُل عَمّا دارَ في خاطرِهِ مَرَّتَين، ثَبَتَتْ عِنْدَه إمامةُ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).

الإمام يُخْبِر عن عطش الرَجُل ويَعْلَم ما يَدور في ذِهْنِه

رُوِيَ عن علي بن مُحمّدالهاشمي، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صبيحَة عِرْسِهِ بِبِنْتِ المَامون، وكُنْتُ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ عليه في ذلك اليَوم، فَدنَوتُ مِنْه وقَعَدْتُ، وكُنتُ تَناولتُ من اللَيل دَواءاً..

ص: 222


1- و لعَلَّه ظَهَرَتْ مِن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) کرامات و مُعجزات أُخرى، بحَيثُإنّ ذلك الرَجُل الزَيدي.. إطمئنَّ قَلْبُه بأنّ الإمام الجَواد.. هو الإمام الحق. المُحقّق

و قَد أَصابَني العَطش، فَجَلَلْتُه أنْ أَطلُبَ الماء (1)، فنَظرَ ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وَجْهِیَ.. و قال: اَراك عطشاَنا.

فقُلتُ: أَجَلْ.

فقال: شَرِبْتَ الدَواءَ باللَيلِ.. وتَغَدَّيتَ على بُكْرةٍ (2)، فأصِبْتَ العَطش، واسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَطْلُبَ الماء منَّي.

فقُلتُ: واللّه! يا سَيَّدي.. هذه صِفَتي، ما غَادَرت مِنْها حرفاً.

فقال: يا غُلام.. إسقِنا ماءاً.

فقُلتُ- في نَفْسي-: الساعة يَأتونَه بِمَاءٍ يَسُمُّونَه به [اَي: يَجعَلونَ فيه السُمّ] فاعْتَمَمْتُ لِذلك. فأَقبَلَ الغُلامُ و مَعَه الماء، فَتَبَسَّمَ [الإمامُ] في وَجْهِیَ.. ثُمَّ قال: يا غُلام، ناوِلني الماء، فتَناولَ الماء فَشَرِبَ ثَمَناولَني.. فَشَرِبْتُ.

ص: 223


1- اَي: عَظَمْتُ الإمام.. من أَن أَطلبَ مِنه الماء
2- اَي: تَناولتَ طعام الغَداء.. في وقت مبَكّر المُحقّق

ثُمَّ عَطَشتُ اَيضاً، وكرِهتُ اَن اَدعُوَ بِالماء، ففَعَلَ ما فَعَلَ في الأُولى، فلمّا جاءَ الغُلامُ ومَعَه القَدَح، قُلتُ- في نَفْسي- مِثلَ ما قُلتُ في الأُولى، فتَناولَ القَدَح ثُمَّ شَرِب، فناولَني و تَبَسَّم.

فقُلتُ: لا إله إلا اللّه!! اَيّ دليل أدَلَّ على إمامَتِهِ من عِلْمِه ما أُسِرُّهُ في نَفْسي؟!

فقال: يا علي، و اللّه.. نَحْنُ كما قالَ تَعالى: ﴿اَم يَحْسَبُونَ اَنالا تَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ؟! بَلَى.. ورُسُلُنَا لَدَيهِم يَكْتُبون ﴾ (1).

فقُمْتُ وقُلتُ- لِمَنْ كانَ معي-: هذه ثَلاثة براهِیَن.. راَيتُها مِنْ اَبي جعفر.. في مَجْلِسي هذا. و اللّه إني أظنّ أنّ اَبا جعفر يَعْلَم ما في النُفوس، كما تَقول الرفضة (2).

ص: 224


1- سورة الزخرف، الاَية 80
2- لَقَد رُوِيَ هذا الخَبر.. في كُتُب و مَصادِر مُتَعَدِّدة، مَعَ اختِلافِ يَسير.. في بعض الكلمات، ولَعَلَّ سَبَب ذلك.. إختلاف تعبير الرواة المُتَعَدِّدين، وقَد جَمَعْنا بَينَ النُسَخ.. و ذكرنا الخَبَر هُنا. أَمّا المَصادِر.. فهِیَ ما يلي: 1- كتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج 1، ص ص 495، باب «مَولِد اَبي جعفر.. مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)»حديث 6. 2- كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد، ج 2، ص291، باب «في فَضائلِه و مناقبه (عليه السلام)». 3- كتاب «الهداَية الكبرى» لِلْحُضَيني ص301

اَيُّها القارىء الكريم

يُستَفاد من هذا الحَديث اَنّ راويه.. ما كانَ يَعتقَد بإمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لكن لَمّا رأى هذه الكرامة قال: أظُنُّ اَنَّه إمام.. كما تَقولُه الرفضة.. يعني الشيعة.

يَطلُب الدِرع ويَعْلَم وفاة والدة الرَجُل

رُوِيَ عن عمران بن مُحمّد، قال:

دفَعَ إليَّ أخي درعة (1) اَحمِلُها إلى اَبي جعفر

ص: 225


1- الدِرعة: الثَوب، أو الدرع الّذي يُلبس في الحَرب.. ويُصنَع من حِلَق الحَديد.. يَحفَظ الجِسم مِنْ ضَرْب السَيف وغَيره

(عَلَيهِ السَّلَامُ) مَعَ اشياء، فقَدمتُ بِها و نَسِيتُ الدرع.

فلمّا أردتُ اَنْ أُودِّعَه.. قالَ لي: إحمل الدرع.

[قالَ عِمْران:] و سَالتْني والدتي اَن اَسأَله قميصاً مِنْ ثِيابِه، فَسَالَتُه.. فقال: «لَيسَت تحتاج إليه».

فجاءَني الخَبَر: اَنَّها تُوفّيت قَبلَ عِشرين يَوماً (1).

إحْمِلُوا إلىَّ الخُمس

رُوِيَ عن مُحمّد بن الفرج، قال:

كتَبَ إليَّ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إحْمِلُوا إِليَّ الخُمس، فإنّي لَستُ آخذُه مِنْكُمْ سوى عامي هذا».

فقُبِضَ [اَي: تُوفّيَ] في تِلكَ السَنَة (2).

ص: 226


1- کتاب «الخرائج» ج 2، ص 670، باب «إعلام الإمام مُحمّدابن علي التقي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)»، حديث 15
2- کتاب «کشف الغمّة في معرفة الأئمَّة» للإربلي، ج 2، ص 370

الإمام يُخبِر عن أَصحاب الرَسائل

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر الثاني.. ومَعي ثَلاث رقاعٍ غَير مُعَنُونَة (1) و اشتُبِهَتْ عَليَّ، واغتَمَمْتُ لِذلك.

فتناول [الإمامُ] إحداهن و قال: «هذه رقعة الريان ابن شبيب» و تَناولَ الثانية وقال: «هذه رُقعة مُحمّد بن اَبي حَمزة» وتَناوَلَ الثَالثَة و قال: «هذه رقعة فُلان».

فَبُهِتُّ (2) فَنَظَرَ إِلَيَّ وتَبَسَّم (3).

* * * *

تَوضیح: لَعَلَّ هذه الرَسائل لَمْ يَكُنْ عليها إسمُ المُرسِل ولا خَطُّه، ولِهذا اشتُبِهَتْ على اَبي هاشِم،

ص: 227


1- رِقاع- جَمْع رقعة-: الرسالة. غير معنونة: اَي: لم يُكتب عليها إسم المُرسَل، ولَمْ تَتَّصف بعلامة فارقة.. تُميِّزُها عن غيرها. المُحقّق
2- اَي: تَحَيَّرْتُ و دُهِشتُ
3- کتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 41، باب مُعجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 4. ص:227

و لكن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) عَرفَ ذلك قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ تِلكَ الرسائل ويَنْظُر فيها.. كي يَعْرِف المُرسل مِنْ خَطه أو توقيعه.

الإمام يُخبِر عَمّا يَحْدُث في المُستَقْبَل

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال:

إنَّ اَبا جعفر [الجَواد] أعطاني ثلاثمائة دينار، و أمرني أن أحملها إلى بَعْض بَني عَمِّه، وقال: أما اَنه سَيَقولُ لَك: دُلَّني على حريف (1) يَشْتَري لي بِها متاعاً، فَدُلهُ عليه.

قال: فاَتَيتَه بالدنانير، فقال لي: يا اَبا هاشم، دُلَّني على حَريف يَشْتَري لي بِها مَتاعاً.

ص: 228


1- حَريف الرّجُل: الّذي يُعادلُه في حِرفَتِه. ولَعَلَّ المَقصود منه هنا-: الرّجُل الّذي يكون عارفاً بحرفة مُعيَّنة، فيَصلح اَنْ يَكون وسيطاً لِشراء بضاعة.. لا يَتَعرَّض في مُعامَلَتِه للغَش والغَبْن، وذلك بِسَبَب خبرته. المُحقّق

فقُلتُ: نَعَم (1).

الاَخبارعن شراء الجارية و عن حُصُول الولد

رُوِيَ عن صالح بن عطيّة الأَصحب، قال: حَجَجْتُ فَشَكوتُ إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) الوَحدة، فَقال: «إنَّك لا تَخرُج مِن الحَرَم حَتَّى تَشتَري جاريَة تُرزَق منها إبناً».

فَقُلتُ: تَسِير؟ (2)

قال: «نَعَم» و ركب إلى النَخَّاس (3)، وكَبتَ (اَي: اَشارَ) إلى جاريَةٍ وقال: إشترها. فاشتَريتُها فَولَدَتْ

ص: 229


1- كتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج1، ص 495، باب «مولد اَبي جعفر.. مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 5
2- و في نُسْخَةٍ: تُشير إليَّ؟
3- النَخّاس: بائع العَبيد والإماء

مُحمّداً إبني (1).

و قَد رُوِيَ هذا الحديث بصُورة أُخرى، والنَتيجَة واحدة.

إنّي مَيُت اللَيلَة

رُوِيَ عن اَبي مُسافر، عن اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه قال- في العَشِيّة الَّتيتُوفّي فيها-: «إني مَيِّت اللَيلَة». ثُمَّ قال: «نَحْنُ مَعشَرٌ إذا لَمْ يَرضَ اللّه لأَحَدِنَا الدُّنيا.. نَقَلَنا إليه) (2).

ص: 230


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 43، باب «معجزاته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 9
2- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 2، باب «مولده و وفاته و...» حديث 3

الإمام الجَواد والإجابة قَبْلَ السؤال

رُوِيَ عن مُحمّد بن اَبي العَلاء، قال:

سَمِعْتُ يَحْيى بن اكثَم- قاضي سامرّاء- بَعْدَ ما جَهَدْتُ بِه و ناظرتُه و حاوَرتُه، و واصَلْتُه وسَاَلتُه عن

عُلوم آلِ مُحمّد، فقال [يَحْيى]: بَينَا اَناذاتَ يَومدَخَلْتُ أطوفُ بِقَبْر رسول اللّه (1)، فراَيتُ مُحمّد بن علي الرضا.. يَطوفُ بِه (2) فناظرتُه في مَسائلَ عِنْدي،

ص: 231


1- الطواف: الدوران حول الشيء، يُقال: طاف به اَي: إستدار وجاءَ مِنْ نَواحِيه، و من السنن الإسلامية- الَّتيكاَنتَ عليها سيرة الصحابة والمُسلمين جميعاً-: زيارة قبر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) والتَبَرُّك والتَمَسُّح به وتقبيله من أطرافه و نَواحِيه
2- اَي: بالقبر الشريف

فاَخرَجَها إليَّ (1) فقُلتُ لَه: واللّه إنّي أُريد أن أسأَلَكَ مَسأَلة، وإنّي واللّه لاَستَحْيِي مِنْ ذلك.

فقال [الإمام الجَواد] لي: اَناأُخبِركَ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلني، تَسْألني عن الإمام!!

فقُلتُ: هُوَ- واللّهِ – هذا.

فقال: اَناهُوَ.

فقُلتُ: عَلامة؟

فكاَنتَ في يَدِه عَصا، فنَطقَتْ وقالت: «أنَّه مَولاَي.. إمامُ هذا الزَمان.. و هُوَ الحُجَّة» (2).

* * * *

تَوضيح الخَبَر: الظاهِر أنّ هذه العَصا.. هِیَ عَصا النَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهِیَ الَّتيصَدَرَتْ مِنْها الأُمور الخارِقَة لِلعادة، كانقِلابها حَيَّةٌ تَسْعَى.. وثُعباَناتلقَف ما يَافِكون، وهِیَ مِنْ مَواريث الأنَبيّاء الَّتي

ص: 232


1- اَي: أَجابني عليها. وفي نسخة: فأجابني
2- کتاب «الكافي» ج 1، ص 353، باب ما يُفْصَلُ بِهِ بَينَ دَعْوى المُحِق و المُبْطِل.. في أمر الإمامة»، حديث 9

وَصَلَتْ إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) ثُمَّ إِلى خُلَفائه الشرعيّين واحِداً بَعْدَواحِد.

و قَد رُوِيَ عن الإمام مُحمّدالباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه قال: «كاَنتَ عصا موسى لآدم، فصَارَت إِلى شُعَيب، ثُمَّ صَارَت إلى موسى بن عِمران، واَنَّها لَعندَنا، وإنَّ عَهْدي بها آنِفاً (1)، وأِنَّها لَتَنْطِقُ إذا استُنْطِقَتْ...» إلى آخر الحديث (2).

الاَخبارعَمّا في الأرحام

جاءَ في الخَبَر: أنّ إسحاق بن إسماعيل.. حَجَّ في تِلكَ السَنَة الَّتيتَوافَدَ الناس لِلقاء الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). قال إسحاق: فَاعدَدت لَه- في رُقعة- عَشْرَ مَسائل لاَسأَله عَنها، وكان لي حَمْل (3)، فَقُلتُ [في

ص: 233


1- لَعَلَّ المعنى: أني راَيتُها قَبْلَ مُدة قصيرة.المُحقّق
2- كتاب «إكمال الدين»، للشيخ الصدوق، ج 2، باب 58، حدیث 27
3- اَي: كاَنتَ زوجتي حاملاً

نَفْسي]: إذا أَجابني عن مَسائلي سَاَلتُه أَنْ يَدْعو اللّه لي أَنْ يَجْعَلَه ذكَراً (1).

فَلمَّا سَاَله الناس، قمت- و الرقعة مَعي- لاَسأَله عن مَسائلي، فَلمّا نَظَرَ إليَّ قال: يا اَبا يَعقوب، سَمِّهِ أَحمَد !

فَوُلِدَ لي ذكر، وسَمَّيْتُه أَحمَد (2).

هذا مِنْ ثِياب اَبي الحَسَن

رُوِيَ عن الحَسَن بن علي الوشاء، قال:

كُنْتُ بِالمدينة ب_«صريّا» (3) في المَشربة (4) مَعَ

ص: 234


1- اَي: يَجْعَل الجِنّين ذكراً
2- كتاب «دلائل الإمامة» ص 212، باب «مُعجزات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)»
3- صريّا: إسم بستان او قريَةٍ أَسَّسَها الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في ضاحِيَّة المَدينة المنَوَّرة
4- المَشربة: الحُجرة، وقِيلَ: الحُجرة الَّتييُشرب (أو يُخَرِّنُ) الماء فيها

اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقام وقال: لا تَبرَحْ.

فَقُلتُ- فى نَفْسى-: كُنتُ أردتُ أن أسأل اَبا الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قميصاً مِنْ ثِيابِه فَلَمْ أَفعَلُ، فَإذا عاد إليَّ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاَسأَله.

فاَرسَلَ إِليَّ- مِنْ قَبْلِ أَنْ اَسأَله، و مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعُودَ إليَّ، و اَنافي المشربة- بقميصٍ، و قال الرسول: يَقولُ لك: هذا مِنْ ثِياب اَبي الحَسَن الَّتي كانَ يُصَلّي فيها (1).

هديّة من الإمام الجَواد لأَحَد الشيعة

رَوى أَحمَد بن مُحمّد بن عيسى، عن مُحمّد بن سَهْل بن اليسَع، قال:

كُنْتُ مُجاوراً بمكّة (2)، فَسِرْتُ إلى المدينة، فَدَخَلْتُ على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) و اَردتُ اَن

ص: 235


1- كتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 52، باب «معجزاته (عليه السلام)»، حديث 25
2- مُجاوراً بِمكّة، اَي: ساكِناً في مكّة المكرّمة

اَسأَله كِسْوَة يَكْسُونيها، فَلَمْ يَتفق أن اَسأَله، حَتَّى ودَّعْتُه و اردتُ الخُروج، فقُلتُ [في نَفْسي]: اكتُبُ إليه [بَعْدَذلك] و اَسأَله.

فكتَبْتُ إليه الكتاب، فصرتُ إلى مسجد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )على أن أُصَلّي ركعتَين، و اَستَخيرُ اللّه (1) مائة مرَّة، فإنْ وقَعَ في قَلْبي أن ابعَث اَنْ إليه بالكتاب.. بَعَثْتُ بِه، وإلّا خَرَقتُه.

ففعَلْتُ.. فَوقَعَ في قَلْبي اَنْ لا أبعَثَ به، فخَرقت الكتاب، وخَرَجْتُ مِن المدينة.

فبَينَما اَناكذلك.. إذ راَيتُ رسولاً و مَعَه ثياب في مِنْديل، يَتَخَلَّل القطار (2) ويَسأَل عن مُحمّد بن سَهْل القُمّي، حَتَّى إنتهى إليّ (3) فقال: مولاك بَعَثَ إليك

ص: 236


1- اَستَخيرُ اللّه: أطلب من اللّه الخير، أو: أَنْ يُلْهِمَني ما هُوَ خَير لي و صَلاح
2- اَي: قطار الإبل
3- اَي: وَصَلَ إِليَّ

بهذا. و إذا مُلاءَ تان (1).

قال أَحمَد بن مُحمّد : فقَضى اللّهُ أنّي غَسَّلْتُه حِينَ ماتَ.. وكفَّنْتُه فيهما (2).

المُوافقة على تَوظيف الجَمّال

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، اَنه قال: و كَلَّمَنى جَمّال أنْ أكلَّمَه لِيُدخِله في بَعض أُموره (3).

فَدَخَلْتُ عليه لأُكلِّمَه له، فَوَجَدتُه يَاكُل، و مَعَه جماعة، ولَمْ يُمكنني كلامَه.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): یا اَبا هاشم كُلِّ، ووَضَعَ

ص: 237


1- المُلاءَة- بِضمّ المِيم-: قماش لَيّن رقيق، يُعَبّر عَنهُفي زَمانِنا هذا بالشَرشَف. المُحقّق
2- کتاب «الخرائج» للراوندي، ج 2، ص 668، فصل «في اعلام الإمام مُحمّد بن علي التقي (عليهما السلام)»، حديث 10
3- اَي: أنْ أكلّم الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَنْ يَجْعَلَ الجَمال عاملاً في دار الإمام.. يقوم ببعض الأعمال. المُحقّق

الطَعام] بَينَ يَدَيَّ.

ثُمَّ قال- اَبَتداءاً مِنْه، مِنْ غَير مَسأَلة-: يا غُلام أُنظُر إلى الجَمّال الّذي أتاَنابه أبو هاشم فَضُمَّه إليك (1).

ص: 238


1- كتاب «الكافي»، ج 1، ص 495، كتاب الحُجَّة، باب «مَولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث5

الإمام الجَواد يَعْلَم وَزْنَ ماء دِجلة

رُوِيَ عن عُمر بن الفَرَج الرخجي، قال: قُلتُ لاَبي قُلتُ جعفر [الجَواد]: إِنّ شيعتَكَ تَدَّعِي اَنَّكَ تَعْلَمُ كُلَّ ماء في دجلة، ووزنه- وكنّا على شاطيء دجلة-.

فقال [عليه السلام] لي: «يَقَدر اللّه تعالى اَنْ يُقَوِّض عِلْمَ ذلك إلى بَعُوضةٍ مِنْ خَلْقِه.. أم لا؟

قُلتُ: نَعَمْ.. يَقَدر.

فقال [عليه السلام]: «اَنااكرَمُ على اللّه تَعالى من بَعُوضة.. ومِنْ أكثَر خَلْقِه» (1).

ص: 239


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي سي، ج 5.، ص باب 28 «فَضائله و مکارم اخلاقه (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، ضِمن حديث 12

الإمام الجَواد و العِبادة

عبادة الإمام.. في شَهْر رَجَب

قالَ السَيّد إبن طاووس في كتابه «الإقبال» : رُوِيَنا بإسنادِنا إلى جدّي اَبي جعفر الطوسي (رَضِيَ اللّه عَنهُ ) بإسناده إلى الريَّان بن الصَلت، قال:

صامَ أبو جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)- لَمّا كانَ بِبَغداد- يَومالنصف مِنْ رَجَب، ويَومسبع وعشرين مِنْه، وصامَ جَميعُ حَشَمِه، وأَمَرَنَا أَنْ نُصَلّي الصَلاة الَّتي هِیَ إثنَتا عَشرة ركعة، يُقرا في كُلِّ ركعة: الحَمْد و سورة، فإذا فَرغتَ [مِن الصلاة] قَرأتَ الحَمْدَ اَربَعاً،

ص: 240

و «قُلْ هُوَ اللّه اَحَد» أربعاً، والمعوذتين (1) اربعاً وقُلتُ:

«لا إله إلا اللّه، واللّه اكبر، و سُبحان اللّه، والحَمْدُ لله، ولا حَولَ و لا قُوَة إلّا باللّه، لا إلهَ إلّا اللّه، و اللّه اكبر، وسُبْحانَ اللّه، والحَمْدُ لله، ولا حَولَ و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم» أربعاً.

«اللّه رَبِّي لا أشرك به شيئاً» أربعاً.

«لا أُشرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» أربعاً (2).

هكذا حَجَّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

رُوِيَ عن الحُسَين بن أسلم، اَنّه قال:

ص: 241


1- المُعَوِّذتان: «قل أعوذ برب الفلق»، و «قُلْ اَعُوذُ بِرَبِّ قُلْ بِرَبِّ الناس»
2- کتاب «الإقبال» للسيّد إبن طاووس، الطبعة القَديمة، ص676، فصل 99، باب 88 «في غُسل وصَلاة و عَمَل اليَومالسابع و العشرين من رَجَب»، وج 3، ص 274 من الطبعة الحديثة

لما اَراد أبو جعفر-يَعني: ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَنْ يَقُصَّ شعره لِلعُمْرة، أَرادَ الحَجَّامُ أَنْ يَأخُذ من جَوانب الرأس، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) له: «إبدأ بالناصية» (1)، فَبَداً بها (2).

المَشي إلى رَمَي الجَمَرة.

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال:

رَاَیت اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)يَمْشي- بَعْدَيَوم

ص: 242


1- يَكونُ التّقْصير من العُمرة.. بتقليم الأظافر، أو قصَّ مِقَدار من شَعر الرأس أو اللحية. وقَد كانَ الحَجَّام- غالباً- يَجْمَع يجمع بَينَ مهنة الحجامة.. وحلق الرأس. وحينما أرادَ الحَجّامِ أَنْ يَقُصُّ الشعر من أطراف و جَوانب رأس الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالَ لَه الإمام: «إبدأ بالناصية»: اَي: إبدا بقَصّ الشَعر مِنْ مُقَدَّم راسي.. في أَعلى الجَبهة. المُحقّق
2- كتاب «الكافي» ج 4، ص 439، كتاب الحَج، باب «تَقْصير المُتَمتّع وإحلاله»، حديث5

النَّحْر- حَتَّى يَرْمي الجَمَرة، ثُمَّ يَنْصَرِف راكِباً (1) و كنت اَراه ماشياً بَعْدَما حاذى المَسْجِد بِمِنى (2).

بَعْض أَعمال الحَج:

رُوِيَ عن علي بن مهزیار، اَنّه قال: رَاَیت اَبا جعفر الثاني (عليه السلام)- في سَنَة خَمْس وعِشرين و مائتين (3)- ودَّع البَيت بَعْدَإرتفاع الشَمس، وطافَ بِالبَيت، يَسْتَلِمُ الرُّكنَ اليَماني في كُلِّ شَوط.

فَلَمّا كانَ في الشوط السابع.. إستَلَمَه [اَي: الرُّكن]

ص: 243


1- إنّ الإمام اَرادَ أَنْ يَمْشي في طريق الذهاب.. لاَنّه في حال عِبادة، ويُعتَبَر المَشيُ في طريق العِبادة.. لُغَة خُشوع و خضوع.. وتذلُّل لِلّه تعالى. أمَّا في حال الرجوع و العَودة.. فكانَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يركب الدابّة لاَنَّه قَد فرغَ مِن العِبادة. المُحقّق
2- کتاب «الكافي»، ج 4، ص 486، كتاب الحج، باب «الرمي عن العليل و الصبيان و الرمي راكباً»، حديث 5
3- الصّحيح: سَنَة خَمْس عشرة ومائتين، بقرينة التاريخ الّذي يَذكُره بَعْدَهذا

واستَلَمَ الحَجَر، ومَسَحَ بِيَدِهِ.. ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدِه، ثُمَّ أَتَى المَقامِ فَصَلَّى خَلْفَه ركعَتَين، ثُمَّ خَرَجَ إلى دُبُر الكعبة (1) إلى المُلْتَزَم (2) فالتَزَم البَيت، وكشَفَ الثّوب عن بَطْنِه، ثُمَّ وقَفَ عليه طَويلاً يَدعو، ثُمَّ خَرَجَ من باب الحَنّاطين.

قال: فراَيتُه سَنَة سَبْع عشرة ومائتين، ودَّع البيت لَيلاً، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ اليَماني و الحَجَر الأَسوَد في كُلِّ شَوط.

فَلَمّا كان الشوط السابع، إلتزم البيت في دُبُر الكعبة قَريباً من الرُكن اليماني، وفوق الحَجَر المُستَطيل، وكشَفَ الثَوب عن بَطْنِه.

ثُمَّ أَتى الحَجَر [الأسود] فَقَبَّلَه ومَسَحَه، وخَرجَ إلى المَقام فَصَلَّى خَلْفَه، ثُمَّ مَضى، ولَمْ يَعُدْ إلى

ص: 244


1- اَي: خَلْف الكعبة
2- المُلْتَزَمَ: مَكانٌ خلف الكعبة، سُمّي بهذا الإسم لآن الناس يَلْتَزمونَه، اَي: يَضُمُونَه إلى صدورهم. ويُسْتَحَب الإستغفار و الإكثار من الدُعاء والتضَرُّع إلى اللّه تعالى.. في هذا المَكان

البَيت، وكانَ وقوفُه على المُلتَزَم بِقَدر ما طافَ بَعْضُ أَصحابِنا سَبعة أَشواط، وبَعْضُهُم ثَمَانیَة (1).

الصَّلاة خَلْفَ مَقام إبراهِیَم

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال: رَاَیت اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) صَلَّى- حينَ زالت الشَّمْس يَومالتَروِيَة (2)- سِتَّ رکعات، خَلف المَقام وعليه نَعْلاه(3) لَمْ يَنْزَعْهُما (4).

ص: 245


1- كتاب «الكافي» ج 4، ص 532، كتاب الحَج، باب «وداع البيت»، حديث 3
2- يَومالتَروِيَة: هُوَ اليَومالثامن من شهر ذي الحجة، اَي: قَبْلَ يَومعرفة بيَومواحد. المُحقّق
3- المَقْصود هِیَ النَّعْل العربيّة الَّتيلا تَسْتُر ظَهْر القَدم، ولا تَمْنَع مِنْ أنْ يكون إصبع إبهام الرِجل.. لاصِقاً بالأرض.. في حال السُجود. و هذا يَدلُّ على جَواز الصَلاة مَعَ النَّعْل. المُحقّق
4- كتاب «تَهذيب الأحكام» ج 2، ص،2، ص 233، باب «ما يَجوز الصلاة فيه من اللباس»، حديث 126

الإمام الجَواد و الزُهد

لقَد كاَنتَ بساطة العَيش.. و الزُهد في المادّيات.. من أَبرز الأُمور في حياة أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومِنْهُم: الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و إليك الخبر الآتي:

رَوَى مُحمّد بن اورمة، عن الحُسَين المكاري، قال:

دَخَلْتُ على اَبي جعفر [الجَواد] بِبَغداد، وهُوَ على ما كانَ مِنْ اَمرِه، فَقُلتُ في نَفْسي-: هذا الرَجُل لا يَرجع إلى موطِنِه أَبداً، و اَناأَعرِف مَطعمَه. فأَطرقَ [الإمام] راسَه ثُمَّ رفعَه، و قَد اصفَرَّ لونُه فقال: «يا حُسين. خُبز شَعير و مِلح جَريش في حَرمِ رسولِ اللّه أَحَبُّ إليَّ

ص: 246

مِمّا تَراني فيها» (1).

توضيح الحَديث: إنّ راوي هذا الخَبَر.. لَمّا دَخَلَ على الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بغداد، ورأى الخَدَم و التَشريفات.. و أَنواع النعَم وسعَة الحال.. والرَخاء و الرفاه في المَاكل و المَسكَن، تَبادَر إلى ذِهنِه أَنّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) سوف لا يرجع إلى المَدينَة المُنَورة.. لِعَدَم توفّر هذه النعَم هُناك، بَلْ سَيَبْقى الإمام الجَواد في بغداد.. حَتَّى يَتَنَعَم بتِلكَ الوسائل المُتوفّرة لَدَيه.

فَاَخبَرَه الإمامُ عَمّا جالَ في ذِهنِه و قال له: «يا حُسَين خُبز شَعير... إلى آخِر كلامه.

ص: 247


1- کتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 48، باب «معجزاته (عليه السلام)»، حديث 25

رَسائل الامام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

تُوجَد في كُتُب الحديث.. رسائل كثيرة جدّاً، كتَبَها الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى بَعْض الأَفراد، وهِیَ تَتَناول مواضيع مُتعدّدة ومُتَنَوعة، تَرتَبِط بِكافّة المَجالات، في حَياة الإنسان.. و الأُسرة والمُجْتَمَع.

ونَحْنُ نَذكُر بعض تِلكَ الرَسائل في هذا الفَصل.. و سَوفَ نَذكر مَجموعة أُخرى مِنها في فصل «الإمام الجَواد يُجيب عن المسائل الفقهِیَة»، وقَد ذكرنا مَجموعة ثالِثة مِنها.. مُوزّعةً على فُصُول هذا الكتاب عِنْدَ حُصول المُناسَبة.

و قَبْلَ أَنْ نَبْدا بِذِكْر رَسائل الإمام.. في هذا الفَصل نَقول: إنَّ هذه الرَسائل تَحْتَوي على فوائد معنويّة

ص: 248

مُهِمَّة جداً، ويُعْتَبَر بَعضُها بِمَنزلة دُروس تَربويَّة وأخلاقيّة.. للذين يُريدون السَير في طريق المَعنَويّات و مِنْ خِلالِها نَتَوصَّل إلى حقائق مُهِمّة جدّاً، ومِنْها: إمكان وصول الإنسان إلى دَرجة عاليَة من الاَيمان والتَقوى، بحَيثُتَکُون لَهُ مَنْزلة رفيعةٌ عِنْدَ اللّه تعالى، و مَكانة واسِعة في قُلوب الأَئمَّة الطاهِرين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

وإليك بَعض هذه الرَسائل:

ص: 249

رَسائل الامام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى علي بن مهزيار

لَقَد كانَ عليُ بنُ مَهزيار الأَهوازي (رِضوَانُ اللّه عَلَيهِ) عالماً فَقيهاً، و من خَواصّ أَصحاب الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانَ يَمْتاز بمَكانة رفيعة عِندَ الإمام الجَواد. فَكانَ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَشمَلُه بِعَواطفه، ويَغْمُره بِمَشاعِرِه ورِعاَيته، ويَدعو اللّه تعالى لَه بِاَدعِيَة فريدة مِن نَوعها.

ونَحْنُ حِينَما نَتَدَبَّر في كلمات الرَسائل المُتَبادلة بَينَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و بَينَ علي بن مهزیار (رَحِمَهُ اللّه تعالى) نَحْصَل على عِبَر ودُروس نافِعة جِدّاً، إذ اَنّه كمْ يَلْزَم للإنسان أن يَصعَد في مَدارج الكمال..

ص: 250

حَتَّى يَصِلَ إلى درجةٍ يُخاطِبُه الإمام.. يمثل هذه الكلمات السامِيّة المُعَبِّرة؟!

كتب الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليه:

«قَد وَصَلَ إِلَيَّ كِتابُك، وقَد فَهِمتُ ما ذكرتَ فيه، و مَلأتني سُروراً!! فَسَرَّكَ اللّه، و اَنا أَرجو مِن الكافي الدافِع.. أن تُكفى كيدَ كُلّ كائد، إنْ شاءَ اللّه تَعالی» (1).

و في رسالةٍ أُخرى:

«وقَد فَهِمْتُ ما ذَكرتَ مِنْ اَمرِ القُميِّين- خَلَّصَهُمُ اللّه وفَرَّجَ عَنهُم- وسَرَرَتَني بما ذكرتَ مِنْ ذلك، و لَمْ تَزِلُ تَفْعَل، سَرَّكَ اللّه بِالجِنّة، ورَضِيَ عَنْكَ بِرِضاَي عنك، واَنااَرجُو من اللّه حُسْنَ العَون والرأفة، وأَقول: حَسبُنا اللّه ونعم الوكيل».

ص: 251


1- کتاب «رجال الكشّي» ص 550، الجزء السادس، حَديث 1040. و كذلك الرَسائل التالِيَة.. رواه_ا الكشي- اَيضاً- في كتابه

و في رسالةٍ ثالِثَة:

«فاشخص إلى مَنْزِلِكَ، صَيَّركَ اللّه إِلى خَيرِ مَنْزل في دنيا و آخرتك».

و في رسالة رابعة:

«و أسألُ اللّه أَنْ يَحفَظَكَ مِنْ بَينَ يديك ومِنْ خَلْفِك، وفي كُلِّ حالاتك، فأبشر، فإنّي اَرجُو اَنْ يَدفَعَ اللّه عَنْكَ.

وأَسألُ اللّه أَنْ يَجْعَلَ لَكَ الخِيَرة.. فيما عَزَمَ لك به عليه.. من الشُخوص في يَومالأَحَد، فاَخَّر ذلك إلى يَومالإِثنَين، إن شاء اللّه تعالى.

صَحِبَك اللّه في سَفَرِك، وخَلَفَك في أَهلِك، وأدّى غيبتك(1)، وسَلِمْتَ بِقَدرَتِه».

و كتبَ علي بن مَهزيار إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 252


1- اَدى غَيبَتَك: اَرجَعَكَ إِلَى أَهْلِكَ بَعْدَغِيابِك عَنهُم، َولَعَلَّ المَعْنى: مَلاً فَراغَكَ حِينَ غِيابِك عَنهُم. وفي نُسْخَةٍ: و أدّى عَنْكَ أمانتك. المُحقّق

يَساله أَنْ يَدعو له بالتَوسعة، وأَنْ يُحَلَّلَ ما في يَدَيه، فكتَبَ (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«وَسَّعَ اللّهُ عليك، و لِمَنْ سَالت بالتَوسِعة مِنْ أَهْلِك، ولأهلِ بَيتك ولَكَ- يا علي- عِندي اكثَر من التَوسعة (1).

و اَنااَساَلُ اللّه أن يُصحِبَك العافِيَة، ويُقَدِمَك على العافيَة، ويَسْتُرك بِالعافِيَة، اَنَّه سَميع الدُعاء».

و سَاله عليُ بن مَهزیار اَنْ يَدعو له.

فكتَبَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليه:

«وأما ما سالت من الدعاء، فإنك لَسْتَ تَدرى كَيفَ جَعَلَكَ اللّه عندي، وربَّما سَمَّيتُك باسمِك ونَسَبِك (2) مَعَ كثرة عِناَيتي بِك، و مَحَبَّتي لك، و مَعرفتي بِما اَنتَ عليه.

فادامَ اللّه لَكَ أَفضَلَ ما رزقَكَ مِنْ ذلك، ورَضِيَ عَنْكَ

ص: 253


1- و في نُسْخَةٍ: اكبر من التوسعة
2- اَي: عِنْدَ الدُّعاء لك

برِضاَي عَنْك، وبَلَغَكَ أفضلَ نِيَّتِك، وأنزلَكَ الفِردَوس الأَعلى بِرَحْمَتِه، اَنَّه سَميعُ الدُّعاء، حَفَظَكَ اللّه و تَولاك، ودفَعَ السُّوءَ عَنْكَ بِرَحْمَتِه، وكتَبْتُ بخطي (1)».

