المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثامن والعشرون (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 12)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة باقري
الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 271
حقوق الطبع محفوظة للناشر
محرر الرقمي: مرتضی حاتمي فرد
موسوعة
الشهيد الثاني
الجُزءُ الثامن والعشرون
مَسَالِكُ الأَفْهَام
إلى تَنقيح
شَرائع الإسلام / 12
المركز العالي للعُلوم وَالثقافةِ الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 1
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثامن والعشرون
مَسَالِكُ الأَفْهَام
إلى تَنقيح
شَرائع الإسلام / 12
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 3
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثامن والعشرون (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 12)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة باقري
الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 271
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی زین الدین بن على 911-965ق.
موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، 1434ق. = 2013م.
30 ج.
8 -74 - 5570 - 600 - 978 ISBN. (دوره)
2- 003- 195 -600 - 978 ISBN (ج28)
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا.
کتابنامه
مندرجات ج 17 - 28. مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام.-
1. اسلام - مجموعه ها 2 محقّق حلّی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسیر. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقّق حلّی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.
8م 92ش / 6 / 4 BP 08 / 297
ص: 4
دلیل
موسوعة الشهيد الثاني
المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره
الجزء الأوّل = (1) منية المريد
الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة ؛ 3 التنبيهات العلّيّة؛ 4. مسكّن الفؤاد؛.5 البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.
الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل/ 2 : 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13. النيّة؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار؛ 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة ؛ 19. نيّات الحجّ والعمرة؛ 20. مناسك الحجّ والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفيّة.
الجزء الرابع = (31 - 43) الرسائل /3 : 31. تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبوليّة في الواجبات العينيّة؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34. وصيّةً نافعةٌ؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) لإجماعات نفسه؛ 38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.
ص: 5
الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد
الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة
الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان
الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفيّة
الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة
الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصّر النافع
الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)
الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان
الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام
الجزء التاسع والعشرون = الفهارس
ص: 6
كتاب الحدود والتعزيرات
تعريف الحدّ والتعزير...27
أسباب التعزير...28
القسم الأوّل من كتاب الحدود...31
الباب الأوّل في حدّ الزنى...31
النظر الأوّل في الموجب...31
ضابط الشبهة المسقطة للحدّ...32
يسقط الحدّ مع الإكراه...33
شروط تحقّق الإحصان الذي يجب معه الرجم...35
لا تخرج المطلقة رجعيّة عن الإحصان....40
ما يثبت به الزنى...43
شرائط إثبات الزنى بالإقرار...43
ص: 7
لو أقرّ بحدّ ولم يبيّنه...46
حكم التقبيل والمضاجعة في إزار واحد...49
لو أقرّ بما يوجب الرجم ثمّ أنكر...51
شرائط ثبوت الزنى بالبيّنة...52
من تاب قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ...58
النظر الثاني في حدّ الزنى...59
المقام الأوّل في أقسام حدّ الزنى...59
الزاني الذي يقتل...59
الزاني الذي يرجم...61
لو زنى البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة...63
الزاني الذي يجلد أو يغرّب...66
لو تكرّر من الحرّ الزنى وتخلّله الحدّ...69
لو زنى الذمّي بذميّة...73
لا يقام الحدّ على الحامل حتّى تضع...74
يرجم المريض والمستحاضة...75
لا يقام الحدّ في شدّة الحرّ والبرد...78
المقام الثاني في كيفية إيقاع حدّ الزنى...79
إذا اجتمع على المكلّف حدّان فصاعداً...79
إذا فرّ المرجوم...81
يبدأ الشهود بالرجم وجوباً...82
يستحب أن يحضر إقامة الحدّ طائفة...83
لا يرجم الزاني من اللّه قبله حدّ ...84
ص: 8
يجلد الزاني مجرّداً...85
النظر الثالث في اللواحق...86
إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى قبلاً فادّعت أنّها بكر...86
لا يشترط حضور الشهود عند إقامة الحدّ...88
إذا كان الزوج أحد الشهود الأربعة...89
يجب على الحاكم إقامة حدود اللّه بعلمه...90
إذا شهد بعض وردّت شهادة الباقين...91
إذا وجد مع زوجته رجلاً يزني بها...92
من افتض بكراً بإصبعه...93
من زنى في شهر رمضان...94
الباب الثاني في اللواط والسحق والقيادة...95
طريق ثبوت اللواط...95
حدّ موجب الإيقاب القتل على الفاعل والمفعول...96
كيفيّة إقامة حدّ اللواط...98
لو تكرّر اللواط وتخلله الحدّ...103
المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين...103
حدّ السحق...106
إذا تكرّرت المساحقة مع إقامة الحدّ ثلاثاً...108
الأجنبيّتان إذا وجدتا في إزار مجرّدتين...108
لو وطئ زوجته فساحقت بكراً فحملت...110
حدّ القيادة...113
الباب الثالث في حدّ القذف...115
ص: 9
النظر الأوّل في الموجب...115
ألفاظ القذف...116
التعريض بما يكرهه المواجه...123
النظر الثاني في القاذف...125
هل يشترط في وجوب الحدّ على القاذف الحرّيّة؟...125
النظر الثالث في المقذوف...127
إحصان المقذوف شرط في وجوب الحدّ على القاذف...127
لو قذف الأب ولده أو بالعكس...130
النظر الرابع في الأحكام...131
إذا قذف جماعة واحداً بعد واحد...131
حدّ القذف موروث يرثه من يرث المال...133
إذا ورث الحدّ جماعة لم يسقط بعضه بعفو البعض...135
إذا تكرّر الحدّ بتكرّر القذف...136
لا يسقط الحدّ عن القاذف إلا بالبيئة المصدّقة...136
كيفية إجراء حدّ القذف...137
التنابز بالألقاب والتعيير بالأمراض...138
مسائل ملحقة بالقذف...139
من سبّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جاز لسامعه قتله...139
من ادّعى النبوّة وجب قتله...140
كلّ من فعل محرّماً أو ترك واجباً فللإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تعزيره...143
الباب الرابع في حدّ المسكر والفقّاع...144
المبحث الأوّل في الموجب...144
ص: 10
الفقّاع كالنبيّذ المسكر في التحريم...146
كيفية ثبوت شرب المسكر...147
المبحث الثاني في كيفية الحدّ...148
إذا حدّ الشارب مرّتين قتل في الثالثة...150
المبحث الثالث في أحكامه...152
لو شهد واحد بشربها وآخر بقيئها...152
من شرب الخمر مستحلاً...153
من باع الخمر مستحلاً...154
إذا تاب شارب الخمر قبل قيام البيّنة...155
مسائل من تتمّة أحكام حدّ المسكر:...156
من استحلّ شيئاً من المحرمات المجمع عليها....156
من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له...157
لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين...158
لو أنفذ إلى حامل لإقامة حدّ فأجهضت خوفاً...159
لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادةً عن الحدّ فمات...160
الباب الخامس في حدّ السرقة...162
الأوّل في السارق...162
شروط وجوب الحدّ على السارق...162
الثاني في المسروق...173
لا قطع فيما نقص عن ربع دينار...173
من شرط المسروق أن يكون محرزاً...175
بيان الفرق بين المحرز وغير المحرز...176
ص: 11
من سرق صغيراً...181
لو أعار بيتاً فنقبه المعير وسرق منه مالاً للمستعير...183
لا تصير الجمال محرزة بمراعاة صاحبها...185
ما يشترط في قطع سارق الكفن...188
الثالث ما به يثبت حدّ السرقة...192
من أقر مكرهاً لا يقطع...194
الرابع في الحدّ...197
لا تقطع اليسار مع وجود اليمين...197
لو تاب السارق...201
لو قطع الحدّاد يسار السارق مع العلم...202
الخامس في اللواحق...204
إذا سرق اثنان نصاباً...204
لو سرق ولم يقدر عليه ثمّ سرق ثانية...205
قطع السارق موقوف على مطالبة المسروق منه...207
لو أخرج المال وأعاده إلى الحرز...208
لو هتك الحرز جماعة فأخرج المال أحدهم...209
لو أخرج قدر النصاب دفعة...210
لو ابتلع داخل الحرز ما قدره نصاب...212
الباب السادس في حدّ المحارب...213
تعريف المحارب...213
الطليع والردء ليسا محاربين...215
حدّ المحارب...216
ص: 12
إذا قتل المحارب غيره طلباً للمال...220
إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه سقط الحدّ...222
اللصّ محارب...222
صلب المحارب وكيفيّته...223
نفي المحارب وكيفيّته...225
لا يقطع المستلب ولا المختلس...227
القسم الثاني من كتاب الحدود...229
الباب الأوّل في المرتدّ...229
القسم الأوّل: من ولد على الإسلام ثمّ كفر (المرتدّ الفطري)...229
لا تقتل المرأة بالردّة...232
القسم الثاني: من أسلم عن كفر ثمّ ارتد (المرتدّ الملّي)...233
ولد المرتدّ بحكم المسلم...235
يحجر الحاكم على أموال المرتدّ...236
مسائل من أحكام المرتدّ...237
الذمّي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب...243
إذا قتل المرتدّ مسلماً عمداً...244
إذا تاب المرتدّ فقتله من يعتقد بقاءه على الردّة...245
الباب الثاني في إتيان البهائم ووطء الأموات وما يتبعه...246
إذا وطىء البالغ العاقل بهيمة مأكولة اللحم...246
حكم وطء الميتة من بنات آدم كوطء الحيّة...250
من استمنی بیده عزّر...252
ص: 13
الباب الثالث في الدفاع عن النفس و...253
كتاب القصاص
القسم الأوّل في قصاص النفس...265
الفصل الأوّل في الموجب...265
بماذا يتحقّق قتل العمد؟...266
التسبيب إلى القتل ومراتبه :...269
المرتبة الأولى: انفراد الجاني بالتسبيب المتلف...269
لو رماه بسهم فقتله...269
إذا ضربه بعصا مكرّراً فمات أو ضربه دون ذلك فأعقبه مرضاً ومات...269
لو طرحه في النار فمات...271
السراية عن جناية العمد توجب القصاص مع التساوي...273
لو ألقى نفسه من علوّ على إنسان عمداً فهلك الأسفل...274
حقيقة السحر وحكم من قتل بالسحر...274
المرتبة الثانية: أن ينضم إليه مباشرة المجنيّ عليه...276
لو قدّم له طعاماً مسموماً...276
لو جعل السمّ في طعام صاحب المنزل فأكله فمات...276
لو جرحه فداوى نفسه بدواء سمّي...277
المرتبة الثالثة: أن ينضم إليه مباشرة.حيوان...278
إذا ألقاه إلى البحر فالتقمه الحوت...278
لو أغرى به كلباً عقوراً فقتله...279
ص: 14
لو أنهشه حيّةً قاتلاً فمات...279
لو جرحه ثمّ عضه الأسد وسرتا...280
لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة...280
المرتبة الرابعة: أن ينضمّ إليه مباشرة إنسان آخر...281
لو حفر واحد بئراً فوقع آخر بدفع ثالث...281
لو أمسك واحد وقتل آخر...281
إذا أكرهه على القتل فالقصاص على المباشر...282
هل يصحّ الإكراه فيما دون النفس؟...287
لو شهد اثنان بما يوجب قتلاً...288
لو جنى عليه فصيّره في حكم المذبوح وذبحه آخر...289
لو قطع واحد يده و آخر رجله فاندملت إحداهما ثمّ هلك...290
لو قطع يده من الكوع وآخر ذراعه فهلك...291
هل يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس؟...292
مسائل من الاشتراك في القتل:...295
إذا اشترك جماعة في قتل واحد...295
الحكم في قصاص الأطراف كما في قصاص النفس...297
لو اشترك في القتل امرأتان أو رجل وامرأة...298
الفصل الثاني في الشروط المعتبرة في القصاص...302
الشرط الأوّل: التساوي في الحرّيّة أو الرقّ...302
يقتل الحرّة بالحرّة والحرّ من دون أخذ الفاضل...302
لو قتل حرّ حرّين...317
لو قطع يمين رجل ومثلها من آخر...317
ص: 15
فروع في السراية...327
الشرط الثاني: التساوي في الدين...331
لا يقتل مسلم بكافر...331
لو قتل الذمّي مسلماً عمداً....333
لو قطع مسلم يد ذمّي عمداً فأسلم وسرت إلى نفسه...335
لو قطع مسلم يد حربي أو يد مرتد فأسلم ثمّ سرت...336
إذا قطع المسلم يد مثله فسرت مرتدّاً...337
إذا قتل مرتد ذمّياً...340
لو جرح مسلم نصرانيّاً ثمّ ارتدّ الجارح...341
لو قتل ذمّى مرتدّاً...341
الشرط الثالث: أن لا يكون القاتل أباً...343
لو ادّعى اثنان ولداً ثمّ قتلاه أو أحدهما...344
لو قتل الرجل زوجته هل يثبت القصاص لولدها؟...346
لو قتل أحد الولدين أباء ثمّ الآخر أُمُّه...347
الشرط الرابع : كمال العقل...348
لا قصاص على الصبيّ والمجنون...348
لو قتل البالغ الصبيّ...350
الشرط الخامس: أن يكون المقتول محقون الدم...353
الفصل الثالث في دعوى القتل وما يثبت به...354
الشروط التي يجب توفّرها في مدّعي القتل....354
مسائل من دعوى العقل....356
الإقرار بالقتل وشروط المقرّ...359
ص: 16
ثبوت القتل بالبيّنة وشرائط البيّنة...361
لا تقبل الشهادة إلّا صافية عن الاحتمال...363
اشتراط خلوص الشهادة بالجرح...364
اشتراط توارد الشاهدين على الوصف الواحد...367
لو شهد أحدهما بالإقرار بالقتل وشهد الآخر بالإقرار عمداً....367
لو شهدا بقتل على اثنين فشهد المشهود عليهما على الشاهدين...368
لو شهدا لمن يرثانه على جرحه قبل الاندمال...370
لو شهد اثنان أنه قتل وآخران على غيره...372
لو شهدا أنه قتل عمداً فأقر آخر أنّه هو القاتل...375
وأما القسامة ففيها مقاصد...378
المقصد الأوّل في اللوث...378
تعريف القسامة...378
طرق من اللوث...380
المقصد الثاني في كمّيتها...384
عدد القسامة في العمد والخطأ...384
لو كان المدعى عليهم أكثر من واحد...386
لو امتنع المدعى عليه عن القسامة...387
ثبوت القسامة في الأعضاء مع التهمة...388
قسامة الكافر على المسلم....389
المقصد الثالث في أحكامها...394
لو ادّعى على اثنين، وله على أحدهما لوث...394
لو كان أحد الوليّين غائباً وهناك لوث...394
ص: 17
لو أكذب أحد الوليّين صاحبه لم يقدح ذلك في اللوث...396
إذا مات الوليّ قام وارثه مقامه....398
الفصل الرابع في كيفية الاستيفاء...402
قتل العمد يوجب القصاص لا الدية...402
يرث القصاص والدية من يرث المال عدا الزوج والزوجة...405
هل للولي استيفاء القصاص بدون إذن الامام؟...406
ما ينبغي للإمام مراعاته عند استيفاء القصاص...410
لا يضمن المقتص سراية القصاص...413
إذا كان للمقتول أولياء لا يولّى عليهم...414
لو اختار بعض الأولياء الدية لا يسقط حقّ الباقين من القود...415
لو عفا البعض...417
إذا أقرّ أحد الوليّين أنّ شريكه عفا عن القصاص...418
الجنايات الصادرة من الجماعة المستعقبة للموت...419
للمحجور عليه استيفاء القصاص...420
إذا قتل جماعة على التعاقب....423
لو وكّل في استيفاء القصاص فعزله قبل القصاص...424
لا يقتصّ من الحامل حتّى تضع...426
لو قتلت المرأة قصاصاً فبانت حاملاً...428
لو قطع يد رجل ثمّ قتل آخر...430
إذا هلك قاتل العمد...433
لو اقتصّ من قاطع اليد ثمّ مات المجنّي عليه بالسراية...435
ص: 18
لو قطع يد إنسان فعفا المقطوع ثمّ قتله القاطع...436
لو ضرب وليّ الدم الجاني قصاصاً فعالج نفسه وبرئ...438
القسم الثاني في قصاص الطرف...440
شرائط القصاص في الطرف...440
اعتبار المماثلة في القصاص ...441
اعتبار التساوي بالمساحة في الشجاج...443
لو قطع عدّة من أعضائه خطاً...445
لو كانت الجراحة تستوعب عضو الجاني وتزيد عنه...446
لو قطعت أُذن إنسان فاقتص، ثمّ ألصقها المجني عليه...448
يثبت القصاص في العين ولو كان الجاني أعور خلقة ...449
لو أذهب ضوء العين دون الحدقة...452
يثبت القصاص في الشفرين كما يثبت في الشفتين...453
القصاص في الأذن....455
القصاص في السنّ....456
إذا قطع يداً كاملةً ويده ناقصة إصبعاً...4460
إذا كان للقاطع إصبع زائدة والمقطوع كذلك...463
لو قطع من واحد الأنملة العليا ومن آخر الوسطى...465
إذا قطع يميناً فبذل شمالاً فقطعها المجني عليه من غير علم...466
لو قطع يدي رجل ورجليه خطأ واختلفا...470
لو ادّعى الجاني أنه شرب سمّاً فمات...471
ص: 19
لو قطع إصبع رجل ويد آخر...473
إذا قطع إصبعه فعفا المجني عليه قبل الاندمال...474
كتاب الديات
النظر الأوّل في أقسام القتل ومقادير الديات....479
تعريف الدية...479
دية العمد...480
دية شبيه العمد...482
دية الخطأ المحض...483
تغليظ الدية في أشهر الحرم...484
لو رمى في الحلّ إلى الحرم فقتل فيه...485
لا يقتص من الملتجئ إلى الحرم فيه...485
دية الذمّي....487
النظر الثاني في موجبات الضمان...490
البحث الأوّل في المباشرة....490
مسائل من أحكام المباشرة في القتل...490
لو كان الطبيب عارفاً وأذن له المريض في العلاج...490
لو قلنا بضمان الطبيب هل يبرأ بالإبراء قبل العلاج؟...491
النائم إذا أتلف نفساً بانقلابه أو بحركته...493
إذا أعنف بزوجته جماعاً فماتت...493
من حمل على رأسه متاعاً فأصاب إنساناً فمات...494
ص: 20
ما صاح على صبي أو مريض أو صحيح على حين غفلة فمات...495
إذا اصطدم اثنان فماتا...498
لو تصادم حاملان...502
إذا مر بين الرماة فأصابه سهم...503
إذا وقع من علو على غيره فقتله...504
من دعا غيره فأخرجه من منزله ليلاً فهو له ضامن...508
إذا أعادت الظئر الولد فأنكره أهله...510
البحث الثاني في الأسباب...518
ضابط الأسباب...518
صور من الأسباب:...519
لو وضع حجراً في ملكه أو مكان مباح لم يضمن دية العاثر...519
لو بنى مسجداً في الطريق، هل يضمن ما يتلف بسببه؟...521
لو سلّم ولده المعلم السباحة فغرق بالتفريط...522
لو رمى عشرة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم...522
لو اصطدمت سفينتان بتفريط القيمين...524
لو أصلح سفينة وهي سائرة أو أبدل لوحاً فغرقت...525
لا يضمن صاحب الحائط ما يتلف بوقوعه...526
نصب الميازيب إلى الطرق جائز...527
لو وضع إناءً على حائطه فتلف بسقوطه نفس أو مال...531
يجب حفظ الدابة الصائلة...531
لو هجمت دابة على أخرى فجنت الداخلة...532
من دخل دار قوم فعقره کلبهم...533
ص: 21
راكب الدابّة يضمن ما تجنيه بيديها...534
البحث الثالث في تزاحم الموجبات ...536
إذا اتّفق المباشر والسبب...536
لو حفر في ملك نفسه بئراً وسترها ودعا غيره...536
لو اجتمع سببان ضمن من سبقت الجناية بسببه...537
مسائل الزبية...543
النظر الثالث في الجناية على الأطراف...551
المقصد الأوّل في ديات الأعضاء...551
دية الشعر....551
دية العينين...555
دية الأنف...561
دية الأُذنين...563
دية الشفتين...564
دية اللسان...567
دية الأسنان...571
دية العنق...575
دية اليدين...576
دية الأصابع...578
دية الظهر...580
دية الثديين...581
دية الذكر...583
ص: 22
دية الخصيتين...584
دية الشفرين...586
دية إفضاء المرأة...586
دية الأليتين....587
دية الرجلين...588
دية كسر العظام....589
المقصد الثاني في الجناية على المنافع...591
الأوّل: العقل...591
الثاني: السمع...594
الثالث: ضوء العين...595
الرابع: الشمّ...596
الخامس الذوق...597
السابع سلس البول...598
المقصد الثالث في الشجاج والجراح...599
الحارصة...600
المتلاحمة...601
السمحاق...602
الموضحة...602
الهاشمة...604
المنقّلة...605
المأمومة...606
مسائل من أحكام الشجاج والجراح...608
ص: 23
دية النافذة في الأنف...608
دية شق الشفتين حتّى تبدو الأسنان...608
إذا نفذت نافذة في شيء من أطراف الرجل...610
المرأة تساوي الرجل في ديات الأعضاء والجراح...611
قاعدة في الحكومة في أرش الجناية...612
من لا ولي له فالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وليّ دمه...613
النظر الرابع في اللواحق...615
الأُولى في دية الجنين...615
دية الجنين الذي لم تتمّ خلقته...619
دية النطفة....621
دية الجناية على الميّت المسلم...634
الثانية في الجناية على الحيوان...636
ما يؤكل لحمه...636
ما لا يقع عليه الذكاة...637
إذا جنت الماشية على الزرع ليلاً...642
الثالثة في كفّارة القتل...645
وجوب كفّارة الجمع بقتل العمد والمرتّبة بقتل الخطأ...645
لو اشترك جماعة في قتل واحد...647
الرابعة في العاقلة...648
المراد بالعاقلة: من يتقرّب بالأب....649
هل يدخل الآباء والأولاد في العقل؟...651
ص: 24
لا يدخل في العقل أهل الديوان ولا أهل البلد...652
هل تحمل العاقلة دية مادون الموضحة؟...653
لا تعقل العاقلة إقراراً ولا صلحاً ولا جناية عمدٍ مع وجود القاتل...654
جناية الذمّي في ماله...656
كيفية تقسيط الدية وكمّيته...658
لو زادت الدية عن العاقلة أجمع...660
ابتداء زمان تأجيل الدية...663
إذا حال الحول على موسر...664
لو لم يكن عاقلة أو عجزت عن الدية....665
دية الخطأ شبیه العمد في مال الجاني...666
مسائل من أحكام العاقلة...666
ص: 25
ص: 26
----------------------------------
كتاب الحدود والتعزيرات
الحدود جمع حدّ. وهو لغةً: المنع(1). ومنه أخذ الحدّ الشرعي؛ لكونه ذريعة إلى منع الناس عن فعل موجبه خشيةً من وقوعه.
وشرعاً: عقوبة خاصّة تتعلق بإيلام البدن بواسطة تلبس المكلّف بمعصية خاصّة، عيّن الشارع كمّيتها في جميع أفراده.
والتعزير لغةً: التأديب(2). وشرعاً : عقوبة أو إهانة لا تقدير لها بأصل الشرع غالباً.
والأصل فيهما الكتاب والسنّة والإجماع، وتفاصيله في الآيات(3) والأخبار كثيرة (4)،لكثرة أفراده.
واعلم أنّ الزنى من المحرمات الكبائر، قال اللّه تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً»(5). وقال تعالى: «وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إِلَها ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
ص: 27
• كلّ ما له عقوبة مقدّرة يسمّى حدّاً. وما ليس كذلك يسمّى تعزيراً.
وأسباب الأوّل ستة: الزني، وما يتبعه، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر وقطع الطريق.
----------------------------------
اللّه إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»(1).
وأجمع أهل الملل على تحريمه حفظاً للنسب. وقد كان الواجب به في صدر الإسلام الحبس والإيذاء، على ما قال تعالى: «وَالَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ» إلى قوله تعالى: «وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا» (2).
وظاهر الآيات أنّ الحبس كان في حقّ النساء والإيذاء في حقّ الرجال، ثمّ استقر الأمر على الحدود المفصلة فيما سيأتي(3).
قوله: «كلّ ما له عقوبة مقدّرة يسمّى حدّاً. وما ليس كذلك يسمّى تعزيراً».
تقدير الحدّ شرعاً واقع في جميع أفراده، كما أشرنا إليه سابقاً(4).
وأمّا التعزير فالأصل فيه عدم التقدير، والأغلب في أفراده كذلك، لكن قد وردت الروايات بتقدير بعض أفراده، وذلك في خمسة مواضع:
الأوّل: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان مقدر بخمسة وعشرين سوطاً (5).
الثاني : من تزوّج أمةً على حرّة ودخل بها قبل الإذن ضُرِب اثنا عشر سوطاً ونصفاً، ثُمن حدّ الزاني(6).
ص: 28
• والثاني أربعة البغي والردّة، وإتيان البهيمة، وارتكاب ما سوى ذلك من المحارم.
----------------------------------
الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجرّدين، مقدّر بثلاثين إلى تسعة وتسعين على قول(1).
الرابع: من افتضّ بكراً بإصبعه قال الشيخ يجلد من ثلاثين إلى سبعة وسبعين(2).
وقال المفيد: من ثلاثين إلى ثمانين(3).
وقال ابن إدريس: من ثلاثين إلى تسعة وتسعين(4).
الخامس: الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد أو إزار مجرّدين، يعزّران من عشرة إلى تسعة وتسعين. قاله المفيد(5). وأطلق الشيخ التعزير (6). وقال في الخلاف: روى أصحابنا فيه الحدّ(7).
ولقائل أن يقول: ليس من هذه مقدر سوى الأوّل(8)، والباقي يرجع فيما بين الطرفين إلى رأي الحاكم كما يرجع إليه في تقدير غيره، وإن لم يتحدد في طرفيه بما ذكر.
قوله : «والثاني أربعة : البغي، والردّة، وإتيان البهيمة، وارتكاب ما سوى ذلك من المحارم».
جعل عقوبة الباغي - وهو المحارب ومن في معناه - والمرتدّ تعزيراً غير معهود(9)،
ص: 29
فلنفرد لكلّ قسم باباً، عدا ما يتداخل أو سبق.
----------------------------------
والمعروف بين الفقهاء تسميته حدّاً. ولا ينافي كون الحدّ مقدّراً؛ لأنّ القتل أيضاً مقدّر بإزهاق الروح، إمّا مطلقاً أو على وجه مخصوص.
وجعل ارتكاب المحارم قسيماً للثلاثة، نظراً إلى أنّ الثلاثة الأوّل منصوصة بخصوصها من الشارع، والرابع داخل من حيث العموم.
والأُولى جعل سبب التعزير أمراً واحداً، وهو ارتكاب المحرّم الذي لم ينصب الشارع له حدّاً مخصوصاً.
ص: 30
وفيه أبواب:
والنظر في الموجب، والحدّ، واللواحق.
• أما الموجب، فهو إيلاج الإنسان ذكره في فرج امرأة محرّمة من غير عقدٍ ولا ملكٍ ولا شبهةٍ. ويتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قُبلاً أو دبراً.
----------------------------------
قوله: «أمّا الموجب، فهو إيلاج الإنسان ذكره في فرج امرأة محرّمة من غير عقدٍ ولا ملكٍ ولا شبهةٍ. ويتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة قُبلاً أو دبراً».
هذا تعريف لمطلق الزنى الموجب للحدّ في الجملة. ويدخل في الإنسان الكبير والصغير والعاقل والمجنون، فلو زاد فيه «المكلّف»، كان أجود. ويمكن تكلّف إخراجها بقوله «في فرج امرأة محرّمة»؛ فإنّه لا تحريم في حقّهما.
وكذا يدخل فيه المختار والمكره. ويجب إخراج المكره، إلا أن يخرج بما خرج به الأوّلان وكذا يدخل الذكر والخنثى. لكن يمكن إخراج الخنثى بقوله «ذكره»؛ فإنّ ذكر الخنثى ليس بحقيقي؛ لعدم مبادرة المعنى عند إطلاقه إليه، وجواز سلبه عنه. ومن جعله ذكراً حقيقياً زاد بعد قوله «ذكره» الأصلي يقيناً؛ لإخراج ما للخنثى المشكل. وكذا القول في
ص: 31
ويشترط في تعلّق الحدّ العلم بالتحريم والاختيار، والبلوغ. وفي تعلّق الرجم - مضافاً إلى ذلك - الإحصان.
ولو تزوّج محرّمةً كالأم، والمرضعة، والمحصنة، وزوجة الولد والأب، فوطئ مع الجهل بالتحريم فلا حدّ.
• ولا ينهض العقد بانفراده شبهة في سقوط الحدّ. ولو استأجرها للوطء لم يسقط بمجرّده. ولو توهّم الحلّ به سقط.
وكذا يسقط في كلّ موضع يتوهم الحلّ كمن وجد على فراشه امرأةٌ فظنّها زوجته فوطئها.
----------------------------------
إخراج الخنثى من قوله «في فرج امرأة» ؛ فإنّ الخنثى خرجت بقوله «امرأة». ومنهم من لم يخرجها بها، وزاد قوله «أصلي يقيناً».
وكما يتحقّق ذلك بغيبوبة الحشفة، يتحقّق بغيبوبة قدرها من مقطوعها. ولو قال: «بغيبوبة قدر الحشفة»، لشمل الأمرين.
والمراد بالمحرّمة تحريماً أصليّاً لتخرج المحرمة بالعرض، كزوجته الحائض والمحرمة والصأئمّة، فلا حدّ بوطئها، وإن استحق التعزير لفعل المحرّم.
قوله: «ولا ينهض العقد بانفراده شبهة في سقوط الحدّ ولو استأجرها للوطء لم يسقط بمجرّده ولو توهم الحلّ به سقط».
ضابط الشبهة المسقطة للحدّ توهّم الفاعل أو المفعول أنّ ذلك الفعل سائغ له؛ لعموم «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(1) لا مجرّد وقوع الخلاف فيه مع اعتقاده تحريمه.
فإذا عقد على امرأة لا تحلّ له بالعقد ووطئها بذلك العقد لم يكف ذلك في سقوط الحدّ؛ لأنّه عقد فاسد فلا يورث شبهة، كما لو اشترى حرّةً فوطئها أو خمراً فشربها؛ ولأنّه لو كان شبهة لثبت به النسب ولا يثبت باتّفاق الخصم.
ص: 32
• ولو تشبهت له فعليها الحدّ دونه. وفي رواية يقام عليها الحدّ جهراً وعليه سراً. وهي متروكة. وكذا يسقط لو أباحته نفسها فتوهّم الحلّ.
• ويسقط الحدّ مع الإكراه. وهو يتحقّق في طرف المرأة قطعاً. وفي تحقّقه في طرف الرجل تردّد، والأشبه إمكانه؛ لما يعرض من ميل الطبع المزجور بالشرع.
----------------------------------
وكذا لو استأجرها للوطء، خلافاً لأبي حنيفة في الموضعين (1)، حيث أسقط الحدّ عنه بمجرّد العقد وإن كان عالماً بتحريمه، وإن كان العقد على الأمّ.
نعم، لو توهّم الحلّ بذلك كان شبهةً من حيث الوهم تسقط الحدّ، كما يسقط بغيرها من أنواع الشبهة وإن لم يكن هناك عقد.
قوله: «ولو تشبّهت له فعليها الحدّ دونه. وفي رواية يقام عليها الحدّ جهراً وعليه سرّاً. وهي متروكة».
أمّا وجوب الحدّ عليها دونه فلاختصاصها بالزني، فتختصّ بالحدّ.
والرواية التي أشار إليها رويت بطريق ضعيف يشتمل على مجاهيل: أنّ امرأة تشبّهت بأمةٍ رجل فراقعها على أنّها أمته، فرفع إلى عمر فأرسل إلى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «حدّها جهراً، وحده سرّاً»(2).
وعمل بمضمونها القاضي(3)، واقتصر الشيخان على ذكرها بطريق الرواية(4).
والأصحّ عدم الحدّ عليه مطلقاً؛ للشبهة، وأصالة البراءة، وضعف مستند الثبوت.
قوله: «ويسقط الحدّ مع الإكراه. وهو يتحقّق في طرف المرأة قطعاً» إلى آخره.
الإكراه يسقط به أثر التحريم عن المكره إجماعاً؛ حذراً من تكليف ما لا يطاق، وعموم
ص: 33
• ويثبت للمكرهة على الواطئ مثل مهر نسائها على الأظهر.
----------------------------------
قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «رفع عن أُمّتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»(1). والمراد رفع حكمها أو المؤاخذة عليها.
والإكراه على الزنى يتحقّق في طرف المرأة إجماعاً. وأما في طرف الرجل فقيل: لا يتحقّق؛ لأنّ الإكراه يمنع من انتشار العضو وانبعاث القوى؛ لتوقّفهما على الميل النفساني المنافي لانصراف النفس عن الفعل والأظهر إمكانه؛ لأنّ الانتشار يحدث عن الشهوة، وهو أمر طبيعي لا ينافيها تحريم الشرع. وعلى كلّ حال لا حد؛ لأنّه شبهة والحدّ يدرأ بالشبهة.
قوله: «ويثبت للمكرهة على الواطئ مثل مهر نسائها على الأظهر».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل لم يذكر كثير منهم فيه خلافاً؛ لأنّ مهر المثل عوض البضع إذا كان محترماً عارياً عن المهر، كقيمة المتلف من المال، والبضع وإن لم يضمن بالفوات لكنّه يضمن بالتفويت والاستيفاء؛ لأنّها ليست بغيّاً، والنهي عن مهر البغيّ يدلّ على ثبوته لغيرها.
والقول بعدم ثبوت المهر للشيخ في موضع من الخلاف؛ محتجاً عليه بنهي النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن مهر البغيّ. قال: والبغىّ: الزانية(2).
وهو كما قال ابن إدريس (3) - استدلال عجيب وأوجبه في موضع آخر من الخلاف(4)، وكذلك في المبسوط(5) ؛ فلذلك لم يعدّها كثير من مسائل الخلاف.
ص: 34
• ولا يثبت الإحصان الذي يجب معه الرجم حتّى يكون الواطئ بالغاً حراً، ويطأ في فرج مملوك بالعقد الدائم أو الرقّ، متمكن منه يغدو عليه ويروح. وفي رواية مهجورة: «دون مسافة التقصير».
وفى اعتبار كمال العقل خلاف، فلو وطئ المجنون عاقلةً وجب عليه الحدّ رجماً أو جلداً. هذا اختيار الشيخين (رحمهما اللّه). وفيه تردّد.
----------------------------------
قوله: «ولا يثبت الإحصان الذي يجب معه الرجم» إلى آخره.
الإحصان والتحصين في اللغة: المنع(1)، قال تعالى: «لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ» (2)، وقال تعالى: «فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ»(3).
وورد في الشرع بمعنى الإسلام، وبمعنى البلوغ والعقل. وكلّ منهما قد قيل في تفسير قوله تعالى: «فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ»(4). وبمعنى الحرّيّة، ومنه قوله تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَانَتِ مِنَ الْعَذَابِ»(5)، يعني الحرائر. وبمعنى التزويج، ومنه قوله تعالى: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»(6). يعني المنكوحات. وبمعنى العفّة عن الزنى، ومنه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ»(7). وبمعنى الإصابة في النكاح، ومنه قوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ»(8).
ويقال: أحصنت المرأة: عفت، وأحصنها زوجها فهي محصنة، وأحصن الرجل: تزوّج.
ص: 35
----------------------------------
ويعتبر في الإحصان المعتبر لوجوب الرجم بالزنى أُمور:
أحدها: البلوغ، فالصبيّ ليس بمحصن، ولا حدّ عليه؛ لأنّ فعله ليس بجناية حتّى يناط به عقوبة والأظهر أنّ المجنون كذلك؛ لاشتراكهما في العلّة. فيشترط البلوغ والعقل ويجمعهما التكليف. فلو وطئ المجنون فلا حدّ عليه رجماً ولا جلداً؛ لعدم التكليف الذي هو مناط الحدود على المعاصي.
وذهب الشيخان(1) وجماعة (2) إلى وجوب الحدّ على المجنون، وتحقّق الإحصان منه، فيثبت عليه الرجم معه والجلد بدونه، استناداً إلى رواية أبان بن تغلب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد الحدّ، وإن كان محصناً رجم»، قلت: وما الفرق بين المجنون والمجنونة والمعتوه والمعتوهة؟ فقال: «المرأة إنّما تؤتى، والرجل إنّما يأتي، وإنما يأتي إذا عقل كيف يأتي اللذّة، وإنّ المرأة إنما تستكره ويفعل بها، وهي لا تعقل ما يفعل بها»(3).
وهذه الرواية ظاهرة في كون الفاعل غير مجنون، وإن كان صدرها قد تضمّن حكم المجنون، فتحمل على مجنون يعتوره الجنون إذا زنى بعد تحصينه؛ لتناسب العلّة التي ذكرها في الرواية.
وثانيها: الحرّيّة، فالرقيق ليس بمحصن، ولا يرجم بالزنى وإن أصاب في نكاح صحيح. ويستوي في ذلك القنّ والمدبّر والمكاتب ومن بعضه رقيق.
قيل: والوجه في اعتبار الحرّيّة أن العقوبة تتغلّظ بتغلّظ الجناية(4)، والحرّيّة تغلّظ الجناية من وجهين:
أحدهما: أنّها تمنع من الفواحش؛ لأنها صفة كمال وشرف، والشريف يصون نفسه عمّا
ص: 36
----------------------------------
یدنس،عرضه والرقيق مبتذل مهان لا يتحاشى عمّا يتحاشى منه الحرّ.
والثاني: أنها توسع طريق الحلال ألا ترى أنّ الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيّد. ولا ينكح إلّا امرأتين بخلاف الحرّ، ومن ارتكب الحرام مع اتّساع طريق الحلال عليه كانت جنايته أغلظ.
وثالثها: الإصابة في نكاح صحيح، قيل (1):
والمعنى في اعتبارها أنّ الشهوة مركبة في النفوس، فإذا أصاب في النكاح فقد نال اللذّة وقضى الشهوة، فحقّه أن يمتنع عن الحرام.
وأيضاً فإنّ الإصابة تكمل طريق الحلال، من حيث إنّ النكاح قبل الدخول يبين بالطلقة الواحدة وبمجرّد اختلاف الدين، وبعد الدخول بخلافه.
وأيضاً فإنّه إذا أصاب امرأته فقد أكد استفراشها، فلو لطخ غيره فراشه عظمت وحشته وأذيته، فحقّه أن يمتنع من تلطيخ فراش الغير، فإذا لم يمتنع تغلظت الجناية.
ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة. ولا يشترط الإنزال. ولا يقدح وقوعها في حالة محرّمة بالعرض كالحيض والإحرام. ولا فرق في الموطوءة التي يحصل بها الإحصان بين الحرّة والأمة عندنا؛ لاشتراكهما في المقتضي المذكور للإنسان.
واحترز ب«العقد الدائم» عن المنقطع فإنه لا يحصن.
وقد يدلّ على الأمرين معاً موثقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل إذا هو زنى وعنده السرّيّة والأمة يطؤها، تحصنه الأمة وتكون عنده؟ فقال: «نعم، إنّما ذلك لأنّ عنده ما يغنيه عن الزنى»، قلت: فإن كانت عنده أمة زعم أنّه يطؤها، فقال: «لا يصدّق»، قلت: فإن كانت عنده امرأةً متعةً أتحصنه؟ قال: «لا إنّما هو على الشيء الدائم عنده»(2). وغيرها من الأخبار الكثيرة(3).
ص: 37
----------------------------------
وذهب جماعة من أصحابنا - منهم ابن الجنيد(1) وابن أبي عقيل (2) وسلّار (3) - إلى أن ملك اليمين لا يحصن، لصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وكما لا تحصن الأمة والنصرانيّة واليهوديّة إذا زنى بحرّة، فكذلك لا يكون عليه حدّ المحصن إن زنى بيهوديّة أو نصرانيّة أو أمة وتحته حرّة»(4).
ورواية الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يحصن الحرّ المملوكة، ولا المملوك الحرّة»(5).
ولأنّ ملك اليمين لا يقصد به اكتساب الحلّ ولذلك يصحّ شراء من لا تحلّ له، فلا تكون الإصابة فيه كالإصابة في النكاح وأجاب الشيخ عن الرواية الأُولى بحملها على ما إذا كانوا عنده على سبيل المتعة؛ فلهذا حكم بأنّهنّ لا يحصنه (6). وعن الثانية بأنّها لا دلالة فيها؛ لأنّ مقتضاها أن الحر لا يحصن الأمة، حتّى إذا زنت وجب عليها الرجم كما لو كانت تحته حرّة؛ لأنّ حدّ المملوك والمملوكة خمسون جلدة، ولا رجم عليهما(7).
ورابعها: أن يكون متمكناً من الفرج يغدو عليه ويروح، بمعنى القدرة عليه في أيّ وقت أراده ممّا يصلح لذلك، والغدوّ والرواح كناية عنه.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ في النهاية، فقال: أن يكون له فرج يتمكّن من وطئه(8).
ويحتمل اعتبار حقيقته، بمعنى التمكن منه أول النهار وآخره، فلو كان بعيداً عنه لا يتمكّن من الغدوّ عليه والرواح، أو محبوساً لا يتمكّن من الوصول إليه، خرج عن الإحصان.
ص: 38
• ويسقط الحدّ بادّعاء الزوجيّة، ولا يكلّف المدّعى بيّنةً ولا يميناً. وكذا بدعوى ما يصلح شبهةً بالنظر إلى المدّعي.
----------------------------------
ويدلّ على اعتبار ذلك صحيحة ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: ما المحصن رحمك اللّه؟ قال: «من كان له فرج يغدو عليه ويروح فهو محصن»(1).
وفي حسنة أبي عبيدة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل محبوس في السجن وله امرأة حرّة في بيته في المصر وهو لا يصل إليها، فزني في السجن، فقال: عليه الجلد، ويدرأ عنه الرجم»(2).
والرواية المهجورة التي أشار إليها المصنّف (رحمه اللّه) الدالّة على اعتبار قصور المسافة عن مسافة التقصير رواها عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أخبرني عن الغائب عن أهله يزني هل يرجم إذا كانت له زوجة وهو غائب عنها؟ قال: «لا يرجم الغائب عن أهله، ولا المملك الذي لم يبن بأهله، ولا صاحب المتعة»، قلت: ففي أيّ حدّ سفره لا يكون محصناً؟ قال: «إذا قصر وأفطر فليس بمحصن»(3).
وفي مرفوعة أُخرى عن محمد بن الحسين قال: «الحدّ في السفر الذي إن زنى لم يرجم إذا كان محصناً إذا قصّر وأفطر»(4).
وفي طريق الرواية الأُولى جهالة. والثانية موقوفة؛ فلذلك كانت مهجورةً في العمل بمضمونها.
قوله: «ويسقط الحدّ بادعاء الزوجيّة، ولا يكلّف المدّعى بيّنه ولا يميناً» إلى آخره.
إنّما يسقط الحدّ عنه بمجرّد الدعوى وإن لم يثبت الزوجيّة؛ لأن دعواه شبهة في
ص: 39
• والإحصان في المرأة كالإحصان في الرجل، لكن يراعى فيها كمال العقل إجماعاً. فلا رجم ولا حدّ على مجنونة في حال الزني، ولو كانت محصنة، وإن زنى بها العاقل.
• ولا تخرج المطلّقة رجعيّةً عن الإحصان. ولو تزوّجت عالمةً كان عليها الحدّ تامّاً. وكذا الزوج إن علم التحريم والعدة، ولو جهل فلا حدّ. ولو كان أحدهما عالماً حدّ حدّاً تاماً، دون الجاهل. ولو ادّعى أحدهما الجهالة قبل إذا كان ممكناً في حقّه.
وتخرج بالطلاق البائن عن الإحصان.
----------------------------------
الحلّ، والحد يدرأ بالشبهة.
ومثله ما لو ادّعى شراء الأمة من مالكها وإن لم يثبت ذلك.
ولا يسقط فيه من أحكام الوطء سوى الحدّ، فلو كانت أمةٌ فعليه لمولاها العقر، أو حرّةً مكرهةً فمهر المثل إن لم يثبت استحقاق الوطء.
قوله: «والإحصان في المرأة كالإحصان في الرجل، لكن يراعي فيها كمال العقل إجماعاً».
بمعنى اشتراط كونها مكلّفة حرّة، موطوءةً بالعقد الدائم، متمكّنةً من الزوج بحيث يغدو عليها ويروح.
ويشكل الحكم في القيد الأخير، من حيث إنّ المرأة لا تتمكن من الوطء متى شاءت؛ لأنّ الأمر بيد غيرها، والحقّ له في ذلك غالباً، بخلاف العكس.
قوله: «ولا تخرج المطلقة رجعيّةً عن الإحصان. ولو تزوّجت عالمةً كان عليها الحدّ تامّاً» إلى آخره.
لأنّ المطلّقة رجعيةً في حكم الزوجة، والمطلّق متمكّن منها في كلّ وقت بالمراجعة. وتزويجها في العدّة بالنسبة إلى الحدّ كتزويج الزوجة، فيحدّان مع العلم بالتحريم، ويسقط الحدّ مع الشبهة. ويقبل قولهما فيها إن كانت ممكنةً في حقّهما، بأن كانا مقيمين في بادية
ص: 40
• ولو راجع المخالع لم يتوجه عليه الرجم، إلّا بعد الوطء وكذا المملوك لو أعتق، والمكاتب إذا تحرّر.
----------------------------------
بعيدة عن معالم الشرع، أو قريبي العهد بالإسلام، ونحو ذلك.
وكذا لو تزّوجت المطلّقة بائناً، وإن فارقتها في الخروج عن الإحصان، فتجلد كغير المعتدّة ممّن لم تحصن.
ولو تزوجت الزوجة بغير الزوج فكتزويج المطلّقة رجعياً، وأولى بالحكم.
ويدلّ على حكم المطلّقة صحيحة يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن امرأة تزوجت في عدّتها، قال: «إن كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها الرجم وإن كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها حدّ الزاني غير المحصن(1).
ويدلّ على حكم المزوّجة صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن امرأة تزوّجت رجلاً ولها زوج، فقال: «إن كان زوجها الأوّل مقيماً معها في المصر الذي هي فيه تصل إليه ويصل إليها، فإنّ عليها ما على الزاني المحصن الرجم، وإن كان زوجها الأوّل غائباً عنها أو كان مقيماً معها في المصر لا يصل إليها ولا تصل إليه، فإنّ عليها ما على الزانية غير المحصنة»(2).
قوله: «ولو راجع المخالع لم يتوجه عليه الرجم إلا بعد الوطء. وكذا المملوك لو أعتق، والمكاتب إذا تحرّر».
أمّا المخالع؛ فلأنّه بالخلع الموجب للبينونة خرج عن الإحصان حيث لا يملك فرجاً
ص: 41
• ويجب الحدّ على الأعمى، فإن ادّعى الشبهة قيل: لا تقبل والأشبه القبول مع الاحتمال.
----------------------------------
آخر غيرها، فيشترط في عوده إلى الزوجة - وإن كان برجوعه في البذل بعد رجوعها - تجدّد الوطء ليتحقّق إحصان جديد لبطلان الأوّل بالفرقة البائنة.
وأمّا المملوك والمكاتب فوطؤهما في حال الرقيّة والكتابة لا يحصن؛ لعدم الوطء حالة الشرط وهو الحرّيّة، كما لا يكتفى في إحصان البالغ العاقل بوطئه صغيراً أو مجنوناً.
ويدلّ عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: في العبد يتزوّج الحرّة ثمّ يعتق فيصيب فاحشةً، قال، فقال: «لا رجم عليه حتّى يواقع الحرّة بعد ما يعتق»(1).
قوله: «ويجب الحدّ على الأعمى، فإن ادّعى الشبهة قيل: لا تقبل. والأشبه القبول مع الاحتمال».
القول بعدم القبول للشيخين (2)، وتبعهما ابن البرّاج (3) وسلّار(4)، ولم يذكروا عليه دليلاً مقنعاً.
والأظهر - وهو مذهب الأكثر - قبول دعواه كالمبصر؛ لأن ذلك شبهة يدرأ بها الحدّ، ولأنّه مسلم والأصل في إخباره المطابقة.
وقيّد ابن إدريس قبول دعواه بشهادة الحال بما ادعاه، بأن يكون قد وجدها على فراشه فظنّها زوجته أو أمته، ولو شهدت الحال بخلاف ذلك لم يصدّق(5).
وربما قيد بعضهم قبول قوله بكونه عدلاً(6). والوجه القبول مطلقاً.
ص: 42
ويثبت الزنى بالإقرار أو البيّنة
أمّا الإقرار، فيشترط فيه بلوغ المقرّ، وكماله، والاختيار، والحرّيّة، • وتكرار الإقرار أربعاً في أربعة مجالس. ولو أقرَّ دون الأربع لم يجب الحدّ، ووجب التعزير.
ولو أقرّ أربعاً في مجلس واحد قال في الخلاف والمبسوط: لا يثبت. وفيه تردّد.
----------------------------------
قوله: «وتكرار الإقرار أربعاً في أربعة مجالس - إلى قوله - وفيه تردّد».
اتّفق الأصحاب - إلّا من شذّ - على أن الزنى لا يثبت على المقرّ به على وجه يثبت به الحدّ إلّا أن يقرّ به أربع مرّات.
ويظهر من ابن أبي عقيل الاكتفاء بمرّة(1). وهو قول أكثر العامّة. ومنهم من اعتبر الأربع (2) كالمشهور عندنا.
لنا: ما روي أنّ ماعز بن مالك جاء إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: يا رسول اللّه، إنّي قد زنيت، فأعرض عنه، ثمّ جاء من شقه الأيمن فقال: يا رسول اللّه إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثمّ جاء فقال: إنّي قد زنيت، إلى أن قال ذلك أربع مرات، قال: «أبك جنون؟» قال: لا يا رسول اللّه، قال: «فهل أحصنت؟» قال: نعم، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «اذهبوا به فارجموه»(3).
وروي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )$ قال له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت»، قال: لا يا رسول اللّه، قال: «أنكتها؟ لا يكني»، قال: نعم، قال: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟»
ص: 43
ويستوي في ذلك الرجل والمرأة. وتقوم الإشارة المفيدة للإقرار في الأخرس مقام النطق.
----------------------------------
قال: نعم، قال: «فهل تدري ما الزنى؟» قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: «ما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهّرني، فأمر به فرجم (1).
فلو لا اعتبار الإقرار أربع مرّات لاكتفى منه بأوّل مرّة وأمر برجمه.
قالوا: ارتاب في أمره، فاستثبت ليعرف أبه جنون أم شرب خمراً، أم لا؟
قلنا: الاستثبات لا يتقيد بهذا العدد. وكان يمكن البحث عنه من أول مرّة.
وفي بعض ألفاظ الحديث: «شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه»(2).
وفي رواية أخرى أنّه لما اعترف ثلاث مرّات قال له: «إن اعترفت الرابعة رجمتك، فاعترف الرابعة»(3).
ومن طريق الخاصّة قول أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «لا يرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات بالزنى إذا لم يكن شهود، فإن رجع ترك ولم يرجم»(4).
احتجّ ابن أبي عقيل(5) بصحيحة الفضيل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود اللّه تعالى مرّة واحدةً، حرّاً كان أو عبداً، أو حرّةً كانت أو أمةً فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للّذي أقرّ به على نفسه، كائناً من كان، إلّا الزاني المحصن، فإنّه لا يرجم حتّى يشهد عليه أربعة شهود»(6).
وأُجيب (7) بحمله على غير حدّ الزنى جمعاً بين الأخبار.
ص: 44
• ولو قال: «زنيت بفلانة» لم يثبت الزنى في طرفه حتّى يكرّره أربعاً. وهل يثبت القذف للمرأة؟ فيه تردّد.
----------------------------------
إذا تقرّر ذلك، فاختلف القائلون باشتراط تكراره أربعاً في اشتراط تعدّد مجالسه، بأن يقع كلّ إقرار في مجلس(1)، أم يكفي وقوع الأربعة في مجلس واحد.
فذهب جماعة - منهم الشيخ في الخلاف والمبسوط (2)، وابن حمزة (3) - إلى الأوّل؛ لأنّ ماعز بن مالك أقرّ في أربعة مواضع والأصل براءة الذمّة من هذه العقوبة بدون ما وقع الاتّفاق عليه، ولأنّ هذا الاختلاف مع ورود الواقعة كذلك شبهة يدرأ بها الحدّ.
وأطلق الأكثر - ومنهم الشيخ في النهاية(4)، والمفيد(5)، وأتباعهما (6)، وابن إدريس (7) - ثبوته بالإقرار أربعاً ؛ لأصالة عدم اشتراط التعدّد. وقضيّة ماعز بن مالك وقعت اتفاقاً، مع أنّها ليست صريحةً في اختلاف المجالس. ورواية الخاصّة السابقة(8) مطلقة أيضاً. والأقوى عدم الاشتراط؛ لعدم دليل يقتضيه.
قوله: «ولو قال: زنيت بفلانة لم يثبت الزنى في طرفه» إلى آخره.
إذا أقرّ بالزنى ونسبه إلى امرأة معينة، كقوله: زنيت بفلانة فلا إشكال في احتياج ثبوت الزنى في حقّه إلى إقراره أربع مرات.
ص: 45
• ولو أقرَّ بحدّ ولم يبينه لم يكلّف البيان، وضرب حتّى ينهي عن نفسه. وقيل: لا يتجاوز به المائة، ولا ينقص عن ثمانين.
وربما كان صواباً في طرف الكثرة، ولكن ليس بصواب في طرف النقصان؛ لجواز أن يريد بالحدّ التعزير.
----------------------------------
أمّا ثبوت قذف المرأة ففيه تردّد، منشؤه من أنّ ظاهره القذف؛ لأنّه رمى المحصنة، أي غير المشهورة بالزني، فيكون قاذفاً بأوّل مرّة كما لو رماها بغيره، ومن أنّه إنّما نسب الزنى إلى نفسه، وزناه ليس مستلزماً لزناها؛ لجواز الاشتباه عليها أو الإكراه، والعامّ لا يستلزم الخاصّ، ولأن إقراره على نفسه بالزنى بها ليس إقراراً على المرأة بالزنى؛ إذ ليس موضوعاً له، ولا جزءاً من مسمّاه ولا لازماً له، فانتفت الدلالات الثلاث عنه، فلا قذف وعلى هذا فيثبت التعزير للإيذاء.
والوجه ثبوت القذف بالمرأة مع الإطلاق؛ لأنّه ظاهر فيه، والأصل عدم الشبهة والإكراه.
ولو فسّره بأحدهما قبل واندفع عنه الحدّ، ووجب التعزير.
قوله: «ولو أقر بحدّ ولم يبيّنه لم يكلّف البيان» إلى آخره.
الأصل في هذه المسألة رواية محمد بن قيس عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمر في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يسمّ أن يضرب حتّى ينهى عن نفسه»(1). وبمضمونها عمل الشيخ (2)، والقاضي(3).
وزاد ابن إدريس أنّه لا ينقص عن ثمانين ولا يزاد على مائة (4)؛ نظراً إلى أنّ أقلّ الحدود حدّ الشرب، وأكثرها حدّ الزنى.
ص: 46
----------------------------------
وكلاهما ممنوع. أما في جانب القلة؛ فلأنّ حدّ القوّاد خمسة وسبعون، وحدّ الزنى قد يتجاوز المائة، كما لو زنى في مكان شريف أو وقت شريف؛ فإنّه يزاد على المائة بما يراه الحاكم.
واعترض المصنّف (رحمه اللّه) أيضاً على جانب النقصان؛ لجواز أن يريد بالحدّ التعزير، فإنه يطلق عليه لغةً، فلا يتحقّق ثبوت الحدّ المعهود عليه؛ إذ لا يثبت عليه إلّا ما علم أنّه مراد من اللفظ.
وفيه نظر؛ لأنّ الحدّ حقيقة شرعيّة في المقدّرات المذكورة، وإطلاقها على التعزير مجاز لا يصار إليه عند الإطلاق بدون القرينة. ثمّ على تقدير حمله على التعزير فأمره منوط بنظر الحاكم غالباً، ونظر الحاكم يتوقّف على معرفة المعصية ليرتّب عليها ما يناسبها، لا بمجرّد التشهّي، ومن التعزير ما هو مقدّر، فجاز أن يكون أحدها، فيشكل تجاوزها أو نقصها بدون العلم بالحال.
ويشكل الخبر(1) أيضاً باستلزامه أنه لو أنهى عن نفسه فيما دون الحدود المعلومة قبل منه، وليس هذا حكم الحدّ ولا التعزير.
وأيضاً، فإنّ من الحدود ما يتوقّف على الإقرار أربع مرات، ومنها ما يتوقّف على الإقرار مرّتين، ومنها ما يثبت بمرّة، فلا يتمّ إطلاق القول بجواز بلوغ المائة مع الإقرار دون الأربع، وبلوغ الثمانين بدون الإقرار مرّتين، واشتراط ذلك كله خروج عن مورد الرواية رأساً.
والحقّ أنّ الرواية مطرحة؛ لضعف سندها باشتراك محمّد بن قيس الذي يروي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين الثقة وغيره(2)، فلا تصلح لإثبات هذا الحكم المخالف للأصل. مع أنّه قد روي بطريق يشاركه في الضعف - إن لم يكن أقرب منه - عن أنس بن مالك قال: كنت عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فجاءه رجل فقال: يا رسول اللّه، إني أصبت حدّاً فأقمه عليّ، ولم يسمّه،
ص: 47
----------------------------------
قال: وحضرت الصلاة فصلّى مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلما قضى النبيّ الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول اللّه، إنّي أصبت حدّاً فأقم فيّ كتاب اللّه قال: «أليس قد صلّیت معنا؟» قال: نعم، قال: «فإنّ اللّه قد غفر لك ذنبك أو حدّك»(1).
ولو كان الحدّ يثبت بالإقرار مطلقاً لما أخره النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولا حكم بأن الصلاة تُسقط الحدّ. وإنّما أجابه بذلك من حيث عدم ثبوته مع إطلاقه كذلك، وإن تكرّر الإقرار.
وأيضاً، فإنّ الحدّ - كما قد عُلم - يطلق على الرجم وعلى القتل بالسيف، والإحراق بالنار، ورمي الجدار عليه، وغير ذلك ممّا ستقف عليه، وعلى الجلد.
ثم الجلد يختلف كمّيّةً وكيفيّة، فحمل مطلقه على الجلد غير مناسب للواقع، ولا يتمّ معه إطلاق أنّ الإقرار أربع مرّات يجوز جلد المائة. فالقول بعدم ثبوت شيء بمجرّد الإقرار المجمل قويّ.
وعلى هذا، فيمكن القول بعدم وجوب استفساره، بل ولا استحبابه، تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذا الخبر وغيره(2) من ترديد عزم المقرّ، فكيف بالساكت؟! وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللّه، فإن من أبدى صفحته أقمنا عليه الحدّ»(3). وأقلّ مراتب الأمر الاستحباب.
وفي حديث المزني الذي أقرّ عند أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالزنى أربع مرات، وفي كلّ مرّة يأمره بالانصراف، ثمّ قال له في الرابعة: «ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملا! أفلا تاب في بيته؟! فو اللّه لتوبته فيما بينه وبين اللّه أفضل من إقأُمّتي عليه الحدّ»(4).
ص: 48
• وفي التقبيل والمضاجعة في إزار واحدٍ والمعانقة روايتان إحداهما: «مائة جلدة». والأُخرى دون الحدّ. وهي أشهر.
----------------------------------
قوله: «وفي التقبيل والمضاجعة في إزار واحدٍ والمعانقة روايتان إحداهما: «مائة جلدة». والأُخرى دون الحدّ. وهى أشهر».
اختلف الأصحاب والروايات في حكم المجتمعين في إزار واحد وما أشبهه، والاستمتاع بما دون الفرج. فقال الشيخ في النهاية : يجب به التعزير(1)، وأطلق.
وقال في الخلاف:
روى أصحابنا في الرجل إذا وجد مع امرأة أجنبية يقبلها ويعانقها في فراش واحد: أنّ عليهما مائة جلدة، وروي ذلك عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد روي أنّ عليهما أقلّ من الحدّ(2).
وقريب منه قوله في المبسوط (3).
وقال المفيد:
فإن شهدوا عليه بما عاينوه من اجتماع في إزار واحد والتصاق جسمٍ بجسمٍ وما أشبه ذلك، ولم يشهدوا عليه بالزنى قبلت شهادتهم، ووجب على المرأة والرجل التعزير حسب ما يراه الإمام من عشر جلدات إلى تسع وتسعين، ولا يبلغ التعزير في هذا الباب حدّ الزنى المختص به في شريعة الإسلام(4).
وهذا القول وإن كان محصله التعزير؛ إلا أنّه حدّه في جانب القلّة بعشر، فهو مخالف لقول من أطلق الحكم بالتعزير؛ فإنّه يجوز نقصانه عن العشر إذا رآه الحاكم صلاحاً.
والمعتمد ثبوت التعزير مطلقاً. وهو اختيار المصنّف والمتأخّرين؛ لأنّه فعل محرّم لم يبلغ حدّ الزني، فيكون عقوبته منوطة برأي الحاكم في مقدار التعزير.
ص: 49
----------------------------------
ويدلّ على أنّه لا يبلغ به حدّ الزاني - مضافاً إلى ذلك - صحيحة حريز عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجد رجلاً وامرأةٌ في لحاف، فجلد كلّ واحد منهما مائة سوط إلّا سوطاً(1)».
وعن زيد الشحام عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد، فقال: «يجلدان مائة غير سوط»(2).
واستند القائل بوجوب الحدّ كملاً (3) إلى صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد»(4).
ورواية عبد الرحمن الحذاء عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : سمعته يقول: «إذا وجد الرجل والمرأة في لحاف واحد جُلدا مائة»(5). وغيرهما من الأخبار(6).
وحملها الشيخ على وقوع الزنى مع علم الإمام بذلك، أو على تكرّر الفعل منهما وقد عزرهما مرّتين أو ثلاثاً، جمعاً بين الأخبار(7). مع أنّ الرواية الصحيحة ليست صريحة في المطلوب؛ لأنّ إطلاق الجلد لا يتعيّن حمله على المائة. ويسهل الخطب في الباقي؛ لضعف السند. ومع ذلك فليس فيها حكم الاستمتاع بغير الجماع، وغير الاجتماع في الثوب الواحد.
ص: 50
• ولو أقرّ بما يوجب الرجم ثمّ أنكر سقط الرجم. ولو أقر بحدّ غير الرجم لم يسقط بالإنكار. ولو أقر بحدّ ثمّ تاب كان الإمام مخيّراً في إقامته، رجماً كان أو جلداً.
• ولو حملت ولا بعل لم تحد، إلا أن تقرّ بالزنى أربعاً.
----------------------------------
قوله: «ولو أقرّ بما يوجب الرجم ثمّ أنكر سقط الرجم» إلى آخره.
مستند سقوط الرجم بالإنكار دون غيره،روایات منها حسنة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من أقرّ على نفسه بحدّ أقمت عليه الحدّ، إلّا الرجم، فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثمّ جحد لم يرجم»(1).
وتخيّر الإمام بعد توبة المقرّ بين حدّه والعفو عنه مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب. وقيّده ابن إدريس بكون الحدّ رجماً (2). والمعتمد المشهور؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.
ولأنّ التوبة إذا أسقطت تحتم أشد العقوبتين، فإسقاطها لتحتم الأضعف أولى.
وأمّا سقوط الرجم بالإنكار فيدلّ عليه قصة ماعز وتعريض النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له بالإنكار بعد الإقرار، ولولا قبوله منه لم يكن لترديده فائدة، ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأصحابه لما فرّ من الحفيرة فأدركوه وقتلوه: «هلّا تركتموه وجئتموني به»(3) ليستتيبه. وفي بعض ألفاظها: «هلّا رددتموه إلى لعلّه يتوب»(4).
قوله: «ولو حملت ولا بعل لم تحد، إلا أن تقرّ بالزنى أربعاً».
لأن الحمل لا يستلزم الزنى، والأصل في تصرّف المسلم حمله على الصحّة، ولأصالة براءة الذمّة من وجوب الحدّ، ولاحتمال أن يكون من شبهة أو من إكراه، والحدّ يدرأ بالشبهة، ولا يجب البحث عنه ولا الاستفسار
ص: 51
• وأما البيّنة، فلا يكفى أقلّ من أربعة رجال، أو ثلاثة وامرأتين. ولا تقبل شهادة النساء منفردات، ولا شهادة رجل وستّ نساء. وتقبل شهادة رجلين وأربع نساء، ويثبت به الجلد لا الرجم.
• ولو شهد ما دون الأربع لم يجب. وحدّ كلّ منهم للفرية.
----------------------------------
وقال الشيخ في المبسوط :
إنّها تسأل عن ذلك، فإن قالت : من زنى، فعليها الحدّ، وإن قالت : من غير زني، فلا حدً(1).
ونقل عن بعضهم أنّ عليها الحدّ، ثمّ قوّى الأوّل.
قوله: «وأمّا البيّنة، فلا يكفى أقلّ من أربعة رجال أو ثلاثة وامرأتين. ولا تقبل شهادة النساء منفردات» إلى آخره.
قد تقدّم البحث في ذلك في كتاب الشهادات (2)، وأنه ليس على ثبوت الجلد بشهادة رجلين وأربع نساء دليل صالح، وأنّ جماعة من الأصحاب (3) ذهبوا إلى عدم وجوب شيء بهذه البيّنة لذلك. وهو الوجه.
قوله: «ولو شهد ما دون الأربع لم يجب. وحدّ كلّ منهم للفرية».
أي لافترائهم عليه سمّاه فريةً مع إمكان صدقهم؛ لأن اللّه تعالى وصف من لم يأتِ عليه بأربعة شهداء كاذباً بقوله تعالى: «لَّوْلَا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللّه هُمُ الْكَاذِبُونَ»(4)، ومتى حكم بكذبه وجب حدّه للقذف.
ص: 52
• ولا بدَّ في شهادتهم من ذكر المشاهدة للولوج، كالميل في المكحلة، من غير عقد ولا ملك ولا شبهة. ويكفى أن يقولوا لا نعلم بينهما سبب التحليل.
ولو لم يشهدوا بالمعاينة لم يحدَّ المشهود وحدَّ الشهود.
----------------------------------
قوله: «ولا بدّ في شهادتهم من ذكر المشاهدة للولوج كالميل في المكحلة، من غير عقد ولا ملك ولا شبهة» إلى آخره
لمّا كان الزنى قد يطلق على ما دون الجماع فيقال: «زنت العين» و «زنت الآذن» و «زنى الفرج»، والجماع يطلق على غير الوطء لغةً، وكان الأمر في الحدود - سيّما الرجم - مبنياً على الاحتياط التامّ ويدرأ بالشبهة، فلا بدّ في قبول الشهادة به من التصريح بالمشاهدة لوقوع الفعل على وجه لا ريبة فيه، بأن يشهدوا بمعاينة الإيلاج.
ويدلّ عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربعة أنّهم رأوه يدخل ويخرج»(1).
وفي رواية أبي بصير عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يرجم الرجل والمرأة حتّى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج والإدخال، كالميل في المكحلة»(2).
وقد تقدّم (3) في قصّة ماعز أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما قبل منه الإقرار حتّى صرّح بكونه قد أدخل مثل الميل في المكحلة والدلو في البئر، فكذا البيّنة، بل هنا أولى.
وإنّما يحدّ الشهود إذا لم يشهدوا بالإيلاج على ذلك الوجه بتقدير أن يكون شهادتهم بالزنى، أمّا لو شهدوا بالفعل ولم يتعرّضوا للزنى سمعت شهادتهم، ووجب على المشهود عليه التعزير
ص: 53
• ولا بد من تواردهم على الفعل الواحد والزمان الواحد والمكان الواحد. فلو شهد بعض بالمعاينة وبعض لا بها، أو شهد بعض بالزنى في زاوية من بيت، وبعض في زاوية أُخرى، أو شهد بعض في يوم الجمعة، وبعض في يوم السبت فلا حدّ. ويُحدُّ الشهود للقذف.
----------------------------------
قوله: «ولا بد ّمن تواردهم على الفعل الواحد» إلى آخره.
لا ريب في عدم قبول شهادتهم على تقدير الاختلاف في الفعل بالزمان أو المكان أو الصفة؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الفعل الواقع على أحد الوجوه غير الفعل الآخر، ولم يقم على الفعل الواحد أربعة شهداء.
وإنّما الكلام في اشتراط تعرّضهم لهذه القيود، وظاهر المصنّف والعلّامة(1) اشتراط ذلك، فلا يكفي إطلاقهم الشهادة على الزنى على الوجه السابق، إلّا مع تصريحهم باتّحاد الزمان والمكان، حتّى لو أطلق بعضهم وقيد آخرون حدّوا.
والنصوص (2) خالية من اشتراط ذلك، ودالّة على الاكتفاء بالإطلاق. وهذا هو الظاهر من كلام المتقدّمين. فقال الشيخ في النهاية في البيّنة بالزنى:
وهو أن يشهد أربعة نفر عدول على رجل بأنّه وطى امرأةٌ، وليس بينه وبينها عقد ولا شبهة عقد، وشاهدوه وطئها في الفرج، فإذا شهدوا كذلك قبلت شهادتهم، وحكم عليه بالزنى، وكان عليه ما على فاعله ممّا نبيّنه(3).
وهذا صريح في عدم اعتبار التقييد بالزمان والمكان.
وقال ابن الجنيد:
ليس تصحّ الشهادة بالزنى حتّى يكونوا أربعة عدولٍ، وليس فيهم خصم لأحد المشهود
ص: 54
• ولو شهد بعض أنه أكرهها وبعض بالمطاوعة، ففي ثبوت الحدّ على الزاني وجهان: أحدهما يثبت؛ للاتّفاق على الزنى الموجب للحدّ على كلا التقديرين.
والآخر لا يثبت؛ لأنّ الزنى بقيد الإكراه غيره بقيد المطاوعة، فكأنه شهادة على فعلين.
----------------------------------
عليهما، ويقولوا: إنا رأيناه يولج ذلك منه في ذلك منها ويخرجه كالمرود في المكحلة، ويكون الشهادة في مجلس واحد، فإذا شهدوا بذلك ولم يدع أحد المشهود عليهما شبهة وجب الحدّ (1).
وهذا أيضاً صريح في ذلك. وكلام غيرهما من المتقدمين (2) قريب من ذلك.
وهذا هو المعتمد. ويمكن تنزيل كلام المصنّف وما أشبهه على ذلك، بحمل عدم القبول على تقدير التعرّض لذلك والاختلاف فيه.
قوله: «ولو شهد بعض أنّه أكرهها وبعض بالمطاوعة» إلى آخره.
إذا شهد بعض الأربعة على رجل بأنه زنى بفلانة مكرهاً لها في ذلك الزنى، وشهد الباقون بأنه زنى بها مطاوعةً له فيه، فلا حدّ على المرأة قطعاً؛ لعدم ثبوت المقتضي لحدّها. وهو الزنى مطاوعة.
واختلف قولا الشيخ في الرجل، فقال في الخلاف : لا حدّ عليه، ويحدّ الشهود؛ لأنّها شهادة على فعلين، فإنّ الزنى بقيد الإكراه غيره بقيد المطاوعة، فهى كشهادة الزوايا(3).
وقال في المبسوط :
يحدّ الرجل؛ لثبوت الزنى على كلّ واحدٍ من التقديرين المشهود بهما، ولأنّ الاختلاف إنما هو في قول الشهود لا في فعله(4).
ص: 55
• ولو أقام الشهادة بعض فى وقت حدّوا للقذف، ولم يرتقب إتمام البيّنة؛ لأنّه لا تأخير في حدّ.
----------------------------------
وهذا مختار ابن الجنيد(1) وابن إدريس(2).
وتردّد المصنّف مقتصراً على نقل القولين وكذلك العلّامة في الإرشاد والتحرير(3). ورجح في القواعد والمختلف الأوّل (4). وكذلك الشهيد في شرح الإرشاد(5). ولعلّه أوجه.
ويمنع ثبوت الزنى على كلّ واحدٍ من التقديرين؛ لأنّه لم يشهد به على كلّ تقدير العدد المعتبر، فهو جارٍ مجرى تغاير الوقتين والمكانين المتّفق على أنه لا يثبت على تقديره.
قوله: «ولو أقام الشهادة بعضٌ في وقت حدوا للقذف» إلى آخره.
مذهب الأصحاب اشتراط إيقاع الشهادة في مجلس واحد. فلو حضر بعض الشهود قبل بعض وشهد حدّ للقذف، ولم ينتظر حضور الباقين؛ لأنّ السابق قد صار قاذفاً، ولم يثبت الزني، ولا تأخير في حدّ.
وبالغ في القواعد فاشترط حضورهم أيضاً قبل الشهادة للإقامة(6)، فلو تفرّقوا في الحضور حدوا وإن اجتمعوا في الإقامة. ولا دليل على اعتبار مثل ذلك.
ويظهر من كلام الشيخ في الخلاف عدم اشتراط اتّحاد المجلس؛ لأنّه قال:
إذا تكاملت شهود الزنى فقد ثبت الحكم بشهادتهم، سواء شهدوا في مجلس واحد أو مجالس متعدّدة، وشهادتهم متفرّقين أحوط(7).
ص: 56
• ولا يقدح تقادم الزنى في الشهادة. وفي بعض الأخبار: «إن زاد عن ستّة أشهر لم تسمع». وهو مطّرح.
وتقبل شهادة الأربع على الاثنين فما زاد.
----------------------------------
وفي المختلف حمل كلامه على تفرقهم بعد اجتماعهم لإقامة الشهادة دفعةً؛ نظراً إلى أنّ ذلك هو المذهب عندنا(1).
ووافقنا بعض العامّة على اشتراط اتّحاد مجلس الإقامة(2). وخالفنا آخرون، فاكتفوا بشهادتهم متفرقين كما في سائر الوقائع(3)، ولأنّهم إذا جاؤوا متفرقين كانوا أبعد عن التهمة. واعتبر بعضهم وقوع الشهادات في مجلس واحد للحاكم، طال أم قصر، تفرّقوا في الأداء أم اجتمعوا(4). والكلّ رجوع إلى ما لا يصلح دليلاً.
قوله: «ولا يقدح تقادم الزنى فى الشهادة إلى آخره.
إذا ثبت موجب الحدّ لم يسقط بتقادم عهده؛ لأصالة البقاء. والرواية(5) بخلاف ذلك مطرحة. وهي موافقة لقول بعض العامّة(6). ويمكن حملها على ما لو ظهر منه التوبة، كما تدلّ عليه رواية ابن أبي عمير، عن جميل مرسلاً عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وفيها: قلت: وإن كان أمراً قريباً لم يقم عليه، قال: «لو كان خمسة أشهر أو أقلّ وقد ظهر منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ»(7).
ص: 57
• ومن الاحتياط تفريق الشهود في الإقامة بعد الاجتماع، وليس بلازم.
ولا تسقط الشهادة بتصديق المشهود عليه، ولا بتكذيبه.
• ومن تاب قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ. ولو تاب بعد قيامها لم يسقط، حدّاً كان أو رجماً.
----------------------------------
قوله: «ومن الاحتياط تفريق الشهود في الإقامة بعد الاجتماع وليس بلازم».
قد تقدّم(1) في القضاء استحباب تفريق الشهود عند الريبة، والأمر هنا كذلك، إلّا أنّه يكون هنا بعد اجتماعهم جميعاً في المجلس، جمعاً بين وظيفتي التفريق واتّحاد مجلس الشهود حضوراً وإقامةٌ. فإذا حضروا جملةً فرّقوا، ثمّ استنطق واحداً منهم بعد واحد في مجلس واحد.
قوله: «ومَنْ تاب قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ» إلى آخره.
أمّا سقوطه بتوبته قبل قيام البيّنة؛ فلأنّ التوبة تسقط الذنب وعقوبة الآخرة، فعقوبة الدنيا أولى. ويدلّ عليه رواية جميل - السابقة - عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنی فلم يعلم بذلك منه ولم يؤخذ حتّى تاب وصلح، فقال: «إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ».
وأما عدم سقوطه بتوبته بعد إقامة البيّنة فلثبوته في ذمته فيستصحب. ويؤيّده رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أُقيمت عليه البيّنة بأنّه زنى ثمّ هرب قبل أن يضرب، قال: «إن تاب فما عليه شيء، وإن وقع في يد الإمام أقام عليه الحدّ، وإن علم مكانه بعث إليه»(2).
والحكم بتحتّم الحدّ عليه على هذا التقدير هو المشهور بين الأصحاب. وذهب جماعة
ص: 58
النظر الثاني في الحدّ
وفيه :مقامان:
[المقام] الأوّل • في أقسامه، وهو قتل، أو رجم، أو جلد وجزّ وتغريب.
• أمّا القتل، فيجب على من زنى بذات محرم، كالأمُّ والبنت وشبههما، والذمّى إذا زنى بمسلمة. وكذا من زنى بامرأة مكرهاً لها.
ولا يعتبر في هذه المواضع الإحصان، بل يقتل على كلّ حال، شيخاً كان أو شابّاً. ويتساوى فيه الحر والعبد والمسلم والكافر. وكذا قيل في الزاني بامرأة أبيه.
وهل يقتصر على قتله بالسيف؟ قيل: نعم. وقيل: بل يجلد ثمّ يقتل إن لم يكن محصناً، ويجلد ثمّ يرجم إن كان محصناً؛ عملاً بمقتضى الدليلين والأوّل أظهر.
----------------------------------
منهم المفيد(1)، وأبو الصلاح (2) إلى تخيّر الإمام بين إقامته عليه والعفو عنه، كما لو تاب بعد الإقرار. ولم نقف على المستند.
قوله: «في أقسامه، وهو قتل، أو رجم، أو جلد وجز وتغريب».
عطف الثلاثة أوّلاً ب«أو» الدالّ على وقوعها على وجه البدل، وجمع الثلاثة الأخيرة ب«الواو» الدالّ على اجتماعها لا يطابق المقصود من الحصر؛ فإنّ من أقسامه الجلد بغير جزّ ولا تغريب حدّاً للمرأة غير المحصنة، وجلد خمسين في حدّ المملوك بدونهما أيضاً. ولو قلنا بالجمع على المحصن بين الجلد والرجم لكان قسماً آخر.
قوله: «أمّا القتل، فيجب على من زنى بذات محرم» إلى آخره.
لا خلاف في ثبوت القتل بالزنى بمن ذكر من ذوات المحرم النسبيّات، وزنى الذمّي
ص: 59
----------------------------------
بمسلمة، والمكره والنصوص واردة بها(1).
وإنّما الخلاف في إلحاق المحرمة بالسبب، كامرأة الأب. والمصنّف (رحمه اللّه) خصّها بالذكر ؛ لكثرة القائل بإلحاقها، وإلّا فالخلاف أيضاً في الزني بزوجة الابن وأمة أحدهما الموطوءة.
والمصنّف (رحمه اللّه) لم يرجّح الإلحاق، بل اقتصر على نقل القول بالتحريم؛ لأصالة العدم، مع عدم متمسّك صالح. ولكنّ النصّ ورد على الزنى بذات محرم، ففي حسنة بكير بن أعين عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «من زنی بذات محرم حتّى يواقعها ضرب ضربة بالسيف أخذت منه ما أخذت، وإن كانت تابعته ضربت ضربة بالسيف أخذت منها ما أخذت» (2). ومثلها كثير(3).
والمتبادر من ذات المحرم النسبية. ويمكن شمولها للسببية.
وقد تقدّم(4) أنّ المحرّم من يحرم نكاحه مؤبداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وحينئذٍ فلا يقتصر على امرأة الأب، بل يتعدى إلى غيرها من المحرمات السببيّة والرضاعيّة.
وظاهر النصوص الدالّة على قتل المذكورين الاقتصار على ضرب أعناقهم، سواء في ذلك المحصن وغيره، والحر والعبد، والمسلم والكافر. وقد سمعت منها ما يدلّ على حكم المحرّم.
وفي صحيحة بريد العجلي قال: سئل أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل اغتصب امرأةٌ فرجها، قال: «يقتل محصناً كان أو غير محصن»(5).
وروى زرارة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «يضرب ضربةً بالسيف بلغت منه ما بلغت»(6).
ص: 60
• وأما الرجم، فيجب على المحصن إذا زنى ببالغة عاقلة. فإن كان شيخاً أو شيخةً جلد ثمّ رجم. وإن كان شابّاً ففيه روايتان إحداهما يرجم لا غير.
----------------------------------
وروى حنّان بن سدير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن يهودي فجر بمسلمة، قال: «يقتل»(1).
وذهب ابن إدريس إلى وجوب الجمع بين قتله وما وجب عليه لو لم يكن موصوفاً بذلك، فإن كان غير محصن جلد ثمّ قتل، وإن كان محصناً جلد ثمّ رجم (2)؛ لدلالة الأدلّة على جلد غير المحصن وقتل من فعل ما ذكرناه، وعلى جلد المحصن ورجمه لو كان قد زنى بغير من ذكر، فمن ذكر أولى، فلا يقتصر له على الأخف وذنبه أعظم.
ويؤيّده رواية أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زنى الرجل بذات محرم حدّ حدّ الزاني، إلا أنه أعظم ذنباً»(3).
قال الشيخ (رحمه اللّه) عقيب هذا الخبر :
وليس هذا منافياً لما تقدّم من ضربه بالسيف؛ لأنّ القصد قتله، وفيما يجب على الزاني الرجم، وهو يأتي على النفس، فالإمام مخيّر بين أن يضربه ضربةً بالسيف أو يرجمه(4).
وهذا قول ثالث غير قول ابن إدريس. ونفى عنه في المختلف البأس(5). وقول ابن إدريس أوجه منه.
قوله: «وأمّا الرجم، فيجب على المحصن إذا زنى ببالغة عاقلة» إلى آخره.
ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من الجمع للشاب بين الحدّين مذهب الشيخين(6)،
ص: 61
والأخرى: يجمع له بين الحدّين وهو أشبه.
----------------------------------
والمرتضى(1)، وابن إدريس(2)، وجماعة(3).
ووجهه الجمع بين الآية(4) الدالّة على الجلد والرواية (5) مع الإجماع الدالّين على رجم المحصن.
ومنه صحيحة محمد بن مسلم(6)، وزرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «المحصن يجلد مائة ويرجم»(7).
والمفرد المحلّى باللام يفيد العموم عند بعض الأُصوليّين(8).
ولما روي أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) جلد سراقة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، فقيل له : أتحدّ حدّين ؟ فقال : «حددتها بكتاب اللّه عزّ وجلّ، ورجمتها بسنة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»(9). فإن كانت شابّة فالمطلوب، وإن كانت شيخة فالتعليل يقتضي دخول الشاب ؛ لعموم الكتاب (10).
ص: 62
• ولو زنى البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة فعليه الحدّ لا الرجم. وكذا المرأة لو زنى بها طفل. ولو زنى بها المجنون فعليها الحدّ تامّاً. وفي ثبوته في طرف المجنون تردّد المروىّ أنّه يثبت.
----------------------------------
والقول بالتفصيل للشيخ أيضاً في النهاية وكتابي الحديث(1)، وأتباعه (2)، وجماعة (3)؛ لرواية عبد اللّه بن طلحة(4) وابن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زنى الشيخ والعجوز جلدا ثمّ رجما عقوبة لهما، وإذا زنى النصف(5) من الرجال رجم ولم يجلد إذا كان قد أحصن، وإذا زنى الشاب الحدث السنّ جلد، ونفي سنةً من مصره»(6).
والرواية مع ضعف سندها لا تدلّ على حكم الشاب إذا كان محصناً، فلا تنافي غيرها ممّا دلّ على العموم(7).
قوله: «ولو زنى البالغ المحصن بغير البالغة أو بالمجنونة» إلى آخره.
هذا مذهب الشيخ(8) وجماعة من المتأخّرين(9). ومستندهم صحيحة أبي بصير عن
ص: 63
----------------------------------
الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في غلام صغير لم يدرك ابن عشر سنين زنى بامرأة، قال: «يجلد الغلام دون الحدّ، وتجلد المرأة الحدّ كاملاً»، قيل له: فإن كانت محصنةً؟ قال: «لا ترجم؛ لأنّ الذي نكحها ليس بمدرك، فلو كان مدركاً رجمت»(1).
ولنقص اللذّة فيه، فلا يجب فيه من العقوبة ما يجب في الكامل، ولأصالة البراءة، ووجود الشبهة الدارئة للحدّ الزائد عن المتّفق عليه.
وذهب جماعة - منهم ابن الجنيد (2)، وأبو الصلاح(3)، وابن إدريس(4)، وهو ظاهر المفيد (5) - إلى وجوب الحدّ على الكامل منهما كملاً؛ لتحقّق الإحصان والزنى المقتضي لكمال الحدّ بالرجم. ولا عبرة بكمال اللذّة ونقصانها، مع أنّه لا يتمّ في المجنونة.
ويؤيّده وجوب الحدّ كملاً لو زنى بالكاملة مجنون. ومع ذلك لا نص على حكم المجنونة بخلاف الصبيّة، فإلحاقها بها قياس مع وجود الفارق.
مع أنّه وردت روايات بإطلاق حدّ البالغ منهما، وهو محمول على الحدّ المعهود عليه بحسب حاله من الإحصان وغيره. فروى ابن بكير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة أو فجر بامرأة، أي شيء يصنع بهما؟ قال: «يضرب الغلام دون الحدّ، ويقام على المرأة الحدّ»، قلت: جارية لم تبلغ وجدت مع رجل يفجر بها، قال: «تضرب الجارية دون الحدّ، ويقام على الرجل الحدّ»(6).
ص: 64
----------------------------------
وقد عرفت مراراً حال أبي بصير واشتراكه(1)، وأن صحة روايته إضافيّة.
وأمّا زنى المجنون بالكاملة فلا إشكال في وجوب الحدّ كملاً على الكاملة.
وأمّا المجنون فاختلف في حكمه، فذهب الشيخان(2)، وجماعة (3) إلى ثبوت الحدّ عليه كملاً، حتّى لو كان محصناً رجم؛ استناداً إلى رواية أبان بن تغلب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد الحدّ، فإن كان محصناً رجم»، قلت: وما الفرق بين المجنون والمجنونة والمعتوه والمعتوهة ؟ فقال : «المرأة إنّما تؤتى والرجل يأتي، وإنّما يأتي إذا عقل كيف يأتي اللذّة، وإنّ المرأة تستكره ويفعل بها، وهي لا تعقل ما يفعل بها»(4).
وذهب الشيخ في كتابي الفروع(5)، وابن إدريس(6)، وأكثر المتأخّرين إلى عدم وجوب الحدّ على المجنون؛ لعدم تكليفه، والحدّ عقوبة يتوقّف على ثبوت التحريم في فاعل موجبها، وهو منتفٍ هنا.
وأجابوا عن الرواية - مع ضعف الطريق (7) - بحملها على من يعتوره الجنون أدواراً بعد تحصيله؛ لأنّ العلّة التي ذكرها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تدلّ عليه(8). وهذا هو الأصحّ.
ص: 65
• وأمّا الجلد والتغريب فيجبان على الذكر الحرّ غير المحصن، يجلد مائة، ويجز رأسه، ويغرّب عن مصره إلى آخر عاماً، مملكاً كان أو غير مملك.
وقيل: يختص التغريب بمن أملك ولم يدخل وهو مبنيُّ على [أنّ] البكر ما هو ؟ والأشبه أنّه عبارة عن غير المحصن، وإن لم يكن مملكاً.
أمّا المرأة فعليها الجلد مائةً، ولا تغريب عليها ولا جز.
----------------------------------
قوله: «وأمّا الجلد والتغريب فيجبان على الذكر الحرّ غير المحصن - إلى قوله - وإن لم يكن مملكاً».
هذه الثلاثة تجب على البكر اتفاقاً. والأصل فيه ما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»(1). وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة الحلبي : «الشيخ والشيخة جلد مائة والرجم، والبكر والبكرة جلد مائة ونفي سنة»(2).
وقد اختلف في تفسير البكر، فقيل : من أملك، أي عقد على امرأة دواماً ولم يدخل. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية (3)، وأتباعه(4)، وجماعة(5)، واختاره العلّامة في المختلف والتحرير(6).
ويدلّ عليه روايات كثيرة، منها رواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الذي لم يحصن
ص: 66
----------------------------------
يجلد مائة ولا ينفى، والذي قد أملك ولم يدخل بها يجلد مائة وينفى»(1).
ورواية أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «المحصن يرجم، والذي قد أملك ولم يدخل بها يجلد مائة ونفي سنة»(2).
ورواية محمد بن قيس عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الشيخ والشيخة أن يجلدا مائة، وقضى للمحصن الرجم وقضى في البكر والبكرة إذا زنيا جلد مائة، ونفي سنةً في غير مصرهما، وهما اللذان قد أملكا ولم يدخل بها»(3).
وفي طريق الرواية الأُولى موسى بن بكر، وحاله في الثقة غير معلوم(4). والثانية مرسلة. ومحمّد بن قيس في الثالثة مشترك(5).
وذهب الشيخ في كتابي الفروع(6)، وابن إدريس(7)، والمصنّف، وأكثر المتأخّرين، إلى أنّ المراد بالبكر غير المحصن؛ لرواية عبد اللّه بن طلحة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وإذا زنى الشابّ الحدث السنّ جلد، وحلق رأسه، ونفي عن مصره»(8). وهو شامل للمملك وغيره، فلا يتقيّد، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب.
ص: 67
• والمملوك يجلد خمسين محصناً كان أو غير محصن ذكراً كان أو أنثى. ولا جزَّ على أحدهما ولا تغريب.
----------------------------------
وأجاب في المختلف(1) بأن المعتمد رواية زرارة السابقة، مع منع امتناع تأخير البيان عن وقت الخطاب.
وعلى الأوّل فالقسمة ثلاثية، وعلى الثاني فهي ثنائية وطريق الروايات من الجانبين غير نقيّ.
واعلم أنّ الروايتين السابقتين تضمّنتا تغريب الرجل والمرأة، ولكنّ المشهور بين الأصحاب - بل ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع (2) - اختصاص التغريب بالرجل فإن تمّ الإجماع فهو الحجّة، وإلا فمقتضى النصّ (3) ثبوته عليها(4)، وهو مختار ابن أبي عقيل (5)(رحمه اللّه) وابن الجنيد.
وعلّلوا عدم تغريبها بأنها عورة يقصد بها الصيانة، ومنعها عن الإتيان بمثل ما فعلت، ولا يؤمن عليها ذلك في الغربة. وهذا التعليل لا يقابل النصّ، وإنما يتجه مؤيداً للحكم وحكمةٌ له.
ثمّ عد إلى العبارة. واعلم أنه حكم في صدرها بعقوبتين، وفي عجزها بثلاث، بإضافة الجز؛ ولعلّه لضعف عقوبة الجز الذي يكتفى فيه بحلق الناصية، مع أنه مختص برواياتنا (6). والمرويّ عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في البكر هو الجلد والتغريب(7).
قوله: «والمملوك يجلد خمسين، محصناً كان أو غير محصنٍ» إلى آخره.
ص: 68
• ولو تكرّر من الحرّ الزنى فأقيم عليه الحدّ مرّتين قتل في الثالثة. وقيل: في الرابعة. وهو أولى.
أمّا المملوك فإذا أُقيم عليه الحدّ سبعاً قتل في الثامنة. وقيل في التاسعة. وهو أولى.
----------------------------------
قد عرفت أنّ من شروط الإحصان الموجب للرجم الحرّيّة(1)، فالمملوك ليس بمحصن مطلقاً، فلا يرجم، ويجلد خمسين جلدة على ما قال تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ» (2). والقنّ وغيره في ذلك سواء.
ومذهب الأصحاب أنّه لا يغرب؛ لما فيه من الإضرار بالسيّد وتفويت المنفعة عليه، ولأنّ التغريب للتشديد، والعبد جليب اعتاد الانتقال من بلد إلى آخر، فليس في تغريبه تشدید.
وعند بعض (3)؛ العامّة أنّه يغرّب أيضاً ؛ عملاً بعموم النصّ(4). ولا ينظر إلى ضرر السيّد في عقوبات الجرائم، كما أنّه يقتل إذا ارتدّ، ويحدّ إذا قذف، وإن تضرر السيّد. مع أنّه يمكنه إجارته واشتغاله هناك. والتشديد قد يحصل عليه بذلك، فإنّ الطبع إذا ألف موضعاً شقّ عليه الانتقال عنه.
قوله: «ولو تكرّر من الحرّ الزنى فأقيم عليه الحدّ مرّتين قتل في الثالثة» إلى آخره.
المراد بالحرّ ما يشمل الحرّة. والمراد به غير المحصن، سواء كان مملكاً أم لا. وشذّ قول الشيخ في النهاية بتخصيصه بغير المملك(5).
ص: 69
----------------------------------
واحترز بكونه قد أقيم عليه الحدّ عمّا لو لم يقم عليه الحدّ مرّتين، فإنّه لا يقتل إجماعاً.
وقد اختلف في حكم الحرّ على أقوال أظهرها - وهو الذي اختاره المصنّف - قتله في الثالثة. وهو قول الصدوقين(1)، وابن إدريس(2)؛ لصحيحة يونس عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ: «أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة»(3).
وأشهرها أنه يقتل في الرابعة. اختاره الشيخ في النهاية، والمبسوط(4)، والمفيد(5)، والمرتضى(6)، والأتباع(7)، والعلّامة(8).
وجعله المصنّف أولى من حيث الاحتياط في الدماء، لا من حيث الفتوى؛ فإنّ مختاره في الكتابين الأوّل(9).
ومستند هذا القول رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الزاني إذا زنى جلد ثلاثاً،
ص: 70
----------------------------------
ويقتل في الرابعة»(1). وفي طريقها محمّد بن عيسى، عن يونس وإسحاق بن عمّار، وهو فطحي وإن كان ثقة (2)، وأبو بصير قد عرفت حاله مراراً(3)، فلا تعارض الصحيح.
والقائلون بمضمونها جعلوها مخصصةً للرواية السابقة، فحملوها على ما عدا الزني من الكبائر؛ لأنّ الخاص مقدّم، ولما فيه من الاحتياط في الدماء.
وأغربها أنّه يقتل في الخامسة. ذكره الشيخ في الخلاف (4).
هذا حكم الحرّ. وأما المملوك ففيه قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، وقبله المفيد(5)، والمرتضى (6)، وابنا بابويه(7)، وابن إدريس(8)، وجماعة (9) - أنّه يقتل فى الثامنة؛ لحسنة بريد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زنى العبد ضرب خمسين إلى ثماني مرّات، فإن زنى ثماني مرّات قتل» (10).
والثاني: أنّه يقتل في التاسعة، ذهب إليه الشيخ في النهاية (11)، والقاضي(12)، وجماعة (13)،
ص: 71
• وفي الزنى المتكرّر حدّ واحد وإن كثر. وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن زنى بامرأة مراراً فعليه حدّ، وإن زنى بنسوة فعليه في كلّ امرأة حد». وهي مطّرحة.
----------------------------------
وجعله المصنّف أولى واختاره العلّامة (1)؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية عبيد بن زرارة أو بريد العجلي - شكّ محمد بن مسلم فيه (2) -: «إذا زنت الأمة ثماني مرّات رجمت في التاسعة»(3).
والمراد به مع تخلّل الجلد. وهي نص في التاسعة، بخلاف الأولى، فإنّها مجملة، فيحتمل أن يكون المراد بها: قتل في التاسعة، بل يتعين جمعاً بينهما. وردّ بأنه جعله جزاء الشرط وهو زناه ثماني مرّات فلا تعلّق بغيره (4).
وجمع الراوندي بين الروايتين بحمل الثامنة على ما إذا قامت البيّنة فيها، والتاسعة على حالة الإقرار، فجعل القول بذلك ثالثاً(5). وهو تحكّم.
ه هذا مع أن في طريق الرواية الثانية ضعفاً أو جهالة(6)، بخلاف الأُولى، فالعمل بها أرجح. ولمناسبتها لكون المملوك على النصف من أحكام الحرّ، وغاية احتياطه أن يكون التنصيف هنا باعتبار قتل الحرّ في الرابعة.
واعلم أنّ هاتين الروايتين تضمّنتا أنّ الإمام يدفع ثمن المملوك بعد قتله إلى مواليه من بيت المال. واختاره بعض الأصحاب(7)، ونفى عنه الشهيد في الشرح البُعْدَ(8).
قوله: «وفي الزنى المتكرّر حدّ واحد وإن كثر» إلى آخره.
ص: 72
• ولو زنى الذمّى بذمّيّة دفعه الإمام إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ على معتقدهم. وإن شاء أقام الحدّ بموجب شرع الإسلام.
----------------------------------
المشهور بين الأصحاب أنّ الزنى المتكرّر قبل إقامة الحدّ يوجب حدّاً واحداً مطلقاً؛ لأصالة البراءة، وصدق الامتثال وابتناء الحدود على التخفيف، وللشك في وجوب الزائد فيدراً بالشبهة.
وقال ابن الجنيد(1) والصدوق في المقنع:
إن زنى بامرأة واحدة كفى حدّ واحد، وإن زنى بجماعة نساء في ساعة واحدة حدّ لكلّ امرأة حدّاً(2).
استناداً إلى رواية أبي بصير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن الرجل يزني في اليوم الواحد مرّات كثيرة، فقال: «إن كان زنى بامرأة واحدة كذا وكذا مرّة فإنّما عليه حدّ واحد، وإن هو زنى بنسوة شتّى في يوم واحد في ساعة واحدة فإنّ عليه في كلّ امرأة فجر بها حدّاً»(3).
وفي طريق الرواية ضعف(4)، مع أنها غير حاصرة لأقسام المسألة. والمعتمد المشهور.
قوله: «ولو زنى الذمّي بذمّيّة دفعه الإمام إلى أهل نحلته» إلى آخره.
أمّا إقامته بموجب شرع الإسلام فواضح؛ لأنّه الحقّ، وقد قال تعالى لنبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّه»(5).
وقد روي أن اليهود أتوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) برجل وامرأة منهم قد زنيا فرجمهما، في قصة طويلة(6).
ص: 73
• ولا يقام الحدّ على الحامل حتّى تضع وتخرج من نفاسها، وترضع الولد إن لم يتّفق له مرضع. ولو وجد له كافل جاز إقامة الحدّ.
----------------------------------
وأمّا تخييره بين ذلك وبين ردّه إلى أهل ملّته فلقوله تعالى: «فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ»(1). قال ابن عباس (رضي اللّه عنه) : خير اللّه تعالى نبيه بقوله: «فَإِن جَاءُوكَ»(2) الآية.
وهذا التخيير ثابت للأئمّة والحكام بدليل التأسي. ودعوى أنّ آية التخيير منسوخة لم تثبت(3).
قوله: «ولا يقام الحدّ على الحامل حتّى تضع وتخرج من نفاسها، وترضع الولد إن لم يتّفق له مرضع. ولو وجد له كافل جاز إقامة الحدّ».
لا فرق في المنع من إقامة الحدّ على الحامل بين أن يكون جلداً أو رجماً، مراعاة لحقّ الولد؛ فإنّه لا سبيل عليه.
وأمّا اعتبار خروجها من نفاسها فمخصوص بمن تجلد؛ لأنها حينئذٍ مريضة. أمّا من ترجم فلا يعتبر خروجها من المرض، كما سيأتي، ومنه النفاس.
ثمّ إن كان للولد من يرضعه ويكفله أقيم عليها الحدّ ولو رجماً بعد شربه اللباً، بناءً على المشهور من أنّه لا يعيش غالباً بدونه، وإلّا انتظر بها استغناء الولد عنها. وهو مروي من فعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(4) و عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع المرأة التي أقرت عندهما بالزنى، فلم يرجماها حتّى ولدت وأرضعته حولين فأقاما عليها الحدّ(5).
والمراد بالجواز في قوله «جاز إقامة الحدّ» مع وجود الكافل معناه الأعمّ. والمراد منه
ص: 74
• ويرجم المريض والمستحاضة. ولا يجلد أحدهما إذا لم يجب قتله ولا رجمه؛ توقياً من السراية، ويتوقع بهما البرء. وإن اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضغث المشتمل على العدد. ولا يشترط وصول كلّ شمراخ إلى جسده.
----------------------------------
الوجوب، إذ لا يجوز تأخير الحدّ مع عدم العذر، والفرض انتفاؤه هنا.
وإطلاق المصنّف (رحمه اللّه) المنع من إقامة الحدّ عليها بعد الوضع إلى أن ترضع الولد يشمل الرجم والجلد. وهو يتمّ في الأوّل دون الثاني، إلا بتقدير الخوف عليها من الجلد من الموت، أو ما يحصل معه الأذى على الولد.
وفي التحرير صرّح بعدم الفرق بين الجلد والرجم في انتظارها إلى أن ترضع الولد، إذا لم يحصل له من يكفله. ولا فرق في الولد بين كونه من زنى وغيره(1).
قوله: «ويرجم المريض والمستحاضة. ولا يجلد أحدهما - إلى قوله - ولا يشترط وصول كلّ شمراخ إلى جسده».
المشهور أنّ الرجم لا يؤخر بالمرض مطلقاً؛ لأنّ نفسه مستوفاة، فلا فرق بين المريض والصحيح. ويحتمل جواز تأخيره إن ثبت زناه بالإقرار إلى أن يبرأ؛ لأنّه بسبيل من الرجوع وربما رجع بعد ما رمي، فيعين ما وجد من الرمي على قتله. ومثله يأتي في رجمه في شدّة الحرّ والبرد.
وإن كان الواجب الجلد، فإن كان المرض ممّا يرجى زواله أخر إلى أن يبرأ، كيلا يهلك باجتماع الجلد والمرض. ومثله المحدود والمقطوع في حدّ ونحوه ولو رأى الحاكم صلاحاً في تعجيله في المرض ضرب بحسب ما يحتمله من الضرب بالضغث وغيره، كما يؤدي المريض الصلاة الواجبة عليه قائماً في حالة القعود، ولا ينتظر التمكن من القيام.
وإن كان المرض لا يرجى زواله كالسلّ والزمانة وضعف الخلقة بحيث لا يحتمل السياط لم يؤخّر؛ إذ لا غاية ينتظر. ولا يضرب بالسياط لئلا يهلك، بل يضرب بالضغث،
ص: 75
ولا تؤخّر الحائض؛ لأنّه ليس بمرض.
----------------------------------
وهو قبضة من قضبان أو العثكال (1) من النخل المشتمل على الشماريخ، ونحوه. ولو جمع له سياطاً وضرب بها جملة فهو أولى مع احتماله.
وقد روي أنّ رجلاً مقعداً زنى بامرأة فأمر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فحدّ بعثكال النخل(2). والإنكال والعثكال واحد.
وروي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدةً(3).
وروى حنّان بن سدير عن يحيى بن عباد المكي قال قال لي سفيان الثوري: أرى لك من أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) منزلةٌ، فاسأله عن رجل زنى وهو مريض إن أقيم عليه الحدّ مات ما تقول فيه؟ فسألته فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أتي برجل مستسقي البطن قد بدت عروق فخذيه، وقد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعذق فيه مائة شمراخ فضرب به الرجل ضربةً، وضربت به المرأة ضربةً، ثمّ خلى سبيلهما، ثمّ قرأ هذه الآية: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِعْنًا فَاضْرِبْ بِهِى وَلَا تَحْنَثْ»»(4).
وروى مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أُتي برجل أصاب حدّاً وبه قروح ومرض وأشباه ذلك، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أخّروه حتّى يبرأ لا تنكاً قروحه عليه فيموت ولكن إذا برئ حددناه»(5).
ص: 76
• ولا يسقط الحدّ باعتراض الجنون ولا الارتداد.
----------------------------------
إذا تقرر ذلك، فإن جمع الغصن ونحوه مائة ضرب به دفعةً واحدةً، وإن كان عليه خمسون ضرب به مرّتین، وعلى هذا القياس.
ويعتبر ما يسمى ضرباً، فلا يكفي وضعها عليه. وينبغي أن تمسه الشماريخ، أو ينكبس بعضها على بعض ليثقل الغصن ويناله الألم، فإن انتفى الأمران أو شكّ فيه لم يسقط الحدّ.
ولا يجب تفريق السياط على الأيّام وإن احتمل التفريق، بل يقام عليه الممكن ويخلّى سبيله.
ولو برئ قبل أن يضرب بالشماريخ أقيم عليه حدّ الأصحاء. ولو برئ بعده لم يعد عليه.
والمستحاضة في معنى المريض؛ لأنّها علة. ويؤيّده رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يقام الحدّ على المستحاضة حتّى ينقطع الدم عنها»(1).
أمّا الحائض فهي صحيحة من حيث الحيض؛ لدلالته على اعتدال المزاج.
قوله «ولا يسقط الحدّ باعتراض الجنون ولا الارتداد».
لا فرق في الحدّ هنا بين القتل وغيره، وإن اجتمع على المرتدّ للقتل سببان.
ثمّ إن كان قتلاً لم ينتظر بالمجنون الإفاقة وإن كان جلداً ففي انتظار إفاقته إن كان له حالة إفاقة وجهان، من أنّه أقوى في الردع، ومن إطلاق الأمر بإقامته عليه في صحيحة أبي عبيدة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل وجب عليه حدّ فلم يضرب حتّى خولط، فقال: «إن كان أوجب على نفسه الحدّ وهو صحيح لا علّة به من ذهاب عقله أقيم عليه الحدّ، كائناً ما كان»(2). وهذا أجود.
ص: 77
• ولا يقام الحدّ في شدّة الحرّ، ولا شدّة البرد، ويتوخّى به في الشتاء وسط النهار، وفى الصيف طرفاه، ولا في أرض العدوّ مخافة الالتحاق، ولا في الحرم على من التجأ إليه، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ليخرج. ويقام على من أحدث موجب الحدّ فيه.
----------------------------------
قوله: «ولا يقام الحدّ في شدّة الحرّ ولا شدّة البرد، ويتوخّى به في الشتاء وسط النهار، وفي الصيف طرفاه» إلى آخره.
هنا مسائل:
الأولى: كما لا يقام الحدّ في المرض خشية الهلاك بتعاون الجلد والمرض، كذا لا يقام في الحرّ والبرد المفرطين خشية الهلاك بتعاون الجلد والهواء، ولكن يؤخّر إلى اعتدال الهواء، وذلك في وسط نهار الشتاء وطرفي نهار الصيف، ونحو ذلك ممّا يراعى فيه السلامة. والكلام في الحدّ الموجب للرجم كما مرّ في إقامته على المريض(1). وظاهر النصّ (2) والفتوى (3) أنّ الحكم على وجه الوجوب لا الاستحباب، فلو أقامه لا كذلك ضمن؛ لتفريطه.
الثانية: يكره إقامة الحدّ في أرض العدو وهم الكفّار، مخافة أن تحمل المحدود الحمية فيلتحق بهم. روى ذلك إسحاق بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: لا تقام الحدود بأرض العدو؛ مخافة أن تحمله الحمية فيلتحق بأرض العدوّ»(4)؛ والعلّة مخصوصة بحدّ لا يوجب القتل.
الثالثة: من أحدث ما يوجب حدّاً ثمّ التجأ إلى الحرم لم يقم عليه فيه؛ مراعاة لحرمة الحرم، ولقوله تعالى: «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنَّا»(5). ولكن يضيّق عليه في المطعم والمشرب،
ص: 78
• إذا اجتمع الجلد والرجم جلد أوّلاً. وكذا إذا اجتمعت حدود بدئ بما لا يفوت معه الآخر.
وهل يتوقع برء جلده ؟ قيل : نعم ؛ تأكيداً في الزجر. وقيل : لا ؛ لأنّ القصد الاتلاف.
----------------------------------
بأن يمنع ممّا زاد عمّا يمسك رمقه، ويمكّن ممّا لا يصبر عليه مثله عادة، إلى أن يخرج فيقام عليه فيه. ولو فعل ما يوجب الحدّ فيه أقيم عليه فيه ؛ لانتهاكه لحرمة الحرم فتنتهك حرمته.
والمراد منه الحرم المعهود بمكة المشرفة. وألحق به بعضهم(1) حرم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهي مشاهدهم المشرّفة. ولم نقف له على مأخذ صالح.
قوله: «إذا اجتمع الجلد والرجم جلد أوّلاً» إلى آخره.
إذا اجتمع على المكلّف حدّان فصاعداً، فإن أمكن الجمع بينهما من غير منافاة، كما لو زنی غیر محصن وقذف، تخيّر المستوفي في البدأة. وكذا لو سرق معهما.
وإن تنافت، بأن كان فيها قتل أو نفي، وجب البدأة بما لا يفوت، جمعاً بين الحقوق الواجب تحصيلها، فيبدأ بالجلد قبل الرجم والقتل، وبالقطع قبل القتل، وهكذا.
وقد دلّ على وجوب مراعاة ذلك روايات كثيرة، منها رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يؤخذ وعليه حدود أحدها القتل، فقال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقيم الحدود ثمّ يقتله، ولا تخالف عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(2).
ص: 79
• ويدفن المرجوم إلى حقويه، والمرأة إلى صدرها.
----------------------------------
ومثلها حسنة حمّاد بن عثمان (1) وعبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
إذا تقرّر ذلك، فالواجب من ذلك ما يحصل معه الجمع، ولا يجب التأخير زيادةً عليه؛ للأصل، ولأنّه لا تأخير في حدّ، ولما روي أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) جلد المرأة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة (3)، ولأنّ القصد الإتلاف، فلا وجه للتأخير.
وذهب الشيخان(4)، والأتباع(5) إلى وجوب تأخيره إلى أن يبرأ جلده، تأكيداً في الزجر. ومنعوا من كون الواجب الإتلاف مطلقاً، بل جاز أن يكون بعض الغرض والبعض الآخر قصد التعذيب(6).
ولا يخفى أنّ إثبات هذا الحكم المخالف للأصل يتوقّف على مستند صالح، ومجرّد ما ذكر غير كاف فيه.
قوله: ويدفن المرجوم إلى حقويه والمرأة إلى صدرها».
ظاهره أنّ ذلك على وجه الوجوب. ووجهه التأسي بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(7) وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)(8)، فقد فعلا ذلك. لكن في كثير من الروايات أنّ المرأة تدفن إلى وسطها(9) من غير تقييد بالصدر.
ص: 80
• فإن فرّ أعيد إن ثبت زناه بالبيّنة. ولو ثبت بالإقرار لم يعد. وقيل: إن فرّ قبل إصابته بالحجارة أُعيد.
----------------------------------
ويحتمل الاستحباب، بل إيكال الأمر إلى الإمام؛ لما روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حفر بئراً للغامديّة ولم يحفر للجهنيّة(1).
وعن أبي سعيد الخدري في قصة ماعز قال: أمرنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) برجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، فما أوثقناه ولا حفرنا له ورميناه بالعظام والمدر والخزف، ثمّ اشتدّ واشتددنا له حتّى أتى الحرّة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرّة حتّى سكت(2).
وروى الحسين بن خالد عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أن ماعزاً إنما فرّ من الحفيرة (3).
وطرق الروايات الدالّة على الحفر والتحديد غير نقية، ولكنها كافية في إقامة السنّة.
قوله: «فإن فرّ أعيد إن ثبت زناه بالبيّنة» إلى آخره.
إذا فرّ المرجوم وكان الموجب ثابتاً بالبيّنة وجب إعادته؛ لأنّه محكوم بوجوب إتلافه بالرجم، ولا يتم إلا بالإعادة، فتجب من باب المقدّمة.
وإن ثبت بالإقرار وفر، قيل: لم يعد مطلقاً؛ لأنّه يتضمّن الرجوع عن الإقرار أو كالرجوع، والرجوع عن الإقرار مسقط للرجم؛ لأنّ فائت النفس لا يستدرك، سواء أصابته الحجارة أم لا. هكذا أطلق المفيد(4)، وأبو الصلاح(5)، وسلّار(6)، وجماعة(7).
ص: 81
• ويبدأ الشهود برجمه وجوباً. ولو كان مقراً بدأ الإمام.
----------------------------------
وقال الشيخ في النهاية : إن فر قبل إصابة الحجارة أعيد، وإلا فلا (1)؛ لرواية الحسين بن خالد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إذا كان هو المقرّ على نفسه ثمّ هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شيء من الحجارة لم يردّ»(2). وهي تدل بمفهومها على ردّه إذا لم يصبه شيء، ولأنّه قد وجب عليه الرجم بإقراره فلا بدّ من حصول مسماه.
ولا يخفى ضعف الدليلين. أما الرواية فمن حيث السند ودلالة المفهوم. وأمّا الاعتبار فلمنع اشتراط حصول مسمّاه، ومن ثمّ لو رجع أو جحد قبله قبل.
والأصحّ الأوّل. ويؤيّده ما تقدم من قصة ماعز وفراره. وقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هلّا تركتموه» (3) وإن كان مفروضاً بعد إصابة الحجارة، إلّا أنّه لم يقع ذلك شرطاً، وجاز خروجه في هذه الرواية مخرج الأغلب؛ لأنّه مظنّته.
قوله: «ويبدأ الشهود برجمه وجوباً. ولو كان مقرّاً بدأ الإمام».
مستند التفصيل رواية صفوان المرسلة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أقرّ الزاني المحصن كان أوّل من يرجمه الإمام ثمّ الناس، فإذا قامت عليه البيّنة كان أوّل من يرجمه البيّنة ثمّ الإمام ثمّ الناس»(4).
وفي كثير من الأخبار (5) إطلاق بدأة الإمام. ويحتمل حمل ذلك على الاستحباب؛ لضعف المستند عن إثبات الوجوب وللأخبار المستفيضة بقصة ماعز، وأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يحضر رجمه فضلاً عن بدأته به (6).
ص: 82
• وينبغي أن يعلم الناس ليتوفّروا على حضوره.
• ويستحب أن يحضر إقامة الحدّ طائفة. وقيل: يجب تمسّكاً بالآية وأقلّها واحد. وقيل عشرة وخرّج متأخّر: ثلاثة. والأوّل حسن.
وينبغي أن تكون الحجارة صغاراً ؛ لئلا يسرع التلف.
----------------------------------
ويظهر من كلام الشيخ (رحمه اللّه) عدم وجوب بدأة الشهود؛ لأنّه لم يوجب عليهم حضور موضع الرجم(1). وسيأتي(2).
قوله: «وينبغي أن يعلم الناس ليتوفّروا على حضوره».
لقوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ»(3).
ولما روي من فعل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما رجم المرأة المقرّة، ومناداته في الناس حتّى اجتمعوا وعزم عليهم لما خرجوا معه، إلى آخر القصّة (4).
ولما فيه من الاعتبار والانزجار من فعل القبيح كما تقتضيه حكمة الحدود.
قوله: «ويستحب أن يحضر إقامة الحدّ طائفة» إلى آخره.
قد ورد الأمر بحضور طائفة عند استيفاء الحدّ بقوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ»(5).
واختلف في موضعين:
أحدهما هل الأمر للوجوب أم الاستحباب؟ فقيل بالأوّل واختاره ابن إدريس (6)،والمصنّف في النافع(7)، وجماعة (8)؛ عملاً بظاهر الأمر، فإنّ الأصل فيه الوجوب.
ص: 83
• وقيل: لا يرجمه من اللّه [تعالى] قبله حدّ. وهو على الكراهية.
----------------------------------
وقيل بالثاني. وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) هنا، وقبله الشيخ في كتب الفروع (1)؛ لأصالة عدم الوجوب، وحمل الأمر على الاستحباب؛ لأنّه بعض ما ورد بمعناه. ولا يخفى قوّة الأوّل.
وثانيهما: في أقلّ عدد يتحقّق به الطائفة. فقيل: أقلّها واحد. وهو الذي اختاره المصنّف، والعلّامة(2)، وقبلهما الشيخ في النهاية (3)؛ لأنّه المنقول عن بعض أئمّة اللغة(4).
ولأنّ الطائفة قطعة من الشيء، وهي تصدق بالواحد، ولأصالة براءة الذمّة من الزائد.
ويؤيده رواية غياث بن إبراهيم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه، عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ» قال: «الطائفة واحد»(5).
وقال الشيخ في الخلاف أقلّها عشرة؛ محتجاً بالاحتياط (6).
وقال ابن إدريس: أقلها ثلاثة؛ محتجاً بدلالة العرف وشاهد الحال، مع أصالة براءة الذمّة من الزائد(7).
قوله: «وقيل: لا يرجمه من اللّه قبله حدّ. وهو على الكراهية».
وجه الأوّل ما روي عن علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما رجم المرأة أنه نادى بأعلى صوته: «يا أيّها الناس إن اللّه تبارك وتعالى عهد إلى نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عهداً، وعهده محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إليّ، بأنّه لا يقيم الحدّ من للّه عليه حدّ، فمن كان اللّه عليه مثل ما له عليها فلا يقم عليها الحدّ»(8). والأصل في النهي التحريم.
ص: 84
• ويدفن إذا فرغ من رجمه ولا يجوز إهماله.
• ويجلد الزاني مجرّداً، وقيل: على الحال التي وجد عليها، قائماً أشدّ الضرب. وروي متوسطاً، ويفرّق على جسده ويتّقى رأسه ووجهه وفرجه.
والمرأة تضرب جالسةً، وتربط ثيابها.
----------------------------------
والأُولى حمله على الكراهة؛ لقصوره سنداً عن إفادة التحريم، مضافاً إلى أصالة الإباحة.
قوله: «ويدفن إذا فرغ من رجمه ولا يجوز إهماله».
وكذا تجب الصلاة عليه وغسله قبلها إن لم يكن اغتسل قبل أن يرجم، فإنّ السنة أمره بالاغتسال قبله وإنّما وجب فعل ذلك لأنّه مسلم وذنبه السابق غير مانع.
وقد روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما أمر برجم الجهنية فرجمت صلّى عليها فقال له عمر: تصلّي عليها يا رسول اللّه وقد زنت؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لقد تابت توبةً لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها للّه ؟!»(1).
وفي حديث الغامدية لما رجموها فأقبل خالد بحجر فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد فسبّها، فسمع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سبّه إياها فقال: «مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له»، ثمّ أمر بها فصلّي عليها ودفنت (2).
قوله: «ويجلد الزاني مجرداً» إلى آخره.