و في رسالةٍ أُخرى:

«بسمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحيم، يا علي أحسَنَ اللّهُ جَزاك، و أَسكَنَكَ جَنَّتَه، ومَنَعَكَ من الخِزي في الدُنيا و الآخِرة، وحَشَركَ مَعَنا.

يا علي، قَد بَلَوتُكَ وخَبَرتُكَ في النصيحة و الطاعة، و الخِدمة والتَوقير، والقيام بما يَجِبُ عليك، فَلو قُلتُ: إني لَمْ اَرَ مِثْلَك.. رَجَوتُ أن أكون صادقاً!!

فَجَزاك اللّه جَنَّاتِ الفردوس.

ولا خَفِيَ عَلَيَّ مَقامُك ولا خدمتك في الحَرِّ و البَرد

ص: 254


1- لَعَلَّ المَقْصود مِنْ عِبارة «وكتبتُ بِخَطي»: إني لم ادع كتابة هذه الرسالة لكاتبي، بَلْ كتَبْتُها بِخَطي، تَقَديراً لك.. وإظهاراً لِمَكانتك عِنْدي، ومَعَزّتك لَدَيَّ. وهذا يَدلُّ على مزيد خُصوصيّة العِلاقة بَينَ الإمام الجَواد و بَينَ علي بن مهزیار. المُحقّق

في اللَيل والنَهار، فأَساَل اللّه- إذا جَمَعَ الخلائق لِلقِيامة- أَنْ يَحْبُوكَ بِرَحْمَةٍ تُغْتَبَطُ بِها، اَنَّه سَميعُ الدُعاء».

اَیُّها القارىء الكريم

كانَ الغَرَضِ مِنْ ذِكْر رَسائل الامام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى علي بن مهزیار: هُوَ مَعْرفة كَيفَ أنّ الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يَشمَلون المُخلصين من شيعَتِهم.. بالعَواطِف والعناَية والرعاَية، مثل هذه الدَعَوات الَّتيهِیَ أَغلى من الدُنيا وما فيها!!

و يَروِيَ علي بن مهزيار الأَهوازي.. عن الأئمَّة الطاهِرين الّذین تشرَّفَ بِصُحبَتِهِم أَو مُراسلَتِهِم و مُكاتبَتِهِم.. الشيء الكثير، و قَد ذكرنا في المَواضِع المُناسِبة من كتابنا هذا.. أحاديث كثيرة.. رَواه_ا مِنْ على بن مهزيار.. عن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

لِلخَلاص مِن الزلازل

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال: كتَبْتُ إلى اَبي جعفر

ص: 255

(عَلَيهِ السَّلَامُ) و شكوتُ إليه كثرة الزلازل في الأَهواز، قُلتُ: تَرى لي التَحَوَّل (1) عَنهُا؟

فكتَبَ (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«لا تَتَحَوّلوا عَنهُا، وصُوموا الأَربعاء و الخَميس والجُمُعة، واغتَسِلوا وطَهِّروا ثيابكم، وابرزوا يَومَ الجُمُعة، وادعُوا اللّه، فإِنَّهيَدفَع».

قال: فَفَعَلْنا، فسكنت الزلازل (2).

ص: 256


1- التَحَوّل: مُغادرة المَكان.. والإنتِقال و الهِجرة إلى مَكانٍ آخَر
2- کتاب «بحار الأنوار» ج5، ص101، باب 28 «فضائله ومكارم أخلاقه (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 14

رسائل الإمام الجَواد إلى أَفراد آخَرين

لِقَضاء الدُيون

رُوِيَ عن إسماعيل بن سَهل، قال: كتَبْتُ إلى اَبي جعفر (صَلَواتُ اللّه عليه): إني قَد لَزِمَني دَين فادح (1).

فَكَتَبَ: «اكثر من الإستِغفار، ورَطّب لِسانَك بِقِراءَة (اِنّاأَنزلناه)» (2).

المُداراة خَيرٌ لَكَ مِن المُكاشَفة

رُوِيَ عن بَكْر بن صالح، قال:

كتَبَ صِهرٌ لي إلى اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 257


1- فادح: ثقِيلَ
2- کتاب «الكافي» ج5 ص 316- 317، باب «المَمْلوك يَتَّجِر فَيَقَع عليه الدين»، حدیث 51

إِنَّ اَبي ناصِب (1) خَبيثُ الراَي، وقَد لَقِيتُ مِنْهُ شِدَّة وجُهْداً، فَراَيك- جُعِلْتُ فِداك- في الدعاء لي.. وما تَرى.. جُعِلْتُ فِداك؟ أَفَتَرى أن أكاشفه أم أداريه؟ (2).

فَكَتَبَ [الإمامُ]: «قَد فَهِمْتُ كتابك و ما ذكرت فيه مِنْ اَمر اَبيك، ولَسْتُ اَدَعُ الدُّعاء لَكَ إِن شاءَ اللّه، و المداراة خَيْرٌ لَك مِن المُكاشفة، ومَعَ العُسْرِ يُسْر، فاصبِرْ إِنَّ العَاقِبَة لِلمُتَّقين، تَبَّتَكَ اللّه على ولاَية مَنْ تولیت، نَحْنُ و اَنتُم في وديعة اللّه الّذي لا تَضِيعُ وَدائعُه».

قال بَكر: فَعَطَفَ اللّه بِقَلْب اَبيه حَتَّى صارَ لا يُخالفه (3).

ص: 258


1- الناصب: المُعادي لاَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)
2- أكاشفه: اَي: أتكلّم مَعَه كلاماً صريحاً عن معتقَداتي الحَقَّة
3- كتاب «بحار الأنوار» ج 50، ص 55، باب «معجزاته عليهالسلام»، حدیث 30

رسالة إلى رَجُل ماتَ إبنُه

رُوِيَ عن ابن مهران، قال: كتَبَ أبو جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى رَجُل: «ذكرتُ مُصيبَتَك ب_ «علي» إبنِك، وذكرتَ اَنه كانَ أَحَبَّ ولدك إليك.

و كذلك اللّه «عَزّ وجَلٌ» إنَّما يَأخُذ من الولد و غيره- اَزکی ما عِنْدَ أهله، ليُعظم بِهِ أَجْرَ المُصاب بالمُصيبة فاعظم اللّه أجرك، و أحسَنَ عَزاك، وربطَ على قَلبِك، اَنَّه قَدير، وعَجَلَ اللّه عليك بالخَلَف، و أرجو أنْ يَكونَ اللّه قَد فَعَل، إن شاء اللّه» (1).

ص: 259


1- کتاب «الكافي»، ج 3، ص 203، باب «التعزية وما يَجِبُ على صاحب المُصيبة»، حديث 10

رسالة الإمام الجَواد إلى أحد الولاة الشيعة

رُوِيَ عن أَحمَد بن زكريا الصيدلاني، عن رَجُلٍ مِنْ بَني حَنيفة.. مِنْ أهل بُست و سَجِستان (1)، قال:

رافقتُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في السَنَة الَّتيحَجَّ فيها.. في أوّل خِلافة المُعْتَصِم، فَقُلتُ لَه- و اَنامَعَه على المائدة، و هناك جَماعة مِنْ أولياء السُلطان-: إنّ والينا- جُعِلْتُ فِداك- رَجُلٌ يَتَولّاكُمْ أَهلَ البيت، ويُحِبُّكُمْ، و عَلَيَّ في ديوانِه خَراج، فإن راَيتَ- جَعَلَني اللّهُ فِداك- اَنْ تَكْتُبَ إليه كتاَبا بالإحسان إليَّ اِنَّه- على ما قُلتُ- مِنْ مُحِبّيكُم أهلَ البَيت، وكتابُك يَنْفَعُني عِنْدَه.

فأَخَذَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) القِرْطاس و كتَب:

«بِسمِ اللّه الرّحمنِ الرّحيم، أمَا بَعْدَ، فإنّ مُوصِلَ

ص: 260


1- سِجِستان- مُعَرَّب سیستان-: مقاطعة واسعة في ايران. کتاب «القاموس» للفيروز آبادي. ويُحتَمل أن تَکُون- اَيضاً- إسمُ مَدينة كبيرة في أفغانستان

كِتابي هذا.. ذكرَ عَنْكَ مَذهَباً جميلاً، وإِنَّما لَكَ مِنْ عَمَلِكَ ما أَحْسَنْتَ فيه، فَأَحسِن إلى إخوانِك، واعلَم أنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) سائلُك عن مثاقِيلَ الذَرّ و الخَردَل».

قال: فَلَمًا ورَدَتْ سَجستان، سَبَقَ الخَبَرُ إلى الحُسَين بن عبد اللّه النيسابوري- و هُوَ الوالي- فاستَقْبَلَني على فَرسَخَين من المدينة (1) فَدفَعْتُ إليه الكتاب، فَقَبَّلَه ووَضَعَهُ على عَينيَه، ثُمَّ قال لي: ما حاجتك؟

فَقُلتُ: خَراجٌ عَلَيَّ في ديوانِك.(2)

فأَمَرَ بِطَرحِه عنِّي، و قالَ لي: لا تُؤدِّ خَراجاً مادامَ لى عَمَل.

ثُمَّ سأَلَني عن عِيالي، فاخبَرتُه بِمَبْلَغِهِم، فأَمَرَ

ص: 261


1- اَي: خَرَجَ الوالي إلى خارج البَلدَ.. مقَدار عشَرة كيلومترات تقريباً.. لاستِقبالي. المُحقّق
2- الديوان- هنا- السِجِلّ العام الّذي تُسَجَّل فيه الديون و الضرائب الَّتييُجْبَرُ الناس على إعطائها للدَولة

لي ولهُمْ بِما يَقوتُنا (1) و فَضْلاً (2). فَما أَدَّيتُ في عَمَلِه خراجا مادامَ حَيّاً، ولا قطع عنِّي صِلَتَه (3) حَتَّى مات(4).

مِنْ مَظاهر غَضَب اللّه على الخَلق

رُوِيَ عن مُحمّد بن الفَرَج، قال: كتَبَ إليَّ ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«إذا غَضِبَ اللّه (تبارك و تعالى) على خَلْقه تحاَناعن جوارهم» (5).

ص: 262


1- اَي: ما يَكْفي لِقُوتِنا، اَي: مَضْروفنا. المُحقّق
2- اَي: وزيادة عن مقَدار الكفاَية
3- صِلَتَه: هَداَياه الَّتيكانَ يَبْعَتُها بَينَ فَتْرة وأخرى. المُحقّق
4- كتاب «الكافي» ج 5، ص 111- 112، باب «مَنْ اذن له في أعمالهم»، حديث 6
5- کتاب «الكافي» ج 1، ص 343، کتاب الحجة، باب «في الغيبة»، حدیث 31

الإمام الجَواد و مواريث الأنَبيّاء

مواريث الأنَبيّاء: هِیَ الأشياء النفيسة القَيّمة.. الَّتيكانَ الأنَبيّاءُ يَتْركونَها لِلأوصياء مِنْ بَعْدَ هِم، فكاَنتَ تِلكَ الأشياء.. تَنْتَقِل مِنْ نَبيّ إِلى وَصيَّ، إلى اَنْ وَصَلَتْ إِلى نَبيّ الإسلام سيّدنا مُحمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).

و بَعْدَ وفاته إنتَقُلتُ تِلكَ المَواريث- مَعَ مَواريث رسول اللّه- إلى خَليفَته الشَرعي الإمام علي بن اَبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) و مِنْ بَعْدَهِ إلى الإمام الحَسَن المُجتَبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهكذا.. إلى أنْ وَصَلَتْ إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و مِنْ جُملة تِلكَ المَواريث:

ص: 263

1- قَميص النَبيّ ابراهِیَم (عَلَيهِ السَّلَامُ) الّذي كان على جِسْمِه حِينَ أُلقي في النار، فصَارَت النار لَه بَرْداً وسَلاماً.

2- عَصا النَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) الَّتي كاَنتَ تَصْنَع ما تُؤْمَر بِه.

- خاتم النَبيّ سليمان بن داود (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) الّذي كان إذا لَبِسَه.. يُسَخَرُ اللّه له المَلائكة والجِنّ والطيور والرياح.

و الآن.. إقرأ هذَين الخَبَرين:

1- رُوِيَ عن الحُسَين بن مُوسى بن جعفر، قال: راَيتُ في يَد اَبي جعفر: مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) خاتَم فضَّة ناحِل (1)، فَقُلتُ: مِثْلُكَ يَلْبَس

ص: 264


1- ناحل: دقيق. يُقال: سَيف ناحل: اَي: صار دقيقاً بِسَبَب كثرة الإستعمال، وبناءاً على هذا.. يَكونُ المَعنى: خاتَم ظهَرَ عليه اَثَارَ القَدم و كثرة الإستعمال، وذلك لأنّ حَلَقة الخاتَم.. كاَنتَ فضّة دقيقة. فاستَغرَبَ الراوي من اَنّ الإمام.. كَيفَ يَلْبَس ذلك الخاتم القَديم.. وهُوَ إبْنُ رسولِ اللّه.. و إمامُ الشيعة.. و صِهرُ الحاكم العبّاسي. المُحقّق

مثل هذا؟

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هذا خاتم سليمان بن داود (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)» (1).

2- رُوِيَ عن مُحمّد بن اَبي العَلاء، قال:

سَمِعْتُ يَحْيى بن اكثم- قاضي سامرّاء. فقال: بَينَا اَناذات يَوم دَخَلْتُ أَطوف بِقَبر رسول اللّه

فرَاَیت مُحمّد بن علي الرضا.. يَطُوف به (2) فناظرتُه في مَسائل عِنْدي، فاَخرَجَها إليَّ (3) فقُلتُ لَه: واللّه إنّي أريدَ أن أَسأَلَكَ مَسأَلة، وإنّي واللّه لاَستَحْيِي مِنْ ذلك.

فقالَ لي: اَناأُخبِركَ قَبْلَ أَنْ تَسْألني، تَسْألني عن الإمام!!

فقُلتُ: هُوَ- واللّهِ- هذا

ص: 265


1- كتاب «سَعْد السعود» للسيّد ابن طاووس، ص 236
2- اَي: بالقَبْر الشريف
3- اَي: أَجابَني عليها. وفي نُسخةٍ: فاَجابَني

فقال: اَناهُوَ.

فقُلتُ: عَلامة؟

فكاَنتَ في يَدِهِ عَصا، فنَطقَت وقالت: «إنَّه مولاَي.. إمامُ هذا الزَمان.. و هُوَ الحُجَّة» (1).

* * * *

تَوضيح الخَبَر: الظاهِر أنّ هذه العَصا هِیَ عَصا النَبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهِیَ الَّتي صَدَرَتْ مِنْها الأمور الخارِقَة لِلعادة، كانقِلابِها حَيَّةً تَسْعَى... و ثُعباَناتَلْقَف ما يَافِكون، وهِیَ مِنْ مَواريث الأنَبيّاء الَّتي وَصَلَتْ إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) ثُمَّ إلى خُلَفائه الشرعيّين واحِداً بَعْدَواحِد.

و قَد رُوِيَ عن الإمام مُحمّدالباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنَّه قال:

«كاَنتَ عَصا موسى لآدم، فصَارَت إِلى شُعَيب، ثُمَّ

ص: 266


1- کتاب «الكافي»، ج 1، ص 353، باب ما يُفْصَلُ بِه بَینَ دَعْوى المُحق والمُبْطِل.. في أمر الإمامة»، حديث 9

صَارَت إلى موسى بن عِمران، وإنَّها لَعِنْدَنَا، وإِنَّ عَهْدي بها آنفاً (1) وإنَّها لَتَنْطِقُ إذا استُنطِقَت...» (2).(3)

ص: 267


1- اَي: راَيتُها قَبْلَ مُدَّةٍ وَجيزة. المُحقّق
2- كتاب «إكمال الدين»، للشيخ الصدوق، ج 2، باب 58، حدیث 27
3- لَقَد ذكرنا هذا الحَديث.. في فَصل «الإمام الجَواد و الإجابة قَبْلَ السُؤال» و ذكرناه هُنا اَيضاً.. لِلمُناسبة والأَهمّية. المُحقّق

الإمام الجَواد و عِلم التوحيد

القائل بجسميّة اللّه

رُوِيَ عن الحَسَن بن العَبّاس بن جريش الرازي، عن بعض أصحابنا (1)، عن الطيَّب، يعني علي بن مُحمّد[الهادي] و عن اَبي جعفر الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) اَنَّهما قالا: «مَنْ قالَ بِالجِسْم.. فَلا تُعطوه من الزكاة شيئاً ولا تُصَلُّوا وَرَاءَه (2)» (3).

ص: 268


1- اَي: عن بعض الشيعة
2- المَقْصود مِنْ «مَنْ قال بِالجِسْم» : هُم المُجَسِّمة.. الّذین يعتقَدون بأنّ اللّه تَعَالَى جِسْم
3- كتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق، باب 6، حدیث 11

لا تُدركه أوهامُ القُلوب

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: كُنْتُ عِنْدَ اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَسَأَله رَجُل.. فَقال: أخبرني عن الرَبِّ (تبارك و تعالى) له اَسماء و صِفات في کتابه؟ و اَسماؤه وصِفاته هِیَ هُوَ؟

فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّ لِهذا الكلام وَجْهِیَن (1):

إِنْ كُنْتَ تَقول: هِیَ هُوَ، اَي: اَنَّه ذو عَدَد و كثرة، فَتَعَالَى اللّهُ عن ذلك.

و إِنْ كُنْتَ تَقول: هذه الصِفات و الاَسماء لَمْ تَزل فإِنّ «لَمْ تَزل» مُحتَمَل مَعنيين:

فَإِن قُلتُ: لَمْ تَزلُ عِنْدَه في عِلْمِهِ وهُوَ مُستَحِقُّها، فَنَعَمْ.

وإِنْ كُنْتَ تَقول: لَمْ يَزل تَصویرُها و ه_جاؤها

ص: 269


1- اَي: هُناك مَعنَيان.. يُحْتَمَلُ إرادةُ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما، مِنْ سُؤالك بهذا الشكل من التَعبير. المُحقّق

وتقطيعُ حُروفها، فَمَعاذ اللّه أنْ يَكون مَعَه شيء غَيرُه.

بَلْ كَانَ اللّه.. ولا خَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَها (1) وَسيلَةٌ بَينَه و بَينَ خَلْقِه.. يَتَضَرعونَ بِها إليه.. ويَعبُدونَه وهِیَ ذِكْرُهُ.

و كانَ اللّه ولا ذِكْر، و المذكور بالذِكْر هُوَ اللّهُ القَديم الّذي لَمْ يَزل. و الاَسماء والصِفات مَخلوقات.

والمَعاني والمَعنيُ بِها هُوَ اللّه الّذي لا يَليقُ بِهِ الإِختلاف و لا الإئِتلاف، وإنَّما يَختلف ويَاتَلف المُتَجَزّىء، فَلا يُقال: اللّه مُؤتَلف، ولا: اللّه قَليل ولا كثير، ولكنّه القَديمُ في ذاتِه.

لآن ما سوى الوَاحِد مُتَجَزّىء، واللّه واحد لا مُتَجَزّىء ولا مُتَوَهَّمُ بِالقِلَّة والكثرة، وكُلّ مُتَوهُم بِالقِلَة و الكثرة.. فَهُوَ مَخلوقٌ دالٌ على خالقٍ له.

فَقَولُك: (إِنَّ اللّه قَدير) خَبَّرْتَ اَنه لا يُعجزُه شيء

ص: 270


1- اَي: خَلَقَ اللّه الاَسماء

فَنَفَيتَ بالكلمةِ العَجْزَ، و جَعَلْتَ العَجْزَ سِواه.

وكذلك قَولُك: (عالِم) إنَّما نَفَيتَ بالكلمة الجَهْل، وجَعَلْتَ الجَهْل سواه.

و إذا أَفنى اللّهُ الأَشياءَ.. أَفنى الصُورة والهجاء والتقطيع، ولا يزال مَنْ لَمْ يَزل عالماً.

فَقالَ الرَجُلَ: فَكَيفَ سَمَّينا ربَّنا سَميعاً؟

فقال [الإمام]: لاَنَّه لا يَخفى عليه ما يُدرَك بِالأَسماع، ولَمْ نَصِفَهُ بِالسَمع المعقول في الرأس، وكذلك سَمَّيناه بَصيراً، لاَنَّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأَبصار، من لَونٍ أو شخصٍ أو غير ذلك، ولَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لحظة العَين.

و كذلك سَمَّيناه لطيفاً لعِلمهِ باِلشيءٍ اللَطيف، مِثْل: البَعُوضَة.. و أخفى مِنْ ذلك (1) و مَوضعِ النُشوء (2)

ص: 271


1- و في نُسْخَةِ: وأحقر من ذلك
2- النشوء: النُموّ. وفي نُسْخَةٍ: مَوضع المَشْي مِنْها. وفي نُسْخَةٍ ثالثَةٍ: مَوضع الشقّ مِنْها

منْها (1)، والعَقْلِ، والشَهوة لِلسِفاد (2) و الحدب على نَسلِها (3) و إقامِ بَعْضها على بَعْض (4)، ونَقلها الطعام و الشَراب إلى أَولادِها في الجِبال و المَفاوز (5) والأَوديَة و القِفار.

فَعَلِمْنا اَنَّ خالِقَها لَطيف بلا كَيفَ، وإنَّما الكَيفَيَّة للمخلوقِ المُكَيِّفَ.

ص: 272


1- لَعلَّ مَعْنى موضع النشوء مِنْها مكان الخَلْقَ مِنْها، و هِیَ الأجهزة التناسُليَّة.. الَّتييَتُمُّ مِنْ خِلالِها التلقيح.. الّذي هُوَ بداَية التكاثر والإنشاء، اَي: الخَلق. ولعلَّ المَعْنى: مَواضِع وجود أجهزة التّناسُل.. مِنْ جِسْم المَخلوقات. ويُمكن أَن يَكون المَقصود: طريقة الإنشاء و التكاثُر. المُحقّق
2- السفاد- بكسر السين-: التلقيح و عمليّة الجِنّس
3- الحدب: العَطف والشَفَقة
4- و في نُسْخَةٍ: وإفهام بعضها مِنْ بَعْض
5- المَفاوز- جَمْع مَفازة-: الصحراء الَّتيلا ماءَ فيها

وكذلك سَمَّينا ربَّنا (قويّاً) لا بقوّة البَطش المعروف منَ المَخلوق، و لَو كاَنتَ قوته قُوَّةَ البَطْش- المعروف مِن المَخلوق- لَوقَعَ التَشْبيه، ولاحتُمِلَ الزيادة، وما احتُملَ الزيادة.. احتُملَ النُقصان، وما كانَ ناقصاً كانَ غَيرَ قَديم، و ما كانَ غَير قَديم كان عاجزاً.

فَربُّنا (تَباركَ وتَعالى) لا شِبْهَ لَه ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ولا كَيفَ، ولا نهاَية، ولا تبصارَ بَصَر.

و مُحَرَّمٌ على القُلوب أنْ تُمَثِّلَه (1) و على الأَوهام اَنْ تُحِدَّه، وعلى الضَمائر أَنْ تُکُوِّنه (2)، جَلَّ و عَزَّ عن اَدات خَلْقِه، وسِماتِ بَريَّتِه، وتَعالى عن، وسمات بَريَّتِه، و تَعالى عن ذلك عُلُواً كبيراً» (3).

ص: 273


1- و في نُسْخَةٍ: أَنْ تَحتَمِله
2- و في نُسْخَةٍ: أَنْ تُكَيفَه. و في نُسْخَةِ: أَنْ تُصَوِّره
3- کتاب «الكافي» ج 1، ص 116- 117، کتاب التوحيد باب «معاني الاَسماء و اشتقاقها»، حدیث 7

مَعْنى الوَاحِد

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: سَاَلتُ اَبا جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما معنى الوَاحِد؟ فقال: «إجماعُ الاَلسُن عليه بِالوَحْدانيّة، كقَولِه تعالى: (ولَئِنْ سَالتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه (1)(2).

و رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري- اَيضاً- قال: سَالتُ اَبا جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما مَعْنى الوَاحِد؟

قال: «الّذي اجتماع الألسُن عليه بِالتَوحيد، كَما قال اللّه (عَزّ وجَلَّ): ( وَلَئِنْ سَالتَهُم مَنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضِ؟ لَيَقُولُنَّ (3) ) (4).

ص: 274


1- سُورة الزخرف، الاَية 87
2- کتاب «الكافي» ج 1، ص 118، کتاب التوحيد، باب «معاني الاَسماء و اشتقاقها»، حدیث 12
3- سورة لقمان، الاَية 25، وسورة الزمر، الاَية 38
4- کتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق، ص 83، باب «مَعْنى الوَاحِد والتوحيد و المُوَحّد»، حَديث 2

و رُوِيَ- اَيضاً- عن اَبي هاشم الجعفري، قال:

سَأَلت اَبا جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما مَعْنى الوَاحِد؟

قال: المُجتَمَع عليه بِجَميع الألسُن بِالوَحدانيّة» (1).

* * * *

اَيها القارىء الكريم، يُحْتَمَل أَن يَكون هَذا الحَديث والحَديث الّذي قَبّلَه.. حديثاً واحداً، وقَد جاءَ الإختِلاف في الكلمات.. عن طريق الأَفراد الّذي نَ رَوَوا هذا الحَديث عن اَبي هاشِم الجعفري.

مَعْنى «الصَمَد»

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: قُلتُ لاَبي قُلتُ جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): جُعِلْتُ فِداك، ما مَعْنى الصَمَد؟

ص: 275


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 3، ص 208؛ کتاب التوحيد، باب 6، حديث 2

قال: «السَيّد المصمود إليه في القليل والكثير» (1).

* * * *

و رُوِيَ- اَيضاً- عن اَبي هاشِم الجعفري قال: سَالتُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن «الصَّمَد»؟

فقال: الّذي لا سُرَّة لَه.

قُلتُ: فإِنَّه م يَقولون: اَنه الّذي لا جَوفَ لَه.

فقال: كُلُّ ذي جَوف له سُرَّة (2).

* * * *

قالَ العلّامة المَجلِسي (رَحِمَهُ اللّه): «الغَرَض: اَنه لَيسَ فيه تعالى صفاتُ البَشَر و سائر الحَيواَنات، و هُوَ أَحَدُ أجزاء معنى الصَّمَد.. كما عرفت (3)، وهُوَ

ص: 276


1- کتاب «الكافي» ج 1، ص 118، کتاب التوحيد، باب «تأويل الصَمَد»، حَديث 1
2- كتاب «بحار الأنوار»، ج 3، ص 229؛ كتاب التوحيد، باب 6، حديث 20
3- اَي: أحد المَعاني الَّتي تَتَضمَنُها مَعْنى كلمة «الصَمَد»

لا يَستَلْزم كونَه تَعالى جِسْماً مُصَمَّتاً (1) » (2).

مَسأَلة حَولَ التَوحيد

رُوِيَ عن الحُسَين بن سَعيد، قال: سُئِلَ ابو جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): يَجوز أن يُقال لله: اَنَّه شيء؟

فقال: «نَعَمْ، تُخْرِجُه مِن الحَدَّين: حَدَّ التَعْطيل و حَدِّ التشبيه» (3).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

إنّ كلمة «الشيء» تُطلَق على جَميع الكائنات و المَوجودات، ويَجوز أن تُطلق اَيضاً على اللّه سُبحاَنه، و لكِن مَعَ الإنتباه إلى أمرين:

ص: 277


1- المُصَمَّت: الّذي لا جَوفَ لَه
2- کتاب «بحار الأنوا»ر، ج 3، ص 229، كتاب التوحيد، باب 6. عِنْدَ شرح الحديث 20
3- كتاب «الكافي» ج 1، ص 82، كتاب التوحيد، باب إطلاق القول باَنه شيء، حدیث 2

الأوّل: أَنْ «تُخرِجَهُ مِنْ حَدَ التَعْطيل».

العُطلة- على وزن ظُلمة-: البقاء بِلا عَمَل، و مَعْنى التَعطيل- بِالنِسبة إلى اللّه تعالى- هُوَ إسناد العُطلة إليه، بِمَعنى إنكار صِفاته كالعلِم والقُدرة والخَلْق، وسائر صِفاته سُبحاَنه.

وهذا هُوَ حَدُّ التَعطيل وتَعريفُه.

ومَذهَب التَعطيل: هُوَ المَذهَب الّذي يُنكِرُ أَصحابُه صِفاتِ الباري (عَزَ و جَلٌ).

الثاني: «أن تُخرجَه مِن حَدَّ التشبيه».

اَي: أنْ تُنَزِّهَه عن صِفات المَخلوقين، وأَن لا تُشَبِّهَهُ بِالمَوجودات الأُخرى، وإنَّما تَقول: اَنَّه تعالى لَيسَ بِجِسْم، ولَيسَ كَمِثْلِهِ شيء.

و خُلاصَة القول: يَجوز إطلاق كلمة «الشيء» على اللّه (سُبحاَنه) بشَرط تَنْزيهه عَمّا لا يَليق به، واَنَّه شيء لا كالأَشياء، ولَيسَ كَمِثلِه شيء، واللّه العالِم.

* * * *

ص: 278

وقَد ذَكرَ العلّامة المَجلسي (طاب ثراه)- في توضيح ه_ذا الحديث-ما يلي:

حَدَّ التَعْطيل: هُوَ عَدَمَ إثبات الوجود أو الصِفات الكماليّة والفعليّة والإضافيّة له، وحَدَّ التَشبيه: الحُكم بالإشتِراك مَعَ المُمْكِنات في حَقيقة الصِفات (1) و عَوارض المُمكِنات (2).

ص: 279


1- المُمْكنات: جَمْع مُمكن. هُناك مصطلح بَينَ علماء العقائد.. اَنهم يُقَدمُون جَميع الأشياء.. إلى ثلاثة اقسام، وهِیَ: الأوّل: الواجب الوجود، وهُوَ (اللّه) جَلَّ إِسمُهُ. الثاني: المُمْكِن الوجود، مثل: البَشَر، أو غيره من سائر المَخلوقات. الثالث: المُمتَنع الوجود، مثل: شريك الباري. المُحقّق
2- عوارض المُمْكنات: ما يطرأ عليها مِنْ تَغَيُّرات وتبدلات، كالقَدرة والعَجْز، والموت و الفناء، والهرم والشيخوخة، و الضعف والقُوَّة، وغَير ذلكَ. المُحقّق

ما هُوَ التَّوحيد؟

رُوِيَ عن عَبد الرَحمن بن اَبي نَجران، قال: سَالتُ اَبا جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن التَوحيد، فَقُلتُ: اَتَوهّمُه شيئاً؟

فقال: «نَعَمْ، غَیرَ مَعقولٍ و لا مَحدود، فَما وقَعَ وَهُمُك عليه من شيء.. فَهُوَ خِلافَه، لا يَشْبَهُهُ شيء، و لا تُدركُه الأَوهام.

كَيفَ تُدركه الأوهام و هُوَ خِلافُ ما يُعقَل، وخِلافُ ما يُتَصوَّر في الأَوهام؟!

إنَّما يُتَوهّم شيء غَير معقول ولا محدود» (1).

مَسأَلة دقيقة حَولَ التَوحيد:

رُوِيَ عن عبد الرحمن بن اَبي نَجران، قال: كتَبْتُ إلى اَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ)- أو قُلتُ لَه-:

ص: 280


1- کتاب «الكافي» ج 1، ص 82، كتاب التوحيد، باب «إطلاق القول باَنه شيء»، حدیث 1

جَعَلَني اللّه فِداك، نَعبُدُ الرَحمنَ الرَحيمَ الوَاحِدَ الأحَدَ الصَّمَدُ؟

فَقال: «إِنَّ مَنْ عَبَدَ الإِسمَ دُونَ المُسَمّى.. أَشركَ وكفَرَ وجَحَد، ولَمْ يَعبُد شيئاً، بَل أُعبُدِ اللّه الوَاحِدَ الأحَدَ الصَّمَد.. المُسَمّى بهذه الاَسماء، دون الاَسماء (1) إن الاَسماء صِفاتٌ وَصَفَ بِها نَفْسَه» (2).

ص: 281


1- اَي: دونَ أَنْ تَعْبُدَ الاَسماء
2- كتاب «الكافي» ج 1، ص 87- 88، کتاب التوحيد، باب «المعبود»، حدیث 3

الإمام الجَواد و تفسير القرآن

لِمَ سُمِّيَ النَبيّ «الأمي»؟

رُوِيَ عن جعفر بن مُحمّدالصوفي، قال: سَاَلتُ اَباجعفر مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) و قُلتُ له: يابن رسول اللّه، لِمَ سُمِّيَ النَبيّ «الأُمِّي»؟

قالَ [الإمام]: ما يَقولُ الناس؟

قُلتُ لَه: جُعِلْتُ فِداك، يَزعُمُون انما سُمِّيَ النَبيّ« الأمي» لاَنه لَمْ يَكْتُب (1).

فَقالَ [الإمام]: كذبوا، عَليهِم لَعنةُ اللّه، اَنَّى

يَكون ذلك؟! و اللّه (تَبارك و تعالى) يَقول- في مُحْكم كتابِه-: ﴿ هُوَ الّذي بَعَثَ في الأميِّينَ رسولاً مِنْهُمْ

ص: 282


1- و في نُسْخَةِ: لَمْ يُحْسِن أَنْ يَكْتُب

يَتْلُو عَليهِمْ آیاتِهِ و يُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحكمة﴾(1)، فكَيفَ كانَ يُعَلِّمُهُم ما لا يُحْسِن؟و اللّه، لَقَد كانَ رَسولُ اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يَقرأ ويَكْتُب بإثنين وسبعين (أو قال: بِثَلاثة وسبعين) لِساَناً!

وإنَّما سُمِّي «الأمي»، لاَنَّه كانَ مِنْ أَهلِ مَكّة، ومَكَّة مِنْ أُمّهات القُرى، و ذلك قَولُ اللّه تعالى في كِتابه: ﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى و مَنْ حَولَها﴾ (2)،(3).

هذه كبائر الذنوب:

رُوِيَ عن عَبْد العَظيم الحَسَني، قال: حَدَّثَني أبو جعفر (صَلَواتُ اللّه عليه) قال: سَمِعْتُ اَبي يَقول: سَمِعْتُ اَبي: مُوسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول:

ص: 283


1- سورة الجمعة، الاَية 2
2- سُورة الشورى، الاَية 7.
3- کتاب «بصائر الدرجات» للشيخ المُحَدّث مُحمّ الحَسَن الصفّار القُمّي، المتوفّى سَنَة 290 للهجرة، الجزء الخامس، الباب الرابع، حديث 1

دَخَلَ عَمْرُو بنُ عُبيد (1) على اَبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَلَمّا سَلَّمَ وجَلَس.. تَلا هذه الاَية: ﴿والّذین يَجْتَنِبُونَ كبائِرَ الإثُمَّ و الفواحش﴾ (2) ثُمَّ اَمسَكَ، فَقالَ لَه أبو عبد اللّه [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما أَسكتَك؟

قال: أحِبُّ أنْ أعرف الكبائر مِنْ كِتابِ اللّه (عَزّ وجلّ).

فَقال: نَعَمْ، يا عَمْرو، اكبَرُ الكَبائر: الإشراك بِاللّه، يَقولُ اللّه: ﴿ا َنه مَنْ يُشرك بِاللّه فَقَد حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجِنّة ﴾ (3).

وبَعْدَ ه: الاَياس مِنْ رَوحِ اللّه، لان اللّه (عَزّ وجَلَّ) يقول: ﴿ اَنه لا يَيْأَسُ مِنْ رَوحِ اللّه إلّا القَومُ الكافِرون ﴾ (4).

ثُمَّ الأَمنُ مِنْ مَكْرِ اللّه، لأنَّ اللّه (عَزَّ وَ جَلَّ) يَقول: ﴿ فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللّه إلا القوم الخاسرون﴾ (5).

ص: 284


1- هُوَ المُعْتَزلي المشهور
2- سورة الشورى، الاَية 37
3- سورة المائدة، الاَية 72
4- سورة يوسف، الاَية 87
5- سورة الأعراف، الاَية 99

ومِنْها: عُقوق الوالِدَين، لأَنّ اللّه (سُبْحاَنه) جَعَلَ العاقَّ جَبّاراً شَقِيّاً.

وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتيحَرَّمَ اللّه إِلا بِالحَقِّ، لأنّ اللّه (عَزَوجَلٌ) يَقُول: ﴿فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالداً فيها...﴾ (1).

و قَذف المُحْصَنة، لأنّ اللّه (عَزّ وجَلٌ) يَقول: ﴿لعِنُوا في الدُنيَا والآخِرة، ولَهُمْ عَذَابٌ عَظيم﴾ (2).

و أكْلُ مالِ اليَتيم، لأَنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول: ﴿ إِنَّما يَاكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً و سَيَصْلَونَ سَعيراً﴾ (3).

و الفِرارُ مِنَ الزَحْفِ، لاَنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول:

﴿ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَومئِذٍ دُبَرَهُ- إلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتال أو مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ- فَقَدباءَ بِغَضَبْ مِن اللّهِ، ومَاواهُ جَهَنَّمُ، وبِئْسَ المَصِير ﴾ (4).

ص: 285


1- سورة النساء، الاَية 93
2- سورة النور، الاَية 23
3- سورة النساء، الاَية 10
4- سورة الأنفال، الاَية 16. والمُتَحَرِّف: هُوَ المُقاتل الّذي يُريدُ الكرَّ بَعْدَالفَر، اَي: يَفِرّ حَتَّى يَخْدَعَ العَدُو بانسحابه.. ثُمَّ يبدا الهجوم مِنْ جَديد. المُحقّق

و اكلُ الرِبا، لأَنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يقول: ﴿ الّذي نيَاكُلُونَ الرِبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطانُ مِنَ المَس﴾ (1).

والسحر، لأنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول: ﴿ولَقَد عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاق﴾ (2).

و الزنا، لأنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَلقَ آثاماً، يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَومالقيامةِ

ويَخْلُدْ فِيهِ مُهاَنا﴾ (3).

و اليمينُ الغموس الفاجِرة (4)، لاَنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول: ﴿إِنَّ الّذین يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه و اَيمَاَنهمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ في الآخرة﴾ (5)

و الغلول، لأنّ اللّه (عَزَ و جَلّ) يقول: ﴿ ومَنْ يَعْلُلْ

ص: 286


1- سورة البقرة، الاَية 275
2- سورة البقرة، الاَية 102
3- سورة الفرقان، الاَية 68- 69
4- اليمين الغموس: هِیَ اليَمين الكاذبة الفاجرة
5- سورة آل عمران، الاَية 77

يَاتِ بِما عَل يَومالقيامة ﴾ (1)

و مَنْعُ الزكاة المَفروضَة، لأَنَّ اللّه (عَزّ وجَلٌ) يَقول: ﴿ فَتُكوَى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ و ظُهُورُهُم ﴾ (2).

و شَهادةُ الزُور.

وكِتمانُ الشَهادة، لأنَّ اللّهَ (عَزّ وجَلٌ) يَقول: ﴿ ومَنْ يَكْتُمُها فَاِنَّهآثُمٌّقَلبُهُ﴾ (3).

و شُرْبُ الخَمْر، لأنَّ اللّه (عَزَ و جَلَّ) نَهى عَنهُا كما نَهى عن عِبادة الأَوثَان.

و تَركُ الصَّلاة مُتَعَمِّداً أو شيئاً مِمَّا فَرَضَ اللّه، لأَنَّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «مَنْ تَرك الصلاة مُتَعَمِّداً فَقَد بَرِيءَ مِنْ ذِمَةِ اللّه و ذِمّةِ رسولِ اللّه».

ونَقْضُ العَهْد، وقطيعةُ الرَحِم، لأَنَّ اللّه (عَزّوجل)

ص: 287


1- سورة آل عمران، الاَية 161. الغُلول: الخيانة في غنائم الحَرْب، أو اَي نوع من أرباح الأموال. المُحقّق
2- سورة التوبة، الاَية 35
3- سورة البقرة، الاَية 283

يقول: ﴿ أُولئِكَ لَهُمُ اللَعْنَةُ ولَهُمْ سُوء الدار﴾ (1).

قال: فَخَرَجَ عَمْرو، ولَهُ صُراخ مِنْ بُكائه، وهُوَ يَقول: هَلَكَ مَنْ قالَ براَيه، ونازَعَكُمْ في الفَضل والعِلم (2).

تَفسیر «ما أُهِلَّ لِغَيرِ اللّه»:

رُوِيَ عن عبد العَظيم بن عبد اللّه الحَسَني، اَنَّه قال: سَالتُ اَبا جعفر مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن «ما أُهِلَّ لِغَيرِ اللّه»؟

قال: «ما ذُبِحَ لِصَنَم، أو وَثَنٍ، أو شَجَر، حَرَّمَ اللّهُ ذلك.. كما حَرَّمَ المَيتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزير ﴿ فَمَنِ اضْطَرَّ غَيرَ باغ و لا عادِ فَلا إنمَ عَلَيهِ ﴾ (3) أَنْ يَاكُلَ الميتة».

ص: 288


1- سورة الرعد، الاَية 25
2- كتاب «الكافي»، ج 2، ص 285- 287، كتاب «الاَيمان والكفر»باب «الكبائر»، حديث 24
3- سورة البقرة، الاَية 173

فَقُلتُ لَه: يابن رسولِ اللّه مَتى تَحِلَّ المَيتَة لِلمُضْطَرّ؟

فَقال: «حَدَّثَني اَبي، عن اَبيه، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) : أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) سُئل..فَقِيلَ له: يا رسول اللّه اَنانَكُونُ بِأَرضِ فَتُصِيبُنا المَخْمَصَة (1) فَمَتى تَحِلُّ لَنا المَيِّتَة؟

قال: ما لَمْ تَصْطَحِبُوا (2) أو تَعْتَبقوا (3)، أو تَحْتَفوا بَقْلاً (4) فَشَانَكُم بِهذا (5).

قالَ عَبدُ العَظيم: فَقُلتُ له: يابنَ رسولِ اللّه فَما

ص: 289


1- المَخمصة: المَجاعة
2- اَي: مالَمْ تَکُونوا قَد اصطحبْتُم مَعَكُم طعاماً تاكلونه
3- اَي: ما لَمْ يَكُن مَعَكُم طعام خفيف يَسُدّ الجُوع.. كالّذي يُؤكل وقت العصر.. في زماننا هذا. والغبوق: ما يُشرَب بالعَشِيّ، كما في كتاب «المعجم الوسيط»
4- اَي: ما لَمْ يَكُن حواليكم بَقْل أو عشب يصلح للاكل
5- اَي: إذا لَمْ تَجِدُوا هذه الأشياء المذكورة.. يجوز لَكُمْ أكل الميتة

مَعْنى قوله (عَزّ وجَلَّ): ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ باغٍ ولا عاد﴾؟

قال: العادي: السارق. والباغي: الّذي يَبغي الصَيد بَطَراً و لَهْواً، لا ليَعودَ به على عِيالِه، لَیسَ لَهُما اَنْ يَاكُلا المَيتة إذا اضطرًا، هِیَ حَرام عَليهما في حالِ الإِضطِرار، كما هِیَ حَرام عليهما في حالِ الإختِيار، و لَيسَ لَهُما أَنْ يُقَصِّرا في صَومٍ ولا صَلاة في سَفَر.

قال: قُلتُ لَه: فَقولُ اللّه تعالى: ﴿ والمُنْخَنِقَةُ و المَوقُوذَة والمُتَرَدِّيةُ والنَّطِيحَةُ و ما أكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيتُم﴾؟ (1).

قال: المُنْخَنقَة: الَّتيانخَنَقَت بإخناقِها حَتَّى تَمُوت.

و المَوقُوذة: الَّتيمَرِضَتْ و وقذَها المَرَض حَتَّى لَمْ تَكُن بها حَرَكة.

والمُتَرَدِّية: الَّتيتَتَرَدَى [اَي: تَسقُط] مِنْ مَكان

ص: 290


1- سورة المائدة، الاَية 3

مُرتَفَع.. إلى أَسَفل، أو تَتَردّى مِنْ جَبَلٍ أو في بِشْرٍ فَتَمُوت.

والنَّطِيحَة: الَّتيتَنْطحها بهِیَمة أُخرى فَتَمُوت.

و ما أكل السَّبُعُ مِنْهُ.. فَمات (1)، و ما ذُبِحَ على حَجَرٍ أو على صَنَم، إلّا مَا أَدرِكت ذكاتُه فَذُكِّي.

قُلتُ: ﴿وَاَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزلام﴾ (2)؟

قال: كانوا في الجاهِليّة يَشتَرونَ بَعِيراً فيما بَينَ عَشَرة اَنفُس (3)، ويَستَقْسِمُونَ عليه بالقِداح (4)، وكاَنتَ عَشرة، سَبعة لَهُم أنصِباء [جَمْع نَصِيب] وثَلاثة لا

ص: 291


1- اَي: ما أكل السبع مِنْهُ، فَمات بِسَبَب ذلك. والسَبْع يَسْمَل الحيواَنا ت الَّتيهِیَ مِنْ فَصيلة السباع كالاَسَد والنِمر و الفَهْد و الذِئب. المُحقّق
2- سورة المائدة، الاَية 3
3- اَي: يَشترك في دَفْعِ ثَمَن البعير عشرة أفراد
4- القَداح- جمع القِدح- وهِیَ: قطعة مِنْ خَشَب تُصنع بطريقة مُعَيَّنة.. ويُرسَم عليها بَعض النُقوش.. و كانَ يُستَعمَل في المَيسر، كما يُستَفاد مِنْ كتاب «المُعْجَم الوسيط». المُحقّق

اَنصِباء لها، أمّا الَّتيلها أَنصِباء: فالفذّ والتوام و النافس، والحلس و المسبل و المعلّى و الرقيب. و أما الَّتي لا أَنصِباء لها: فالسفح و المنيح والوغد.

و کانوا يُجيلُونَ السِه_ام بَينَ عَشَرة، فَمَنْ خَرَجَ بإِسمُهُ سَهم- من الَّتيلا أنصباء لها- ألزِمَ ثُلُثَ ثَمَن البَعير، فَلا يَزالون كذلك حَتَّى تَقَع السِهام الَّتيلا اَنصِباء لَها إلى ثَلاثة، فَيُلزمونَهُم ثَمَنَ البَعير، ثُمَّ يَنْحَرونَه، ويَاکُلُه السَبعة الّذین لَم ينقَدوا في ثَمَنه شَيئاً ولَمْ يُطْعِمُوا مِنْه الثلاثة- الّذین وفَّروا ثَمَنَه – شيئاً.

فَلَمّا جاءَ الإسلامُ حَرَّمَ اللّه (تَعَالَى ذِكْرُهُ) ذلك فيما حَرِّم، و قال: و ﴿أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزلام، ذلِكُمْ فِسْق﴾ يعني حراماً (1).

مَعْنى «أولى لَكَ فَأُولى»:

رُوِيَ عن عبد العظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر الثاني

ص: 292


1- كتاب «تَهذيب الأحكام»، ج 9، ص 83- 84، باب 2 «الذبائح- والأطعمة»، حديث 89

(عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سَالتُه عن قَولِ اللّه (عَزّ وجَلّ): ﴿ أولى لَكَ فَأُولى، ثُمَّ أولى لَكَ فَأولى ﴾؟ (1)

قال: يَقولُ اللّهُ (عَزَ و جَلَ): بُعْدَاً لَك مِنْ خَيرِ الدُنيا، وبَعْدَاً لَكَ مِنْ خَير الآخِرة (2).(3).

عقوق الوالدَين مِنَ الكبائر:

رُوِيَ عن عبد العَظيم بن عبد اللّه الحَسَني، عن مُحمّد بن علي [الجَواد] عن اَبيه، عن جَدّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «سَمِعْتُ اَبا عبد اللّه [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقول: عُقوق الوالدين من الكبائر، لأنّ اللّه(عَزّوجل) جَعَلَ العاقَ عَصيّاً شَقيّاً» (4).

ص: 293


1- سورة القيامة، الاَية 34- 35
2- کتاب «بحار الأنوار»، ج 93، ص 142، باب 130، حدیث 2
3- المُخاطب في هاتين الاَيتين هُوَ «أبوجه_ل» كما ورد ذلك في بعض كُتُب تَفسير القرآن الكريم. المُحقّق
4- كتاب «عِلل الشرائع» للشيخ الصدوق، ج 2، ص 636- 637، باب 229: «العِلة الَّتي مِنْ أجلِها حَرُمَ عُقُوق الوالدين»، حديث 2

قَدفُ المُحصنات.. من الكبائر

رُوِيَ عن عبدالعظيم بن عبد اللّه الحَسَني، عن مُحمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: حَدَّثَني اَبي قال: سَمِعْتُ اَبي يَقول: سَمِعتُ جعفر بن مُحمّد(عَلَيهِما السَّلَامُ) يقول: «قَدفُ المُحْصَنات.. من الكبائر، لاَنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) يَقول: ﴿ لُعِنُوا في الدُنيا والآخِرة، و لَهُمْ عَذابٌ عَظيم (1)﴾» (2). (3)

ص: 294


1- سورة النور، الاَية 23
2- بما أنّ الإمام إستدل بهذه الاَية.. على أنّ، «قَذَفَ المُحْصَنات» من الكبائر، فإِنَّه يُمكِن أَن يُستفاد أنّ كُلَّ مَعصِيَةٍ وَرَدَ فيها اللَعن- في القُرآن الكريم- فَهِیَ تُعتَبَر مِن الكبائر. المُحقّق
3- كتاب «عِلَل الشرائع» للشيخ الصدوق، ج 2، ص 638، باب 231: «العِلَّة الَّتي مِنْ أَجْلِها حَرُمَ قَذف المُحْصَنات» حديث 2

جزاء المُحارب المُفسِد

قالَ اللّه تعالى: ﴿إِنَّما جَزاءُ الّذین يُحارِبُونَ اللّهَ و رَسولَهُ و يَسْعَونَ في الأَرضِ فَساداً: أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ اَيديهِم و اَرجُلُهُمْ مِنْ خِلافِ أَو يُنْفَوا مِنَ الأرض... ﴾ (1) رُوِيَ عن علي بن حسان، عن اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: مَنْ حارَبَ اللّه وأَخَذَ المال و قَتَل، كانَ عليه أَنْ يُقتَل ويُصْلَب، ومَنْ حاربَ و قَتَلَ و لَمْ يَأخُذ المال.. كانَ عليه أَنْ يُقتَل ولا يُصْلَب.

و مَنْ حارَبَ فأَخذَ المال و لَمْ يَقتُل.. كانَ عليه أَن تُقطَعَ يَدُه و رِجلُه مِنْ خِلاف (2).

ومَنْ حارَبَ (3) ولَمْ يَأخُذ المال ولَمْ يَقْتُل.. كانَ عليه

ص: 295


1- سورة المائدة، الاَية 33
2- مِنْ خِلاف: اَي: إذا قُطِعَتْ يَدُه اليُمنى.. يَلْزَم قَطع رِجْلِه الَيسَ رى، أما إذا قُطعَتْ يَده الَيُسرى.. فإن اللازم قَطع رِجلِه اليُمنَى. المُحقّق
3- المَقْصود مِنْ «مَنْ حاربَ»- هُنا-: هُوَ الّذي حاربَ اللّهَ تعالى مِن خِلال الإفساد في الأَرض، كالّذي يُسَبّب الإرهاب و الإرعاب لِلآخَرين، من دون أَن يَقْتُل أو يَسْرِق. المُحقّق

اَنْ يُنْفِى (1).

ثُمَّ استَثْنى اللّه(عَزّوجَلّ) فَقال: ﴿ إِلَّا الّذین تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَدِرُوا عليهِم ﴾ (2) يَعْني: (يَتُوبُ مِنْ قَبْلِ اَنْ يَأخُذهم الإمام) (3).

مِن اَينَ تُقطَعُ يَدُ السارِق؟

إعتَرفَ رَجُل على نَفْسِه بالسَرِقة، في اَيام المُعتَصِم فاَرادَ المُعتَصِم أنْ يَامُرَ بإجراء الحَدّ على ذلك السارِق.. و ذلك بِقَطع يَدِهِ، لكنَّه كانَ يَجْهَل الحُكْمَ الشرعي في ذلك، فَجَمَعَ فُقَهاء البِلاط.. وأَمَرَ بإحضار الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لِيُحَدِّدوا المِقَدار الّذي يَلْزَم قَطعُه مِنْ يَد السارِق.

و أخيراً.. وَجَّهَ المُعتَصِم السُؤالَ إلى الإمام الجَواد

ص: 296


1- يُنفى: يُبَعْدَإلى بَلَد آخَر، ولا يُسْمَح لَه الإقامة في بَلَدِه
2- سورة المائدة، الاَية 34
3- كتاب تفسير القُرآن الكريم، للعالم الجليل.. علي بن إبراهِیَم القمي، عِنْدَ تَفسير الاَية 34 من سورة المائدة

(عَلَيهِ السَّلَامُ). فقال الإمام: القَطع يَجِب أَنْ يَكون مِنْ مِفصَل الأَصابع.. دونَ الكفّ، لأَنّ الكفّين مِن الأَعضاء سَبْعة.. الَّتي يَلْزَم وضعُها على الأَرض.. عِنْدَ السُجود في حال الصَلاة (1) و استَدلَّ الإمامُ على كَلامِه.. بالآية القُرآنيَّة الَّتي تَقُول: وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلّه، فَلا تَدعوا مَعَ اللّه أَحَداً﴾ (2).

اَيُّها القارىء الكريم

سَوفَ نَذكُر تفصيل هذا الخَبَر.. في فَصل «سَبَب قَتْل الإمام الجَواد (عليه السلام) في اَواخر هذا

الكتاب.. إن شاءَ اللّه تَعالى.

ص: 297


1- کتاب «بحار الأنوار» للشيخ المَجلِسي، ج50، ص5، باب «مولده و وفاته و أسمائه و القابه (علیه السلام)»، حديث 7، وقَد نَقَلْنا الحديث بالمضمون
2- سورة الجِنّ، الاَية 18

لا تُدركه الأبصار:

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: قُلتُ لاَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (سائلاً عن معنى) ﴿لا تُدْرِكَهُ الأبصار، و هُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ (1)؟

فقال: «یا اَبا ه_اشِم.. أَوه_امُ القُلوب اَدَقَّ مِن اَبصارِ العُيون، اَنتَ قَد تُدْرِكُ بِوَهْمِك السِند والهِند و البُلدانَ الَّتي لَمْ تَدخُلْها، ولا تُدركها بِبَصَرِك، وأَوهامُ القُلوبِ لا تُدركُه.. فكَيف َأبصار العُيون؟!» (2).

مَعْنى «الاَحَد»

رُوِيَ عن اَبي هاشم الجعفري، قال: قُلتُ لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ﴿ قُلْ هُوَ اللّه أحد﴾ ما معنى الأَحَد؟

ص: 298


1- سورة الأنعام، الاَية 103
2- کتاب «الكافي»، ج 1، ص 99، كتاب التَوحيد، باب «في إبطال الرؤية»، حدیث 11

قال: المُجْمَع عليه بِالوَحْدانيّة، أما سَمِعْتَه

يَقول: ﴿ولَئِنْ سَالَتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللّه ﴾ (1) ثُمَّ يَقولونَ بَعْدَذلك.. لَهُ شَريك و صاحِبَة؟؟!!(2)

* * * *

قال العلّامة المجلسي (عليه الرَحمة): قَولُه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بَعْدَذلك» : إِستِفهام على الإنكار، اَي: كَيفَ يَكُون له شَريك و صاحِبَة.. بَعْدَإجماعِ القَول على خِلافِه؟ (3)

ص: 299


1- سورة العنكبوت، الاَية 61
2- كتاب «الإحتِجاج » للعلامة الطبرسي، ج2، ص 465، باب «احتَجَّ اج اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في أنواع شتّى مِن العُلوم الدينيّة»، حديث 319
3- كتاب «بحار الأنوار»، ج 3، ص 208، باب 6، حديث 3

كلمة «اَمير المؤمنين»

هناك اَخبارتاريخيَّة.. تَذكُر بأَنَّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) خاطَبَ المُعْتَصِم العَبّاسي.. بِكلمة «یا أمیر المؤمنين».

و هُنا سُؤال يَتَبادر إلى الذِهن: ما هُوَ التَحليل الدِيني لمُخاطبة الحاكم الجائر.. بهذا اللقب؟!

للإجابة على هذا السُؤال.. نَقول: اِنَّه على فَرض صِحَّة هذه الاَخبارالتاريخيَّة، فإنَّنا نَذكُر الإجابة.. بَعْدَمُقَدمة تَمْهِیَديَّة، نَقولُ فيها:

لقَد كاَنتَ كلمة (اَمير المؤمنين) لَقَباً خاصّاً بالإمام علي بن اَبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لَقَّبَهُ بِه رسولُ اللّه

ص: 300

كلمة «اَمير المؤمنين»

(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) لا يُشاركُه فيه أحَد مِنْ أئمَّة أَهل البَيت.. فَضلاً عن غيرهم.

ولكن.. لمّا انقَلَبَتْ الأمور يَومَ السَقيفة، وسَلَبُوا الإمامَ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كُلَّ إمكانيّاته، و اَزاحُوه عن مَسْنَد الحُكْم و القِيادة الإسلاميّة، سَلَبوهُ إختِصاصَ هذا اللَقَب اَيضاً، ولَقَّبوا بِهِ أَنفُسَهُم!

و بَعْدَأنْ كانَ هذا اللَقَب خاصّاً بالإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) صارَ عامّاً يُطلَق على كلِّ مَن استَولى على مَنَصَّة الحُكم و القِيادة، حَتَّى صارَ يُطلق على ابنِ آكلةِ الأكباد و على نَغْلِه «يَزيد»، و على مَن جاءَ بَعْدَه.. مِنْ أَرجاس بَني أُميّة.. مَنابِع الفساد، وجَراثيم الرَذائل.

و لمّا انقَرَضَت الحكومةُ الأَمويّة المُلَوّثة القَذِرة، و انتَقَلَتُ إلى بَني العَبّاس- الّذین كانوا اَرجَس و اَنجَس و أَخبَث مِنْ بَني أُميّة- تَلَقَّبُوا اَيضاً بهذا اللَقَب المُقَدس.

و معنى ذلك.. أنّ هذا الَلَقب صارَ رَمْزاً لِلخِلافَة و صارَ عَلَماً لِكُلِّ خَليفة.. كائناً مَن كان، و بهذا العَمَل

ص: 301

زالَتْ قَدسِيّة هذا اللَقَب، وتَبَخَرَتْ شرافتُه و كرامتُه.

و هناك كلمات و مَواقف صَريحة.. لأئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) حَولَ هذا اللَقَب، وهِیَ تَكْشَفُ لَنا حَقائق مُهِمّة، وتُرشدنا إلى أَسرار و مَعاني دَقيقَة.. لا يُستَغْنى عَنهُا.

لَقَد وَردت أحاديث كثيرة- مَذكورة في الجُزء السابع والثلاثين مِن كتاب «بحار الأنوار» من صفحة 290 إلى 340- حول إختصاص هذا اللقب بالإمام علي بن اَبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)- ونَحْنُ نَقْتَطِف من تِلكَ الأَحاديث حَديثَين بِمُناسَبة مَوضوع بَحْثِنا هُنا:

1- دَخَلَ رَجُلٌ على الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قال: السلام عليك يا اَمير المؤمنين.

فقامَ الإمامُ على قَدمَيه وقال: «مَهْ!! هذا إسمٌ لا يَصْلُحُ إلا لاَمير المؤمنين (يعني عليّاً (عليه السلام)) سَماهُ اللّه به، ولَمْ يُسَمَّ بِه أَحَدٌ غَيرَه.. فَرَضِيَ إلا كانَ مَنْكوحاً، و إِنْ لَمْ يَكُنْ بِه.. اَبَتلِيَ بِه!! و هُوَ قَولُ اللّه في كتابه: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا اَنا ثاً، وإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاَنا

ص: 302

مريداً﴾ (1).

قال: قُلتُ: فَماذا يُدعى بِه قائِمُكُم؟ (2)

فقال: «يُقالُ لَه: السَلامُ عليك يا بَقيّةَ اللّه، السلامُ عليك يابنَ رسولِ اللّه» (3).

و جاءَ في كتاب «مناقب آل اَبي طالب»:

«و لَمْ يُجَوِّز أصحابنا أَن يُطلق هذا اللَفظ لِغَيره [اَي: لغَير الإمام علي] من الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) »(4).

2- وقال رَجُل- للإمام الصادق (عليه السلام)-:

ص: 303


1- سورة النساء، اَية 117. أقول: لَعَلَّ وجه الإستشهاد بقوله تَعالى: ﴿ إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِه إلا إِناثاً ﴾ هو وجود الشَبَه بَينَ الرّجُل المَنْكُوح.. و المرأة المَنْكُوحَة
2- يَقصُد ب_ «القائم» : الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه تَعالى فَرَجَه)
3- کتاب «بحار الأنوار» ج 37، ص 332، باب 54، حديث 70
4- کتاب «مَناقِب آل اَبي طالب»، لابن شهر آشوب، ج 3، ص 55 «فصل: في اَنَّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَمير المؤمنين والوزيرو الأمين»

يا اَمير المؤمنين.

قال: «مَه!! اَنَّه لا يَرضى بهذه التَسْمِيَة اَحَدٌ إِلا اَبتُلِيَ بِبَلاء اَبي جَهْل (1)» (2).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

بَعْدَإستِعراض هذين الحَديثَين (3)، تَنْكشِفُ لَنا

ص: 304


1- لَعَلَّ المَقصود مِنْ «بَلاء اَبي جَهْل»: اَنَّه كان مُصاَبا يشعُور لا يَرتاح إلّا إذا مارَسُوا مَعَه الجِنّس. ويُعْرَف هذا المَرَض- في عِلْم الطب – ب_ «مَرَض الأبنة». المُحقّق
2- کتاب «مناقب آل اَبي طالب» ج 3، ص 55، و كتاب «بحارالأنوار»، ج 37، ص 334، باب 54، حَدیث 73
3- لَقَد الَّفَ السَيّد ابنُ طاوس كتاَبا سَمّاه: «اليقين في إمرة اَمير المُؤمنين»، وقَد ذكرَ فيه اكثر من مائتَي حَديث- مِنْ كُتُب الشيعة والسُنَّة- حَولَ اختِصاص هذا اللَقَب بالإمام عليّ بن اَبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). ومِنها: عن فُضَيل، عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنَّه قال: «يا فُضيل.. لَمْ يُسَمِّ بِه- واللّه- بَعْدَعلي اَمير المُؤمنين إلّا مُفْتَرٍ كذّاب، إلى يَوم[يُبْعَث] الناس»

حقائق و معاني تستدعي الإنتِباه إليها، وهِیَ

1- إنَّنا نَجِدُ في أَحاديث مُتَعَدِّدة.. أنَّ بعض أئمَّة نَجِدُ اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كانوا يُخاطِبونَ طَواغيتَ زماَنهم- مِنْ مُدَّعي الخِلافة- بكلمة: «يا اَمير المؤمنين»، وهذا يَدلّ على: التقيّة الَّتي كاَنت مَفروضَة على الأئمَّة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) حِقْناً لِدِمائهم و دِماء شِيعتِهم، و لئلّا تَکُون الحُجّة لأَعدائهم عليهم.

2- يَظهَرُ لَنا- بِكُلِّ وضوح- أنَّ أولئك الحُكّام كانوا يَرضونَ بِهذا اللَقَب لأَنفُسِهم، وقَد عَرَفتَ اَنَّ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ولَمْ يُسَمَّ بِه [اَي بهذا اللقب] أَحَدٌ غيره [اَي: غيرَ الإمام علي] فَرَضيَ.. إلا كانَ مَنْكوحاً، وإِنْ لَمْ يَكُنْ بِه.. اَبتُلي بِه».

فَتَکُونُ النَتيجَة: أن الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) - حينما كانوا يُخاطِبون أولئك الحُكّام بكلمة: «يا اَمير المؤمنين»- كانَ مِنْ أَهدافِهم أنْ يُعَرِّفوا أولئك المُدَّعين لِلخِلافة، ويُبَيِّنَوا ماهِیَتَهُم، ويَكْشِفُوا الغِطاءَ عن هَويّتِهِم، ويُظهِرُوا سَرائرَهُم؛ لأن أولئك المُدَّعينَ لِلخلافة

ص: 305

كانوا يَرْضُونَ بهذا اللَقَب والخَطَّاب، بَلْ كانوا لا يَرضونَ بغيره.

فَهذا مَولاَنا زَينُ العابدين عليّ بن الحُسَين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لمُا أُدخِلَ «على يَزيد بن معاوية»، قالَ: «یا یزید! اَتاذنُ لي بالكلام»؟

فقال يزيد: قُلْ، ولا تَقُلْ هُجْراً!

إنّ «يَزيد» كانَ يَرفُض أَنْ يُخاطِبه اَحَد بإِسمِه، ولِهذا قال- لِلإمام-: قُلْ ولا تَقُلْ هُجراً، اَي: لماذا لا تُخاطِبنِي ب_ (یا اَمير المؤمنين)!!

وذكر الطبَري- في أَحوالِ المُعتَصِم العَبّاسي-: إنَّ المُعْتَصِم كان رَاكباً عَلى دابَّته، فَناداهُ شَیخ و خاطبَهُ بكلمة: «یا اَبا إسحاق». فاَراد الجُند ضَرْبَه، لاَنَّه لَمْ يُخاطِب المُعتَصِم بكلمة: (يا اَمير المؤمنين) (1).

3- حِينَما كانَ الأئمَّةُ الطاهِرونَ يَضطَرُّون لمُخاطبة بَعض الحُكّام.. بكلمة (يا اَمير المُؤمنين»،

ص: 306


1- كتاب «تاريخ الطبري» ج 9، ص 18، في حَوادث سَنَة 220

فاِنَّهُم كانوا يُسَجِّلونَ (في التاريخ و لِلأَجيال القادمة) باَنَّ أولئك الحُكّام كانوا يَرضون بهذا اللَقَب، فليَعْرِف النَاس السَوابق السَيّئة المُسَجّلة في مَلَفَّات أولئك الفَجَرة، و أنّ بيوتَ الأَمويّين والعَبّاسيّين كاَنتَ بُؤرة لِلفَساد، وأَنَّ جَميع المُنكرات كاَنتَ مُباحَة بَينَ الذكور والاَنا ث!!

اَيُّها القارىء الكريم

ذكرنا هذا البَحث.. عن هذا اللَقَب، تَوضيحاً لِما نَقْراء في الكُتُب.. مِنْ مُخاطبَة بَعض الأئمَّة.. لِحُكّام زماَنهم بكلمة: «يا اَمير المؤمنين»، وتمهِیَداً و مُقَدمةٌ لِحَديثِ سَنَذكُرُهُ- في الفَصل القادِم- و فيه يُخاطِبُ الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) المُعْتَصِمَ العَبّاسي.. بهذه الكلمة، حَتّی يَتَبَيَّنَ أن هذا الخَطَّاب من الإمام لِلمُعْتَصِم و أَمثاله.. لَيسَ إعترافاً بشرعيَّة خلافته، وإنّما هُوَ بَيان لِلإضطهاد الّذي كانَ الإمام يُعانيه من أولئك الحُكّام، حَتَّى اضطُرّ أنْ يُخاطِبَهُم بِهذا اللَقَب المَغصُوب.

ص: 307

الإمام الجَواد وعِلم الفِقه

لقَد كانَ أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على اتم العِلْم.. بِجَميع العُلوم، و مِنْها عِلْم الفِقه، حَيثُ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهم بَحْراً زاخراً.. في علم الفقه والشَريعة، سَواءاً يَوم كانوا في عُمر الطُفولة والصِبى.. أَو الشَباب والكُهولة.

و مِنْ جُمْلة هؤلاء الأئمَّة الطاهِرين: هُوَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وقَد ذَكَرنا في الفُصول السابِقة من هذا الكِتاب بَعض أَحاديثه المُرتَبِطة بالفِقه، وخاصَّة في إجاَبَتِه على أَسئلة يَحيى بن اكثَم.. في مَجلس المَامون.

والآن.. نَذكر بَعضَ الأَحاديث الأُخرى.. الواردة

ص: 308

حَولَ الجانب الفِقهِیَ في حَياة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثُمَّ نَذكر طائفةً أخرى مِن الأَحاديث.. عِنْدَ المُناسَبة.. و في فَصل «الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُجيب عن المسائل الفقهِیَة».

رُوِيَ عن علي بن ابراهِیَم بن هاشِم، قال: حَدَّثَني اَبي: لمَّا ماتَ أبو الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) حَجَجْنا، فدَخَلْنا على اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قَد حَضَرَ خَلْقُ من الشيعة- مِنْ كُلِّ بَلَد- لِيَنْظُروا إلى اَبي جعفر.

فَدَخَلَ عَمَّهُ عبدُ اللّه بنُ موسى، وكانَ شَيخاً كبيراً نَبيلاً، عليه ثِياب خَشِنَة.. وبَينَ عَينَيه سَجّادة (1) فَجَلَس.

و خَرَجَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِن الحُجرة: و عليه قميصُ قَصَب، ورِداء قَصَب (2) و نُعْل جُدُد بَيضاء.

فَقامَ عبدُ اللّه فاستَقْبَلَه، وقَبَّلَ بَينَ عَينَيه، وقامَ الشيعة، وقعَدَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) على

ص: 309


1- بَينَ عَينَيه سَجّادة: كِناَية عن اَثر السُجُود على جَبْهَتِه
2- اَي: مَصنوع مِن نَبات الأَرض، مِثل الكتّان

كُرسي، ونَظَرَ الناسُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض وقَد تَحَيَّروا لِصِغَر سِنِّه.

فاَبَتدَرَ رَجُلٌ من القوم (1) فقال- لِعَمِّه-: أَصْلَحَكَ اللّه، ما تقول في رَجُلٍ اَتى بَهِیَمة؟ (2)

فقال [عبد اللّه:] تُقطع يَمينُه ويُضْرَبَ الحَد!

فَغَضِبَ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)ثُمَّ نَظَرَ إليه فقال: ياعَمَّ، إتَّق اللّه.. إتَّقِ اللّه! اَنَّه لَعَظيم اَنْتَقِفَ يَوم َالقيامة بَينَ يَدَيِ اللّه (عَزّ وجَلٌ)، فَيَقول لَك: لِمَ أَفتَيت الناسَ بما لا تَعْلَم؟!

فقالَ لَه عَمُّه: اَستَغفِرُ اللّه يا سَيَّدي، ا لَيسَ قالَ هذا أَبوك.. صَلَواتُ اللّه عليه؟

فقال أَبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنَّما سُئِلَ اَبي عن رَجُلٍ نَبَشَ قَبْرَ امرأةٍ فنَكحَها. فقال اَبي: «تُقْطَع يَمينُه لِلنَبش، ويُضْرَب حَدّ الزِنا، فإِنَّ حُرمَة المَيِّتة

ص: 310


1- اَبَتدَرَ: بادرَ وتَقَدَّمَ
2- اَي: نَكِحَ حيواَناً

.. كَحُرمةِ الحَيَّة (1)».

فقال: صَدقتَ يا سَيَّدي، واَنااَستَغْفِرُ اللّه. فَتَعَجَّبَ الناسُ.. و قالوا [لاَبي جعفر]: يا سَيّدنا اَتاذنُ لَنا اَنْ نَسْأَلك؟

قال: «نَعَم».

فَسَأَلوه...» إلى آخِر الخَبَر (2).

حَدٌ قَطع يَد السارِق

رُوِيَ- في كُتُب الحَديث- أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلى المُعْتَصِم العَبّاسي.. و اعتَرفَ على نَفْسِه باَنَّه قَد سَرق و طلِبَ أنْ يُجرى عليه حَدّ السَرقة.

فَجَمَعَ المُعْتَصِمِ فُقَهاءَ البلاط في مَجْلِسِه، وقَد

ص: 311


1- اَي: إنّ حُرمَة المَرأة بَعْدَمَماتها.. كحُرْمَتِها في حال حَياتها
2- كتاب «الإختصاص» للشيخ المفيد، ص 102، حديث مُحمّد بن علي بن موسى الرضا (عَلَيهِم السَّلَامُ) و عَمّه عبد اللّه ابن موسى

أحضَرَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَيضاً في ذلك المَجْلِس، فسأل المُعْتَصِم من الفُقَهاء.. عن تَحديد مَوضع قَطع يَد السارق.

فقال إبنُ اَبي دُؤاد: مِن الكُرسُوع (1). و وافقَه جَمع مِنْ أُولئك الفُقَهاء!

قالَ المُعْتَصِم: و ما الحُجَّة في ذلك؟ (2)

فقال: لأَنّ اليَد هِیَ الأَصابع والكفّ.. إلى الكُرسُوع، لِقَولِ اللّه في الَّتي : ﴿ فامسَحُوا بِوجُوهِكُم و اَیدیکُم ﴾ (3).