القول بجلده على الحالة التي وجد عليها - عارياً كان أم كاسياً - هو للشيخ (3)، والأكثر. هذا إذا كان رجلاً. وإن كان امرأة ربطت عليها ثيابها على التقديرين.
وقال الصدوق في المقنع يجلدان معاً على الحالة التي وجدا عليها، فإن وجدا مجرّدين ضربا مجرّدين(4).
ص: 85
وهي مسائل عشر:
الأولى: • إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى قبلاً فادعت أنّها بكر، فشهد لها أربع نساء، فلا حدّ.
وهل يحدّ الشهود للفرية؟ قال في النهاية: نعم. وقال في المبسوط: لا حد؛ لاحتمال الشبهة فى المشاهدة والأوّل أشبه.
----------------------------------
والأظهر الأوّل؛ لأنّ بدن المرأة عورة، فلا يجوز تجريدها. وكذا يجب ستر عورة الرجل.
وضربهما أشدّ الضرب هو المشهور رواية (1) وفتوىً.
والرواية بكونه متوسطاً رواها حريز مرسلاً عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «يضرب بين الضربين»(2).
وعمل بها بعض الأصحاب(3). والأشهر الأوّل.
قوله : «إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى قبلاً فادعت أنّها بكر، فشهد لها أربع نساء، فلا حدّ» إلى آخره.
إذا شهد أربعة رجالٍ على امرأة بالزنى فشهد أربع نسوة على أنها عذراء، فإن لم يعيّن شهود الزنى محله فلا منافاة؛ لإمكان كونه دبراً إن لم نوجب التفصيل فيثبت الزني ولا يقدح فيه البكارة، وأولى بالحكم إذا صرحوا بكونه دبراً.
ويحتمل مع الإطلاق سقوط الحدّ عنها؛ لقيام الشبهة الدارئة للحد، حيث يحتمل كون المشهود به قبلاً.
وإن صرّحوا بكون الزنى قبلاً، فهذا موضع الخلاف فقيل: لا حدّ على المشهود عليه،
ص: 86
----------------------------------
ولا على الشهود ذهب إلى ذلك الشيخ في المبسوط(1)، وابن إدريس(2)، والعلّامة (3)، وجماعة (4)؛ لتعارض البيّنتين، فلا يكون تصديق النساء أولى من تصديق الرجال، وذلك شبهة دارئة للحدّ، وقد قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً»(5).
وفي حديث آخر: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»(6).
ومن الوجوه الدافعة عن المرأة شبهة بقاء العذرة، وجهته احتمال عودها لترك المبالغة في الافتضاض وهذا ليس ببعيد على وجه لا يقبل.
وذهب المصنّف (رحمه اللّه) والشيخ في النهاية(7)، وابن الجنيد إلى حدّ الشهود(8)؛ للحكم بردّ شهادتهم مع تحقّق القذف بالزني.
أمّا ردّ شهادتهم فلرواية زرارة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في أربعة شهدوا على امرأة بالزني فادّعت البكارة، فنظر إليها النساء فوجدوها بكراً، فقال: «تقبل شهادة النساء»(9). وهو يستلزم ردّ شهادة الرجال. ومثله رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(10).
ص: 87
الثانية: • لا يشترط حضور الشهود عند إقامة الحدّ، بل يقام وإن ماتوا أو غابوا لا فراراً ؛ لثبوت السبب الموجب.
الثالثة : • قال الشيخ (رحمه اللّه): لا يجب على الشهود حضور موضع الرجم. ولعلّ الأشبه الوجوب، لوجوب بدأتهم بالرجم.
----------------------------------
وأمّا تحقّق القذف فظاهر.
وفيه نظر؛ لمنع كون قبول شهادة النساء يستلزم ردّ شهادة الرجال؛ لجواز قبول الجانبين والحكم بالتعارض، خصوصاً مع احتمال ما ذكرناه من الزنى دبراً، فيمكن الحكم بقبولهما مع ثبوت الزنى. هذا مع قطع النظر عن سند الروايتين.
والوجه الأوّل، إلا أن يصرّح الشهود يكون الزنى دبراً، فتحد المرأة. هذا كله إذا لم يعينوا الزاني، ومع تعيينه فالحكم فيه كالمرأة لاشتراكهما في المقتضي.
قوله: «لا يشترط حضور الشهود عند إقامة الحدّ» إلى آخره.
المراد بالحدّ هنا ما عدا الرجم؛ لما سيأتي من الخلاف فيه. ويمكن أن يريد ما يعمّه حيث يتعذّر حضورهم.
ووجه عدم الوجوب حينئذٍ ظاهر؛ لأن إقامة الحدّ ليس من وظيفة الشاهد، والأصل عدم اشتراط أمر زائد على شهادتهم، فيقام وإن ماتوا أو غابوا؛ خلافاً لأبي حنيفة، حيث نفى الحدّ بذلك. (1)
هذا كلّه إذا لم تكن الغيبة فراراً، وإلا تربّص بالحدّ إلى حضورهم؛ لحصول الشبهة حينئذٍ. ولا حدّ عليهم؛ لأنّه ليس برجوع.
قوله: «قال الشيخ (رحمه اللّه): لا يجب على الشهود حضور موضع الرجم» إلى آخره.
وجوب حضور الشهود موضع الرجم مبنيّ على وجوب بدأتهم به، وقد تقدّم ضعف
ص: 88
الرابعة: • إذا كان الزوج أحد الأربعة، فيه روايتان.
ووجه الجمع سقوط الحدّ إن اختل بعض شروط الشهادة، مثل: أن يسبق الزوج بالقذف فيحدّ الزوج، أو يدرؤه باللعان ويحدّ الباقون. وثبوت الحدّ إن لم يسبق بالقذف، ولم يختلّ بعض الشرائط.
----------------------------------
مستند الوجوب(1)، وأنّ الاستحباب أقوى، فيكون الحكم في حضورهم كذلك؛ لأنّه مقدّمة الفعل الواجب أو المستحب.
قوله: «إذا كان الزوج أحد الأربعة، فيه روايتان» إلى آخره.
قد عرفت فيما سلف أن شهادة الزوج لزوجته وعليها مقبولة(2)، ومقتضى ذلك أنه لو شهد عليها أربعة بالزنى أحدهم الزوج قبل وثبت عليها الحدّ؛ لوجود المقتضي له وانتفاء المانع.
ويؤيده رواية إبراهيم بن نعيم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سأله عن أربعة شهدوا على امرأة بالزني أحدهم زوجها، قال : «تجوز شهادتهم»(3). والمراد بالجواز هنا الصحّة. وهذا مذهب الأكثر.
ولكن ورد هنا رواية بالمنع من قبول شهادتهم والحكم بجلد الشهود عدا الزوج، فله درؤه باللعان وهي رواية زرارة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في أربعة شهدوا على امرأة بالزنى أحدهم زوجها، قال: «يلاعن، ويجلد الآخرون»(4). وعمل بمضمونها جماعة(5) منهم الصدوق (6) والقاضي(7).
وقد عرفت أنّ الرواية مخالفة لأصول المذهب. وهي مع ذلك ضعيفة السند؛ لأن في
ص: 89
الخامسة : • يجب على الحاكم إقامة حدود اللّه تعالى بعلمه، كحدّ الزنى. أمّا حقوق الناس فتقف إقامتها على المطالبة، حدّاً كان أو تعزيراً.
----------------------------------
طريقها محمّد بن عيسى اليقطيني، وحاله مشهور(1)، وإسماعيل بن خراش وهو مجهول(2).
ولو اضطررنا إلى الجمع بينهما فالأمر كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) بحمل الثانية على ما لو اختل بعض شروط الشهادة، ومنه سبق الزوج بالقذف وثبوت الحدّ عليها مع اجتماع الشروط. وقد تقدم البحث في هذه المسألة مستوفى في كتاب اللعان(3).
قوله: «يجب على الحاكم إقامة حدود اللّه تعالى بعلمه، كحدّ الزنى» إلى آخره.
قد تقدم البحث(4)، والمختار في أن الحاكم يحكم بعلمه مطلقاً؛ لأنّه أقوى من البيّنة، ومن جملته الحدود.
ثمّ إن كانت لله تعالى فهو المطالب بها والمستوفي لها، وإن كانت من حقوق الناس كحدّ القذف توقف إقامتها على مطالبة المستحق، فإذا طالب بها حكم بعلمه فيها؛ لأنّ الحكم بحق الآدمي مطلقاً يتوقّف على التماسه، كما تقدّم.
ويؤيد هذا التفصيل هنا رواية الحسين بن خالد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج إلى بينة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّه في خلقه، وإذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه». قلت: كيف ذاك؟ قال: «لأنّ الحق إذا كان اللّه تعالى فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»(5).
ص: 90
السادسة: • إذا شهد بعض وردَّت شهادة الباقين قال في الخلاف والمبسوط: إن ردَّت بأمرٍ ظاهرٍ حدّ الجميع، وإن ردَّت بأمرٍ خفيّ فعلى المردود الحدّ دون الباقين.
وفيه إشكال من حيث تحقّق القذف العاري عن بيّنة. ولو رجع واحد بعد شهادة الأربع حدّ الراجع دون غيره.
----------------------------------
قوله: «إذا شهد بعض وردّت شهادة الباقين» إلى آخره.
إذا شهد بعض الأربعة بالزنى فقبلت شهادته، وشهد الباقي فردت شهادته، سواء كان واحداً أم أكثر، ففي حدّ الشهود قولان:
أحدهما - وهو ظاهر المصنّف (رحمه اللّه) حيث استشكل التفصيل، وصريح العلّامة (1) - أنّه يحدّ الجميع، لتحقّق القذف العاري عن البيّنة التي يثبت بها الزني.
والثاني: التفصيل، فإن ردّت الشهادة بأمر ظاهر حدّ الجميع كما ذكر ؛ للإقدام على القذف مع تحقّق عدم السماع. وإن ردّت بأمر خفى على باقي الشهود فلا حدّ على غير المردود لعدم تفريطه؛ إذ لا اطلاع له على الباطن، وإنّما شهد اعتماداً على ظاهر الحال من عدم المانع من قبول شهادتهم، وثبوت الزنى الموجب لنفي الحدّ عنهم، ولأنّه لولا ذلك لم يأمن كلّ شاهد بالزنى ردّ شهادته أو شهادة أصحابه أو بعضهم، فيكون خوف الحدّ ذريعة إلى ترك الشهادة وتعطيل الحدود. وفي هذا التفصيل قوة، وإليه ذهب الشيخ في كتابي الفروع (2) وابن إدريس(3).
وأمّا المردود فإن كان ردّه بظاهر فلا إشكال في حدّه. وإن كان بخفي ففي حدّه قولان للشيخ في المبسوط والخلاف، من أنه لا يعلم ردّ شهادته، فهو كغيره من الشهود، ومن علمه
ص: 91
السابعة • إذا وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما، ولا إثم. وفي الظاهر عليه القود؛ إلا أن يأتى على دعواه ببينة، أو يصدقه الوليّ.
----------------------------------
بكونه على حالة تردّ شهادته لو علم به بخلاف الشهود(1). وهذا أقوى ولا إشكال في اختصاص الحدّ بالراجع عن الشهادة بعد أداء الجميع، سواء استوفي الحدّ من المشهود عليه أم لا: لكمال البيّنة.
قوله: «إذا وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما، ولا إثم. وفي الظاهر عليه القود؛ إلّا أن يأتي على دعواه ببينة، أو يصدّقه الوليّ».
إذا اطلع الإنسان على الزانيين ولم يكن من أهل الحدود فمقتضى الأصل عدم جواز استيفائه منهما بنفسه، لكن وردت الرخصة في جواز قتل الزوجة والزاني بها إذا علم الزوج بهما، سواء كان الفعل يوجب الرجم أو الجلد، كما لو كان الزاني غير محصن أو كانا غير محصنين، وسواء كان الزوجان حرّين أم عبدين أم بالتفريق، وسواء كان الزوج قد دخل أم،لا، وسواء كان دائماً أم متعة؛ عملاً بالعموم (2).
وهذه الرخصة منوطة بنفس الأمر، أمّا في الظاهر، فإن ادّعى ذلك عليهما لم يقبل، وحد للقذف بدون البيّنة. ولو قتلهما أو أحدهما قيد بالمقتول إن لم يقم بينة على ما يبيح القتل، ولم يصدّقه الوليّ. وإنّما وسيلته مع الفعل باطناً الإنكار ظاهراً، ويحلف إن ادّعي عليه، ويوري بما يخرجه عن الكذب إن أحسن؛ لأنّه محق في نفس الأمر مؤاخذ في ظاهر الحال.
وقد روى داود بن فرقد - في الصحيح - قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: إنّ أصحاب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قالوا لسعد بن عبادة أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟
ص: 92
الثامنة: • من افتض بكراً بإصبعه لزمه مهر نسائها. ولو كانت أمةٌ لزمه عشر قيمتها. وقيل: يلزمه الأرش. والأوّل مرويّ.
----------------------------------
قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: ما ذا يا سعد؟ فذكر له ما قالوه وما أجاب به، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا سعد، وكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول اللّه، بعد رأي عيني وعلم اللّه أن قد فعل قال: إي واللّه بعد رأي عينك وعلم اللّه أن قد فعل؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ قد جعل لكلّ شيءٍ حدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»(1).
واعلم أنّ مقتضى قوله «إلّا أن يأتي ببينة أو يصدّقه الولي» أنه لو أتي ببيّنة على الزني فلا قود عليه، وهو يشمل أيضاً ما لو كان الزنى يوجب القتل أو الجلد وحده.
ويشكل الحكم في الثاني، لعدم ثبوت مقتضي القتل والرخصة منوطة بحكمه في نفس الأمر لا في الظاهر. إلّا أن يقال: إنها أباحت له قتلهما مطلقاً، وإنما يتوقّف جريان هذا الحكم ظاهراً على ثبوت أصل الفعل ويختص تفصيل الحدّ بالرجم والجلد وغيرهما بالإمام دون الزوج. وهذا أمر يتوقّف على تحقيق النصّ في ذلك. والرخصة مقصورة على وجدان الزوج ذلك بالمشاهدة، أمّا البيّنة فسماعها من وظيفة الحاكم.
وفي إلحاق الإقرار بالمشاهدة أو بالبيّنة إشكال.
ويظهر من الأصحاب جواز إقامة الزوج الحدّ على الزوجة على القول بجواز توليه الحدّ، لكن لا يختص بالقتل كما هو مورد هذه الرخصة، بل هو بحسب ما يوجبه من جلد وغيره.
قوله: «من افتض بكراً بإصبعه لزمه مهر نسائها» إلى آخره.
القول بلزوم عُشر القيمة للشيخ (2) والأكثر؛ استناداً إلى الرواية الدالّة على ذلك(3).
ص: 93
التاسعة: • من تزوّج أمةً على حرّة مسلمة فوطئها قبل الإذن كان عليه ثمن حدّ الزاني.
العاشرة: • من زنى في شهر رمضان، نهاراً أو ليلاً، عوقب زيادةً على الحدّ؛ لانتهاكه الحرمة. وكذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف.
----------------------------------
وقد تقدمت مراراً(1).
والقول بالأرش لابن إدريس(2)؛ اطراحاً للرواية، ورجوعاً إلى حكم الأصل من الجناية على الأمة، فيضمن ما أنقصت الجناية من قيمتها.
والأشهر الأوّل، وإن كان المستند لا يخلو من ضعف.
ولو قيل بوجوب أكثر الأمرين من الأرش والعُشر كان حسناً؛ لأنّ الأرش على تقدير زيادته بسبب نقص حدث في المال بجنايته، فيكون مضموناً.
ولو كانت المفتضّة زوجةً فعل حراماً، وعزّر، واستقر المسمّى.
قوله : «من تزوّج أمةً على حرّة مسلمة فوطئها قبل الإذن كان عليه ثمن حدّ الزاني».
هو اثنا عشر سوطاً ونصف. وكيفيّة التنصيف أن يقبض على نصف السوط ويضرب به. وقيل: ضرباً بين ضربين(3).
قوله: «من زنى في شهر رمضان، نهاراً أو ليلاً، عوقب زيادة على الحدّ؛ لانتهاكه الحرمة. وكذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف».
المرجع في الزيادة إلى نظر الحاكم. وفي حكم رمضان غيره من الأزمنة الشريفة، كالأعياد والجمعة ويوم عرفة، كما أن المكان الشريف مطلق.
ص: 94
• أما اللواط: فهو وطء الذكران بإيقاب وغيره. وكلاهما لا يثبتان إلّا بالإقرار أربع مرّات، أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة.
ويشترط في المقرّ البلوغ، وكمال العقل والحرّيّة، والاختيار، فاعلاً كان أو مفعولاً.
ولو أقرّ دون أربع لم يحدّ وعزّر. ولو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت، وكان عليهم الحدّ للفرية.
----------------------------------
الباب الثاني في اللواط والسحق، والقيادة
قوله: «أما اللواط فهو وطء الذكران بإيقاب وغيره. وكلاهما لا يثبتان إلا بالإقرار أربع مرّات، أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة».
أراد بالإيقاب إدخال الذكر ولو ببعض الحشفة؛ لأن الإيقاب لغة: الإدخال(1)، فيتحقّق الحكم وإن لم يجب الغسل.
واعتبر في القواعد في الإيقاب غيبوبة الحشفة (2). ومطلق الإيقاب لا يدلّ عليه.
وبغيره نحو التفخيذ وبين الأليتين. وكلاهما يطلق عليه اسم «اللواط»، وإن كان حكمه مختلفاً.
وإطلاق الوطء على هذا القسم في هذا الباب متجوّز. ولو أطلق الوطء على الإيقاب، وخصّ غيره باسم آخر وإن أوجب الحدّ المخصوص كان أوفق بالاصطلاح، ولكنّه تبع في إطلاقه على ذلك الروايات، فإنّ في بعضها دلالة عليه، ففي رواية حذيفة بن منصور عن
ص: 95
• ويحكم الحاكم فيه بعلمه - إماماً كان أو غيره - على الأصح.
• وموجب الإيقاب القتل على الفاعل والمفعول إذا كان كلّ منهما بالغاً عاقلاً. ويستوي في ذلك الحرُّ والعبد والمسلم والكافر والمحصن وغيره.
• ولو لاط البالغ بالصبي موقباً قتل البالغ وأدِّب الصبيّ. وكذا لو لاط بمجنون.
----------------------------------
الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سأله عن اللواط فقال: «بين الفخذين»، وسأله عن الموقب، فقال: «ذاك الكفر بما أنزل اللّه على نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»(1).
وعلى التقديرين، فطريق ثبوته طريق الزنى في الإقرار والبيّنة، وفي ترتّب الأحكام السابقة على ما دون ذلك في الإقرار والبيّنة.
قوله: «ويحكم الحاكم فيه بعلمه، إماماً كان أو غيره، على الأصحّ».
هذا الحدّ من حقوق اللّه تعالى، وقد تقدم الخلاف في باب القضاء في حكم الحاكم بعلمه فيه(2)، وأنّ الأصحّ ثبوته فيه كغيره.
قوله: «وموجب الإيقاب القتل على الفاعل والمفعول إذا كان كلّ منهما بالغاً عاقلاً. ويستوي في ذلك الحرُّ والعبد والمسلم والكافر والمحصن وغيره».
لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلّفاً، والأخبار (3) به متظافرة. والعبد هنا كالحرّ بالإجماع، وإن كان الحدّ بغير القتل. وليس في الباب مستند ظاهر غيره. وأما استواء الباقين في ذلك فمستنده النصوص(4)، وهي كثيرة.
قوله: «ولو لاط البالغ بالصبي موقباً قتل البالغ وأدِّب الصبيّ» إلى آخره.
ص: 96
• ولو لاط بعبده خدا قتلاً أو جلداً. • ولو ادّعى العبد الإكراه سقط عنه دون المولى.
• ولو لاط مجنون بعاقل حدّ العاقل. وفي ثبوته على المجنون قولان أشبههما السقوط.
----------------------------------
أمّا قتل المكلّف؛ فلأنه حده. وأما الصبي والمجنون فيؤدّبان بما يراه الحاكم صلاحاً؛ لعدم التكليف في حقّهما الذي هو مناط الحدود. وقد روى أبو بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أُتى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجل وامرأة وقد لاط زوجها بابنها من غيره وثقبه، وشهد عليه بذلك الشهود، فأمر به أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فضرب بالسيف حتّى قتل، وضرب الغلام دون الحدّ، وقال: لو كنت مدركاً لقتلتك؛ لإمكانك إياه من نفسك»(1).
قوله: «ولو لاط بعبده حدا قتلاً أو جلداً».
أي قتلاً مع الإيقاب وجلداً بدونه؛ لتحقّق اللواط المحرم، فيثبت موجبه.
ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث نفى الحدّ بوطء المملوك؛ لشبهة عموم تحليل ملك اليمين (2).
قوله: « ولو ادّعى العبد الإكراه سقط عنه دون المولى».
لقيام القرينة بكون العبد محلّ الإكراه؛ فلذلك قبل قوله فيه، بخلاف غيره. وينبغي قبول دعوى الإكراه ممن يمكن في حقّه ذلك؛ لقيام الشبهة الدارئة للحدّ.
قوله: «ولو لاط مجنون بعاقل حدّ العاقل» إلى آخره.
القول بوجوب الحدّ على المجنون للشيخين (3)، وأتباعهما (4)؛ استناداً إلى وجوبه عليه
ص: 97
• ولو لاط الذمّي بمسلم قتل وإن لم يوقب. ولو لاط بمثله كان الإمام مخيراً بين إقامة الحدّ عليه، وبين دفعه إلى أهله ليقيموا عليه حدّهم.
• وكيفيّة إقامة هذا الحدّ القتل إن كان اللواط إيقاباً. وفي رواية: «إن كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن جلد». والأوّل أشهر.
----------------------------------
مع الزنى والأصل عندنا ممنوع.
والأصحّ ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من عدم وجوبه عليه كالزني؛ لعدم التكليف الذي هو مناط الحدود على المعاصي.
قوله: «ولو لاط الذمّي بمسلم قتل وإن لم يوقب. ولو لاط بمثله كان الإمام مخيراً بين إقامة الحدّ عليه، وبين دفعه إلى أهله ليقيموا عليه حدّهم».
إذا لاط الذمّي بمسلم فإن كان بموجب القتل فلا كلام في قتله. وإن كان بما دون ذلك قتل، كما لو زنى على وجه يوجب الجلد على المسلم، لما روي من أنّ: «حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني»(1)، ولمناسبة عقوبة الزني.
وإن كان فعله مع مثله تخيّر الإمام بين الحكم عليه بحكم شرع الإسلام؛ لعموم الآية(2)، وبين ردّه إلى أهل دينه ليقيموا عليه بمقتضى دينهم. وقد تقدم توجيه ذلك في الزنى(3). ولا نصّ هنا في هذا الباب بخصوصه.
قوله: «وكيفيّة إقامة هذا الحدّ القتل إن كان اللواط إيقاباً. وفي رواية: «إن كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن جلد والأوّل أشهر».
مذهب الأصحاب أنّ حدّ اللائط الموقب القتل ليس إلا. ويتخيّر الإمام في جهة قتله،
ص: 98
----------------------------------
فإن شاء قتله بالسيف، وإن شاء ألقاه من شاهق، وإن شاء أحرقه بالنار، وإن شاء رجمه. وهو في عدّة روايات:
منها: رواية مالك بن عطيّة - الحسنة - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «بينا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ملإ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّي قد أوقبت على غلام فطهّرني. فقال له: يا هذا امض إلى منزلك لعلّ مراراً هاج بك. فلما كان من غدٍ عاد إليه فقال له مثل ذلك، فأجابه كذلك، إلى أن فعل ذلك أربع مرات. فلمّا كان الرابعة قال له: يا هذا، إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهنّ شئت ضربةً بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت أو دهداه من جبل مشدود اليدين والرجلين، أو إحراق بالنار. فقال: يا أمير المؤمنين، أيهنّ أشدّ علي ؟ قال: الإحراق بالنار. قال: فإني قد اخترتها يا أمير المؤمنين»(1). الحديث.
ولم ينقل الأصحاب خلافاً في ذلك، لكن وردت روايات بالتفصيل كما ذكره المصنّف (رحمه اللّه).
منها: رواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الملوط حدّه حدّ الزاني»(2). والتفصيل واقع في حد الزاني.
ورواية العلاء بن الفضيل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «حدّ اللوطي مثل حدّ الزاني»، وقال: «إن كان قد أحصن رجم وإلّا جلد»(3).
ورواية حمّاد بن عثمان قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): رجل أتى رجلاً، قال: «إن كان محصناً فعليه القتل، وإن لم يكن محصناً فعليه الجلد، قال، قلت: فما على المؤتي؟
ص: 99
----------------------------------
قال: «عليه القتل على كلّ حال، محصناً كان أو غير محصن»(1).
ورواية أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا ثقب وكان محصناً الرجم»(2).
وهذه الأخبار مع كثرتها مشتركة في ضعف السند؛ ففي طريق الأُولى أبان، وهو مشترك بین الثقة (3)، وغيره (4)؛ وفي طريق الثانية محمد بن سنان، وضعفه مشهور(5). وفي طريق الثالثة معلّى بن محمد(6)، وغيره(7). وفي الرابعة اشتراك أبي بصير(8).
مع أنّها لا تنافي المطلوب؛ لأنّ إثبات الرجم على المحصن لا ينافي الحكم بقتل غيره لغير ذلك. وقد تقدم أن الإمام ال يتخيّر في جهة القتل(9)، فإذا رأى رجم المحصن أو تخصيصه بالرجم فله ذلك.
والشيخ (رحمه اللّه) حمل الروايات غير الرابعة على ما إذا كان الفعل دون الإيقاب (10)؛ لما سيأتي من حكمه فيه (11).
ص: 100
• ثمّ الإمام مخيَّر في قتله بين ضربه بالسيف، أو تحريقه، أو رجمه، أو إلقائه من شاهق، أو إلقاء جدار عليه. ويجوز أن يجمع بين أحد هذه وبين تحريقه.
• وإن لم يكن إيقاباً كالتفخيذ أو بين الأليتين - فحده مائة جلدة. وقال في النهاية يرجم إن كان محصناً، ويجلد إن لم يكن. والأوّل أشبه.
----------------------------------
قوله: «ثمّ الإمام مخيّر في قتله بين ضربه بالسيف، أو تحريقه» إلى آخره.
قد تقدّم (1) في الرواية السابقة ما يدلّ على التخيير. ويدلّ على الجمع بين تحريقه وقتله ما روي من أمر عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك في زمن عمر في رجل شهد عليه بذلك(2).
قوله: «وإن لم يكن إيقاباً - كالتفخيذ أو بين الأليتين - فحدُّه مائة جلدة» إلى آخره.
هذا هو القسم الثاني من اللواط الذي سماه المصنّف (رحمه اللّه) وطأ بغير الإيقاب، وهو ما إذا فعل بين الأليتين أو بين الفخذين.
وقد اختلف الأصحاب في حكمه، فالمشهور الجلد مائة لكل منهما. ذهب إلى ذلك المفيد (3)، والمرتضى(4)، وابن أبي عقيل(5)، وسلّار(6)، وأبو الصلاح(7)، وابن إدريس(8)، والمصنّف (رحمه اللّه) وسائر المتأخّرين؛ للأصل، والشكّ في وجوب الزائد، فيكون شبهة يدراً بها، ولرواية سليمان بن هلال عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يفعل بالرجل، فقال: «إن كان
ص: 101
----------------------------------
دون الثقب فالحدّ، وإن كان ثقب أُقيم قائماً ثمّ ضرب بالسيف»(1). وظاهره أنّ المراد بالحدّ الجلد.
وقال الشيخ (رحمه اللّه) في النهاية وكتابي الأخبار (2)، وتبعه القاضي(3)، وجماعة (4): يرجم إن كان محصناً، وإلا جلد مائة؛ جمعاً بين الروايات السابقة وبين ما روي من قتل اللائط مطلقاً(5)، بحمل الأُولى على غير الموقب والثانية عليه. ونفى في المختلف عنه البأس(6).
ويظهر من الصدوقين(7)، وابن الجنيد (8) وجوب القتل مطلقاً؛ لأنّهم فرضوه في غير الموقب، وجعلوا الإيقاب هو الكفر باللّه تعالى؛ أخذاً من رواية حذيفة بن منصور عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سأله عن اللواط، فقال: «بين الفخذين»، وسأله عن الموقب، فقال: «ذاك الكفر بما أنزل اللّه على نبيّه(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»(9).
وحمل على المبالغة في الذنب، أو على المستحلّ. مع أن حذيفة بن منصور ضعيف(10)، وسليمان بن هلال مجهول(11)، فالروایتان تصلحان شاهداً لا دليلاً.
ص: 102
• ويستوي فيه الحرّ والعبد، والمسلم والكافر، والمحصن وغيره.
ولو تكرّر منه الفعل وتخلّله الحدّ مرّتين قتل في الثالثة. وقيل في الرابعة. وهو أشبه.
• والمجتمعان تحت إزار واحد مجرَّدين، وليس بينهما رحم يعزّران من ثلاثين سوطاً إلى تسعة وتسعين سوطاً. ولو تكرر ذلك منهما وتخلّله التعزير حدا في الثالثة.
----------------------------------
قوله: «ويستوي فيه الحرّ والعبد والمسلم والكافر والمحصن وغيره».
استواء الحر والعبد يظهر في صورة وجوب الجلد، بمعنى أنه لا ينتصف هنا على العبد، بخلاف الزنى. وجعل في شرح الإرشاد مستند ذلك إجماع الأصحاب(1). وأمّا مع إيجابه القتل فالاستواء واضح.
وأمّا استواء المسلم والكافر فيتم مع عدم كون الفاعل كافراً والمفعول مسلماً، وإلّا قتل الكافر مطلقاً كما مر (2)، فلا يتمّ التسوية بينهما في القسمين.
قوله: «ولو تكرّر منه الفعل وتخلّله الحدّ مرّتين قتل في الثالثة» إلى آخره.
هذا متفرّع على القول بوجوب الجلد على غير الموقب. والقول بقتله في الثالثة لا بن إدريس(3).
وقد تقدّم في حدّ الزنى أنه أصح رواية(4)، وإن كان القول بقتله في الرابعة أحوط في الدماء، وإليه ذهب الأكثر.
والتقريب هنا كما تقدّم (5)؛ لأنّ المستند صحيحة يونس العامّة في أصحاب الكبائر.
قوله: «والمجتمعان تحت إزار واحد مجرَّدين» إلى آخره.
قد اختلفت الأقوال والروايات في حدّ المجتمعين تحت إزار واحد ونحوه،
ص: 103
----------------------------------
فذهب الشيخ (1) وابن إدريس (2) والمصنّف وأكثر المتأخّرين إلى أنّهما يعزّران من ثلاثين سوطاً إلى تسعة وتسعين. أما عدم بلوغ المائة فلعدم بلوغهم الفعل الموجب للحدّ الكامل.
وأما عدم نقصان التعزير عن ثلاثين فلرواية سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: جعلت فداك الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد، فقال: «أذو رحم؟» فقال: لا، فقال: «أمن ضرورة؟» قال: لا، قال: «يضربان ثلاثين سوطاً»(3). الحديث.
وفي رواية ابن سنان عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يجلدان حدّاً غير سوط»(4). فيكون الحكم في الغايتين وما بينهما منوطاً بنظر الإمام.
والمستند في الطرفين ضعيف.
وقال الصدوق(5)، وابن الجنيد (6): إنّهما يجلدان مائة جلدة تمام الحدّ.
وبه أخبار كثيرة، منها حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «حدّ الجلد أن يوجدا في لحاف واحد، والرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحدّ، والمرأتان تجلدان إذا وجدتا في لحاف واحد الحدّ»(7).
وحسنة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا أخذ
ص: 104
• وكذا يعزّر من قبل غلاماً ليس له بمحرم بشهوة.
----------------------------------
الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحدّ، وإذا أخذ المرأتين في لحاف واحد ضربهما الحدّ»(1).
ومثلها حسنة أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2)، وغيرها من الأخبار (3) المعتبرة الأسناد.
وأجاب في المختلف بحمل الحدّ على أقصى نهايات التعزير، وهي مائة سوط غير سوط، جمعاً بين الأدلّة (4).
وفيه نظر؛ لأنّ هذه أكثر وأجود سنداً. وليس فيها التقييد بعدم المحرمية بينهما. وعدم القيد أجود؛ لأنّ المحرمية لا تجوز الاجتماع المذكور إن لم تؤكّد التحريم. والمراد بالرحم حيث يطلق مطلق القرابة، وهو أعم من المحرميّة التي هي عبارة عن تحريم النكاح مؤبّداً. وهو يؤيد عدم فائدة هذا القيد؛ لأنّ القرابة لا دخل لها في تحقيق هذا الحكم.
قوله: «وكذا يعزّر من قبّل غلاماً ليس له بمحرم بشهوة».
لأنّه فعل محرّم فيستحق فاعله التعزير مطلقاً كغيره من المحرمات، بل الأمر فيه آكد، فقد روي أنّ: «من قبل غلاماً بشهوة لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرضين، وملائكة الرحمة، وملائكة،الغضب، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً»(5).
وفي حديث آخر: «من قبل غلاماً بشهوة الجمه اللّه بلجام من نار»(6).
ولا وجه للتقييد بعدم المحرمية مع كون التقبيل بشهوة؛ لتحريمه حينئذٍ مطلقاً، ولذلك
ص: 105
• وإذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ. ولو تاب بعده لم يسقط. ولو كان مقرّاً كان الإمام مخيّراً في العفو أو الاستيفاء.
• والحد في السحق مائة جلدة، حرّةً كانت أو أمَةً، مسلمةً أو كافرةً، محصنةً أو غير محصنة للفاعلة والمفعولة.
----------------------------------
أطلق في الأخبار(1). وروى إسحاق بن عمّار،قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): محرم قبّل غلاماً من شهوة، قال: «يضرب مائة سوط»(2).
قوله: «وإذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط عنه الحدّ» إلى آخره.
الكلام هنا كالكلام في الزاني، وقد تقدّم.
قوله: «والحدّ في السحق مائة جلدة - إلى قوله - والأوّل أولى».
ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من وجوب الجلد مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب، ذهب إليه المفيد (3) والمرتضى(4)، وأبو الصلاح(5) وابن إدريس(6) والمتأخرون؛ لرواية زرارة(7) عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «المساحقة تجلد»(8).
ص: 106
وقال في النهاية: ترجم مع الإحصان وتحد مع عدمه. والأوّل أولى.
----------------------------------
والمراد بالجلد الحدّ المغاير للرجم، وهو مائة؛ لأنّ ذلك هو الظاهر منه، ولأصالة البراءة من الزائد عن ذلك.
وفيه نظر؛ لأن المفرد المعرف لا يعم، والحكم بالجلد على المساحقة في الجملة لا إشكال فيه، وإنّما يتمّ المطلوب مع عمومه مع أن في سند الرواية كلاماً.
وقال الشيخ في النهاية - وتبعه القاضي (1) وابن حمزة (2) : ترجم المحصنة وتجلد غيرها (3)؛ لحسنة ابن أبي حمزة وهشام وحفص عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه: دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السحق، فقال: «حدّها حدّ الزاني»، فقالت المرأة ما ذكر اللّه ذلك في القرآن ؟! قال: «بلی»، فقالت: وأين؟ قال: «هنّ أصحاب الرسّ»(4).
وحدّ الزاني مشترك بين الجلد والرجم، فيكون ذلك الحدّ مشتركاً.
وأُجيب بأنّ المشترك لا يحمل على معنييه إلّا مجازاً، والأصل عدمه، بل على أحدهما بقرينة، وهو هنا الجلد، جمعاً بين الأخبار (5).
وفيه نظر؛ لجواز إرادة القدر المشترك، وهو العقوبة الشاملة للأمرين، فلا يكون على خلاف الأصل. مع أنه سيأتي خبر صحيح يدلّ على رجم المحصنة(6)، وآخر دال عليه أيضاً. فترجيح رواية زرارة - مع ما فيها - على جميع هذه الأخبار مشكل.
واعلم أنّ المراد بقول المرأة في الخبر السابق ما ذكر اللّه ذلك في القرآن؟! إشارة إلى السحق نفسه، لا إلى حدّه وإن كان السؤال عقيبه؛ لأنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أجابها بأنّهنّ أصحاب الرس
ص: 107
• وإذا تكرّرت المساحقة مع إقامة الحدّ ثلاثاً قتلت في الرابعة. ويسقط الحدّ بالتوبة قبل البيئة، ولا يسقط بعدها. ومع الإقرار والتوبة يكون الإمام مخيّراً.
• والأجنبيتان إذا وجدتا في إزار مجرّدتين عزّرت كلّ واحدةٍ دون الحدّ. وإن تكرّر الفعل منهما والتعزير مرّتين أقيم عليهما الحدّ في الثالثة. فإن عادتا قال في النهاية قتلتا. والأُولى الاقتصار على التعزير، احتياطاً في التهجم على الدم.
----------------------------------
ورضيت بالجواب، ومعلوم أنه ليس في القرآن بيان حدّهن، فدل على أنّ المقصود مجرّد ذكرهنّ. وقد روي أن ذلك الفعل كان في أصحاب الرسّ(1)، كما كان اللواط في قوم لوط.
قوله: «وإذا تكررت المساحقة مع إقامة الحدّ ثلاثاً قتلت في الرابعة» إلى آخره.
بناءً على أنّها لا توجب القتل ابتداء، فتقتل في الثالثة أو الرابعة مع تخلل الحدّ، كما تقدم في نظائره من الكبائر. ولم يذكر هنا الخلاف في الثالثة مع أن رواية يونس شاملة لها (2)؛ لأنّ ما أجیب الحدّ من المعاصي فهو كبيرة، والحديث ورد في فاعل الكبيرة أنه يقتل في الثالثة عليه إذا أجیب الحدّ مرّتين، ولكنّ المصنّف اتكل على ما تكرّر منه الكلام فيه، واعتمد هنا على ما يذهب إليه.
«و الأجنبيتان إذا وجدتا في إزار مجردتين عزرت كلّ واحدة» إلى آخره.
الكلام في تحريم نوم المرأتين مجرّدتين تحت إزار واحد كالكلام في الرجلين، وقد تقدّم ذكر هما معهما في الأخبار(3).
فإن وجبنا في هذا الفعل الحدّ كاملاً فلا إشكال في قتلهما مع تخلّل الحدّ مرّتين أو ثلاثاً في الثالثة أو الرابعة. وإنّما الكلام مع الحكم فيه بالتعزير؛ فإن مقتضاه عدم الحكم
ص: 108
مسألتان:
الأولى: • لا كفالة في حدّ، ولا تأخير فيه مع الإمكان والأمن من توجّه ضرر، ولا شفاعة في إسقاطه.
----------------------------------
بالقتل مطلقاً، وإليه ذهب أكثر المتأخّرين.
وذهب الشيخ في النهاية(1)، وابن البرّاج(2)، والعلّامة في المختلف (3) - وهم من جملة القائلين بالتعزير - إلى قتلهما في الرابعة مع تخلّل الحدّ؛ لرواية أبي خديجة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلا وبينهما حاجز، فإن فعلتا نهيتا عن ذلك،فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحدٍ،جلدتا كلّ واحدة منهما حدّاً حدّاً، وإن وجدتا الثالثة حدّتا، فإن وجدتا في الرابعة قتلتا»(4)، ولأنّه كبيرة، وكل كبيرة يقتل بها في الرابعة.
وفيه أنّ الرواية مع ضعف سندها(5) معدولة الظاهر؛ لأنهم لا يقولون بوجوب الحدّ بهذا الفعل وقوله ثانياً «إنّ كلّ كبيرة يقتل بها في الرابعة» إن أراد به مع إيجابها الحدّ فمسلّم، لكن لا يقولون به هنا، وإن أراد مطلقاً فظاهر منعه، ومن ثمّ اختار المصنّف الاقتصار على التعزير مطلقاً. وهو الأوجه إن لم نقل بالحدّ كما اختاره الصدوق(6)، وإلّا كان القول بقتلهما في الثالثة أو الرابعة أوجه.
قوله: «لا كفالة في حدّ ولا تأخير فيه مع الإمكان والأمن من توجه ضرر» إلى آخره.
وجوب الحدّ حيث يثبت موجبه فوري، ومن ثمّ لم تجز فيه الكفالة؛ لأدائها إلى تأخيره
ص: 109
الثانية: • لو وطئ زوجته فساحقت بكراً فحملت قال في النهاية: على المرأة الرجم، وعلى الصبيّة جلد مائة بعد الوضع. ويلحق الولد بالرجل، ويلزم المرأة المهر.
أمّا الرجم فعلى ما مضى من التردّد وأشبهه الاقتصار على الجلد.
وأمّا جلد الصبيّة فموجبه ثابت، وهي المساحقة.
----------------------------------
وهو غير جائز مع إمكان تعجيله.
واحترز بالإمكان والأمن عن حدّ المريض والحبلى ونحوهما؛ فإنّه يؤخر إلى أن يبرأ حيث لا تقتضي المصلحة تعجيله محققاً كما سبق.
واستيفاؤه حقّ واجب على الإمام، ومن ثمّ لم تجز فيه الشفاعة؛ لأنّه لا يشفع إلّا فيما هو حقّه. وقد ورد بذلك روايات كثيرة، منها ما روي عن النبيّ أنه قال: «لا كفالة في حدّ»(1).
وقال لأُسامة وقد كان يشفع عنده كثيراً: «يا أُسامة لا تشفع في حد»(2).
وقال: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه فهو مضادّ للّه في أمره»(3).
وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يشفعن أحد في حدّ»(4).
وقال: «ليس في الحدود نظرة ساعة»(5).
قوله: «لو وطئ زوجته فساحقت بكراً فحملت - إلى قوله - وليست هذه كذا».
الأصل في هذه المسألة ما رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - قال: سمعت أبا جعفر
ص: 110
وأمّا لحوق الولد؛ فلأنه ماء غير زانٍ، وقد انخلق منه الولد فيلحق به.
وأمّا المهر؛ فلأنها سبب في إذهاب العذرة، وديتها مهر نسائها. وليست كالزانية في سقوط دية العذرة؛ لأن الزانية أذنت في الافتضاض وليست هذه كذا وأنكر بعض المتأخّرين ذلك، وظنّ أنّ المساحقة كالزانية في سقوط دية العذرة وسقوط النسب.
----------------------------------
وأبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقولان: «بينا الحسن بن عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في مجلس أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ أقبل قوم، فقالوا: يا أبا،محمد أردنا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). قال : وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة. قال: وما هي؟ تخبرونا بها، فقالوا امرأة جامعها زوجها، فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها، فألقت النطفة فيها فحملت، فما تقول في هذا؟ فقال الحسن : معضلة وأبو الحسن لها، وأقول: فإن أصبت فمن اللّه ثمّ من أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أُخطئ إن شاء اللّه تعالى، يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة؛ لأنّ الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ وتذهب عذرتها، ثمّ ترجم المرأة؛ لأنها محصنة، وينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها، ويرد إلى أبيه صاحب النطفة، ثمّ تجلد الجارية الحدّ. قال: فانصرف القوم من عند الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلقوا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال : ما قلتم لأبي محمّد ؟ وما قال لكم؟ فأخبروه، فقال: لو أنّي المسؤول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني»(1).
وروى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قريباً من ذلك(2). وعمل بمضمونها الشيخ(3)، وأتباعه(4).
ص: 111
----------------------------------
والمصنّف (رحمه اللّه) وافق على الأحكام الثلاثة غير الرجم، بناء على أصله السابق في حدّ المساحقة.
وابن إدريس ردّ الأحكام كلّها عدا إثبات الجلد على البكر؛ نظراً إلى وجود مقتضاه وهو المساحقة.
واعترض على الرجم بما أثبته سابقاً من كون الحدّ الجلد مطلقاً.
وعلى إلحاق الولد بالرجل بأنه غير مولود على فراشه، وقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الولد للفراش»(1). والبكر ليست فراشاً له ؛ لأنّ الفراش عبارة عن المعقود عليها مع إمكان الوطء، ولا هو من شبهة.
وعلى إلزام المرأة بالمهر؛ فإنّ البكر مختارة غير مكرهة، والزني بالمختارة لا يوجب المهر، فهنا،أولى، ولأنّها بغى، وقد نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن مهر البغىّ(2).
والمصنّف (رحمه اللّه) قد أشار هنا إلى جوابه عن جميع ذلك.
أمّا عن إلحاق الولد؛ فلأنّه مخلوق من مائه، وهو غير زان، بل عن وطء صحيح، غايته أنّ التفريط من المرأة، وذلك لا يسقط حقّ الرجل، وإنّما يوجب عدم إلحاقه بها من حيث بغيها، ونحن نقول به.
وأمّا المهر؛ فلأنّ المساحقة سبب في إذهاب عذرتها، فلزمها عوضها وهو مهر نسائها. وفرق بينها وبين الزانية؛ لأنّ الزانية أذنت في الافتضاض وإذهاب العذرة فلا عوض لها، وهذه لم تأذن في ذلك، وإنّما تعدّت بالملاصقة المحرّمة.
وبالجملة، فغير الشيخ وأتباعه من الموجبين للرجم على المساحقة يردّون هذا الحديث
ص: 112
• وأما القيادة، فهي الجمع بين الرجال والنساء للزنى، أو بين الرجال والرجال للواط.
ويثبت بالإقرار مرّتين، مع بلوغ المقر وكماله وحرّيّته واختياره، أو شهادة شاهدين.
ومع ثبوته يجب على القوّاد خمس وسبعون جلدةً. وقيل: يحلق رأسه ويشهر. ويستوي فيه الحرّ والعبد، والمسلم والكافر.
وهل ينفى بأوّل مرّة ؟ قال في النهاية: نعم. وقال المفيد (رحمه اللّه): ينفى في الثانية. والأوّل مرويّ.
أما المرأة فتجلد. وليس عليها جز، ولا شهرة، ولا نفي.
----------------------------------
وإن عملوا ببعض،موجبه، وهو ما وافق القواعد الشرعيّة لذلك، لا لوروده فيه، وإلّا لأوجبوا الرجم على المحصنة. ولقد كان القول به أولى لصحّة الرواية واعتبار حكمها، فكانت أرجح ممّا استدلّوا ممّا استدلوا به على عدمه.
وبقي من أحكام المسألة لحوق الولد بالمرأة. أما الكبيرة فلا يلحق بها قطعاً؛ لأنّه لم يتولّد منها، وإنما كانت سبباً في تولده.
وأمّا الصبيّة ففي إلحاقه بها وجهان من حيث إنّها ولدته من غير زنى فيلحق بها، ومن انتفاء سبب الإلحاق، وهو العقد الصحيح أو الشبهة، ولأنّه بحكم الزني، ولهذا يجب عليها الحدّ. وهذا أقوى.
قوله: «وأمّا القيادة فهى الجمع بين الرجال والنساء للزني، أو بين الرجال والرجال للّواط» إلى آخره.
اتّفق الجميع على أنّ حدّ القيادة مطلقاً خمس وسبعون جلدةً. واختلفوا في ثبوت شيء آخر معها، فأثبت الشيخ في النهاية معها على الرجل حلق رأسه، وشهرته في البلد، والنفي
ص: 113
----------------------------------
من بلده الذي فعل فيه الفعل إلى غيره(1).
وقال المفيد: يجلد في المرة الأُولى ويحلق رأسه ويشهّر، فإن عاد ثانية جلد ونفي(2).
وتبعه أبو الصلاح، وسلّار(3).
وزاد أبو الصلاح:
فإن عاد ثالثةً جلد، فإن عاد رابعة استتيب فإن تاب قبلت توبته وجلد، فإن أبى التوبة قتل، فإن تاب ثمّ أحدث بعد التوبة خامسةً قتل على كلّ حال(4).
وليس في الباب من الأخبار سوى رواية عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد سأله عن حدّ القوّاد، فقال: «يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة وسبعين سوطاً، وينفى من المصر الذي هو فيه»(5).
وهي تدلّ على نفيه بأوّل مرّة - كما ذكره الشيخ - لكن ليس فيه الحلق والشهرة. مع أنّ في طريقه محمد بن سليمان، وهو مشترك بين جماعة منهم الثقة وغيره(6)، ومن ثمّ جعل المصنّف حلق رأسه وشهرته قولاً مؤذناً بضعفه؛ لعدم وقوفه على مستنده. وقد أحسن ابن الجنيد (رحمه اللّه) حيث اقتصر من حكم القيادة على ذكر الرواية(7).
ص: 114
الباب الثالث في حدّ القذف والنظر في أُمور أربعة:
الأوّل في الموجب
• وهو الرمي بالزنى أو اللواط، كقوله: «زنيت» أو «لطت» أو «ليط بك» أو «أنت زان» أو «لائط» أو «منكوح في دبره» وما يؤدي هذا المعنى صريحاً، مع معرفة القائل بموضوع اللفظ، بأيِّ لغةٍ اتّفق.
----------------------------------
الباب الثالث في حدّ القذف
قوله: «وهو الرمي بالزني أو اللواط».
القذف من الذنوب الكبائر، روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: وما هنّ يا رسول اللّه؟ قال: «الشرك باللّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللّه وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات»(1).
ويتعلّق بالقذف الحدّ بالإجماع، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ» إلى قوله: «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً»(2).
وروى عبد اللّه بن سنان في الحسن - قال قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ الفرية ثلاث - يعني ثلاث وجوه : رمي الرجل بالزني، وإذا قال : إن أُمّه زانية، وإذا دعي لغير أبيه، فذلك فيه حدّ ثمانون»(3).
ص: 115
• ولو قال لولده الذي أقرّ به: لست ولدي» وجب عليه الحدّ. وكذا لو قال لغيره: «لست لأبيك».
• ولو قال: «زنت بك أُمّك» أو «يا ابن الزانية» فهو قذف للأُمّ. وكذا لو قال: «زنى بك أبوك» أو «يا ابن الزاني» فهو قذف لأبيه.
----------------------------------
وأصل القذف الرمي، يقال: قذف بالحجارة، أي رماها،(1) فكأنّ السابّ يرمي المسبوب بالكلمة المؤذية.
قوله: «ولو قال لولده الذي أقرّ به: لست بولدي، وجب عليه الحدّ. وكذا لو قال لغيره: لست لأبيك».
هذه الصيغة عندنا من ألفاظ القذف الصريح لغةً وعرفاً، فيثبت بها الحدّ لأُمّه.
ونبّه بالتسوية بين الصيغتين على خلاف بعض العامّة، حيث فرّق بينهما وجعل الثانية قذفاً دون الأ دون الأولى؛ استناداً إلى أن الأب يحتاج في تأديب الولد إلى مثل ذلك، زجراً له عمّا لا يليق بنسبه وقومه، فيحمل ذلك منه على التأديب، والأجنبي بخلافه(2). هذا إذا لم يقصد به القذف، وإلا كان قذفاً إجماعاً.
قوله: «ولو قال: زنت بك أُمّك أو يا ابن الزانية فهو قذف للأُمّ» إلى آخره.
فائدة تعيين المقذوف من الأبوين والمواجه يظهر فيما لو اختلف حكمهم في إيجاب الحدّ وعدمه، كما لو كان المحكوم بقذفه مسلماً والمنفي عنه كافراً، وبالعكس، وفي توقّف ثبوته على مرافعة المستحقّ.
ثمّ على تقدير كون القذف للأبوين أو لأحدهما دون المواجه يعزر للمواجه زيادةً على الحدّ؛ لإيذائه المحرّم بمواجهته بالقذف وإن كان متعلّقه غيره.
ص: 116
ولو قال: «يا ابن الزانيين» فهو قذف لهما، ويثبت به الحدّ ولو كان المواجه كافراً؛ لأنّ المقذوف ممَّن يجب له الحدّ.
• ولو قال: «ولدت من الزنى» ففى وجوب الحدّ لأُمّه تردّد؛ لاحتمال انفراد الأب بالزنى، ولا يثبت الحدّ مع الاحتمال.
أما لو قال: «ولدتك أُمّك من الزنى» فهو قذف للأُمّ. وهنا الاحتمال أضعف. ولعلَّ الأشبه عندي التوقف؛ لتطرّق الاحتمال وإن ضعف.
ولو قال: «يا زوج الزانية» فالحدُّ للزوجة. وكذا لو قال: «يا أبا الزانية» أو «يا أخا الزانية» فالحدُّ لمن نسب إليها الزنى دون المواجه.
----------------------------------
قوله: «ولو قال: ولدت من الزنى ففي وجوب الحدّ لأُمه تردّد» إلى آخره.
هنا مسألتان
الأولى: إذا قال لغيره: ولدت من الزني، ففي وجوب الحدّ بذلك وجهان:
أحدهما - وهو الأشهر - ثبوته؛ لتصريحه بتولّده من الزنى، فيكون قذفاً صريحاً يثبت به الحدّ، لكن يقع الاشتباه في متعلقه، وهو مستحق الحدّ، فذهب الشيخان(1)، والقاضي (2)، والمصنّف في النكت(3)، وجماعة(4)، إلى أنّه الأم؛ لاختصاصها بالولادة ظاهراً، وقد عدّى الولادة إلى الزنى بحرف الجرّ، ومقتضاه نسبة الأم إلى الزنى؛ لأنّه على هذا التقدير يكون ولادتها له عن،زني، ولأنّه الظاهر عرفاً، والحقيقة العرفية أولى من اللغويّة.
وقيل: متعلّقه الأبوان معاً؛ لأنّ نسبته إليهما واحدة فلا اختصاص لأحدهما دون الآخر، ولأنّ الولادة إنّما يتم بهما، فهما والدان لغةٌ وعرفاً، وقد نسبت الولادة إلى الزني
ص: 117
----------------------------------
وهي قأئمّة بهما، فيكون القذف لهما. وهو أحد قولي العلّامة (1) والشهيد في الشرح(2).
والثاني : أنه لا يثبت لأحدهما ولا للمواجه. أما المواجه فظاهر؛ لأنّه لم ينسب الفعل إليه.
وأمّا الأبوان؛ فلأنّ هذا اللفظ يحتمل كون الزنى مختصاً بالأم؛ لأنّ الولادة مختصة بها كما ذكر، ويكون الأب مشتبهاً عليه أو مكرهاً، فلا يتحقّق نسبته إليه بمجرّد ذلك، وكونه من الأب؛ لأن النسب يقوم بكل واحد منهما، ويحتمل كون الأُمّ مكرهةً أو مشبّهاً عليها، ومع ذلك يصدق كونه مولوداً من الزني حيث يكون الأب زانياً، وكونه منهما، وإذا تعدد الاحتمال في اللفظ بالنسبة إلى كلّ منهما لم يعلم كونه قذفاً لأحدهما بخصوصه ولا المستحقّ، فتحصل الشبهة الدارئة للحدّ.
وهذا هو الظاهر من كلام المصنّف هنا؛ لأن قوله: «لاحتمال انفراد الأب» لا يريد به أنّ الأب داخل في القذف على التقديرين، بل يريد أنه كما يحتمل كون النسبة إلى الأم يحتمل كونها إلى الأب، بأن يكون منفرداً بالزنى ومع الاحتمال يسقط الحدّ للشبهة.
وصراحة اللفظ في القذف مع اشتباه المقذوف لا يوجب الحدّ؛ لتوقّفه على مطالبة المستحقّ، وهو غير معلوم، كما لو سمع واحد يقذف أحداً بلفظٍ صريحٍ ولم يعلم المقذوف؛ فإنا لا نحدّه بذلك. ويمكن الفرق بانحصار ذلك الحق في المتنازع في الأبوين، فإذا اجتمعا على المطالبة تحتّم الحدّ؛ لمطالبة المستحقّ قطعاً وإن لم يعلم عينه، ولعلّ هذا أجود.
نعم لو انفرد أحدهما بالمطالبة تحقّق الاشتباه، واتّجه عدم ثبوت الحدّ حينئذٍ ؛ لعدم العلم بمطالبة المستحقّ به.
الثانية: لو صرّح بذكر الأُمّ فقال: «ولدتك أُمّك من الزني» فإن قلنا بثبوت الحدّ في السابقة للأمّ خاصّة أو لهما فلا إشكال في ثبوته هنا لها. وبهذا صرّح ابن إدريس (3)، مع مخالفته في
ص: 118
• ولو قال: «زَنيت بفلانة» أو «لطت به» فالقذف للمواجه ثابت. وفي ثبوته للمنسوب إليه تردّد. قال في النهاية وفي المبسوط يثبت حدان؛ لأنّه فعل واحد متى كذب في أحدهما كذب في الآخر.
ونحن لا نسلّم أنه فعل واحد؛ لأنّ موجب الحدّ في الفاعل غير الموجب في المفعول. وحينئذٍ يمكن أن يكون أحدهما مختاراً دون صاحبه.
----------------------------------
الأولى(1). وإن قلنا بعدم ثبوته لها في السابقة احتمل ثبوته هنا؛ لأنّه ظاهر في نسبته إليها.
ويحتمل العدم؛ لأن ولادتها إيَّاه من الزنى أعم من كونها زانية : الجواز كون الزاني هو الأب. وهي مكرهة أو مشبّه عليها، ولأن المتعدّي ب«من» إنّما هو الولادة على التقديرين، وتوسّط الأُمّ فى الولادة لازم عليهما، فلا فرق بين المسألتين، وإن كان الإشكال في هذه أقوى.
والمصنّف (رحمه اللّه)درجّح هنا التوقف أيضاً؛ لقيام الاحتمال الدافع للحدّ بالشبهة وإن ضعف، وله وجه، إلا أن يجتمع الأبوان على المطالبة بالحدّ كما سبق، فيتجه القول بثبوته. مع احتمال العدم أيضاً؛ لأنّ مطالبة كلّ واحدٍ منهما غير معلومة التأثير في جواز الاستيفاء مع الانفراد فكذا مع الاجتماع.
قوله: «ولو قال: زنيت بفلانة، أو: لطت به فالقذف للمواجه ثابت» إلى آخره.
إذا أضاف زنى المواجه أو لواطه إلى معيّن فلا خلاف في كونه قذفاً للمواجه؛ لدلالة لفظه على وقوعه منه اختياراً.
وأمّا المنسوب إليه ففي كونه قذفاً له قولان:
أحدهما - وهو مذهب المفيد (2)، والشيخ في النهاية والمبسوط (3)، وأتباعه (4) - الثبوت؛
ص: 119
----------------------------------
لأنّ الزنى فعل واحد يقع بين اثنين، ونسبة أحدهما إليه بالفاعلية والآخر بالمفعولية، فيكون قذفاً لهما، ولأن كذبه في أحدهما يستلزم كذبه في الآخر؛ لاتّحاد الفعل.
واعترض المصنّف (رحمه اللّه) بمنع اتّحاده؛ لأنّ الموجب في الفاعل التأثير وفي المفعول التأثر، وهما متغايران، وجاز أن يكون أحدهما مكرهاً والآخر مختاراً.
والحقّ أنّهما فعل واحد واختلاف النسبة يجوّز اختلاف الحكم كما ذكر، لا اختلاف الفعل.
والثاني: عدم ثبوته للمنسوب إليه؛ لأن مجرد نسبة الفعل إليه أعمّ من كونه زانياً؛ لجواز الإكراه، وهذا وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنّه ممكن، فيكون شبهة يدرأ بها الحدّ. وهو اختيار المصنّف في النكت(1) صريحاً، وهنا ظاهراً.
وأُجيب بالمعارضة بقوله: «إنّه منكوح في دبره»؛ فإنه يوجب الحدّ إجماعاً مع احتمال الإكراه، فدلّ على عدم قدح مجرد الاحتمال (2).
وقوله : «زنيت بفلانة» في معنى فلانة مزني بها، الذي هو في معنى قوله : «منكوح في دبره».
والأقوى ثبوته لهما، إلا مع تصريحه بالإكراه، فينتفي بالنسبة إلى المكره.
وحيث يحكم بثبوته لهما يجب لهما حدّان وإن اجتمعا في المطالبة ؛ لأن اللفظ هنا متعدّد، بدليل أنه لو اقتصر على قوله «زنيت من دون أن يذكر الآخر، تحقّق القذف للمواجه، فيكون قذف الآخر حاصلاً بضميمة لفظه. كذا ذكره المصنّف في النكت(3).
ص: 120
• ولو قال لابن الملاعنة: يا ابن الزانية فعليه الحدّ. ولو قال لابن المحدودة قبل التوبة، لم يجب به الحدّ، وبعد التوبة يثبت الحدّ.
----------------------------------
قوله: ولو قال لابن الملاعنة يا ابن الزانية فعليه الحدّ إلى آخره.
الفرق بين الملاعنة والمحدودة قبل التوبة - وإن اشتركا في إقامة البيّنة على الزنى، من حيث إن شهادات الزوج عليها بمنزلة الشهود الأربعة، ومن ثمّ وجب عليها الحدّ بذلك - : أنّ شهادات الزوج بذلك ليست كالبيئة الموجبة لثبوت الزنى في حقها مطلقاً، ومن ثمّ كان لها دفعه باللعان، ولو كان ثبوته بالبيّنة المحضة لم يكن لها دفعه. فثبوته في حقها مطلقاً بشهاداته إنّما هو بالنسبة إلى الزوج خاصّة، فيحدّ قاذفها، بخلاف من ثبت عليها الزني بالبيّنة أو الإقرار قبل التوبة؛ فإنّها خرجت بذلك عن الإحصان الذي هو شرط ثبوت الحدّ على القاذف ولو تابت سقط حكم ذلك الفعل، وثبت على قاذفها الحدّ.
ويدلّ عليه حسنة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبيه قال : سألت أبا عبد اللّه وأبا الحسن (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن امرأة زنت فأتت بولد، وأقرت عند إمام المسلمين بأنّها زنت، وأن ولدها ذلك من الزنى، فأقيم عليها الحدّ، وأنّ ذلك الولد نشأ حتّى صار رجلاً، فافترى عليه رجل، هل يجلد من افترى عليه؟ قال: «يجلد ولا يجلد»، قلت كيف يجلد ولا يجلد؟ فقال: «من قال له: يا ولد الزنى، لا يجلد إنّما يعزّر وهو دون الجلد، وإذا قال: يا ابن الزانية جلد الحدّ تاماً»، فقلت: كيف صار هذا هكذا؟ فقال: «إنّه إذا قال: يا ولد الزني، كان قد صدق فيه، وعزّر على تعييره أمّه ثانيةً، وقد أقيم عليها الحدّ، وإذا قال: يا بن الزانية، جلد الحدّ تامّاً؛ لفريته عليها بعد إظهارها التوبة وإقامة الإمام عليها الحدّ»(1).
ويدلّ على ثبوت الحدّ بقذف الملاعنة حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قذف لاعنة، قال: «عليه الحدّ»(2).
ص: 121
• ولو قال لامرأته: «زنيت بك» فلها حدّ على التردّد المذكور. ولا يثبت في طرفه حدّ الزنى حتّى يقرّ أربعاً.
• ولو قال: «يا ديوث» أو «يا كشخان» أو «يا قرنان» أو غير ذلك من الألفاظ، فإن أفادت القذف في عرف القائل لزمه الحدّ. وإن لم يعرف فائدتها، أو كانت مفيدةً لغيره فلا حدّ ويعزّر إن أفادت فائدةً يكرهها المواجه.
----------------------------------
قوله: «ولو قال لامرأته: زنيت بك فلها حدّ على التردّد المذكور». هو المذكور في المسألة السابقة في قوله «زنيت بفلانة» من حيث احتمال كونها مكرهةً،
فلا يكون قذفاً لها. والأقوى ثبوته ما لم يدع الإكراه، بتقريب ما سبق.
وأما رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قال لامرأته: يا زانية، أنا زنيت بكِ قال: «عليه حدّ واحد؛ لقذفه إيَّاها، وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه، إلا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزني عند الإمام»(1).
فلا يدلّ على ثبوت الحدّ بقوله: أنا زنيت بكِ، ولا نفيه؛ لأنّ حدّ القذف ثابت على المذكور في الرواية بالكلمة الأولى، وهي قوله «يا زانية»، ويبقى حكم الأخرى على الاشتباه، ولا يلزم من تعليق الحكم على اللفظين ثبوته مع أحدهما، إّلا أنّه ثابت بالأوّل من دلیل خارج.
قوله: «ولو قال: يا ديّوث، أو: يا كشخان أو يا قرنان».
هذه الألفاظ ليست موضوعةً لغةٌ لمعنى يوجب القذف، وإنّما هي ألفاظ عرفيّة يرجع فيها إلى عرف القائل، فإن أفادت القذف لزمه الحدّ، وإلّا فلا.
قال ثعلب: القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب، ومعناهما عند العامّة مثل معنى الديّوث، أو قريب منه(2).
ص: 122
• وكلُّ تعريض بما يكرهه المواجه ولم يوضع للقذف لغةٌ ولا عرفاً يثبت به التعزير لا الحدّ، كقوله: «أنت ولد حرام» أو «حملت بك أُمُّك في حيضها» أو يقول لزوجته: «لم أجدك عذراء» أو يقول: «يا فاسق» أو «يا شارب الخمر» وهو متظاهر بالستر، أو «يا خنزير» أو «يا حقير» أو «يا وضيع».
ولو كان المقول له مستحقاً للاستخفاف فلا حدّ ولا تعزير.
وكذا كلّ ما يوجب أذىً، كقوله: «يا أجذم» أو «يا أبرص».
----------------------------------
وقد قيل: إنّ الديوث هو الذي يدخل الرجال على امرأته(1). وقيل : القرنان من يدح على بناته، والكشخان على أخواته (2).
وعلى هذا فإن كان ذلك متعارفاً عند القاذف ثبت عليه الحدّ، ترجيحاً لجانب العرف على اللغة، وإلّا فإن أفادت فائدةً يكرهها المواجه دون ذلك فعليه التعزير، وإن انتفى الأمران فلا شيء.
قوله: «وكلّ تعريض بما يكرهه المواجه» إلى آخره.
لمّا كان أذى المسلم غير المستحقّ للاستخفاف محرّماً، فكلّ كلمة يقال له ويحصل له بها الأذى، ولم تكن موضوعةٌ للقذف بالزنى وما في حكمه لغةٌ ولا عرفاً، يجب بها التعزير، لفعل المحرّم كغيره من المحرّمات، ومنه التعيير بالأمراض. ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل سب رجلاً بغير قذف يعرّض به هل يجلد؟ قال: «عليه التعزير»(3).
والمراد بكون المقول له مستحقاً للاستخفاف أن يكون فاسقاً متظاهراً بفسقه، فإنّه
ص: 123
----------------------------------
لا حرمة له حينئذٍ لما روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة»(1). وفي بعض الأخبار: «من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب»(2).
وروی داود بن سرحان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم،والوقيعة، وباهتوهم لئلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولا يتعلّمون من ،بدعهم يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(3).
ويظهر من قوله (4)؛ «فلا حدّ ولا تعزير» أن بعض المذكورات يوجب الحدّ وإلّا لما كان لنفيه فائدة. وليس كذلك؛ لأنّ جميعها يوجب التعزير، إلا أن يريد بنفي الحدّ في حقّه على تقدير قذفه بالزنى مع تظاهره به فإن ذلك ممّا يوجب الحدّ في غيره. ولكن سيأتي أنّه يوجب التعزير(5). والأُولى ترك لفظ «الحدّ» والاقتصار على نفي التعزير، كما صنع في القواعد(6).
واعلم أنّ إلحاق قوله أنت ولد حرام بالألفاظ التي لا تدلّ على القذف هو المشهور بين الأصحاب، صرح به الشيخان(7)، والأكثر.
وخالف في ذلك ابن إدريس فقال:
إذا قال له: أنت ولد حرام، فهو كقوله: أنت ولد زنى؛ لعدم الفرق بينهما في العرف وعادة الناس وما يريدونه بذلك(8).
ص: 124
الثاني في القاذف
ويعتبر فيه البلوغ، وكمال العقل.
فلو قذف الصبي لم يحدَّ وعزّر، وإن قذف مسلماً بالغاً حرّاً. وكذا المجنون.
• وهل يشترط في وجوب الحدّ الكامل الحرّيّة؟ قيل: نعم، وقيل: لا يشترط. فعلى الأوّل يثبت نصف الحدّ، وعلى الثاني يثبت الحدّ كاملاً، وهو ثمانون.
----------------------------------
وأجيب بمنع دلالة العرف على ذلك(1)، بل كثيراً ما يطلق على كونه رديء الفعال، خبيث النفس ونحو ذلك. ولو فرض احتماله الأمرين فليس بصريح في القذف؛ لقيام احتمال الدافع للحدّ.
قوله: وهل يشترط في وجوب الحدّ الكامل الحرّيّة؟» إلى آخره.
أكثر الأصحاب - ومنهم الشيخ فى النهاية والخلاف(2)، والمصنّف في النافع (3) وإن توقّف هنا - على أنّه لا يشترط الحرّيّة في ثبوت الحدّ الكامل على القاذف، بل ادّعى عليه جماعة (4) الإجماع؛ لعموم قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ»(5) الآية. و «الذين» جمع معرّف، فيفيد العموم.
ولقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حسنة الحلبي: «إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين، هذا من حقوق الناس»(6). وفيها إشارة إلى التعليل بأنّ ما كان من حقوق الناس من الحدود لا ينتصف على المملوك. وغيرها من الروايات(7).
ص: 125
• ولو ادّعى المقذوف الحرّيّة وأنكر القاذف، فإن ثبت أحدهما عمل عليه، وإن جهل ففيه تردّد أظهره أنّ القول قول القاذف؛ لتطرّق الاحتمال
----------------------------------
وقال الشيخ في المبسوط(1)، وابن بابويه (2): يجلد العبد أربعين؛ لقوله تعالى: «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ»(3).
ورواية القاسم بن سليمان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سأله عن العبد يفتري على الحرّكم يجلد؟ قال: «أربعين»، وقال: «إذا أتى بفاحشة فعليه نصف العذاب»(4).
وأجيب بأنّ المراد بالفاحشة الزنى، على ما ذكره المفسّرون(5)؛ ولأنّها نكرة مثبتة فلا تعمّ. والرواية معارضة بالإجماع أو بما هو أجود سنداً. وحملت على التقيّة.
وقد تعجّب الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح من المصنّف حيث نقل في المسألة قولين، ولم يرجّح أحدهما مع ظهور المرجّح؛ فإنّ القول بالتنصيف نادر جدّاً(6). ثمّ وقع فيما تعجّب منه في اللمعة، فاقتصر فيها على نقل القولين في المسألة(7).
قوله: «ولو ادّعى المقذوف الحرّيّة وأنكر القاذف فإن ثبت أحدهما عمل عليه، وإن جهل ففيه تردّد» إلى آخره.
إذا ادّعى المقذوف حرّيّة قاذفه ليقيم عليه الحدّ كملاً، وأنكر القاذف وادّعى الرقّيّة؛ بناء على القول بتنصيف الحدّ على المملوك، فإن ثبت أحد الأمرين من الحرّيّة أو الرقية بالبيّنة أو غيرها فلا كلام وإن جهل الأمران ففى تقديم قول أيّهما قولان للشيخ في الخلاف والمبسوط.
ص: 126
الثالث في المقذوف
• ويشترط فيه الإحصان. وهو هنا عبارة عن البلوغ، وكمال العقل والحرّيّة والإسلام، والعفّة. فمن استكملها وجب بقذفه الحدّ. ومن فقدها أو بعضها فلا حدّ، وفيه التعزير، كمن قذف صبيّاً أو مملوكاً أو كافراً أو متظاهراً بالزنى، سواء كان القاذف مسلماً أو كافراً، حراً أو عبداً.
----------------------------------
ففي الأوّل اختار تقديم قول القاذف عملاً بأصالة البراءة من ثبوت الزائد(1).
وفي المبسوط نقل القولين، وعلل تقديم قول القاذف بما ذكر في الخلاف، وتقديم قول المقذوف بأصالة الحرّيّة قال: وهما جميعاً قويان(2).
والأقوى ما اختاره المصنّف من تقديم قول القاذف؛ لتعارض الأصلين المقتضي لقيام الشبهة في الزائد، فيسقط.
قوله - في المقذوف : ويشترط فيه الإحصان - إلى قوله - متظاهراً بالزنى».
إحصان المقذوف شرط في وجوب الحدّ على قاذفه، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ»(3) الآية.
والمراد به هنا الجمع لأمور أربعة: التكليف، وهو يعتمد البلوغ والعقل والحرّيّة والإسلام، والعفّة عن الزنى والمراد به الوطء الموجب للحدّ. وقد تقدّم إطلاق الإحصان على معانٍ أخر غير هذا(4). فمن استكمل هذه الأوصاف وجب بقذفه الحدّ، وإلّا فالتعزير في غير الأخير. فلا يحدّ قاذف الصبيّ والمجنون والمملوك والكافر، بل يعزّر؛ للإيذاء.
ص: 127
----------------------------------
وأمّا قذف غير العفيف فمقتضى العبارة إيجابه التعزير أيضاً، وبه صرّح في القواعد، والتحرير(1).
وتنظّر فيه شيخنا الشهيد (رحمه اللّه) من حيث دلالة الخبرين السابقين (2) على سقوط حرمته. ولعلّ القذف بالزنى مستثنى؛ لفحشه، وإطلاق النهي عنه.
وقد دلّ على نفي الحدّ بقذف الصبيّ والمجنون صحيحة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «لا حدّ لمن لا حدّ له، يعني لو أن مجنوناً قذف رجلاً لم يكن عليه حدّ. ولو قذفه رجل لم يكن عليه الحدّ»(3).
ورواية أبي مريم الأنصاري عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد سأله عن الغلام يقذف هل يجلد؟ قال: «لا، وذلك لو أنّ رجلاً قذف الغلام لم يجلد»(4).
وعلى نفيه بقذف الكافر رواية إسماعيل بن الفضيل قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الافتراء على أهل الذمّة وأهل الكتاب، هل يجلد المسلم الحدّ في الافتراء عليهم؟ قال: «لا ولكن يعزّر»(5).
وعلى نفيه بقذف المملوك رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «لو أتيت برجل قد قذف عبداً مسلماً بالزنى لا نعلم منه إلا خيراً لضربته الحدّ، حدّ الحرّ إلا سوطاً»(6). وهو دالّ على نفى الحدّ وإثبات التعزير.
ص: 128
• ولو قال لمسلم: «يا ابن الزانية» أو «أُمك زانية» وكانت أُمّه كافرةً أو أمةً قال في النهاية: عليه الحدّ تامّاً؛ لحرمة ولدها. والأشبه التعزير.
----------------------------------
وليس على انتفائه بقذف غير العفيف دليل صريح والروايتان السابقتان (1) غير صريحتين في ذلك، فينبغي حملهما على الاستخفاف به بغير القذف.
قوله: «ولو قال لمسلم: يا ابن الزانية، أو أمّك زانية وكانت أُمّه كافرةً» إلى آخره.
وجه وجوب التعزير خاصّة أنّ المنسوب إليه كافر فلا يجب بقذفه سوى التعزير، كما لو واجهه،به، ولأصالة براءة الذمّة من الزائد. وحرمة الولد غير كافية في تحصين الأمّ؛ لما تقدّم من أنّ من شرطه الإسلام، وهو منتف.
والشيخ (رحمه اللّه) استند في قوله بثبوت الحدّ(2) إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن اليهوديّة والنصرانيّة تحت المسلم فيقذف ابنها، قال: «يضرب القاذف؛ لأن المسلم قد حصّنها»(3).
وفيها قصور في السند والدلالة. أما الأوّل؛ فلأن في طريقها بنان بن محمد، وحاله مجهول، وأبان، وهو مشترك بين الثقة وغيره(4).
وأما الثاني فمن وجهين:
أحدهما: قوله «فيقذف ابنها» فإنّه أعم من كونه بنسبة الزني إليها، وإن كان ظاهر قوله «إنّ المسلم قد حصّنها» يشعر به، ولأن القذف بذلك ليس قذفاً لابنها، بل لها؛ ومن ثمّ كان المطالب بالحدّ هو الأمّ.
والثاني: من قوله «يضرب القاذف» فإنّه أعم من كونه حدّاً أو تعزيراً؛ لاشتراكهما في مطلق الضرب، ونحن نقول بأنه يثبت بذلك التعزير.
ص: 129
• ولو قذف الأب ولده لم يحدّ وعزّر. وكذا لو قذف زوجته الميّتة، ولا وارث إلّا ولد.ه نعم لو كان لها ولد من غيره، كان لهم الحدّ تامّاً.
ويحدّ الولد لو قذف أباه، والأم لو قذفت ولدها وكذا الأقارب
----------------------------------
هذا على الرواية التي رواها الشيخ في التهذيب.
وأمّا الكليني فإنّه رواها بطريق آخر، وليس فيه بنان. وذكر في متنها بدل قوله «ويضرب القاذف» و«يضرب حدّاً» إلى آخره. وعليه ينتفى الإيراد الأخير، ويؤيده التعليل بالتحصين.
ووافق الشيخ على ذلك جماعة (1)، وقبله ابن الجنيد. وذكر أنه مروي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2). قال:
وروى الطبري أنّ الأمر لم يزل على ذلك إلى أن أشار عبد اللّه بن عمر على عمر بن عبدالعزيز بأن لا يحدّ مسلم في كافر، فترك ذلك(3).
والأقوى الأوّل.
قوله: «ولو قذف الأب ولده لم يحد وعزّر» إلى آخره.
إذا قذف الأب ولده قذفاً يوجب الحدّ لو كان من غيره لم يحد لأجله؛ لأنّه لا يثبت على الأب عقوبةٌ لأجل ولده من قتل ولا حدّ وللإمام أن يعزّره من حيث فعله المحرم، لا لأجل حقّ ولده.
ويدلّ على جملة هذه الأحكام حسنة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قذف ابنه بالزني؟ قال: «لو قتله ما قتل به، وإن قذفه لم يجلد له». قلت: فإن قذف أبوه أُمّه؟
ص: 130
الرابع في الأحكام
وفيه مسائل
الأُولى : • إذا قذف جماعة واحداً بعد واحد، فلكلّ واحدٍ حدّ. ولو قذفهم بلفظ واحد وجاؤوا به مجتمعين فلكل حدّ واحد. ولو افترقوا في المطالبة فلكلّ واحدٍ حدّ.
----------------------------------
قال: «إن قذفها وانتفى من ولدها تلاعنا، ولم يلزم ذلك الولد الذي انتفى منه، وفرّق بينهما، ولم تحلّ له أبداً». قال: «وإن كان قال لابنه وأُمّه حيّة: يا ابن الزانية، ولم ينتف من ولدها، جلد الحدّ لها، ولم يفرّق بينهما». قال: «وإن كان قال لابنه: يا بن الزانية وأمه ميتة، ولم يكن لها من يأخذ بحقها منه إلّا ولدها منه، فإنّه لا يقام عليه الحدّ؛ لأنّ حقّ الحدّ قد صار لولده منها، وإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له، وإن لم يكن لها ولد من غيره، وكان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ، جلد لهم»(1).
قوله: «إذا قذف جماعة واحداً بعد واحد، فلكلّ واحدٍ حد» إلى آخره.
هذا التفصيل هو المشهور بين الأصحاب. ومستنده صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل افترى على قوم جماعة، فقال: «إن أتوا به مجتمعين ضرب حدّاً واحداً، وإن أتوا به متفرّقين ضرب لكلّ واحدٍ حدّاً»(2).
وإنّما حملناه على ما لو كان القذف بلفظ واحد مع أنّه أعم، جمعاً بينه وبين رواية الحسن العطّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قذف قوماً جميعاً، قال: «بكلمة واحدة؟»، قلت: نعم
ص: 131
• وهل الحكم في التعزير كذلك ؟ قال جماعة: نعم. ولا معنى للاختلاف هنا. وكذا لو قال: «يا ابن الزانيين» فالحدّ لهما، ويحد حدّاً واحداً مع الاجتماع على المطالبة، وحدين مع التعاقب.
----------------------------------
قال: «يضرب حدّاً واحداً، وإن فرّق بينهم في القذف ضرب لكلّ واحد منهم حدّاً»(1). بحمل الأُولى على ما لو كان القذف بلفظ واحد، والثانية على ما لو جاؤوا به مجتمعين.
وابن الجنيد (رحمه اللّه) عكس الأمر، فجعل القذف بلفظ واحدٍ موجباً لاتّحاد الحدّ مطلقاً، وبلفظ متعدّدٍ موجباً للاتّحاد إن جاؤوا به مجتمعين، والتعدّد إن جاؤوا به متفرّقين(2).
ونفى عنه في المختلف البأس؛ محتجاً بدلالة الخبر الأوّل عليه(3). وهو أوضح طريقاً؛ لأنّ في طريق الثاني أبان مطلقاً، وهو مشترك بين الثقة وغيره، والحسن العطار وهو ممدوح خاصّة (4).
وإنّما يتمّ دلالة الخبر الأوّل عليه إذا جعلنا «جماعةٌ » صفة للقذف المدلول عليه بالفعل وهو «افترى»، وأُريد بالجماعة القذف المتعدّد. ولو جعلناه صفةٌ مؤكّدةً للقوم شمل القذف المتحد والمتعدد، فالعمل به يقتضي التفصيل فيهما، ولا يقولون به. وفي الباب أخبار أخر مختلفة(5)، غير معتبرة الإسناد.
قوله: «وهل الحكم في التعزير كذلك؟ قال جماعة: نعم. ولا معنى للاختلاف هنا».
المشهور بين الأصحاب أنّ حكم التعزير حكم الحدّ في التفصيل السابق، فيتعدّد على فاعله إذا تعدد سببه بألفاظ متعدّدة لجماعة، بأن قال لكلّ منهم: «إنّه فاسق» مثلاً. وكذا مع
ص: 132
الثانية: • حدّ القذف موروث يرثه من يرث المال من الذكور والإناث، عدا الزوج والزوجة.
----------------------------------
اتّحاد اللفظ ومجيئهم به متفرّقين ويتّحد مع مجيئهم به مجتمعين ولا نصّ على حكم التعزير بخصوصه، لكن تداخل الحدّ يقتضي تداخل التعزير الأضعف بطريق أولى. وأمّا التعدّد فهو باق على حكم الأصل.
وأنكر ذلك ابن إدريس، وأوجب التعزير لكلّ واحدٍ مطلقاً محتجاً بتعدد السبب المقتضي لتعدّد المسبّب(1)، وإلحاقه بالحدّ قياس لا نقول به. ونحن نقول بموجبه إلّا أنّه قياس مقبول.
والمصنّف (رحمه اللّه) حقق هنا أنه لا معنى للاختلاف في التعزير؛ لأنّ المرجع في كمّيّته إلى نظر الحاكم. وحينئذٍ فلا يفرّق فيه بين المتّحد والمتعدّد؛ لأنّه إذا رأى صلاحاً في زيادته على المعزّر زاده بما يصلح أن يكون صالحاً للتعدّد على تقدير نقصانه عن ذلك، وبالعكس.
ويمكن أن يظهر للاختلاف معنى يدلّ على تقدير زيادة عدد المقذوفين عن عدد أسواط الحدّ، فإنّه مع الحكم بتعدّد التعزير يجب ضربه أزيد من الحدّ؛ ليخص كلّ واحد منهم سوطاً فصاعداً، وعلى القول باتّحاده لا يجوز له بلوغ الحدّ بالتعزير مطلقاً وقد تظهر الفائدة في صورة النقصان أيضاً.
قوله: «حد القذف موروث يرثه من يرث المال من الذكور والإناث» إلى آخره.
المراد يكون حدّ القذف موروثاً لمن ذكر أنّ لأقارب المقذوف الذين يرثون ماله أن يطالبوا به وكذا لكلّ واحدٍ منهم مع عفو الباقين. وليس ذلك على حدّ إرث المال فيرث كلّ واحدٍ حصّةً منه، بل هو مجرّد ولاية على استيفائه، فللواحد من الجماعة المطالبة بتمام الحدّ.
ص: 133
الثالثة: • لو قال: «ابنك زان» أو «لائط» أو «بنتك زانية» فالحدُّ لهما لا للمواجه. فإن سبقا بالاستيفاء أو العفو فلا بحث. وإن سبق الأب، قال في النهاية: له المطالبة والعفو.
وفيه إشكال؛ لأنّ المستحقّ موجود، وله ولاية المطالبة، فلا يتسلّط الأب، كما في غيره من الحقوق.
----------------------------------
وبهذا يجمع بين الحكم بكونه موروثاً وما ورد من الأخبار (1) بكونه غير موروث، بمعنى أنّه لا يورث على حدّ ما يورث المال، وإلا لورثه الزوجان، ولم يكن للواحد المطالبة بأزيد من حصته منه.
وفي رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سمعته يقول: «إنّ الحدّ لا يورث كما يورث الدية والمال والعقار، ولكن من قام به من الورثة وطلبه فهو وليّه، ومن تركه فلم يطلبه فلا حقّ له، وذلك مثل رجل قذف رجلاً وللمقذوف أخوان، فإن عفا عنه أحدهما كان للآخر أن يطالبه بحقه لأنها أمهما جميعاً، والعفو إليهما جميعاً»(2).
قوله: «لو قال ابنك زانٍ، أو لائط، أو بنتك،زانية، فالحدّ لهما لا للمواجه» إلى آخره.
قد تقدّم أن قوله: «ابنك كذا» ونحوه قذف للمنسوب إليه لا للمواجه (3)؛ لأنّه لم ينسب إليه فعلاً قبيحاً ولازم ذلك أنّ حقّ المطالبة والعفو فيه للمقذوف لا للمواجه، كما في غيره من الحقوق. وإلى هذا ذهب الأكثر.
وقال الشيخ في النهاية : إن للأب العفو والاستيفاء(4). واحتج له في المختلف بأن العار لاحق به، فله المطالبة بالحدّ والعفو(5). والكبرى ممنوعة.
ص: 134
الرابعة • إذا ورث الحدّ جماعة لم يسقط بعضه بعفو البعض، وللباقين المطالبة بالحدّ تامّاً ولو بقي واحد. أما لو عفا الجماعة، أو كان المستحقّ واحداً فعفا فقد سقط الحدّ.
ولمستحقّ الحدّ أن يعفو قبل ثبوت حقّه وبعده وليس للحاكم الاعتراض عليه ولا يقام إلّا بعد مطالبة المستحقّ.
----------------------------------
قوله: «إذا ورث الحدّ جماعة لم يسقط بعضه بعفو البعض» إلى آخره.
قد تقدم أنّ إرث الحدّ ليس على حدّ ميراث غيره(1)، وإنّما هو مجرّد ولاية، فلا يسقط جميعه ولا بعضه بعفو بعض الورثة، وإنّما يسقط بعفو الجميع؛ لأنّه حقّ آدمي فيقبل العفو كغيره من حقوقه ولا فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها، ولا بين وقوع العفو بعد المرافعة إلى الحاكم وقبله.
وللشيخ (رحمه اللّه) قول بأن المقذوفة لو رافعته إلى الحاكم لم يكن لها بعد ذلك العفو (2)؛ لصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يقذف امرأته، قال: «يجلد»، قلت: أرأيت إن عفت عنه، قال: «لا ولا كرامة»(3).
وحملها الشيخ على أنّ عفوها وقع بعد رفعه إلى الحاكم وعلمه؛ جمعاً بينها وبين ما دلّ على جواز العفو(4).
والصدوق في المقنع استثنى من ذلك الزوجة، فليس لها العفو مطلقاً (5)؛ عملاً بهذه الرواية، مع أنّها موقوفة كما رأيت فلا تصلح مستنداً للقولين، خصوصاً لقول الشيخ؛ فإنّه تخصيص بغير دليل. والأصحّ جواز العفو مطلقاً.
ص: 135
الخامسة: • إذا تكرّر الحدّ بتكرّر القذف مرّتين قتل في الثالثة. وقيل: في الرابعة. وهو أولى.
• ولو قذف فحد، فقال: الذي قلت كان صحيحاً، وجب بالثاني التعزير؛ لأنّه ليس بصريح، والقذف المتكرّر يوجب حدّاً واحداً لا أكثر.
السادسة: • لا يسقط الحدّ عن القاذف إلّا بالبيّنة المصدّقة، أو تصديق مستحقّ الحدّ أو العفو. ولو قذف زوجته سقط الحدّ بذلك وباللعان.
----------------------------------
قوله: «إذا تكرر الحدّ بتكرر القذف مرّتين قتل في الثالثة» إلى آخره.
قد عرفت أن القذف من الكبائر(1)، والرواية الصحيحة أن أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة (2). وقيل : في الرابعة (3). وهو أحوط في مراعاة حقّ الدماء. وقد تقدّم البحث في ذلك مراراً(4).
قوله: «ولو قذف فحد فقال : الذي قلت كان صحيحاً وجب بالثاني التعزير» إلى آخره.
يدلّ على جميع هذه الأحكام صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يقذف الرجل فيرد عليه القذف، قال: «إن قال له: إنّ الذي قلت لك حقّ لم يجلد، وإن قذفه بالزنى بعد ما جلد فعليه الحدّ، وإن قذفه قبل أن يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلّا حدّ واحد»(5).
قوله: «لا يسقط الحدّ عن القاذف إلا بالبيّنة المصدقة» إلى آخره.
قد عرفت أن من شرط ثبوت الحدّ على القاذف إحصان المقذوف الذي من جملته العفّة، فمن قذف من ظاهره العفّة حكم عليه بالحدّ؛ لوجود المقتضي. وإنما يسقط ما حكم به
ص: 136
السابعة: • الحدّ ثمانون جلدة، حرّاً كان أو عبداً. • ويجلد بثيابه ولا يجرّد. ويقتصر على الضرب المتوسط، ولا يبلغ به الضرب في الزني.
ويشهّر القاذف لتجتنب شهادته.
ويثبت القذف بشهادة عدلين أو الإقرار مرّتين. ويشترط في المقر التكليف، والحرّيّة والاختيار.
----------------------------------
ظاهراً بثبوت كون المقذوف غير عفيف عن زنى يوجب الحدّ، كما أشرنا إليه سابقاً، وذلك لا يحصل إلا بالبيّنة المصدّقة للقاذف في فعل ما قذفه به، أو بتصديق المقذوف على ذلك، فيظهر بأحدهما عدم وجوب الحدّ عليه في نفس الأمر، وأنه إنما ثبت ظاهراً. وعلى تقدير انتفاء الأمرين يثبت الحدّ في ذمّته، ويسقط عنه بعفو المقذوف عنه ؛ لما مرّ.
وهذه الأمور الثلاثة يشترك فيها جميع أفراد المقذوفين. وتزيد الزوجة أمراً رابعاً، وهو أنّ قذف الزوج لها يسقطه أيضاً لعانه لها، كما تقرر في بابه(1).
قوله: «الحد ثمانون جلدة حرّاً كان أو عبداً».
هذا في الحرّ موضع وفاق. وقد علم ذلك من قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ» إلى قوله: «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةٌ»(2). ولا فارق بين قدف الذكر والأنثى.
وأمّا إلحاق العبد به في ذلك فمستنده عموم الآية، وصريح الرواية (3). وقد تقدم البحث في ذلك (4).
قوله: «ويجلد بثيابه ولا يجرد - إلى قوله - ولا يبلغ به الضرب في الزنى».
يدلّ على ذلك موثقة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «المفتري يضرب بين
ص: 137
الثامنة : • إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ وعزّرا.
التاسعة • قيل: لا يعزّر الكفّار مع التنابز بالألقاب والتعيير بالأمراض، إلّا أن يخشى حدوث فتنة، فيحسمها الإمام بما يراه.
----------------------------------
الضربين، يضرب جسده كله فوق ثيابه»(1).
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن لا ينزع شيء من ثياب القاذف إلّا الرداء»(2).
وفي رواية مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): الزاني أشدّ ضرباً من شارب الخمر، وشارب الخمر أشدّ ضرباً من القاذف، والقاذف أشدّ ضرباً من التعزير»(3).
قوله: «إذا تقاذف اثنان سقط الحدّ وعزّرا».
يدلّ على ذلك صحيحة أبي ولاد قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول: «أُتي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجلين قذف كلّ واحدٍ منهما صاحبه بالزنى في بدنه، قال: فدرأ عنهما الحدّ وعزّرهما»(4).
ومثلها صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجلين افترى كلّ واحدٍ منهما على صاحبه، فقال: «يدرأ عنهما الحدّ ويعزّران»(5).
قوله: «قيل لا يعزر الكفّار مع التنابز بالألقاب والتعيير بالأمراض، إلّا أن يخشى حدوث فتنة، فيحسمها الإمام بما يراه».
التنابز بالألقاب: التداعي بها إذا كانت مشتملة على ذمّ. والقول بعدم تعزيرهم على ذلك، مع أنّ المسلم يستحقّ التعزير به هو المشهور بين الأصحاب، بل لم يذكر كثير
ص: 138
ويلحق بذلك مسائل أخر:
الأولى: من سب النبيّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) جاز لسامعه قتله، ما لم يخف الضرر على نفسه أو ماله، أو غيره من أهل الإيمان وكذا من سب أحد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).
----------------------------------
منهم(1) ما فيه خلافاً. وكأنّ وجهه تكافؤ السب والهجاء من الجانبين، كما يسقط الحدّ عن المسلمين بالتقاذف لذلك، ولجواز الإعراض عنهم في الحدود والأحكام، فهنا أولى.
نعم، لو خشي وقوع فتنة بينهم بسبب ذلك فله حسمها بما يراه من ضربهم أو بعضهم؛ دفعاً للفتنة، ولفعلهم المحرّم.
ونسب الحكم هنا إلى القيل مؤذناً بعدم قبوله. ووجهه أنّ ذلك فعل محرم يستحقّ فاعله التعزير، والأصل عدم سقوطه بمقالة الآخر بمثله، بل يجب على كلّ منهما ما اقتضاه فعله، فسقوطه يحتاج إلى دليل، كما يسقط الحدّ عن المتقاذفين بالنصّ.
قوله: «من سبّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جاز لسامعه قتله» إلى آخره.
هذا الحكم موضع،وفاق، وبه نصوص منها رواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، عن أبيه في حديث طويل من جملته: «أخبرني أبي أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: الناس فيّ أسوة سواء، من سمع أحداً يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني، ولا يرفع إلى السلطان، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منّي»(2).
وسُئل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمن سمع يشتم عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويبرأ منه فقال: «هو واللّه حلال الدم، وما ألف رجل منهم برجل منكم دعه»(3). وهو إشارة إلى خوف الضرر بقتله على بعض المؤمنين.
ص: 139
الثانية • من ادّعى النبوّة وجب قتله. وكذا من قال: «لا أدري محمّد بن عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) صادق أو لا» وكان على ظاهر الإسلام.
الثالثة: • من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلماً، ويؤدَّب إن كان كافراً.
----------------------------------
و عن هشام بن سالم قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تقول في رجل سبّابة لعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ فقال لي: «حلال الدم واللّه لولا أن تعم به بريئاً»(1).
وفي الحاق باقي الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) بذلك قوة؛ لأنّ كمالهم وتعظيمهم عُلم من دين الإسلام ضرورة، فستهم ارتداد ظاهر.
وأُلحق في التحرير بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أُمه وبنته من غير تخصيص بفاطمة (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، مراعاة لقدره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(2). ولا فرق في الساب بين المسلم والكافر والذمّي؛ لعموم النصّ(3).
وقد روي عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن يهوديّة كانت تشتم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتقع فيه، فخنقها رجل حتّى ماتت، فأبطل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دمها»(4).
قوله: «من ادّعى النبوّة وجب قتله» إلى آخره.
أمّا وجوب قتل مدّعى النبوّة فللعلم بانتفاء دعواه من دين الإسلام ضرورة، فيكون ذلك ارتداداً من المسلم، وخروجاً من الملل التي يقرّ عليها أهلها من الكافر، فيقتل لذلك.
وأمّا الشك في صدق النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإن وقع من المسلم فهو ارتداد.
واحترز بكونه على ظاهر الإسلام عمّا لو وقع ذلك من الكافر الذمّي، كاليهودي والنصراني؛ فإنّه لا يقتل به إقراراً لهم على معتقدهم. وكذا يخرج به غير الذمّي من الكفّار، وإن كان قتله جائزاً بأمر آخر.
قوله: «من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلماً، ويؤدب إن كان كافراً».
ص: 140
الرابعة: • يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط. وكذا المملوك.
----------------------------------
مستند الفرق ما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفّار لا يقتل»، قيل: يا رسول اللّه، ولم لا يقتل ساحر الكفّار ؟ فقال: «لأن الكفر أعظم من السحر، ولأنّ السحر والكفر مقرونان»(1).
وروى إسحاق بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن علياً كان يقول: من تعلّم من السحر شيئاً كان آخر عهده بربه، وحده القتل إلّا أن يتوب»(2). وقد تقدّم في كتاب البيع تحقيق معنى السحر وما يحرم منه(3).
قوله: «يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط. وكذا المملوك».
هذا النهى على وجه الكراهة؛ لأنّ المرجع في تقدير التأديب والتعزير إلى نظر الحاكم. ولا فرق بين كون سببه القذف وغيره من الأسباب المقتضية له.
وفي رواية حمّاد بن عثمان قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أدب الصبيّ والمملوك، قال: خمسة أو ستّة فارفق»(4).
وبمضمونها عبر الشيخ في النهاية(5)، ولم يذكر بلوغ العشرة.
وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ صبيان الكتاب ألقوا ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم، فقال: «إنّها حكومة، والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه»(6).
ص: 141
• وقيل: إن ضرب عبده في غير حدّ حدّاً لزمه إعتاقه. وهو على الاستحباب.
الخامسة: • كلّ ما فيه التعزير من حقوق اللّه سبحانه يثبت بشاهدين أو الإقرار مرّتين على قول.
----------------------------------
قوله: «وقيل: إن ضرب عبده في غير حدّ حدّاً لزمه إعتاقه. وهو على الاستحباب».
القول للشيخ (رحمه اللّه)، وظاهره أنه على وجه الوجوب؛ لأنّه قال: ومن ضرب عبده فوق الحدّ كانت كفارته أن يعتقه(1).
والمستند صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من ضرب مملوكاً حدّاً من الحدود، من غير حدّ أوجبه المملوك على نفسه، لم يكن لضاربه كفارة إلا عتقه»(2).
والمصنّف (رحمه اللّه) حمل ذلك على الاستحباب، ومقتضاه حمل القول. وينبغي أن يكون الحمل للرواية. والأقوى الاستحباب.
والقول الذي ذكره المصنّف موافق للرواية في كون الضرب حدّاً في غير موجب الحدّ.
وأمّا الشيخ ففرض المسألة فيما لو ضربه فوق الحدّ، ومقتضاه الزيادة عليه في الحدّ الذي استوجبه شرعاً، وهذا لا دليل عليه من النصّ.
قوله: «كلّ ما فيه التعزير من حقوق اللّه سبحانه يثبت بشاهدين أو الإقرار مرّتين على قول».
أما ثبوته بشاهدين فلا إشكال فيه؛ لأنّ ذلك حقّ ليس بمال، فلا يثبت بدونهما، ولا زنی، فلا يتوقّف على الزائد، فيدخل في عموم ما دلّ على اعتبار الشاهدين(3).
وأمّا توقّفه على الإقرار مرّتين فهو المشهور، ولم يذكر العلّامة فيه خلافاً (4).
ونسبة المصنّف (رحمه اللّه) الحكم إلى قول يؤذن برده؛ ووجهه عموم: «إقرار العقلاء
ص: 142
• ومن قذف أمته أو عبده عزّر، كالأجنبي.
السادسة: • كلّ من فعل محرماً أو ترك واجباً فللإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تعزيره بما لا يبلغ الحدّ. وتقديره إلى الإمام. ولا يبلغ به حدّ الحرّ في الحرّ، ولا حدّ العبد في العبد.
----------------------------------
على أنفسهم جائز»(1) الصادق بالمرّة، مع عدم وجود المخصص هنا، فيثبت بالإقرار مرّةً.
قوله: «ومن قذف أمته أو عبده عزّر، كالأجنبي».
العموم أدلّة القذف الشاملة للمولى وغيره(2). وقد روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالت: يا رسول اللّه إنّي قلت لأُمّتي: يا زانية، فقال: هل رأيت عليها زني؟ فقالت: لا، فقال: إنها تستقاد منك يوم القيامة، فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطاً ثمّ قالت: اجلديني، فأبت الأمة، فأعتقتها، ثمّ أتت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبرته، فقال: عسى أن يكون به»(3).
قوله: «كلّ من فعل محرّماً أو ترك واجباً فللإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لتعزيره» إلى آخره.
هذا هو الضابط الكلي في موجب التعزير ويدخل فيه كلّ ما لم يوجب الحدّ فيما سبق من أنواع القذف والسبّ وغيرهما، حتّى قذف الوالد ولده، والاستمتاع بغير الجماع من الأجنبيّة، والنظرة المحرّمة، وغير ذلك.
وكون تقديره إلى الإمام مطلقاً مبني على الغالب، وإلّا فقد عرفت أنّ منه ما هو مقدّر، وكون غايته أن لا يبلغ به الحدّ.
والأجود أنّ المراد به الحدّ لصنف تلك المعصية، بحسب حال فاعلها، فإن كان الموجب كلاماً دون القذف لم يبلغ تعزيره حدّ القذف. وإن كان فعلاً دون الزنى لم يبلغ حدّ الزني، وإلى ذلك أشار الشيخ (رحمه اللّه)(4) والعلّامة في المختلف(5).
ص: 143
ومباحثه ثلاثة:
الأوّل في الموجب
• وهو تناول المسكر أو الفقّاع اختياراً، مع العلم بالتحريم، إذا كان المتناول كاملاً. فهذه قيود أربعة.
شرطنا التناول ليعم الشرب والاصطباغ، وأخذه ممزوجاً بالأغذية والأدوية.
ونعني بالمسكر ما من شأنه أن يسكر؛ فإنّ الحكم يتعلّق بتناول القطرة منه.
ويستوي في ذلك الخمر وجميع المسكرات التمريّة والزبيبيّة والعسليّة، والمزر المعمول من الشعير أو الحنطة أو الذرة. وكذا لو عمل من شيئين أو ما زاد.
----------------------------------
الباب الرابع في حدّ المسكر والفقّاع
قوله - في الموجب - : «وهو تناول المسكر أو الفقّاع اختياراً، مع العلم بالتحريم، إذا كان المتناول كاملاً - إلى قوله والأدوية».
أراد بالتناول إدخاله إلى البطن بالأكل أو الشرب خالصاً وممتزجاً بغيره، سواء بقي مع مزجه متميّزاً أم لا.
ويخرج من ذلك استعماله بالاحتقان والسعوط حيث لا يدخل الحلق؛ لأنّه لا يعدّ تنأوّلاً، فلا يُحدّ به وإن حرم. مع احتمال حدّه على تقدير إفساده الصوم.
وعلى هذا فيحدّ الشارب من كوز ماء وقعت فيه قطرةً من خمر، وإن بقي الماء على
ص: 144
• ويتعلّق الحكم بالعصير إذا غلى وإن لم يقذف الزبد، إلا أن يذهب بالغليان ثلثاه، أو ينقلب خلاً، وبما عداه إذا حصلت فيه الشدّة المسكرة.
• أمّا التمر إذا غلى ولم يبلغ حدّ الإسكار ففي تحريمه تردّد، والأشبه بقاؤه على التحليل حتّى يبلغ.
وكذا البحث في الزبيب، إذا نقع بالماء فغلى من نفسه أو بالنار، فالأشبه أنّه لا يحرم ما لم يبلغ الشدَّة المسكرة.
----------------------------------
صفته. وكذا متناول الترياق المشتمل عليه، مع عدم الاضطرار إليه. ومعه على الخلاف السابق في باب الأطعمة(1).
قوله: «ويتعلّق الحكم بالعصير إذا غلى وإن لم يقذف الزبد» إلى آخره.
مذهب الأصحاب أنّ العصير العنبي إذا غلى بأن صار أسفله أعلاه يحرم، ويصير بمنزلة الخمر في الأحكام. ويستمر حكمه كذلك إلى أن يذهب ثلثاه، أو ينقلب إلى حقيقة أُخرى، بأن يصير خلاً أو دبساً على قول وإن بَعُد الفَرضُ؛ لأن صيرورته دبساً لا يحصل غالباً إلا بعد ذهاب أزيد من ثلثيه.
ونبّه بقوله «وإن لم يقذف بالزبد» على خلاف بعض العامّة، حيث وافقنا على تحريمه بل صرح بنجاسته، لكن شرط فيه قذفه بالزبد(2).
ولو طبخ العنب نفسه ففي إلحاقه بعصيره وجهان من عدم صدق اسم العصير عليه، ومن كونه في معناه.
قوله: «أمّا التمر إذا غلى ولم يبلغ حدّ الإسكار ففي تحريمه تردّد» إلى آخره.
وجه التردّد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلى من دعوى إطلاق اسم النبيّذ عليه
ص: 145
• والفقّاع كالنبيّذ المسكر في التحريم وإن لم يكن مسكراً، وفي وجوب الامتناع من التداوي به والاصطباغ.
----------------------------------
حينئذٍ، ومشابهته لعصير العنب، ومن أصالة الإباحة، ومنع إطلاق اسم النبيّذ المحرّم عليه حينئذٍ حقيقةً، ومنع مساواته لعصير العنب في الحكم لخروج ذلك بنصّ خاصّ، فيبقى غيره على أصل الإباحة. وهذا هو الأصحّ.
وأمّا نقيع الزبيب، أو هو إذا غلى ولم يذهب ثلثاه فقيل بتحريمه كعصير العنب؛ لاشتراكهما في أصل الحقيقة(1)، ولفحوى رواية على بن جعفر عن أخيه موسى(عَلَيهِمَا السَّلَامُ)(2).
والأصحّ حلّه؛ للأصل، واستصحاب الحلّ، وخروجه عن اسم العنب الذي عصيره عصيره متعلّق التحريم، ولذهاب ثلثيه بالشمس.
ودلالة الرواية على التحريم ممنوعة. وقد تقدم البحث في ذلك في الأطعمة (3).
قوله: «والفقّاع كالنبيّذ المسكر في التحريم وإن لم يكن مسكراً».
هذا مذهب الأصحاب، ورواياتهم به كثيرة، ومنها: «أنّه خمر مجهول»(4)، و «خمر استصغره الناس»(5). وفي صحيحة ابن بزيع عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الفقّاع، قال: «خمر، وفيه حدّ شارب الخمر»(6). وقد تقدم الكلام فيه وفي حقيقته في باب الأطعمة وما قبلها.
ص: 146
• واشترطنا الاختيار تفصياً من المكره، فإنّه لا حدّ عليه ولا يتعلّق الحكم بالشارب ما لم يكن بالغاً عاقلاً.
• وكما يسقط الحدّ عن المكره يسقط عمّن جهل التحريم، أو جهل المشروب.
• ويثبت بشهادة عدلين مسلمين ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولا منضمات. وبالإقرار دفعتين. ولا تكفي المرّة.
----------------------------------
قوله: «واشترطنا الاختيار تفصياً من المكره، فإنّه لا حدّ عليه» إلى آخره.
لا فرق في جوازه مع الإكراه بين من وجر في فمه قهراً، ومن ضرب أو خوف بما لا يحتمله عادةً حتّى شرب.
ويفهم من إخراج المكره منه خاصّة أنّ المضطر لا يخرج منه. والأصحّ خروج ما أوجب حفظ النفس من التلف كإساغة اللقمة، بل يجب ذلك؛ لوجوب حفظ النفس، وإن حرم التداوي به لذهاب المرض أو حفظ الصحة.
قوله: «وكما يسقط الحدّ عن المكره يسقط عمّن جهل التحريم، أو جهل المشروب».
يتصوّر قبول دعوى جهل التحريم من قريب العهد بالإسلام، وممّن نشأ في بلاد بعيدة عن معالمه، بحيث يمكن في حقّه ذلك.
ولو قال: «علمت التحريم ولم أعلم أن فيه حدّا» لم يُعذر، وأقيم عليه الحدّ؛ لأنّه إذا علم التحريم فحقّه أن يمتنع. وكذا يعذر جاهل عينه، بأن ظنّه ماءً أو شراباً محلّلاً.
ولو علم أنه من جنس المسكر، ولكن ظنّ أنّ ذلك القدر لا يسكر فليس بعذر؛ لوجوب اجتنابه مطلقاً. لكن يمكن هنا الجهل بالحكم، واختصاص التحريم بالقدر الذي يسكر بالفعل فيدرأ عنه الحدّ بذلك للشبهة.
قوله: «ويثبت بشهادة عدلين مسلمين» إلى آخره.
أما ثبوته بشهادة العدلين فلا كلام فيه كما مر في نظائره(1).
ص: 147
ويشترط في المقر البلوغ، وكمال العقل والحرّيّة والاختيار.
الثاني في كيفية الحدّ
• وهو ثمانون جلدة، رجلاً كان الشارب أو امرأة، حراً كان أو عبداً. وفي رواية يحدُّ العبد أربعين. وهى متروكة.
أمّا الكافر فإن تظاهر به حدّ، وإن استتر لم يحدَّ.
ويضرب الشارب عرياناً على ظهره وكتفيه، ويتقى وجهه وفرجه ولا يقام عليه الحدّ حتّى يفيق.
----------------------------------
وأمّا عدم قبول شهادة النساء به مطلقاً فلما تقدم من اختصاص شهادتهن بالمال(1)، أو بما لا يطّلع عليه الرجال غالباً.
وأمّا توقّفه على الإقرار مرّتين فهو المشهور. وقد تقدم البحث في نظيره (2).
قوله - في كيفية الحدّ -: «وهو ثمانون جلدة، رجلاً كان الشارب أو امرأة» إلى آخره.
تحديد حدّ الشرب بثمانين متّفق عليه بين الأصحاب. ومستندهم الأخبار (3). وسيأتي بعضها.
وروى العامّة والخاصّة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يضرب الشارب بالأيدي والنعال، ولم يقدّروه بعدد، فلمّا كان في زمن عمر استشار أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حدّه، فأشار عليه بأن يضربه ثمانين. وعلّله بأنّه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى فجلده عمر ثمانين(4). وعمل به أكثر العامّة.
ص: 148
----------------------------------
وذهب بعضهم إلى أربعين مطلقاً (1)؛ لما روي أنّ الصحابة قدروا ما فعل في زمانه بأربعين(2).
إذا تقرّر ذلك، فالمشهور بين الأصحاب أنّ الحرّ والعبد متساويان في حدّ الشرب. ذهب إلى ذلك الشيخان (3)، وأتباعهما(4)، وابن إدريس(5)، والمصنّف والعلّامة(6) وأكثر المتأخّرين؛ لروايات كثيرة دلّت على التسوية بينهما (7):
منها: رواية أبي بصير عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجلد الحرّ والعبد واليهودي والنصراني في الخمر والنبيّذ ثمانين»، فقلت: ما بال اليهودي والنصراني؟ فقال: «إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار ؛ لأنّه ليس لهم أن يتظاهروا بشربها»(8).
ورواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن الرجل إذا شرب الخمر سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى فاجلدوه جلد المفتري»(9). وهو مطلق شامل للحرّ والعبد.
وذهب الصدوق إلى تنصيفه على العبد (10)؛ لرواية أبي بكر الحضرمي قال: سألت
ص: 149
• وإذا حدّ مرّتين قتل في الثالثة وهو المرويّ. وقال في الخلاف يقتل في الرابعة. ولو شرب مراراً كفى حدّ واحد.
----------------------------------
أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن عبد مملوك قذف حرّاً، قال: «يجلد ثمانين، هذا من حقوق المسلمين فأما ما كان من حقوق اللّه فإنّه يضرب نصف الحدّ»، قلت: الذي من حقوق اللّه ما هو ؟ قال: «إذا زنى أو شرب الخمر فهذا من الحدود التي يضرب فيها نصف الحدّ»(1).
وهذا الخبر معلّل، وهو مقدم على غيره عند التعارض، كما حقّق في الأصول.
ويؤيّده رواية حمّاد بن عثمان قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): التعزير كم هو ؟ قال: «دون الحدّ»، قلت: دون ثمانين، فقال: «لا، ولكنّها دون الأربعين؛ فإنّها حدّ المملوك»، قلت: وكم ذاك؟ قال: «على قدر ما يرى الوالي من ذنب الرجل وقوّة بدنه»(2). وهو شامل بإطلاقه أو عمومه لأنواع الحدود.
والشيخ (رحمه اللّه) حمله على حدّ الزنى جمعاً. وحمله أيضاً على التقيّة (3).
والحقّ أنّ الطريق من الجانبين غير نقيّ، وأنّ رواية الحضر مي أوضح طريقاً، وتزيد التعليل، وينبغي أن يكون العمل بها أولى؛ لوقوع الشبهة في الزائد، فيدرأ بها، إلا أن المشهور الأوّل.
قوله: «وإذا حدّ مرّتين قتل في الثالثة» إلى آخره.
قد تقدّم الكلام في قتل المحدود في الثالثة أو الرابعة مراراً(4)، ويزيد هنا أنّ الروايات بقتله في الثالثة(5) كثيرة، فمن ثمّ اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، ولم يجعل قتله في الرابعة أولى كما صنع في السابق(6).
ص: 150
----------------------------------
ومن المختصّ هنا من الروايات صحيحة أبي عبيدة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه»(1).
وصحيحة جميل بن درّاج عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إذا شرب ضُرب، فإن عاد ضرب، فإن عاد قتل»(2).
وصحيحة سليمان بن خالد قال: «كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يضرب في النبيّذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر، ويقتل في الثالثة كما يقتل في الخمر»(3). وغيرها من الأخبار الكثيرة(4).
والقول بقتله في الرابعة للشيخ في المبسوط، والخلاف(5)، وقبله الصدوق في المقنع(6). ورجحه الشيخ فخر الدين؛ محتجاً بأنّ الزنى أكبر منه ذنباً، ويقتل في الرابعة كما مضى، فهنا أولى (7).
وفي معارضة هذا للأخبار الكثيرة الصحيحة منع ظاهر، والأصل ممنوع، بل هذا يدلّ على قوّة قتل الزاني وغيره من أصحاب الكبائر في الثالثة؛ لأنّ عقوبة هذا أخفّ من غيره. والروايات الكثيرة بقتله في الثالثة مؤيدة للرواية الصحيحة السابقة بقتل أصحاب الكبائر في الثالثة(8).
ص: 151
الثالث في أحكامه
وفيه مسائل
الأولى: • لو شهد واحد بشربها وآخر بقيئها وجب الحدّ. ويلزم على ذلك وجوب الحدّ لو شهدا بقيئها؛ نظراً إلى التعليل المرويّ. وفيه تردّد؛ لاحتمال الإكراه على بعد.
ولعلّ هذا الاحتمال يندفع بأنه لو كان واقعاً لدفع به عن نفسه. أمّا لو ادّعاه فلا حدّ.
----------------------------------
قوله: «لو شهد واحد بشربها وآخر بقيئها وجب الحدّ» إلى آخره.
الأصل في هذه المسألة رواية الحسين بن زيد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ): «أنّ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) جلد الوليد بن عقبة لما شهد عليه واحد بشربها وآخر بقيئها، وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما قاءها إلّا وقد شربها»(1).
وعليها فتوى الأصحاب، ليس فيهم مخالف صريحاً، إلّا أنّ طريق الرواية ضعيف؛ لأنّ فيه موسى بن جعفر البغدادي وهو مجهول الحال(2)، وجعفر بن يحيى وهو مجهول العين(3). و عبداللّه بن عبد الرحمن وهو مشترك بين الثقة والضعيف(4). فلذلك قال السيّد جمال الدين بن طاوس (قدّس سرّه) في الملاذ : لا أضمن درك طريقه. وهو مشعر بتردّده(5).
ص: 152
الثانية: • من شرب الخمر مستحلاً استتيب فإن تاب أقيم عليه الحدّ، وإن امتنع قُتل. وقيل: يكون حكمه حكم المرتدّ وهو قويّ.
أمّا سائر المسكرات فلا يقتل مستحلّها؛ لتحقّق الخلاف بين المسلمين فيها. ويقام الحدّ مع شربها مستحلاً ومحرّماً.
----------------------------------
والمصنّف (رحمه اللّه) هنا صرّح بالتردّد، من حيث إنّ القيء وإن استلزم الشرب إلّا أنّ مطلق الشرب لا يكفي في إثبات الحدّ، بل لا بد له من وقوعه على وجه الاختيار، ومطلقه أعمّ منه ومن الإكراه.
ويضعّف بأنّ الأصل عدم الإكراه، ولأنّه لو وقع لادعاه. فإن اتّفق دعواه سمع منه، ودرئ عنه الحدّ.
ويشترط مع ذلك إمكان مجامعة القيء للشرب المشهود به؛ لتكون الشهادة على فعل واحد. فلو شهد أحدهما أنه شربها يوم الجمعة، والآخر أنّه قاءها قبله بيوم أو بعده كذلك لم يُحدّ.
ويتفرّع عليه ما لو شهدا معاً بقيئها. فعلى القول بقبول شهادة الواحد به يقبل الاثنان؛ نظراً إلى التعليل المذكور. وربما قصره بعضهم على موضع النصّ (1)؛ نظراً إلى قيام الاحتمال المذكور، وكونها شهادة على فعلين. والأشهر القبول.
قوله: «من شرب الخمر مستحلاً استتيب، فإن تاب أقيم عليه الحدّ، وإن امتنع قتل. وقيل : يكون حكمه حكم المرتد. وهو قوي» إلى آخره.
القول باستتابته للشيخين (2) وأتباعهما (3)، من غير نظر إلى الفطري وغيره؛ استناداً إلى إمكان عروض شبهة في الشرب فاستحلّه، والحدود تدراً بالشبهات.
ص: 153
الثالثة • من باع الخمر مستحلاً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وإن لم يكن مستحلاً عُزْر. وما سواه لا يقتل وإن لم يتب، بل يؤدَّب.
----------------------------------
والأصحّ ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) والمتأخّرون - ومنهم ابن إدريس (1) - من كونه مرتدّاً، فينقسم إلى الفطري والملّي كغيره من المرتدين؛ لأنّ تحريم الخمر ممّا قد علم ضرورةً من دين الإسلام، وكلّ ما كان كذلك فمستحله كافر، وهو يستلزم المدعى.
هذا إذا لم يمكن الشبهة في حقه؛ لقرب عهده بالإسلام ونحوه، وإلّا اتّجه قول الشيخين.
وعليه تحمل استنابة قدامة بن مظعون وغيره ممن استحلّها في صدر الإسلام بالتأويل(2).