و أَجابَ جَمْع آخر مِن الحاضِرين: بَلْ يَجِب القَطع مِن المِرفَق.

قالَ المُعْتَصِم: و ما الدليل على ذلك؟

قالوا: لأنّ اللّه لَمّا قال: ﴿ و اَيديكُم إلى المَرافق ﴾

ص: 312


1- الكُرسُوع: طرف الزند الّذي يلي الخنصر، وهُوَ المِفْصَل بَينَ الساعِد و الكفّ
2- اَي: ما الدليل على هذا التحديد؟
3- سورة النساء، الاَية 43

في الغَسْل.. دَلَّ ذلك على اَنَّ حَدِّ اليَد: هُوَ المِرفَق.

فالتَفَتَ المُعْتَصِم إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و قال: ما تَقول في هذا يا اَبا جعفر؟

فقال: قَد تَكلَّمَ القومُ فيه يا اَمير المؤمنين!!

قال: دَعْني مِمّا تَكلّموا بِه، اَيّ شيء عِندك؟

قال: أَعفِني عن هذا يا اَمير المؤمنين!!

قال: أَقسَمْتُ عليك باللّه لمّا أَخبَرْتَ بِما عِندك فيه.

فقال: أما إذا أَقسَمْتَ عَليَّ باللّه، إنّي أَقول: إِنَّهم أَخطَاوا فيه السُنَّة، فإنّ القطع يَجب أن يكون مِنْ مِفْصَل أصول الأَصابع، فيُترك الكفّ. قالَ المُعْتَصِم: وما الحُجَّة في ذلك؟

قال الإمام: قَولُ رسولِ اللّه: «السُجود على سَبعة أعضاء: الوَجه و اليَدَين والرُكبَتَين و الرِجلَين»، فإذا قُطِعَتْ يَدُه مِن الكُرْسُوع أو المرفَق.. لَمْ تَبْقَ لَه يَدٌ يَسْجُدُ عليها، وقال اللّه تبارك وتعالى: ﴿و ان المَساجِدَ لِلّه﴾ يَعْني به هذه الأعضاء السبعة الَّتي

ص: 313

يُسْجَد عليها ﴿ فَلا تَدْعوا مَعَ اللّه اَحَداً﴾ و ما كان لِله.. لَمْ يُقطَع.

فاَعجَبَ المُعْتَصِمَ ذلك، وأَمَرَ بِقَطع يَد السارق مِن مِفْصَل الأصابع.. دون الكفّ (1).

ص: 314


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي، ج 50، ص باب مولده و وفاته و آسمائه و القابه (عليه السلام) حديث 7. وقَد نَقَلنا هذا الخَبر بالمَضمون.. وبِتَلخيص منَّا. و سَوفَ تَذكُر نَص الخَبَر بالتَفصيل في فصل «سَبَب قَتل الإمام الجَواد (عليه السلام)» في اَواخِر هذا الكتاب

الإمام الجَواد وعلم الطب

دَواء مَرض اللَقْوَة

رُوِيَ عن الصَباح بن محارب، قال: كُنْتُ عِنْدَ اَبي جعفر ابن الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فَذكِرَ اَنَّ شبيب بن جابِر ضَربَتْه الرِيحُ الخَبيثَة (1)، فَمالتْ بِوَجْهِه وعينه (2).

ص: 315


1- الريح الخَبيثَة: داء يَظهَر في الوَجه، يَمِيل بالجانِب الاَيسَر مِن الوَجه، ويُقال له: اللَقوة، ويُسمّى- في اللُغة الدارِجة في العراق-: الشَرقي (الشرجي)
2- يُعَبَّر عن هذا المَرض- في مُصطَلَح عِلم الطِب الحَديث- بإسم مُكْتَشِف سَبَب المرض، وهُوَ: «بِلْز پالسي» حَيثُ قال: إِنَّ حُصول الشَلَل في العَصَب السابع في المُخ.. هُوَ الّذي يُسَبِّب ظُهُور أَعراض هذا المَرض. المُحقّق

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): يُؤخَذ لَه: القُرنفُل- خَمسَة مَثاقِيلَ- فيُصيّر في قنّينةٍ يابِسة، ويُضَمُّ رأسُها ضَمّا شديداً (1)، ثُمَّ تُطيَّن وتُوضَع في الشمس قَدرَ يَوم في الصَيف، و في الشِتاء قَدرَ يَومين (2) ثُمَّ يُخْرِجُه فَيَسْحَقُه سَحْقاً ناعماً، ثُمَّ يدِيفُه بِماءِ المَطَر حَتَّى يَصِير بِمَنْزلة الخَلُوق (3) ثُمَّ يَستَلْقي على قَفاه، ويُطلي ذلك القُرنفل المَسْحوق على الشق المائل (4) ولا يَزال [اَي: يَبْقى] مُسْتَلْقِياً حَتَّى يَجُفُّ القُرنفل، فَإِذا جَفَّ.. دفَعَ اللّه عَنهُ.. وعاد إلى أحسن عادته.. بإذن اللّه.

قالَ [الراوي]: فاَبَتدر إليه أصحابنا (5) فَبَشَرُوه

ص: 316


1- اَي: يُغلَق رأس القنينة.. بشدّة، لِيَحْتَبِس فيها الهَواء.. و يَحْدُث التفاعلات بَينَ أجزاء الدواء المُحقّق
2- اَي: إذا كانَ المَوسم صَيفاً.. وضَعْتَه في الشمس يَوم اً واحداً، و إذا كان شتاءاً.. وضعته يَومين
3- يُديفه: يُبَلّله ويَخلُطُه بماء المَطَر.. حَتَّيَ یَصِير كالمَعجون. الخَلُوق: طيب مُركَّب من الزعفران وغَيره
4- اَي: الجانب المائل مِن الوَجه
5- اَبَتدر: أَسرَعَ. أَصحابُنا: أَصدقاؤنا مِن الشِيعة

بذلك، فَعالَجَه بما أمَرَه بِه (1) فَعادَ إلى أَحسَن ما كان، بِعَونِ اللّه تعالى (2).

عِلاج بَرْد المَعِدة و خَفَقان القَلب

رُوِيَ عن مُحمّد بن علي بن رنجويه.. المُتَطبِّب، قال: حَدَّثَنا عبدُ اللّه بن عُثَمَان، قال: شَكوتُ إلى اَبي جعفر [الجَواد] مُحمّد بن علي بن موسى (عَلَيهِم السَّلَامُ) بَرْدَ المَعِدة و خَفقاَناً في فُؤادي (3).

فقال (عليه السلام): اَينَ اَنتَ عن دَواء اَبي.. وهُوَ الدّواء الجامِع؟

ص: 317


1- اَي: فَعالجَ المَريضُ مَرضَه.. بالدَواء الّذي وَصَفَه لَه الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ). المُحقّق
2- کتاب «مُستدرك الوسائل» للميرزا حسين النوري، ج 16 ص446 «كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المُباحَة» حَديث 20505
3- خَفَقان الفُؤاد: سُرعة دَقّات القَلب و عَدَم انتِظامها، ويكون ذلك بِسَبَب مَرضٍ أو إجهاد أو غَضَب، أَو تأثيرات غازات المعدة. المُحقّق

قُلتُ: يابنَ رَسولِ اللّه.. و ما هُوَ؟

قال: مَعروف عِندَ الشيعة.

قُلتُ: سَيَّدي ومولاَي.. فاَناكأَحَدِهِمْ، فاعطِني صِفَتَه حَتَّى أُعالِجَه وأُعطِيَ الناس.

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «خُدْ زَعفَران و عاقِر قَرحا: و سُنْبُل، و قاقله وبيخ، وخريق اَبيَض و فِلفِل اَبيَض اَجزاء سَواء، و ابرفيون جُزئين، يُدَقِّ ذلك کُلّه دقاً ناعماً، ويُنْخَلُ بِحَريرة، ويُعْجَنُ بِضِعْفَي وَزْنِهِ عَسَلاً مَنْزوعَ الرَغْوَة، فَيُسْقَى مِنْه صاحِب خَفَقان الفُؤاد، ومَنْ بِهِ بَرْدُ المَعِدة بِماء كمُّون يُطْبَخ، فإِنَّه يُعافي بإذن اللّه تَعالى» (1).

عِلاج نَزيف دَم الحَيض

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال:

إنّ جاريَة لَنا أصابَها الحَيض، و كانَ لا يَنْقَطِعُ

ص: 318


1- كتاب «مُستدرك الوسائل» ج 16، ص 464، «كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المُباحَة»، حَديث 20554

عَنهُا.. حَتَّى أَشرفَت على المَوت، فاَمَرَ أَبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أَنْ تُسْقَى سَويقَ العَدَس (1)، فَسُقِيَتْ، فانقَطَعَ عَنهُا، وعُوفِيَتْ (2).

عِلاج مرض اليَرقان

رُوِيَ عن علي بن مهزیار، اَنَّه قال: تَغَدَّيتُ مَعَ اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأتِيَ بِقَطاة (3) فقال: إَنّه مُبارك، و كانَ اَبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُعْجِبُه، وكانَ يَامُرأنْ يُطعَم صاحِبُ اليَرقان (4) يُشوى لَه، فإِنَّه

ص: 319


1- السَويق: طعامُ يُحَضَّر مِن دقيق الحنطة أو دقيق العَدَس، أو غَيرهما، بطَريقة خاصّة، وأحياَنايُخْلَط مَعَه التّمر.. المنزوع عَنهُ نَواتُه. المُحقّق
2- کتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج 6، ص 307، كتاب الأطعمة، باب سويق العَدَس»، حديث 2
3- القطاة: طائر مَعروف، يُؤكل لَحْمُه
4- اليَرقان: مَرَض يُصيب الإنسان.. فيَتَغَيَّر لَون البَدَن إلى الإصفِرار، وسَبَبُه- غالباً- عَجْزُ الكبِد عن اَداء بَعض وظائفِه الرئيسيّة. المُحقّق

يَنْفَعُه (1).

دَواء لآلام المَفاصِل

رُوِيَ أنّ الفَضل بن ميمون الأَزدي.. سأَلَ من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلاً: يابنَ رسولِ اللّه، إنّي أَجِدُ مِن هذه الشوصة وَجَعاً شَديداً (2).

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «خُذ حَبَّةٌ واحِدة مِنْ دَواء الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَعَ شيء مِنْ زَعفران، واَطلِ بِهِ حَولَ الشوصة»

قُلتُ: و ما دَواءُ اَبيك؟

قال: «الدواء الجامع، وهُوَ مَعْروف عِنْدَ فُلان و فُلان».

فذهَبتُ إلى أَحَدُهما، وأَخَذْتُ مِنْه حَبَّة واحِدة،

ص: 320


1- کتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج 6، ص 312، كتاب الأطعمة، باب «لُحوم الطَير»، حديث 5
2- الشوصة: ريحّ تَنْعَقَد في الضُلوع.. يَجِد صاحبُها الأَلم كوَخز الإبرة

فَلَطَخْتُ بها حول الشوصة، مَعَ ما ذكره (عَلَيهِ السَّلَامُ) من ماء الزَعفران، فَعُوفِيْتُ مِنْها (1).

دَواء لِحَصاة الكِليَة و المَثانة

رُوِيَ عن مُحمّد بن حكّام، قال: حَدَّثنا مُحمّد بن النَضر- مُودِّب ولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي بن موسی (عَلَيهِم السَّلَامُ) - قال: شَكوتُ إليه (2) ما أَجِدُه من الحَصاة.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): وَيحَك! اَين اَنتَ عن الجامع، دَواء اَبي؟

فقُلتُ: يا سَيَّدي ومَولاَي.. أَعطِني صِفَتَه.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): هُوَ عِندنا، يا جاريَة أَخرِجي البَسْتُوقة الخَضراء (3) فاَخرَجَت البَستوقة، وأَخرَجَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مِنْها مِقَدارَ حَبّة، فقال [للراوي]:

ص: 321


1- كتاب «مُستدرك الوسائل» ج 16، ص 463، «كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المُباحَة»، حديث 20552
2- اَي: إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)
3- البَسْتُوقة: وِعاء مِنْ خَزف

إشرب هذه الحبّة بِماء السُداب و بماء الفجل المَطبوخ فإِنَّكَ تُعافى مِنْه.

قال [الراوي]: فشَربتُه بِماء السُداب، فَوَاللّه ما أحسَسْتُ بِوَجَعِهِ إلى يَومنا هذا (1).

ص: 322


1- المَصْدَر السابق، ص 465، حديث 20558

الإمام الجَواد و عِلم النَّفْس

عِلاج نَوع مِن الوَسْواس

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال: كتَبَ رَجُل إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَشكو إليه لَمَماً يَخْطُر على بالِه فاَجابَه- في بَعْض كلامِه-:

«إِنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) إِنْ شَاء ثَبَّتَكَ، فَلا يَجْعَل لإبلَيسَ عليك طريقاً.

قَد شَكى قَوم إلى النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) لَمَماً يَعرض لَهُم، لأن تَهوي بِهِ_م الرِيح أو يُقَطَّعُوا.. اَحَبَّ إليهِم مِنْ أَنْ يَتَكَلَّموا به.

فقالَ َرسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ): اَتجدونَ مِنْ ذلك؟

ص: 323

قالوا: نَعَم، فقال: «والّذي نَفْسي بِيَدِهِ، إن ذلك لَصَريحُ الاَيمان، فإذا وَجَدتُمُوا.. فقولوا: اَمنَ ا بِاللّه و رَسوله، ولا حَولَ ولا قوة إلا باللّه) (1).

توضيح الحَديث: اللَمَم- هُنا-: ما يَخْطُرُ بِالقَلْب من الوَساوس و الأَفكار.

إنَّ الإنسانَ قَد تخطُر بباله.. وَساوس وأَفكار شَيطانيّة حَولَ الخالِق سُبحاَنه، مَثَلاً: يَتَساءَلَ مَعَ نَفْسه: مَتى وُجِدَ اللّه تعالى؟ كَيفَوُجِد؟ مَنِ الّذي خَلَقَه؟ و غَيرها من الأسئلة حول اللّه و حَولَ النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) ممّا لا يستطيع المُؤمن أن يَتَفَوَّه أو يَنْطِق بها، ولا اَنْ يَتَجَرَّاً القَلَمُ مِنْ ذِكْرِها، وقَد خَطَرَتْ أَمثالُ هذه الوساوس ببال بَعْض أصحاب النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَشَكوا إليه من ذلك، فسَالَهُم النَبيّ: «اَتَجدُونَ مِنْ ذلك؟» الوَجْد: الحُزن وعدم الرضا، والمعنى: اَتَحزَنون

ص: 324


1- کتاب «الكافي»، ج 2، ص 425، كتاب الاَيمان والكفر باب الوَسْوَسَة و حديث النَّفْس»، حديث 4

و تَنْزَعِجُونَ مِنْ هذه الوساوس الشيطانيّة الَّتي تَخْطُر بِبالِكُم؟

قالوا: نَعَم.

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ): «إِنَّ ذلك تصريح الاَيمان» اَي: إِنَّ حُزنَكُم و انزعاجَكُم من هذه الوَساوس الشَيطانيَّة.. يَدلُّ على اَيمانكم الخالِص. ثُمَّ اَمرَه م النَبيّ بِاَنْ يَقولوا: «اَمنَ ا بِاللّه ورسوله، و لا حَولَ و لا قُوَّة إلّا باللّه» كي يَزولَ عَنهُم اللَمَم و الوَساوس الشَيطانيّة

ص: 325

الإمام الجَواد و علم التاريخ

حياة «آدم» اَبي البَشَر

رُوِيَ عن الحَسَن بن مَحبُوب، عن اَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: كانَ عُمْرُ آدم- مِنْ يَوم خلَقَهُ اللّه.. إلى يَوم قَبَضَه-: تسعمائة وثلاثين سَنَة، ودُفِنَ بِمَكَّة.

ونَفَخَ فيه.. يَومالجُمُعة بَعْدَالزَوال، ثُمَّ بَراَ [اَي: خَلَقَ] زَوَجَتَهُ مِنْ أَسْفَلِ أضلاعه، واَسكَنَه جَنَّتَه مِنْ يَومه ذلك، فما استَقَرَّ فيها إلّا سِتَّ ساعاتٍ (1) مِنْ

ص: 326


1- بِما أَنَّ هُناك أحاديث متعددة.. تذكر مشاهدات «آدم» في الجِنّة.. وحوادث كثيرة.. حدثت له هُناك، فإنَّ الظاهِر أنَّ المُراد من «اليَوم »- هنا – لَيسَ اَيام الدُّنيا، بَلْ هُوَ مِنْ اَيام ذلك العالم. قال اللّه تعالى- في القرآن الكريم-: «و إِنَّ يَوم اً عِندَ رَبِّكَ كأَلفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدّون». سورة الحج، الاَية 47. يُضاف إلى هذا.. أنَّ موازين الزَمان.. ومِقياس مُضيّ الوقت، تَختَلِف في العَوالِم الأُخرى.. عن مَوازين عالَم الدُنيا، بل وحَتَّى في الدُنيا.. نَقرا اَنَّ في بِلاد القُطب المُنجمِد الشمالي- من الكُرة الأرضية- يَكونُ ضَوءُ النَّهار مُستَمِراً مُدَّة تزيد على سِتّة شهور، وهذا يعني أنُ اليوم الوَاحِد (عندهم) يكون بمقَدار 360 يَوم اً من اَيام نا نحن. المُحقّق

يَومِهِ ذلك.. حَتَّى عَصى اللّه (1)، واَخرَجَهما من الجَنَّة بَعْدَغُروب الشَمس، وما باتَ فيها (2)» (3).

ص: 327


1- لَقَد ثَبَتَ بِالأدلة والبَراهِیَن- في عِلم أُصول الدين والفَلسفة الإسلاميّة- أنّ الأنَبيّاء (عَلَيهِم السَّلَامُ) لا يَعْصُونَ اللّه تعالى، وكُلّ مَورد جاءَ التَعْبير بِالمَعْصِيَة فَهُوَ بِمَعْنى (تَرْك الأوّلى) اَي: أنَّ الأَفضَل كانَ في تَركِه. وهُناك أَقوال أُخرى حَولَ مَعْنى «عَصى اَدمُ ربَّه». المُحقّق
2- ما بات: اَي: لَمْ يَبْقَ. بات اَي: بَقِي في مكان ليلاً.. إلى الصَباح. المُحقّق
3- کتاب «تفسير القمي» عِنْدَ تَفسير الاَية 37 مِنْ سورة البقرة، فتَلَقَّى آدم من ربِّه كلمات»

بِماذا حَلَق آدمُ رأسَه؟

رُوِيَ عن علي بن مُحمّد العَلَوي، قال:

ساَلتُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آدم حَيثُ حَجَّ بماذا حَلَق رأسَه؟

فقال: نَزلَ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِياقوتة مِن الجِنّة، فاَمَرَّها على رأسِه.. فَتَناثَرَ شَعْره (1).

مَنْ هُوَ ذو الكِفل؟

رُوِيَ عن عَبْد العَظيم الحَسَني قال: كتَبْتُ إلى اَبي جعفر الثاني اَسأَله عن «ذي الكِفْل» ما إِسمُهُ؟ وهَلْ كَانَ من المُرسَلين؟

فَكَتَبَ: «بَعَثَ اللّهُ (جَلَّ ذِكْره) مائة ألف نَبي، و أَربَعة وعِشرين الف نَبيّا، المُرسَلون- مِنْهُم- ثَلاثمائة وثلاثة عَشَر رَجُلاً. وإنَّ «ذا الكِفْل» مِنْهُم،

ص: 328


1- كتاب «الكافي» ج 4، ص 195، كتاب الحج، باب «في حَجَ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حديث 6

صَلَواتُ اللّه عليهم.

وكانَ بَعْدَ سُليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) و كانَ يَقضي بَينَ الناس كَما كانَ يَقْضي داود (1)، و لَمْ يَغْضِبْ إِلا لِلّه (عَزَّ وجَلَّ).

و كانَ إِسمُهُ: «عويديا»، وهُوَ الّذي ذكرَه اللّه (جَلَّتْ عَظَمَتُه) في كِتابِه حَيثُ قال: ﴿ و اذكُرْ إسماعيل، والَيسَ عَ، وذا الكِفل، وكُلٌ مِن الأَخيار (2)(3)»:

ص: 329


1- لَقَد كانَ مَنْهَج القضاء عِنْدَ النَبيّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَختَلِف عن مَنْهَج سائر الأنَبيّاء، فَقَد كانَ يَقْضي حَسَب عِلمِه الّذي آتاه اللّه تَعالى، حَيثُ كان الواقع مُنْكَشِفاً لَه، فَلَمْ يَكُنْ يَنْتَظر مَجيءَ الشهود و شَهادتهم، ولا يَطلبُ أنْ يَحْلِف أَحَدُ المُتَنازِعَين.. على صدق دعواه. المُحقّق
2- سورة ص، الاَية 48
3- كتاب«بحار الأنوار»، ج 13، ص 405، باب،17، قَصَص ذي الكِفْل (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حدیث 2

يَحْيى بن أكْثَم

كانَ «يَحيى بن اَكثَم»، قاضي القُضاة في عَصر المامون العَبّاسي مَحبُوباً عِندَه، و كانَ يَعْرِف أَنّ الحَقّ مَعَ أهل البَيت.. الأئمَّة الطاهِرين، ولكن.. أَخَذته العزة بالإثم.. فَخالَفَ الحَقِّ وأَهلَه، لأنّ مَنْصِبَه كانَ يَفرض عليه أَنْ يَنحَرِفَ عن الصِراط المُستَقيم.

و قَد كانَ يَحيى بن اَكثَم معروفاً بعَمَل قَوم لُوط (الشذوذ الجِنّسي) و العَجيب اَنه حَرَّمَ المُتْعَة – الَّتي اَحَلَّها اللّه و رسولُه- و اَباحَ اللَواط – الّذي حَرَّمَه اللّهُ و رَسولُه-!!

و جاءَ في كتاب «وفَيات الأَعيان» لابن خَلّکان: اَنّ المَامون العَبّاسي قالَ ليَحيى- يَوماً مُعَرِّضاً به-: مَن الّذي يَقول:

ص: 330

قاضٍ يَرى الحَدَّ في الزِناء ولا *** يَرى على مَنْ يَلُوطُ مِنْ بأس؟!

فقالَ يَحيى: أَوَ ما يَعرف اَمير المُؤمنين (!) مَن القائل؟

قال: لا.

قال: يَقولُه الفاجِر أَحمَد بن نعيم الّذي يقول:

لا اَحسَبُ الجَورَ يَنْقَضي وعلى ال_ *** أُمّةِ والٍ مِنْ آلِ عبّاس

فأُفحِمَ المَامونُ خَجَلاً (1).

* * * *

و إن الاَبيات الَّتي جاءَت الإشارة إليها هِیَ:

اَنطَقَني الدَهْرُ بَعْدَإخراسٍ *** لنائباتٍ اَطَلْنَ وَسواسي

ص: 331


1- کتاب «وفيات الأعيان» لإبن خَلَّكان، ج 6، ص 153

يا بُؤسَ لِلدَّهْر لا يَزالُ كما *** يَرفَعُ ناساً يَحُطُّ مِنْ ناس

لا أفلَحَتْ ُأمَّةٌ وحَقَّ لها *** بِطُولِ نُكس وطول إنعاس

تَرضى ب_ «يحيى» يكون سائسها *** ولَيسَ «يَحيى» لَها بِسَواس

قاضٍ يَرى الحَدَّ في الزِناء ولا *** يَرى على مَنْ يَلُوط مِن باسِ

يَحْكُمُ لِلأمرَد الغَرير على *** مِثْلِ جَريرٍ ومِثل عبّاسِ

فالحَمْدُ للّه، كَيفَ قَد ذَهَبَ ال_ *** _عَدلُ وقَلَّ الوفاء في الناسِ!

اَميرنا يَرتشي، وحاكمنا *** يَلُوط، و الرأس شرّ مِن راسِ

ص: 332

لَو صَلحَ الدينُ فاستَقامَ لَقَد *** قام على الناس كل مقياس

لا أحسَب الجَورَ يَنْقَضي و على ال_ *** أُمّةِ والٍ مِنْ آل عَبّاسِ

و قَد كانَ المَامون يُنْشِدُ هذَين البَيتَين:

و كُنّا نُرجّى أَنْ نَرى العَدل ظاهِراً *** فَأَعْقَبَنا بَعْدَالرَجاء قُنُوطُ

مَتى تَصْلُحُ الدُّنيا و يَصْلُحُ اَهلُها *** و قاضي قُضاةِ المُسلمين يَلُوط؟!

و مِنْ هُنا تَعرف أنّ المامون العَبّاسي كانَ يَعْلَم سُلوكَ يحيى بن اَكثَم و انحِرافه الجِنّسي، ومَعَ ذلك إختاره لِهذا المَنصِب الخَطير فجَعَلَه قاضي قُضاة المُسلمين، كاَنَّه لَمْ يَجِد في عَصْرِه فقيهاً نزيهاً يَصْلُحُ لِلقَضاء!!

وقَديماً قِيلَ: «إنّ الطُيور على اَشكالِها تَقَعُ»!! و «السَمَكة تَجِيفُ مِنْ راسها».

ص: 333

وقَد ذكرَ ابن خَلَّكان.. بَعْض مَخازي يَحيى بن اَكثَم.. مِنْ مُلاعِبَتِه ومُغازلَتِه الصِبيان، و اَنَّه قَرَصَ خَدَّ غُلام جميل، وغير ذلك مِمّا يَخْجَل عَنهُ القَلَم (1).

و كانَ يَحيى إِذا نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ يَحفِظ الفِقْه.. ساله عن الحَديث، و إذا رآه يَحفظ الحَديث سَاله عن النَحو و قَواعد اللُغَة، وإذا رآه يَعلَم النّحْو سَاله عن عِلم آخَر، كُلُّ ذلك.. لِيُخْجِلَه.

و ذات يَوم.. دَخَلَ عليه رَجُل مِنْ أهل خراسان، و كانَ ذكيا حافظاً، فَناظرة يحيى بن اكثم، فَوَجَدَه عارف-اً بفنون مُتَعَدِّدة، فَقَالَ لَهُ يَحيى: نظرت في الحَديث؟

قال: نَعَم.

قالَ لَه: ما تَحفَظ من الأُصول؟

قال: أَحفظ عن شريك، عن اَبي إسحاق، عن الحارث: إنَّ عليّاً رَجَمَ لُوطيّاً!!

فَسَكت يَحيى!!

* * * *

ص: 334


1- كتاب «وفيات الأعيان» لإبن خَلَّكان

اَيُّها القارىء الكريم

هذا الرَجُل.. مَعَ هذه السَوابِق المُشْرِقَة! و الصِفات الحَميدة! إنتَخَبَه العَبّاسيّون للاحتِجاج مَعَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و أنْ يَسأَله عن المَسائل الغامضة، و هُم بذلك العَمَل يُريدُون أن يُطفِوَا نُورَ اللّه باَفواهِهِم، و يَاَبي اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه.

فَكانَ يَحيى بن اَكثَم.. يَحْتَجَّ على الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و يَسأله عن أَحاديث افتَعَلَها الوضّاعون الكذّابون، و اختَلَقَها سَماسِرة الحَديث و عُملاء الشَجَرة المَلعونَة في القُرآن، وعلى رأسِها: معاوية بن آكلة الأكباد.

و كان الإمامُ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَكشِف عن زَيف تِلكَ الأحاديث و تَزويرها.

وسَوفَ نَذكُر تفاصيل هذا المَوضوع، في فَصل «الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و فَن الحوار والمناظرة» إِنْ شاء اللّه تعالى.

ص: 335

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفَنِّ الحوار و المناظرة

لَقَد كانَ أئمَّةُ اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على اتَمَّ لعِلم والمعرفة.. بِجَميع العُلوم والفُنون. ومِنْ جُملة ذلك: فَنّ الحَوار و المُناظرة.

ويُعتبر هذا الفَنّ.. مِنْ أَرقى الفُنون المُهمّة، لأَنّ العالم بِهذا الفَنِّ.. يَلْزَمَ أَنْ تَتَوفَّر فيه مُقوّمات رئيسيّة متعدَّدة، ومنها: الخَلْفِيَّة العلميّة الواسعة.. و المُتَنَوِّعة اَيضاً، ومنها: معرفة الأُسلُوب الّذي يَتَلاءَم مَعَ طرَف الحِوار، فَهُناك المُتَفَهّم المُنْصِف، وهُناك المُعانِد، وهُناك المُتَطرّف.

بَعْدَالإنتِباه إلى هذه المُقَدّمة التمهِیَديّة المُوجَزة،

ص: 336

نَقرأ الحِوار الّذي جَرى بَينَ الرئيس الأَعلى لِمَجْلِس القَضاء.. ولِتَعيين القَضاة في الدَولة الإسلاميّة يَومذاك، وبَينَ الإمام التاسِع من أئمَّة أَهل البَيت: الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإليك نَص ما سَجَّلَه التاريخ.. عن هذا الحِوار:

رَوى الشيخُ الطَبرسي في كتاب «الإحتِجاج» أَنَّ يَحيى ابن اَكثَم ناظَرَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحُضور المَأمون وجَماعة كبيرة.

قالَ لَه يَحيى بن اَكثَم : ما تَقول- يابن رسول اللّه- في الخبر الّذي رُوِيَ اَنه نَزَلَ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و قال: يا مُحمّد، إنّ اللّه (عزّوجل) يُقرؤك السَلام.. ويَقولُ لَك: سَلْ اَبابكر هَلْ هُوَ عنِّي راض؟! فإني عَنهُ راض!

فقال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): «... يَجِبُ على صاحِب هذا الخَبَر اَن ياخذَ مثالَ الخَبَر الّذي قالَه رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في حَجّة الوداع: قَد َكثُرَتْ عليَّ الكذّابة، وستكثُرُ بَعْدَ ي، فمَنْ كذب عليَّ مُتَعَمِّداً

ص: 337

فليَتَبَوّْا مَقْعَدَه من النار، فإذا أَتاكم الحديث فاعرضُوه على كتاب اللّه و سُنَّتي، فَما وافَقَ كتاب اللّه و سُنَّتي فَخُذوا به، و ما خالَفَ كتابَ اللّه و سُنَّتي فلا تأخُذوا به».

ولَيسَ يُوافِقُ هذا الخَبَر كتاب اللّه، قال اللّه تعالى: ﴿ ولَقَد خَلَقْنَا الإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد﴾ (1).

فاللّه (عزوجل) خَفيَ عليه رِضى اَبي بكْرِ مِنْ سَخطه حَتَّى سَالَ عن مَكْنون سِرّه؟!

هذا مُستَحيل في العُقول!

ثُمَّ قالَ يَحيى بنُ اَكثَم : و قَد رُوِيَ: «اَنَّ مَثَلَ اَبي بكر و عُمَر في الأَرض.. كمَثَلِ جبرئيل وميكائيل في السَماء). فقال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): «و هذا اَيضاً يَجِب أن يُنظَرَ فيه، لأَنّ جبرئیل و میکائیل مَلَكان.. لِلّهِ مُقَرَّبان لَمْ يَعْصِيا اللّه قطّ، ولَمْ يُفارقا طاعتَه لَحظةً واحِدة.

وهُما [ابوبکر و عُمَر] قَد اَشركا باللّه (عزّ وجَلّ)

ص: 338


1- سورة ق، الاَية 16

و إِنْ أَسلَما بَعْدَالشِرك، فَكانَ أكثَرُ اَيّامهِما في الشِرك باللّه، فَمُحالٌ أَنْ يُشَبِّهَهُما بِهما». (1)

قال يحيى: و قَد رُوِيَ- اَيضاً- اَنّهما سيّدا كُهولِ أَهلِ الجِنّة، فَما تقول فيه؟

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «و هذا الخَبَر مُحال اَيضاً، لأنّ أهلَ الجَنّة کُلّه م يكونون شباَبا، ولا يكون فيهم كهل.

و هذا الخَبَر وَضَعَه بَنُو أُميّة لِمُضادَّة الخَبَر الّذي قالَه رَسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )في الحَسَن و الحُسَين باَنَّهما سيّدا شباب أَهل الجِنّة».

فَقالَ يَحيى بن اَكثَم : ورُوِيَ اَنْ عُمَر بن الخَطَّاب سِراجُ أَهلِ الجِنّة.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «و هذا اَيضاً مُحال، لأنّ في الجِنّة مَلائكة اللّه المُقَرِّبَينَ، و آدم، ومُحمّد و جميع الأنَبيّاء و المُرسَلين، لا تُضيء بأَنوارهم حَتَّى تُضيء

ص: 339


1- اَي: مُحالٌ أَنْ يُشَبِّهَ اللّه تعالى.. اَبابکر و عُمَر بجبرئیل و میکائیل

بِنُور عُمَر»؟!

فقال يَحيى: وقَد رُوِيَ أنّ السكينة تَنْطِقُ على لسان عُمَر!

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «... لكنّ اَبابكر- [الّذي هُوَ] أفضل مِنْ عُمَر- قال على رأس المِنْبَر: إِنَّ لي شيطاَنايَعْتَريني، فإذا مِلْتُ فَسَدَّدوني» (1).

فقال يحيى: قَد رُوِيَ أنّ النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لَو لَمْ أبعَث لَبُعِثَ عُمَر»!

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كتابُ اللّه اَصدَقُ مِنْ هذا

ص: 340


1- لَقَد ذَكرَ المؤرّخُون مَقالَة اَبي بكر هذه، بالفاظ مُتَعَدِّدة، راجع تاريخَ ابن جرير، ج 2، ص 440، و طبَقات الصَحابة لابن سَعد، ج 3، القسم الأوّل، ص الأوّل، ص 129، و كتاب «الإمامة و السياسة» للحافظ ابن قتيبة، ص 26، و كتاب «مجمع الزوائد» للهِیَثُمَّ ي، ج 5، ص 183 و غَيرها. ومعنى كلام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنّ اَبابكر – الّذي تَعتَبرونَه أفضَل مِنْ عُمَر- قال هذه المَقالَة واعتَرف بأنّ لَه شَيطاَنايَعتَريه ويُغويه، فكَيفَ تَنطِق السكينة على لِسان عُمَر، وهُوَ دون اَبي بكر في المَنْزلة؟!

الحَديث، يَقولُ اللّه في كتابه: ﴿وإِذْ َاخَذْنَا مِنَ النَبيّينَ میثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح﴾ (1) فَقَد أَخَدَ اللّه مِيثَاقَ النَبيّين، فكَيفَ يُمكن أن يُبَدِّل ميثاقه؟ (2)

وكُلُّ الأنَبيّاء لَمْ يُشْرِكوا باللّه طرفَة عَين، فكَيفَ يُبعثُ بالنُبوَّة مَن أَشرَك، و كانَ اكثر اَيامِهِ مَعَ الشرك باللّه؟!!

و قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): «نُبِّئتُ وآدم بَينَ الروح والجَسَد» (3).

فقالَ يَحيى بن اَكثَم : وقَد رُوِيَ- اَيضاً- أنَّ النَبيّ

ص: 341


1- سورة الأحزاب، الاَية 7
2- الظاهر أنَّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقصُد: إنَّ مَوضوع النُبوَّة لَها جُذور مِنْ عالم الذرّ، فَقَد أَخَدَ اللّه تَعالى المَواثِيق والعُهُود من النَبيّين.. في ذلك العالَم، وعَيَّن وحدّدَ أشخاص الأنَبيّاء، و هذا المعنى لا يَسْمَح لافتعال هكذا أحاديث، لاَنَّه يَلْزَمَ مِنْها عَدَم التَعيين المُسبق للأنَبيّاء.. مِنْ عِنْد اللّه تَعالى. أو فَوضَويَّة الإختيارات الإلهِیَّة، وهِیَ مُحال! المُحقّق
3- وقَد رُوِيَ هذا الحديث هكذا اَيضاً: «كُنتُ نَبيّاً وآدم بَينَ الماء و الطِين»

(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «ما احتَبَس عنِّي الوَحْيِ قَطّ إِلّا ظَنَنْتُه قَد نَزَلَ على آلِ الخَطَّاب»!!

فَقالَ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): «و هذا مُحال اَيضاً، لاَنَّه لا يَجوز أَنْ يَشْكَ النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) في نُبوّته. قال اللّه تعالى: ﴿اللّه يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاس﴾ (1) فكَيفَ يُمكن أنْ تُنْتَقَل النُبوَّة مِمَن اصطَفاهُ اللّه تعالى.. إلى مَنْ أَشرك بِه»؟!