هذا حكم الخمر. وأما غيره من المسكرات والأشربة -كالفقّاع - فلا يقتل مستحلّها مطلقاً وإن وجب حدّه؛ لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين، وتحليل بعضهم إياها، فيكون ذلك كافياً في انتفاء الكفر باستحلالها.
ولا فرق بين كون الشارب لها ممّن يعتقد إباحتها -كالحنفي - وغيره، فيحدّ عليها ولا يكفّر؛ لأنّ الكفر مختص بما وقع عليه الإجماع وثبت حكمه ضرورة من دين الإسلام وهو منتف في غير الخمر.
قوله: «من باع الخمر مستحلاً يستتاب، فإن تاب وإلّا قتل» إلى آخره.
بيع الخمر ليس حكمه كشربه، فإنّ الشرب هو المعلوم تحريمه من دين الإسلام كما ذكر، وأمّا مجرّد البيع فليس تحريمه معلوماً ضرورةً، وقد تقع فيه الشبهة، من حيث إنه يسوغ تناوله على بعض وجوه الضرورات كما سلف(3). فيعزر فاعله ويستتاب إن فعله مستحلاً، فإن تاب قبل منه، وإن أصرّ على استحلاله قتل حدّاً. وكأنه موضع وفاق. وما وقفت على نص يقتضيه.
ص: 154
الرابعة: • إذا تاب قبل قيام البيّنة سقط الحدّ. وإن تاب بعدها لم يسقط. ولو كان ثبوت الحدّ بإقراره كان الإمام مخيّراً. ومنهم من منع التخيير، وحتّم الاستيفاء هنا. وهو أظهر.
----------------------------------
وأمّا بيع غيره من الأشربة فلا إشكال في عدم استحقاقه القتل مطلقاً، لقيام الشبهة. نعم، يعزّر لفعل المحرّم، كغيره من المحرمات.
قوله: «إذا تاب قبل قيام البيّنة سقط الحدّ. وإن تاب بعدها لم يسقط» إلى آخره.
التوبة قبل ثبوت موجب العقوبة عند الحاكم مسقطة للحدّ مطلقاً. وأما بعده، فإن كان الثبوت بالبيّنة لم يسقط إذا كان حدّاً، خلافاً لأبي الصلاح حيث جوّز للإمام العفو(1).
وأمّا بعد الإقرار فالمشهور أنه يسقط تحتم الحدّ، ويتخيّر الإمام بين العفو والاستيفاء، لإسقاط التوبة تحتّم أقوى العقوبتين وهو الرجم؛ فلأن يسقط تحتم أضعفهما أولى. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية (2) وأتباعه (3)، والعلّامة في المختلف (4).
وقال الشيخ في المبسوط، والخلاف(5)، وابن إدريس(6)، والمصنّف: لا يسقط، بل يتحتّم الحدّ؛ لثبوته بالإقرار فيستصحب، ولأن التوبة موضع التهمة وهذا أقوى.
وأُجيب عن حجّة الأوّلين بوجود الفارق بين الرجم وغيره، من حيث تضمنه تلف النفس المأمور بحفظها شرعاً، بخلاف صورة الفرض(7).
ص: 155
تتمّة تشمل مسائل
الأولى: • من استحلَّ شيئاً من المحرمات المجمع عليها، كالميتة والدم والربا ولحم الخنزير، ممّن ولد على الفطرة يقتل. ولو ارتكب ذلك لا مستحلاً عُزر.
----------------------------------
والحقّ الرجوع في الحكم إلى الأصل، وهو إثبات الحدّ إلى أن يثبت دليل صالح للإسقاط، ولم يحصل.
قوله: «من استحلّ شيئاً من المحرمات المجمع عليها، كالميتة والدم والربا ولحم الخنزير، ممّن ولد على الفطرة يقتل. ولو ارتكب ذلك لا مستحلاً عُزر».
مستحلّ المحرّم إن كان ثبوته معلوماً من الشرع ضرورةً فلا شبهة في كفره؛ لأنّه حينئذٍ رادّ للشرع الذي لا يتحقّق الإسلام بدون قبوله ولو بالاعتقاد.
وإن كان مجمعاً عليه بين المسلمين ولكن لم يكن ثبوته ضروريّاً، فمقتضى عبارة المصنّف (رحمه اللّه) وكثير من الأصحاب الحكم بکفره أيضاً؛ لأنّ إجماع جميع فرق المسلمين عليه يوجب ظهور حكمه، فيكون أمره كالمعلوم.
ويشكل بأنّ حجّيّة الإجماع ظنّيّة لا قطعية، ومن ثمّ اختلف فيها وفي جهتها. ونحن لا نكفر من ردّ أصل الإجماع، فكيف نكفّر من ردّ مدلوله؟! فالأصحّ اعتبار القيد الأخير.
وأمّا مخالف ما أجمع عليه الأصحاب خاصّة فلا يكفّر قطعاً وإن كان ذلك عندهم حجّة، فما كلّ من خالف حجّة يكفّر، خصوصاً الحجّة الاجتهادية الخفية جدّاً كهذه.
وقد أغرب الشيخ (رحمه اللّه) حيث حكم في بعض المسائل بكفر مستحلّ ما أجمع عليه الأصحاب(1). وقد تقدّم بعضه في باب الأطعمة والأشربة (2). ولا شبهة في فساده.
ص: 156
الثانية: • من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له. وقيل: تجب على بيت المال. والأوّل مرويّ.
----------------------------------
هذا كله إذا لم يدّع شبهة محتملة في حقّه وإلّا قبل منه ولو ارتكب ذلك غير مستحلّ عزّر إن لم يكن الفعل موجباً للحد، وإلا دخل التعزير في ضمنه.
قوله : «من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له. وقيل : تجب على بيت المال والأوّل مرويّ».
عدم ثبوت الدية على التقديرين هو الأظهر؛ لأنّه فعل سائغ أو واجب فلا يتعقّبه الضمان، ولأنّ الإمام محسن في امتثال أوامر اللّه تعالى وإقامة حدوده، و«مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ»(1).
ولحسنة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال : «أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له»(2). و «أيّ» من صيغ العموم. وكذا «الحدّ» عند من جعل المفرد المعرف للعموم من الأصوليّين(3).
والقول بضمانه في بيت المال للمفيد (رحمه اللّه) لكنّه شرط كون الحدّ للناس(4)، فلو كان للّه لم يضمن لما روي أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: «من ضربناه حدّاً من حدود اللّه فمات فلادية له علينا، ومن ضربناه حدّاً في شيء من حقوق الناس فمات فإنّ ديته علينا»(5).
ومقتضى هذا القول تخصيص الحدّ، وأنّ المراد ببيت المال بيت مال الإمام لا بيت مال المسلمين.
ص: 157
الثالثة: • لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال، ولا يضمنها الحاكم ولا عاقلته.
----------------------------------
وفي الاستبصار أنّ الدية في بيت المال، جمعاً بين الأخبار(1)، مع أن الرواية المروية عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضعيفة السند(2).
ويظهر من المبسوط والخلاف أنّ الخلاف في التعزير لا في الحدّ(3)؛ لأنّه مقدر فلا خطأ فيه، بخلاف التعزير فإن تقديره مبني على الاجتهاد الذي يجوز فيه الخطأ.
وهذا يتم مع كون الحاكم الذي يقيم عليه الحدّ غير معصوم، وإلا لم يفرّق الحال بين الحدّ والتعزير، والمسألة مفروضة فيما هو أعمّ من ذلك.
وقد ظهر أنّ الخلاف في حدّ الآدمي والتعزير والروايات دالة على الحدّ أو الأعمّ(4) من حيث إن التعزير حدّ. والأقوى عدم الضمان مطلقاً.
قوله: «لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال، ولا يضمنها الحاكم ولا عاقلته».
لأن ذلك من خطأ الحكام، وخطؤهم في بيت المال؛ لأنّه معدّ للمصالح.
وكذا القول في الكفّارة هنا وفي المسألة السابقة.
وقيل : تجب في ماله ؛ لأنّه قتل خطأ. وتردّد الشيخ في المبسوط (5) في الكفّارة. وكذلك في المختلف(6).
ص: 158
• ولو أنفذ إلى حامل لإقامة حدّ فأجهضت خوفاً، قال الشيخ: دية الجنين في بيت المال. وهو قويّ؛ لأنّه خطأ، وخطأ الحكام فى بيت المال. وقيل: يكون على عاقلة الإمام. وهي قضيّة عمر مع عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).
----------------------------------
قوله: «ولو أنفذ إلى حامل لإقامة حدّ فأجهضت خوفاً، قال الشيخ: دية الجنين في بيت المال. وهو قوي» إلى آخره.
القول بكون دية الجنين في بيت المال هو الموافق لقواعد الأصحاب، وهو قول الأكثر، لأن خطأ الحكام محله بيت المال.
والقول بكونه على عاقلة الإمام لابن إدريس ؛ محتجاً بأنه خطأ محض(1)؛ لأنّه غير عامد في فعله ولا قصده؛ لأنّه لم يقصد الجنين مطلقاً وإنّما قصد أُمّه، فتكون الدية على عاقلته والكفّارة في ماله.
وهو موافق للرواية المشهورة (2) من قضاء أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث أرسل عمر خلف حامل ليقيم عليها الحدّ فأجهضت، فسأل عمر الصحابة عن ذلك فلم يوجبوا عليه شيئاً. فقال: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فتنصل من الجواب، فعزم عليه، فقال: «إن كان القوم قد قاربوك فقد غشّوك، وإن كانوا قد ارتأوا فقد قصروا الدية على عاقلتك؛ لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك» فقال: أنت واللّه نصحتني من بينهم فقال: واللّه لا تبرح حتّى تجري الدية على بني عدي، ففعل ذلك (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
ص: 159
• ولو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحدّ فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحداد؛ لأنّه شبيه العمد ولو كان سهواً فالنصف على بيت المال.
ولو أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحداد عمداً، فالنصف على الحداد في ماله. ولو زاد سهواً فالدية على عاقلته. وفيه احتمال آخر.
----------------------------------
و أجيب عن الرواية بأنه لم يرسل إليها بعد ثبوت ذلك عنها، ولأنّه لم يكن حاكماً عند عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
وفيه نظر؛ لأنّ جواز الإرسال خلف الغريم لا يتوقّف على ثبوت الحق عليه، فإنّ مجرّد الدعوى عليه حقّ، إلّا أن يقال: إنّ هنا لم يكن عليها مدع حسبةً ولا شاهد. وهو بعيد.
وأمّا الجواب الثاني فلا يليق بذلك المقام، ولا كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتجاهر بحكمه، ولا كان يسمع منه، والأُولى في ذلك أن الرواية لم ترد بطريق معتمد عليه، فالرجوع إلى الأصول المقرّرة متعيّن.
قوله: «ولو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحدّ فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحدّاد» إلى آخره.
إذا أمر الحاكم - والمراد به غير المعصوم - بضرب المحدود زيادة عن القدر الواجب، فمات المحدود بسبب الضرب، فعلى الحاكم نصف الدية؛ لأنّه مات بسببين أحدهما سائغ، والآخر مضمون على الحاكم في ماله؛ لأنّه شبيه عمد من حيث قصده للفعل دون القتل.
ولو كان أمره بالزيادة سهواً لغلطه في الحساب، فنصف الدية على بيت المال؛ لأنّه من خطأ الحكّام.
ص: 160
----------------------------------
هذا إذا لم يعلم الحداد بالحال، وإلا كان متعمداً، فيكون عليه القصاص؛ لأنّه باشر الإتلاف.
هكذا أطلق في التحرير(1). وينبغي تقييده بقصده القتل أو كون ذلك ممّا يقتل غالباً، وإلّا لم يتّجه القصاص.
ولو كان الحاكم قد أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحداد عمداً، فالحكم كما سبق في تعمده مع الأمر وأولى.
وإن زاد سهواً، قال المصنّف (رحمه اللّه) : إنّ الدية على عاقلته. وهو يحتمل إرادة مجموع الدية، نظراً إلى أنه قتل عدوان وإن حصل من فعله تعالى وعدوان الضارب، فيحال الضمان كله على العادي، كما لو ضرب مريضاً مشرفاً على التلف، أو ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرّقها واستناد موته إلى الزيادة، ولا يسقط بسبب الضرب السائغ شيء. لكن لا يوافق السابق.
وأن يريد به الدية اللازمة عن الزيادة، وهي النصف لموته بالسببين. وهذا هو المطابق لما سلف. وبه صرّح في التحرير(2).
والاحتمال الآخر الذي أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) يحتمل أن يريد به توزيع الدية على الأسواط الزائدة والواقعة في الحدّ، فيسقط منها بحساب الحدّ؛ لأنّ السبب مركّب من المجموع.
وأن يريد به ثبوت نصف الدية في ماله على تقدير السهو؛ لأنّه قاصد للفعل، وإنّما أخطأ في قصد القتل.
وأن يريد ذلك مع ثبوت القصاص عليه مع التعمّد مطلقاً، مع ردّ نصف الدية عليه، أو بحساب الأسواط.
ص: 161
والكلام في السارق، والمسروق، والحجة، والحدّ، واللواحق.
ويشترط في وجوب الحدّ عليه شروط:
الأوّل: • البلوغ، فلو سرق الطفل لم يحد، ويؤدَّب، ولو تكرّرت سرقته. وفي النهاية: يعفا عنه أوّلاً، فإن عاد أدب، فإن عاد حكت أنامله حتّى تدمي، فإن عاد قطعت أنامله، فإن عاد قطع كما يقطع الرجل. وبهذا روايات.
----------------------------------
الباب الخامس في حدّ السرقة
قوله - في شرائط السارق -: «البلوغ، فلو سرق الطفل لم يحد، ويؤدب، ولو تكرّرت سرقته» إلى آخره.
ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من عدم ثبوت القطع على الصبيّ مطلقاً هو المشهور بين المتأخّرين. وهو الموافق للأصل من ارتفاع القلم عن الصبي حتّى يبلغ(1)، وأنّه غير مؤاخذ شرعاً على أقواله ولا على أفعاله ؛ لأنّه لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء.
نعم، يؤدّب بما يراه الحاكم حسماً للمادة.
ص: 162
الثاني: • العقل، فلا يقطع المجنون، ويؤدَّب وإن تكرّر منه.
----------------------------------
والقول الذي نقله عن الشيخ في النهاية (1) وافقه عليه القاضي (2) والعلّامة في المختلف(3)، لكثرة الأخبار الواردة به(4)، فمنها صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الصبيّ يسرق قال: «يعفا عنه مرّة،ومرّتين، ويعزّر في الثالثة، فإن عاد قطعت أطراف أصابعه، فإن عاد قطع أسفل من ذلك»(5). و
صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: سألته عن الصبيّ يسرق، قال: «إذا سرق وهو صغير يعفا عنه، فإن عاد قطع بنانه، فإن عاد قطع أسفل من بنائه، فإن عاد قطع أسفل من ذلك»(6).
وحسنة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا سرق الصبيّ عفي عنه، فإن عاد عزّر، فإن عاد قطع أطراف الأصابع، فإن عاد قطع أسفل من ذلك»(7).
وقال: «أُتي عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بغلام يشك في احتلامه، فقطع أطراف الأصابع»(8).
وهذه الروايات مع وضوح سندها وكثرتها مختلفة الدلالة، وينبغي حملها على كون الواقع تأديباً منوطاً بنظر الإمام، لا حدّاً.
قوله: «العقل فلا يقطع المجنون، ويؤدَّب وإن تكرّر منه».
هذا إذا سرق في حال جنونه. أما لو سرق عاقلاً ولو في حال إفاقته -كذي الأدوار- قطع، ولا يمنعه اعتراض الجنون، استصحاباً لما ثبت قبله.
ص: 163
الثالث • ارتفاع الشبهة، فلو توهّم الملك فبان غير مالك لم يقطع وكذا لو كان المال مشتركاً فأخذ ما يظنّ أنّه قدر نصيبه.
----------------------------------
ونبّه بقوله «وإن تكرّر منه» على مخالفة حكمه للصبيّ، حيث قيل فيه مع التكرار بالقطع في الجملة (1). والفارق النصّ(2). ولكن يؤدب بما يراه الحاكم؛ حسماً لجرأته.
وفي التحرير نسب تأديبه إلى القيل (3). ولعلّه لعدم تمييزه الموجب لارتداعه بالتأديب عن المعاودة. ولكن هذا يختلف باختلاف أحوال المجانين، فإنّ منهم من يردعه التأديب وهم الأكثر، ومنهم من لا يشعر بذلك، والجنون فنون وإناطة التأديب برأي الحاكم تحصل المطلوب.
قوله: «ارتفاع الشبهة، فلو توهّم الملك فبان غير مالك لم يقطع» إلى آخره.
أمّا انتفاء القطع مع توهّم الملك فواضح؛ لأنّه شبهة والحد يدرأ بالشبهة، والقطع من أفراد الحدود.
وأمّا انتفاؤه مع أخذه من المال المشترك ما يظنّه قدر نصيبه؛ فلأنه مع مطابقة الواقع لظنّه أو نقصانه عن النصيب يمكن أن يقع جميع المأخوذ في نصيبه عند القسمة، فلا يكون قد أخذ من مال غيره شيئاً، ومع ظهور خطأ ظنّه وزيادة المأخوذ عن نصيبه بقدر النصاب يكون ذلك شبهة يدرأ بها الحدّ. ويشترك الجميع في أنّ القسمة وإن كانت فاسدة فإنّها تصير شبهة دارئة. كذا أطلقه جماعة(4).
وقيّده بعضهم بما إذا كان المال المشترك ممّا يجري فيه الإجبار على القسمة كالحبوب
ص: 164
الرابع: • ارتفاع الشركة، فلو سرق من مال الغنيمة فيه روايتان: إحداهما: يقطع. والأخرى: إن زاد ما سرقه عن نصيبه بقدر النصاب، قطع. والتفصيل حسن.
----------------------------------
وسائر الأموال المثلية، ليمكن فرض تعاطيه القسمة بنفسه، وجعلها شبهة دارثة للحدّ وإن كانت فاسدة. فلو كان ممّا لا يجري فيه الإجبار كالثياب وسرق منه نصف دينار يشتركان فيه على السوية، أو ثلاثة أرباع ممّا ثلثاه للسارق قطع (1)؛ لأنّه لا يجري (2) فيه الأخذ بدون إذن الشريك.
وفي كلّ واحد من القسمين نظر؛ لأن قسمة الإجبار لا يجوز للشريك الاستبداد بها مطلقاً، بل مع امتناع الشريك من القسمة، وهي مفروضة فيما هو أعم من ذلك.
والحقّ أنّ أخذ المال المشترك مطلقاً حيث لا يجوز الاستبداد بقسمته للشريك، إن كان يتوهم الآخذ جواز استبداده بالأخذ بنفسه فهو كتوهم الملك في السابق، فيعذر للشبهة، بل هنا أولى، لتحقّق ملكه في الجملة.
وإن كان يعلم عدم جواز الاستبداد بالقسمة أو بالأخذ بدون إذن الشريك، احتمل أن يقطع مع أخذه من نصيب الشريك قدر النصاب لوجود المقتضي للقطع، وهو سرقة مال الغير بشرطه، وانتفاء المانع، إذ ليس إلا كونه شريكاً، وهو لا يكفي في المانعيّة.
والتفصيل بزيادة المأخوذ عن قدر نصيبه بقدر النصاب للروايات الآتية الدالّة على عدم قطع الغانم بسرقته من الغنيمة قدر نصيبه فما دون(3) ولا فرق على التقديرين بين قبوله للقسمة وعدمه.
قوله: «ارتفاع الشركة فلو سرق من مال الغنيمة، فيه روايتان» إلى آخره.
الرواية الأُولى رواها محمد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 165
----------------------------------
في رجل أخذ بيضة من المغنم، وقالوا: قد سرق اقطعه، فقال: إني لم أقطع أحداً له فيما أخذ شرك»(1).
وقريب منها رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أربعة لا قطع عليهم المختلس، والغلول، ومن سرق من المغنم، وسرقة الأجير؛ لأنها خيانة»(2). وعمل بمضمونها المفيد (3)، وسلّار(4) من المتقدمين، وفخر الدين (5) من المتأخّرين.
وفي طريق الرواية الأُولى سهل بن زياد(6)، مع كون محمد بن قيس مشتركاً بين الثقة وغيره(7). وحال الثانية واضح بالسكوني(8).
وأمّا الرواية الأخرى فرواها عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت: رجل سرق من المغنم، أيّ شيء يجب عليه أن يقطع؟ قال: «ينظركم الذي يصيبه، فإن كان الذي أخذ أقلّ من نصيبه عزّر ودفع إليه تمام ماله، وإن كان أخذ مثل الذي له فلا شيء عليه، وإن كان أخذ فضلاً بقدر ثمن مجن - وهو ربع دينار قطع»(9).
ص: 166
• ولو سرق من المال المشترك قدر نصيبه لم يقطع. ولو زاد بقدر النصاب قطع.
----------------------------------
والعمل على هذه الرواية أولى؛ لصحتها وموافقتها للقواعد الشرعيّة، وعمل أكثر الأصحاب بمضمونها. وفيها دلالة على أنّ الغانم يملك نصيبه من الغنيمة بالحيازة، أو على أن القسمة كاشفة عن سبق ملكه بها.
وفي المسألة رواية أخرى بقطعه مطلقاً، رواها عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن البيضة التي قطع فيها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «كانت بيضة حديد سرقها رجل من المغنم فقطعه»(1).
وهذه الرواية أجود إسناداً من الأولى، وهي دالة على خلاف ما دلّت عليه. وحملت على ما إذا زادت عن نصيب السارق بمقدار النصاب فصاعداً جمعاً، أو على كون السارق ليس من الغانمين، إذ لا دلالة فيها على كونه منهم(2). وكلاهما حسن
قوله: «ولو سرق من المال المشترك قدر نصيبه لم يقطع ولو زاد بقدر النصاب قطع».
قد تقدّم الكلام في هذه المسألة(3)، وإنما ذكرها مرّتين لمناسبة الأُولى لشرط ارتفاع الشبهة بتقدير عروضها للشريك وإن زاد عن نصيبه ومناسبة هذه لشرط انتفاء الشركة على تقدير انتفاء الشبهة، ومن ثمّ فرضها على تقدير أخذ الشريك بقدر نصيبه جزماً، وأخذه الزائد بقدر النصاب جزماً.
ووجهه عدم القطع مع أخذه بقدر حقه، وثبوته مع الزيادة بقدر النصاب يظهر من الروايات المذكورة في السرقة من الغنيمة(4) ؛ لأن شركة الغانم أضعف من شركة المالك الحقيقي للخلاف في ملكه، فإذا قيل بعدم قطع الغانم فالشريك أولى.
ص: 167
الخامس: • أن يهتك الحرز، منفرداً كان أو مشاركاً. فلو هتك غيره وأخرج هو لم يقطع.
----------------------------------
قوله: «أن يهتك الحرز منفرداً كان أو مشاركاً. فلو هتك غيره وأخرج هو لم يقطع».
هذا يتضمّن شرطين:
أحدهما: كون المال محرزاً، فلا قطع في سرقة ما ليس بمحرز؛ لما روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لا قطع في ثمر معلّق ولا في حريسة جبل، فإذا آواها المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن»(1).
وحريسة الجبل: ما سرق من الجبل من المواشي (2). ويقال: إن سارقها يسمّى حارساً.
واشترط (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للقطع إيواء المراح أو الجرين، فدل على أنّه لا قطع فيما لم يحرز.
وعن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يقطع إلا من نقب نقباً أو كسر قفلاً»(3).
والثاني: أن يكون الآخذ هو مهتك الحرز، إما بالنقب أو فتح الباب أو كسر القفل، ونحو ذلك. فلو هتك الحرز واحد وأخذ آخر فلا قطع على أحدهما.
أما الأوّل فلأنّه لم يسرق. وأما الثاني؛ فلأنه لم يأخذ من حرز.
ويجب على الأوّل ضمان ما أفسد من الجدار وغيره، وعلى الثاني ضمان المال.
ولبعض العامّة قول بثبوت القطع على الثاني (4)؛ لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدّ. وأثبت آخرون القطع على الأوّل، بعلة أنه ردء وعون للسارق. وظاهر عدم صلاحية الأمرين لإثبات الحكم.
ولو تعاونا على النقب ونحوه ممّا يحصل به إزالة الحرز، وانفرد أحدهما بالإخراج، فالقطع على المخرج خاصّة.
ص: 168
السادس: • أن يخرج المتاع بنفسه أو مشاركاً. ويتحقّق الإخراج بالمباشرة، وبالتسبيب، مثل: أن يشده بحبل ثمّ يجذبه من خارج، أو يضعه على دابة أو على جناح طائر من شأنه العود إليه.
ولو أمر صبياً غير مميز بإخراجه، تعلّق بالأمر القطع؛ لأنّ الصبي كالآلة.
السابع: • أن لا يكون والداً من ولده؛ ويقطع الولد لو سرق من الوالد. وكذا يقطع الأقارب. وكذا الأُمّ لو سرقت من الولد.
----------------------------------
ولو انعكس فانفرد أحدهما بالهتك وشارك غيره في إخراج النصاب، فلا قطع على أحدهما؛ لأن كلاً منهما لم يسرق،نصاباً. نعم لو أخرجا نصابين بالاشتراك، أو بانفراد كلّ منهما بنصاب، قطعا.
قوله: «أن يخرج المتاع بنفسه أو مشاركاً، ويتحقّق الإخراج بالمباشرة، وبالتسبيب».
ظاهر اكتفائه بإخراجه بالمشاركة الحكم بالقطع على تقدير إخراج الاثنين فصاعداً نصاباً واحداً. ويشكل بعدم صدق سرقة النصاب على كلّ واحدٍ بخصوصه.
وقيل: يشترط بلوغ نصيب من يحكم بقطعه نصاباً، فلا يقطع من قصر نصيبه عنه(1). ولعلّ هذا أظهر.
ويعتبر في الإخراج بالتسبيب أن لا يكون المباشر ممّا يصلح لإسناد الفعل إليه حقيقة، كما يقتضيه الأمثلة. فلو كان المخرج بعد تسبيبه مميّزاً فلا قطع على المسبّب.
ويعتبر في المباشر اجتماع الشروط في الحكم بقطعه، بأن يكون مشاركاً في هتك الحرز، ومكلّفاً، ومخرجاً للنصاب، إلى غير ذلك.
قوله: «أن لا يكون والداً من ولده إلى آخره. عموم آية السرقة(2)، وغيرها من الأدلّة (3) متناول لسرقة الأقارب والأجانب، لكن خرج
ص: 169
الثامن: • أن يأخذه سرّاً، فلو هتك قهراً ظاهراً وأخذ لم يقطع وكذا المستأمن لو خان. ويقطع الذمّي كالمسلم والمملوك مع قيام البيّنة. وحكم الأنثى في ذلك كلِّه حكم الذكر.
مسائل:
الأُولى : لا يقطع الراهن إذا سرق الرهن، وإن استحق المرتهن الإمساك، ولا المؤجر العين المستأجرة، وإن كان ممنوعاً من الاستعادة، مع القول بملك المنفعة ؛ لأنّه لم يتحقّق إخراج النصاب من مال المسروق منه حالة الإخراج.
----------------------------------
من ذلك سرقة الأب وإن علا من الولد بالإجماع، فيبقى الباقي على العموم.
وألحق أبو الصلاح الأُم بالأب(1). ونفى عنه في المختلف البأس؛ لأنها أحد الأبوين، ولاشتراكهما في وجوب الإعظام(2).
وألحق بعض العامّة بهما كلّ من تجب نفقته على الآخر(3)، لما بين الفروع والأصول من الاتّحاد، وكون مال كلّ واحد من النوعين مرصداً لحاجة الآخر، ومن حاجاته أن لا يقطع
یده بسرقة ذلك المال.
وعمّم آخرون الحكم في كلّ قريب(4).
وتخصيص العموم بمثل هذه الأدلّة لا يخفى ما فيه.
قوله: «أن يأخذه سرّاً فلو هتك قهراً ظاهراً وأخذ لم يقطع. وكذا المستأمن لو خان». لأنّ الأوّل لا يسمّى سارقاً بل غاصباً، والثاني لم يحرز من دونه.
ص: 170
الثانية: • لا يقطع عبد الإنسان بسرقة ماله، ولا عبد الغنيمة بالسرقة منها؛ لأنّ فيه زيادة إضرار. نعم، يؤدب بما يحسم الجرأة.
الثالثة: • يقطع الأجير إذا أحرز المال من دونه. وفي رواية لا يقطع وهي محمولة على حالة الاستئمان.
وكذا الزوج إذا سرق من زوجته، أو الزوجة.
----------------------------------
قوله: «لا يقطع عبد الإنسان بسرقة ماله إلى آخره.
مستند هذا الحكم المخالف للأصل روايات منها رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عبد سرق واختان من مال مولاه، قال: ليس عليه قطع»(1).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «عبدي إذا سرقني لم أقطعه؛ وعبدي إذا سرق غيري قطعته، وعبد الإمارة إذا سرق لم أقطعه؛ لأنّه فيء»(2).
وفي طريق الروايات ضعف، ولكن لا راد لها.
والمصنّف (رحمه اللّه) علل الحكم بأنّ في القطع زيادة إضرار، والحد شرع لحسم الجرأة ودفع الضرر، فلا يدفع الضرر بالضرر. وهو تعليل للنص بعد ثبوته، أما كونه علة برأسه فموضع نظر.
قوله: «يقطع الأجير إذا أحرز المال من دونه. وفي رواية: لا يقطع» إلى آخره.
كون الأجير كغيره من السارقين في قطعه إذا سرق من مال المستأجر بشرطه، هو المشهور بين الأصحاب؛ لعموم الآية (3) وغيرها من الأدلّة.
وقال الشيخ في النهاية : لا قطع عليه(4)، استناداً إلى رواية سليمان قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 171
• وفي الضيف قولان، أحدهما: لا يقطع مطلقاً. وهو المروي. والآخر: يقطع إذا أحرز من دونه. وهو أشبه.
----------------------------------
عن الرجل استأجر أجيراً فسرق من بيته هل تقطع يده؟ قال: «هذا مؤتمن ليس بسارق وهذا خائن»(1).
وحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال في رجل استأجر أجيراً فأقعده على متاعه فسرقه، فقال: «هو مؤتمن»(2).
ورواية سماعة قال: سألته عمّن استأجر أجيراً فأخذ الأجير متاعه فسرقه، قال: «هو مؤتمن» ثمّ قال: «الأجير والضيف أمينان، ليس يقع عليهما حدّ السرقة»(3).
والمصنّف (رحمه اللّه) وغيره من الأصحاب(4)، حملوا الروايات على ما لو كان المستأجر قد استأمنه على المال ولم يحرزه عنه.
وفي الروايات إيماء إليه، بل في رواية الحلبي تصريح به. هذا مع ضعف الأُولى باشتراك سليمان الراوي بين جماعة منهم المقبول وغيره(5)، والأخيرة بالوقف والإسناد.
قوله: «وفى الضيف قولان، أحدهما لا يقطع مطلقاً. وهو المروي» إلى آخره.
القول بعدم قطع الضيف للشيخ في النهاية(6)، وجماعة، منهم ابن الجنيد(7)، والصدوق(8)، وابن إدريس، محتجاً عليه بالإجماع (9).
ص: 172
الرابعة: لو أخرج متاعاً فقال صاحب المنزل: سرقته، وقال المخرج: وهبتنيه، أو أذنت في إخراجه، سقط الحدّ للشبهة، وكان القول قول صاحب المنزل مع يمينه في المال.
وكذا لو قال: المال لي، وأنكر صاحب المنزل، فالقول قوله مع يمينه، ويغرم المخرج، ولا قطع لمكان الشبهة.
• لا قطع فيما نقص عن ربع دينار. ويقطع فيما بلغه ذهباً خالصاً مضروباً عليه السكة، أو ما قيمته ربع دينار ثوباً كان أو طعاماً أو فاكهة أو غيره، كان أصله الإباحة أو لم يكن. وضابطه ما يملكه المسلم.
----------------------------------
ومستند غيره على الحكم الرواية السابقة، ورواية محمّد بن قيس عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الضيف إذا سرق لم يقطع، وإذا أضاف الضيف ضيفاً فسرق قطع ضيف الضيف»(1).
والأصحّ القطع؛ للعموم (2)، وعليه المصنّف وجميع المتأخّرين. وتحمل الروايات (3) - مع ضعف السند - على ما لو لم يحرز المال عنه. وينبه عليه الحكم بقطع ضيف اشتراكها في الضيف؛ لأن المالك لم يأتمنه.
قوله: «لا قطع فيما نقص عن ربع دينار ويقطع فيما بلغه ذهباً - إلى قوله - ضعيفة».
يعتبر في ثبوت القطع على السارق بلوغ سرقته قدر النصاب بإجماع علمائنا. ولكن اختلفوا في مقداره، فالمشهور بينهم أنّه ربع دينار من الذهب الخالص المضروب بسكة المعاملة، أو ما قيمته ربع دينار، فلا قطع فيما دون ذلك؛ لما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه
ص: 173
وفي الطير وحجارة الرخام رواية بسقوط الحدّ ضعيفة.
----------------------------------
قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً»(1).
وفي رواية أخرى: «لا قطع إلا في ربع دينار»(2).
وصحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: في كم يقطع السارق؟ فقال: «في ربع دينار». قال قلت له في درهمين؟ فقال: «في ربع دينار، بلغ الدينار ما بلغ». قال فقلت له: أرأيت من سرق أقلّ من ربع دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ وهل هو عند اللّه سارق في تلك الحال؟ فقال: «كلّ من سرق من مسلم شيئاً قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، وهو عند اللّه السارق، ولكن لا يقطع إلا في ربع دينار أو أكثر. ولو قطعت يد السارق فيما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة الناس مقطّعين»(3).
وغيرها من الأخبار الكثيرة(4).
واعتبر ابن أبي عقيل ديناراً فصاعداً(5). وقال ابن بابويه: يقطع في خمس دينار، أو في قيمة ذلك (6).
ويظهر من ابن الجنيد الميل إليه(7). والمذهب هو الأوّل.
ص: 174
• ومن شرطه أن يكون محرزاً بقفل أو غلق أو دفن. وقيل: كلّ موضع ليس لغير مالكه الدخول إليه إلا بإذنه.
----------------------------------
ونبّه بقوله «ثوباً كان أو طعاماً أو فاكهة، كان أصله الإباحة أو لم يكن» على خلاف أبي حنيفة، حيث ذهب إلى أنّه لا قطع فيما كان مباح الأصل إلا في خشب الساج(1). وألحق بعضهم به الآبنوس والصندل والعود(2). وزاد آخرون: الخشب المعمول كالسرر والأبواب(3). ولا فيما كان رطباً أو متعرّضاً للفساد، كالرطب والتين والتفاح والبقول والرياحين ، والشواء والهريسة والفالوذج، والجمد والشمع المشتعل.
لنا: عموم الآية(4)، وما رووه عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد سئل عن التمر المعلّق فقال: «من سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع»(5). وكان ثمن المجن عندهم ربع دينار.
والرواية التي أشار إليها المصنّف (رحمه اللّه) بسقوط الحدّ عن سارق الرخام ونحوه رواها السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لا قطع على من سرق الحجارة، يعني الرخام وأشباه ذلك»(6). ولا يخفى حال السند.
قوله: «ومن شرطه أن يكون محرزاً بقفل أو غلقٍ أو دفن. وقيل: كلّ موضع ليس لغير مالكه الدخول إليه إلا بإذنه».
لا شبهة في اعتبار كون السرقة من الحرز في ثبوت القطع، وإنما الكلام في حقيقته، فإنّ الشرع اعتبر الحرز ولم يبين له حدّاً بطريق يعتمد عليه، وما هذا شأنه يجب الرجوع فيه
ص: 175
----------------------------------
إلى العُرف كالقبض والتفرّق عن مكان البيع وإحياء الموات، ونحو ذلك.
وقد دلّ العرف على أنّ القفل على الظرف الذي لا ينقل عادة- كالبيت، والصندوق الكبير، والغلق على الدار والدفن للمال - حرزٌ في الجملة، وإن كان المرجع في تفاصيله إلى العرف، وذلك يختلف باختلاف المال المحرز فحرز الثياب الصندوق المقفّل. وحرز الدوابّ الإصطبل والمراح الموثق بالغلق. وحرز الأمتعة التي من شأنها أن توضع في الدكاكين هي مع ما يعتبر معها ممّا يناسبها من وضعها وغلقها وغيرهما. وإلى نحو ذلك ذهب الشيخ في المبسوط(1).
وقال في الخلاف : كلّ موضع حرز لشيء من الأشياء فهو حرز لجميع الأشياء (2).
ولا يخفى ما فيه.
والقول بتحديده بكلّ موضع ليس لغير مالكه الدخول إليه إلّا بإذنه، للشيخ في النهاية (3) أيضاً.
ورده ابن إدريس بأنّ الدار المفتوحة أو التي لا باب لها ليس لغيره الدخول إليها بدون إذنه، ولا يجب القطع بالسرقة منها(4). وهذا الإيراد في محلّه.
واعتذر له في المختلف بجواز أن يكون مراده بقوله: «ليس لغير المتصرف الدخول فيه» سلب القدرة لا الجواز الشرعي(5).
وهو حمل بعيد ومخالف لمفهوم الروايات(6) التي استند إليها في ذلك.
ص: 176
• فما ليس بمحرز لا يقطع سارقه، كالمأخوذ من الأرحية والحمامات والمواضع المأذون في غشيانها كالمساجد.
وقيل: إذا كان المالك مراعياً له كان محرزاً، كما قطع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سارق مئزر صفوان في المسجد. وفيه تردّد.
----------------------------------
قوله: «فما ليس بمحرز لا يقطع سارقه» إلى آخره.
لا شبهة في أنّ المواضع المطروقة من غير مراعاة المالك -كالمذكورة - ليست حرزاً. وأما مع مراعاة المالك فذهب الشيخ في المبسوط(1)، ومن تبعه (2) إلى كونه محرزاً بذلك، ولهذا قطع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سارق رداء صفوان بن أميّة من المسجد مع كونه غير محرز إلّا بمراعاته.
والرواية وردت بطرق كثيرة، منها حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الرجل يأخذ اللصّ يرفعه أو يتركه؟ قال: «إنّ صفوان بن أميّة كان مضطجعاً في المسجد الحرام، فوضع رداءه وخرج يهريق الماء، فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه، فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه، فرفعه إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): اقطعوا يده. فقال صفوان: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ قال: نعم. قال: فأنا أهبه له، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إلىّ !» قلت : فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه ؟ قال: «نعم»(3).
وفي الاستدلال بهذا الحديث للقول بأن المراعاة حرز نظر بيّن؛ لأن المفهوم منها - وبه صرّح كثير - أنّ المراد بها النظر إلى المال، فإنه لو نام أو غفل عنه أو غاب زال الحرز، فكيف يجتمع الحكم بالمراعاة مع فرض كون المالك غائباً عنه ؟!
ص: 177
----------------------------------
وفي بعض الروايات: أن صفوان نام فأخذ من تحته(1).
والكلام فيها كما سبق، وإن كان النوم عليه أقرب إلى المراعاة مع الغيبة عنه.
وفي المبسوط فرض المسألة على هذا التقدير، واكتفى في حرز الثوب بالنوم عليه أو الاتكاء عليه أو توسّده واحتج عليه بحديث صفوان، وأنه سرقه من تحت رأسه من المسجد، وأنّه كان متوسّداً له (2). وهذا أوجه.
مع أنّ في جعل المراعاة حرزاً إشكال من وجه آخر؛ لأنّ السارق إن أخذ المال مع نظر المالك إليه لتتحقّق المراعاة لم يحصل الشرط، وهو أخذه سراً، وإنّما يكون مستلباً غاصباً. وهو لا يقطع، وإن كان مع الغفلة عنه لم يكن محرزاً بالمراعاة. فظهر أن السرقة لا تتحقّق مع المراعاة وإن جعلناها حرزاً. وهذا هو الوجه.
نعم، رواية صفوان على الوجه المروي أوّلاً (3) تصلح دليلاً على مذهب ابن أبي عقيل من أن السارق يقطع من أي موضع سرق من بيت أو سوق أو مسجد أو غير ذلك. واحتج عليه بهذه الرواية(4).
وبعض العلماء فسّر الحرز بما على سارقه خطر، لكونه ملحوظاً غير مضيع، إمّا بلحاظ دائم أو بلحاظ معتاد(5).
وعلى هذا يتوجه الحكم في الرواية بقطع سارق الرداء؛ لأن سارقه في المسجد على خطر من أن يطّلع عليه.
وهذا التفسير متوجّه ومناسب لما يقتضيه النظر من كون المراعاة بالعين حرزاً في مجامعته لإمكان سرقته بمغافلة المالك، إذ لم يشترط فيه دوام النظر، بل المعتاد منه
ص: 178
• وهل يقطع سارق ستارة الكعبة ؟ قال في المبسوط والخلاف: نعم. وفيه إشكال؛ لأنّ الناس في غشيانها شرع.
• ولا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمه الظاهرين، ويقطع لو كانا باطنين.
----------------------------------
المجامع للغفلة على وجه يمكن سرقته منه. وإلى هذا ذهب الشيخ في موضع من المبسوط(1)، وإن اختار الأوّل في مواضع (2).
قوله: «وهل يقطع سارق ستارة الكعبة ؟» إلى آخره.
وجه ما اختاره الشيخ (3) ما رواه أصحابنا من أنّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا قام قطع أيدي بني شيبة، وعلّقها على البيت، ونادى عليهم هؤلاء سرّاق بيت اللّه(4). مضافاً إلى عموم الآية(5)، والروايات الدالّة على القطع(6).
وذهب ابن إدريس (رحمه اللّه) إلى عدم قطعه؛ لما أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) من أنّ ذلك المحلّ ليس بحرز عرفاً(7).
والرواية مع قطع النظر عن سندها محمولة على قطع أيديهم لفسادهم، أو على سرقة ما أحرز والأوّل أقعد؛ لأنّ إحراز مال البيت من مبدأ الإسلام إلى يومنا هذا بأيديهم، وشرط الحرز أن يكون بغير يد السارق وعدم القطع للسرقة هو الأصحّ.
قوله: «ولا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمه الظاهرين، ويقطع لو كانا باطنين».
هذا التفصيل هو المشهور بين الأصحاب، ذكره الشيخ(8)، وغيره(9).
ص: 179
• ولا قطع في ثمرة على شجرها. ويقطع لو سرق بعد إحرازها.
----------------------------------
ومستنده رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أتي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بطرّار قد طرّ دراهم من كمّ،رجل، فقال: إن كان طرّ من قميصه الأعلى لم أقطعه، وإن كان طرّ من قميصه الداخل قطعته»(1).
ورواية مسمع بن أبي سيّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أتي بطرار قد طرّ من رجل دراهم فقال : إن كان طرّ من قميصه الأعلى لم أقطعه، وإن كان طرّ من قميصه الأسفل قطعناه»(2).
وفي الروايتين ضعف. ومقتضاهما أن المراد بالظاهر ما في الثوب الخارج، سواء كان بابه في ظاهره أم باطنه، وسواء كان الشدّ على تقديره من داخله أم من خارجه.
قوله: «ولا قطع في ثمرة على شجرها. ويقطع لو سرق بعد إحرازها».
هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، ووردت به الأخبار الكثيرة (3). وقد تقدّم بعضها(4).
وظاهرها عدم الفرق مع كون الثمرة على الشجرة بين المحرزة بغلق ونحوه وغيرها.
وهي على إطلاقها مخالفة للأصول المقررة في الباب.
ومع كثرة الروايات فهي مشتركة في ضعف السند، ومن ثمّ ذهب العلّامة(5)، وولده فخر الدين (6) إلى التفصيل في الشجرة كالثمرة بالقطع مع إحرازهما وعدمه مع عدمه. وهو الأجود.
ص: 180
• ولا على من سرق مأكولاً في عام مجاعة.
• ومن سرق صغيراً فإن كان مملوكاً قطع. ولو كان حراً فباعه لم يقطع حداً. وقيل: يقطع؛ دفعاً لفساده.
----------------------------------
قوله: «ولا على من سرق مأكولاً في عام مجاعة».
المراد بالمأكول الصالح للأكل فعلاً أو قوّة، كالخبز واللحم والحبوب. ومقتضى إطلاقه كغيره(1) عدم الفرق بين المضطر وغيره، فلا يقطع السارق في ذلك العام مطلقاً، عملاً بإطلاق النصوص. وهي رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يقطع السارق في عام سنة» يعني عام مجاعة(2).
وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يقطع السارق في أيّام المجاعة»(3).
وفي رواية ثالثة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يقطع السارق في سنة المخل في شيء يؤكل، مثل الخبز واللحم وأشباه ذلك»(4).
وحملوا ما أطلق في الروايتين السابقتين من المسروق على المقيد في هذه، وهو المأكول. وفى الروايتين الأخيرتين إرسال مع اشتراك الجميع في الضعف، لكن العمل بمضمونها مشهور بين الأصحاب لا رادّ له.
قوله: «ومن سرق صغيراً فإن كان مملوكاً قطع. ولو كان حرّاً فباعه لم يقطع حدّاً. وقيل: يقطع؛ دفعاً لفساده».
ثبوت القطع بسرقة المملوك الصغير واضح؛ لأنّه مال فيلحقه حكمه.
ص: 181
----------------------------------
ويشترط فيه شروطه التي من جملتها كونه محرزاً، وكون قيمته بقدر النصاب. وإنّما لم يذكر ذلك؛ لأن البحث عن سرقته من حيث إنه مملوك، أما من جهة باقي الشرائط فيعلم من بابها.
ولو كان المملوك كبيراً مميزاً فلا قطع بسرقته؛ لأنّه متحفظ بنفسه، إلا أن يكون نائماً أو في حكمه، أو لا يعرف سيّده من غيره، فإنّه حينئذٍ كالصغير.
ولا فرق بين القنّ والمدبّر وأُمّ الولد، دون المكاتب؛ لأنّ ملكه غير تامّ، إلّا أن يكون مشروطاً فيلحق بالقن.
وأمّا الحرّ فاختلف في حكم سرقته فقيل: لا يقطع؛ لأنّه ليس بمال، وهو شرط في هذا الحدّ(1)، إذ لا يتحقّق بلوغ النصاب بدونه.
وذهب الشيخ (2) وجماعة (3) إلى أنه يقطع لا من حيث سرقته للمال، بل من جهة كونه مفسداً في الأرض.
ويؤيّده رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أتي برجل قد باع حراً فقطع يده»(4).
ورواية عبد اللّه بن طلحة قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يبيع الرجل وهما حرّان، يبيع هذا هذا وهذا هذا، ويفرّان من بلد إلى بلد فيبيعان أنفسهما ويفرّان بأموال الناس قال: «تقطع أيديهما؛ لأنهما سارقا أنفسهما وأموال الناس»(5).
ص: 182
• ولو أعار بيتاً فنقبه المعير وسرق مالاً للمستعير قطع وكذا لو آجر بيتاً وسرق منه مالاً للمستأجر.
----------------------------------
وظاهر الروايتين بل صريح الثانية عدم اشتراط صغر الحرّ المبيع. وكذلك أطلقه الشيخ في النهاية(1)، وجماعة (2).
وقيّده في المبسوط بالصغر(3)، وتبعه الأكثر، نظراً إلى أن الكبير متحفّظ بنفسه فلا يتحقّق سرقته.
وحيث جعلنا القطع للفساد لم يعتبر تحقّق السرقة. ويشكل الحكم مطلقاً بأنّ حدّ المفسد لا يختصّ بالقطع، بل يتخير الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيه -كما سيأتي - بين قطعه وقتله وغيرهما.
وفي - وفي المختلف علّل الحكم بالقطع بأنّ حراسة النفس أولى من حراسة المال الذي جاء القطع في سرقته لحراسته (4).
ويشكل بأنّ الحكم معلّق على مال مخصوص ومطلق صيانته غير معلوم الإرادة من إطلاق النصوص(5)، ومن ثمّ كان له شرائط خاصّة زيادة على المطلوب من صيانته، فلا يتمّ حمل النفس مطلقاً عليه بطريق الأولويّة، خصوصاً على الوجه المخصوص من بيعه دون غيره من أسباب تفويته وتفويت أجزائه البالغة ديتها ربع النصاب.
ولو كان عليه ثياب أو معه مال يبلغ النصاب، فإن كان كبيراً لم يتحقّق سرقتها أيضاً؛ لأنّ يده عليها. ولو كان صغيراً على وجه لا يثبت له يد اتجه القطع بالمال. ومثله سرقة الكبير بماله نائماً وما في حكمه من السكر والإغماء.
قوله: «ولو أعار بيتاً فنقبه المعير وسرق مالاً للمستعير قطع» إلى آخره.
إذا كان الحرز ملكاً للسارق، نظر إن كان في يد المسروق منه بإجارة فسرق منه المؤجر
ص: 183
----------------------------------
فعليه القطع بغير إشكال؛ لأن المنافع بعقد الإجارة مستحقة للمستأجر، والإحراز من المنافع.
وعند أبي حنيفة أنّه لا يجب القطع على المؤجر(1). ووافق على أنّه لو آجر عبده لحفظ متاع ثمّ سرق المؤجر من المتاع الذي كان يحفظه العبد يجب القطع (2).
وإن كان الحرز في يده بإعارة فوجهان:
أحدهما: أنه لا يجب القطع؛ لأنّ الإعارة لا تلزم، وله الرجوع متى شاء، فلا يحصل الإحراز عنه.
وأصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه)، والعلّامة(3)، وجماعة(4)، ورجحه الشيخ فى المبسوط، بعد أن نقل الأوّل عن قوم(5) - أنّه يجب القطع؛ لأنّه سرق النصاب من الحرز. وإنّما يجوز له الدخول إذا رجع، وعليه أن يمهل المعير بقدر ما ينقل فيه الأمتعة، لا مطلقاً.
ولو أعار عبده لحفظ مال أو رعي غنم ثمّ سرق ممّا كان يحفظه، فالحكم كما لو كان الحرز مستعاراً. ولكن هنا يضعف احتمال عدم القطع؛ لأن الإحراز هاهنا بملاحظة العبد، لا بنفس العبد المملوك للسارق، فنفس الحرز ليس بمملوك له.
ولو أعاره قميصاً فلبسه المستعير فطر المعير جيبه وأخذ منه النصاب وجب عليه القطع أيضاً. ويضعف هنا الاحتمال أيضاً.
ص: 184
• ويقطع من سرق مالاً موقوفاً مع مطالبة الموقوف عليه؛ لأنّه مملوك له.
• ولا تصير الجمال محرزة بمراعاة صاحبها، ولا الغنم بإشراف الراعي عليها. وفيه قول آخر للشيخ (رحمه اللّه).
----------------------------------
ولو كان الحرز في يده بغصب وسرق مالك الحرز منه متاعه فلا قطع؛ لأنّ له الدخول والهجوم عليه، فلا يكون محرزاً عنه.
وإن سرق منه أجنبي فوجهان: أحدهما أنه يلزمه القطع؛ لأنّه لا حقّ له فيه، وليس له الدخول. وأصحّهما المنع؛ لأن الإحراز من المنافع والغاصب لا يستحقّها.
قوله: «ويقطع من سرق مالاً موقوفاً مع مطالبة الموقوف عليه؛ لأنّه مملوك له».
هذا التعليل يتمّ على القول بانتقال ملك الموقوف مطلقاً إلى الموقوف عليه. أمّا على القول الأشهر من اختصاصه بما لو كان الموقوف عليه منحصراً، قطع سارقه، دون سارق الوقف على المصالح العامّة وعلى غير المنحصر؛ لأنّ الملك فيه للّه تعالى، ولا يتمّ ما ذكره المصنّف من التعليل. ولو طالب به الحاکم احتمل جواز قطعه، وإن كان غير مالك. والأظهر العدم.
ولو كانت السرقة من غلّة الوقف فلا إشكال في القطع؛ لأنّها مملوكة للموقوف عليه مطلقاً. ولو كان السارق بعض الموقوف عليهم بني على حكم سارق المال المشترك، وقد تقدّم(1).
هذا إذا كان منحصراً. أما لو كان السارق فقيراً في الموقوف على الفقراء فلا قطع مطلقاً.
قوله: «ولا تصير الجمال محرزة بمراعاة صاحبها» إلى آخره.
قد تقدم الكلام على أنّ المراعاة بالعين هل هي حرز أم لا؟(2) وأن الوجه عدم كونها حرزاً، وإليه ذهب المصنّف (رحمه اللّه) هنا صريحاً، وإن كان قد تردد فيما سبق(3).
ص: 185
----------------------------------
وهو مختار ابن إدريس (رحمه اللّه)(1) والعلّامة(2).
واحتج عليه في المختلف (3) برواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: لا يقطع إلّا من نقب نقباً أو كسر قفلاً»(4).
وهو استدلال عجيب من مثله مع ضعف السند(5)، والاتّفاق على عدم الانحصار فيما ذكر في الرواية.
والقول الآخر للشيخ (رحمه اللّه) الذي أشار إليه المصنّف، ذكره في المبسوط والخلاف(6). فقال في المبسوط :
الإبل إن كانت راعية فحرزها أن ينظر الراعى إليها مراعياً لها، وإن كان ينظر إلى جميعها. مثل أن كان على نشز أو مستو من الأرض، فهي في حرز؛ لأن الناس هكذا يحرزون أموالهم عند الراعي. وإن كان لا ينظر إليها أو كان ينظر إليها فنام عنها فليست في حرز. وإن كان ينظر إلى بعضها دون بعض فالتي ينظر إليها في حرز، والتي لا ينظر إليها في غير حرز.
وإن كانت باركة ينظر إليها فهي في حرز، وإن كان لا ينظر إليها فهي في حرز بشرطين: أن تكون معقولة، وأن يكون معها نائماً أو غير نائم؛ لأن الإبل الباركة هكذا حرزها.
وإن كانت مقطرة، فإن كان سائقاً ينظر إليها فهي في حرز، وإن كان قائداً فإنما يكون في حرز بشرطين أن يكون بحيث إذا التفت إليها شاهدها كلها، وأن يكثر الالتفات إليها. مراعياً لها. وكذا البغال والخيل والحمير والغنم والبقر.
ص: 186
• ولو سرق باب الحرز أو من أبنيته، قال في المبسوط يقطع؛ لأنّه محرز بالعادة. وكذا إن كان الإنسان في داره، وأبوابها مفتّحة. ولو نام زال الحرز. وفيه تردّد.
----------------------------------
فإذا أوت إلى حظيرة كالمراح والإصطبل، فإن كان في البرّ دون البلد، فما لم يكن صاحبها معها في المكان فليس بحرز، وإن كان معها فيه فهو حرز. وإن كان الباب مفتوحاً فليس بحرز، إلّا أن يكون معها مراعياً لها غير نائم. وإن كان الباب مغلقاً فهو حرز نائماً كان أو غير نائم. وإن كان في جوف البلد فالحرز أن يغلق الباب، سواء كان صاحبها معها أم لا(1).
وهذا التفصيل قد صرّح به في مواضع منه بأنّ المراعاة تكفي في الحرز. وهو حسن مع حصولها بالفعل، لكن معه لا تتحقّق السرقة كما أشرنا إليه سابقاً (2)، وإنما تتحقّق مع غفلته ليكون الأخذ سراً. فالحق أن القطع لا يتحقّق بذلك على التقديرين.
نعم، حرزيتها على هذا الوجه يتم فيما لو كانت أمانة بيد المراعي كالراعي، فإنّ مراعاتها بالنظر تكفي في الحكم بكونها في حرز، فلا يضمن حينئذٍ بالفوات، وبدونه يضمن.
ويظهر من كلام الشيخ في قسم الرائعة أنّ عدم النظر إليها يخرجها عن الحرز وإن كان النظر إليها ممكناً. وفي قسم السائرة جعل دوام النظر غير شرط، واكتفى بإمكان مشاهدتها مع كثرة الالتفات إليها.
قوله: «ولو سرق باب الحرز أو من أبنيته، قال في المبسوط يقطع» إلى آخره.
الحكم في باب الحرز ونحوه مبني على تفسير الحرز، فإن فسرناه بما ليس لغير المالك دخوله، أو بما كان سارقه على خطر وخوف من الاطلاع عليه، أو رددناه إلى العادة وجعلناها قاضية بكون ذلك محرزاً على هذا الوجه، كما ادعاه الشيخ(3)، قطع هنا، لتحقّق الحرز على هذه التقديرات.
ص: 187
• ويقطع سارق الكفن ؛ لأن القبر حرز له.
وهل يشترط بلوغ قيمته نصاباً؟ قيل : نعم. وقيل: يشترط في المرة الأُولى دون الثانية والثالثة. وقيل: لا يشترط والأوّل أشبه.
ولو نبش ولم يأخذ عزّر. ولو تكرّر منه الفعل وفات السلطان، كان له قتله للردع.
----------------------------------
وإن فسّرناه بما كان مغلقاً عليه، أو مقفلاً، أو مدفوناً، فلا قطع هنا، لانتفاء المقتضي. وإن جعلنا منه المراعاة بني على ما إذا كان مراعياً له وعدمه.
والمراد بباب الحرز هنا الباب الخارج كباب الدار. أما باب البيت الداخل في الدار أو باب الخزانة، فإن كان خارجه باباً آخر موثقاً بالقفل أو الغلق، فالباب المذكور في حرز، وإلّا فلا.
قوله: «ويقطع سارق الكفن؛ لأن القبر حرز له» إلى آخره.
للأصحاب في حكم سارق الكفن من القبر أقوال:
أحدها: أنه يقطع مطلقاً، بناءً على أنّ القبر حرز للكفن، والكفن لا يعتبر بلوغه نصاباً. أمّا الأوّل فهو المشهور بين الأصحاب، بل ادّعى عليه الشيخ فخر الدين الإجماع(1). وليس كذلك، فإنّ ظاهر الصدوق أنّه ليس حرزاً (2).
وأمّا الثاني فلدلالة الأخبار بإطلاقها عليه، كصحيحة حفص بن البختري عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «حدّ النبّاش حدّ السارق»(3). وهو أعم من أخذ النصاب وعدمه.
وإلى هذا القول ذهب الشيخ (رحمه اللّه)(4)، والقاضي(5) ، وابن إدريس في آخر كلامه(6)،
ص: 188
----------------------------------
وإن كان قد اضطرب في خلاله، والعلّامة في الإرشاد(1).
وثانيها: اشتراط بلوغ قيمته النصاب، كغيره من السرقات وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، وقبله المفيد (2)، وسلّار(3)، وأبو الصلاح(4)، وجماعة(5)، ومنهم العلّامة في المختلف والتحرير(6)، والشهيد في الشرح (7)؛ لعموم الأخبار الدالّة على اشتراط النصاب(8)، مع عدم المخصّص.
وأجابوا عن الخبر الأوّل بأن ظاهره دالّ على القطع بمجرّد النبش في المرّة الأولى، وهم لا يقولون به، بل يعتبرون الأخذ، وإذا جازت مخالفة ظاهره باشتراط الأخذ، فلمَ لا يجوز مخالفته باشتراط النصاب توفيقاً بين الأدلّة ؟ وأيضاً فإنه جعله حدّ السارق، فيشترط فيه ما يشترط في السارق.
ويؤيّده قول عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء»(9).