قال يحيى: رُوِيَ أن النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لَونَزلَ العَذابُ لَما نَجا منه إلا عُمَر»!!

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ):

«و هذا مُحال اَيضاً، لأنّ اللّه تعالى يقول: ﴿وما كانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ واَنتَفيهِمْ، وَما كانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرون﴾ (2).

فاخبَرَ سُبْحاَنه اَنَّه لا يُعَذِّب أحَداً، مادامَ فيهِم رسولُ اللّه

ص: 342


1- سورة الحج، الاَية 75
2- سورة الأنفال، الاَية 33

(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و ماداموا يستغفرون» (1).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

كاَنتَ هذه مُحاورة واحِدة.. من مُحاورات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَعَ يَحيى بن اَكثَم، وقَد مَرَّت عليك- في فَضْل «المَامون يُزوّج إبنَتَه لِلإمام الجَواد (عليه السلام)»- مُحاورة أُخرى.. ظهَرَتْ فيها قُدرة الإمام الجَواد.. على الحِوار و المُناظرة، وشَخصيَّته العلميَّة الفائقة،

- و ظهَرَتْ- اَيضاً- هَزيمة يَحيى بن اَكثَم أَمامَ عِلْمٍ وعَظمة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 343


1- كتاب «الإحتِجاج »، للشيخ الطبرسي- مِنْ عُلَماء القَرْن السادس الهجري- ج 2، ص 446- 449، اجوبة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مسائل يحيى بن اَكثَم

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمُحافظة على حُقوق الآخَرين

اَداء دين الإمام الرضا (عليه السلام)

رُوِيَ عن المطرفي، قال: مَضى أبو الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) و لي عليه أربعة آلاف درهم، فقُلتُ في نَفْسي: ذهَبَ مالي.

فارسَلَ إليَّ أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إذا كانَ غَد، فاتِني، وليكُن مَعَكَ مِيزان و اَوزان، فدَخَلْتُ على اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقالَ لي: مَضى أبو الحَسَن- الرضا- و لَك عليه أربعة آلاف درهم؟

فقُلتُ: نَعَم، فرفَعَ المُصلَّى الّذي كَانَ تَحْتَه،

ص: 344

فإذا تَحْتَه دنانير، فدفَعَها إليَّ (1).

المُؤمن لا يَخُون

رُوِيَ عن عبد الكريم (2) عن رَجُل يُقال له: أبو ثُمامة، قال:

قُلتُ لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): إني أريدُ اَنْ الزَمَ مكة والمدينة، و عَلَيَّ دَين.. فَما تَقول؟

فقال: «إرجع إلى مُؤدّي دَينك، وانظُر أنْ تَلقى اللّه (عَزّ وجَلَّ) ولَيسَ عليك دَين، إنَّ المُؤمنَ لا يَخون» (3)، (4).

ص: 345


1- کتاب «الكافي» ج 1ص 497، كتاب الحُجّة، بابَ مولد اَبي جعفر مُحمّد بن علي الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حدیث 11
2- عبد الكريم: رَجُلٌ مِنْ أَهل هَمدان
3- کتاب «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 184- 185، باب 81 « الديون و احكامها»، حدیث 7
4- الظاهر أنّ هذا الرجُل المديون.. أراد الهِجرة إلى مكة، كي يَنْهَرْم مِنْ أداء دينه للشخص الدائن، ولكن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) نصحه بَعْدَم القيام بهذا العمل.. الّذي يُعتبَر خيانة في أموال الناس. المُحقّق

الإمام الجَواد و شُعَراء الشيعة

لقَد كانَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَشمَل شُعَراء الشيعة بِعَواطِفِه.. و إحتِرامه لَهُم، فَكانَ ذلك الإحتِرام بِمَنْزلة الغذاء العاطفي لأولئك الشُّعَرَاء الأدباء، الّذین كاَنتَ قُلوبُهُم عامرة بحُب أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، و كانوا يُظهِرونَ ذلك الحُبّ الخالص و الولاء الصادق.. مِنْ خِلال مَواهِبِهِم الشعريّة، وما كانوا يمتازونَ به مِن قُوّة الإنشاء و جَمال التَعبير.

و الآن.. إليك نَماذج من إحترام الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأولئك الشُعَراء الأَوفياء:

رُوِيَ عن اَبي طالب عبد اللّه بن الصلت القُمّي اَنّه قال:

ص: 346

كتَبتُ إلى اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) باَبيات شِعر، و ذكرتُ فيها اَباه، و سأَلتُه اَنْ يَاذنَ لي في أن أَقولَ فيه.

فقَطع الشِعر (1) و حَبَسَه (2) و كتب في صَدْر ما بَقِيَ مِن القِرطاس: «قَد احسَنتَ جَزاك اللّه خيرا» (3).

و رُوِيَ عَنهُ اَيضاً: كتَبتُ إلى اَبي جعفر ابن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاَذِنَ لي أن ارثي اَبا الحَسَن أَعني: اَباه، فكتَبَ إِليَّ: «أندُبني و اندُب اَبي» (4).

و جاءَ في كُتُب الحَديث و التاريخ.. اَن عبد اللّه بن اَيّوب.. اَنشَدَ شِعْراً يَرثي الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ويُخاطِبُ فيه الإمامَ الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِقَولِه:

ص: 347


1- اَي: قصَّ من القرطاس.. المقَدار المكتوب فيه الشِعر. المُحقّق
2- اَي: اَبقاه عِندَه
3- کتاب «رجال الكشّي» ص 568، الجزء السادس، حديث 1075
4- كتاب «رجال الكشّي»، ص 567- 568، الجزء السادس، حَديث 1074

يابن الذبيح و يابن أعراق الثرى *** طاَبَت أرومَتُهُ وطابَ عُروقا

يابن الوَصيَّ وَصَیّ أَفضَلِ مُرْسَلِ *** أعني النَبيّ الصادق المصدوقا

مالُفَّ في حَرَقِ القَوابِل مِثْلُهُ *** أَسَدٌ يُلَفِّ مَعَ الخريق خريقا

يا اَيَّها الحَبْلُ المَتين مَتى أَعُذ *** يَوماً بعقوتِهِ أَجِدُهُ وثيقا

اَناعائِدٌ بِكَ في القِيامةِ لائذ *** ابغي لَدَيكَ من النَجاة طَريقاً

لا يَسْبِقَنّي في شَفاعَتِكُمْ غَداً *** اَحَدٌ، فَلَسْتُ بِحُبِّكُمْ مَسْبُوقا

يابن الثَمَانیَة الأئمَّة غَرَّبوا *** واَبا الثلاثة شَرِّقوا تَشريقاً

ص: 348

إنَّ المَشارق و المغارب اَنتُم *** جاءَ الكِتابُ بِذلكُمْ تَصْديقاً (1)

وختاماً لهذا الفصل.. نَذكُر القَصيدة الغَرّاء لِلشاعر الخالِد: اَبي تمام الطائي، الّذي كانَ مُعاصراً للإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ربِّي اللّه والأمين نَبيّي *** صَفُوةُ اللّه، و الوصي إمامي

ثُمَّ سِبطا مُحمّدتالياهُ *** وعليٌّ و باقرُ العلم حامي

والتقيُّ الزكيّ جعفر الطي_ّ *** _ب، مأوى المُعتَرّ و المُعتامِ

ثُمَّ موسى، ثُمَّ الرضا عَلَمُ القَضْ_ *** _ل الّذي طالَ سائر الأعلامِ

ص: 349


1- كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المَجلسي، ج 49، ص325 باب «ما أُنشِدَ مِنْ مَراثي فيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، حدیث 7

والصفيُّ مُحمّد بن علیٍ *** و المُعرّى مِنْ كُلِّ سُوءٍ و ذامِ

الزكيُّ الإمام مَعْ نَجْلِه القا *** ثُمَّ، مَولى الاَنا مِ نُور الظلامِ

ابرزَتْ منْهُ رأفة اللّه بالنا *** س لِتَرْك الظلامِ بَدْرَ التّمامِ

فَرعُ صِدْقٍ نَما إلى الرتبة الق_ *** _صوى، و فَرعُ النَبيّ-لا شك- نامي

إلى أَنْ يَقول:

هؤلاء الأوّلى أَقامَ بِهم حُجَّتَ_ *** _هُ ذو الجَلالِ و الإكرامِ (1)

ص: 350


1- کتاب «مناقب آل اَبي طالب» لابن شهر آشوب، ج1، ص 312، باب «في الأشعار فيهم»

الإمام الجَواد و الحَديث عن المَعصومين

حِينَما نَقرا الأَحاديث المرُوِيَة عن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) نجد خلاله_ا أحاديث تحدث فيها الإمامُ الجَواد.. عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و عن آله الطيبَينَ الطاهرين المَعصومين.

وكم هُوَ جَيّد وجَميل.. أَن يَقرا الإنسان عن هؤلاء الأَطهار.. على لِسانِ إمام معصوم، فيَتعرَّف- مِنْ خِلالِ ما يَقرا- على بَعض المزاَيا الفريدة الَّتيكاَنتَ لَهُم، و عن بَعض الأُمور الأُخرى المُرتَبِطة بِهم.

والآن.. إليك بَعض الأَحاديث الواردة في هذا المَجال:

ص: 351

مَنْ زار النَبيّ فَلَه الجِنّة

رُوِيَ عن عبد الرحمن بن اَبي نجران، قال: سَالتُ اَبا جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) عَمّن زارَ النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) قاصداً؟

قال: لَهُ الجِنّة (1).

و في نُسخة كتاب «كامل الزيارة» رُوِيَ الحديث هكذا: قُلتُ لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): جُعِلْتُ فِداك.. ما لِمَنْ زارَ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) مُتَعمّداً؟

قال: «لَهُ الجِنّة».

زيارة السَيّدة فاطمة الزهراء

رُوِيَ عن إبراهِیَم بن مُحمّد بن عيسى العُرَيضي، قال: حَدَّثنا أبو جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذاتَ يَوم، قال: إذا صرتَ إلى قبَر جَدّتك فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فَقُلْ:

ص: 352


1- كتاب «تَهذيب الأحكام»، للشيخ الطوسي، ج 6، ص 3- 4 باب 2 «فَضل زيارته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ)»، حدیث 3

«يا مُمْتَحَنَةٌ، إمتَحَنَكِ اللّه الّذي خ َلَقَكِ.. قَبْلَ أنْ يَخْلُقَك، فَوَجَدك لَمّا امتَحَنَك صابرةٌ، وزَعَمْنا اَنّا لك أَولياء، ومُصَدِّقُونَ لِكُلِّ ما اَتاَنابه ابوك (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و اَتانا به وصيُّهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فَاَنّا نَسْأَكِ: إِنْ كُنَّا صَدَقْنَاكِ إِلّا الحَقْتِنا بتصديقِنا لَهُما بِالبُشرى، لِنُبَشِّرَ أَنفُسَنَا بِاَنّا قَد طَهُرْنا بِوِلاَيتِكِ» (1).

* * * *

اَيَّها القارىء الكريم، وتُروى هذه الزيارة بكَيفَية أُخرى، ولعَلَّها الأصح، وإليك نَص ذلك:

«السّلامُ عَليكِ يا مُمْتَحَنَة، إمتَحَنَكِ الّذي خَلَقَك قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ، و كُنْتِ لما اَمتَحَنَكِ بِهِ صابرةٌ، و نَحْنُ لَكِ أولياءُ مُصَدِّقون، و لِكُلِّ ما اَتى بِهِ أَبُوكِ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) و أتى بهِ وَصِيُّهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مُسَلَّمُون.

ص: 353


1- کتاب «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي، ج 6، ص 9- 1، باب 3، حدیث 12

ونَحْنُ نَسْاَلُكَ- اللّهمَّ إِذْ كُنَّا مُصَدِّقِينَ لَهُمْ.. أنْ تُلْحِقَنَا بِتَصْدِيقِنا بِالدَرَجَةِ العالِيَة، لِنُبَشِّرَ أَنفُسَنَا بِاَناقَد طَهُرْنا بولاَيتِهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) » (1).

اَيُّها القارىء الكريم

تُوجد في هذه الزيارة كلمات.. لا تَخْلُو مِنْ شيءٍ مِن الإبهام و الغُموض، وهذا صارَ سَبَباً لِتَهْريج بَعْض الجُهّال، وتَزييفِهِمْ لهذه الزيارة، قائلين: كَيفَ يُمْكِن أَنْ يَمْتَحِنَ اللّه تَعالى أحَداً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَه؟

وهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ لكلمة «الإمتحان» وكلمة «الخَلْقِ» اكثر من مَعنى واحِد، و المَعاني مَذكُورة في كُتُب عِلم اللُغة.

و بناءاً على هذا.. فإنَّ الضَرورة تَفرضُ علَينا اَنْ نُطِيلَ الكلام حَولَ بَعْض كلمات هذه الزيارة، تَوضيحاً لَها، ودفعاً لأَقاويل أَهلِ الباطِل، فنَقول:

ص: 354


1- کتاب «جمال الأسبوع» للسيد طاووس، ص 32

لقَد ذكرَ اللُغَويّون- لِلإمتِحان- مَعنيَين أَساسيّين وهُما:

1- الإِختِبار، وهُوَ المَعْنى المَشهور مِنْ كلمة(الإمتحان).

2- التخليص والتَصْفِيَّة، يُقال: «إمتَحَنَ الصائغُ الفضَّة»، إذا صَفّاها، وخَلَّصَها بالنار (1)، قال اللّه تعالى: ﴿إمتَحَنَ اللّه قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى﴾ (2) اَي: صَفَّاها وهَذّبَها، والتهذيب: التَنْقِيَة.

إذَنْ، إِنَّ مَعْنى «مُمْتَحَنة»: المُصَفَاة، والمُخَلَّصة مِنْ كُلِّ شائبَة، و «امتَحَنَكِ اللّه» اَي: صَفَّاكِ وخَلَّصَك«قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَك».

وأمّا معنى الخَلق، فَقَد ورَدت هذه الكلمة في القُرآن الكريم بمَعاني عَديدة، ونَختار منها هذه الاَيات، لكي نَستَفيد منها فائدةً تَنْفَعُنا في هذا البَحْث:

ص: 355


1- كما يُستفاد من كتاب «المعجم الوسيط»، وغَيره من الكُتُب
2- سورة الحجرات، الاَية 3

1- ﴿ ولَقَد خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوِّرناكُمْ، ثُمَّ قُلْنا لِلمَلائكة: اسجُدُوا لآدم﴾ (1).

2- ﴿ ولَقَد خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطفَةً في قَرارٍ مَكين، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عظاماً﴾ (2).

فالمُستَفاد مِن ظاهِر الاَية الأوّلى: أن اللّهَ تعالى خَلَقَ البَشَرَ کُلّهم.. لمّا خَلَقَ آدم اَبا البَشَر.. في وقتٍ مُتَقارب مَعَ خَلْقِه، وصَوَّرَهُمْ بِحَيثُ إِنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ صُورة يَتَمَيَّزُ بِها عن غَيرِه.

و أما الآية الثانيَة، فَهِیَ تَذكُر مَبْدا تَکُوُّن نُطْفَة البَشَر من الطَعام المُتَکُوِّن مِنْ نَبات الأَرض، و التَطوُّرات الَّتي طرأَت على البَشَر، مِنْ نُطْفَةٍ إِلى عَلَقَةٍ إِلى مُضْغَةٍ إلى عِظام.. إلى آخِرِه.

فَهُنا خَلْقان: الخَلْق الأَوّل حِينَ خَلَقَ آدم، و هُوَ المُسَمّى بِعالَم الذَرّ.

ص: 356


1- سورة الأعراف، الاَية 10
2- سورة المؤمنون، الاَية 12- 14

الخَلْق الثاني: هُوَ الّذي حَصَلَ في عالَم المادّة، وهُوَ هذا العالَم الّذي نَعيش فيه.

فَيَكون المَعنى- واللّهُ العالِم-: إنَّ اللّه خَلَقَكِ مُصَفَاة ومُخلَّصة منْ كُلِّ شائبَة في عالَم الذَرّ (1)، قَبْلَ أنْ يَخْلُقَك في هذا العالم، وهُوَ عالم المادّة.

و قَد وردَت أحاديث كثيرة.. في مبدا خَلْق النَبيّ و اَهل بَيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) وطينَتِهِم وأَرواحهِم، كقول الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنَّ اللّه خَلَقَ مُحمّداً و آل مُحمّد من طِينة عِليّين، وخَلَقَ قُلوبَهُم مِنْ طِينةٍ فَوق ذلك...» الى آخِر الحَديث (2).

ص: 357


1- بَلْ.. مِنْ قَبْلِ عالم الذر، لأنّ من الثاَبَت- في عِلْم العَقائد الإسلاميّة-: أنّ اللّه تَعالى خَلَقَ مُحمّداً و اَهلَ بَيْتِه.. قَبْلَ اَنْ يَخْلُقِ السَماواتِ والأرض.. بآلاف السنين. وهذا يعني: أَنَّ تاريخَ خَلْقِهِم.. كانَ قَبْلَ عالم الذَرّ. يُضاف إلى هذا.. اَنَّ العُنصُر الأَصلي لِخَلْقِهِم.. يُختَلِف عن عُنْصُر البَشَر، قهم مَخلوقون مِنْ نُور، أما البَشَر.. فهُمْ مَخلوقون مِنْ غَير ذلك. المُحقّق
2- کتاب «بحار الأنوار» للعلامة المجلسي، ج 25، ص 8، باب 1، حدیث 12

وقَوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إِنَّ اللّه خَلَقَنا مِنْ أعلى عليّين...» إلى آخِر الحديث (1).

و كقَولِ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إِنَّ اللّه خَلَقَنا مِنْ عِليّين، و خَلَقَ اَرواحنا مِنْ فَوق ذلك...» (2).

وغير ذلك من الأَحاديث المُتَواترة المفَصَّلة حَولَ مَوضوع الطِينة والميثاق.. وغير ذلك.

إذن، فلا تَناقُض في عِبارة الزيارة، و لا تَنافي، ولا اِضطِراب.

الإمام الجَواد يَتَحدّث عن الإمام الرضا

رُوِيَ عن أَحمَد بن مُحمّد بن أَبي نَصر البَزنطي، قال: قُلتُ لاَبي جعفر، مُحمّد بن علي: إِنّ قومَاً من مُخالِفيكُم يَزعمون [أنّ] اَباكَ إنَّما سَمّاه المامون الرضا، لَمّا رَضِيَه لولاَية عَهْدِه!!

ص: 358


1- کتاب «الكافي» للكليني، ج1، ص 390، باب خَلْق اَبدان الأئمَّة و أَرواحهم وقُلوبهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، حديث 4
2- المصدر السابِق، حدیث 1

فقال: «كذبوا- واللّه- و فَجَروا، بَل اللّه (تَبارك و تَعالى) سَمّاه الرضا، لاَنَّه كانَ رضى لِلّه في سَمائه و رضىً لرسوله والأئمَّة مِنْ بَعْدَهِ.. في أرضه»

قال: فَقُلتُ لَه: المْ يَكُن كُل واحد من آبائك الماضين (عَلَيهِم السَّلَامُ) رضىً لله- تعالى- ولِرَسوله والأئمَّة؟

فَقال: «بَلى».

فَقُلتُ: فَلِمَ سُمِّيَ أبوك- مِنْ بَينَهم-: الرضا؟

قال: «لاَنه رَضِيَ بِهِ المُخالِفُونَ مِنْ أَعدائه، كما رَضِيَ بِهِ المُوافقُون مِن أَوليائه، و لَم يَكُن ذلك لأحَدٍ من آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) فَلِذلك سُمِّي- مِنْ بَينَهم- الرضا» (1).

ص: 359


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)» ج 1، ص 22، باب العلَّة الَّتي من أَجلِها سُمّي علي بن موسى.. الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الإمام الجَواد يَتَحَدَّث عن زيارة الإمام الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

زيارة الإمام الحُسَين أم زيارة الإمام الرضا؟

رُوِيَ عن عَبد العَظيم بن عبد اللّه الحَسَني، قال: قُلتُ لاَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): قَد تَحَيَّرْتُ بَينَ زيارة قَبر اَبي عبد اللّه [الحُسَين] (عَلَيهِ السَّلَامُ) و بَينَ زيارة قبر اَبيك (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِطُوس، فَما تَرى؟

فَقالَ لي: «مَكانك»، ثُمَّ دَخَل، وخَرَج و دمُوعُه تَسِيلُ على خَدَّيه، فَقال: «زُوّارُ قَبر اَبي عبداللّه كثيرون و زُوّار قبر اَبي.. بطوس قَليلُون» (1).

ص: 360


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)» للشيخ الصدوق، ج 2، ص 286، باب 66، حديث 8

و رُوِيَ عن علي بن مَهزیار قال:

قُلتُ لاَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): جُعِلْتُ فِداك، زيارة الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أفضل أم زيارة اَبي عبداللّه الحُسَين (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟

فقال: زيارة اَبي أَفضَل، و ذلك لاَنَّ اَبا عبد اللّه يَزورُه كُلُّ الناس(1)، و اَبي لا يَزورُه إلّا الخَواصّ من الشيعة (2)» (3).

ثواب زيارة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

رُوِيَ عن علي بن إبراهِیَم، عن حمدان بن إسحاق، قال:

سَمِعْتُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)- أو حُكيَ لي عن

ص: 361


1- اَي: على اختلاف مَذاهبِهِم
2- اَي: الشيعة الإثني عَشَريّة القائلين بإمامة الأئمَّة جميعاً
3- کتاب «الكافي» ج 4، ص 584، كتاب الحَج، باب فَضل زيارة اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حدیث 1

رَجُلٍ عن اَبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1)- قال:

قالَ ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ زارَ قَبْرَ اَبي ب_ «طوس»، غَفَرَ اللّه لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذنبِه وما تَأَخَّر».

قال: فَحَجَجْتُ بَعْدَالزيارة، فَلَقيتُ اَيّوبَ بنَ نُوح، فَقال لي:

قال ابو جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ زارَ قَبْرَ اَبي ب_ «طوس» غَفَرَ اللّه لَهُ ما تَقَدم من ذنبِه و ما تَأَخَّر و بَنى اللّه لَه مِنْبَراً في حِذاء مِنْبَر (2) مُحمّد و علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حَتَّى يَفرغَ اللّه مِنْ حِساب الخَلائق».

فراَيتُه [اَي: راَيتُ اَيوب بن نُوح] قَد زار، فقال: جِنْتُ أَطلب المِنْبَر! (3).

ص: 362


1- الترديد و الشك.. من الراوي.. وهُوَ علي بن إبراهِیَم
2- في حذاء: اَي: بموازاة.. أو بجوار. المُحقّق
3- کتاب «الكافي» للشيخ الكليني، ج 4، 4، ص 585، باب فضل زيارة اَبي الحَسَن الرضا (عليه السلام)، حديث 3

و رَوَى حَمْدان الدسوائي (1) قال: دَخَلْتُ على اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَقُلتُ: ما لِمَنْ زارَ اَباك بِطُوس؟ (2)

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): مَنْ زار قبر اَبي بطوس، غَفَرَ اللّه له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبه وما تَاَخَّر.

قال حَمْدان: فَلَقِيتُ- بَعْدَذلك- اَيوب بن نُوح بن درّاج.. فَقُلتُ لَه: يا اَبا الحُسَين إني سَمِعْتُ مَولاَي اَبا جعفر يقول: مَنْ زار قبر اَبي بطوس.. غَفَرَ اللّه له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبه وما تَأخَّر.

فَقال اَيّوب: وازيدُك فيه؟

قُلتُ: نَعَمْ.

قال: سَمِعْتُه [يَعْني اَبا جعفر] يَقول ذلك، واَنَّه إذا كانَ يَوم القيامة.. نُصِبَ لَه منبَر بحذاء مِنْبَر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) حَتَّى يَفرَغَ الناسُ مِن

ص: 363


1- و في نسخة: الديواني
2- طوس: بَلدة مِن أَرض خُراسان في اَيران، وفيها دُفِنَ الإمام مِنْ الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتُعرف- حاليّاً – ب_ «مدينة مشهد المُقَدسة»

الحساب (1).(2)

بَينَ جَبَلَي طوس

الإمام الجَواد يَتَحَدّث عن زيارة الإمام الرضا

رُوِيَ عن اَبي هاشِم الجعفري، قال: سَمِعْتُ مُحمّد ابن علي بن موسى الرضا (صَلَواتُ اللّه عليه) يَقول: «إِنَّ بَينَ جَبَلَي طوس.. قَبْضَةٌ قُبِضَتْ مِنَ الجِنّة، مَنْ دَخَلَها كانَ آمِناً يَوم القيامة من النار» (3).

مَنْ زارَ الإمام الرضا فَلَهُ الجَنّة

رُوِيَ عن عبد الرحمن بن اَبي نجران، قال: سالت اَبا جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما تقول لمَن زار اَباك»؟

ص: 364


1- و في نُسْخَةِ: «حَتَّى يَفرعَ اللّه مِنْ حِساب الخلائق»
2- كتاب «كامل الزيارات» لابن قولويه،، ص 505- 506، باب 101، حديث 6
3- كتاب «تَهذيب الأحكام» ج 6 ص 109، باب 52 من الزيادات حديث 8

قال: «الجِنّة و اللّه» (1)

* * * *

و رُوِيَ عن داود الصرمي، قال: سَمِعْتُ اَبا جعفر مُحمّد بن علي [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (مَنْ َزارَ قبر اَبي.. فَلَهُ الجِنّة» (2).

* * * *

و رُوِيَ عن عبد العَظيم الحَسَني، عن الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ضَمِنْتُ لِمَنْ زارَ اَبي بِطوس، عارِفاً بِحَقِّه، الجِنّة على اللّه تعالى» (3).

و رُوِيَ عن عبد العظيم الحَسَني، عن الإمام الجَواد

ص: 365


1- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)» للشيخ الصدوق، ج 2، باب 66، حديث 12
2- كتاب «تَهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي، ج 6، ص 86، باب 34، فضل زيارته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 6
3- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)، ج 2، ص 286، باب 66، حدیث 7، طبع بیروت- لبنان، مؤسسة الاعلمي، الطبعة الأوّلى.. عام 1404ه_

(عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «حُتِمَتْ (1) لِمَنْ زارَ اَبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِطُوس، عارفاً بِحَقِّه، الجِنّةُ على اللّه تعالى». (2)

* * * *

و عن علي بن أَسباط، قال: سأَلتُ اَبا جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما لِمَنْ زارَ والدَك (عَلَيهِ السَّلَامُ) بِخُراسان؟

قال: «الجِنّة واللّه، الجِنّة و اللّه» (3).

زيارة الإمام الرضا أفضل مِن الحَجَّ المُستَحب

عن مُحمّد بن سُلَيمان، قال:

سَاَلتُ اَبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رَجُلٍ حَجَّ حَجَّة الإسلام، فَدَخَلَ مُتَمَتِّعاً بالعُمرة إلى الحَج، فاَعاَنه

ص: 366


1- و في نُسْخَةِ: «ضَمِنْتُ»
2- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)» للشيخ الصدوق، ج 2، ص 286، باب 66، حديث 7
3- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)» ج 2، ص 288، باب 66، حديث 13

اللّه على عُمْرتِه وحَجّه، ثُمَّ أتى المدينة، فَسَلَّمَ على النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ).

ثُمَّ اَتاکَ عارفاً بحقِّكَ، يَعْلَمُ أَنَّكَ حُجَّةُ اللّه على خَلْقِه، وبابه الّذي يُؤتى مِنْه.. فَسَلَّمَ عليك.

ثُمَّ أَتى اَبا عبد اللّه الحُسَين (صلوات اللّه عليه) فَسَلَّمَ عليه، ثُمَّ أتى بغداد و سَلَّمَ على اَبي الحَسَن اَتی موسی [بن جعفر] (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثُمَّ إنصرف إلى بلاده.

فَلَمّا كان في وقت الحَجَ.. رزقه اللّه الحَجَ [اَي: رزقه المال الّذي يَحِجُّ به] فاَيُّهما أَفضَل: هذا الّذي قَد حَجَّ حَجَّة الإسلام يَرجِع اَيضاً فَيَحِج؟ أَو يَخرُج إِلى خراسان إلى اَبيك علي بن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيُسَلَّم علیه؟

قال: «لا، بَلْ يَأتي خُراسان، فَيُسَلّم على اَبي الحَسَن [الرضا] أفضل، وليكن ذلك في رَجَب (1) و لا يَنْبَغي اَنْ تَفْعَلُوا في هذا اليَوم(2) فإنَّ علينا وعليكُم من

ص: 367


1- زيارة الأئمَّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) مُستَحبّة طوال اَيام السنة، و هِیَ تَتَاكَّد و يَتَضاعَف أجرها في شَهْرِ رَجَب
2- اَي: في هذا الزمان

السلطان شنعة (1) » (2).

زيارة الإمام الرضا تَعْدِل ألف حَجّة

رُوِيَ عن أَحمَد بن مُحمّد بن اَبي نَصْر، قال: قراتُ كِتاب اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)- بِخَطَّه-: «أبلغ شيعَتي: أنّ زيارتي تَعْدِل عِنْدَ اللّه الف حَجّة و الف عُمْرة.. مُتَقَبّلة کُلّها».

قال الراوي: قُلتُ لاَبي جعفر [الجَواد]: الف حَجّة؟!

قال: اَي واللّه، و الف الف حَجَةٍ لِمَنْ يَزوره عارِفاً بِحَقِّه» (3).

ص: 368


1- الشنعة: القَباحة و الفَظاعَة
2- كتاب «الكافي» ج 4، ص 584، باب فضل زيارة اَبي الحَسَن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 2
3- كتاب «تَهذيب الأحكام» لِلشيخ الطوسي، ج 6، ص 85 باب 34، فَضل زيارته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حديث 4

الإمام الجَواد والحديث عن الإمام المَهدي

رُوِيَ عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحَسَني، قال: قُلتُ – لمُحمّد بن علي بن موسى (عَلَيهِم السَّلَامُ) : إني أرجو أن تَکُون القائم من أهل بَيتِ مُحمّد، الّذي يَملأ الأَرضَ قسطاً وعَدلاً، كما مُلِئَتْ ظُلماً و جَوراً.

فقال: «یا اَبا القاسم، ما منّا إلا وهُوَ قائمٌ بِاَمرِ اللّه (عَزّوجل)، و هادٍ إلى دينِ اللّه، وَلكنَّ القائم الّذي يُطهِّرُ اللّه (عَزّ وجَلَّ) بِهِ الأَرضَ مِنْ أَهْلِ الكُفر والجُحُود، ويَملأها عَدلاً وقسطاً: هُوَ الّذي تَخفى على الناس ولادتُه، ويغيبُ عَنهُم شَخْصُه، ويَحْرُمُ عليهِم تَسميَتُه، وهُوَ سَمِيُّ رسولِ اللّه و كنِيُّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ).

ص: 369

وهُوَ الّذي تُطوى لَهُ الأَرض، و يذلّ لَه كُلُّ صَعْب، ويَجْتَمِع إليه مِنْ أصحابه عِدَّة أهل بَدْر: ثلاثمائة و ثلاثة عَشَر رَجُلاً، مِنْ أَقاصي الأرض. و ذلك قول اللّه (عَزّوجَلٌ): ﴿ اَينَ ما تَکُونوا يَاتِ بِكُمُ اللّه جَميعاً، إنَّ اللّهَ على كُلِّ شيءٍ قَدير ﴾ (1).

فإذا اجتَمَعَتْ لَهُ هذه العدّة من أهل الإخلاص.. اَظهَرَ اللّه اَمرَه، فإذا كمُلَ لَه العقَد- وهُوَ عَشرة آلاف رَجُل- خَرَجَ بإذن اللّه، فَلا يَزال يَقْتُل أَعداءَ اللّه حَتَّى يَرضى اللّهُ عَزّوجل».

قال عبد العظيم: فقُلتُ له: ياسَيَّدي، وكَيفَ يَعْلَم أن اللّه (عَزَّ وَ جَلَّ) قَد رَضي؟

قال: «يُلقي في قَلْبِه الرَحْمَة!!

فإذا دَخَلَ المَدينة.. أخرَجَ اللاتَ والعُزّى فاَحرقَهُما» (2)

ص: 370


1- سورة البَقَرة، الاَية 148
2- كتاب «إكمال الدين»، للشيخ الصدوق، ج 2، ص377 باب 36، حدیث 2

أفضل الأعمال

رُوِيَ عن عبد العَظيم بن عبد اللّه بن علي بن الحَسَن بن زيد بن الحَسَن بن علي بن اَبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

دَخَلْتُ على سَيَّدي: مُحمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن مُحمّد بن على بن الحُسَين بن علي بن اَبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) و اَناأريد أن أساله عن القائم.. اَ هوَ المَهْدي أو غيره؟

فاَبَتداني، فقال لي: «يا اَبا القاسم، إنّ القائم مِنا هُوَ المَهْدي، الّذي يَجِب أَنْ يُنْتَظر في غَيْبَتِه، ويُطاعَ في ظُهورِه، وهُوَ الثالث مِنْ وُلدي (1).

و الّذي بَعَثَ مُحمّداً (صلى اللّه عليه وآله) بالنُبوَّة و خَصَّنا بالإمامة، اِنَّه لو لَمْ يَبْقَ من الدنيا إلا يَوم واحِد لَطَوّلَ اللّه ذلك اليَوم.. حَتَّى يَخْرُجَ فيه، فَيَمْلاً الأرضَ قسطاً و عَدْلاً، كما مُلئَتْ جَوراً وظلماً.

ص: 371


1- اَي: حفيد إبني

و إنَّ اللّه (تبارك و تعالى) لَيُصْلِحُ لَهُ اَمرَه في لَيلَةكما أَصلَحَ أمرَ كليمِه مُوسى.. إذ ذهَبَ لِيَقْتَبِس لأَهلِه ناراً، فَرَجَعَ وهُوَ رَسولٌ نَبيّ».

ثُمَّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أفضَلُ أعمالِ شِيعتِنا إنتِظارُ الفَرَج» (1).

لِمَ سُمِّيَ القائم و المُنْتَظَر

رُوِيَ عن الصقر بن دلف، قال: سَمِعْتُ اَبا جعفر مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يقول: «إن الإمام بَعْدَ ي: إبني علي... و الإمامُ بَعْدَه: إبنه الحَسَن... إِنَّ مِنْ بَعْدَ الحَسَن إبنه القائم بِالحَقِّ.. المُنتظر».

فَقُلتُ: يابن رسول اللّه.. ولِمَ سُمِّيَ القائم؟

قال: «لاَنه يَقُومُ بَعْدَ مَوتِ ذِكره، و ارتِدادِ اكثَرِ القائلين بإمامتِه».

ص: 372


1- كتاب «إكمال الدين»، للشيخ الصدوق، ج 2، ص 377، باب 36، حديث 1

فَقُلتُ لَه: ولِمَ سُمِّيَ المُنْتَظَر؟

قال: «لأَنّ لَهُ غَيبة يَكْثُر اَيّامُها، ويَطولُ اَمَدُها، فَيَنْتَظِر خُروجَه المُخلصُون، ويُنكِرُه المُرتابون، و يَستَهزىء بِذِكْرِه الجاحِدون، ويَكْذِبُ فيها الوَقّاتون ويُهْلَك فيها المُسْتَعْجِلون، ويَنْجو فيها المُسَلَّمون» (1).

ص: 373


1- كتاب «إكمال الدين» ج 2، ص 378، الباب 36

الكلمات القِصار لِلإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

تُوجَد في مَطاوي مَوسُوعات الأَحاديث.. كَلمات قصار للنَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) والأئمَّة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) في المَواعِظ و النَصائح، بَلْ و في الأحكام الشرعيّة اَيضاً، وهذه الكلمات القيمة قلَيلَةالألفاظ، لكنَّها كثيرة المَعاني، و غَزيرة الفَوائد و المَنافع وكاَنَّها عُصارة وخُلاصةُ كلماتٍ كثيرة، و مَواضيع مُفَصَّلة.. قَد يَصعب حِفظها، ولا يُسهل الإحتِفاظ بها عن الزيادة والنُقصان، ولكنَّها إذا لَخِّصَت في كلماتٍ قلَيلَة، والفاظ مُوجَزة.. كانَ مِن السَهل حفظُها.

و للإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كلِمات قِصار، ولا

ص: 374

يُطاوعُني القلم أن أقول عَنهُا: اَنَّها كلمات ذهَبيّة.

إذ ما قيمة ُالذهَب أمامَ ه_ذه الكلِمات الصادرة مِنْ مَنابع المَعرفة، ويناَبيع الحِكْمة، ومَهابِط الوَحْي؟!

وإليك شيئاً مِنْ تِلكَ الكلمات.. فيما يلي:

ذكر الشهِیَدُ الأوّل في كِتابِه «الدُرَّة الباهرة مِنَ الأصداف الطاهرة» :

قال الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

1– كَيفَ يَضِيعُ مَنِ اللّه كافِلُه؟!

2– كَيفَ يَنْجُو من اللّه طالبه؟!

3- مَنْ انقَطَعَ إِلى غَيرِ اللّه.. وکَلَه اللّه إليه (1).

4- مَنْ عَمِلَ على غَيرِ عِلْمٍ.. كان ما يُفْسِد اكثر مِمّا يُصْلِح.

5- القَصْدُ إِلى اللّه تَعَالَى بِالقُلُوب.. ابلَعُ مِنْ إتعاب الجَوارح بالأَعمال.

ص: 375


1- اَي: إلى الغَير

6- مَنْ أطاعَ هَواهُ.. أعطى عَدُوَّهُ مُناه.

7- مَنْ هَجَرَ المُداراة.. قارَبَه المَكْرُوه.

8- مَنْ لَمْ يَعْرِف المَوارد.. أعيَتْهُ المَصادِر.

9- مَنْ إنقاد إلى الطمانينة قَبْلَ الخِبرة.. فَقَد عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلّهلَكة، والعاقِبَةِ المُتْعِبَة.

10- مَنْ عَتَبَ مِنْ غَيرِ إرتياب.. أُعتبَ مِنْ غَير استِعتاب.

11- راكِبُ الشَّهَوات.. لا تُستَقالُ لَهُ عَمْرة.

12- الثقة باللّه.. ثَمَنٌ لِكُلِّ غال، وسُلَّم إلى كلِّ عال.

13- اَياك و مُصاحَبَةَ الشِريّر، فاِنَّه كالسَيف المَسْلُول.. يَحْسُنُ مَنْظَرُه، ويَقْبُحُ اَثَره.

14- إئتَدِ تُصِب أو تَكَد (1).

ص: 376


1- اَئتَدِ: اَمرٌ بالتَوئدة: وهِیَ التّرُوِيَ و التفكُّر، والإتّزان و عَدَمَ التَسَرُّع في إتّخاذ القَرار. تُصِب أو تكد: اَي: تَصِل إلى الراَي الصائب الصَحيح- بَعْدَالتَروّيَ- أو تَكاد تَصِل قريباً من الراَي الصَحيح. المُحقّق

15- إذا نَزلَ القَضاءُ.. ضاقَ الفَضاء.

16- كفى بِالمَرْءِ خِيانة.. أنْ يَكونَ أَميناً لِلخَوَنة.

17- عِزُّ المُؤمِنِ.. غِناه عن الناس.

18- نعْمَةٌ لا تُشكر.. كسَيِّئَةِ لا تُغْفَر.

19- لا يَضُرُّك سَخَطُ مَنْ رِضاه الجَور.

20- مَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْ اَخِيهِ بِحُسْنِ النِيَّة.. لَمْ يَرْضَ- بِالعَطِيَّة (1).

* * * *

في كتاب «نُزْهَة الخاطِر» عَنهُ (عَلَيهِ السَّلَامُ):

21- مَنِ اسْتَغْنى.. كَرُمَ على أَهْلِهِ.

فَقِيلَ له: و على غَير اَهلِه؟

فقال: لا، إلّا أنْ يَكونَ يُجدي عليهِم نَفْعاً.

ص: 377


1- کتاب «الدُرَّة الباهِرة من الأَصداف الطاهرة»، ص55 لِلفَقيه العَظيم، مُحمّد بن جمال الدين مكي العاملي، المَشهور ب_«الشهِیَد الأوّل» المُسْتَشْهَد سَنَة 786 ه_، طبع دار الأعراف، الطبعة الأوّلى، عام 1413- 1993م

ثُمَّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ)- لِلّذي قال له [ذلك]-: مِن اَینَ قُلتُ؟ (1).

قال [الرَجُل]: إِنَّ رَجُلاً قال- في مَجْلِس بَعْض الصادقين-: إنّ الناس يُكْرِمُونَ الغَنيّ.. وإن كانوا لا يَنْتَفَعُونَ بِغِناه.

فقالَ [الإمام]: لاَنَّ معشوقَهُم [و هُوَ المال] عِندَه.

22- قَد عاداك مَنْ سَتَرَ عَنْكَ الرُشد.. إتّباعاً لما تَهواه.

23- الحوائج تُطلب بالرَجاء، وهِیَ تَنْزِلُ بِالقضاء والعافية أحسَنُ عَطاء.

24- لا تُعاد أحَداً حَتَّى تَعرفَ الّذي بَينَه وبَينَ اللّه تَعالى، فإنْ كانَ مُحْسِناً.. لا يُسلمُهُ إليك، وإِنْ كانَ مُسيئاً.. فإنّ عِلْمَكَ بِهِ يَكْفيكه، فلا تُعادِه.

25- لا تَكُن وليّاً لله في العَلانيَة، عدُوّاً له في السِرّ.

ص: 378


1- اَي: قال الإمامُ لِلرَجُل: كَيفَ قُلتُ: و على غَير اَهلِه؟

26- التحفظ على قَدر الخوف، والطَّمَعُ على قَدر السَبيل.

27- سُوءُ العادة.. كمينٌ لا يُؤمَنُ، وأحسَنُ مِن العُجب بالقول.. أن لا يَقول.

28- الاَيام تَهتِكُ لَك الأسرارَ الكاَمنَة.

29- ما شَكَرَ اللّه اَحَدٌ على نِعْمَةٍ أَنْعَمَه_ا عليه.. إلّا استَوجَبَ بِذلك المَزيدَ، قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ على لِسانِه.

30- تَعَزَّ عن الشيء- إِنْ مُنِعْتَه- بِقِلَة صُحْبَتِهِ إذا أعطيته.

* * * *

و في كتاب «تُحف العُقُول» :

قالَ لَهُ [اَي: لِلإمام الجَواد] رَجُل: أُوصِني.

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): وتَقْبَل؟

قال: نَعَمْ.

31- قال: تَوَسَّد الصَبْرَ، واعتَنِق الفَقْر، وارفُض الشَهَوات، وخالِف الهَوى، واعلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَخْلُو مِنْ عَينِ اللّه، فانظُرْ كَيفَ تَکُون؟!

ص: 379

32- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): أَوحى اللّه إلى بعض الأنَبيّاء:

«اَمَّا زُهْدُك في الدُّنيا.. فيُعَجِّلُك الراحَة، وأما إنقِطاعُك إليَّ.. فَيُعَزّزك بي، ولكِنْ.. هَلْ عادَيتَ لي عدوَّاً و والَيتَ لي وَليّاً؟».

33- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): تأخيرُ التَوبة إغتِرار، و طُولُ التَسويف حيرة، والإعتلال(1) على اللّه هَلَكة، والإِصرار على الذَنب أمنٌ لِمَكْرِ اللّه ﴿فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرُونَ (2).

34- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إظهار الشيء قبل أن اَنْ يُسْتَحْكم.. مَفْسَدَةٌ لَه.

35- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): المؤمن يحتاج إلى: توفيق من اللّهِ، و واعِظ مِنْ نَفْسِه، وقَبول مِمَّنْ

يَنْصَحُه (3).

ص: 380


1- الإعتلال: إبداء الحُجَّة أو الإعتذار باَعذار غَير صَحيحة
2- سورة الأعراف، الاَية 99
3- كتاب «تُحف العقول»، للشيخ الحسين بن شعبة الحراني، باب «ما رُوِيَ عن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)»

و في كتاب «كشف الغُمَّة» للإربلي:

36- قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): أربَعُ خِصال تُعِينُ المَرءعلى العَمَل:الصحَّة، والغِنى، والعِلم، والتَوفيق.

37- وقال: إِنَّ لِلّه عِباداً يَخُصُّهُمْ بِالنِعَم، ويُقِرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا مَنَعُوها نَزَعَها عَنهُم، وحَوَّلها إلى غيرهم.

38- وقال: ما عَظُمَتْ نعمة اللّه على عَبْدِهِ إِلا عَظُمَتْ عليه مَؤونة الناس، فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِل تِلكَ المؤونة فَقَد عَرَّضَ النعمةَ للزَوال.

39- و قال: أَهْلُ المَعروف إلى اصطِناعِهِ أَحْوَجَ مِنْ أهل الحاجة إليه (1) لاَنّ لَهُم أَجرَه، وفَخْرَه، وذِكرَه، فمَهما اصطنَعَ الرَجُلُ مِنْ مَعْروف فإنَّما يَبْدا فيه بِنَفْسِهِ، فَلا يَطلُبَنَّ- شُكْرَ مَا صَنَعَ إِلَى نَفْسِه- مِنْ غَیره.

ص: 381


1- إليه: اَي: إلى المعروف

40- و قال: مَنْ اَمَلَ إنساَناً فَقَد هابَهُ، ومَنْ جَهِلَ شيئاً عابَه، والفُرْصَةً خَلسَة، ومَنْ كثرَ هَمه سَقُمَ جَسَدُهُ، والمُؤمِنُ لا يَشتَفي غَيظَه، و عُنْوانُ صَحِيفَةِ المُؤمن: حُسْنُ خُلُقِه.

41- و قال- في مَوضع آخَر-: عُنْوانٌ صَحِيفَةِ السَعيد: حُسنُ الثَناء عليه.

42- وقال: مَن استَغنى باللّه.. افتَقَرَ الناس إليه و مَن اتَّقى اللّه.. اَحَبَّهُ الناسُ وَ إِنْ كَرِهُوا.

43- وقال: عليكُمْ بِطَلَب العِلم، فإنّ طَلَبَهُ فَريضَة، والبَحْثَ عَنهُ نافِلَة، وهُوَ صِلَة بَينَ الإخوان و دليلٌ على المُروَّة، و تُحْفَة في المَجالِس، و صاحِبٌ في السّفَر، وأُنسٌ في الغُربة.

44- وقال: العِلْمُ عِلْمان: مطبوع و مَسموع، ولا يَنْفَع مَسمُوع إذا لَمْ يَكُن مَطبوع، ومَنْ عَرَفَ الحِكْمَة لَمْ يَصْبِرْ على الإزديادِ مِنْها، الجَمالُ في اللسان و الكمالُ في العَقل.

45- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): العَفاف زِينَةُ الفَقْر،

ص: 382

والشُّكْرُزِينَة الغِنى، والصبر زِينَة البَلاء، والتّواضُع زِينَة الحَسَب، والفَصاحَة زِينَة الكلام، والعَدل زِينَة الاَيمان، والسَكينة زِينَة العِبادة، والحِفظ زِينَة الرِوايَة، و خَفْضُ الجِنّاح زينةُ العِلم، وحُسن الأَدبِ زِينَة العَقْل، وبَسْطُ الوَجْهِ زِينَةُ الحِلْم، والإيثار زِينَة الزُهد، وبَذلُ المَجْهُود زِينَة النَفس، وكثرة البُكاء زِينَة الخَوف، و التَقَلُّل زينَة القَناعَة، وتَركُ المَنّ زِينَة المَعروف، و الخُشُوع زينَة الصلاة، وتركُ ما لا يَعني زِينَة الوَرع.

46- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): حَسْبُ المَرْءِ مِنْ كمالِ المُروءة.. تَركُه ما لا يحمل بِه.

و مِنْ حَيائه: أَنْ لا يَلْقى أَحَداً بِما يَكْرَه.

و مِنْ عَقْلِهِ: حُسْنُ رفقه.

و مِنْ ادَبه: أنْ لا يَترك ما لابُدَّ لَه مِنه.

و مِنْ عِرفإِنَّه : عِلْمُهُ بِزَمَاَنه.

و مِنْ وَرَعَه: غَضٌ بَصَره، وعِفَّة بَطنه.

ص: 383

و مِنْ حُسْنِ خُلُقه: كفُّه اَذاه.

و مِنْ سَخاته: بِرُّهُ بِمَنْ يَجِبُ حَقَّه عليه، و إخراجُهُ حَقَّ اللّه مِن مالِه.

و مِنْ إسلامه: تَركُهُ ما لا يَعْنِيه، وتَجُنُّبُهُ الجِدال و المراء في دينه.

و مِنْ كرَمِه: إيثاره على نَفْسِه.

مِنْ صَبْرِهِ: قِلَةٌ شَكْواه.

ومِنْ عَقْلِهِ: إِنصافهُ مِنْ نَفْسِه.

و مِنْ حِلْمِهِ: تَركُهُ الغَضَبِ عِنْدَ مُخالفته (1).

و مِنْ إنصافِه: قَبولُه الحَقِّ إذا بانَ له.

و مِنْ نُصْحِه: نَهِیَهِ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِه.

و مِنْ حِفْظه جِوارك: تَركُهُ تَوبيخَكَ عِنْدَ إِساءَتِك مَعَ عِلْمِهِ بِعُيُوبك.

ص: 384


1- اَي: تَركُه إظهارَ الغَضَب.. و عَدَمَ التَفاعُل مَعَ حالة الغَضَب، عِنْدَ مُخالفَة الآخَرين لَه. المُحقّق

و مِنْ رِفقِه: تَركُه عَذلَك (1) عِنْدَ غَضَبِك، بِحَضْرَةِ مَنْ تَكْرَه.

و مِنْ حُسْنِ صُحْبَتِه لك: إسقاطُه عَنْكَ مَؤونة اَذاك.

و مِنْ صَداقتِه: كثرة مُوافقته، وقِلَّة مُخالفَتِهِ.

و مِنْ صَلاحِه: شدّةٌ خَوفِه مِنْ ذُنوبه.

مِنْ شُكْرِهِ: مَعْرفةُ إحسانِ مَنْ أَحسَنَ إِليه.

و مِنْ تَواضُعَه: مَعرفتُه بِقَدره.

و مِنْ حِكْمَتِهِ: عِلْمُهُ بِنَفْسِه.

و مِنْ سَلامَتِهِ: قِلَةٌ حِفْظِهِ لِعُيُوبِ غَيره، وعِناَيتُه بإصلاح عُيُوبِه (2).

47- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): لَنْ يَسْتَكْمِلَ العَبْدُ حقيقة الاَيمان.. حَتَّى يُؤثِرَ دِينَه على شَهْوَتِه، ولَنْ يَهْلَك.. حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَه على دِينِه.

ص: 385


1- عذلك: اَي: مَلامَتَك
2- اَي: وإهتمامُهُ بإصلاح عُيُوب نَفسِه. المُحقّق

48- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): الفَضائلُ أَربَعة أَجناس:

أحَدُها: الحِكمة، وقِوامُها في الفكرة (1).

و الثاني: العِفّة، وقِوامُها في الشَهوَة.

و الثالث: القُوَّة، وقِوامُها في الغَضَب.

و الرابع: العَدل، وقِوامُها في إعتدال قُوى النَّفْس.

49- وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): العامل بالظلم.. و المُعين له.. والراضي بِه.. شُركاء.

50- و قال: يَوم العَدْلِ على الظالِم اَشَدُّ مِنْ يَوم الجَور على المظلوم.

51- وقال: أَقصَدُ (2) العُلَماء لِلْمَحَجَّة: المُمْسِكُ عنْدَ الشبهة.

52- و الجَدَل يُورِثُ الرياء.

53- و مَنْ أخطاً وجُوهَ المَطالِب.. خَذَلَتْه الحِيَل (3).

ص: 386


1- لَعَلَّ مَعْنى «قِوامُها» : مجال تفعيلها. المُحقّق
2- أَقصَدُ: اَي: اكثَرُهم قَصداً، والقَصد- هُنا-: الإعتِدال
3- الحِيَل: طرُق و أَساليب الوُصول إلى الهَدف. المُحقّق

54- و الطامعُ.. في وِثاق الذُلّ.

55- ومَنْ أَحَبَّ البقاء فَليُعِدّ للبَلاء قَلْباً صَبُوراً (1).

56- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): العُلَماء غُرَباء.. لكثرة الجُهّال بَينَهُم.

57- وقال: الصَّبْرُ على المُصيبة.. مُصيبة على الشامِت بِها.

58- و قال: التَوبَةُ عَلى اَربَع دَعائم: نَدَمٌ بالقَلْب، و استِغفار بِاللِسان، وعَمَلُ بِالجَوارح، و عَزْمُ على أَنْ لا يَعُود.

59- و ثَلاث منْ عَمَل الأَبرار: إقامةُ الفَرائض، و اجتِناب المَحارم، واحتِراس من الغَفلة في الدِين.

60- وثلاث يَبْلُغْنَ بِالعَبْد رِضوان اللّه: كثرةُ الإِستغفار، وخَفْضُ الجانِب، وكثرةُ الصَدَقة.

61- واربَعٌ مَنْ كُنَّ فيه إستَكْمَلَ الاَيمان: مَنْ أعطى لِلّه، و مَنَعَ في اللّه، اَحَبَّ لله، وأبغض فيه.

ص: 387


1- و في نُسخةٍ: فليعد للمصائب قلباً صبوراً

62- وثلاث مَنْ كُنَّ فيه لَمْ يَنْدَمَ: تَركُ العَجَلَة، والمَشْوَرة، والتَوَكَّلُ- عِنْدَ العَزْم- على اللّه عَزَوجَل.

63- و قال: لو سَكتَ الجاهِلُ ما اختَلَفَ الناس.

64- و قال: مَقْتَلُ الرَجُل بَينَ لِحْيَيه، و الراَي مَعَ الاَنا ة، وبِئْسَ الظهِیَر: الراَي الفَطير (1).

65- وقال: ثَلاثُ خِصالٍ تُجتَلَب بِهِنَّ المَحَبَّة: الإنصاف في المُعاشرة، والمُواساة في الشِدَّة، و الإنطواء (2) و الرُجوع إلى قَلب سَليم.

66- وقال: فَسادُ الأَخلاق بمُعاشرَة السُفَهاء، وصَلاحُ الأخلاق بِمُنافسَة العُقلاء، والخَلْق أَشكال فَكُلِّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِه.

67- و الناس إخوان، فَمَنْ كاَنتَ أُخُوّتُهُ في غَير ذاتِ اللّه فإِنَّها تَحُوز عَداوة، و ذلك قوله تعالى: ﴿الأخلاء

ص: 388


1- القطير: غَير الناضج، وكُلُّ ما عَجَزَ الإِنسانُ عن إدراكه
2- الإنطواء: الإِحتِواء على شيء، ومَعناه- هُنا-: إنطِواء القَلْب على المَحَبّة

يَومئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ.. إلا المُتَّقين ﴾ (1).

68- و قال: مَن استَحْسَنَ قبيحاً كان شريكاً فيه.

69- وقال: كُفْرُ النعمة داعيّةُ المَقْت، ومَنْ جازاك بالشُكر.. فَقَد أَعطاك اكثَر ممّا أَخَذَ منكَ.

70- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا يُفسدك الظَنُّ على صَديق، وقَد أصلحَكَ اليقين له.

و مَنْ وعَظ أخاه سراً.. فَقَد زاَنه، ومَنْ وعَظَهُ عَلانِيَة.. فَقَد شاَنه.

71- إستِصلاحُ الأخيار بإكرامِهم، و الأشرارِ بتاديبِهِم.

72- و المودة: قرابة مُستَفادة.

73- و كفى بالأجل حِرزاً.

74- و لا يَزال العَقْلُ والحُمْق يَتَغالَبان على الرّجُل.. إلى ثَمَانیَة عَشَر سَنَة، فإذا بَلَغَها غَلَبَ عليه أكثَرُهُما فيه.

ص: 389


1- سورة الزخرف، الاَية 67

75- و ما أنعَمَ اللّه (عَزّ و جلّ) على عَبْدِ نِعْمَةٌ فَعَلِمَ اَنَّها مِن اللّه.. إلا كتَبَ اللّه (جَلٌ إِسمُهُ) لَهُ شُكْرَها قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَهُ عليها، ولا أذنب ذنباً فَعَلِمَ أَنَّ اللّه مُطلع عليه.. إن شاءَ عذَّبه و إن شاءَ غَفَرَ لَه، إلّا غَفَرَ اللّه لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَه.

76- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): الشَريفُ كُلُّ الشريف مَنْ شَرِّفَه عِلمُه، والسُّوْدَهُ- حَقَّ السُّوْدَد- لِمَن اتَّقى اللّه ربَّه، والكريم (1) : مَنْ اكْرَمَ عَنْ ذُلِّ النَّارِ وَجْهَهُ.

77- وقال: مَنْ اَمِلَ فاجِراً.. كان أَدنى عُقوبَتِه: الحِرمان.

78 و قال: إثنان عَليلان اَبَداً: صَحِيحٌ مُحْتَمي، وعَليلٌ مُخَلّط.

79- مَوتُ الإنسان بالذنوب اكثر مِنْ مَوتِه بالاَجَل و حياته بالبِرِّ أكثَرُ مِنْ حَياتِه بالعُمر

80- و قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا تُعالِجُوا الاَمرَ قَبْلَ بلوغِه.. فتَنْدَموا، ولا يطولَنَّ عليكُم الاَمَد.. فَتَقْسُوا

ص: 390


1- لَعَلَّ الصّحيح: الكريم كُلُّ الكريم

قُلُوبُكُمْ، وارحَمُوا ضُعَفاءكُمْ، واطلُبوا الرَحْمَة مِنَ اللّه بالرَّحْمَةِ لَهُم (1).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

باللّهِ عليك! أُنظُر إلى هذه الكلِمات.. نَظرَةَ تَامُّلٍ و تَدَبَّر، ولا تَنْسَ باَنَّها صادِرة من شابٍّ في رَيعانِ شَبابِه، ومِنْ إمامٍ لَمْ يَتَخَرّج مِنْ مَدرسةٍ أو كُلّيةٍ سِوى كُلّية الوَحْي والإمامة، ولَمْ يَتَلَقَّ عُلُومَه مِنْ اَيِّ مُعَلَّم أو أُستاذ.. سِوى اللّه تعالى.. الّذي يَقْذِف ما يَشاءُ مِنَ العُلُوم.. في قَلْب مَنْ يَشاء.

و لا اَدّعي أن هذه الكلِمات القِصار.. هِیَ جَميعُ ما صَدَر من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) و ما يُدريك، فَلَعَلَّ الّذي لَمْ تُسَجِّله الكُتُب، ولَمْ تَحفَظه القُلُوب اكثَر ممّا وَصَلَ إلينا.

ص: 391


1- کتاب «کشف الغمّة» لِلإربلي، ج 3، ص 136- 140، ذِكْر الإمام التاسع، في بعض أَخباره (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ثُمَّ إنّ هذه الكلِمات الطافِحة بالحِكمة والمَعرفة، تُوقِظُ القُلُوب، وتُنْضِجُ الأَفكار، وتَجْعَلُ الإنسان بَصِيراً بالحياة وبالمُجْتَمَع، و تَکُون أقوى العِلاقات والرَوابط بَينَ العَبد و خالِقه، وتَسُوقُ الإنسانَ إلى الأَخلاق الفاضِلَة، والصِفات الحَميدة.

وكاَنَّها حَصِيلة تَجارب حَكيمٍ عاشَ مِئات السِنِين، وعَرَفَ الحياة، حُلْوَها ومُرَّهَا، وَإِطَّلَعَ على المُجتمعات البَشَريّة: أَخيارَهم و اَشرارِهم، و عَرَفَ عَواقبَ الأُمور.. ونَتائجَ الأَعمال بكافّة أنواعِها واَقسامها!

و لَعَمري: إنّ هذه الكلمات تَحتاج إلى شَرح واف، و إلى كتاب مُستَقِل، وتَاليف خاص، لاَنَّها تُعالجُ مَشاكِلَ الحَياةِ، مَشاكِلَ الفَرد والمُجتَمَع، َوتُصْلِحُ كُلّ ما اَفسَدَه إتّباعُ الهَوى والإنحِرافات.

و قَبْلَ أَنْ اَخْتِمَ هذا البَحْث، يَجِب أَنْ لا نَنْسى أَنَّ هذه الكلِمات- الَّتي لا يُمكِن تَثمينُها- هِیَ بَعْضُ العَطاء الفِكري الّذي اَسداهُ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 392

إلى البَشَريّة، بالرغم من قصرِ عُمره المُبارك وقلة الإمكاَنا ت المُتوفّرة لَدَيه، و ذلك بِسَبَب الظروف العصيبة الَّتي عاشَها، والضَغط والكبت الّذي كانَ لا يُفارق حياتَه.

إذَنْ، فَما تَقول لَو كَان الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يَعيش عشَرات السِینين.. مَعَ تَوفُّر الوَسائل.. وعَدَم وجُود المَوانع و الحَواجز، ومَعَ فَسح المَجال أمامَه؟!

من الوَاضِح اَنَّه كان يُفيض على الناس المَزيدَ من إنتاجاتِه و إنجازاته، مِنْ عُلومِ مُتَنَوّعة.. وخطوات إصلاحيّة في جميع مَرافق الحَياة.

إذن.. لكاَنتَ الدُّنيا مَمْلُوءة بالخيرات و البَركات و لكاَنتَ السعادة تَغْمُرُ كافَة الطَّبَقات، وجَميعَ المجتَمَعات.

ولكن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان- كآبائه الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) - مَسْلُوبَ الإمكانيّات، ممنوعاً عن التَصَرُّفات، بِسَبَب تَجْمِيد مَواهِیَه، وخَنْق طاقاته، وتَطْوِيقِ عَظمَتِه!

ص: 393

و بعبارة أخرى: إن اللَومَ و المَسؤوليّة على أولئك الّذین تَفَرّقوا عن آل رسول اللّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) و التَّفَوا حَولَ أَعدائهم و مُناوئيهم، وانقادُوا لَهُم- بِجَميع معنى الكلِمة- وصاروا أَدَوات طيّعَة، وَسائل مُذلَّلَة.

وهكذا تَقَوَى الباطل وأهله، وضَعُفَ الحَقِّ وأَهلُه!

ص: 394

بعض ما رُوِيَ عن الإمام الجَواد

بالرَغم مِنْ قِصَر عُمر الإمام الجَواد، و كونه تَحْتَ الرقابة المُشَدَّدة مِنْ قِبَل طواغيت عَصره، فإِنَّه(عَلَيهِ السَّلَامُ) لَمْ يَدَعْ فُرصة تَمُرُّ به إلّا و انتَهَزَهَا لِبَيان الحَقائق و نَشر المَعارِف.

فَإِنْ كاَنتَ الأمَّة الإسلامية- في ذلك العَصْر- لا تَنْتَفِعُ مِنْ بَركات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا تَستَضيء بانوارِه فَهِیَ الخاسرة (بجميع معنى كلمة الخسران)

و إذا كاَنتَ المُجْتَمَعات السافِلة لا تُدرِكُ عَظَمَة العُظَماء، ولا تَشْعُر بمكانة أولياء اللّه المقرّبَينَ،- فَلا تَقُومُ بِما يَجِبُ عليها تِجاهَهُم.. مِنَ الإطاعة والإنقياد.. و التعظيم و التقَدير- فالذَنب ذَنبُ

ص: 395

المُجْتَمَع.. لا ذَنبُ أولياء اللّه!!

و النَّقْصُ في فكر ذلك الجيل المُنْحَطّ، لا في شَخصيّة ذلك الإمام العَظيم.

فَلَوانٌ سُقراط أو أفلاطون أو إبن سينا- مثلاً- (ولا مُناقشة في الأمثال) ذَهَبَ إِلى غابَةِ يَسْكُنُها البَشَر المُتَوحِّش، لإرشادهم وتَثقِيفهم، فقامُوا إليه و اَهانُوه، وضَرَبوه و حَبَسُوه، ولَمْ يَفسَحُوا لَهُ المَجال لِيَتَكلّم اَولِيَكتُب، أوليفيضَ عليهم المَعارف، أو يُنْقِذهم مِنْ حَياة التَّوَحُش، ويُرشِدهم إلى حَياة أفضَل، و مَعيشَةٍ رغيدة، ومُجْتَمَع سَعيد مُزدَهَر، فهذا يدلُّ على إنحِطاط ذلك البَشَر المُتَوَحِّش، و تَجَرَّده عن كلّ ثقافة و حَضارة، و إنسانيّة و إدراك.

و لَيسَ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأوّل مَنْ خاَنه الدَهر، وظلَمَهُ التاريخ؛ بَلْ سَبَقَهُ آباؤه الطاهِرون، و نَفْسُه.. يَشْهَد بذلك.

والآن.. نَذكر بعض ما رُوِيَ عن الإمام الجَواد.. حَولَ مَواضيع مُتنوعّة:

ص: 396

مَنْ أَصْغَى إلى ناطِقِ فَقَد عَبَدَه

رُوِيَ عن الحَسَن بن علي بن يَقطين، عن اَبي جعفر [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

«مَنْ أَصْغَى إلى ناطقِ فَقَد عَبَدَه، فإنْ كانَ الناطِقُ يُؤدّي عن اللّه (عَزَّ وجَلَّ) فَقَد عَبَدَ اللّه، وإنْ كانَ الناطِقُ يُؤدّي عن الشَيطان.. فَقَد عَبَدَ الشَيطان» (1).

* * * *

تَوضيح الحَديث: «مَنْ أصغى إلى ناطِق» اَي: مالَ إليه وإلى حَديثِه، و من الوَاضِح أنَّ الإنسان إذا أعجَبَه الكلام.. مال إليه، و كاَنه يقبله، اَي: يَقَع مِنْه مَوقِعَ القبول، وحَيثُإن العبادة يُعتبر نوعاً من الإلتزام بِالمُعتقَدات والشرائع، كذلك الإصغاء يُعتَبَر نوعاً مِن العِبادة.. بهذا المعنى، واللّهُ العالِم.

هكذا كاَنتَ بيعة النِساء مَعَ رسول اللّه

رُوِيَ عن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنَّه قال: «كاَنتَ

ص: 397


1- کتاب «الكافي» ج 6، ص 434، باب الغناء، حديث 24

مُبايَعَةُ رسولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) النساءَ: أَنْ يَغْمِس يَدَه في إِناءٍ فيه ماء، ثُمَّ يُخرجها، وتغمِس النساء باَيديهنَّ في ذلك الاَنا ء بالإقرار والاَيمان باللّه، والتَصديق برَسوله على ما أَخَذَ عليهِن» (1).

الخَلاص مِن المَشاكِل الإقتِصاديّة

رُوِيَ عن اَبي عمرو الحَذَّاء، قال: ساءَت حالي، فكتبت إلى اَبي جعفر [الجَواد]

(عَلَيهِ السَّلَامُ). فكتَبَ إليَّ:

«اَدِمْ قِراءَة ﴿ إِنااَرْسَلْنا نُوحاً إلى قومه﴾ (2)».

قال: فقَراتُها حولاً [اَي: سَنَة كامِلة] فَلَمْ اَرَ شيئاً، فكتَبتُ إليه، أُخبِره بسوء حالي، و إِنّي قَد

ص: 398


1- کتاب «تُحف العقول» لإبن شعبة الحرّاني، باب «حكم و مَواعِظ الإمام مُحمّد بن علي الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، وكتاب «بحار الأنوار»، ج 21، ص 117، باب «فَتْح مَكَّة» حَديث 14
2- سورة نوح، الاَية 1. الظاهر أنَّ المَقصود: قراءَة السورة كاملة. المُحقّق

قَراتُ ﴿ اَنااَرسَلْنا نُوحاً إلى قَومِه﴾ حولاً كاملاً كما أَمَرتَني، و لَمْ أَرَ شيئاً.

فكتَبَ إليَّ: قَد وفى لكَ الحَول. فانتَقِلْ مِنْها إلى قِراءَة «اَناأنزلناه».

ففَعَلْتُ، فَما كانَ إِلّا يَسيراً.. حَتَّى بَعَثَ إِليَّ ابنُ اَبي دؤاد، فقَضى عنّي دَيني، وأَجرى عليَّ وعلى عِيالي [راتباً]، ووَجَّهَني إلى البَصرة في وكالتِه، بباب كلاّء، و أَجرى عليَّ خمسمائة درهم» (1).

اقول: ولِلحديث تَكْمِلة.. نَذكُرُها في كتابنا «الإمام الهادي من المَهْد إلى اللَحد» إِنْ شاءَ اللّه تَعالى.

أَحداث تَشيب فيها النَواصي

رُوِيَ عن عبد العظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 399


1- کتاب «الكافي» ج 5، ص 316، باب النوادر، كتاب المعيشة، باب النوادر، حديث 50

«إذا ماتَ إبني علي (1) بَدا سِراجٌ بَعْدَه، ثُمَّ خَفِی. قويلٌ لِلْمُرتاب، وطوبى لِلْغَريب.. الفار بِدينِه.

ثُمَّ يَكونُ بَعْدَذلك أَحداث تَشيبُ فيها النَواصي، ويَسير الصُمّ الصلاب. اَيّ حِيْرَةٍ أَعظَم من هذه الحِيرة الَّتي أَخرجَتْ مِنْ هذا الأمر الخَلْقَ الكثير، والجَمَّ الغفير، ولَمْ يَبْقَ عليه مِمَّن كان فيه.. إلا النَزرُ الَيسَ ير!

وذلك لِشَكٍّ الناس، وضَعْفِ يَقينِهِم، وقِلَّةِ نَباتِهِم على صُعوبة ما اَبتُلي به المُخْلِصُون الصابرون والثاَبَتون و الراسِخُون في عِلم آلِ مُحمّد، الراوُونَ لاحاديثِهِمْ هذه، العالِمُونَ بِمُرداهِمْ فيها، الدارونَ لما أشاروا إليه فيمه_ا. الّذین أَنعَمَ اللّه عليهِم بالثَبات، وأكرمهُم باليقين، والحَمْدُ لِلّه رَبِّ العالمين (2).

الإمام يَلْعَنُ اَبا الخَطَّاب

رُوِيَ عن علي بن مَهزیار، قال: سَمِعْتُ اَباجعفر

ص: 400


1- اَي: الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
2- کتاب «الغيبة» لِلنُعماني، ص 186، باب 10، حدیث 37

(عَلَيهِ السَّلَامُ) يَقول- وقَد ذُكِر عِنْدَه أبو الخَطَّاب-: «لَعَنَ اللّه اَبا الخَطَّاب، و لَعَنَ أَصحابه، ولَعَنَ الشاكّين في لَعَنِهِ، ولَعَنَ مَنْ قَد وقَفَ في ذلك.. و شَكَ فيه...» (1).

* * * *

تَوضيح الحَديث: أبو الخَطَّاب هُوَ: مُحمّد بن مقلاص (اَبي زينب) الأسدي، الكوفي. ملعون، غالٍ، ضالّ، فاسِد العَقيدة، كذّاب، أَفّاك.

كان في أول اَمرَهمن أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثُمَّ انحرف انحرافاً فكرياً شديداً، فَصارَ يَتَلاعَب بالمفاهِیَم الإسلامية و القُرآنيّة، فَكانَ يَزِعُمُ أَنّ الزنا رَجُل، و أنّ الخَمْر رَجُل، و الفواحش رَجُل، وأن الصلاة رَجُل، والصيام رَجُل. فالاَيات القرآنيّة الَّتي تامرُ بالصلاة و الصيام، فإنَّه_ا تأمرُ بِمحبّة رجال، والاَيات الَّتي تَنْهى عن الخمر والزنا والفَواحش.. فإِنَّها تَنْهى عن مَحبّة رِجال.

ص: 401


1- كتاب «رجال الكشّي» ص 528، الجزء السادس، حديث 1012

و كانَ يَكذب على الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويَدَّعى عليه أشياء لَمْ يَقُلْها. ويَدَّعي أنَّ قولَه تَعالى: ﴿ وهُوَ الّذي في السَماء إلهٌ و في الأَرضِ إله﴾ (1) هُوَ الإمام.

و كان له أصحاب يَقْبَلون قَوله، ويَعمَلوُن بآرائه.

و قَد لَعَنهُ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) مَرّات عديدة أَشَدَّ اللَعْن، و لَعَنَ أصحابه الّذین قتلوا مَعَه، والّذين بَقِيَ مِنْهُم.

و كان الإمام يَقول فيه و في أصحابه: «هُمْ شَرٌ مِن اليَهود و النَصارى و المَجوس، والّذین أَشركوا».

و ظَهَرَتْ مِن أصحابه الإباحات، ودَعَوا الناس إلى نُبُوَّة اَبي الخَطَّاب، فبَعَثَ والي المَدينة إليهِم رَجُلاً فقَتَلَهُم، وما نَجا مِنْهُم إِلّا رَجُلٌ واحد.