ورواية إسحاق بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قطع نبّاش القبر، فقيل له: أ تقطع في الموتى؟ فقال: إنا لنقطع لأمواتنا كما نقطع لأحيائنا»(10). وظاهر التشبيه يقتضي المساواة في الشرائط
ص: 189
----------------------------------
وثالثها: أنه يشترط بلوغ النصاب في المرّة الأُولى خاصّة. أما الأوّل فلعموم الأدلّة(1). وأمّا الثاني؛ فلأنه مع اعتياده مفسد فيقطع لإفساده، وإن لم يكن مستحقاً بسرقته.
وهذا القول اختاره ابن إدريس في أوّل كلامه (2)، ثمّ رجع عنه إلى الأوّل(3).
ورابعها أنّه يقطع مع إخراجه الكفن مطلقاً، أو اعتياده النبش وإن لم يأخذ الكفن.
وهذا قول الشيخ في الاستبصار، جامعاً به بين الأخبار التي دلّ بعضها على الأوّل، وبعضها على الثاني(4).
قال المصنّف (رحمه اللّه) في النكت:
وهو جيّد. إلّا أنّ الأحوط اعتبار النصاب في كلّ مرّة، لما روي عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنّهم قالوا: «لا يقطع السارق حتّى تبلغ سرقته ربع دينار»(5).
وخامسها: عدم قطعه مطلقاً إلا مع النبش مراراً. أمّا الأوّل؛ فلأن القبر ليس حرزاً من حيث هو قبر. وأما الثاني فلإفساده.
وهو قول الصدوق (6). ومقتضى كلامه عدم الفرق بين بلوغه النصاب وعدمه. وفي كثير من الأخبار دلالة عليه، كرواية علي بن سعيد قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن النبّاش، قال: «إذا لم يكن النبش له بعادة لم يقطع، ويعزّر»(7).
ص: 190
----------------------------------
ورواية الفضيل عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «النبّاش إذا كان معروفاً بذلك قطع»(1).
ورواية ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «في النبّاش إذا أخذ أوّل مرّة عزّر، فإن عاد قطع»(2).
ويمكن حمل هذه الأخبار - مع قطع النظر عن سندها - على ما لو نبش ولم يأخذ، جمعاً بين الأدلّة.
والوجه اعتبار بلوغ النصاب أو الاعتياد، لتناول الأوّل عموم أدلة السرقة(3)، والثاني الإفساد.
واعلم أنّ موضع النزاع في كون القبر حرزاً ما إذا لم يكن في داخل حرز آخر، كدار عليها غلق ونحوها، وإليه أشرنا بالحيثية سابقاً.
وأنّه لا فرق في الكفن على تقدير جعله حرزاً له بين الواجب والمندوب، ومنه العمامة، خلافاً للعلامة (4)؛ نظراً منه إلى ورود بعض الأخبار بأنّها ليست من الكفن(5). وظاهره أن المراد منه أنها ليست من الكفن الواجب لا مطلقاً، بقرينة أنه ذكر الخرقة الخامسة معها في الخبر(6)، مع الإجماع على أنّها منه.
وأنّ حرزيّته مختصة بالكفن، فلو كان فيه غيره من الأموال، ولو بقصد مصاحبة الميّت، لم يقطع سارقه مطلقاً من هذه الحيثيّة.
ص: 191
الثالث ما به يثبت
• ويثبت بشهادة عدلين أو الإقرار مرّتين، ولا تكفي المرَّة.
ويشترط في المقر البلوغ، وكمال العقل والحرّيّة، والاختيار.
----------------------------------
قوله: ويثبت بشهادة عدلين أو الإقرار مرّتين، ولا تكفي المرّة».
هذا هو المشهور بين الأصحاب. ومستندهم عليه رواية جميل بن دراج عن بعض أصحابنا، عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين، فإن رجع ضمن السرقة، ولم يقطع إذا لم يكن شهود»(1).
ولأنّه حدّ فلا يستوفى بالإقرار مرّة، كغيره من الحدود ولبناء الحدود على التخفيف.
ولا يخفى ضعف الأخيرين، فإن توقّف إثبات الحدود مطلقاً على المرّتين يحتاج إلى دليل، وإلا فعموم الأدلّة (2) يقتضى الاكتفاء بالإقرار مرّة مطلقاً إلا ما أخرجه الدليل. وبناء الحدود على التخفيف لا يدلّ بمجرّده على اشتراط تعدّد الإقرار.
والرواية ضعيفة السند بعلي بن حديد(3)، وبالإرسال، ومن ثمّ ذهب الصدوق إلى الاكتفاء بالإقرار مرّة(4)؛ لصحيحة الفضيل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أقرّ الحرّ على نفسه بالسرقة مرّة واحدة عند الإمام قطع»(5).
ص: 192
• فلو أقرّ العبد لم يقطع ؛ لما يتضمن من إتلاف مال الغير.
----------------------------------
وفي صحيحة أخرى للفضيل قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «من أقرّ على نفسه عند الإمام بحق حدّ من حدود اللّه تعالى مرّة واحدة، حرّاً كان أو عبداً، حرّةً أو أمةً فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للذي أقر به على نفسه، كائناً من كان، إلا الزاني المحصن»(1) الحديث.
وإطلاق كثير من الروايات بقطعه مع إقراره بالسرقة (2) من غير تفصيل، وهو يتحقّق بالمرّة.
وأجيب بحمل الرواية على التقية (3). لموافقتها لمذهب العامّة (4).
وفيه نظر لضعف المعارض الحامل على حملها على خلاف الظاهر.
قوله: «فلو أقرّ العبد لم يقطع ؛ لما يتضمن من إتلاف مال الغير».
أشار بالتعليل إلى وجه عدم قبول إقراره من حيث إنه إقرار في حقّ الغير وهو المولى، لا من حيث الغرامة للمال على تقدير إتلافه؛ لأنّه متعلّق بذمته، بل من حيث إنّه يتضمّن القطع وهو مال للغير، فيكون إقراره به إقراراً بوجه يتضمّن إتلاف مال الغير، فلا يسمع. ولو قامت البيّنة عليه بها قطع؛ لعدم المانع.
ويدلّ على الأمرين معاً صحيحة الفضيل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أقر العبد على نفسه بالسرقة لم يقطع، وإذا شهد عليه شاهدان قطع»(5).
ص: 193
• وكذا لو أقرّ مكرهاً [فإنّه ] لا يثبت به حدّ ولا غرم. فلو ردَّ السرقة بعينها بعد الإقرار بالضرب، قال في النهاية: يقطع. وقال بعض الأصحاب: لا يقطع؛ لتطرّق الاحتمال إلى الإقرار؛ إذ من الممكن أن يكون المال في يده من غير جهة السرقة. وهذا حسن
----------------------------------
ولكن روى ضريس الكناسي - في الحسن عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «العبد إذا أقرّ على نفسه عند الإمام مرّة أنّه سرق قطعه، وإذا أقرت الأمة على نفسها عند الإمام بالسرقة قطعها»(1).
والشيخ (رحمه اللّه) حملها على أنه إذا انضاف إلى الإقرار الشهادة عليه بالسرقة(2). ويمكن حملها على ما إذا صادقه المولى عليها، فإنّه يقطع حينئذٍ ؛ لانتفاء المانع من نفوذ إقراره حينئذٍ، كما في كلّ إقرار على الغير إذا صادقه على ذلك الغير.
قوله: «وكذا لو أقرّ مكرهاً فإنّه لا يثبت به حدّ ولا غرم» إلى آخره.
ما ذهب إليه الشيخ في النهاية (3) وافقه عليه جماعة، منهم الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد(4)، والعلّامة في المختلف(5).
والمستند حسنة سليمان بن خالد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مضروب على السرقة فجاء بها بعينها أيقطع ؟ قال: «نعم، وإذا اعترف ولم يأت بها فلا قطع بها؛ لأنّه اعترف على العذاب»(6).
ولأنّه قد تثبت سرقته بوجود المال عنده فيجب الحدّ كوجوبه على متقايئ الخمر لوجود سببه وهو الشرب.
ص: 194
• ولو أقر مرّتين ورجع لم يسقط الحدّ، وتحتّمت الإقامة، ولزمه الغرم. ولو أقرَّ مرَّة لم يجب الحدّ، ووجب الغرم.
----------------------------------
والذاهب من الأصحاب إلى عدم القطع ابن إدريس(1)، والعلّامة في أكثر كتبه (2)، واستحسنه المصنّف (رحمه اللّه)؛ لأنّ الإقرار وقع كرهاً فلا عبرة به.
ووجود المال عنده أعم من كونه سارقاً فلا يدلّ عليه، ولأن وجود المال مسبب عن السرقة، ولا يلزم من وجود المسبب وجود السبب، بل العكس وبهذا يفرّق بينه وبين القيء، لاستحالة القيء بدون الشرب. وهذا أقوى.
قوله: «ولو أقرّ مرّتين ورجع لم يسقط الحدّ، وتحتمت الإقامة» إلى آخره.
أمّا وجوب الغرم بالإقرار مرّة فظاهر؛ لأنّه إقرار بمال وشأنه ذلك؛ لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(3).
وأما عدم ثبوت القطع بالمرّة فمبني على ما تقدّم من توقف هذا الحدّ على الإقرار مرّتين(4). وقد عرفت ما فيه.
وأمّا رجوعه عنه حيث ثبت فلا أثر له كما في كلّ إنكار بعد الإقرار إلّا ما أخرجه الدليل من حدّ الزنى. وقد تقدّم في حديث سارق رداء صفوان ما يدلّ عليه، وأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما عفا عنه صفوان ووهبه الرداء قال له: «هلا كان هذا قبل أن ترفعه إلي»(5).
وروى سماعة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من أخذ سارقاً فعفا عنه فذاك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق منه أنا أهبه له لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه،
ص: 195
----------------------------------
وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: «وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه». فإذا انتهى إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه»(1).
وأظهر من ذلك كله صحيحة الحلبي ومحمد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه أنّه سرق ثمّ جحد فاقطعه وإن رغم أنفه»(2).
وذهب الشيخ في النهاية وكتابي الحديث إلى سقوط القطع عنه مع الرجوع بعد الإقرار، وإن ثبت الغرم (3).
وفي موضع آخر منها: يتخيّر الإمام بين العفو عنه وإقامة الحدّ عليه، حسب ما يراه أردع في الحال(4).
ووافقه عليه أبو الصلاح (5) والعلّامة في المختلف: محتجاً بأن التوبة تُسقط تحتم أعظم الذنبين، فتُسقط تحتم أضعفهما (6).
وبما رواه طلحة بن زيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: حدّثني بعض أهلي أن شاباً أتى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأقرّ عنده بالسرقة، فقال له (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّي أراك شاباً لا بأس بهيئتك، فهل تقرأ شيئاً من القرآن ؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن يقطعه؛ لأنّه لم تقم عليه بيّنة»(7).
ص: 196
وهو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى، ويترك له الراحة والإبهام. ولو سرق ثانيةً قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ويترك له العقب يعتمد عليها. فإن سرق ثالثة حبس دائماً. ولو سرق بعد ذلك قتل. ولو تكرّرت السرقة فالحد الواحد كافٍ.
• ولا تقطع اليسار مع وجود اليمين، بل تقطع اليمين ولو كانت شلّاء. وكذا لو كانت اليسار شلّاء أو كانتا شلّاءين، قطعت اليمين على التقديرين.
----------------------------------
ورواية أبي عبد اللّه البرقي، عن بعض أصحابه عن بعض الصادقين (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأقرّ عنده بالسرقة، فقال: أتقرأ شيئاً من القرآن ؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت يدك لسبورة البقرة، فقال الأشعث أتعطّل حدّاً من حدود اللّه تعالى؟ قال: وما يدريك ما هذا؟! إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا، وإن شاء قطع»(1).
ولا يخفى ضعف سند الحديثين، ومن ثمّ لم يذكر المصنّف في المسألة خلافاً. وما اختاره هو الأصحّ.
قوله: «ولا تقطع اليسار مع وجود اليمين بل تقطع اليمين ولو كانت شلاء» إلى آخره.
ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) من قطع اليمين ولو كانت شلاء مذهب الشيخ في النهاية (2) وجماعة (3)؛ أخذاً بعموم الأدلّة(4)، وخصوص صحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أشلّ اليد اليمنى أو أشلّ الشمال سرق، قال: «تقطع يده اليمنى على كلّ حال»(5).
ص: 197
----------------------------------
وقال في المبسوط :
إن قال أهل العلم بالطبّ : إنّ الشلاء متى قطعت بقيت أفواه العروق مفتّحة، كانت كالمعدومة، وإن قالوا تندمل قطعت الشلّاء(1).
ووافقه على ذلك القاضي(2)، والعلّامة في المختلف؛ مراعاة للاحتياط في الحدود حيث لا يراد منها القتل والتقدير حصول الحذر من القتل هنا(3). وهذا حسن.
وأمّا إذا كانت اليسار شلّاء واليمين صحيحة فقطع اليمين هو مقتضى الأدلّة؛ لوجود المقتضي لقطعها، وانتفاء المانع، إذ ليس إلا شلل اليسرى، ولم يثبت كونه مانعاً شرعاً.
وقال ابن الجنيد:
إن كانت يساره شلاء لم تقطع يمينه ولا رجله وكذلك لو كانت يده اليسرى مقطوعة في قصاص فسرق لم تقطع يمينه، وحبس في هذه الأحوال، وأنفق عليه من بيت مال المسلمين إن كان لا مال له؛ لأن الشلاء كالمعدومة(4).
فيبقى بلا يدين، وقد عهد من حكمة الشارع إبقاء يده الواحدة، ومن ثمّ انتقل في السرقة الثانية إلى قطع رجله ولم تقطع يده الأُخرى.
ولرواية المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا سرق الرجل ويده اليسرى شلّاء لم تقطع يمينه ولا رجله»(5).
ومنه يظهر عدم القطع لو كانتا شلّاءين بطريق أولى فقول المصنّف «قطعت يمينه على التقديرين» تنبيه على خلافه.
ص: 198
• ولو لم يكن له يسار، قال في المبسوط: قطعت يمينه. وفي رواية عبدالرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تقطع». والأوّل أشبه.
• أما لو كان له يمين حين القطع فذهبت لم تقطع اليسار؛ لتعلق القطع بالذاهبة.
----------------------------------
قوله: «ولو لم يكن له يسار، قال في المبسوط قطعت يمينه» إلى آخره.
الكلام في قطع اليمين إذا كانت اليسار معدومة كما تقدّم فيما لو كانت شلّاء، فإنّ عموم الأدلّة الدالّة على قطع يمين السارق(1) يتناول ما إذا كان له يسار وما إذا لم يكن. وإليه ذهب الشيخ في المبسوط (2)، والأكثر.
وقال ابن الجنيد: لا تقطع اليمين إلا مع سلامة اليسار من القطع والشلل (3)؛ لما تقدّم من العلّة، وخصوص صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: لو أنّ رجلاً قطعت يده اليسرى في قصاص فسرق ما يصنع به؟ قال، فقال: «لا يقطع»(4). وهي مع صحتها نص في المطلوب.
وحملها في المختلف على إظهاره التوبة، جمعاً بين الأدلّة(5). ولا يخفى ما فيه من البعد. ولو قيل بمضمونها - وخص الحكم بقطعها في القصاص كما دلّت عليه، ليخرج ما لو قطعت في السرقة، فإنّه لا يمنع حينئذٍ من قطع اليمين -كان وجهاً.
قوله: «أما لو كان له يمين حين القطع فذهبت لم تقطع اليسار؛ لتعلق القطع بالذاهبة».
هذه الصورة مستثناة ممّا دلّ عليه الحكم السابق بمفهومه، فإنّه دلّ على أن فقد اليد الواحدة هل يمنع من قطع الأخرى في الجملة؟ فيه قولان مبناهما على اعتناء الشارع بإبقاء اليد الواحدة للإنسان أم لا، فاستثني من محل الخلاف ما إذا كانت اليد اليمنى موجودة حين
ص: 199
• ولو سرق ولا يمين له قال في النهاية: قطعت يساره. وفي المبسوط: ينتقل إلى رجله ولو لم يكن يسار قطعت رجله اليسرى. ولو سرق ولا يد له ولا رجل حبس.
وفي الكلِّ إشكال؛ من حيث إنه تخطّ عن موضع القطع، فيقف على إذن الشرع، وهو مفقود.
----------------------------------
السرقة ثمّ ذهبت قبل إقامة الحدّ عليه، فإنّ اليسار لا تقطع قولاً واحداً؛ لأن الحكم كان متعلقاً باليمين وقد فاتت.
وقد كان ينبغي تأخير هذه المسألة عن المسألة الآتية الدالّة على أن قوات اليمين هل يوجب الانتقال إلى اليسار أم لا؟ أو يحذف قوله: «أمّا...» وأمّا ذكرها هنا كذلك فلا يخفى ما فيه من التكلّف.
قوله: «ولو سرق ولا يمين له» إلى آخره.
الأصل في قطع السارق أن تقطع يده اليمنى في السرقة الأولى، ثمّ رجله اليسرى في الثانية، ثمّ يخلّد الحبس في الثالثة. ولم يرد قطع غير ذلك، فلذلك وقع الإشكال في هذه المواضع:
فمنها ما إذا لم يكن له يمين حال السرقة الأولى، فقال الشيخ في النهاية : يقطع يساره (1)؛ العموم: «فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا»(2)الصادق باليسار، غايته تقديم اليمين عليها بالسنة، فإذا لم توجد قطعت اليسار؛ لوجوب امتثال ما دلّت عليه الآية بحسب الإمكان.
وقال في المبسوط : ينتقل إلى رجله اليسرى (3)؛ لأنها محلّ القطع حدّاً للسرقة في الجملة بل بعد قطع اليمين، وقد حصل.
ص: 200
• ويسقط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته، ويتحتم لو تاب بعد البيّنة.
ولو تاب بعد الإقرار قيل: يتحتّم القطع. وقيل: يتخيَّر الإمام في الإقامة والعفو، على رواية فيها ضعف.
----------------------------------
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل في القولين معاً؛ لأنّه خروج عن موضع الإذن الشرعي في القطع.
ومحل الخلاف ما إذا قطعت يمينه بغير السرقة، وكان قطعها قبل السرقة، كما أشرنا إليه. فلو كان قطعها بها فلا إشكال في الانتقال إلى الرجل، كما أنّ قطعها لو وقع بعد السرقة فلا إشكال في عدم الانتقال إلى غيرها، بل يسقط القطع لفوات محله، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة التى كان محلّها هنا.
ومنها: ما لو سرق ولا يد له يميناً ولا يساراً. قال الشيخ: قطعت رجله اليسرى(1). وهو أولى بالحكم في السابق على قول المبسوط؛ لأنّ الرجل اليسرى محل القطع حيث ينتقل الحكم عن اليد وفيه الإشكال السابق.
ومنها ما لو سرق ولا يد له ولا رجل، إما مطلقاً، أو المنفي اليد اليمنى والرجل اليسرى اللتين هما محلّ القطع شرعاً. قال الشيخ (رحمه اللّه): حبس(2)، كما يحبس في المرة الثالثة بعد قطع يده ورجله؛ لأن هذا بمعناه.
وفيه الإشكال؛ لأنّ النصّ إنّما ورد بكون الحبس عقوبة في المرة الثالثة بعد القطعين(3). ولم يتحقّق هنا، فإثباته عقوبة عن المرّة الأُولى تخطٍّ عن موضع الإذن من الشارع، وقياس مع وجود الفارق.
قوله: «ويسقط الحدّ بالتوبة قبل ثبوته، ويتحتم لو تاب بعد البيّنة» إلى آخره.
أمّا سقوط الحدّ بالتوبة قبل ثبوت سببه فموضع،وفاق، كنظائره من الحدود.
ص: 201
• ولو قطع الحداد يساره مع العلم فعليه القصاص، ولا يسقط قطع اليمين بالسرقة. ولو ظنّها اليمين فعلى الحداد الدية.
وهل يسقط قطع اليمين ؟ قال في المبسوط: لا؛ لتعلّق القطع بها قبل ذهابها. وفي رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: لا تقطع يمينه وقد قطعت شماله.
----------------------------------
وأمّا تحتمه بعد إقامة البيّنة فموافق للأصل والنصّ(1).
وأمّا التخيير فيه بعد الإقرار فقد تقدم البحث فيه (2)، وأن بالسقوط أو بتخير الإمام رواية مرسلة (3) وأُخرى ضعيفة السند(4)، وأن الأصحّ تحتم الحدّ كالبيّنة.
قوله: «ولو قطع الحداد يساره مع العلم فعليه القصاص» إلى آخره.
لا خلاف في بقاء حقّ القطع على السارق مع تعمّد الحداد قطع يساره، ولأصالة بقاء الحقّ. والجناية على يسراه لا تقوم مقامها؛ لأنها خلاف الحقّ.
وأمّا إذا أخطأ فظنّها اليمنى فعليه الدية للخطأ. وفي سقوط قطع اليمين قولان:
أحدهما - وهو الموافق للأصل - عدمه؛ لتعلّق حقّ القطع باليمين فيستصحب إلى أن يثبت المزيل. وجناية الحداد على اليسار كجنايته عليها عمداً. وهذا هو الذي اختاره الشيخ في المبسوط(5).
وقيل: يسقط قطع اليمين؛ لمساواة ما فعل للحق فيسقط، لاستيفاء مساوي الحقّ. ولئلا يبقى بغير يدين، وقد تقدم عناية الشارع ببقاء الواحدة.
ولرواية محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل
ص: 202
وإذا قطع السارق • يستحبُّ جسمه بالزيت المغلي نظراً له، وليس بلازم. وسراية الحدّ ليست مضمونة وإن أُقيم في حرّ أو برد؛ لأنّه استيفاء سائغ.
----------------------------------
أمر به أن تقطع يمينه فقدمت شماله فقطعوها وحسبوها يمينه، فقالوا: إنما قطعنا شماله أ تقطع يمينه ؟ فقال : لا تقطع وقد قطعت شماله»(1). وهذا هو الذي اختاره في المختلف(2).
ويضعّف بمنع مساواة ما فعل للحق. وضعف سند الرواية (3). مع أن الحكم بثبوت الدية على الحداد لا يجامع سقوط القطع معلّلاً بما ذكر.
نعم، لو قيل بأنّه حينئذٍ يصير كفاقد اليد اليسرى، وقد تقدّم أنّه يمنع من قطع اليمني(4)، لا من حيث مساواة المقطوعة للمستحقّ قطعها كان حسناً، والرواية لا تنافي ذلك. واقتصار المصنّف (رحمه اللّه) على نقل القول والرواية يقتضي تردّده في الحكم. وله وجه.
قوله: «يستحبّ حسمه بالزيت المغلي نظراً له» إلى آخره.
مستند الاستحباب ما روي من فعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والولاة بعد ذلك(5). وحكمته انسداد أفواه العروق فينقطع الدم.
ونبّه بقوله «نظراً له» إلى أنّ ذلك حقّ للمقطوع ونظر له، لا حقّ لله تعالى وتتمّة الحدّ(6)؛ لأنّ الغرض منه المعالجة ودفع الهلاك عنه بنزف الدم.
وذهب بعض العامّة إلى أنّه حقّ اللّه تعالى ومن تتمّة الحدّ ؛ لأن فيه مزيد إيلام، وما زال الولاة يفعلون ذلك على كراهة من المقطوعين.
ص: 203
الخامس في اللواحق
وهي مسائل:
الأُولى: يجب على السارق إعادة العين المسروقة. وإن تلفت أغرم مثلها أو قيمتها إن لم يكن مثل. وإن نقصت فعليه أرش النقصان. ولو مات صاحبها دفعت إلى ورثته. فإن لم يكن وارث فإلى الإمام.
الثانية: • إذا سرق اثنان نصاباً ففي وجوب القطع قولان. قال في النهاية: يجب القطع. وقال فى الخلاف: إذا نقب ثلاثة فبلغ نصيب كلّ واحد نصاباً قطعوا، وإن كان دون ذلك فلا قطع. والتوقف أحوط.
----------------------------------
وتظهر الفائدة في مؤونة الدهن والحسم فعلى المختار هي على المقطوع. ويتوقّف فعله على إذنه. ولو تركه الحاكم فلا شيء عليه.
ولكن يستحبّ للسارق أن يحسمه من غير وجوب؛ لأنّ في الحسم ألماً شديداً، وقد يهلك الضعيف، والمداواة بمثل ذلك لا تجب. وعلى الثاني فمؤونة الحسم كمؤونة الحدّاد على بيت المال.
والسنّة أن تعلق اليد المقطوعة في رقبته، لما روي: «أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أُتي بسارق، فأمر به فقطعت يده ثمّ علّقت في رقبته»(1). وفيه تنكيل وزجر له ولغيره. وتقدير المدة راجع إلى رأي الإمام.
قوله: «إذا سرق اثنان نصاباً ففي وجوب القطع قولان» إلى آخره.
موضع الخلاف ما إذا هتكا معاً الحرز وأخرجا النصاب معاً، بأن وضعا أيديهما عليه وأخرجاه. أما لو أخرج كلّ واحدٍ منهما نصف نصاب على حدته فلا خلاف في عدم القطع.
ووجه ثبوت القطع على كلّ منهما مع اجتماعهما على إخراجه صدق إخراجهما
ص: 204
الثالثة: • لو سرق ولم يقدر عليه ثمّ سرق ثانية قطع بالأخيرة وأغرم المالين. ولو قامت الحجة بالسرقة ثمّ أمسكت حتّى قطع ثمّ شهدت عليه بأخرى، قال في النهاية: قطعت [يده بالأُولى و] رجله بالثانية، استناداً إلى الرواية. وتوقّف بعض الأصحاب فيه. وهو أولى.
----------------------------------
للنصاب الذي هو شرط قطع المخرج، وهو مستند إليهما. فترك قطعهما يستلزم سقوط الحدّ مع وجود شرطه، وقطع أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجّح، فلم يبق إلّا قطعهما. وإلى هذا ذهب الشيخ في أحد قوليه(1)، والمفيد (2) والمرتضى(3)، وأتباع الشيخ(4)، أجمعون.
وذهب الشيخ في المبسوط والخلاف(5)، وابن الجنيد(6)، وابن إدريس (7)، والعلّامة في المختلف(8) إلى أنّه لا قطع على أحدهما للأصل، ولأنّ موجب القطع هو إخراج النصاب، ولم يحصل من كلّ منهما، ولا يصحّ استناد المعلول الشخصي إلى علل متعددة، والبعض الصادر عن كلّ منهما ليس موجباً للقطع. وهذا هو الأقوى.
قوله: «لو سرق ولم يقدر عليه ثمّ سرق ثانية قطع بالأخيرة» إلى آخره.
إذا تكرّرت السرقة ولم يرافع بينهما فعليه قطع واحد؛ لأنّه حدّ فتتداخل أسبابه لو اجتمعت، كغيره من الحدود
وهل القطع بالأُولى أو بالأخيرة؟ قولان، جزم المصنّف (رحمه اللّه) بالثاني، والعلّامة
ص: 205
----------------------------------
بالأوّل(1). وتظهر فائدة القولين لو عفا من حكم بالقطع لأجله.
والحقّ أنّه يقطع على كلّ حالٍ حتّى لو عفا أحدهما قطع بالأُخرى؛ لأنّ كلّ واحدةٍ سبب تامّ في استحقاق القطع مع المرافعة. وتداخل الأسباب على تقدير الاستيفاء لا يقتضي تداخلها مطلقاً؛ لأنّه على خلاف الأصل.
هذا إذا أقرّ بها دفعةً أو قامت البيّنة بها كذلك. أما لو شهدت البيّنة عليه بواحدة ثمّ أمسكت ثمّ شهدت أو غيرها عليه بأخرى قبل القطع، ففي التداخل قولان، أقربهما عدم تعدد القطع كالسابق، لما ذكر من العلّة.
ولو أمسكت الثانية حتّى قطع بالأُولى ثمّ شهدت، ففي ثبوت قطع رجله بالثانية قولان أيضاً، وأولى بالثبوت لو قيل به ثم.
ويؤيده رواية بكير بن أعين عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل سرق فلم يقدر عليه ثمّ سرق مرّة أُخرى فأخذ، فجاءت البيّنة فشهدوا عليه بالسرقة الأُولى والسرقة الأخيرة، فقال: «تقطع يده بالسرقة الأُولى، ولا تقطع رجله بالسرقة الأخيرة، فقيل: كيف ذاك؟ فقال: «لأنّ الشهود شهدوا جميعاً في مقام واحد بالسرقة الأُولى والأخيرة قبل أن يقطع بالسرقة الأولى، ولو أنّ الشهود شهدوا عليه بالسرقة الأُولى ثمّ أمسكوا حتّى تقطع يده، ثمّ شهدوا عليه بالسرقة الأخيرة، قطعت رجله اليسرى»(2).
والرواية نصّ إلّا أن في طريقها ضعفاً(3).
وتوقف ابن إدريس في ذلك(4)، وكذلك المصنّف، وله وجه، مراعاة للاحتياط في حقوق اللّه تعالى، ودرءاً للحدّ بالشبهة العارضة من الاختلاف.
ص: 206
الرابعة • قطع السارق موقوف على مطالبة المسروق، فلو لم يرافعه لم يرفعه الإمام وإن قامت البيّنة. ولو وهبه المسروق سقط الحدّ. وكذا لو عفا عن القطع. فأمّا بعد المرافعة فإنّه لا يسقط بهبةٍ ولا عفوٍ.
----------------------------------
قوله: «قطع السارق موقوف على مطالبة المسروق» إلى آخره.
الشهادة على السرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله فذاك.
وإن شهد الشهود على دعوى الحسبة فعند الأصحاب أنّه لا يقطع؛ تغليباً لحقّ الآدمي وإن كان لله تعالى فيه حق. فلو كان المسروق منه غائباً أخر إلى أن يحضر ويرافع.
وهذا بخلاف ما إذا شهد الأربعة على الزنى بجارية الغائب، فإنّه يقام الحدّ على المشهود عليه، ولا ينتظر حضور الغائب.
والفرق بينهما - مع اشتراكهما في تعلق حقّ الآدمي فيهما - أن حدّ الزنى لا يسقط بإباحة الوطء ولا بعفوه، بخلاف القطع، فإنه يسقط بإباحة الأخذ قبل المرافعة، وربما أباح الغائب الأخذ إذا حضر، ولأنّ السقوط إلى القطع أسرع منه إلى حدّ الزني، ألا ترى أنّه إذا سرق مال ابنه لا يقطع، ولو زنى بجاريته يحد، ولأن القطع متعلّق حقّ الآدمي، من حيث إنّه سبب العصمة ماله فاشترط لذلك طلبه وحضوره، بخلاف الزني.
وخالف في ذلك بعض العامّة، فجوّز القطع ببينة الحسبة(1)، وآخرون فأوقفوا حدّ الزنى المذكور على حضور المالك(2)، نظراً في الأوّل إلى أنّ القطع حقّ لله تعالى والغرم حقّ الآدمي، وفي الثاني إلى اشتراك الحق بينهما، مع ترجيح حقّ الآدمي كنظائره.
واعلم أنّه قد سبق (3) في رواية سارق رداء صفوان ما يدل على أن العفو أو هبة المال قبل المرافعة يسقط الحدّ، ولا يؤثر بعدها، لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد أمر بقطع يده: «أفلا كان ذلك قبل أن تنتهي به إليّ ؟!».
ص: 207
فرع : لو سرق مالاً فملكه قبل المرافعة سقط الحدّ. ولو ملكه بعد المرافعة لم يسقط.
الخامسة: • لو أخرج المال وأعاده إلى الحرز لم يسقط الحدّ؛ لحصول السبب التامّ.
وفيه تردّد، من حيث إنّ القطع موقوف على المرافعة، فإذا دفعه إلى صاحبه لم تبق له مطالبة.
----------------------------------
قوله: «لو أخرج المال وأعاده إلى الحرز لم يسقط الحدّ؛ لحصول السبب التام. وفيه تردّد» إلى آخره.
القول بثبوت القطع وإن ردّه إلى الحرز للشيخ في المبسوط والخلاف(1).
ووجهه ما أشار إليه المصنّف من حصول السبب التام للقطع، وهو إخراج النصاب من الحرز على وجه السرقة، فيثبت به القطع ويستصحب حكم الوجوب.
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في ذلك، من حيث إنّ القطع موقوف على مرافعة المالك، ومع ردّه إلى محله ليس له المرافعة؛ لوصول حقّه إليه.
وهذا يرجع إلى منع كون السرقة على الوجه المذكور سبباً تاماً في ثبوت القطع؛ لتوقّفه على المرافعة ولم يحصل.
وفيه نظر؛ لأنّ مجرّد ردّه إلى الحرز لا يكفي في براءة السارق من الضمان من دون أن يصل إلى يد المالك، ومن ثمّ لو تلف قبل وصوله إليه،ضمنه فله المرافعة حينئذٍ، ويترتب عليها ثبوت القطع.
نعم، لو وصل إلى يد المالك ضعف القول بالقطع جداً. وبهذا يصير النزاع في قوة اللفظي؛ لأنّه مع وصوله إلى المالك لا يتجه القطع أصلاً، وبدونه لا يتّجه عدمه. والتعليلان مبنيان على هذا التفصيل.
ص: 208
• ولو هتك الحرز جماعة فأخرج المال أحدهم فالقطع عليه خاصّة؛ لانفراده بالموجب. ولو قربه أحدهم وأخرجه الآخر فالقطع على المخرج. وكذا لو وضعها الداخل في وسط النقب وأخرجها الخارج. وقال في المبسوط: لا قطع على أحدهما؛ لأنّ كلّ واحد لم يخرجه عن كمال الحرز.
----------------------------------
قوله: «ولو هتك الحرز جماعة فأخرج المال أحدهم فالقطع عليه خاصة؛ لانفراده بالموجب» إلى آخره.
قد تقدم أنّ هتك الحرز شرط في وجوب القطع(1)، وأنه يحصل باشتراكهما فيه كما يحصل بالانفراد. وأما الإخراج ففي تحقّقه بالاشتراك إذا كان نصاباً واحداً خلاف تقدّم البحث فيه (2).
فإن نقباء وكان المخرج إلى وسط النقب نصاباً واحداً فلا قطع على أحدهما؛ لأنّ النصاب الواحد لم يستند إخراجه إلى واحد.
وإن كان نصيب كلّ واحد منهما بقدر النصاب، أو لم يشترط في قطعهما كون نصيب كلّ واحد منهما نصاباً، فأخرجه أحدهما إلى وسط النقب وأخرجه الآخر، ففي ثبوت القطع عليهما أو على أحدهما أوجه:
أحدها - وهو الذي نقله المصنّف عن المبسوط (3)، وتبعه القاضي (4) - انتفاؤه عنهما؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما لم يخرجه عن كمال الحرز، فإنّ الأوّل أخرجه إلى نصفه مثلاً، والثاني أكمل إخراجه، فهو كما لو وضعه الأوّل في ذلك الموضع، فأخذه غيره ممن لم يشارك في النقب.
وردّ بالفرق، فإن من لم يشارك في النقب لم يحصل فيه شرط القطع الذي من جملته هتك الحرز، بخلاف المشارك.
ص: 209
السادسة: • لو أخرج قدر النصاب دفعة وجب القطع. ولو أخرجه مراراً ففي وجوبه تردّد، أصحه وجوب الحدّ؛ لأنّه أخرج نصاباً، واشتراط المرّة في الإخراج غير معلوم
----------------------------------
والثاني: وجوب القطع عليهما معاً؛ لأنّه تم الإخراج بتعاونهما، فهو كما لو أخرجاه دفعة، ولأنّه يصير ذريعة إلى إسقاط الحدّ.
وفيه نظر، للفرق أيضاً بين الأمرين، فإنّه مع إخراجهما إياه دفعة يتحقّق الإخراج للنصاب من كلّ منهما في مجموع المسافة بخلاف المتنازع والذريعة إلى إسقاط الحدّ لا يقدح في تغيّر الحكم، كما يحتال لإسقاطه بغيره من الحيل.
والثالث: وجوب القطع على المخرج أخيراً؛ لأنّه لم يتحقّق الإخراج إلا بفعله، ولهذا لو بقي في النقب لم يجب القطع قطعاً. وهو مختار ابن إدريس(1).
وفيه نظر؛ لأنّ الإخراج إنّما تحقّق بفعله لكونه تمام السبب لا السبب التام، وفرق بين الأمرين.
وفي المختلف بنى الحكم على أن وقوع المقدور من القادرين هل هو ممكن أو ممتنع؟ فعلى الأوّل يثبت القطع على الأخير، وعلى الثاني عليهما؛ لعدم الفرق بين قطع كمال المسافة دفعة أو على التعاقب؛ لمغايرة الصادر من كلّ منهما للآخر والمجموع منهما(2).
ولا يخفى ضعف هذا البناء في الأمرين معاً، فإنّ المعتبر في الإخراج المتعارف، لا الواقع في اصطلاح بعض المتكلمين الذي يرجع مدركه إلى مجرّد الظن.
قوله: «لو أخرج قدر النصاب دفعةً وجب القطع ولو أخرجه مراراً ففي وجوبه تردّد، أصحّه وجوب الحدّ» إلى آخره.
اختلف الفقهاء في اشتراط اتّحاد إخراج النصاب وعدمه، فذهب أبو الصلاح إلى
ص: 210
----------------------------------
اشتراطه مطلقاً (1)؛ لأنّه لمّا هتك الحرز وأخرج دون النصاب لم يجب عليه القطع، لفقد الشرط، فلما عاد ثانياً لم يخرج من حرز فلا قطع، وإن بلغ الثاني نصاباً، فضلاً عن كونه مكملاً له.
وذهب القاضي إلى عدم اشتراط الاتّحاد مطلقاً (2). ورجحه المصنّف (رحمه اللّه)؛ لصدق إخراج النصاب، وأصالة عدم اشتراط الاتّحاد مطلقاً، فيتناوله عموم الأدلّة الدالّة على قطع سارق النصاب(3) الشامل بإطلاقه للأمرين.
وتردّد الشيخ في القولين(4)، وكذلك ابن إدريس، لذلك(5).
واختلف كلام العلّامة، ففي القواعد فرّق بين قصر زمان العود وعدمه فجعل الأوّل بمنزلة المتّحد دون الثاني(6).
وفي المختلف فصل بأمر آخر، فحكم بالقطع مع التعدّد إن لم يشتهر بين الناس هتك الحرز، وعدمه إن علم هتكه؛ لخروجه عن كونه حرزاً (7). وقواه ولده الفخر (رحمه اللّه)(8).
وفصّل في التحرير ثالثاً، فأوجب الحدّ إن لم يتخلّل اطلاع المالك، ولم يطل الزمان بحيث لا يسمّى سرقة واحدةً عرفاً (9).
ص: 211
السابعة: • لو نقب فأخذ النصاب وأحدث فيه حدثاً تنقص به قيمته عن النصاب ثمّ أخرجه، مثل أن خرّق الثوب أو ذبح الشاة، فلا قطع.
ولو أخرج نصاباً فنقصت قيمته قبل المرافعة ثبت القطع.
الثامنة: • لو ابتلع داخل الحرز ما قدره نصاب، كاللؤلؤة، فإن كان يتعذّر إخراجه فهو كالتالف، فلا حدّ. ولو اتّفق خروجها بعد خروجه فهو ضامن. وإن كان خروجها ممّا لا يتعدّر، بالنظر إلى عادته، قطع؛ لأنّه يجري مجرى إيداعها في الوعاء.
----------------------------------
وهذا أقوى؛ لدلالة العرف على اتّحاد السرقة مع فقد الأمرين وإن تعدد الإخراج، وتعدّدها بأحدهما.
قوله: «لو نقب فأخذ النصاب وأحدث فيه حدثاً» إلى آخره.
أمّا الأوّل؛ فلأنّه لم يصدق عليه إخراج النصاب من الحرز، وإن كان مضموناً عليه.
وأمّا الثاني فلتحقّق الإخراج الذي هو سبب القطع، فلا يزيله نقص القيمة بعده، كما لا يزيله إتلافه جملة.
قوله: «لو ابتلع داخل الحرز ما قدره نصاب» إلى آخره.
إذا ابتلع داخل الحرز قدر النصاب فإن استهلكه الابتلاع - كالطعام - لم يقطع؛ لأنّه لم يخرج النصاب.
وإن بقيت قيمته بحالها، أو غير ناقصة عن النصاب وإن نقصت بالابتلاع، كما لو ابتلع ديناراً أو جوهرة لا يفسدها ذلك، فإن اعتيد خروجه صحيحاً أو غير ناقص عن النصاب فهو كالمخرج بيده أو في وعاء؛ لتحقّق الإخراج المعتبر. وهذا يتم على تقدير خروجه كذلك. فلو اتّفق فساده خلاف العادة قبل القطع لم يقطع.
ويظهر من العبارة جواز تعجيل قطعه قبل الخروج حيث يكون الخروج معتاداً. والأُولى الصبر إلى أن يخرج، دفعاً للاحتمال.
ص: 212
• المحارب كلّ من جرد السلاح لإخافة الناس، في برّ أو بحر، ليلاً أو نهاراً، في مصر وغيره.
وهل يشترط كونه من أهل الريبة؟ فيه تردّد، أصحه أنه لا يشترط مع العلم بقصد الإخافة.
ويستوي في هذا الحكم الذكر والأنثى إن اتّفق.
وفي ثبوت هذا الحكم للمجرّد مع ضعفه عن الإخافة تردّد، أشبهه الثبوت، ويجتزى بقصده
----------------------------------
وذهب بعض العامّة إلى عدم وجوب القطع مطلقاً (1)؛ لأنّه بالابتلاع صار في حكم المستهلك، ولهذا جاز للمالك مطالبته بقيمته في الحال، ولأنّه كالمكره في إخراجه؛ لأنّه لا يمكنه إخراجه من جوفه. والأمران ممنوعان.
الباب السادس في حدّ المحارب
قوله: «المحارب كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر، ليلاً أو نهاراً، في مصر وغيره» إلى آخره.
يشترط في المحارب تجريد السلاح والمراد به هنا ما يشمل المحدد، حتّى العصا والحجارة، وإن كان إطلاقه على ذلك لا يخلو من تجوّز. وقصد إخافة الناس، فلو اتّفق خوفهم منه من غير أن يقصده فليس بمحارب.
ص: 213
----------------------------------
ولا فرق بين الواحد والمتعدد، ولا بين أن يحصل معه خوف الناس أو أخذ مالهم وعدمه، بل متى خرج بقصد ذلك فهو محارب.
وكذا لا فرق بين البر والبحر، ولا بين المضر وغيره، حتّى لو جرد السلاح وأخذ من داخل الدار ليلاً أو نهاراً مكابرة لأهله فهو محارب، وقد يكون مع ذلك سارقاً.
ويستوي في ذلك الذكر والأنثى، لعموم الأدلّة (1).
وخالف في ذلك ابن الجنيد فاعتبر الذكورة (2). وهو قول بعض العامّة (3)، نظراً إلى ضمير المذكر في قوله تعالى: «الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ»(4) الآية.
وبعضهم اعتبر كونه في البرّ والمواضع البعيدة عن العمران(5). وعموم الآية يدفعه.
وبقي الخلاف في موضعين:
أحدهما: في اشتراط كونه من أهل الريبة. وفيه قولان:
أحدهما: عدم الاشتراط، فيتعلّق الحكم به وإن لم يكن من أهل الريبة إذا جرّد السلاح لإخافة الناس؛ لعموم الآية(6)، فإنّ «الذين» جمع معرّف فيعمّ.
ولصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «من شهر السلاح في مصر من الأمصار»(7). الحديث. وهو قول المصنّف وأكثر الأصحاب.
ص: 214
• ولا يثبت هذا الحكم للطليع ولا للرد.
وتثبت هذه الجناية بالإقرار ولو مرّة، وبشهادة رجلين عدلين ولا تقبل شهادة النساء فيه منفردات، ولا مع الرجال.
ولو شهد بعض اللصوص على بعض لم تقبل. وكذا لو شهد المأخوذون بعضهم لبعض. أما لو قالوا: «عرضوا لنا وأخذوا هؤلاء» قبل؛ لأنّه لا ينشأ من ذلك تهمة تمنع الشهادة.
----------------------------------
والثاني: اشتراطها؛ لأنّه المتيقن والحدود تدراً بالشبهات وهو ظاهر الشيخ في النهاية (1) والقاضي (2).
ويضعف بأن البحث على تقدير وجود السبب أعني المحاربة، فيتحقّق المسبّب.
الثاني: لو ضعف المجرّد عن الإخافة مع قصدها، ففي تعلّق الحكم به إشكال، ناشئ من عموم الآية (3) والحديث(4)، ومن عدم وجود المعنى المفهوم من المحارب، والاكتفاء بمجرّد الصورة مجاز. ومختار المصنّف من الاكتفاء بقصدها أقوى.
واعلم أنّ التعريف شامل للصغير والكبير، ولابد من تقييده بالمكلّف؛ لأنّ الحدّ منوط بالتكليف، وإن ضمن الصغير المال والنفس، كما يضمن ما يتلفه في غير هذا الفرض.
قوله: «ولا يثبت هذا الحكم للطليع ولا للرد».
الطليع هو الذي يرقب له من يمرّ بالطريق ونحوه فيعلمه به(5)، أو يرقب من يخاف عليه منه فيحذّره منه.
ص: 215
• وحدّ المحارب: القتل، أو الصلب، أو القطع مخالفاً، أو النفي.
وقد تردّد فيه الأصحاب، فقال المفيد (رحمه اللّه) بالتخيير.
وقال الشيخ أبو جعفر (رحمه اللّه) بالترتيب: يُقتل إن قَتَل. ولو عفا وليّ الدم قتله الإمام. ولو قتل وأخذ المال استعيد منه، وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ثمّ قتل وصلب. وإن أخذ المال ولم يقتل قطع مخالفاً ونفي. ولو جرح ولم يأخذ المال اقتصّ منه ونفي. ولو اقتصر على شهر السلاح والإخافة نفى لا غير.
واستند في التفصيل إلى الأحاديث الدالّة عليه. وتلك الأحاديث لا تنفكّ من ضعف في إسناد أو اضطراب في متن أو قصور في دلالة، فالأُولى العمل بالأول؛ تمسّكاً بظاهر الآية.
----------------------------------
والرد - بكسر الراء وسكون الدال المهملة فالهمزة - هو المُعين له (1) فيما يحتاج إليه، من غير أن يباشر متعلّق المحاربة، وإلّا كان محارباً.
قوله: «وحدّ المحارب: القتل أو الصلب أو القطع مخالفاً، أو النفي. وقد تردّد فيه الأصحاب» إلى آخره.
الأصل في حدّ المحارب قوله تعالى: «إِنَّمَا جَزَؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» (2).
وقد اختلف الأصحاب في هذه العقوبات هل هي على وجه التخيير أو التفصيل
ص: 216
----------------------------------
والترتيب؟ فذهب المفيد (1) وسلّار (2) وابن إدريس (3) والمصنّف والعلّامة في أحد قوليه(4) إلى الأوّل، إمّا لإفادة «أو» هنا التخيير وإن كانت محتملة لغيره؛ لما روي صحيحاً من أنّ «أو» في القرآن للتخيير حيث وقع(5).
ولحسنة جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه عزّ وجلّ: «إِنَّمَا جَزَؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا»(6) إلى آخر الآية، فقلت: أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمى اللّه تعالى؟ قال: «ذلك إلى الإمام إن شاء قطع وإن شاء صلب وإن شاء نفى وإن شاء قتل»، قلت: النفي إلى أين ؟ قال : «يُنفى من مِصْر إلى مضر آخر»، وقال: «إنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة»(7).
وصحيحة بريد بن معاوية قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قوله تعالى: «إِنَّمَا جَزَوا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ»(8) الآية، قال: «ذاك إلى الإمام يفعل ما يشاء»، قلت: فمفوّض ذلك إليه ؟ قال: «لا، ولكن بحق الجناية»(9).
ص: 217
----------------------------------
وذهب الشيخ(1) وأتباعه (2) وأبو الصلاح (3) والعلّامة في أحد قوليه(4) إلى أنّ ذلك على الترتيب والتفصيل، كما نقله المصنّف (رحمه اللّه)؛ لرواية عبيد اللّه بن إسحاق المدائني، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قلت له: جعلت فداك أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ: «إِنَّمَا جَزَواً الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَفٍ»(5) الآية. قال: فعقد بيده ثمّ قال: «يا أبا عبد اللّه خذها أربعاً بأربع»، ثمّ قال: «إذا حارب اللّه ورسوله وسعى فى الأرض فساداً فقتل قتل، وإن قتل وأخذ المال قُتِل وصُلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن حارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض فساداً ولم يقتل ولم يأخذ من المال نفي من الأرض». قال، قلت: وما حدّ نفيه؟ قال: «سنة ينفى من الأرض التي فعل فيه إلى غيره، ثمّ يكتب إلى ذلك المضر بأنّه منفي، فلا تؤاكلوه ولا تشاربوه ولا تناكحوه حتّى يخرج إلى غيره، فيكتب إليهم أيضاً بمثل ذلك، فلا يزال هذه حاله سنة، فإذا فعل به ذلك تاب وهو صاغر»(6).
ومثله روي عن الكاظم (7) والرضا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)(8).
ورواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من شهر السلاح في مِصْر من الأمصار فعقر اقتصّ منه ونفي من تلك البلدة، ومن شهر السلاح في غير الأمصار وضرب وعقر
ص: 218
----------------------------------
وأخذ الأموال ولم يقتل فهو محارب، فجزاؤه جزاء المحارب، وأمره إلى الإمام إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله»، قال: «وإن ضرب وقتل وأخذ المال فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسرقة، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثمّ يقتلونه»(1). الحديث.
ورواية عبيدة بن بشير الخثعمي قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قاطع الطريق وقلت: إنّ الناس يقولون: الإمام مخيّر أي شيء صنع، قال: «ليس أيّ شيء شاء صنع ولكنه يصنع بهم على قدر جناياتهم»، فقال: «من قطع الطريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب، ومن قطع الطريق وقتل ولم يأخذ المال قتل، ومن قطع الطريق وأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن قطع الطريق ولم يأخذ مالاً ولم يقتل نفي من الأرض» (2).
فهذه الروايات التي استند إليها الشيخ ومن تبعه وهي -كما قال المصنّف (رحمه اللّه) - ضعيفة الإسناد، فإنّ عبيد اللّه راوي الرواية الأُولى وعبيدة راوي الأخيرة مجهولان. وفي طريق الأُولى محمد بن سليمان الديلمي، وهو ضعيف جدّاً (3). وفيهما غير ذلك من ضروب الضعف.
وهي مع ذلك مضطربة المتن، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة على تفاصيل حاله مختلفة، لتضمّن الأُولى أنّ حكم من قتل وأخذ المال أن يقتل ويصلب، وتضمّن الأخيرة أنه يقطع مخالفاً ويصلب، وتضمّن الثانية - وهي رواية محمد بن مسلم - أنّه يقطع بالمال ثمّ يدفع إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصاً من غير صلب. إلى غير ذلك من الاختلاف.
ص: 219
وهاهنا مسائل
الأولى: • إذا قتل المحارب غيره طلباً للمال تحتم قتله قوداً إن كان المقتول كُفُؤاً، ومع عفو الوليّ حدّاً، سواء كان المقتول كفواً أو لم يكن.
ولو قتل لا طلباً للمال كان كقاتل العمد، وأمره إلى الولي.
----------------------------------
وليس في الروايتين حكم ما لو جرح، وإنما هو مذكور في رواية محمد بن مسلم. وفيها ذلك مخالفة لهما بالفرق بين المحارب في مصر وغيره. وفي حكم كلّ منهما مخالفة لما تضمنته الروايتان.
فما ذكره الشيخ من التفصيل لا يستفاد من كلّ واحدة من الروايات، وإنّما يجتمع منها على اختلاف فيها، فمن ثمّ وصفها المصنّف (رحمه اللّه) بالضعف والاضطراب وقصور الدلالة.
ثمَّ هي غير حاصرة للأقسام الممكنة، فإنّه قد يجمع بين هذه الجنايات كلّها، وقد يجرح ويأخذ المال، وقد يقتل ويجرح ولا يأخذ المال، إلى غير ذلك من الفروض الخارجة عمّا ذكر في الروايات.
مع أنّ رواية محمّد بن مسلم صحيحة، وهي دالة على حكم ثالث، وهو التخيير بين الأمور الأربعة مع عدم القتل، وتحتم القتل معه. ويظهر من الاستبصار ترجيحه؛ لأنّه جعله جامعاً بين الأخبار(1).
وهو أولى من القول بالترتيب الذي ذكره في غيره (2)، وإن كان القول الأوّل أظهر منهما. قوله: «إذا قتل المحارب غيره طلباً للمال تحتم قتله قوداً - إلى قوله - على الأظهر».
الحكم هنا متفرّع على الخلاف السابق، فإن قلنا بتخيّر الإمام فيه مطلقاً وقتل المحارب
ص: 220
أما لو جرح طلباً للمال كان القصاص إلى الوليّ. ولا يتحتّم الاقتصاص في الجرح، بتقدير أن يعفو الولي، على الأظهر.
----------------------------------
لزمه حكم القتل من قصاص ودية، فإذا استوفي منه تخيّر الإمام في جهة حدّه.
وإن قلنا بالتفصيل فقتل طلباً للمال، فإن كان المقتول مكافئاً له وكان القتل عمداً اجتمع عليه سببان للقتل، أحدهما القصاص والآخر الحدّ. فإن عفا الولي تحتم قتله حدّاً.
وإن كان المقتول غير مكافئ، كما لو قتل الأب الابن والمسلم الذمّي والحر العبد، تعين قتله حدّاً، وأخذ من تركته الدية أو القيمة.
ولو كان المقتول جماعة قتل بواحد وللباقين الدية. وكان حكمهم في العفو كما سبق(1). ولو عفا ولي المقتول على مال بقي القتل حدّاً.
ولو تاب قبل الظفر به سقط الحدّ وبقي القصاص. ولو قتله قاتل بغير إذن الإمام فلا قصاص؛ لأنّ قتله متحتم. وتؤخذ الدية من تركته. ولو جرح أو قطع عضواً طلباً للمال استوفي منه القصاص. ثمّ إن طابق المطلوب منه الحدّ، كما لو قطع اليد اليمنى لرجل قطعت قصاصاً، وأكمل الحدّ بقطع رجله اليسرى. وإن كان مخالفاً للحد، كقطع اليسار اقتصّ منه واستوفي الحدّ على وجهه.
ولو كان جرحاً فأمر القصاص إلى الولى، ولا مدخل للإمام فيه؛ لأنّه ليس من جنس الحدّ بمقتضى الآية (2).
ويحتمل مع العفو استيفاؤه حدّاً؛ لذكره في تفصيل الحدّ. ولا يخفى ضعفه، لعدم الدليل عليه، وإن ذكره القائل بالتفصيل.
ص: 221
الثانية • إذا تاب قبل القدرة عليه سقط الحدّ، ولم يسقط ما يتعلّق به من حقوق الناس كالقتل والجرح والمال. ولو تاب بعد الظفر به لم يسقط عنه حدّ ولا قصاص ولا غرم.
الثالثة: • اللصّ محارب، فإذا دخل داراً متغلّباً كان لصاحبها محاربته. فإن أدى الدفع إلى قتله كان دمه ضائعاً لا يضمنه الدافع. ولو جنى اللص عليه ضمن. ويجوز الكفّ عنه. أما لو أراد نفس المدخول عليه فالواجب الدفع ولا يجوز الاستسلام والحال هذه. ولو عجز عن المقاومة وأمكن الهرب وجب.
----------------------------------
قوله: «إذا تاب قبل القدرة عليه سقط الحدّ» إلى آخره.
أمّا عدم سقوط حقوق الآدميين بالتوبة مطلقاً فواضح؛ لأن حقّ الآدمي لا يسقط إلا بإسقاط المستحقّ، ولا مدخل للتوبة فيه.
وأما التفصيل في سقوط الحدّ بالتوبة قبل أخذه وبعده فذلك هو مقتضى حدّ اللّه تعالى، كما سبق في نظائره. ويدلّ عليه هنا بخصوصه قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1).
وأمّا توبته بعد القدرة فوجوب الحدّ ثابت بحكم الاستصحاب، مضافاً إلى مفهوم الشرط في الآية(2).
وفرق بين الحالتين من جهة المعنى، بأنه بعد القدرة عليه متعرّض للحدّ متهم بقصد الدفع في التوبة، وأمّا قبل القدرة عليه فهو ممتنع عن طاعة الإمام، وتوبته بعيدة عن التهمة، قريبة من الحقيقة، فلذلك أسقطت الحدّ.
قوله: «اللصّ محارب، فإذا دخل داراً متغلّباً كان لصاحبها محاربته» إلى آخره.
اللصّ إن شهر سلاحاً وما في معناه فهو محارب حقيقةً ؛ لما تقدم من أن المحارب يتحقّق
ص: 222
الرابعة: • يصلب المحارب حيّاً على القول بالتخيير، ومقتولاً على القول الآخر.
----------------------------------
في العمران وغيرها وإن لم يكن معه سلاح(1)، بل يريد اختلاس المال والهرب، فهو في معنى المحارب في جواز دفعه ولو بالقتل إذا توقف الدفع عليه.
وأطلق المصنّف (رحمه اللّه) اسم المحارب عليه مطلقاً تبعاً للنصوص، ففي رواية منصور عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «اللصّ محارب لله ولرسوله فاقتلوه، فما دخل عليك فعليَّ»(2).
وفي رواية غياث بن إبراهيم، عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا دخل عليك اللص يريد أهلك ومالك، فإن استطعت أن تبدره فابدره واضربه»، وقال: «اللصّ محارب اللّه ولرسوله فاقتله، فما مسك منه فهو عليّ»(3).
وإنّما عدلنا عن ظاهر الروايات إلى ما ذكرناه من التفصيل لقصورها سنداً عن إفادة الحكم مطلقاً، فيرجع إلى القواعد المقررة.
ثمَّ إن كان غرضه أخذ المال لم يجب دفعه وإن جاز. وينبغي تقييد ذلك بما لا يضرّه فوته، وإلّا اتّجه الوجوب مع عدم التغرير بالنفس. وإن طلب العرض وجب دفعه مع عدم ظنّ العطب.
وإن طلب النفس وجب دفعه مطلقاً؛ لوجوب حفظ النفس، وغايته العطب، وهو غاية عمل المفسد فيكون الدفاع أرجح.
نعم لو أمكن السلامة بالهرب كان أحد أسباب حفظ النفس، فيجب عيناً إن توقّفت عليه، أو تخييراً إن أمكنت به وبغيره.
قوله: يصلب المحارب حياً على القول بالتخيير، ومقتولاً على القول الآخر».
أمّا صلبه حيّاً على القول بالتخيير؛ فلأنه أحد أفراد الحدّ وقسيم للقتل، وهو يقتضي كونه حيّاً.
ص: 223
الخامسة : • لا يترك على خشبته أكثر من ثلاثة أيّام، ثمّ ينزل ويغسل ويكفّن ويصلّى عليه ويدفن.
ومن لا يصلب إلا بعد القتل لا يفتقر إلى تغسيله؛ لأنّه يقدمه أمام القتل.
----------------------------------
وأمّا على القول بالتفصيل فإنما يصلب على تقدير قتله وأخذه للمال، وقد تقدم أنه يقتل أوّلاً ثمّ يصلب.
ثمَّ على تقدير صلبه حيّاً إن مات بالصلب قبل ثلاثة أيّام، وإلّا أجهز عليه بعدها.