ولمّا سَمِعَ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك خَرَّ ساجِداً شُكراً لِلّه سُبحاَنه!

و هكذا الأئمَّة الّذین جاءوا بَعْدَالإمام الصادق (عَلَيهِ

ص: 402


1- سورة الزخرف، الاَية 84

السَّلَامُ) كانوا يَلْعَنُون اَبا الخَطَّاب ويَلْعَنُونَ أصحابه، لأنّ بَعْضَ آرائه و بِدَعِه.. بَقِيَتْ إلى زمان الغَيبة الصغرى.

و وَرَدَ توقيع من الإمام المَهدي صاحِب الزَمان (عَلَيهِ السَّلَامُ): «و اما ابو الخَطَّاب: مُحمّد بن اَبي زَينب الأجدَع مَلعون، و أَصحابه مَلعُونُون، فَلا تُجالِس اهلَ مَقالتهم، و إنّي مِنْهُم بَريء، وآبائي (عَلَيهِم السَّلَامُ) مِنْهُم بُراء» (1).

تَعاليم حَولَ زيارة قُبور المُؤمنين

رُوِيَ عن مُحمّد بن أَحمَد بن يَحيى، قال: كُنْتُ ب_ «فيد»، فقالَ لي مُحمّد بن علي بن بلال (2): مُرَّ بِنا إلى قَبْرِ مُحمّد بن إسماعيل بن بَزيع لِنَزورَه، فلَمّا اَتَيناه جَلَسَ عِنْدَ راسه مُستقبل القبلة.. والقَبْرُ

ص: 403


1- كتاب «الغَيبة» للشيخ الطوسي، ص 291، باب «التوقيعات الواردة من جهته (عَلَيهِ السَّلَامُ)»
2- و في رواَية التهذيب و الكافي: علي بن بلال

اَمامَه، ثُمَّ قال:

أَخبَرَني صاحِب هذا القَبر [يَعْني: مُحمّد بن إسماعيل] اَنه سمع اَبا جعفر الثاني [الجَواد] (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) يَقول:

«مَنْ زارَ قَبْرَ أخيه المُؤمن، فَجَلَس عِنْدَ قَبْره، واستَقْبَل القِبلة، ووَضَعَ يَدَه على القبر، و قَرأ (إِناانزلناه في لَيلَةالقَدر) سَبْعَ مَرّات، اَمنَ مِن الفَزَع الأكبر» (2).

غَضَبُ اللّه تَعالى على الأمَّة الظالمة

رُوِيَ عن مُحمّد بن إسماعيل الرازي، قال: قُلتُ لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تَقول في الصَوم، فإِنَّه رُوِيَ اَنَّهمْ لا يُوفَّقُونَ لِلصّوم؟

ص: 404


1- و في رواَية اَنَّه سَمِعَ الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول:...
2- كتاب «إختيار مَعرفة الرجال» المعروف ب_ «رجال الكشّي» ص 564، الجزء السادس، حديث 1066

فقال: «أما اَنه قَد أُجِيبَتْ دَعْوَةِ المَلَكِ فِيهِم».

فقُلتُ: وكَيفَ ذلك.. جُعِلْتُ فِداك؟

قال: «إن الناس لمَّا قَتَلوا الحُسَين (صَلَواتُ اللّه عليه) اَمَرَ اللّه (تبارك وتعالى) مَلَكاً يُنادي: «اَيَّتُها الأمَّة الظالمة، القاتِلَة عِترَة تَبيِّها، لا وقَفَكُمُ اللّه لِصَوم ولا لِفِطر» (1).

الواقفة حَمِير الشيعة

رُوِيَ عن مُحمّد بن رجاء الحَنّاط، عن مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنَّه قال: «الواقفة حَميرُ الشيعة ثُمَّ تلا هذه الاَية: ﴿إن هم إلا كالأنعام.. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلا(2)(3).

ص: 405


1- کتاب «الكافي» ج 4، ص 169، کتاب الصِيام، باب النوادر، حديث 1
2- سورة الفرقان، الاَية 44
3- لَقَد صارَ تَسْبِيه الشخص الأَحمَق بالحِمار.. أمراً مُتَعارَفاً ومُنْتَشِراً بَينَ الناس، ومن الوَاضِح أنّ الحُمْق على درجَات، ومنها: الجَهْل بالحقائق الثاَبَتة.. أو الغفلة عَنهُا. وبما أن الشيعة الّذین توقفوا عن الإعتقاد بإمامة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) جَهِلوا.. أو غَفَلوا عن حقيقة سَيْر الإمامة، و اَنَّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) قَد ذكر اَسماء الأئمَّة الإِثني عَشَر، في قأئمَّة مَشهورة بَينَ المُسلمين الشيعة.. في ذلِكَ العَصر، والّذین كانُوا عَلى دَرجَة جيّدة.. من الوَعي و الإِيمان. لِذلك كانَ جَديراً وَصفُ الفِرقَة الواقِفيّة.. بِالحَمقى.. وتَشبيهَهُم ب_ «الحمير». المُحقّق

لا إسراف في العِطر

رُوِيَ عن مُحمّد بن الوليد الكرماني، قال: قُلتُ لاَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تَقول في المِسك؟

فقال: إنّ اَبي أَمَرَ فَعُمِلَ لَهُ مِسْك في بان (1) بسبعمائة در هم.

فكَتبَ إليه الفَضلُ بن سهل يُخبره: أنَّ الناس يُعِيبونَ ذلك.

ص: 406


1- البان: دهن طيّب الرائحة

فكتَبَ إليه: يا فَضل، أَما عَلمتَ أَنَّ يوسُف (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهُوَ نَبيّ، كانَ يَلْبَس الديباج مُزرَّراً بالذهَب (1) ويَجْلِس على كراسي الذَهَب، ولم يُنقِص ذلك مِن حِكمَتِه شيئاً؟!

قال: ثُمَّ أَمَرَ فَعُمِلَتْ له غاليَة (2) باَربعة آلاف درهم (3).

دروس اخلاقيّة وعقائدية مُتَنَوِّعة

رُوِيَ عن مُحمّد بن الوليد الكرماني، قال: أتَيتُ اَبا جعفر ابن الرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فوَجَدْتُ بالباب الّذي في الفِناء- قوماً كثيراً، فعَدلتُ إلى مُسافِر (4) فجَلَسْتُ إليه حَتَّى زالت الشَمس.. فَقُمْنا لِلصَلاة،

ص: 407


1- مُزرّراً: اَزراره مِن الذَهَب
2- الغالِيَة: طيب مُركَّب مِن المِسك والعَنْبَر و ما شابَه
3- کتاب «الكافي»، ج 6، ص 516، كتاب الزي و التَجَمُّل،، باب الغالية، حديث 4
4- مُسافِر: إسم غُلام الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)

فلمّا صَلَّينا الظُهر وَجَدْتُ حِسَاً مِنْ وَرَائِي، فالتَفَتُّ فإذا أَبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَسِرْتُ إليه حَتَّى قَبَّلْتُ يَدَه، ثُمَّ جَلَس و ساَلَ عن مَقَدمي [وكانَ في نَفسي مَرض من إمامتِه] (1) ثُمَّ قال: سَلّمْ.

فقُلتُ: جُعِلْتُ فِداك، قَد سَلَمْتُ.

فاعادَ القَولَ ثَلاثَ مرّات: سَلّمْ، فَقَد ادركتَها.

فقُلتُ: سَلَمْتُ و رَضيتُ يابنَ رَسولِ اللّه [و قَد رَضيتُ بِك إماماً] (2).

فأَجلى اللّهُ عَمّا كانَ في قَلبي [مِن المَرَضِ مِنْ إماميه] (3) حَتَّى لو جَهِدتُ و رُمتُ لِنَفْسي أن أَعودَ إلى الشَكَّ.. ما وَصَلْتُ إليه.

فَعُدْتُ مِن الغَد باكِراً، فارتَفَعتُ عن الباب الأَوّل،

ص: 408


1- هذه الزيادة وردت في كتاب «الهداَية الكبرى» للحُضيني ص 308
2- هذه الزيادة ورَدت في الكتاب المَذكور
3- هذه الزيادة ورَدت في الكتاب المَذكور

وصِرْتُ قَبْلَ الخَيل (1)، وما وَرَاَي أَحَد أَعلَمُه، واَنا أَتوقّعُ اَنْ آخذ السَبيل إلى الإرشاد إليه (2) فَلَم أَجِد أَحَداً آخُذ [مِنْه] حَتَّى اشتَدَّ الحَرُّ والجُوع جداً، حَتَّى جَعَلْتُ أَشرَبَ الماء أُطفىء بِهِ حَرَّ ما أَجِد من الجُوع و الجَوى (3).

فبَينَما اَناكذلك، إِذْ اَقبَلَ نَحْوي غُلام قَد حَمَلَ

خُواَنا(4) عليه طعام و اَلوان، و غُلام آخَر مَعَه طَست وإبريق.. حَتَّى وضع بَينَ يَدَيَّ، وقالا: أَمرك اَن تاكُل، فاكلتُ.

فلمّا فرغتُ اَقبَلَ [الإمام] فقُمْتُ إليه، فأَمرني بالجُلوس و بالأكل، فاكلت، فنَظَرَ إلى الغُلام فقال: كُلِّ مَعَه يَنْشط (5)، حَتَّى إذا فرغتُ، و رُفِعَ الخُوان،

ص: 409


1- اَي: قَبْلَ أَنْ يَأْتي من الناس.. مَنْ يَكونُ راكِباً الخَيل. المُحقّق
2- اَي: أتوقَّع أن أَرى مَنْ يوصِلني إلى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)
3- الجوى: الألم بِسَبَب الجُوع
4- الخُوان: المائدة
5- اَي: يَنْدفع لِلأكل، فالإنسان يَستَحي أن يأَكُل وَحْدَه أَمامَ غيره

وذهَبَ الغُلامُ لِيَرفَع ما وقَعَ مِن الخُوان مِنْ فتات (1) الطَعام، فقال [الإمامُ]: مَه، مَه، ما كان في الصَحراء (2): فَدَعه ولو فَخِذ شاة، وما كانَ في البَيت فالقَطهُ.

ثُمَّ قال: سَلْ.

قُلتُ: جَعَلني اللّه فِداك! ما تَقول في المِسك؟

فقال: إن اَبي أمَرَ أنْ يُعْمَلَ له مسك في فارة، والفأرة نافجة المِسك (3).

فكتَبَ إليه الفَضلُ يُخْبِره: أنَّ الناس يُعيبونَ ذلك عليه.

ص: 410


1- فتات الطَعام: ما تَكَسَّرَ مِنْه
2- الصحراء- هُنا-: الفَضاء الواسع، والمَعنى: اَنَّ ما يَتَساقط من المائدة يُترك لِلحَيوانات، الطُيور وغَيرها، والظاهر اَنَّ قَوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ولو فخذ شاة» لِلمُبالغة
3- النافجة- بفتح الفاء-: وعاء المسك، مُعَرَّب وأَصلُه- في اللُّغة الفارسيَّة-: نافة، ومَعناها: السُرّة، وهِیَ سُرّة نوع من الغَزال، يَتَکُون فيها المِسك

فكتَب: يا فَضْل.. أما عَلِمْتَ أن يوسُف [النَبيّ] كانَ يَلْبَس ديباجاً مَزروراً بالذهَب، ويَجلس على كراسي الذهَب، فَلَمْ يَنْتَقِص مِنْ حِكمتِه شَيء، وكَذلكَ سُلَيمان [النَبيّ].

ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ لَه غالية باربعة آلاف درهم.

ثُمَّ قُلتُ: ما لِمُواليكُم في مُوالاتكُم؟

فقال: إنّ اَبا عبد اللّه [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كانَ عِنْدَه غُلام يُمْسِك بَعْلَتَه إِذا هُوَ دَخَلَ المَسجِد، فبَينَما هُوَ [اَي: الغُلام] جالس، ومَعَه بغلة إذ اقبَلَتْ رِفْقة من خراسان، فقال له رجُل مِن الرِفْقة: هَلْ لَكَ يا غُلام أنْ تَساله أَنْ يَجْعَلَني مكانك، و اكون لَه مَملوكاً، واَجعَل لَكَ مالي كله؟ فإنّي كثيرُ المال مِن جَميع الصُنوف، إذهَب فاقبِضه، و اَناأقيمُ مَعَه مكانك.

فقال [الغُلام]: اَسأَله ذلك (1).

فدَخَلَ على اَبي عبد اللّه [الصادق] فقالَ لَه: جُعِلْتُ فداك، تَعرِف خِدمَتي و طول صُحْبَتي، فإن ساقَ اللّه

ص: 411


1- اَي: اَناأسأل الإمام عن ذلك

إليَّ خيراً تمنعنيه؟

قالَ [الإمام]: أُعطيك مِنْ عِنْدي و اَمنعك مِنْ غَيري؟!

فَحَكى لَه قَولَ الرَجُلِ [الّذي عَرَضَ عليه الأَموَال] فقال [الإمام]: إِنْ زَهِدْتَ في خِدمَتِنا، ورغَبَ الرَجُلُ فينا.. قَبِلناه، وأَرسَلناك، فلَمّا ولّى [الغُلام] عَنهُ دَعاه [الإمامُ] فقالَ لَه: أنصَحُك لطول الصُحبة، و لَك الخَيار [اَي: اَنتَ مُخَيَّر]:

إذا كانَ يَوم القيامة كانَ رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) مُتَعلَّقاً بِنُورِ اللّه، و كان اَمير المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مُتعلّقاً بِرَسولِ اللّه، و كانَ الأئمَّة مُتعلّقين باَمير المُؤمنين، وكان شيعتُنا مُتعلّقين بِنا، يَدخُلون مَدخَلَنا، ويَرِدُونَ مَورِدَنا.

فقالَ الغُلام: بَلْ أُقيمُ في خِدمَتِك، وأؤثِرُ الآخِرة على الدُنيا.

وخَرَجَ الغُلامُ إلى الرَجُلِ [الخراساني] فقالَ لَه الرَجُل: خَرَجْتَ إِليَّ بِغَيرِ الوَجْه الّذي دَخَلْتَ بِه، فَحَكَى [الغُلام] لَه قَولَه (عَلَيهِ السَّلَامُ) و أَدخَلَه على اَبي

ص: 412

عبد اللّه [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقَبِلَ ولاءَه، و اَمَرَ لِلغُلام بألف دينار، ثُمَّ قام إليه فَودَّعه، و سَاله اَنْ يَدعولَه، فَفَعَل.

فقال مُحمّد بن الوليد الكرماني: فقُلتُ: يا سَيَّدي لولا عِيال بِمكّة و ولدي، سَرَّني أنْ أُطِيلَ المُقام بِهذا الباب، فأَذنَ لي و قالَ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لي: تُوافِقُ غَمّاً (1). ثُمَّ وُضِعَتْ بَينَ يَدَيه حُقِّ كانَ لَه (2) فأَمَرني أَن أَحمِلَها فتاَبَّيتُ، وظَنَنْتُ أنّ ذلك مُوجِدُه (3) فضَحِك إليَّ، و قال: خُذْها إليك، فإنَّك تُوافِق حاجة، فجِئْتُ وقَد ذهبَت نفقتُنا شطر مِنها، فاحتَجَّت إليه ساعةَ قَدِمُت مكّة (4).

ص: 413


1- اَي: سَوفَ يَحْدث لك ما يُوجِبُ حُزنك و عمك
2- الحُقِّ: وعاء أو صندوق يُصنع من الخشب، أو العاج أو غيرهما
3- تاَبَّيت: اَبيتُ. المَوجدة: الأمر المُسَبِّب للسَخَط وعَدَم الرضا
4- كتاب «بحار الأنوار»، ج 50، ص 87- 89، باب «فضائله و مکارم اخلاقه»، حدیث 3. و كتاب «الخرائج» للراوندي، ج 1، ص 388، الباب العاشر، حدیث 17

الإمام الجَواد و تعيين الوكلاء

رُوِيَ عن إبراهِیَم بن مُحمّد الهمداني، قال:

كانَ أَبو جعفر مُحمّد بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتَبَ إليَّ كِتاَباً، وأَمَرَني أن لا اَفُکَّه حَتَّى يَمُوتِ يَحيى بن اَبي عِمْران. فَمَكَثَ الكِتابُ عِنْدي سنين.

فلَمّا كانَ اليَوم الّذي ماتَ فيه يَحيى بن اَبي عِمران فككْتُ الكِتاب، فإذا فيه:

« قُمْ بِما كانَ يَقُومُ به» أو نَحْوَ هذا من الأمر.

و كان إبراهِیَم يَقول: كُنت لا أَخافُ المَوت ما كانَ يَحيى حَيّاً (1).

والدة الإمام الهادي (عليه السلام)

عن مُحمّد بن الفرج بن عبداللّه، قال:

ص: 414


1- کتاب «بصائر الدرجات»، الجزء السادس، باب 1، حديث 2

دَعاني أَبو جعفر مُحمّد بن علي [الجَواد] فأَعلَمَني اَنَّ قافِلَة قَدِمَتْ، وفيها نَخّاس (1) و مَعَه جَوار (2) و دفَعَ إليَّ سَبْعين ديناراً، و اَمَرني بابتِياع جاريَةٍ وَصَفَها لى (3) فَمَضَيتُ، فَعَمِلتُ بما أمَرَني، فكاَنتَ الجاريَة أمّ اَبي الحَسَن الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ). (4)

ص: 415


1- النخاس: بائع العبيد والإماء
2- جَوار- جَمْع جارية-: الأمَّة
3- اَبَتاع: اَشتَري. والاَبَتياع: الشراء
4- كتاب «دلائل الإمامة»، ص 216، معرفة ولادة اَبي الحَسَن علي بن مُحمّد(عَلَيهِم السَّلَامُ)

ما رواه الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه الطاهرين

إِنَّ الحُسَين مِصْباح الهُدى

رَوى علي بن عاصِم، عن الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حديثاً مُفَصَّلاً.. نَذكُرُه لِما فيه من الفَوائد:

عن مُحمّد بن علي بن موسى، عن اَبيه علي بن موسى عن اَبيه موسى بن جعفر، عن اَبيه جعفر بن مُحمّد عن اَبيه مُحمّد بن علي، عن اَبيه علي بن الحسين، عن اَبيه الحُسَين بن علي بن اَبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: دَخَلْتُ على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) و عِنْدَه اَبي بنُ كعب، فَقالَ لي رَسولُ اللّه: مَرحَباً بِكَ يا اَبا عبداللّه يا زينَ السَماواتِ والأرضين.

ص: 416

فقالَ اُبيّ: وكَيفَ يَكون- يا رسولَ اللّه- زَينَ السَماوات والأَرضين أَحَدٌ غَيرك؟!

قال: يا اُبيّ، والّذي بَعَثَني بالحق نَبيّاً، إنّ الحُسَين بن علي.. في السَماء أكبَرُ مِنْه في الأرض، واَنه لمَكْتُوبٌ عن يَمِين عَرشِ اللّه (عَزَ و جَلٌ): مِصْباحٌ هُدىً وسفينة نجاة (1) و إمامُ خَيرٍ ويُمن، وعِزٍ وفخر، وعِلْمٍ وذُخر.

و إِنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) ركَّبَ في صُلبِه نُطفة طيّبة مباركةً زكيّة، وقَد لُقِّنَ دَعَواتٍ ما يَدعو بِهِنّ مَخلوق إلا حَشَرَهُ اللّه مَعَه، وكان شفيعُه في آخِرته، وفَرِّجَ اللّهُ

ص: 417


1- بِما أنّ كلام النَبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) كانَ حَولَ عظمة الإمام الحُسَين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فَلَمْ يَذكُر إسم الإمام الحُسَين.. و اعْتَمَدَ على ذهن السامع. ولَعَلَّ النَبيّ ذكر ذلك، لكن راوي الخَبَر لَمْ يَذكره لوضوحه. وقَد رُوِيَ هذا المَضمون.. في أَحاديث كَثيرة جِدّاً، منها: قالَ رسولُ اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «لَمّا أُسرِيَ بي إلى السَماء.. راَيتُ مَكتوباً على ساقِ العَرْش (و في نُسْخَةِ: عن يمين العَرْشِ): إِنَّ الحُسَينَ مصباح الهدى و سفينةُ النَجاة»

عَنهُ کربَه و قَضى بها دَينَه، ويَسَّرَ اَمرَه، وأَوضَحَ سَبيلَه، و قَوّاه على عَدوِّه، و لَمْ يَهْتَكَ سِتْرَه.

فَقال اَبيّ بن كعب: و ما هذه الدَعَوات يا رسول اللّه؟

قال: تقول- إذا فَرغْتَ مِنْ صَلاتِك.. و اَنتَ قاعِد-: «اللّهم إنِّي أَسأَلُكَ بِكَلماتكَ ومَعاقِد عَرشِك، و سُكّانِ سَماواتك و أنَبيّائك و رُسُلِكَ، أَنْ تَسْتَجيب لي، فَقَد رهَقَني من أَمري عُسر، فأَسأَلك أنْ تُصَلي على مُحمّدو آلِ مُحمّد و اَنْ تَجْعَلَ لي مِنْ أمري يُسراً».

فإِنَّ اللّه (عَزّ وجَلٌ) يُسَهِّلُ اَمرَك، ويَشرَح صَدرك، ويُلَقِّنُك شَهادة «أنْ لا إلهَ إلا اللّه» عِنْدَ خُروج نَفْسِك.

قالَ لَه اُبيّ: يا رَسولَ اللّه، فَما هذه النُطفة الَّتيفي صُلب حَبيبي الحُسَين؟

قال: مَثَلُ هذه النُّطْفَة كَمَثَل القَمَر، وهِیَ نُطفة بَنين و بَنات، يَكونَ من اتَّبَعَه رشيداً، ومَنْ ضَلَّ عَنهُ هوّيا.

قال: فَما إِسمُهُ و ما دُعاؤه؟

ص: 418

قال: إِسمُهُ: علي، ودُعاؤه: «یا دائم، یا دَيَمُوم، يا حَيُّ يا قيَوم، يا كاشِفَ الغَم، و يا فارِجَ الهَم، ويا باعِثَ الرُّسُل، و يا صادقَ الوَعد».

مَنْ دَعَا بِهذا الدعاء حَشَرَهُ اللّه(عَزّ وجَلٌ)مَعَ علي ابن الحُسَين، وكان قائدَه إلى الجِنّة.

فقال اَبي: يا رسول اللّه فَهَلْ لَه مِنْ خَلَفٍ ووَصيَّ؟

قال: نَعَمْ، لَه مَواريث السَماواتِ والأرض.

قال: ما مَعْنى مواريث السَماوات و الأرض يا رسول اللّه؟

قال: القَضاءُ بِالحق، والحُكْم بالديانة، و تأويل الأَحكام، وبيان ما يَكون.

قال: فَما إِسمُهُ؟

قال: إِسمُهُ: مُحمّد، وإِنَّ المَلائِكَةِ لَتَستَانِس بِهِ في السَماوات، ويقول في دعائه: «اللّهمَّ إِنْ كانَ لي عِنْدَكَ رِضوان ووُدَّ، فاغفِرْ لي ولِمَنْ تَبِعَني من إخواني وشيعَتي، وطيِّب ما في صُلبي». فَركَّبَ اللّه (عَزّ وجَلَّ) في صُلْبِهِ نُطفة طيّبة

ص: 419

مُباركة زكيّة، و أَخبَرني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنّ اللّه (عَزّ وجَلٌ) طَيَّب هذه النُطفة، وسَمّاها عندَه جعفراً، و جَعَلَهُ هادياً مهديّاً، راضياً مَرضيّاً، يَدعو ربَّه فَيَقولُ في دُعائه:

«یا دَيّانُ غَير مُتَوانِ، یا اَرحَمَ الراحمين، إجعَلْ لِشيعَتي من النار وِقاءاً، و لَهُمْ عِنْدَكَ رِضا، واغفِرْ ذُنُوبَهُمْ، ويَسِّر أُمورَهم، واقْضِ دُيُونَهُمْ، واستُرْ عَوراتهم، و هَبْ لَهُمُ الكبائر الَّتي بَينَك وبَينَهُم.

يا مَنْ لا يَخافُ الصّيم، ولا تَأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوم، إجعَلْ لي مِنْ كُلِّ غَمَّ فَرَجاً».

مَنْ دَعا بهذا الدُعاء حَشَره اللّه تَعالى.. اَبيضَ الوَجه.. مَعَ جعفر بن مُحمّدإلى الجَنّة.

يا اُبيّ، إن اللّه تَبارك وتَعالى ركَّبَ على هذه النُطفة نُطفةً زكيَّة مُباركة طيِّبة، أَنزلَ عليها الرَحمة وسَمّاها عِندَه موسى.

فَقالَ لَه اُبيّ: يا رسولَ اللّه، كاَنَّهُم يَتَواصَفُونَ ويَتَناسَلون، ويَتوارثُون، ويَصِفُ بَعضُهم بَعْضاً؟

ص: 420

قال: وَصَفَهُمْ لي جبرئيل عن رَبِّ العالمين جَلَّ جلاله.

قال اُبيّ: فَهَلْ لِموسى.. مِنْ دَعوة يَدعو بِها سِوى دُعاء آبائه؟

قال: نَعَم، يقول في دُعائه:

«يا خالِقَ الخَلْق، و يا باسِطَ الرزق و فالِقَ الحَبِّ و النّوى، و بارىءَ النَسَم، و مُحيي المَوتى، و مُميت الأَحياء، و دائِمَ الثبات، و مُخرجَ النَبات، إفعَل بي ما اَنتَ أهله».

مَنْ دَعا بهذا الدُعاء قَضى اللّهُ تَعالى حَوائجَه، وحَشَرَه يَوم القِيامة مَعَ موسى بن جعفر.

و إنّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) ركَّبَ في صُلْبِهِ نُطفةٌ مُباركة زكيَّة، رَضِيَّة مَرضِيَّة، وسَمّاها عِنْدَه عَلِيّاً، يَكونُ لِلّه تَعالى في خَلْقِهِ رَضِيّاً في علمه وحُكْمِه، ويَجْعلُه حُجَّةٌ لِشيعَتِه يَحْتَجّونَ بِه يَوم القيامة، ولَهُ دُعاء يَدعُو بِه :

ص: 421

«اللّهم أعطني الهُدى و ثَبِّتْني عليه، و احشرني عليه آمناً، اَمنَ مَنْ لا خَوف عليه ولا حُزنَ ولا جَزَع، إِنَّكَ أَهلُ التَقْوى وأَهلُ المَغْفِرة».

و إِنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) ركَّبَ فِي صُلْبِه نُطفةٌ مُباركة طيّبة زكيّة رَضِيَّة مَرضِيَّة، وسَمَّاها مُحمّد بن علي، فَهُوَ شَفيع شيعَتِه، و وارث عِلْمٍ جَده.

لَهُ عَلامَة بَيّنَة، وحُجَّة ظاهِرة، إذا وُلِدَ يَقول: لا إلهَ إلا اللّه، مُحمّدرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) و يقول في دُعائه:

يا مَنْ لا شَبيهَ لَهُ ولا مِثال، اَنتَ اللّه الّذي لا إلهَ اَنتَ، ولا خالِقَ إلّا أنت، تُفني المَخْلوقين وتَبْقى اَنتَ، حَلُمْتَ عَمَّنْ عَصاك، وفي المَغفِرة رِضاك».

مَنْ دَعَا بِهذا الدُعاء كانَ مُحمّد بن علي شَفيعَه يَومَالقِيامة.

و إِنَّ اللّه تَعالى ركَّبَ فِي صُلْبِهِ نُطْفَةٌ لا باغِيَةٌ ولا طاغِيَة، بارَّة، مُباركة، طَيّبة، طاهِرة، سَمّاها عِنْدَه عليّ بن مُحمّد، فاَلبَسَها السَكينة والوَقار، وأودَعَها

ص: 422

العُلوم و كُلَّ سِرٍ مَكْتُومٍ، مَنْ لَقِيَه وفي صَدْرِهِ شيء اَنبَاَه به، وحَذَرَه مِنْ عَدُوه، ويَقولُ في دُعائه:

«یا نُورُ یا بُرهان، یا مُنیر یا مُبَينَ، يا رَبِّ إكفني شَرَّ الشُرور، و آفاتِ الدُهور، وأسألكَ النّجاةَ يَومَيُنْفَخُ في الصُور».

مَنْ دَعَا بِهذا الدُّعاء كان علي بن مُحمّد شَفيعَه و قائدَه إلى الجَنّة.

و إنَّ اللّه تَبارَك و تَعالى.. ركَّبَ فِي صُلْبِه نُطفة و سَمَّاها عِنْدَه الحَسَن، فَجَعَلَهُ نُوراً في بِلادِه، وخَليفَة في أَرضِه، وعِزّاً لأمَّة جَدّه، وهادياً لشيعَتِه، وشفيعاً لَهُمْ عِنْدَ ربّه، ونقمةً على مَنْ خَالَفَه، وحُجَّةٌ لِمَنْ والاه، وبُرهاَناً لمَن اتَّخَذَه إماما.

يَقولُ في دُعائه: «يا عَزيز العِزّ في عِزّه، ما أَعَزَّ عَزيزَ العِزّ في عِزّه، يا عَزيزُ أَعِزَّني بِعِزِّك، و اَيّدني بِنَصْرِك، و ابَعْدَعَنِّي هَمَزاتِ الشياطين، و ادفَعْ عَنِّي بِدَفَعِك، و اَمنَعْ عَنِّي بِمَنْعِك، واجْعَلْني مِنْ خِيارِ خَلْقِكَ يا واحِدُ يا أَحَد، يا فَرْدُ یا صَمَد».

ص: 423

مَنْ دَعَا بِهذا الدعاء حَشَرَه اللّه (عَزّ وجَلٌ) مَعَه، و نَجّاه مِن النار ولو وَجَبَتْ عليه.

و إِنَّ اللّه (تبارك و تعالى) ركَّبَ في صُلب الحَسَن نُطفة مُباركةً زكيَّةً، طيّبةً، طاهرةً، مُطَهَّرةً، يَرْضى بِها كُلُّ مُؤمن مِمَّنْ قَد اَحَدَ اللّه تعالى ميثاقه في الولاَية، ويَكْفُرُ بِها كُلّ جاحِد، فَهُوَ إمام تقيً نقيً، بارٌ مَرضِيّ، هادي، مَهْدِي، يَحكُمُ بِالعَدلِ، ويَأمرُ بِه، يُصَدِّق اللّه تَعالى ويُصَدِّقَهُ اللّه تعالى في قوله.

يَخرُجُ مِنْ تهامة، حِينَ تَظهَر الدلائل والعَلامات، و لَه كُنوز لا ذهَبَ و لا فضَّة إلا خُيول مُطهَّمة، ورجال مُسَوَّمَةِ، يَجْمَعُ اللّه تعالى له مِنْ أَقاصي البِلاد على عِدّة أهلِ بَدْر: ثلاثمائة وثَلاثة عَشَر رَجُلاً.

مَعَه صَحيفة مَختُومة، فيها عَدَد أَصحابه بِاَسمائِهِم و أَنسابِهم، وبُلداَنهم، وضَياعهم، وحُلاهُمْ و كُناهُمْ (1)، كدّادون (2) مُجِدُّونَ في طاعَتِه.

ص: 424


1- كُناهم- جمع كُنْية- و هُوَ: الإسم المُصَدَّر باب أو أم
2- مِن الكدّ، وهو الجِدّ والجُهد

فقال اُبيّ: و ما دلائلُه و علاماتُه يا رسولَ اللّه؟

قال: لَه عَلَمٌ، إذا حانَ وقتُ خُروجه إنتَشَرَ ذلك العَلَم مِنْ نَفْسِه، وأَنطَقَهُ اللّه تعالى، فَناداه العَلَم: أُخرُج يا وليَّ اللّه فاقتُل أعداءَ اللّه.

و هُما رايَتان و عَلامتان، و لَه سَيف مُغْمَد، فإذا حانَ وقت خُروجه.. إختُلِعَ ذلك السَيف من غِمدِه (1) و أَنطَقَه اللّه (عَزّ وجلّ)، و ناداهُ السَيف: أُخرُج يا وليَّ اللّه، فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْعُدَ عن أَعداءِ اللّه.

فيَخرُجُ و يَقْتُلُ أعداءَ اللّه حَيثُ ثقفَهُم، ويُقيمُ حُدودَ اللّه، ويَحْكُم بِحُكْمِ اللّه.

يَخْرُجُ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن يَمينِه، و ميكائيل عن يَسارِه.

وسَوفَ تَذكُرونَ ما أقولُ لَكُم.. ولوبَعْدَ حِين، و أفوِّضُ أمري إلى اللّه تعالى (عَزّ وجَلَّ).

يا اُبيّ، طُوبى لِمَنْ لَقِيَه، و طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّه،

ص: 425


1- الغمد: غِلاف السَيف

و طُوبَى لِمَنْ قالَ بِه، يُنْجِيهِمُ اللّه بِه مِن الهَلَكة، و بالإقرار بِاللّه وبِرَسولِه وبجَميع الأئمَّة، يَفْتَحُ اللّهُ لَهُمُ الجِنّة.

مَثَلُهُم في الأَرض كَمَثَلِ المِسْك الّذي يَسْطَعُ رِيحُه ولا يَتَغَيَّرُ ابداً.

و مَثَلُهُم في السَماء كَمَثَل القَمَر المُنير الّذي لا يُطفى نُوره اَبَداً.

قال اُبيّ: يا رسول اللّه، كَيفَ بيانُ حالِ هؤلاء الأئمَّة عن اللّه (عَزَ و جَلَّ)؟

قال: إِنَّ اللّه (عَزّ وجَلَّ) أنزلَ عَلَيَّ إثني عَشَرَ صَحيفة، إسمُ كُلّ إمام على خاتمِه، وصِفتُه في صَحيفتِه» (1).

* * * *

اَيُّها القارىء الكريم

ص: 426


1- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)» للشيخ الصدوق، ج 1، ص 62- 65، باب 6، حدیث 29

لقَد ذكرنا الحَديث بِطُولِه، لِما فيه مِن الفَوائد و البَركات.

كلّم الناس على قَدر عُقولهم:

رُوِيَ عن عبد العظيم الحَسَني قال: حَدَّثنا مُحمّد بن علي الرضا، عن اَبيه، عن جده، عن اَبيه، عَن جدِّه، عَن علي بن اَبي طالِب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

قال رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ): اَناأُمِرنا - مَعاشِرَ الأنَبيّاء- بِأَنْ تُكلّم الناس بقَدر عُقُولهِم.

قال: فَقالَ النَبيّ (صلى اللّه عليه وآله): «أمرني ربِّي بِمُداراة الناس.. كما أمرنا بإقامة الفَرائض» (1).

السُّنَّة سُنَّتان:

رُوِيَ عن عبد العظيم بن عبداللّه الحَسَنى، قال:

ص: 427


1- كتاب «الأمالي للشيخ الطوسي»، ص 481، المجلس السابع عشر، حدیث 3

حَدّثنا أبو جعفر: مُحمّد بنُ علي، عن اَبيه، عن جَدِّه، عن جعفر بن مُحمّد، عن آبائه عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

قال رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ): «السُنَّة سُنَّتان: سُنَّة في فَريضَة، الأخذُ بها هُدى، وتَركُها ضَلالة، وسُنَّة في غَير فَريضَة، الأَخذُبِها فَضيلة، وتَركُها إلى غَيْرِها خَطيئَة» (1).

و عَنهُ(عَلَيهِ السَّلَامُ) عن اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه قال:

مَنْ وَثِقَ بِاللّه.. اَراه السُرور.

ومَنْ تَوكَّلَ عليه.. كفاهُ الأُمور.

والثِقَةُ باللّه حِصنٌ لا يَتَحَصَّن فيه إلّا مؤمنٌ اَمين.

والتّوكُّلُ على اللّه: نَجاةٌ مِنْ كُلِّ سُوء، وحِرْز مِنْ كُلِّ عَدُوٌّ.

و الدِينُ عِزّ، والعِلْمُ كنز، والصَمْتُ نُور، وغاَيةٌ

ص: 428


1- كتاب «الأمالي» ص 589، المجلس الخامس و العِشرون حَدیث 11

الزُهد.. الوَرع.

و لا هَدم لِلدِين مثل البِدَع، ولا أفسَدَ لِلرِجال مِن الطَمَع.

بالراعي تَصْلُحُ الرَعيّة، وَ بِالدُّعاء تُصْرَف البَلِيَّة.

و مَنْ رَكِبَ مَرْكَبَ الصَّبْر.. اهتَدى إلى مِضمار الصَبر.