قوله: «لا يترك على خشبته أكثر من ثلاثة أيّام» إلى آخره.
ظاهر الأصحاب أنّ النهى عن تركه أزيد من ثلاثة أيّام على وجه التحريم، ومقتضاه كون الثلاثة من يوم صلبه لا من موته. والمعتبر من الأيّام النهار دون الليل. نعم، تدخل الليلتان المتوسطتان تبعاً.
والمستند رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: لا تدعوا المصلوب بعد ثلاثة أيّام حتّى يُنزل فيدفن»(1).
وروايته أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) صلب رجلاً بالحيرة ثلاثة أيّام، ثمّ أنزله يوم الرابع وصلّى عليه ودفنه» (2).
ولا فرق في ذلك بين الأيّام الطويلة والقصيرة، ولا الحارة والباردة، وإن حصل به في الثلاثة مثلة، عملاً بالعموم.
وقد قيل: إن الصلب سمّي صلباً لسيلان صليب المصلوب، وهو الودك (3) حتّى اعتبره بعض العامّة لذلك(4).
ص: 224
السادسة: • ينفى المحارب من بلده، ويكتب إلى كلّ بلد يأوي إليه بالمنع من مؤاكلته ومشاربته ومجالسته ومبايعته. ولو قصد بلاد الشرك منع منها. ولو مكّنوه من دخولها قوتلوا حتّى يخرجوه.
----------------------------------
ويظهر من قوله «ومن لا يصلب إلا بعد القتل لا يفتقر إلى تغسيله» إلى آخره، أنّ تقديم الغسل حينئذٍ واجب معيّن، ولو فرض إخلاله به وجب تغسيله أيضاً.
ولو أريد بصلبه قتله به أُمر بالغسل قبله، كما لو قُتل بغيره؛ لعموم الأمر بالغسل لمن أريد قتله(1). ولا فرق بين القسمين، وكأنّ المصنّف (رحمه اللّه) فصلهما من حيث إن الصلب لا يستلزم القتل مطلقاً، فلا يدخل في العموم.
قوله : « ينفى المحارب من بلده، ويكتب إلى كلّ بلد يأوي إليه بالمنع من مؤاكلته ومشاربته ومجالسته ومبايعته» إلى آخره.
إذا كان حدّ المحارب النفي، إمّا باختيار الإمام ذلك، أو بفعله ما يوجبه على القول الآخر، فالمراد منه ما هو الظاهر من معناه، وهو إخراجه من بلده إلى غيره، وإعلام كلّ بلد يصل إليه بالامتناع منه على الوجه الذي ذكره، لينتقل إلى آخر. ونفيه من الأرض كناية عن ذلك، إذ لا يخرج عن مجموع الأرض، ولكن لما لم يقرّ على أرض كان في معنى النفي من الأرض مطلقاً.
وظاهر المصنّف والأكثر عدم تحديده بمدة، بل ينفى دائماً إلى أن يتوب.
وقد تقدّم في الرواية كونه سنة(2). وحملت على التوبة في الأثناء. وهو بعيد.
وبعض العامّة فسّر النفي من الأرض بالحبس؛ لإطلاقه على الخروج من الدنيا في العرف (3).
ص: 225
السابعة: • لا يعتبر في قطع المحارب أخذ النصاب. وفي الخلاف: يعتبر. ولا انتزاعه من حرز.
وعلى ما قلناه من التخيير لا فائدة في هذا البحث؛ لأنّه يجوز قطعه وإن لم يأخذ مالاً.
وكيفيّة قطعه أن تقطع يمناه ثمّ تحسم، ثمّ تقطع رجله اليسرى وتحسم ولو لم تحسم في الموضعين جاز. ولو فقد أحد العضوين اقتصرنا على قطع الموجود، ولم ينتقل إلى غيره.
----------------------------------
كما قال بعض المسجونين
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها***فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان فيها لحاجة***عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا (1)
ولا يخفى أنه مجاز خفى، وما ذكرناه أقرب، مع موافقته للمروي قولاً وفعلاً.
وأمّا الحكم بمقاتلة أهل الشرك لو دخل إليهم فتركوه، فهو مروي في خبر عبيد اللّه المدائني عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ). وقد عرفت حال المستند (2). وتحريره على قواعد أحكام الكفّار مشكل؛ لأنهم إن كانوا أهل حرب فمقاتلتهم لا يتوقّف على ذلك، وإن كانوا أهل هدنة أو ذمّة فلا يقدح ذلك بمجرّده في عهدهم إلا مع شرطه وإثباته من مجرد هذا الخبر لا يتم، خصوصاً عند المصنّف وغيره ممن لم يعتبر أصل الخبر، نظراً إلى ما تقدّم.
قوله: «لا يعتبر في قطع المحارب أخذ النصاب - إلى قوله - وإن لم يأخذ مالاً».
إذا عملنا بالتفصيل السابق فمقتضى دليله قطعه مع أخذ المال مطلقاً، سواء كان نصاباً أم أقلّ، وسواء كان في حرز أم لا، كما يتعيّن قتله لو قتل سواء كان مكافئاً أم لا. فهو مخالف لحد السرقة في ذلك، وفي عدم اشتراط مرافعة المالك، وعدم سقوطه بعفوه، وزيادة قطع
ص: 226
الثامنة: • لا يقطع المستلب ولا المختلس ولا المحتال على الأموال بالتزوير والرسائل الكاذبة، بل يستعاد منه المال ويعزّر.
وكذا المبنّج ومن سقى غيره مرقداً، لكن إن جنى ذلك شيئاً ضمن الجناية.
----------------------------------
رجله بالسرقة الواحدة، والقصاص فيما ذكر أيضاً.
واعتبر في الخلاف بلوغ المال النصاب(1) ليوافق قاعدة السرقة. وهو مع مخالفته لإطلاق الروايات (2)لا يوافقها من باقي الوجوه التي ذكرناها. فالأُولى جعله حدّاً برأسه، وإن وافقها في بعض الاعتبارات.
قوله «لا يقطع المستلب ولا المختلس ولا المحتال على الأموال بالتزوير والرسائل الكاذبة» إلى آخره.
لمّا كان حكم الحدّ المذكور مختصاً بالمحارب أو بمن سرق من حرز بشرطه فلا قطع على المستلب، وهو الذي يأخذ المال جهراً ويهرب مع كونه غير محارب، ولا المختلس، وهو الذي يأخذه خفية كذلك.
وقد روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه أُتي برجل اختلس درّة من أُذن جارية، فقال: «هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه»(3).
وفي موثقة أبي بصير عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : لا أقطع في الدغارة المعلنة، وهي الخَلسَة، ولكن أُعزّره»(4).
وفي معناهما المحتال بالرسائل الكاذبة وشبهها.
ولكن روى الحلبي - في الحسن - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قطع من أخذ المال بالرسائل
ص: 227
----------------------------------
الكاذبة، وإن حملته عليه الحاجة»(1).
وحملها الشيخ (رحمه اللّه) على قطعه لإفساده لا لسرقته (2). مع أن الرواية تضمنت تعليل القطع بكونه سارقاً؛ لأنّه قال في آخرها، قلت: أرأيت إن زعم أنّه إنّما حمله على ذلك الحاجة ؟ فقال: «يقطع؛ لأنّه سرق مال الرجل».
وأما المبنج ومن سقى غيره مرقداً فحكمه كذلك؛ لأنّه ليس بسارق من الحرز ولا محارب، ولكن يعزّر لفعله المحرم، ويضمن ما يحصل بسببه من الجناية.
ص: 228
وفيه أبواب:
• وهو الذي يكفر بعد الإسلام وله قسمان:
القسم الأوّل: من ولد على الإسلام
وهذا لا يقبل إسلامه لو رجع ويتحتم قتله، وتبين منه زوجته وتعتدّ منه عدّة الوفاة، وتقسم أمواله بين ورثته، وإن التحق بدار الحرب، أو اعتصم بما يحول بين الإمام وقتله.
----------------------------------
قوله - في المرتدّ -: «وهو الذي يكفر بعد الإسلام، وله قسمان - إلى قوله وتقسم أمواله بين ورثته».
الردّة أفحش أنواع الكفر وأغلظها حكماً، قال اللّه تعالى: «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ»(1). وقال تعالى: «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأَخِرَةِ» (2) الآية.
ص: 229
----------------------------------
وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»(1). الحديث.
وعن ابن عباس أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من بدل دينه فاقتلوه» (2).
والكلام في الردّة يقع في أمرين:
أحدهما ما تحصل به. والثاني: في حكمها إذا حصلت.
أمّا الأوّل فلم يتعرّض المصنّف (رحمه اللّه) لتفصيله بل اقتصر عليه إجمالاً بقوله «إنّ المرتدّ هو الذي يكفر بعد الإسلام». وتفصيله يحتاج إلى بسط في الكلام، فطويناه على غيره.
وأمّا الثاني فالمشهور بين الأصحاب أن الارتداد على قسمين فطري وملّي.
فالأوّل: ارتداد من ولد على الإسلام بأن انعقد حال إسلام أحد أبويه.
وهذا لا يقبل إسلامه لو رجع إليه؛ لعموم الأدلّة السابقة. وصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويقسم ما ترك على ولده»(3).
وروى عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «کلّ مسلم بین مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً نبوّته وكذّبه، فإنّ دمه مباح لكل من سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتدّ، فلا تقربه، ويقسّم ماله بين ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه»(4).
ص: 230
----------------------------------
وهذا الحكم بحسب الظاهر لا إشكال فيه، بمعنى تعيّن قتله. وأما فيما بينه وبين اللّه تعالى فقبول توبته هو الوجه؛ حذراً من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفاً بالإسلام، أو خروجه عن التكليف ما دام حياً كامل العقل، وهو باطل بالإجماع.
وحينئذٍ فلو لم يطلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله أو تأخر قتله وتاب، قبلت توبته فيما بینه و بین اللّه تعالى، وصحّت عباداته ومعاملاته، ولكن لا يعود ماله وزوجته إليه بذلك.
ويجوز له تجديد العقد عليها بعد العدة أو فيها على احتمال، كما يجوز للزوج العقد على المعتدة بائناً حيث لا تكون محرّمة مؤيّداً، كالمطلقة ثلاثاً.
والأصحّاب حملوا الأخبار المطلقة فى ثبوت هذه الأحكام على المرتدّ عن فطرة جمعاً بينها وبين ما دلّ على قبول توبته (1).
مضافاً إلى تقييد الحكم في رواية عمّار بارتداد المسلم بين مسلمين.
ورواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : سألته عن مسلم تنصر ؟ قال : «يقتل ولا يستتاب»، قلت: فنصراني أسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام، قال: «يستتاب، فإن تاب وإلّا قتل»(2).
ويظهر من ابن الجنيد أن الارتداد قسم واحد، وأنه يستتاب، فإن تاب وإلّا قتل(3).
وهو مذهب العامّة على اختلاف بينهم في مدة إمهاله. (4) وعموم الأدلّة المعتبرة يدلّ
ص: 231
ويشترط في الارتداد البلوغ، وكمال العقل والاختيار.
فلو أكره كان نطقه بالكفر لغواً. ولو ادّعى الإكراه مع وجود الأمارة قبل.
• ولا تقتل المرأة بالردّة، بل تحبس دائماً، وإن كانت مولودة على الفطرة وتضرب أوقات الصلوات.
----------------------------------
عليه. وتخصيص عامها أو تقييد مطلقها برواية عمّار لا يخلو من إشكال. ورواية عليّ بن جعفر ليست صريحة في التفصيل، إلّا أنّ المشهور بل المذهب هو التفصيل المذكور.
قوله: «ولا تقتل المرأة بالردّة، بل تحبس دائماً، وإن كانت مولودة على الفطرة، وتضرب أوقات الصلوات».
إنّما تحبس المرتدّة دائماً على تقدير امتناعها من التوبة، فلو تابت قبل منها وإن كان ارتدادها عن فطرة عند الأصحاب؛ لصحيحة الحسن بن محبوب، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «في المرتدّ يستتاب فإن تاب وإلّا قتل، والمرأة إذا ارتدّت استتيبت، فإن تابت ورجعت وإلّا خلّدت السجن، وضيق عليها في حبسها» (1).
ورواية عباد بن صهيب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
وفي صحيحة حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يخلد في السجن إلّا ثلاثة»، وعدّ منها المرأة ترتد عن الإسلام(3) والمراد: إذا لم تتب.
وفي صحيحة حماد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المرتدة عن الإسلام، قال: «لا تقتل
ص: 232
• القسم الثاني من أسلم عن كفر ثمّ ارتد
فهذا يستتاب فإن امتنع قتل. واستتابته واجبة.
وكم يستتاب؟ قيل: ثلاثة أيّام. وقيل: القدر الذي يمكن معه الرجوع. والأوّل مرويّ. وهو حسن؛ لما فيه من التأنّي لإزالة عذره.
ولا تزول عنه أملاكه، بل تكون باقية عليه. وينفسخ العقد بينه وبين زوجته، ويقف نكاحها على انقضاء العدة، وهي كعدة المطلقة.
----------------------------------
وتستخدم خدمة شديدة، وتمنع الشراب والطعام إلا ما يمسك نفسها، وتلبس خشن الثياب، و تضرب على الصلوات»(1).
وليس في هذه الأخبار ما يقتضي قبول توبتها في الحالين. والخبر الأوّل كما تضمن قبول توبتها تضمن قبول توبة المرتدّ الذكر، وحمله على الملّي يرد مثله فيها. فيمكن حمل الأخبار الدالّة على حبسها دائماً (2) من غير تفصيل على الفطريّة، بأن يجعل ذلك حدّها من غير أن تقبل توبتها، كما لا تقبل توبته.
وفي التحرير: لو تابت فالوجه قبول توبتها، وسقوط ذلك عنها وإن كانت عن فطرة (3).
وهو يشعر بخلاف في قبول توبتها إذا كانت فطرية، وهو المناسب لحال هذه النصوص.
قوله: «القسم الثاني : من أسلم عن كفر ثمّ ارتدّ - إلى قوله - لما فيه من التأنّي لإزالة عذره».
القول بعدم تحديده للشيخ في المبسوط(4)، وعليه العمل؛ لعدم ثبوت تحديده شرعاً.
ص: 233
وتقضى من أمواله ديونه، وما عليه من الحقوق الواجبة، ويؤدى منه نفقة الأقارب ما دام حيّاً.
• وبعد قتله تقضى ديونه وما عليه من الحقوق الواجبة، دون نفقة الأقارب.
ولو قتل أو مات كانت تركته لورّائه المسلمين فإن لم يكن له وارث مسلم فهو للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ).
----------------------------------
والرواية الدالّة على التحديد رواها الشيخ بطريق ضعيف جدّاً عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: المرتدّ تعزل عنه امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويستتاب ثلاثة أيّام، فإن تاب وإلّا قتل يوم الرابع»(1).
والمصنّف (رحمه اللّه) استحسن العمل بها وإن كانت ضعيفة، ولا بأس به، احتياطاً في الدماء، وإزاحة للشبهة العارضة في الحدّ.
واستتابة المرتدّ عن ملة واجبة عند الأصحاب؛ للأمر بها في الأخبار (2)، ولأنّه كان متحرّماً بالإسلام، وربما عرضت له شبهة، فيسعى في إزالتها.
وذهب بعض العامّة إلى أنها مستحبّة (3)؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من بدل دينه فاقتلوه»(4)، أمر بالقتل ولم يتعرّض للاستتابة، وهو شامل للمرتدّ.
قوله: (وبعد قتله تقضى ديونه وما عليه من الحقوق الواجبة، دون نفقة الأقارب».
من الحقوق الواجبة نفقة الزوجة الفائتة حال الحياة؛ لأنّها تقضى كالدین، بخلاف نفقة الأقارب، فإنّها لا تقضى مع الفوات، بل هي مجرّد مواساة.
ص: 234
• وولده بحكم المسلم فإن بلغ مسلماً فلا بحث. وإن اختار الكفر بعد بلوغه استتيب، فإن تاب وإلّا قتل.
ولو قتله قاتل قبل وصفه بالكفر قتل،به سواء قتله قبل بلوغه أو بعده ولو ولد بعد الردّة وكانت أُمّه مسلمةٌ كان حكمه كالأوّل.
• وإن كانت مرتدة والحمل بعد ارتدادهما كان بحكمهما، لا يقتل المسلم بقتله.
وهل يجوز استرقاقه؟ تردّد الشيخ، فتارة يجيز؛ لأنّه كافر بين كافرين، وتارة يمنع؛ لأن أباه لا يسترق لتحرّمه بالإسلام، فكذا.الولد. وهذا أولى
----------------------------------
قوله: «وولده بحكم المسلم» إلى آخره.
أي ولده قبل الارتداد، سواء كان المرتدّ عن ملة أم عن فطرة، وسواء أسلم بعد ذلك أم لا، لانعقاده تابعاً لأبيه في الإسلام فيستصحب حكمه.
ثمَّ إن بلغ وأعرب بالإسلام فلا بحث وإن أظهر الكفر فقد أطلق المصنّف (رحمه اللّه) وغيره(1) استتابته، فإن تاب وإلّا قتل.
وهذا لا يوافق القواعد المتقدّمة (2) من أن المنعقد حال إسلام أحد أبويه يكون ارتداده عن فطرة، ولا تقبل توبته. وما وقفت على ما أوجب العدول عن ذلك هنا.
ولو قيل بأنه يلحقه حينئذٍ حكم المرتدّ عن فطرة كان وجهاً. وهو الظاهر من الدروس (3)؛لأنه أطلق كون الولد السابق على الارتداد مسلماً، ولازمه ذلك.
قوله: «وإن كانت مرتدة والحمل بعد ارتدادهما كان بحكمهما» إلى آخره.
اختلف كلام الأصحاب - بل كلام الشيخ وحده - في أنّ المتولّد بين المرتدّين - سواء كان ارتدادهما فطرياً أم مليّاً أم بالتفريق - هل هو كافر أصلي، أم مرتدّ كالأبوين، أم مسلم؟ من أنه متولّد بين كافرين غير ذمّيّين، ومن تبعية الولد لأبويه، ومن أنّ حرمة الإسلام باقية
ص: 235
• ويحجر الحاكم على أمواله؛ لئلا يتصرف فيها بالإتلاف، فإن عاد فهو أحق بها، وإن التحق بدار الكفر بقيت على الاحتفاظ، ويباع منها ما يكون له الغبطة في بيعه كالحيوان.
----------------------------------
في المرتد، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه(1)، فإذا لم يحكم بإسلام الأبوين لمانع الارتداد يبقى الحكم في الولد ولعموم: «كلّ مولود يولد على الفطرة» (2). وعلى هذه الأوجه يتفرّع حكم استرقاقه
فعلى الأوّل يجوز استرقاقه. وهو اختيار الشيخ في الخلاف والمبسوط في كتاب المرتدّ(3)، مصرّحاً بعدم الفرق بين ولادته في دار الحرب ودار الإسلام، محتجاً في الخلاف بعموم الأدلّة من الكتاب(4) والسنّة(5) على جواز استرقاق ذرّيّة الكفّار.
وعلى الثاني لا يجوز استرقاقه؛ لأنّ المرتدّ لا يسترقّ وإن شارك الكافر في أكثر الأحكام. وهو اختيار الشيخ في المبسوط في كتاب قتال أهل الردة. وصرّح أيضاً بعدم الفرق بين الدارين(6). ومال إليه المصنّف (رحمه اللّه) في هذا الكتاب. وعلى هذا فيلزم عند البلوغ بالإسلام أو القتل. وكذا لا يجوز استرقاقه على الثالث بطريق أولى.
وللشيخ قول ثالث في كتاب قتال أهل الردّة من الخلاف، وهو جواز استرقاقه إن كان في دار الحرب، وعدمه في دار الإسلام، محتجاً عليه بإجماعنا وأخبارنا(7). والأصحّ عدم استرقاقه مطلقاً.
قوله: «ويحجر الحاكم على أمواله؛ لئلا يتصرّف فيها بالإتلاف» إلى آخره.
ص: 236
مسائل من هذا الباب
الأولى: • إذا تكرّر الارتداد، قال الشيخ يقتل في الرابعة. قال: وروى أصحابنا يقتل في الثالثة أيضاً.
----------------------------------
ظاهره توقف الحجر على حكم الحاكم. وهو أحد الوجهين في المسألة.
ووجهه أنّ الارتداد أمر اجتهادي، فيناط حكمه بنظر الحاكم.
وقيل: يحصل الحجر بنفس الردّة؛ لأنّها العلّة، فوجودها يستلزم ثبوت المعلول (1).
وهذا أقوى. وهو اختيار العلّامة في القواعد (2)، والشهيد في الدروس(3).
قوله: «إذا تكرّر الارتداد قال الشيخ: يقتل في الرابعة» إلى آخره.
الرواية المشار إليها يمكن كونها صحيحة يونس - المتقدمة - عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة»(4). والكفر من أعظم الكبائر.
ويمكن كونها رواية جميل بن دراج عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في رجل رجع عن الإسلام، قال: «يستتاب فإن تاب وإلّا قتل». قيل الجميل: فما تقول لو تاب ثمّ رجع عن الإسلام؟ قال: يستتاب، قيل : فما تقول إن تاب ثمّ رجع ثمّ تاب ثمّ رجع ؟ فقال: لم أسمع في هذا شيئاً، ولكن عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحدّ مرّتين ثمّ يقتل بعد ذلك(5).
والأصحّ قتله في الثالثة؛ عملاً بعموم الرواية الأولى، وإن كان قتله في الرابعة أحوط.
ص: 237
الثانية: • الكافر إذا أكره على الإسلام، فإن كان ممن يقر على دينه لم يحكم بإسلامه، وإن كان ممن لا يُقرّ حكم به.
الثالثة: • إذا صلّى بعد ارتداده لم يحكم بعوده، سواء فعل ذلك في دار الحرب أو دار الإسلام.
----------------------------------
قوله: «الكافر إذا أكره على الإسلام» إلى آخره.
الفرق أنّ من يُقرّ على دينه لا يصحّ إكراهه على غيره، فيقع المكره عليه لغواً كغيره من أفعاله المكره عليها بغير حق، بخلاف من لا يقرّ عليه، فإنّ إكراهه على الإسلام جائز فيترتب عليه أثره. ولأنّه المعهود من فعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وخلفائه من بعده(1). وفيه بحث تقدّم تحقيقه في الطلاق (2).
قوله: «إذا صلّى بعد ارتداده لم يحكم بعوده، سواء فعل ذلك في دار الحرب أو دار الإسلام».
إنّما لم تكن الصلاة إسلاماً؛ لإمكان فعلها تقيّةً أو إراءةً. وهذا يتمّ مع عدم سماع لفظ الشهادتين، أو مع كون الارتداد بإنكار غير الصلاة من فروض الإسلام.
أمّا مع سماع لفظهما وكون المطلوب من إسلامه ذلك، فالمشهور أن الأمر فيه كذلك؛ لأنّ الصلاة لم توضع دليلاً على الإسلام، ولا توبة للمرتد، وإنّما وضعت الشهادتان دلالة عليه مستقلتين لا جزءاً من غيرهما. وفيه نظر.
ونبّه بالتسوية بين الصلاة في دار الحرب ودار الإسلام على خلاف بعض العامّة، حيث فرّق بينهما فأوجب الحكم بإسلامه إذا صلّى في دار الحرب؛ لأنّها لا تكون إلّا عن اعتقاد صحیح، بخلاف صلاته في دار الإسلام فإنّها تحتمل التقية والإراءة(3).
ص: 238
الرابعة: • قال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط: السكران يحكم بإسلامه وارتداده. وهذا يشكل مع اليقين بزوال تمييزه، وقد رجع في الخلاف.
الخامسة: • كلّ ما يتلفه المرتدّ على المسلم يضمنه، في دار الحرب أو دار الإسلام، حالة الحرب وبعد انقضائها. وليس كذلك الحربي.
وربما خطر اللزوم في الموضعين، لتساويهما في سبب الغرم.
----------------------------------
وفي القواعد استشكل الحكم بعدم دلالة صلاته في دار الحرب على الإسلام(1)، نظراً إلى ما ذكرناه من ارتفاع التهمة.
وفي المبسوط بعد أن حكى القول عن العامّة قال: ويقوى في نفسي أنّه لا يحكم له بالإسلام بالصلاة في الموضعين(2). ولا فرق في ذلك بين الكافر الأصلي والمرتدّ.
قوله: «قال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط : السكران يحكم بإسلامه» إلى آخره.
وجه ما اختاره في المبسوط (3) من لحوق حكم الارتداد للسكران التحاقه بالصاحي فيما عليه، كقضاء العبادات، وهذا ممّا عليه، وادّعى في المبسوط أنّه قضيّة المذهب (4).
ويضعّف بأن العقل شرط التكليف. ووجوب القضاء بأمر جديد، لا من حيث الفوات حال السكر.
والحقّ ما اختاره في الخلاف من عدم الحكم بارتداده حينئذٍ (5)؛ لعدم القصد وأولى منه عدم الحكم بإسلامه حال السكر إذا كان كافراً قبله؛ لأن ذلك ممّا له لا ممّا عليه.
وأمّا الغالط والساهي والغافل والنائم فلا حكم لردّته ولا إسلامه إجماعاً. وتقبل دعوى ذلك كلّه. وكذا تقبل دعوى الإكراه مع القرينة كالأسر.
قوله: «كلّ ما يتلفه المرتدّ على المسلم يضمنه» إلى آخره.
ص: 239
السادسة: • إذا جنّ بعد ردّته لم يقتل؛ لأنّ قتله مشروط بالامتناع عن التوبة، ولا حكم لامتناع المجنون.
----------------------------------
لا فرق في المرتدّ هنا بين الملي والفطري، وإن كانت الفائدة إنما تظهر في الملّي ليغرم من ماله وإلا فالفطري لا مال له. وإنّما تظهر فائدة ضمانه في الآخرة إن لم تقبل توبته.
ووجه ضمانه ما أتلفه على المسلم مطلقاً أنّ له ذمة والإتلاف سبب للضمان.
ونبّه بالتسوية بين حالة الحرب وبعدها على خلاف بعض العامّة، حيث نفى ضمانه لما أتلفه في حالة الحرب كالحربي(1).
وأمّا الحربي فأطلق الشيخ عدم ضمانه وإن أسلم (2)؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الإسلام يجبّ ما قبله» (3).
وقيل : يضمن مطلقاً(4)، لأنّه أتلف مالاً معصوماً ظلماً فيضمن؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام. وهو اختيار العلّامة(5).
واختار ولده التفصيل، فأسقط عنه ضمان ما أتلفه في حال الحرب مع إسلامه، نفساً كان المتلف أم مالاً، إذا لم تكن العين موجودة، وضمنه في غير الحرب مطلقاً، سواء كان ذلك في دار الحرب أم دار الإسلام(6).
والأوسط لا يخلو من قوة، كما أن التفصيل لا يخلو من تحكّم.
قوله: «إذا جن بعد ردّته لم يقتل» إلى آخره.
هذا التعليل مختص بالمرتد عن ملة. فلو كان ارتداده عن فطرة لم يمنع جنونه من القتل حالته؛ لأن المطلوب إتلافه على كلّ حال.
ص: 240
السابعة: • إذا تزوّج المرتدّ لم يصحّ، سواء تزوّج بمسلمة أو كافرة، لتحرّمه بالإسلام المانع من التمسّك بعقد الكافرة، واتّصافه بالكفر المانع من نكاح المسلمة.
الثامنة: • لو زوّج بنته المسلمة لم يصح؛ لقصور ولايته عن التسلط على المسلم ولو زوّج أمته، ففى صحة نكاحها،تردّد أشبهه الجواز.
----------------------------------
قوله: «إذا تزوّج المرتدّ لم يصح» إلى آخره.
هذا التعليل إنما يتم فى نكاح الكافرة التي لا تباح للمسلم كالوثنيّة. أمّا الكتابيّة على القول بجوازها للمسلم مطلقاً(1) أو متعة(2)، فإنّه لا يقتضي منعه منها؛ لأنّ الإسلام لا يمنع من التمسك بعقدها على هذا الوجه، فأولى أن لا يمنع ما دونه.
وفي الدروس علّل المنع من نكاحه بأنه لا يقرّ على دينه. وهو شامل للأمرين. وعلله أيضاً بأنه دون المسلمة وفوق الكافرة (3).
وهو مناسب لما ذكره المصنّف من التعليل، ويرد عليه ما يرد عليه.
قوله: «لو زوج بنته المسلمة لم يصح؛ لقصور ولايته عن التسلّط على المسلم» إلى آخره.
أمّا انتفاء ولايته على ابنته؛ فلأنه محجور عليه في نفسه فلا يكون ولياً لغيره؛ ولأنّه بكفره لا يصلح ولياً على المسلم؛ لأنّه سبيل له عليها وهو منفي بالآية (4).
وأمّا ولايته على أمته ففي زوالها قولان نعم؛ لما ذكر في ولايته على البنت. ولا؛ لقوّة الولاية المالكيّة، ومن ثمّ يملك الكافر المسلم وإن أُجبر على بيعه، ويتوقّف صحة البيع على اختياره، بمعنى أنه لو اختار مشترياً واختار الحاكم غيره قدّم مختاره، وهذا نوع ولاية ولأصالة بقائها في موضع الشك. وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه).
ص: 241
التاسعة: • كلمة الإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه. وإن قال مع ذلك: وأبرأ من كلّ دين غير الإسلام، كان تأكيداً. ويكفي الاقتصار على الأوّل.
ولو كان مقراً باللّه سبحانه وبالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جاحداً عموم نبوّته أو وجوده احتاج إلى زيادة تدلّ على رجوعه عمّا جحده.
----------------------------------
واختلف كلام العلّامة، ففي التحرير استقرب بقاء ولايته عليها(1)، وفي القواعد جزم بزوالها (2). وكذلك الشهيد في الدروس(3). وهو الأقوى؛ لثبوت الحجر المانع منها مطلقاً.
قوله: «كلمة» الإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه» إلى آخره.
لما بيّن أنّ من أقسام المرتدّ ما تقبل فيه التوبة أشار هنا إلى ما تحصل به، وهي الشهادتان إن كان كفره بجحدهما، بأن صار وثنياً.
ولو كان كفره بجحد أحدهما خاصّة، بأن كان مقرّاً بالوحدانية غير أنّه ينكر الرسالة، کفی قوله: إن محمداً رسول اللّه.
وإن كان من الذين يقولون: إن محمداً مبعوث إلى العرب خاصّة، أو يقول: إنّ النبيّ محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يبعث بعد، لم يحكم بإسلامه حتّى يقول: محمد رسول اللّه إلى كافّة الخلق، وإنّه هو المبعوث في وقت كذا بمكّة إلى الكافّة، ونحو ذلك. ولا يشترط البراءة من كلّ دين خالف الإسلام؛ لأنّ الإقرار بما يقتضي الإسلام يوجب ذلك. ولو أضافه كان آكد. وقد تقدم البحث فيه في باب الكفّارات(4).
وإن كان كفره بجحد فريضة أو تحليل محرّم، لم يكف في إسلامه الشهادتان حتّى يرجع عمّا اعتقده، ويعتقد وجوب الفريضة وتحريم المحرّم، ونحوه.
ص: 242
تتمّة فيها مسائل:
الأولى: • الذمّي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فأمان أمواله باقٍ. فإن مات ورثه وارثه الذمّي والحربي. وإذا انتقل الميراث إلى الحربي زال الأمان عنه.
وأمّا الأولاد الأصاغر فهم باقون على الذمّة. ومع بلوغهم يخيرون بين عقد الذمّة لهم بأداء الجزية، وبين الانصراف إلى مأمنهم.
----------------------------------
وحيث يتوقّف الإسلام على الشهادتين لا ينحصر في اللفظ المعهود، بل لو قال: لا إله سوى اللّه، أو غير اللّه، أو ما عدا اللّه، فهو كقوله : لا إله إلّا اللّه.
وكذا قوله : أحمد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، كقوله : محمد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).
ولو اقتصر المعطّل على قوله: إن محمداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، احتمل قوياً الاكتفاء به؛ لأنّه أثبت الرسول والمُرسل معاً في جملة واحدة.
قوله: «الذمّي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فأمان أمواله باق» إلى آخره.
هذا الحكم ذكره المصنّف وغيره من الأصحاب، وكأنه موضع وفاق. وإنّما كان أمان ماله باقياً مع أنّه تابع له في الحل والحرمة، حيث عقد الأمان لكلّ منهما على حدته، ولم يحصل في المال ما يوجب نقض العهد، بل فيه نفسه.
ثمّ مع موته أو قتله ينتقل إلى وارثه، فإن كان ماله محترماً كالمسلم والذمّي تبعه. وإن كان حربيّاً زال الأمان عنه بحكم الملك لمن لا حرمة له.
ثمّ إن مات الناقض للعهد أو قتل بغير حرب فماله المنتقل إلى الحربي للإمام؛ لأنّه لم يُوجِف عليه بخيل ولا ركاب فيكون من جملة الفيء المختص به.
وإن قتل في الحرب فالحكم كذلك عند الشيخ(1)، والأكثر.
ص: 243
الثانية: • إذا قتل المرتدّ مسلماً عمداً فللولي قتله قوداً، ويسقط قتل الردّة. ولو عفا الوليّ قتل بالردّة.
ولو قتل خطاً كانت الدية فى ماله مخفّفةً مؤجّلةً؛ لأنّه لا عاقلة له على تردّد. ولو قتل أو مات حلّت كما تحلّ الأموال المؤجلة.
----------------------------------
وقال ابن الجنيد يكون ماله للمقاتلة؛ لأنّه من جملة مغنوماته(1). وهو ممنوع.
والقول في ولده الأصاغر الذين في دار الإسلام كالمال في بقاء الذمام لهم. فإذا بلغوا جدّد معهم حكم الكافر المكلّف، فإن التزموا بالذمّة وإلا ردوا إلى مأمنهم؛ لاستقرارهم في دار الإسلام بالأمان الواقع من مورّتهم.
قوله: «إذا قتل المرتدّ مسلماً عمداً فللولي قتله قوداً» إلى آخره.
إطلاق المرتدّ في الحكم المذكور يشمل الملّى والفطري والحكم على قتله عمداً يتم فيهما ؛ لأنّ قتله على تقدير فطريّته متعيّن للردّة، وهو حقّ اللّه تعالى، فإذا استحق القتل قصاصاً قدم حقّ الآدمي. وكذا على تقدير كونه مليّاً وقد امتنع من التوبة.
وأمّا ثبوت الدية في ماله فيتم في الملّى؛ لأنّ ماله لا ينتقل عنه إلى أن يقتل، فتقدم الدية على الوارث كغيرها من الديون اللازمة له.
وأمّا في الفطري فيشكل من حيث انتقال ماله عنه بمجرّد الردّة، وعدم قبوله للتملّك بعد ذلك.
وفي القواعد صرّح بكون الحكم في الفطري (2). وهو أقوى إشكالاً وفَرَضَ بعضهم (3) له المال المتجدّد بكونه قد نصب شبكة قبل الردّة فأمسكت بعدها. ويمكن فرضه على القول بملكه لما يكتسبه حالتها، فإنّ فيه خلافاً.
ص: 244
الثالثة: • إذا تاب المرتدّ فقتله من يعتقد بقاءه على الردّة، قال الشيخ يثبت القود؛ لتحقّق قتل المسلم ظلماً، ولأن الظاهر أنه لا يطلق الارتداد بعد توبته.
وفى القصاص تردّد؛ لعدم القصد إلى قتل المسلم.
----------------------------------
ومعنى كون الدية في ماله مخفّفة في السن والاستيفاء، كما يأتي بيانه في بابه(1).
والتردّد المذكور في ثبوت الدية في ماله دون عاقلته من حيث إنّه كافر فلا يعقله المسلم، ومن تحرّمه بالإسلام، وعدم زوال أثره عنه بالكلّيّة، وأن ميراثه لهم فيكون العقل عليهم.
وعلى القول بثبوتها عليه مؤجّلةً فلا إشكال في حلولها بموته، كغيرها من الديون المؤجّلة.
قوله : «إذا تاب المرتدّ فقتله من يعتقد بقاءه على الردّة» إلى آخره.
وجه ما اختاره الشيخ من ثبوت القود (2) عموم الأدلّة الدالّة على أن قتل المسلم ظلماً يوجبه، كقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ»(3)، و «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(4).
وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من قتل مؤمناً متعمداً قيد به»(5).
وهو متحقّق في صورة النزاع، ولأن الظاهر من حاله أنّه لا يطلق إذا قبضه السلطان إلّا بعد إسلامه، وإلّا لقتله، فكان القصد إلى قتل المكافئ متحقّقاً.
ووجه العدم عدم القصد إلى قتله على الحالة المحرّمة، وإن قصد مطلق القتل. وأنّ القصاص حدّ، لتحقّق معناه فيه، والظنّ شبهة فيدرأ بها. وهذا أقوى. وحينئذٍ فتجب الدية في ماله مغلّظة؛ لأنّه شبيه عمد.
ص: 245
• إذا وطئ البالغ العاقل بهيمة مأكولة اللحم -كالشاة والبقرة - تعلّق بوطئها أحكام تعزير الواطئ، وإغرامه ثمنها إن لم تكن له، وتحريم الموطوءة، ووجوب ذبحها وإحراقها.
أمّا التعزير فتقديره إلى الإمام. وفي رواية: يضرب خمسة وعشرين سوطاً، وفي أُخرى: الحدّ، وفي أخرى: يقتل. والمشهور الأوّل.
----------------------------------
قوله في وطء البهائم والأموات : «إذا وطئ البالغ العاقل بهيمة مأكولة اللحم -كالشاة والبقرة - تعلّق بوطئها أحكام تعزير الواطئ» إلى آخره.
تقييد الحكم بوطء البالغ العاقل يدلّ على أنّ وطء الصبي والمجنون لا يوجب ذلك. وهو ظاهر في ثبوت المجموع؛ لأنّ من جملته التعزير أو الحدّ، وهما منتفيان عنهما، وإن ثبت عليهما التأديب، وقد يطلق عليه التعزير أيضاً.
وإنّما خصّ الحكم بالمكلّف؛ لأنّه في النصوص معلّق على الرجل(1)، وهو يقتضي البلوغ. ويبقى الحكم في اعتبار العقل مستفاداً من وجوب الحدّ أو التعزير كما ذكرناه، ولرفع القلم عنه، فلا يترتب على فعله أثر. لكن قد تقدم أن التحريم متعلق بوطء الإنسان (2) الشامل للصغير والكبير والعاقل والمجنون.
والمستند أيضاً عام وهو قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن البهيمة تنكح؟ قال: حرام لحمها ولبنها»(3). ويترتّب على تحريمها وجوب إتلافها لئلّا تشتبه، كما هو الحكمة فيه.
ص: 246
وأمّا التحريم فيتناول لحمها ولبنها ونسلها تبعاً لتحريمها والذبح إما تلقياً، أو لما لا يؤمن من شياع نسلها وتعذر اجتنابه. وإحراقها؛ لئلا تشتبه بعد ذبحها بالمحلّلة.
وإن كان الأمر الأهم فيها ظهرها لا لحمها -كالخيل والبغال والحمير -لم تذبح، وأُغرم الواطئ ثمنها لصاحبها. وأُخرجت من بلد الواقعة وبيعت في غيره، إمّا عبادة لا لعلّة مفهومة لنا، أو لئلا يعير بها صاحبها.
----------------------------------
إذا تقرّر ذلك، فالواجب عليه من التعزير موكول إلى نظر الحاكم، كغيره من التعزيرات التي لا تقدير لها شرعاً. هذا هو المشهور بين الأصحاب.
ويدلّ عليه رواية الفضيل وربعي بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في رجل يقع على البهيمة، قال: «ليس عليه حدّ، ولكن يضرب تعزيراً»(1).
والرواية بتقديره بخمسة وعشرين سوطاً رواها عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإسحاق بن عمّار - في الموثق - عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والحسين بن خالد عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يأتي البهيمة، فقالوا جميعاً: «إن كانت البهيمة للفاعل ذبحت، فإذا ماتت أُحرقت بالنار، ولم ينتفع بها، وضرب هو خمسة وعشرين سوطاً ربع حدّ الزاني، وإن لم تكن البهيمة له قومت وأخذ ثمنها منه ودفع إلى صاحبها، وذبحت وأُحرقت بالنار ولم ينتفع بها، وضرب خمسة وعشرين سوطاً». فقلت: وما ذنب البهيمة؟ قال: «لا ذنب لها، ولكن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فعل هذا وأمر به لكيلا يجترئ الناس بالبهائم وينقطع النسل»(2).
ص: 247
• وما الذي يصنع بثمنها ؟ قال بعض الأصحاب: يتصدق به. ولم أعرف المستند. وقال آخرون يعاد على المغترم، وإن كان الواطئ هو المالك دفع إليه. وهو أشبه.
----------------------------------
والرواية بثبوت الحدّ كملاً رواها أبو بصير - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أتى بهيمة فأولج، قال: «عليه الحدّ»(1).
وفي رواية أخرى له صحيحة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الذي يأتي البهيمة، قال: «عليه حدّ الزاني» (2). ومثله روي عن أبي جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والرواية بالقتل رواها جميل بن دراج - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أتى بهيمة، قال: «يقتل»(4).
والشيخ (رحمه اللّه) في كتابي الأخبار جمع بين الأخبار بأمرين:
أحدهما أنّ ما كان دون الإيلاج فيه التعزير، ومع الإيلاج حدّ الزاني.
والثاني: أن يكون القتل محمولاً على من تكرّر منه الفعل وأقيم عليه الحدّ، فيقتل في الثالثة أو الرابعة(5)، كما تقدّم في أصحاب الكبائر (6)، وهذا منهم.
قوله: «وما الذي يصنع بثمنها ؟ قال بعض الأصحاب يتصدّق به. ولم أعرف المستند. وقال آخرون يعاد على المغترم، وإن كان الواطئ هو المالك دفع إليه. وهو أشبه».
القول بوجوب الصدقة به للمفيد (رحمه اللّه). ولا سند له من النصّ. وعلّل بأنّه عقوبة
ص: 248
• ويثبت هذا بشهادة رجلين عدلين، ولا يثبت بشهادة النساء، انفردن أو انضممن، وبالإقرار ولو مرّة إن كانت الدابّة له، وإلا ثبت التعزير حسب وإن تكرّر الإقرار وقيل: لا يثبت إلا بالإقرار مرّتين. وهو غلط
----------------------------------
على الجناية (1) فلا يناسبها عوده إلى المالك. والتعليل بذلك ممنوع، بل الظاهر من النصوص خلافه، وأن بيعها في غير البلد كيلا تعرف فلا يعير بها الفاعل (2)، والعقوبة تحصل بالحدّ أو التعزير.
والأظهر عوده إلى الغارم أو المالك؛ لأصالة بقاء الملك على مالكه، والبراءة من وجوب الصدقة.
ثمَّ على تقدير كون الدابّة لغير الفاعل، وكان الثمن الذي بيعت به بقدر ما غرمه للمالك أو أنقص، فلا شيء له سواه. وإن كان أزيد ففي كون الزائد للغارم، نظراً إلى كون المدفوع منه وقع على وجه المعاوضة وإن كانت قهريّة، أو للمالك التفاتاً إلى أن ذلك لمكان الحيلولة لا معاوضة حقيقة، أو الصدقة به، أوجه أجودها الأوّل.
قوله: «ويثبت هذا بشهادة رجلين عدلين ولا يثبت بشهادة النساء» إلى آخره.
القول بتوقف ثبوت الحدّ أو التعزير على الإقرار مرّتين ظاهر ابن إدريس (3)، إلحاقاً له بنظائره من الحدود المتوقفة على الإقرار مرّتين.
والمصنّف (رحمه اللّه) غلطه في ذلك، من حيث إنّ الأصل في الإقرار أن يثبت موجبه بالمرة، لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(4) إلّا ما خرج بنص خاص، وهو منفيّ هنا.
وحيث يثبت بالإقرار مرّة أو أزيد لا يثبت به إلّا ما يتعلّق بالمقرّ، وهو التعزير. أمّا التحريم
ص: 249
• ولو تكرّر مع تخلّل التعزير ثلاثاً قتل في الرابعة.
ووطء الميتة من بنات آدم كوطء الحيّة في تعلّق الإثم والحدّ، واعتبار الإحصان وعدمه. وهنا الجناية أفحش فتغلّظ العقوبة زيادة عن الحدّ بما يراه الإمام.
ولو كانت زوجته اقتصر في التأديب على التعزير، وسقط الحدّ بالشبهة.
• وفي عدد الحجّة على ثبوته خلاف. قال بعض الأصحاب: يثبت بشاهدين؛ لأنّه شهادة على فعل واحد، بخلاف الزنى بالحيّة.
وقال بعض : لا يثبت إلا بأربعة؛ لأنّه زنى، ولأن شهادة الواحد قذف، فلا يندفع الحدّ إلا بتكملة الأربعة. وهو أشبه.
أمّا الإقرار فتابع للشهادة، فمن اعتبر في الشهود أربعة اعتبر في الإقرار مثله، ومن اقتصر على شاهدين قال في الإقرار كذلك.
----------------------------------
والبيع على المالك فلا يثبت بالإقرار(1) ؛ لأنّه متعلق بحق الغير. نعم، لو كانت الدابّة للمقرّ يثبت بالإقرار جميع الأحكام المذكورة؛ لوجود المقتضي للنفوذ، وهو كونه إقراراً في حقّ نفسه.
قوله: «ولو تكرّر مع تخلّل التعزير ثلاثاً قتل في الرابعة» إلى آخره.
بناءً على قتل الزاني وغيره في الرابعة. وعلى القول بقتله في الثالثة (2) يقتل هنا فيها أيضاً. وقد تقدم الكلام فيه مراراً(3).
قوله: «وفي عدد الحجّة على ثبوته خلاف» إلى آخره.
القائل بالاكتفاء بشاهدين في الزنى بالميتة الشيخان (رحمهما اللّه)(4)، ويتبعه الإقرار مرّتين، فارقين بينه وبين الزنى بالحيّ بما أشار إليه المصنّف من الفرق، بأنّها شهادة على واحد، بخلاف الشهادة على الحي، فإنّها شهادة على اثنين.
ص: 250
----------------------------------
وقيل: تعتبر الأربعة؛ لأنّه زنى في الجملة(1)، فيتناوله عموم الأدلّة الدالّة على توقف ثبوت الزنى على الأربعة (2).
والوارد في النصوص اعتبار الأربعة فيه (3)من غير تعليل، بل في بعضها ما ينافي تعليله بذلك(4)، كما أشرنا إليه سابقاً(5).
ولانتقاضه الزنى الإكراهي وبالمجنونة، فإنّه شهادة على واحد، بمعنى إثبات الحدّ عليه خاصّة كالزاني بالميتة، مع اشتراطه بالأربعة. وهذا أيضاً لا يوافق التعليل.
وأمّا تعليله اعتبار الأربعة بأن شهادة الواحد قذف، وهو يوجب الحدّ إلى أن يأتي بأربعة شهداء، كما دلّت عليه الآية (6).
ففيه: منع كون شهادة الشاهد بالزنى قذفاً مطلقاً، بل مع عدم كمال العدد المعتبر، والعدد محل النزاع. ودفع حدّ القذف بالإتيان بالأربعة في الآية (7) ورد في قذف الزوج للحيّة، فلا يلزم مثله في غيرها.
وأمّا الخلاف في اعتبار الإقرار أربعاً أو الاكتفاء بمرّتين، فمترتّب على الخلاف في عدد الشهود، فمن قال باعتبار الأربعة اعتبر الإقرار أربعاً، نظراً إلى عموم الأدلّة(8)، ومن اكتفى باثنين اكتفى بالإقرار مرّتين، نظراً إلى توقف الحدود على المرّتين في غير ما وقع النصّ على خلافه(9)، كما عهد غير مرّة(10).
ص: 251
مسألتان:
الأولى: • من لاط بميت كان كالائط بالحى، ويعزر تغليظاً.
الثانية: • من استمنی بیده عُزّر و تقديره منوط بنظر الإمام وفي رواية: أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضرب يده حتّى احمرت وزوّجه من بيت المال. وهو تدبير استصلحه، لا أنه من اللوازم.
----------------------------------
قوله: «من لاط بميت كان كالائط بالحي، ويعزر تغليظاً».
وذلك ؛ لأنّه لواط في الجملة فيتناوله أدلته وأحكامه مع زيادة فحشه وتحريمه بالموت، فيزاد في الحدّ - حيث لا يكون المطلوب قتله - بما يراه الحاكم.
وقول المصنّف (رحمه اللّه) «ويعزّر تغليظاً» يشمل ما إذا أُريد قتله، فيقدم عليه التعزير كما يقدّم الجلد على الرجم.
قوله: «من استمنی بیده عُزّر، وتقديره منوط بنظر الإمام» إلى آخره.
الاستمناء باليد وغيرها من أعضاء المستمني وغيره - عدا الزوجة والأمة - محرّم تحريماً مؤكداً. قال اللّه تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ»(1) إلى قوله: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» (2). وهذا الفعل ممّا وراء ذلك.
وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعن الناكح كفّه(3).
ومقتضى التحريم حيث لا نص على تحديد العقوبة أن يرجع فيها إلى نظر الحاكم.
والرواية التي أشار إليها المصنّف (رحمه اللّه) رواها طلحة بن زيد عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أتى برجل عبث بذكره، فضرب يده حتّى احمرّت، ثمّ زوجّه من بیت المال»(4).
ص: 252
• ويثبت بشهادة عدلين أو الإقرار ولو مرّة. وقيل: لا يثبت بالمرّة. وهو وهم.
الباب الثالث في الدفاع
• للإنسان أن يدفع عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع. ويجب اعتماد الأسهل.
فلو اندفع الخصم بالصياح اقتصر عليه إن كان في موضع يلحقه المنجد. وإن لم يندفع عوّل على اليد، فإن لم تغن فبالعصا، فإن لم تكف فبالسلاح.
ويذهب دم المدفوع هدراً، جرحاً كان أو قتلاً. ويستوي في ذلك الحر والعبد.
----------------------------------
وقريب منها رواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
وهما مع ضعف السند (2) محمولتان على أنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) رأى ذلك صلاحاً، لا أنّه أمر متعيّن لغيره لعدم وجود ما يدلّ على التعيين.
قوله: ويثبت بشهادة عدلين، أو الإقرار ولو مرة. وقيل: لا يثبت بالمرة. وهو وهم».
القائل بعدم ثبوته بالمرّة ابن إدريس في ظاهر كلامه، حيث أطلق ثبوته بالإقرار مرّتين (3)، ومن ثمّ لم يكن صريحاً في ذلك. لكن المصنّف (رحمه اللّه) بنى على ما ظهر من مفهوم كلامه ونسبه إلى الوهم؛ لعدم وجود ما يدلّ على اعتبار التعدّد، مع عموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(4)، الصادق بالمرّة.
قوله: «للإنسان أن يدفع عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع» إلى آخره.
لا إشكال في أصل الجواز مع القدرة وعدم لحوق ضرر. وقد روي عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه أتاه
ص: 253
• ولو قتل الدافع كان كالشهيد. ولا يبدؤه ما لم يتحقّق قصده إليه.
----------------------------------
رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن لصاً دخل على امرأتي فسرق حليها، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أما إنّه لو دخل على ابن صفية ما رضي بذلك حتّى عمّمه بالسيف»(1).
وعن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن اللّه ليمقت العبد يدخل عليه في بيته فلا يقاتل» (2).
وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه أنّه قال: «إذا دخل عليك رجل يريد أهلك ومالك فابدره بالضربة إن استطعت، فإنّ اللصّ محارب اللّه ولرسوله، فما تبعك منه شيء فهو عليّ»(3).
والأقوى وجوب الدفع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الاستسلام. فإن عجز ورجا السلامة بالكفّ أو الهرب وجب.
أمّا المدافعة عن المال، فإن كان مضطراً إليه وغلب على ظنه السلامة وجب، وإلّا فلا.
قوله: «ولو قتل الدافع كان كالشهيد ولا يبدؤه ما لم يتحقّق قصده إليه».
إنما جعله كالشهيد ولم يجعله شهيداً مطلقاً؛ لأن أحكام الشهيد من ترك غسله وتكفينه لا يلحق إلّا من قتل في جهاد بين يدي إمام عادل كما سبق في محلّه(4)، أمّا من قتل دون ماله ونحوه فهو كالشهيد في الثواب لا في باقي الأحكام.
وقد روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من قتل دون عياله فهو شهيد»(5). والمراد به ذلك، جمعاً بين الأخبار (6).
ص: 254
• وله دفعه ما دام مقبلاً، ويتعين الكفّ مع إدباره.
ولو ضربه فعطّله لم يذفّف عليه؛ لاندفاع ضرره. ولو ضربه مقبلاً فقطع يده فلا ضمان على الضارب في الجرح ولا في السراية.
ولو ولّى فضربه أخرى فالثانية مضمونة. فإن اندملت فالقصاص في الثانية. ولو اندملت الأُولى وسرت الثانية ثبت القصاص في النفس. ولو سرتا فالذي يقتضيه المذهب ثبوت القصاص بعد ردّ نصف الدية.
----------------------------------
قوله: «وله دفعه ما دام مقبلاً، ويتعين الكف مع إدباره ولو ضربه فعطله لم يذفّف عليه؛ لاندفاع ضرره» إلى آخره.
إذا ضربه مقبلاً دفعاً له فلا ضمان، كما علم من الأخبار السابقة. وأمّا إذا ولّى عنه مديراً لم يكن له ضربه؛ لأنّ الضرب إنما يكون على وجه الدفع، فإذا ولى فقد زال ذلك. فإن فعل حينئذٍ كان ضامناً لما يجنيه.
ثمّ إن سرت الضربة الأُولى إلى نفسه فلا ضمان؛ لأنّها سراية جرح مباح. وإن سرت الثانية خاصّة ضمنه.
وإن سرتا معاً إلى النفس قال الشيخ في المبسوط : لا قصاص في النفس، لكن يجب القصاص في اليد - وعنى به لو كانت الثانية يداً - أو نصف دية النفس(1).
وإلى ردّه أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «فالذي يقتضيه المذهب ثبوت القصاص بعد ردّ نصف الدية». وإنّما كان ذلك مقتضى المذهب لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من أن المقتول عمداً بسببين أحدهما من العامد والآخر غير مضمون عليه (2)، يجوز الاقتصاص منه بعد أن يردّ عليه ما قابل الجناية الأخرى، وهو نصف الدية، فليكن هنا كذلك.
وهذا هو الحق، وبه قطع المتأخّرون من غير التفات إلى خلاف الشيخ.
ص: 255
• ولو قطع يده مقبلاً ورجله مديراً ثمّ يده مقبلاً ثمّ سرى الجميع، قال في المبسوط: عليه ثلث الدية إن تراضيا، وإن أراد الوليّ القصاص جاز بعد ردّ ثلثي الدية.
أمّا لو قطع يده ثمّ رجله مقبلاً ويده الأُخرى مدبراً وسرى الجميع، فإن توافقا على الدية فنصف الدية، وإن طلب القصاص ردّ نصف الدية.
والفرق أنّ الجرحين هنا تواليا فجريا مجرى الجرح الواحد وليس كذلك في الأولى.
وفي الفرق عندي ضعف. والأقرب أن الأُولى كالثانية؛ لأن جناية الطرف يسقط اعتبارها مع السراية، كما لو قطع يده و آخر رجله ثمّ قطع الأوّل يده الأخرى، فمع السراية هما سواء في القصاص والدية.
----------------------------------
قوله: «ولو قطع يده مقبلاً ورجله مديراً ثمّ يده مقبلاً ثمّ سرى الجميع، قال في المبسوط : عليه ثلث الدية إن تراضيا» إلى آخره.
إذا حصلت السراية من ثلاث ضربات أحدها مضمون، فإن توالت الضربتان الجائزتان فلا إشكال في أن الثابت نصف الدية، أو المردود على تقدير إرادة الولي القصاص؛ لأنّه بسببين مات أحدهما مضمون والآخر غير مضمون، ولا نظر إلى زيادة أحد السببين على الآخر. وقد وافق الشيخ (رحمه اللّه) على ذلك(1).
وأمّا إذا تفرّقت الضربات الجائزة، كما لو قطع يده مقبلاً ثمّ رجله مديراً ثمّ يده الأخرى مقبلاً، فقد قال الشيخ في المبسوط :
إنّه مع موته بذلك يكون على القاتل ثلث الدية فارقاً بين الصورتين بأنّ القطعين المباحين لما تواليا صارا كالقطع الواحد، فلم يضمن.
بخلاف ما إذا تفرّقا، فإنّ الأوّل لما كان موصوفاً بالإباحة والثاني بالتحريم والثالث
ص: 256
مسائل من هذا الباب:
الأولى: • لو وجد مع زوجته أو مملوكته أو غلامه من ينال دون الجماع، فله دفعه. فإن أتى الدفع عليه فهو هدر.
----------------------------------
كالأوّل، فقد حصل بين القطعين ما ليس من جنسه فلم يُبْن أحدهما على الآخر، وجعل الجميع بمنزلة ثلاثة أسباب، فتوزّع عليها الدية(1).
والمصنّف (رحمه اللّه) استضعف هذا الفرق، واختار أنّ عليه النصف، وتبعه المتأخّرون، محتجّاً بأنّ جناية الطرف يسقط اعتبارها مع السراية إلى النفس، كما لو تخلّل بين جرحي عادٍ جرح عادٍ آخر، فإنه مع السراية يتساويان دية وقصاصاً، والشيخ وافق على هذا(2).
وربما فرّق بين هذا وبين المتنازع: بأنّ المجانسة هنا حاصلة؛ إذ الجراحات الثلاث مضمونة، بخلاف المتنازع، فإنّ ثانيها خاصّة مضمون، فلا يمكن البناء (3).
وردّ بأن الجرح الثاني بالنسبة إلى الجارح الأوّل غير مضمون، وقد تخلّل بين الجرحين المضمونين عليه جرح غير مضمون عليه، فلم يكن مجانساً لذلك، فإذا لم يمنع هذا من البناء فكذا الآخر(4). ومختار المصنّف (رحمه اللّه) هو الأقوى.
قوله: «لو وجد مع زوجته أو مملوكته أو غلامه من ينال دون الجماع» إلى آخره.
لأن ذلك من جملة الدفاع الجائز أو الواجب عن العرض. وفي حكمهم الدفاع عن الولد. ويحتمل إلحاق جميع المحارم.
واحترز بقوله «من ينال دون الجماع» عمّا لو بلغ حدّه، فإنّ له حينئذٍ قتل الزاني بالزوجة كما مرّ(5). وفي إلحاق المملوكة والغلام بها وجه.
والحكم بكون المدفوع هدراً فيما بينه وبين اللّه تعالى. وأمّا في الظاهر، فإن أقام البيّنة
ص: 257
الثانية: • من اطلع على قوم فلهم زجره. فلو أصرّ فرموه بحصاة أو عود فجنى ذلك عليه كانت الجناية هدراً. ولو بادره من غير زجر ضمن.
ولو كان المطلع رحماً لنساء صاحب المنزل اقتصر على زجره. ولو رماه والحال هذه فجنى عليه ضمن
ولو كان من النساء مجرّدة جاز زجره ورميه؛ لأنّه ليس للمحرم هذا الاطلاع.