ومَنْ عابَ عِيبَ، و مَن شَتَمَ أُجِيبَ.

و مَنْ غَرَسَ أَشجارَ التُقى.. اجتَنى ثِمارَ المُنى(1).

اَربَعاً أنزلَ اللّه تَعَالَى تَصْديقي بِها

رُوِيَ عن عَبد العَظيم الحَسَني الرازي، عن اَبي جعفر الثاني، عن آبائه، عن علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قُلتُ: اَربَعاً أنزلَ اللّهُ تَعالى تَصْدیقی بِها فی

ص: 429


1- کتاب «کشف الغمة» للإربلي، ج 3، ص 136، ذِكْر الإمام التاسع، في بعض اَخبار ه (عَلَيهِ السَّلَامُ)

كِتابِه (1):

قُلتُ: «المَرْءُ مَخْبُوء تَحْتَ لِساَنه (2) فإذا تَكلَّمَ ظَهَر» فأنزل اللّه تعالى: ﴿ولَتَعرِفَنَّهُمْ في لَحْن القول﴾ (3).

قُلتُ: «فَمَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه»، فاَنزلَ اللّه: ﴿ بَلْ كذَّبوا بِما لَم يُحِيطُوا بِعِلمِه﴾ (4).

وقُلتُ: «قِيمَةٌ كُلِّ امرِىء ما يُحْسِن»، فَأَنزلَ اللّهُ- في قِصَّة طالوت-: ﴿إنَّ اللّه اصطَفاهُ عَلَيكُم.. و زادَهُ بَسْطَةً في العِلمِ و الجِسم﴾ (5).

ص: 430


1- لَيسَ مَعنى هذا الحَديث أنَّ هذه الكلمات صَدرَتْ مِن الإمام اَمير المؤمنين علي بن اَبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قَبْلَ نُزول الاَيات القُرآنيَّة المَذكورة، وإنَّما مَعنى الحَديث- واللّهُ العالِم-: أَنَّ الإمام يَستَشهد لِصِدق ما قالَه.. و تاَييد ما ذكرَه.. بِكلام اللّه تَعالى في كِتابه الكريم. المُحقّق
2- مَخْبُوه: مَستور و مَخْفيّ
3- سورة مُحمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ )، الاَية 30
4- سورة يونس، الاَية 39
5- سورة البَقَرة، الاَية 247

وقُلتُ: «القَتْلُ يُقِلُّ القَتْل»، فَأَنزلَ اللّهُ:

﴿ولَكُمْ في القِصاصِ حَياة يا أُولي الأُلباب (1)(2).

الأئمَّة المُحَدِّثون

رُوِيَ عن الحَسَن بن عبّاس بن الجريش، عن اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنَّه قال:

إن اَمير المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالَ- لإبن عبّاس-:

«إنّ لَيلَةَ القَدر في كُلِّ سَنَة، واِنَّه يَنْزلُ في تِلكَ اللَيلَةأَمرُ السَنَة، ولِذلك الأَمرِ ولاةٌ بَعْدَ رسولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ).

فَقالَ ابنُ عبّاس: مَنْ هُمْ؟

ص: 431


1- سورة البقرة، الاَية 179
2- كتاب «بحار الأنوار» ج1 ص - 166، كتاب العِلم، ابواب العِلم و آدابه و أنواعه و احکامه، حديث 5

قال: «اَنا، وأحدَ عَشر مِنْ صُلبي، أئمَّة مُحدَّثون (1) »(2).

ص: 432


1- ذكرَ المناوي- في شرح الجامع الصغير، ج 2، ص 270- عن القُرطبي، قال: «(مُحَدَّثون)- بِفَتْح الدال-: إسم مَفعول، جَمْع: مُحَدَّث، اَي: مُلهَم، أو صادق الظَن، وهُوَ مَنْ اُلقِيَ في نَفْسه شيء على وَجه الإلهام والمُكاشَفة من المَلاً الأَعلى، أو: مَنْ يَجْري الصَوابُ على لِساَنه بلا قَصد، أو تُكلّمُهُ المَلائكة بِلا نُبُوَّة، أو مَنْ إذا رأى راَياً أو ظنَّ ظَنّاً أصابَ.. كاَنَّه حُدِّثَ به و أُلقِىَ فى رَوعِه مِن عالَم المَلَكوت، فَيَظْهَر [الاَمرُ] على نَحو ما وقَع لَه، و هذه كرامة يُكرِمُ اللّهُ بها مَنْ يَشَاء مِن صالِحي عِبادِه، وهذه مَنزلة جَليلَة مِن مَنازل الأَوّلياء». أقول: من الوَاضِح أَنَّ معنى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أئمّة مُحَدَّثون» هُوَ المَعنى الرابع الّذي ذكرَه المناوي، و هُوَ تكلُّم المَلائكة مَعَه مِن دون أن يَكون نَبيّاً، ولِلبَحث تَفصيل ذكرناه في كتابنا «فاطمة الزهراء (عَلَيها السَّلَامُ) مِن المَهْد إلى اللَحد»، عِنْدَ شَرح أسمائها (عَلَيها السَّلَامُ) و اَنَّ مِنْ اَسمائها: «المُحَدَّثَة» ص 121
2- کتاب «الكافي ج 1، ص 532- 533، باب ما جاءَ في الاثني عَشَر و النَّص عليه_م (عَلَيهِم السَّلَامُ)، حدیث 11

حَولَ الإمام المهدي (عليه السلام)

رُوِيَ عن عبد العَظيم بن عبد اللّه الحَسَني، عن الإمام مُحمّد بن علي بن مُوسى بن جعفر بن مُحمّد بن علي بن الحُسَين بن علي بن اَبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) عن اَبيه، عن آبائه، عن اَمير المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

«للقائم مِنّا غَيبة، اَمَدُها طَويل، كاَنّي بِالشيعة يَجُولُونَ جَولان النِعَم في غَيبَتِه، يَطلُبونَ المَرْعى فَلا يَجِدُونَه. اَلا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُم على دينِه، ولَمْ يَقْسُ قَلْبُه لِطُولِ غَيبَة إمامِه، فَهُوَ فِي دَرجَتي يَوم َالقِيامة».

ثُمَّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ القائمَ مِنّا إذا قامَ لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ في عُنُقِهِ بَيعَة، فَلِذلك تخفى ولادتُه، ويَغيبُ شَخصُه» (1).

ص: 433


1- كتاب «إكمال الدين » للشيخ الصَدوق، ج 1، ص 303، باب 26، حديث 14

صِف لَنا المَوت

رُوِيَ عن الحَسَن بن علي الناصِري، عن اَبيه، عن اَبي جعفر [الجَواد] عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قِيلَ لاَمير المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): صِف لَنا المَوت؟

فقال: على الخَبير سَقَطتُمْ، هُوَ احَد ثَلاثة أُمور يَرِد عليه:

إما بِشارةٌ بِنَعِيم الأَبَد.

و إما بشارةٌ بِعَذاب الاَبَد.

وإمّا تَخويف و تَهويل.. و اَمرَه مُبْهَم، لا تَدْري مِنْ اَيِ الفِرَق هُوَ؟

فأما ولينا، المُطِيع لأمرنا، فَهُوَ المُبَشِّرِ بِنَعِيم الأبد

و أمَّا عَدُوُّنَا المُخالِف عَلَينا، فَهُوَ المُبَشِّر بِعَذاب الأَبَد.

و أَمّا المُبْهَم اَمرُه، الّذي لا يُدرى ما حالُه، فَهُوَ المُؤمن المُسرِف على نَفْسِه، لا يَدْري ما يَؤولُ إليه حالُه

ص: 434

يَأتيه الخَبَر مُبْهَماً مَخوفاً.

ثُمَّ لَمْ يُسَوِّيه اللّه (عَزّ وجَلٌ) بِأَعدائنا، ولكن يُخْرِجُه مِن النار بِشَفاعَتِنا.

فاعمَلوا وأَطيعُوا، ولا تَتّكلوا ولا تَستَصْغِروا عُقوبة اللّه (عَزَّ وَ جَلَّ). فإنَّ من المُسرفين.. مَنْ لا

تَلْحَقُه شَفاعَتُنا إِلّا بَعْدَ عَذاب ثَلاثمائة ألف سَنَة (1).

النساء المُعَذَّبات

رُوِيَ عن عبد العَظيم الحَسَني، عن مُحمّد[الجَواد] ابن علي الرضا، عن آبائه، عن اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

«دَخَلْتُ اَنا و فاطمة.. على رسولِ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) فَوَجَدْتُه يَبكي بُكاءاً شديداً، فَقُلتُ: فِداك اَبي وأُمّي يا رسولَ اللّه، ما الّذي اَبكاك؟!

ص: 435


1- كتاب «بحار الأنوار» ج 6، ص153- 154، باب سكرات المَوت و شدائده»، حدیث 9

فقال: يا علي، لَيلَةَ أُسري بي إلى السَماء.. راَيتُ نساءاً مِنْ أمتي في عَذابٍ شَديد، فأنكرت شاَنهُنَّ، فَبَكِيتُ لِما راَيتُ مِنْ شِدَة عَذابِهِن!

رَاَیتُ امرأةٌ مُعَلَّقَةٌ بِشَعْرِها، يَغْلي دماغُ رأسِها.

و رَاَیتُ امرأةٌ مُعَلَّقة بِلِساَنها، والحَمِيمُ يُصَبُّ في حَلقِها (1).

و رَاَیت امرأةٌ مُعَلَّقَةٌ بِثَديَيها.

و راَيتُ امرأةٌ تَاكُلُ لَحْمَ جَسَدِها، والنارُ تُوقَد مِنْ تَحْتِها.

و راَيتُ امرأةً قَد شُدَّت رِجلاها إلى يَدَيها، وقَد سُلَّطَت عليها الحَيّاتُ و العَقارِب.

و راَيت امرأةٌ صَمّاء، عَمْياء، خَرساء، في تابُوتٍ مِنْ نار (2)، يَخْرُجُ دماغُ راسِها مِنْ مِنْخَرِها، وبَدَنها مُتَقَطَّعٌ مِن الجُذام والبَرَص.

ص: 436


1- الحَمِيم: الماء الحار، الشديد الحَرارة، يُسْقَى مِنْه أَهلُ النار.. أو يُصَبُّ على أبداَنِهِم
2- التابوت: الصُندوق، ولَعَلَّ المَقصود مِنه- هُنا: دمِنْه الغُرفَة المُخصّصة لِتَعْذيب بَعض المُجرِمين. المُحقّق

و راَيتُ امرأةٌ مُعَلَّقَةٌ بِرِجْلِها فِي تُنُّور مِنْ نار.

و راَيت امرأةٌ يُحْرَقُ وَجْهُها و يَداها، وهِیَ تَاكُلُ أَمعاءَها.

و راَيت امرأةٌ.. رأسُها رأسُ خنزير، وبَدَنْها بَدَنُ الحِمار، و عَليها ألف ألف لون من العذاب.

و راَيت امرأةٌ على صُورة الكلب، والنارُ تَدْخُلُ في دُبُرِها، وتَخْرُجُ مِنْ فيها، والملائكةُ يَضْرِبونَ رأسها وبَدَنَها بِمَقامِع من نار (1).

فقالت فاطمة: حَبيبي وقُرَّة عَيني، أَخبِرني ما كانَ عَمَلُهُنَّ و سيرتُهُن، حَتَّى وَضَعَ اللّه عليهِنَّ هذا العَذاب؟

فقال: يا بِنتي.. أما المُعَلَّقة بِشَعْرِها، فإِنَّها كاَنتَ لا تُغَطي شعرَها مِن الرِجال.

و أما المُعَلَّقة بلِساَنها، فإِنَّها كاَنتَ تُؤذي زَوجَها.

ص: 437


1- مَقامِع- جَمْع مِقْمَعَة: المِطرقَة مِنْ حَديد

و أَمّا المُعلّقة بِثَديَيها، فإِنَّها كاَنتَ تَمْتَنِع مِنْ فِراش زَوجها (1).

و أمّا المُعَلَّقة بِرِجليها، فإِنَّها كاَنتَ تَخْرُجُ مِنْ بَيتِها بِغَيرِ إذنِ زَوجِها.

و أما الَّتي كاَنتَ تَاكُلُ لَحْمَ جَسَدِها، فإِنَّها كاَنتَ تُزيِّن بَدَنها لِلناس (2).

و أما الَّتي شُدَّتْ يَداها إلى رِجْلَيها وسُلّطَ عليها الحيّات والعَقارب، فإِنَّها كاَنتَ قَذرة الوضوء (3)، قَذرة الثِياب، و كاَنتَ لا تَغْتَسِل من الجِنابة و الحَيض، و لا تَتَنَظّف، وكاَنتَ تستهِیَين بِالصَلاة.

و أمُا الصَمّاء العَمْياء الخَرْساء، فإِنَّها كاَنتَ تَلِدُ

ص: 438


1- اَي: لا تُطاوع زَوجَها في مُمارسة العلاقات الزوجيَّة الخَاصَّة
2- المَقصود من «الناس» : هُم الرِجال غَير المَحارم.. لا النِساء
3- لَعَلَّ الصَحيح الوَضوء- بفَتح الواو- وهُوَ: الماء الّذي يَتَوضَّا به، اَي: كاَنتَ تتوضَّا بِمَاءٍ وَسِخ. ولَعَلَّ المَقصود: اَنَّها لَمْ تَكُنْ تَلْتَزم- عَمَليَّا- بالطهارة و النَجاسة. المُحقّق

مِن الزِنا.. فَتُعَلِّقه في عُنُق زَوجِها (1).

و أما الَّتي كاَنتَ يُقْرَض لَحْمُها بالمَقاريض (2) فإِنَّها كاَنتَ تَعْرِضِ نَفْسَها على الرجال.

و أما الَّتي كاَنتَ يُحرَق وَجْهُها و بَدنُها.. وهِیَ تَاكُل أمعاءَها، فإِنَّها كاَنتَ قوادة (3).

و أما الَّتي كان راسُها راسُ الخنزير، وبَدنُها بَدَن الحِمار، فإِنَّها كانَت نَمَّامة (4) كَذّابة.

و أما الَّتي كاَنتَ على صُورة الكلب، والنار تَدْخُلُ في دُبُرِها، وتَخْرُجُ مِنْ فيها، فإِنَّها كاَنتَ قِينة (5) نوّاحة، حاسِدة.

ص: 439


1- اَي: اَنها كاَنتَ تزني ثُمَّ تنسب الجِنّين- المُتَکُون من الزنا- إلى زوجها
2- المَقاريض- جَمْع مِقْراض-: المَقص
3- القَوّادة: هِیَ الَّتي تَجْمَعَ بَينَ الرِجال و النِساء على الفُجور
4- النَمّامة: هِیَ الَّتي تَرتَكِب النَميمة، والنَميمة: نَقْل الحديث مِنْ إنسان لآخر- أو مِنْ قوم لقَوم- لإلقاء الفِتنة والبَغضاء بَينَهما
5- القِينة: المُغَنّية، ويُعَبَّر عَنهُا- في زَماننا- بالمُطرِبة

ثُمَّ قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): وَيلٌ لإمرأة أغضَبَتْ زَوجَها، وطوبى لإمرأة رَضِيَ عَنهُا زَوجُها (1).

المَرءُ مَحْبُوءُ تَحْتَ لساَنه

عن عَبد العَظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر الثاني، عن آبائه، عن اَمير المؤمنين (صَلَواتُ اللّه عليهم) قال: (المَرْءُ مَحْبُوءٌ تَحْتَ لِساَنه» (2).

التدبير قَبْلَ العَمَل يُؤمِنُك مِن النَدَم

عن عبد العظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر الثاني، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «التدبير قَبْلَ العَمَل.. يُؤمِنُك مِن النَدَم» (3).

ص: 440


1- كتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)»، للشيخ الصدوق، ج 2، ص 14، باب 30 «ما جاءَ عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الاَخبارالمَنْثُورة» حديث رقم 24
2- المَصْدر السابق، ص 58، حديث 204، باب 31 «فيما جاءَ عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الاَخبارالمجموعة»
3- المصدر السابق

الأمراض تَحُطُّ الذنوب

عن عبد العظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر [الجَواد] عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): المَرَضُ لا أَجْرَ فيه، ولكنّه لا يَدَع على العَبْد ذنباً إلا حَطَّه، وإنَّما الاَجر: في القَول بالِلسان، و العَمَل بِالجَوارح، وإنَّ اللّه بكرَمَه وفَضْلِهِ يُدْخِلُ العَبْدَ- بِصِدْقِ النيَّة و السيرة الصالِحة الجَنّة (1).

لا نَدِمَ مَنِ اسْتَشار

رُوِيَ عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحَسَني (رَضِيَ اللّه عَنهُ ) قال: حَدَّثنا أبو جعفر: مُحمّد بن علي بن مُوسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: حَدَّثَني اَبي: الرضا علي بن مُوسى، قال: حَدَّثَني اَبي: مُوسى بن جعفر، قال: حَدَّثَني اَبي: جعفر بن مُحمّد، قال: حَدَّثَني اَبي: مُحمّد بن علي، قال: حَدَّثَني اَبي: علي بن الحسين، قال: حَدَّثَني اَبي: الحُسين بن علي، عن اَبيه: اَمير المُؤمنين علي بن اَبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

ص: 441


1- كتاب «الأمالي» للشيخ الطوسي، المجلس السابع و العشرون، حديث 2

بَعَثَني رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) على اليَمَن، فَقالَ- وهُوَ يُوصِيني-: «يا علي ما حارَ مَنِ استَخار، ولا نَدِمَ مَن استَشار.

يا علي، عليك بِالدلجة (1) فَإِنَّ الاَرضِ تُطوى بِاللَيل ما لا تُطوى بِالنَّهار.

ياعلي، أَغْدُ على اسم اللّه، فإِنَّ اللّه (تَعالى) باركَ لأُمَّتي في بُكورِه_ا» (2).

كلمات حكيمة للإمام اَمير المؤمنين (عليه السلام)

رُوِيَ عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحَسَني، قال:

قُلتُ لاَبي جعفر: مُحمّد بن علي الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): يابن رسولِ اللّه، حَدَّثَني بِحَدِيثِ مِنْ آبائك (عَلَيهِم السَّلَامُ).

ص: 442


1- الدلجة: السير في الليل عِنْدَ السَفَر
2- كتاب «الأمالي» للشيخ الطوسي، المجلس الخامس، حديث 33

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جدّي، عن آبائه، قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يَزالُ الناس بِخَيرِ ما تَفاوَتوا، فإذا استَوَوا هَلَكُوا».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

قال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدِّي، عن آبائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لَو تَكاشَفْتُمْ، ما تدافنتُم»

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

قال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدِّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إِنَّكُم لَنْ تَسِعُوا الناس بأموالِكُم، فَسِعُوهُمْ بِطَلاقة الوَجه، و حُسنِ اللقاء»، فإنّي سَمِعْتُ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ ) يقول: «إِنَّكُمْ لَنْ تَسِعُوا الناسَ بِاَموالِكُم: فَسِعُوهُمْ بِاَخلاقِكُم».

ص: 443

قال: فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

قال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَميرُ المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ عَتَبَ على الزَمان.. طالَتْ مَعْتَبَتُه».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مُجالَسةُ الأَشرار تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأخيار».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

قال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَميرُ المُؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بِئْسَ الزاد إلى المَعاد، العُدوان على العِباد.

ص: 444

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قيمَةُ كُلّ

امرىء ما يُحْسِنُه»

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «المَرءُ مَخْبوء تَحْتَ لساَنه»

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

قال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدره».

ص: 445

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدِّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «التدبير قَبْلَ العَمَل.. يُؤمِنُكَ مِن النَدَم».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ وثق بالزمان.. صُرع»

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «خاطرَ بِنَفْسِه مَن استَغْنى».

ص: 446

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قِلَّة العِيال اَحَدُ الَيسَ ارين».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ دَخَلَهُ العُجب هَلَكَ».

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدِّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قالَ اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ اَيقَنَ بِالخَلَف.. جادَ بِالعَطيّة».

ص: 447

فَقُلتُ لَه: زِدنِي يابنَ رَسول اللّه.

فقال: حَدَّثَني اَبي، عن جَدّي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مَنْ رَضِيَ بالعافِيَة مِمَّنْ دونَه، رُزِق السلامة مِمَّنْ فَوقَه».

فَقُلتُ لَه: حَسْبي(1).

ثواب إحياء لَيلَةالقَدر بالعبادة

رُوِيَ عن الحَسَن بن العَبّاس الرازي، عن اَبي جعفر: مُحمّد بن علي بن موسى الرضا (عَلَيهِم السَّلَامُ) عن آبائه، عن الباقر مُحمّد بن علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «مَنْ أحيا لَيلَةالقَدر.. غُفِرَتْ لَه ذُنوبُه، ولو كاَنتَ ذُنوبه عَدَدَ نُجُومِ السَماء، و مَثاقِيلَ الجِبال، و مَكاييل البحار(2).

ص: 448


1- کتاب «عُيون اَخبارالرضا» ج 2، ص 58، باب 31، حديث 204
2- كتاب «بحار الأنوار»، ج 98، ص 168، باب «اَدعِيَة ليال القَدر والإحياء»

دِيَة قطع اليَد

رُوِيَ عن الحَسَن بن العَبّاس بن الحريش، عن اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) اَنه قال: قال أبو جعفر الأوّل [اَي: الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)] لعبد اللّه بن العَبّاس: يابن عبّاس، أنشدك اللّه، هَلْ في حُكْم اللّه تعالى إختلاف؟!

فقال: لا.

قال: فَما تَرى في رَجُل ضَرَبَ رَجُلاً (1) اصابعه بالسيف حَتَّى سقَطت فذهَبَتْ، و أتى رَجُلٌ آخر فأطارَ كفَّ يَدِه، فَأْتِيَ بِه إليك.. و اَنتَقاض، كَيفَ اَنتَ صانع؟

قال [ابن عباس]: أقول- لهذا القاطع-: أعطه ديَة كف، وأقول- لهذا المَقطوع-: صالحه على ما شِئْتَ، أو أبعث إليهما دوي عدل.

فقال [الإمام الباقر] له: «جاء الإختلاف في حُكْم اللّه، ونَقَضت القول الأوّل، أبى اللّه أَنْ يَحدث في خَلْقِه

ص: 449


1- في كتاب: «تَهذيب الأحكام»: فما تَرى في رَجُل ضُربَت أَصابعُه بالسَيف حَتَّى سقَطَت فذهَبَتْ... إلى آخِرِه

شيء مِن الحُدود و لَيسَ تفسيرُه في الأَرض.

إقطَعْ يَدَ قاطِع الكفّ أصلاً، ثُمَّ أَعطِه دِيَة الأَصابع. هذا حكم اللّه تعالى» (1).

مَنْ هُوَ الزاهد في الدنيا؟

رُوِيَ عن الحَسَن بن علي بن ناصِر، عن اَبيه، عن مُحمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، عن اَبيه الرضا، عن موسی بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: سُئلَ الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الزاهِد في الدُنيا؟

قال: «الّذي يَتْركُ حَلالَها مَخافةَ حِسابِه، ويَتْرك حَرامَها مَخافةَ عَذابِه» (2).

ص: 450


1- كتاب «الكافي» للكليني، ج 7، ص 317، كتاب الديات، باب نادر، حدیث 1؛ و كتاب «تهذيب الأحكام» للطوسي ج 10، ص 276- 277، باب 24 في القصاص، حديث 8
2- کتاب «الأمالي» للشيخ الصدوق، المجلس السابع والخَمْسون، حديث 4

اَبوذر في ضِيافة سَلمان

رُوِيَ عن عبد العظيم الحَسَني، عن اَبي جعفر الثاني عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:

دَعَا سَلْمانُ اَبادر (رَحمةُ اللّه عَليهِمَا) إلى مَنزلِه، فَقَدَّم إليه رَغيفَين، فاَخَذَ اَبوذَر الرَغيفَين فَقَلّبَهُما، فَقال سَلمان: يا اَباذر لاَيّ شيءٍ تُقَلّب هذين الرَغيفَين؟!

قال: خفت أن لا يكونا نَضيجَين

... قال: ما أجراك حَيثُتُقَلّب هذين الرغيفين، فَوَ اللّه لَقَد عَمِلَ في هذا الخُبز الماء الّذي تحت العرش، تَحْتَ وعَمِلَتْ فيه المَلائكةُ حَتَّى القَوه إلى الريح، وعَمِلَتْ فيه الريحُ حَتَّى القَتْه إلى السَحاب، و عَمِلَ فيه الرَعدُ السَحاب حَتَّى أَمطَرَة إلى الأَرض، وعَمِلَ فيه الرَعد و البَرْقُ والمَلائِكَةُ حَتَّى وَضَعُوه مَواضِعَه، وعَمِلَتْ

فيهِ الأَرضُ والخَشَبُ والحَديدُ والبَهائِم والنار و الحَطَب و المِلح، و ما لا أُحصِيه اكثَر، فكَيفَ لَكَ أنْ تَقُومَ بهذا الشكر؟!

ص: 451

فقال ابوذر: إلى اللّهِ أَتوب، واستَغفِرُ إليهِ مِمَّا أَحدثتُ، و إليكَ اَعتَذِر مِمّا كرِهت.

قال: ودَعا سَلْمانُ اَباذر (رَحْمةُ اللّه عليهما) ذاتَ يَوم إلى ضِيافة، فَقَدم إليه مِنْ جُرابه كسرةٌ يابِسَة، وبَلَّها مِنْ ركوتِه، فقال ابوذر: ما أَطيَبَ هذا الخُبز لو كانَ مَعَه مِلْح!

فَقامَ سَلْمان و خَرَجَ، فَرَهَنَ رَكُوته بِمِلْح، وحَمَلَهُ إليه، فَجَعَلَ اَبوذَر يَاكُل ذلك الخُبز ويَذرّ عليه ذلك المِلْح ويَقول: الحَمْدُ لِلّه الّذي رزقَنا هذه القَناعة.

فَقال سَلمان: لَو كاَنت قَناعة.. لَمْ تَكُنْ رَكوَتي مَرهُونَة (1)! (2).

ص: 452


1- الرَكوة: إِناءُ صَغير مِن جِلد.. يُشرَب فيه الماء، والدَلوة الصغيرة
2- کتاب «عُيون اَخبارالرضا (عليه السلام)»، ج 2، ص 57، باب 31، حدیث 203

حَقائق مُهِمّة جِدَّاً حَولَ اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)

عن عَبد العَظيم بن عبد اللّه الحَسَني، عن اَبي جعفر الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن اَبيه، عن جَدِّه (صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِم أَجمَعين) قال:

قال اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ): إنَّ اللّه خَلَقَ الإسلام، فَجَعَلَ لَه عَرصَة، و جَعَلَ لَه نُوراً، وجَعَلَ لَه حِصناً، وجَعَلَ له ناصراً:

فأَمّا عَرَصَتُه فالقُرآن، و أمّا نُوره فالحِكمة، وأما حِصْنُه فالمَعروف، و أمّا أَنصاره فاَنا وأَهلُ بَيتي وشيعتُنا.

فاَحِبُّوا أهلَ بَيتي و شيعتَهُم وأَنصارهم، فإِنَّه لَمّا أُسرِيَ بي إلى السَّماء الدنيا، فَنَسَبَني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأهلِ السَماء، إستودعَ اللّه حُبّي و حُبِّ أَهلِ بَيتي و شيعتِهِم.. في قُلوب المَلائكة، فَهُوَ عِنْدَهُمْ وَديعة إلى يَوم القيامة.

ص: 453

ثُمَّ هَبَط بي إلى أَهلِ الأَرضِ، فَنَسَبَني إلى أهلِ الأَرض، فاستَودِعَ اللّه (عَزّ وجَلٌ) حُبّي و حُبُّ أَهلِ بَيتي وشيعتِهِم في قُلوب أُمَّتي.

فَمُؤمِنُوا أُمَّتي يَحفَظونَ وَديعَتي في أَه_لِ بَيتي إلى يَومِ القيامة.

اَلا.. فَلَو اَنَّ الرَجُل مِنْ أُمَّتِي عَبَدَ اللّه (عَزّ وجَلَّ) عُمْرَه، اَيام الدُّنيا، ثُمَّ لَقى اللّه (عَزّ وجَلٌ) مُبْغِضاً لأَهلِ بَيتي وشيعَتي.. ما فَرَّجَ اللّه صَدْره إلّا عَن النِفاق» (1).

ص: 454


1- کتاب «الكافي» ج 2، ص 46، كتاب الكفر والاَيمان، باب نسبة الإسلام، حديث 3

الفهرس

ص: 455

ص: 456

الإهداء...11

المُقدّمة...13

نَظرة إجماليّة إلى حياة الإمام الجَواد (عليه السلام)...31

إسم الإمام الجَواد وكُنْيَتُه والقابه...33

والد الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...35

والدة الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...36

الفرقة الواقِفِيّة...41

تاريخ ميلاد الإمام الجَواد (عليه السلام)...60

فَرحَةُ ميلاد الإمام الجَواد (عليه السلام)...62

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ظِلَّ والدِهِ العَظيم...65

الإمام الجَواد يُفكّر فيما جرى على السَيّدة فاطمة الزهراء...67

الإمام الجَواد مَعَ والده إلى الحَجَّ... 69

ص: 457

الإمام الجَواد.. هُوَ المَولُود المُبارك...70

النُّصوص على إمامة الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...78

نَصُّ الإمام موسى بن جعفر على إمامة الإمام الجَواد...80

نَص الإمام الرضا على إمامة الإمام الجَواد...81

لا مَدْخَليَّة لمقَدار العُمر في النُبوَّة والإمامة...85

الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُغادر المدينة المُنَوِّرة...95

رسائل من الإمام الرضا إلى الإمام الجَواد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)...98

موجبات العداء بَينَ أئمَّة اَهل البَيت و بَينَ خصومهم...106

المامون العَبّاسي...111

حضور الإمام الجَواد عند والده قبل الوفاة...118

الإمام الجَواد في مُصيبة مقتل الإمام الرضا...122

ماذا بَعْدَمَقتل الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟...124

لقاء الوفود بالإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...126

مَوقِف المَأمون من الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...133

المامون يُزوج ابنته للإمام الجَواد...140

ماذا حَدَثَ بَعْدَالزَواج؟...159

أمّ الفَضْلِ بِنْتُ المَامون...161

ص: 458

المُعْتَصِمِ العَبّاسي...165

القاضي ابن اَبي دؤاد...170

معجزات وكرامات الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...172

معجزة الإمام الجَواد (عليه السلام) عِنْدَ شَجَرة النَبُق...173

الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يُخَلَّص رَجُلاً مِن السِجن...175

الإمام الجَواد يَتخلَّص من مُؤامرة ضدَّه...178

شفاء الأعمى.. ببركة الإمام الجَواد...182

مِنْ أَعجَب مُعْجِزات الإمام الجَواد...183

شِفاء رُكبَة الجارية ببَرَكة الإمامُ الجَواد...197

شِفاء أُذُن الرَجل ببَرَكة الإمام الجَواد...198

الإمام الجَواد و مُعجزة طيّ الأَرض...198

الإمام الجَواد و استجابَة دُعائه...208

الشفاء بِبَركة دعاء الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...209

الإِمام الجَواد وإخباراتُه الغَیبیّة...213

علم الإمام بمجيء السَيل...217

اَخبار ه عن مكان الشاة المَفقودة...217

الإمام يُخبِر عَمّا في قَلْب رجُلٍ زَيدي...219

ص: 459

الإمام يُخبر عن عطش الرّجُل و يَعْلَم ما يدور في ذهنه... 222

الإمام يُخْبِر عَمَّا يَحْدُث في المُستَقْبَل... 228

الإمام الجَواد و الإجابة قَبْلَ السؤال...231

هَديّة من الإمام الجَواد لأحد الشيعة... 235

الموافقة على توظيف الجمال...237

الإمام الجَواد يَعْلَم وَزْنَ ماء دجلة...239

الإمام الجَواد و العِبادة... 240

هكذا حَجَّ الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)... 241

الإمام الجَواد و الزُهد... 246

رسائل الإمام الجَواد(عَلَيهِ السَّلَامُ)... 248

رَسائل الإمام الجَواد إلى علي بن مَهزیار...250

للخلاص من الزلازل...255

رسائل الإمام الجَواد إلى أفراد آخرين... 257

القضاء الديون...257

المداراة خيرٌ لك من المكاشفة...257

رسالة الإمام الجَواد إلى رَجُل مات إبنه...259

رسالة الإمام الجَواد إلى أحد الولاة الشيعة...260

ص: 460

مِنْ مَظاهِر غَضَبِ اللّه على الخَلْقِ...262

الإمام الجَواد و مواريث الأنَبيّاء...263

الإمام الجَواد وعلم التوحيد...268

الإمام الجَواد و تفسير القرآن...282

كلمة «اَمير المؤمنين»...300

الإمام الجَواد و عِلم الفقه...308

الإمام الجَواد و عِلم الطب...315

دَواء مَرض اللَقْوَة...315

علاج بَرْد المَعِدة و خفقان القلب...317

عِلاج نزيف دم الحيض...318

عِلاج مرض اليرقان...319

دَواء لآلام المفاصل...320

دَواء لحصاة الكلية والمثانة...321

الإمام الجَواد و علم النفس...323

الإمام الجَواد و علم التاريخ...326

حياة (آدم) اَبي البَشَر...326

بِماذا حَلَق آدم راسَه؟...328

ص: 461

مَنْ هُوَ ذو الكِفْل؟...328

يَحْيى بن اَكثَم...330

الإمام الجَواد و فنّ الحِوار و المناظرة...336

الإمامُ الجَواد والمُحافظة على حقوق الآخرين...344

الإمام الجَواد و شُعَراء الشیعة... 346

الإمام الجَواد و الحدیث عن المعصومین...351

الإمام الجَواد يَتَحَدَّث عن زيارة الإمام الرضا...360

زيارة الإمام الحسين أم زيارة الإمام الرضا؟...360

نواب زيارة الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)...361

بَينَ جَبَلَي طوس...364

من زار الإمام الرضا قله الجِنّة...364

زيارة الإمام الرضا أفضل من الحج المستحب...366

زيارة الإمام الرضا تَعْدِل ألف حَجّة...368

الإمام الجَواد و الحديث عن الإمام المهدي...369

الکلماتُ القِصارلِلإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ)...374

بعض ما رُوِيَ عن الإمام الجَواد...395

مَنْ أَصْغَى إلى ناطِقِ فَقَد عَبَدَه...397

ص: 462

هكذا كاَنتَ بيعةُ النِساء مَعَ رسول اللّه... 397

الخلاص من المَشاكل الإِقتِصادّية...398

تعاليم حَولَ زيارة قُبور المُؤمنين...403

لا إسراف في العِطر...406

دروس أخلاقيّة وعَقائدِيَّة مُتَنَوِّعة...407

والدة الإمام الهادي (عليه السلام)...414

ما رواه الإمام الجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه الطاهرين...416

المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لساَنه...440

التدبير قَبْلَ العَمَل يُؤمنُك من النّدَم...440

الأمراض تَحُطُّ الذنوب...441

لا نَدِمَ مَنِ اسْتَشار...441

كلمات حكيمة للإمام اَمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...442

ثواب إحياء لَيلَةالقَدر بالعبادة...448

دية قطع اليد...449

مَنْ هُوَ الزاهد في الدنيا؟...450

ابوذر في ضيافة سلمان...451

حقائق مُهِمّة جداً حَولَ اَهل البَيت...453

ص: 463

هذا الكتاب:

الإمام مُحمّدالجَواد (عَلَيهِ السَّلَامُ): هُوَ التاسع من أئمَّة اَهل البَيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الّذین اختارهم اللّه تعالى لقيادة الأمَّة الإسلامية، وقَد نَصَّ عليه النَبيّ الكريم.. بالخلافة والإمامة، وامتازت حياته بمزاَيا وخصائص فريدة من نوعها، فقَد إنتقُلتُ إليه الإمامة الكبرى وهو في مرحلة مبكرة من العمر، ثُمَّ كاَنتَ حياته مشرقة بالفضائل والمناقب، ومزدحمة بالحوادث الَّتي تجلب الإنتباه.

وكم هُوَ جيّد وجميل.. أن نقرأ عن حياة هذا الإمام العظيم، بقلم واحد من أبرز مولّفي عصرنا الحاضر، ألا.. وهُوَ سماحة العلّامة الكبير، الخطيب اللامع، الكاتب المقتدر: السَيّد مُحمّدكاظم القزويني.

ص: 464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.