----------------------------------
على ذلك فلا شيء عليه، وإلّا فالقول قول ولى المقتول إنّه لا يعلم بكون ذلك منه، وله القود أو الدية. وقد تقدّم مثله(1).
قوله: «من اطّلع على قوم فلهم زجره» إلى آخره.
كما يدافع عن الحريم بالفعل المحرّم، فكذا مع النظر المحرّم؛ لاشتراكهما في انتهاك العرض بالمحرم. وفي حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أيّما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم، فرموه وفقؤوا عينه أو جرحوه فلا دية له»، وقال: «من بدأ فاعتدى فاعتدي عليه فلا قود له»(2).
وروى العلاء بن الفضيل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا اطّلع الرجل على قوم يشرف عليهم أو ينظر من خلل شيء لهم، فرموه فأصابوه فقتلوه أو فقؤوا عينه، فليس عليهم غرم»، وقال: «إنّ رجلاً اطّلع من خلل حجرة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فجاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بمِشقَص (3) ليفقاً عينه، فوجده قد انطلق، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أي خبيث أما واللّه لو ثبت لي لفقأت عينك» (4).
ولا فرق في ذلك بين الرحم وغيره، حيث يحرم على الرحم ذلك النظر، كما لو كانت مرأة مجرّدة. أما مع عدمه فيفرق بين الرحم وغيره، حيث يجوز نظره شرعاً.
ص: 258
الثالثة: • لو قتله في منزله فادّعى أنه أراد نفسه أو ماله وأنكر الورثة، فأقام هو البيئة أنّ الداخل عليه كان ذا سيف مشهور مقبلاً على صاحب المنزل، كان ذلك علامة قاضية برجحان قول القاتل، ويسقط الضمان.
الرابعة: • للإنسان دفع الدابة الصائلة عن نفسه، فلو تلفت بالدفع فلا ضمان.
الخامسة: • لو عض على يد إنسان فانتزع المعضوض يده فندرت أسنان العاض كانت هدراً. ولو عدل إلى تخليص نفسه بلكمه أو جرحه إن تعذر التخلّص بالأخف جاز. ولو تعذّر ذلك جاز أن يبعجه بسكين أو خنجر. ومتى قدر على التخلّص بالأسهل فتخطّى إلى الأشق ضمن.
----------------------------------
وحيث يجوز الزجر لو توقّف على الضرب فجنى به لم يضمن؛ لأنّه من ضروب الدفاع الذي لا يترتب عليه ضمان.
قوله: «لو قتله في منزله فادّعى أنه أراد نفسه أو ماله وأنكر الورثة» إلى آخره.
لأنّ علم الشاهد بقصد الداخل القتل ممّا يتعذر، فيكتفى بالقرائن الحالية الدالّة عليه، وتقبل الشهادة عليه بذلك. ومع انتفاء البيّنة فالقول قول الوارث؛ لأصالة عصمة المسلم.
قوله: «للإنسان دفع الدابّة الصائلة عن نفسه، فلو تلفت بالدفع فلا ضمان».
كما يجوز دفع الآدمي الداخل عليه يريد نفسه أو ماله، يجوز دفع الدابة كذلك ونحوه؛ لاشتراك الأمرين في الدفاع المأذون فيه. ولا ضمان مع توقف الدفاع على قتلها أو إنزال عيب بها.
قوله: «لو عضّ على يد إنسان فانتزع المعضوض يده فندرت أسنان العاضّ كانت هدراً» إلى آخره.
ندرت - بالنون - أي سقطت(1). وإنما كان هدراً؛ لأنّه متعدٍّ بالفعل، والفعل معه دفاع
ص: 259
السادسة: • الزحفان العاديان يضمن كلّ منهما ما يجنيه على الآخر. ولو كفّ أحدهما، فصال الآخر، فقصد الكافّ الدفع، لم يكن عليه ضمان إذا اقتصر على ما يحصل به الدفع والآخر يضمن.
• ولو تجارح اثنان وادّعى كلّ منهما أنه قصد الدفع عن نفسه، حلف المنكر وضمن الجارح.
----------------------------------
فلا يكون مضموناً، مع مراعاة التخلّص بالأسهل فالأسهل.
وكذا لو أفضى التخلّص إلى جرحه وغيره من أنواع الأذى حيث لا يمكن بدونه، كالتخلّص بغيره من أنواع الدفاع وهو واضح.
قوله: «الزحفان العاديان يضمن كلّ منهما ما يجنيه على الآخر» إلى آخره.
احترز بالعاديين عمّا لو كان أحدهما محقاً، كزحف الإمام، فإن مقاتله عاد خاصّة، فيكون الضمان مختصّاً به.
ويتحقّق عدوانهما بقصد كلّ منهما الآخر للقتل، أو أخذ المال، أو ملك البلاد، ونحو ذلك من الأمور التي لا تسوغ شرعاً لذلك القاصد فيضمن كلّ منهما ما يجنيه على الآخر في النفس والمال.
ويتصوّر كون أحدهما عادياً دون الآخر حيث لا يكون ذلك بإذن الإمام إذا قصد أحدهما دفاع صاحبه، فلا ضمان على القاصد؛ لأنّه واجب أو جائز كما مرّ(1)، إذا اقتصر على ما يحصل به الدفع، والآخر ضامن.
قوله: «ولو تجارح اثنان وادّعى كلّ منهما أنه قصد الدفع عن نفسه» إلى آخره.
إنّما قدم قول المنكر لأن الأصل فى نفس المسلم أن تكون محترمة، فمدّعى المسقط للضمان يحتاج إلى البيّنة، والآخر منكر. وحينئذٍ فيحلف كلّ منهما للآخر على نفي ما يدعيه، ويثبت الجرحان بالدية لا بالقصاص.
ص: 260
السابعة: • إذا أمره الإمام بالصعود إلى نخلة أو النزول إلى بئر فمات، فإن أكرهه قيل كان ضامناً لديته.
وفي هذا الفرض منافاة للمذهب، ويتقدّر في نائبه. ولو كان ذلك لمصلحة عامة كانت الدية في بيت المال. وإن لم يكرهه فلادية أصلاً.
----------------------------------
وإن كانت الدعوى على العمد فمع اتّفاقهما في مقدار الدية يتهاتران، ومع الاختلاف يدفع فاعل الزائد التكملة.
قوله: «إذا أمره الإمام بالصعود إلى نخلة أو النزول إلى بئر فمات، فإن أكرهه، قيل: كان ضامناً لديته» إلى آخره.
إذا أمر الإمام أحداً بفعل كصعود نخلة والنزول إلى بئر فاتّفق تلفه، قيل: كان الإمام ضامناً له إن أكرهه عليه، وإلّا فلا (1)؛ لأنّ مثل هذا الفعل ممّا لا يجب على الفاعل فيكون إكراهه عليه مجبوراً بالضمان.
والمصنّف (رحمه اللّه) استضعف هذا القول من حيث إن عصمته تمنع من الإكراه على فعل لا يجب على المأمور. وعلى تقدير جواز إكراهه لا يجامع الحكم بضمانه.
والحقّ أنّه متى كان في الفعل مصلحة عامة فأمره به وجب عليه الامتثال ولا ضمان عليه؛ لأنّ طاعته واجبة، وإن لم يكن كذلك لم يتحقّق أمره به، فضلاً عن إكراهه. نعم، يتصوّر ذلك في نائبه؛ لعدم اشتراط عصمته.
فإن كان إكراهه عليه لمصلحة عامة فديته في بيت المال كخطأ الحكام، وإلا ففي ماله. ولو لم يكرهه فلا ضمان.
وفي الدروس جعل ديته مع أمر الإمام له به لمصلحة المسلمين في بيت المال (2). وهو حسن.
ص: 261
الثامنة: • إذا أدب زوجته تأديباً مشروعاً فماتت، قال الشيخ: عليه ديتها؛ لأنّه مشروط بالسلامة. وفيه تردُّد؛ لأنّه من جملة التعزيرات السائغة.
ولو ضرب الصبي أبوه أو جده لأبيه تأديباً فمات فعليه ديته في ماله.
التاسعة: • من به سلعة، إذا أمر بقطعها فمات فلادية له على القاطع ولو كان مولّى عليه فالدية على القاطع إن كان وليّاً، كالأب والجد للأب. وإن كان أجنبياً ففي القود تردّد، والأشبه الدية في ماله لا القود؛ لأنّه لم يقصد القتل.
----------------------------------
قوله: «إذا أدب زوجته تأديباً مشروعاً فماتت» إلى آخره.
ظاهرهم الاتّفاق على أنّ تأديب الولد مشروط بالسلامة، وأنّه يضمن ما يجني عليه بسببه. وإنما الخلاف في تأديب الزوجة، فالشيخ(1) وجماعة (2) ادعوا أن الحكم فيها كذلك. وبه قطع في الدروس(3).
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل ذلك من حيث إنّه تعزير سائغ، فلا يترتب عليه ضمان.
ويشكل بأنّ ذلك وارد في تأديب الولد؛ لأنّ الفرض وقوعه سائغاً، فلو كان جوازه موجباً لعدم الضمان ثبت فيهما. والفرق بينهما بالاتّفاق على ضمانه دونها، فيرجع إلى الأصل في محلّ المنع.
نعم المقتضي للجواز في تأديبها أقوى مدركاً، حيث إنّه منصوص القرآن بقوله تعالى: «وَاضْرِبُوهُنَّ»(4) إلّا أن ذلك لا يخرج عن حكم الأصل؛ لأنّا نتكلّم في تعزير الولد على وجه يجوز.
قوله: «من به سلعة، إذا أمر بقطعها فمات فلادية له على القاطع» إلى آخره.
السلعة بكسر السين عقدة تكون في الرأس أو البدن، فإذا قطعها قاطع، فإن كان بإذن من
ص: 262
----------------------------------
هي فيه وهو كامل، ولم يكن قطع مثلها ممّا يقتل غالباً، فاتّفق موته، فلادية على القاطع؛ لأنّه فعل مأذون فيه لأجل الإصلاح. وإن كان ممّا يقتل غالباً فمقتضى القواعد الآتية أنه لا ينفعه الإذن في سقوط الضمان.
وإنّما أطلق المصنّف (رحمه اللّه) الحكم بعدم الضمان، بناءً على الغالب من أنّ قطعها لا يقتضي الهلاك.
وإن كان بغير إذنه ضمن الدية؛ لأنّه لم يقصد القتل. وفي الدروس أطلق الحكم بالقصاص حينئذٍ على القاطع قاطعاً به (1).
ولو كان المقطوع مولّى عليه، فإن كان القاطع وليّاً أو بإذنه ضمن الوليّ الدية. ويحتمل ضمان القاطع بإذن الوليّ؛ لأنّ ذلك بمنزلة المداواة المضمون ما يتلف بسببها، وإن اجتهد الفاعل وكان فعله بالاذن.
ولو كان بغير إذن الوليّ فاتّفق القتل قيل: وجب القتل؛ لأنّه حصل بفعله العدوان.
ويضعّف بأنّ ذلك غير كافٍ في ثبوت القود، بل لا بد معه من قصد القتل إذا لم يكن الفعل ممّا يقتل غالباً، وهما منفيان هنا، فتجب الدية خاصّة، كما اختاره المصنّف (رحمه اللّه).
ص: 263
ص: 264
وهو قسمان:
والنظر فيه يستدعي فصولاً :
• وهو إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً.
----------------------------------
كتاب القصاص
هو فعال من قصّ أثره، أي تبعه(1). والمراد به هنا القود؛ لأنّه يتبع أثر الجاني، فيفعل به مثل فعله. والأصل فيه - قبل الإجماع - قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الأَلْبَاب» (2) وغيرها من الآيات (3).
قوله - في الموجب -: «وهو إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً».
إزهاق النفس إخراجها، قال الجوهري: زهقت نفسه زهوقاً، أي خرجت(4). وهو هنا هوهنا
ص: 265
ويتحقّق العمد بقصد البالغ العاقل إلى القتل بما يقتل غالباً.
• ولو قصد القتل بما يقتل نادراً فاتّفق القتل فالأشبه القصاص.
وهل يتحقّق مع القصد إلى الفعل الذي يحصل به الموت، وإن لم يكن قاتلاً في الغالب إذا لم يقصد به القتل، كما لو ضربه بحصاة أو عود خفيف؟ فيه روايتان أشهرهما أنه ليس بعمد يوجب القود.
----------------------------------
مجاز في إخراجها عن التعلّق بالبدن، إذ ليست داخلة فيه حقيقة.
والمراد بالمعصومة التي لا يجوز إتلافها من «العصم» وهو المنع.
والمراد بالمكافئة المساوية لنفس المزهق لها في الإسلام والحرّيّة وغيرهما من الاعتبارات.
واحترز بقيد العدوان عن نحو المقتول قصاصاً، فإنّه يصدق عليه التعريف ولكن لا عدوان فيه.
ويمكن إخراجه بقيد المعصومة، فإنّ غير المعصوم أعم من كونه بالأصل كالحربي، والعارض كالقاتل على وجه يوجب القصاص. ولكنه أراد بالمعصومة ما لا يباح إزهاقها للكل، وبالعدوان إخراج ما يباح قتله بالنسبة إلى شخص دون آخر، فإن القاتل معصوم بالنسبة إلى غير وليّ القصاص.
ويمكن أن يريد بالعدوان إخراج فعل الصبي والمجنون، فإنّ قتلهما للنفس لا يوجب عليهما القصاص؛ لأنّه لا يعد عدواناً ؛ لعدم التكليف، فإنّ العدوان هنا بمعنى المحرّم، وهو منفي عنهما.
والأُولى إخراجهما بقيد العمد، لما سيأتي من تفسيره بأنه قصد البالغ العاقل(1)، إلى آخره.
قوله: «ولو قصد القتل بما يقتل نادراً فاتّفق القتل فالأشبه القصاص» إلى آخره.
لا خلاف، في تحقّق العمد بقصد القتل بما يقتل غالباً ؛ لصدق التعمد فيه لغةً وعرفاً. وفي معناه الضرب بما يقتل غالباً وإن لم يقصد القتل؛ لأن القصد إلى الفعل حينئذٍ كالقصد إلى القتل.
ص: 266
----------------------------------
وإنما الخلاف في موضعين:
أحدهما: ما إذا قصد القتل بما يقتل نادراً بل بما يحتمل الأمرين، فقيل: إنّه عمد(1) أيضاً ؛ لتحقّق القصد إلى القتل فيدخل فى العموم.(2). وقيل : يكون خطأ (3)، نظراً إلى عدم صلاحيّة الآلة للقتل غالباً، فلا يؤثر القصد بدونها، وللرواية الآتية والأظهر الأوّل.
والثاني: إذا كان الفعل ممّا لا يحصل به القتل غالباً ولا قصد القتل به، ولكن قصد الفعل فاتّفق القتل كالضرب بالحصاة والعود الخفيف وفي إلحاقه بالعمد في وجوب القود قولان:
أحدهما : أنه عمد يجب فيه القود، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (4)؛ لرواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لو أنّ رجلاً ضرب رجلاً بخزفة أو أجرة أو بعود فمات كان عمداً»(5).
ومثلها رواية جميل بن درّاج عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «قتل العمد كلّ ما عمد به الضرب ففيه القود»(6).
ص: 267
ثمَّ العمد قد يحصل بالمباشرة، وقد يحصل بالتسبيب.
أمّا المباشرة فكالذبح والخنق، وسقى السم القاتل والضرب بالسيف والسكين والمُنْقِل، والحجر الغامز، والجرح في المقتل ولو بغرز الإبرة.
----------------------------------
ورواية الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ العمد كلّ من اعتمد شيئاً فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة» (1).
وفي الرواية الأُولى ضعف بعلي بن أبي حمزة (2)، وفي الثانية إرسال، وفي الثالثة في طريقها محمّد بن عيسى عن يونس، وهو ضعيف(3).
والثاني - وهو الأشهر بل الأظهر - أنه ليس بعمد يوجب القود بل شبيه عمد؛ لعدم تعمّد القتل بالقصد إليه، ولا بالنظر إلى الفعل الذي في معناه (4).
ولصحيحة أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أنه قال : أرمي الرجل بالشيء الذي لا يقتل مثله، قال : «هذا خطأ»، ثمّ أخذ حصاة صغيرة فرمى بها. قلت : أرمي الشاة فأصابت رجلاً، قال : «هذا الخطأ الذي لا شكّ فيه والعمد الذي يضرب بالشيء الذي يقتل بمثله»(5).
ورواية يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إن ضرب رجل رجلاً بالعصا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلّم فهو شبيه العمد، والدية على القاتل، وإن علاه وألح عليه بالعصا أو بالحجارة حتّى يقتله فهو عمد يقتل به، وإن ضربه ضربة واحدة فتكلّم ثمّ مكث يوماً أو أكثر من يوم ثمّ مات فهو شبيه العمد»(6).
ص: 268
وأمّا التسبيب فله مراتب
المرتبة الأولى: انفراد الجاني بالتسبيب المتلف
وفيه صورٌ:
الأُولى : لو رماه بسهم فقتله قتل؛ لأنّه ممّا يقصد به القتل غالباً. وكذا لو رماه بحجر المنجنيق. وكذا لو خنقه بحبل ولم يرخ عنه حتّى مات أو أرسله منقطع النفس أو ضمناً حتّى مات.
• أما لو حبس نفسه يسيراً لا يقتل مثله غالباً ثمّ أرسله فمات، ففي القصاص تردّد. والأشبه القصاص إن قصد القتل، أو الدية إن لم يقصد أو اشتبه القصد. :
الثانية: • إذا ضربه بعصا مكرّراً ما لا يحتمله مثله بالنسبة إلى بدنه وزمانه فمات فهو عمد. ولو ضربه دون ذلك فأعقبه مرضاً،ومات، فالبحث كالأوّل.
ومثله لو حبسه ومنعه الطعام والشراب، فإن كان مدّة لا يحتمل مثله البقاء فيها فمات فهو عمد.
----------------------------------
قوله: «أما لو حبس نفسه يسيراً لا يقتل مثله غالباً ثمّ أرسله فمات» إلى آخره.
الحكم في هذا متفرّع على السابق، فإنّ هذا الفعل ممّا لا يقتل غالباً، فإن انضمّ إليه قصد القتل فهو عمد على أصح القولين(1)، وإلّا فلا على أظهرهما.
قوله: «إذا ضربه بعصا مكرّراً ما لا يحتمله مثله - إلى قوله - فالبحث كالأوّل».
الحكم بكون القتل عمداً في الأوّل واضح؛ لأن الضرب بحسب حال المضروب - لكونه صغيراً أو ضعيف الجسم ونحوه - أو بحسب العوارض اللاحقة لزمانه من الحر والبرد، يصير ممّا يقتل غالباً، فيكون عمداً كما علم سابقاً.
ص: 269
----------------------------------
وأمّا الثاني؛ فلأنّ ضربه وإن لم يكن قاتلاً غالباً ولا قصده، إلّا أنّ إعقابه للمرض الذي حصل به التلف صير الأمرين بمنزلة سبب واحد، وهو ممّا يقتل غالباً، وإن كان الضرب على حدته ممّا لا يقتل.
ويؤيده ما سيأتي من أن سراية الجرح عمداً توجب القود وإن لم يكن الجرح قاتلاً(1)، وهذا من أفراده؛ لأنّ المرض مسبب عن الجرح ومنه نشأ الهلاك، فكان في معنى السراية. وبهذا الحكم صرّح في القواعد (2) والتحرير (3).
ولا يخلو من إشكال؛ لأنّ المعتبر في العمد - كما تقدّم(4) - إما القصد إلى القتل أو فعل ما يقتل غالباً، والمفروض هنا خلاف ذلك، وإنّما حدث القتل من الضرب والمرض المتعقب له، والمرض ليس من فعل الضارب وإن كان سبباً فيه.
ولأجل هذا الإشكال فسّر بعضهم الأوّل في قول المصنّف «فالبحث كالأول» بما فصّله سابقاً في الصورة الأُولى من قوله «أمّا لو حبس نفسه يسيراً لا يقتل مثله غالباً - إلى قوله - والأشبه القصاص إن قصد القتل، أو الدية إن لم يقصد» فيكون الحكم هنا أنّ الضرب المعقب للمرض عمد إن قصد به القتل، ويوجب الدية إن لم يقصد، لا أنّه مطلقاً.
عمل وهذا التفسير وإن وافق الظاهر من الحكم إلا أنه غير مراد للمصنّف (رحمه اللّه)؛ لأنّ حكمه وحكم غيره في خصوص هذه المسألة بكونه عمداً مطلقاً. والعلّامة فرض هذه المسألة على وجه لا يحتمل سوى ذلك، وإن كانت عبارة المصنّف لقرب المسألة الأخرى محتملة احتمالاً مرجوحاً.
ص: 270
الثالثة: • لو طرحه في النار فمات قتل به ولو كان قادراً على الخروج؛ لأنّه قد يُشْدَه، ولأنّ النار قد تشنّج الأعصاب بالملاقاة فلا يتيسر له الفرار.
أمّا لو علم أنّه ترك الخروج تخاذلاً فلا قود؛ لأنّه أعان على نفسه. وينقدح أنّه لادية له أيضاً؛ لأنّه مستقلّ بإتلاف نفسه.
ولا كذا لو جُرح فترك المداواة فمات؛ لأنّ السراية مع ترك المداواة من الجرح المضمون، والتلف من النار ليس بمجرّد الإلقاء، بل بالإحراق المتجدّد الذي لولا المكث لما حصل وكذا البحث لو طرحه في اللجة.
ولو فصده فترك شدّه أو ألقاه في ماء فأمسك نفسه تحته مع القدرة على الخروج فلا قصاص ولا دية.
----------------------------------
قوله: «لو طرحه في النار فمات قتل به ولو كان قادراً على الخروج؛ لأنّه قد يُشدَه، ولأنّ النار قد تشنّج الأعصاب بالملاقاة فلا يتيسر له الفرار» إلى آخره.
هنا مسائل متشابهة الأطراف:
أحدها: إذا طرحه في النار، فإن لم يمكنه الخروج منها، بأن كانت في حفيرة لا يقدر على الخروج منها على ذلك الوجه، أو ضعيف الحركة فقهرته النار، أو مكتوفاً، ونحو ذلك، فلا إشكال في القود؛ لأنّ النار على هذا الوجه ممّا يقتل.
وإن أمكنه الخروج، وذلك قد يعلم من قبله، بأن يقول: إنّي قادر على الخروج ولست بخارج، أو بالقرائن المفيدة للعلم، بأن كان وقوعه في طرفها بحيث يصير خارجاً عنها بسهولة وسرعة لا يأتي على نفسه، فلا قود؛ لأنّه أعان على نفسه.
وهل تثبت الدية ؟ فيه وجهان :
أحدهما : الثبوت ؛ لأنّه هو الجاني بإلقائه في النار. وترك التخلّص مع القدرة لا يسقط الضمان عن الجاني، كما لو جرحه فترك المجروح مداواة نفسه حتّى مات، فإنّه ضامن.
ص: 271
----------------------------------
والثاني : أنّه لا دية عليه أيضاً. وهو الذي اختاره المصنّف، وقبله الشيخ في المبسوط (1): لأنّه لمّا قدر على الخلاص فلم يفعل كان هو الذي أهلك نفسه وأتلفها، فهو كما لو خرج منها ثمّ عاد إليها. ويفارق المجروح إذا لم يداو نفسه بأنّ السراية عنه حصلت ولم يزد ذلك بترك التداوي، وليس كذلك الملقى في النار؛ لأنّها استأنفت إحراقاً وإتلافاً غير الأوّل، فلهذا لم يكن عليه الدية. وهذا أقوى.
نعم، على الملقي ضمان ما شيّطته (2) النار عند وصوله إليها إلى أن يخرج منها في أوّل أوقات الإمكان.
ولو مات في النار واشتبه الحال هل كان قادراً على الخروج فتركه تخاذلاً أم لا؟ فالحكم فيه كذلك، لوجود السبب المقتضي للضمان، وهو الإلقاء مع الشكّ في المسقط، وهو القدرة على الخروج مع التهاون فيه. ولا يسقط الحكم بثبوت أصل القدرة ما لم يعلم التخاذل عن الخروج؛ لاحتمال أن يعرض له ما يوجب العجز، من دهش وتحيّر أو تشنج أعضائه، ونحو ذلك.
ومعنى قوله «يُشْدَه» أي يدهش. قال الجوهري:
يقال: شُدِة الرجل شَدْها فهو مشدوهٌ: دهش والاسم السُّده، مثل البخل والبخيل، وقال أبو زيد: شدة الرجل: شُغِل لا غير(3).
والثانية: أن يجرحه فيترك مداواة جرحه إلى أن مات. وهنا لا إشكال في الضمان وثبوت القود، وإن كانت المداواة ممكنة.
وقد ظهر الفرق بينها وبين مسألة النار، حيث إنّ التلف هنا مستند إلى الجرح الواقع عدواناً، بخلاف الموت بالنار، فإنه مستند إلى احتراق متجدد عن الأوّل الواقع عدواناً.
ص: 272
الرابعة: • السراية عن جناية العمد توجب القصاص مع التساوي، فلو قطع يده عمداً فسرت قتل الجارح. وكذا لو قطع إصبعه عمداً بآلة تقتل غالباً فسرت
----------------------------------
والثالثة: أن يطرحه في لجة الماء بحيث لا يمكنه الخروج فغرق، فعليه القود، سواء كان يحسن السباحة أم لا؛ لأن لجة البحر مهلكة على كلّ حال.
وإن كان إلقاؤه بقرب الساحل وهو لا يحسن السباحة، أو يحسنها ولكن كان مكتوفاً لا يمكنه الخروج، فالحكم كما لو ألقاه في اللجة؛ لأنّ ذلك ممّا يقتل غالباً.
وإن كان يحسن السباحة ولم يكن له عنها مانع، أو كان في محلّ من الماء يمكنه الخروج بغير السباحة فأمسك نفسه ولم يخرج حتّى هلك فلا قود. وفي الدية الوجهان، وأصحّهما العدم؛ لأنّه السبب في هلاك نفسه.
والرابعة: أن يفصده فيترك شدّه إلى أن ينزف ومات منه، فلا قصاص ولادية أيضاً؛ لأنّ هلاكه مستند إلى تقصيره في الشدّ وخروج الدم الواقع بعد الفصد، فكان كهلاكه بالنار المتجددة على الإلقاء.
وقيل: حكمه حكم مسألة الجرح؛ لأنّ هلاكه مستند إلى الفصد، ولولاه لما خرج الدم(1). والفصد وإن كان مأذوناً فيه بخلاف الجرح إلا أن جنايته مضمونة، فكان مشاركاً للجرح في ذلك، وإن افترقا في أصل الإباحة.
قوله: «السراية عن جناية العمد توجب القصاص مع التساوي» إلى آخره.
ظاهره عدم الفرق في إيجاب السراية القصاص - إذا كان أصل الجناية عمداً - بين كونها ممّا يوجبها غالباً أو يوجب القتل كذلك وعدمه، ولا بين أن يقصد بذلك القتل وعدمه. وبهذا المفهوم صرّح العلّامة في القواعد (2) والتحرير(3).
وتمشية هذا الإطلاق على قاعدة العمد السابقة لا يخلو من إشكال.
ص: 273
الخامسة: • لو ألقى نفسه من علوّ على إنسان عمداً، وكان الوقوع ممّا يقتل غالباً فهلك الأسفل، فعلى الواقع القود.
ولو لم يكن يقتل غالباً كان خطأ شبيه العمد فيه الدية مغلظة، ودم الملقى نفسه هدر
السادسة :• قال الشيخ: لا حقيقة للسحر، وفي الأخبار ما يدل على أنّ له حقيقة. ولعلّ ما ذكره الشيخ قريب، غير أن البناء على الاحتمال أقرب.
فلو سحره فمات لم يوجب قصاصاً ولا دية على ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه). وكذا لو أقرّ أنّه قتله بسحره. وعلى ما قلناه من الاحتمال يلزمه الإقرار.
وفي الأخبار يقتل الساحر. قال في الخلاف يحمل ذلك على قتله حدّاً لفساده لا قوداً.
----------------------------------
قوله: «لو ألقى نفسه من علوّ على إنسان عمداً» إلى آخره.
هذا جارٍ على قاعدة العمد السابقة، فإنّ الوقوع من فعله. فإن كان ممّا يقتل غالباً فهو متعمّد للقتل. وإن لم يقتل غالباً فهو فعل مقصود له، فكان شبيه عمد، هذا إذا لم يقصد به القتل، وإلّا كان عمداً أيضاً.
قوله: «قال الشيخ: لا حقيقة للسحر، وفي الأخبار ما يدل على أن له حقيقة. ولعلّ ما ذكره الشيخ قريب» إلى آخره.
اختلف الفقهاء في أنّ السحر هل له حقيقة أي تأثير، بحيث يتغير به حال المسحور فيمرض ويموت منه، ويتأثر به فيما يقصده الساحر، أم هو مجرد تخييل وشعبذة لا حقيقة له؟ فذهب بعضهم إلى الأوّل(1)، وآخرون إلى الثاني (2).
ص: 274
----------------------------------
واستند الأولون إلى قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَ مَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ، مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه»(1). أسند التفريق إليه، وذمّهم على تعلم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فلو لم يكن له تأثير لم يتوجه عليهم الذمّ. ولأنّ تأثيره أمر وجداني شائع بين الخلق قديماً وحديثاً.
وفي الأخبار ما يدلّ على وقوعه في زمن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2) حتّى قيل: إنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سحر حتّى كان يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله. وفيه نزلت المعوذتان (3).
واستند الثاني إلى قوله تعالى: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى»(4). أسند إليه مجرد التخييل. وقوله تعالى: «وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ، مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه»(5).
ووجه الدلالة أنّ تأثيره لو كان بالإضرار فإما أن يتوقّف على إذنه تعالى أو لا، ويلزم من الأوّل إذنه تعالى في القبيح، وهو محال. ومن الثاني خلاف ما دلّت عليه الآية.
وأجابوا عن استدلال الأوّلين بأن نفى الإضرار غير لازم لنفي التأثير فلا يستلزم نفيه نفيه.
إذا تقرّر ذلك، فقد اتّفق المسلمون على تحريم عمل السحر وكفر مستحلّه. وأما قتله فقد تقدّم الحكم به(6) وأنّه حدّه؛ لفساده في الأرض.
وأمّا على تقدير قتله أحداً بالسحر، فلا طريق إلى معرفته بالبيّنة؛ لأنّ الشاهد لا يعرف قصده ولا شاهد تأثير السحر، وإنّما يثبت بإقرار الساحر. فإذا قال: قتلته بسحري، فمن
ص: 275
وفيه صور:
الأولى: • لو قدّم له طعاماً مسموماً، فإن علم وكان مميزاً فلا قود ولادية. وإن لم يعلم فأكل ومات فللولي القود؛ لأنّ حكم المباشرة سقط بالغرور.
• ولو جعل السمّ في طعام صاحب المنزل فوجده صاحبه فأكله فمات، قال في الخلاف والمبسوط عليه القود. وفيه إشكال.
----------------------------------
قال: لا تأثير له لم يوجب عليه بالإقرار شيئاً. والأقوى الثبوت على القولين، عملاً بإقراره، وإلغاء للمنافي على القول به.
ثمَّ إن قال مع ذلك: إن سحره ممّا يقتل غالباً فقد أقرّ بالعمد. وإن قال: نادراً، استفسر، فإن أضاف إليه قصده قتله فهو عمد أيضاً، وإلّا فهو شبيه العمد.
وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فهو إقرار بالخطأ، فيلزمه حكم ما أقرّ به. ولكن في صورة الخطأ لا يلزم إقراره العاقلة، بل تجب الدية في ماله. نعم، لو صدّقوه أخذناهم بإقرارهم.
قوله: «لو قدم له طعاماً مسموماً» إلى آخره.
هذا إذا كان السم الموضوع في الطعام ممّا يقتل مثله غالباً بالنظر إلى كمّيّته وكيفيّته. فلو كان ممّا يقتل كثيره فقدم إليه قليله، فإن قصد القتل فكالكثير، وإلّا فهو شبيه العمد.
قوله: «ولو جعل السمّ في طعام صاحب المنزل فوجده صاحبه فأكله فمات» إلى آخره.
منشأ الإشكال من حيث إنّه لم يلجئه إلى الأكل، فلم يلزمه القصاص ووجب عليه الدية؛ لأنّه قتله بالسمّ، وهو مغرور في أكله، والغار جاعل السمّ.
والأشهر ما اختاره الشيخ (1)؛ لضعف المباشرة بالغرور، فكان كما لو قدمه إليه.
ص: 276
الثانية: • لو حفر بئراً بعيدة في طريق ودعا غيره مع جهالته فوقع فمات فعليه القود؛ لأنّه ممّا يقصد به القتل غالباً.
الثالثة: • لو جرحه فداوى نفسه بدواء سمّي، فإن كان مجهزاً فالأوّل جارح، والقاتل هو المقتول فلادية له. ولوليّه القصاص في الجرح، إن كان الجرح يوجب القصاص، وإلا كان له أرش الجراحة.
وإن لم يكن مجهزاً وكان الغالب فيه السلامة فاتّفق الموت، سقط ما قابل فعل المجروح، وهو نصف الدية، وللولي قتل الجارح بعد رد نصف الدية. وكذا لو كان غير مجهز، وكان الغالب معه التلف.
وكذا البحث لو خاط جرحه في لحم حي فسرى منهما سقط ما قابل فعل المجروح، وكان للولي قتل الجارح بعد رد نصف ديته.
----------------------------------
قوله: «لو حفر بئراً بعيدةً في طريق ودعا غيره مع جهالته فوقع فمات» إلى آخره.
أي بعيدة القعر بحيث يقتل الوقوع فيها غالباً. وفي حكم دعائه جعلها في ملك الواقع، كما لو وضع السم في طعامه.
ولو كان الوقوع لا يقتل غالباً وقصد القتل فكذلك، وإلّا فهو شبيه عمد.
قوله: «لو جرحه فداوی نفسه بدواء سمّي - إلى قوله - وكان الغالب معه التلف».
إذا جرحه فداوي نفسه بدواء أعان على قتله، فإن كان الجرح الأوّل متلفاً، وقد انتهى المجروح إلى حركة المذبوح، فالأوّل هو القاتل، دون الثاني وإن كان مجهزاً. وإن لم يكن الجرح موجباً للتلف بنفسه، فإن كان الدواء السمّي مستقلاً بالإتلاف فالمرجوح هو القاتل، وعلى الجارح عوض الجرح قصاصاً أو دية.
وإن لم يكن كلّ منهما مستقلاً بالإتلاف فاتّفق الهلاك بهما، كان مشتركاً بين المقتول والجارح. فإن كان الجرح وقع عمداً فسرايته كذلك، ولو بالشركة كما مر. فللأولياء قتل الجارح بعد أن يردوا عليه نصف الدية في مقابلة الشركة.
ص: 277
وفيه صور:
الأولى: • إذا ألقاه إلى البحر فالتقمه الحوت قبل وصوله فعليه القود؛ لأنّ الإلقاء في البحر إتلاف بالعادة. وقيل: لا قود؛ لأنّه لم يقصد إتلافه بهذا النوع. وهو قويّ.
أمّا لو ألقاه إلى الحوت فالتقمه فعليه القود؛ لأنّ الحوت ضار بالطبع، فهو كالآلة.
----------------------------------
ولا فرق مع عدم كون الدواء مجهزاً بين كون الغالب معه التلف وعدمه؛ لوجود السببين مع عدم العلم باستناد الهلاك إلى أحدهما، فيسند إليهما معاً؛ لانتفاء المرجّح.
قوله: «إذا ألقاه إلى البحر فالتقمه الحوت قبل وصوله فعليه القود» إلى آخره.
إذا قصد قتله بما يقتل غالباً فلا إشكال في كونه عمداً، مع هلاكه بذلك السبب.
أمّا لو هلك بغيره بحيث لولا ذلك الغير لهلك بالسبب المقصود، كما إذا كان الإلقاء في البحر موجباً للتلف غالباً، فرماه فاتّفق هلاكه بغيره كالتقام الحوت له قبل وصوله أو بعده قبل التلف، فهل يجب القود كالسابق؟ فيه قولان:
أحدهما نعم؛ لأنّ القصد إلى السبب المعين يستلزم القصد إلى مطلق القتل، ضرورة وجود المطلق في المقيّد، ومطلق القتل صادق على غير المعين.
ولأنّه قد أتلفه بنفس الإلقاء؛ لحصوله وإن لم يبتلعه الحوت، كما لو أُلقي من علوّ يقتل غالباً فأصابته سكّين فقتلته. وهذا اختيار الخلاف(1) والمختلف (2) وجماعة (3).
ص: 278
الثانية: • لو أغرى به كلباً عقوراً فقتله فالأشبه القود؛ لأنّه كالآلة. وكذا لو ألقاه إلى أسد بحيث لا يمكنه الاعتصام فقتله، سواء كان في مضيق أو برّيّة.
الثالثة: • لو أنهشه حيّةٌ قاتلاً فمات قتل به ولو طرح عليه حيّةً قاتلاً فنهشته فهلك فالأشبه وجوب القود؛ لأنّه ممّا جرت العادة بالتلف معه.
----------------------------------
والثاني: عدم وجوب القود (1) بل الدية؛ لأنّ تلفه وقع بغير المقصود المعين، فكان كتلفه بغير قصد أصلاً؛ إذ القصد بالنسبة إلى التلف معدوم. وهذا هو الذي قواه المصنّف (رحمه اللّه). وفي الأوّل قوّة.
قوله: «لو أغرى به كلباً عقوراً فقتله فالأشبه القود» إلى آخره.
ما اختاره من وجوب القود هو الأصح؛ لأنّ المباشر هنا كالآلة، فلا ينسب إليه القتل.
ووجه العدم أنّ الفعل منسوب إلى الكلب والأسد، وهو مختار في فعله، فلم يكن المغري قاتلاً وإن كان سبباً، فيضمن الدية.
هذا إذا لم يمكنه التخلّص منه كما فرضه في الأسد. فلو أمكنه بالهرب أو بقتله أو بالصياح به ونحوه فلا قود؛ لأنّه أعان على نفسه بالتفريط.
ثمّ إن كان التخلّص الممكن من مطلق أذاه فكإلقائه في الماء فيموت مع قدرته على الخروج. وإن لم يمكن إلا بعد عضة لا يقتل مثلها فكإلقائه في النار كذلك، فيضمن جناية لا يمكنه دفعها.
قوله: «لو أنهشه حيّةً قاتلاً فمات قتل به» إلى آخره.
المراد بكونه أنهشه الحيّة أنّه قبضها وأنهشها،بدنه فكان مباشراً للإتلاف عمداً، فلا إشكال في ثبوت القود.
أمّا لو طرحها عليه أو ألجأه إليها، فالكلام في الضمان كما لو أغرى به الكلب أو ألقاه إلى الأسد، ففيه الوجهان. والأصحّ القود.
ص: 279
الرابعة: • لو جرحه ثمّ عضه الأسد وسرتا لم يسقط القود. وهل يردّ فاضل الدية ؟ الأشبه : نعم. وكذا لو شاركه أبوه، أو اشترك عبد وحرّ في قتل عبد.
الخامسة: • لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة فافترسه الأسد اتفاقاً فلا قود وفيه الدية.
----------------------------------
قوله: «لو جرحه ثمّ عضه الأسد وسرتا لم يسقط القود» إلى آخره.
إذا هلك المقتول بجراحتين إحداهما موجبة للقود والأخرى غير موجبة، فإن رضي الأولياء بالدية فعلى الجارح الضامن - كشريك الأسد - نصف الدية؛ لأنّه مات بسببين أحدهما مضمون عليه، فكان عليه النصف.
وإن اختار القود فعندنا أنّ له ذلك، كما لو قتله بشركة ضامن يقاد منه. وذهب بعض العامّة إلى عدم ثبوت القود هنا؛ لأنّ هلاكه بسببين أحدهما غير مضمون أو غير موجب للقود، فلم يكن موجباً للقود تامّاً (1).
ثمَّ على تقدير اختيار قتله هل يردّ عليه فاضل ديته عن جنايته، وهو هنا النصف؟ مقتضى المذهب ذلك، وبه جزم العلّامة في القواعد والتحرير (2) من غير نقل خلاف؛ لأنّه مات بسببين أحدهما مضمون على هذا الجارح، وهو قاتل في الجملة وإن كان بمعونة غيره، فيثبت عليه موجبه ويجمع بين الحقين برد ما زاد من ديته عن جنايته.
ويحتمل عدم الرد؛ لأنّ الجرح الآخر غير مضمون مطلقاً، وإن كان يضمن على بعض الوجوه كجرح الأب، فلا يوزّع عليه من الدية شيء. ولا يخفى ضعفه.
قوله: «لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة فافترسه الأسد اتفاقاً فلا قود، وفيه الدية».
وإنّما لم يكن عليه القود؛ لأنّ فعل السبع يقع باختياره، وطبعه يختلف في ذلك اختلافاً كثيراً، فليس الإلقاء في أرضه ممّا يقتل غالباً. نعم، تجب الدية؛ لكونه سبباً في القتل.
ص: 280
وفيه صور:
الأولى: • لو حفر واحد بئراً فوقع آخر بدفع ثالث فالقاتل الدافع دون الحافر.
وكذا لو ألقاه من شاهق فاعترضه آخر فانقد بنصفين قبل وصوله الأرض، فالقاتل هو المعترض.
• ولو أمسك واحد وقتل آخر فالقود على القاتل دون الممسك، لكنّ الممسك یحبس أبداً. ولو نظر لهما ثالث لم يضمن لكن تسمل عينه، أي تفقاً.
----------------------------------
قوله: «لو حفر واحد بئراً فوقع آخر بدفع ثالث، فالقاتل الدافع دون الحافر» إلى آخره.
إذا اجتمع السبب والمباشرة، فقد تغلب المباشرة على السبب وهو الأكثر، وقد ينعكس وقد يستويان. وما ذكره هنا حكم الأوّل. فإذا حفر واحد بئراً، فدفع آخر فيه ثالثاً، فالقاتل هو الدافع؛ لأنّه المباشر للقتل بما يقتل وهو الإلقاء، دون الحافر؛ لأنّه السبب البعيد.
وكذا لو ألقاه من شاهق فتلقاه إنسان بسيفه فقده نصفين، أو ضرب رقبته قبل أن يصيب الأرض، فالقصاص على المتلقي دون الملقي، سواء عرف الملقي الحال أم لم يعرفه.
ووجه بأنّ الإلقاء إذا طرأ عليه مباشرة مستقلة صار شرطاً محضاً. وكما لا يجب القصاص على الملقي، لا يجب عليه الضمان أيضاً.
قوله: «ولو أمسك واحد وقتل آخر فالقود على القاتل دون الممسك» إلى آخره.
هذا أيضاً من باب اجتماع السبب والمباشر مع تغليب المباشر. والأصل في ذلك قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «يقتل القاتل، ويصبر الصابر»(1). قيل : معناه أنّه يحبس أبداً (2).
ص: 281
الثانية: • إذا أكرهه على القتل فالقصاص على المباشر دون الآمر ولا يتحقّق الإكراه في القتل، ويتحقّق فيما عداه. وفي رواية عليّ بن رئاب: «يحبس الآمر بقتله حتّى يموت».
----------------------------------
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجلين أمسك أحدهما وقتل الآخر، قال: يقتل القاتل، ويحبس الآخر حتّى يموت، كما كان حبسه عليه حتّى مات»(1). وغيرهما من الأخبار الكثيرة (2).
وقد دلّ على الحكم الأخير رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، واحد منهم أمسك رجلاً، وأقبل آخر فقتله، والآخر يراهم، فقضى في الرؤية أن تسمل عينه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتّى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يُقتل»(3). وعمل بمضمونها الشيخ(4)، وتبعه الأصحاب.
قوله: «إذا أكرهه على القتل فالقصاص على المباشر دون الآمر - إلى قوله - والأوّل أظهر».
الإكراه لا يتحقّق في القتل عندنا؛ لاشتماله على دفع الضرر بمثله، ومن هذا الباب قيل: لا تقيّة في الدماء؛ لأنّها أُبيحت ليحقن بها الدم، فلا تكون سبباً لإراقته. ويثبت فيما دون النفس إذا خاف عليها(5).
ص: 282
هذا إذا كان المقهور بالغاً عاقلاً. ولو كان غير مميّز كالطفل والمجنون، فالقصاص على المُكره؛ لأنّه بالنسبة إليه كالآلة. ويستوي في ذلك الحرّ والعبد.
ولو كان مميزاً عارفاً غير بالغ وهو حرّ فلا قود، والدية على عاقلة المباشر. وقال بعض الأصحاب: يقتص منه إن بلغ عشراً. وهو مطّرح.
وفي المملوك المميز تتعلق الجناية برقبته، ولا قود. وفي الخلاف إن كان المملوك صغيراً أو مجنوناً سقط القود، ووجبت الدية والأوّل أظهر.
----------------------------------
ثمَّ المُكره على القتل إما حرّ أو عبد. فإن كان حرّاً وهو بالغ عاقل تعلّق به القود؛ لأنّه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه، فصار كما لو قتل المضطر إنساناً فأكله، فإنّه يلزمه القصاص.
وخالف في ذلك بعض العامّة؛ محتجاً بأنه قتله دفعاً عن نفسه، فأشبه قتل الصائل. وأوجب القصاص على المُكره؛ لأن المُكرَه له كالآلة(1).
وأجيب بمنع القياس على الصائل مع وجود الفارق؛ لأن الصائل متعد متمكن من دفعه، ولهذا لا يأثم الصائل، بخلاف المكره، فإنّه يأثم كالمختار. وبهذا يبطل كونه آلة.
وأمّا المُكره فيخلّد الحبس؛ لرواية علي بن رئاب، عن زرارة، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل، فقال : يقتل الذي قتله، ويحبس الآمر بقتله في السجن حتّى يموت»(2).
ونسبة المصنّف الحكم إلى الرواية يؤذن بالتوقّف فيه. ولا بأس به؛ لصحّة الرواية.
وإن كان غير مميّز - صبيّاً أو مجنوناً - فالقود على الآمر ؛ لأنهما كالآلة. ولا فرق هنا بين الحرّ والعبد.
ص: 283
----------------------------------
وإن كان مميزاً غير بالغ، فإن كان حراً فلا قود؛ لأن عمد الصبي مختاراً خطأ فكيف مع الإكراه! وتجب الدية على عاقلة المباشر.
والقول بالاقتصاص من الصبي مع بلوغه العشر للشيخ في النهاية والمبسوط(1)، محتجاً بالأخبار(2).
وأطلق الصدوق (3) والمفيد(4)، الاقتصاص ممن بلغ خمسة أشبار. والمستند رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى بذلك(5).
والمستند مع شذوذه ضعيف.
ولا فرق في البالغ وغير المميّز بين الحرّ والعبد.
وأمّا المميّز غير البالغ إذا كان مملوكاً فقيل: تتعلّق الجناية برقبته، وعلى السيّد إذا كان هو المُكرِه السجن، كما مرّ. وهو قول الشيخ في النهاية (6).
وقيل: إن كان صغيراً أو مجنوناً سقط القود، ووجبت الدية على السيّد. وهو قول الشيخ في الخلاف(7)، ولم يفرّق في إطلاق كلامه بين المميّز وغيره.
وقيل: إن كان صغيراً مميزاً فلا،قود وتجب الدية متعلقة برقبته. وإن كان غير مميز فالقود
ص: 284
فروع:
الأوّل: • لو قال: اقتلني أو لأقتلنّك، لم يسغ القتل؛ لأنّ الإذن لا يرفع الحرمة. ولو باشر لم يجب القصاص؛ لأنّه أسقط حقّه بالإذن فلا يتسلّط الوارث.
----------------------------------
على السيّد. وإن كان كبيراً فالقود متعلق برقبته كما مرّ.
وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) وجعله أظهر. وهو اختيار الشيخ في المبسوط(1). وعليه العمل.
وللشيخ قول رابع في الاستبصار، وهو إن كان سيد العبد معتاداً لذلك قتل السيّد وخلّد العبد الحبس. وإن كان نادراً قتل العبد وخلّد السيّد الحبس(2)، جمعاً بين رواية زرارة السابقة (3) الدالّة على قتل القاتل وتخليد الآمر الحبس، وبين رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال في رجل أمر عبده أن يقتل رجلاً فقتله: هل عبد الرجل إلّا كسيفه ؟ يقتل السيّد ويستودع العبد السجن»(4)، ومثلها رواية إسحاق بن عمّار (5)؛ حملاً لهما على من يعتاد قتل الناس، ويلجئ عبيده ويكرههم على ذلك؛ لأنّه حينئذٍ مفسد في الأرض.
وفي المسألة أقوال أخر نادرة(6).
قوله: «لو قال: اقتلني أو لأقتلنك، لم يسغ القتل» إلى آخره.
إذا قال: اقتلني وإلّا قتلتك، فهو إذن منه في القتل وإكراه، حيث تجتمع شرائطه. وقد تقدّم
ص: 285
الثاني: • لو قال: اقتل نفسك، فإن كان مميزاً فلا شيء على الملزم، وإلا فعلى الملزم القود. وفي تحقّق إكراه العاقل هنا إشكال.
----------------------------------
أنّ الإكراه لا يجري في النفس(1)، فلا يجوز له قتله بذلك. فإن باشر وقتله ففي ثبوت القصاص عليه وجهان:
أحدهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - العدم؛ لأنّه أسقط حقّه بالإذن، فلا يتسلّط الوارث عليه؛ لأنّه إنما يستحق بما ينتقل إليه عن المورّث، والمورّث لا حقّ له هنا بالإذن، ولأن الإذن شبهة دارئة.
والثاني : الثبوت؛ لأنّ القتل لا يباح بالإذن فلم يسقط الحقّ به، كما لو قال: اقتل زيداً وإلّا قتلتك، وأشبه إذن المرأة في الزنى ومطاوعتها، فإنّه لا يسقط الحدّ. ويمنع من كون الحق يجب للمورّث أوّلاً؛ لأنّه لا يثبت إلا بعد الموت، فيجب للورثة ابتداء. وتوقف العلّامة في القواعد في الوجهين (2). والأشهر الأوّل.
فإن لم نقل بالقصاص ففي ثبوت الدية أيضاً وجهان، مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداءً عقيب هلاك المقتول، أو تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثمّ ينتقل إليهم. فعلى الأوّل تجب، ولم يؤثّر إذنه. وعلى الثاني لا. ويؤيّده أنّ وصاياه تنفذ منها، وتقضى ديونه، ولو ثبت للورثة ابتداءً لما كان كذلك، كزوائد التركة لو قيل بانتقالها إليهم بالموت.
قوله: «لو قال: اقتل نفسك. فإن كان مميزاً فلا شيء على الملزم وإلّا فعلى الملزم القود. وفي تحقّق إكراه العاقل هنا إشكال».
إذا قال له: اقتل نفسك من غير أن يكرهه عليه ففعل، فلا شيء على الأمر إن كان المأمور مميّزاً؛ لأنّه هو المباشر، والسبب هنا على تقدير تسليمه ضعيف جداً. وإن كان غير مميّز فالقود على الآمر ؛ لضعف المباشر.
ص: 286
الثالث: • يصحّ الإكراه فيما دون النفس، فلو قال: اقطع يد هذا أو هذا أو لأقتلنّك، فاختار المكره أحدهما، ففي القصاص تردّد، منشؤه أنّ التعيين عري عن الإكراه.
والأشبه القصاص على الآمر ؛ لأنّ الإكراه تحقّق، والتخلّص غير ممكن إلا بأحدهما.
----------------------------------
ولو أكرهه على قتل نفسه بأن قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، ففي وجوب القصاص على المُكرِه وجهان، منشؤهما أنّ الإكراه هل يتحقّق للعاقل على هذا الوجه أم لا؟
أحدهما: نعم، فيجب القصاص على المُكرِه؛ لأنّه بالإكراه على القتل والإلجاء إليه قاتل له.
وأظهرهما: المنع، وأنّ ذلك ليس بإكراه حقيقةً؛ لأنّ المكره مَنْ يتخلّص بما أمر به عمّا هو أشدّ عليه، وهو الذي خوّفه المكره،به وهنا المأمور به القتل المخوّف به القتل، ولا يتخلّص بقتل نفسه عن القتل، فلا معنى لإقدامه عليه فظهر بذلك رجحان عدم تحقّق إكراه العاقل عليه.
نعم، لو كان التهدّد بقتل أشدّ ممّا يقتل به المكره نفسه، كقتل فيه تعذيب، اتّجه تحقّق الإكراه حينئذٍ ؛ لأنّ المكره يتخلّص بما أُمر به عما هو أشدّ عليه، وهو نوع القتل الأسهل من النوع الأشق، فيجب القصاص فيه كغيره.
قوله: «يصحّ الإكراه فيما دون النفس» إلى آخره.
قد عرفت أنّ الإكراه يتحقّق حيث يمكن المكره العدول عمّا توعّد به إلى ما هو أسهل منه، فيتحقّق فيما دون النفس إذا توعد بالقتل، كما لو قال له: اقطع يد هذا أو يدك وإلّا قتلتك؛ لأنّه يحفظ نفسه بفعل المكره عليه، وليس فيه إتلاف نفس. وهذا لا إشكال فيه.
وإنّما يقع الإشكال فيما إذا حصر المكره الإكراه في شيئين أو أشياء على سبيل التخيير بينها مع عدم إمكان التخلّص إلا بواحد منها.
ص: 287
الصورة الثالثة: • لو شهد اثنان بما يوجب قتلاً كالقصاص، أو شهد أربعة بما يوجب رجماً كالزني، وثبت أنهم شهدوا زوراً بعد الاستيفاء، لم يضمن الحاكم ولا الحداد، وكان القود على الشهود؛ لأنّه تسبيب متلف بعادة الشرع.
نعم، لو علم الوليّ وباشر القصاص كان القصاص عليه دون الشهود؛ لقصده إلى القتل العدوان من غير غرور.
----------------------------------
ووجه الإشكال: من عدم إمكان التخلّص من الجميع، فكان كالإلجاء إلى المعين، ومن تحقّق الاختيار بالقصد إلى أحدها بعينه، ولم يكره عليه بخصوصه، وقد تحقّق في الأصول أنّ الأمر بالكلّي ليس أمراً بجزئي من جزئياته على التعيين، وإن كان الكلي لا يتحقّق إلا في ضمن أحدها(1)، فيكون في الأمر الإكراهي كذلك.
وفي الأوّل قوّة؛ لأنّ القصد إلى التعيين من ضرورة الإكراه، فهو ملجأ إلى إبراز فعل كلّي في الوجود لا يتمّ إلّا بإيجاده في شخص معيّن.
ولأنّ الإكراه على المعين تخيير في الأوقات حيث لا يكرهه على التعجيل، وكما أنّ تعیین وقت الفعل إذا جاء باختياره لا يخرجه عن حدّ الإكراه، فكذا التخيير في صفة القتل، والاتّفاق على أنّه غير قادح فكذا في المتنازع.
وهذا البحث آت في الإكراه على الجراح والمال وغيرهما. وقد تقدم البحث فيه في الطلاق(2).
قوله: «لو شهد اثنان بما يوجب قتلاً كالقصاص، أو شهد أربعة بما يوجب رجماً كالزني» إلى آخره.
هذه الصورة ممّا اجتمع فيه المباشرة مع التسبيب مع غلبة السبب على المباشرة، وذلك إذا أخرجها السبب عن كونها عدواناً مع توليده لها، فإنّ شهادة الشهود بما يوجب القصاص
ص: 288
الرابعة: • لو جنى عليه فصيّره في حكم المذبوح - وهو أن لا تبقى حياته مستقرة - وذبحه آخر، فعلى الأوّل القود، وعلى الثاني دية الميّت.
ولو كانت حياته مستقرّة فالأوّل جارح والثانى قاتل، سواء كانت جنايته ممّا يقضى معها بالموت غالباً، كشقّ الجوف والآمّة، أو لا يقضى به كقطع الأنملة.
----------------------------------
والرجم ولّدت المباشرة به، وأخرجها عن كونها عدواناً، فكانت الشهادة هي الموجبة للقتل العدوان دون فعل الحاكم والوليّ.
ولا إشكال في ثبوت القصاص على المباشر لو علم أنّهم شهدوا زوراً؛ لأنّه هو القاتل عدواناً، وإن كان قد بنى ظاهراً على الحكم المستند إلى الشهادة.
قوله: «لو جنى عليه فصيّره في حكم المذبوح» إلى آخره.
إذا صدر فعلان مزهقان، نظر إن وجدا معاً فهما قاتلان، سواء كانا مدفّفين(1)، كما إذا حزّ أحدهما رقبته وقدّه الآخر نصفين، أو لم يكونا مدففين كما إذا أجاف كلّ واحد منهما جائفة أو قطع عضواً ومات منهما. وإن كان أحدهما مدفّفاً دون الآخر، فالقاتل صاحب الفعل المدفّف.
وإن طرأ فعل أحدهما على فعل الآخر فله حالتان:
إحداهما: أن يوجد الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى أن صارت حركته حركة المذبوحين، إمّا عقيب الفعل الأوّل لكونه مدفّفاً، أو بسرايته وتأثيره مدّة، فيكون القاتل الأوّل، وعلى الثاني حكم الجاني على الميت، وسيأتي (2).
والمراد من حركة المذبوح التي لا يبقى معها الإدراك والنطق والحركة الاختياريّان.
الثانية: أن يوجد الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوحين، فينظر إن كان الثاني مدفّفاً كما لو جرحه واحد ثمّ جاء آخر وحزّ رقبته أو قدّه نصفين، فالقاتل الثاني؛ لأنّ الجراحة
ص: 289
الخامسة : • لو قطع واحد يده و آخر رجله فاندملت إحداهما ثمّ هلك، فمن اندمل جرحه فهو جارح والآخر قاتل يقتل بعد ردّ دية الجرح المندمل.
----------------------------------
كانت تؤثّر بالسراية، والحزّ أبطل أثرها وسرايتها. وإنّما يجب على الأوّل القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما يقتضيه الحال.
ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة له لو لم يطرأ الحز، وبين أن لا يتوقّع ويستيقن الهلاك بعد يومين أو أيّام؛ لأنّ له في الحال حياة مستقرّة، والتصرفات فيها نافذة.
وإن لم يكن الثاني مدقفاً أيضاً ومات بسرايتهما جميعاً، كما لو أجاف الأوّل ثمّ أجاف الثاني، أو قطع الأوّل يده من الكوع ثمّ قطع الثاني الساعد من المرفق فمات، فهما قاتلان؛ لأنّ القطع الأوّل قد انتشرت سرايته وآلامه وانضم إليها الأمر الثاني، فأشبه ما إذا أجاف أحدهما جائفة وجاء آخر ووسعها فمات، فإن القصاص عليهما.
ونبه المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «سواء كانت جنايته ممّا يقضى معها بالموت أو لا» إلى آخره على خلاف بعض العامّة، حيث فرّق بين الأمرين وحكم فيما إذا تيقّن هلاكه بالجراحة السابقة بأنّ القاتل الأوّل دون الثاني (1).
قوله: «لو قطع واحد يده وآخر رجله فاندملت إحداهما ثمّ هلك» إلى آخره.
أمّا ثبوت الجرح المندمل على جارحه دية أو قصاصاً، والقتل على من لم يندمل قطعه، فواضح. وأمّا أنّه يردّ عليه دية العضو المندمل؛ فلأنّ الجاني كامل، والمقتول ناقص وقد أخذ دية العضو البائن الذي لم يسرِ جرحه، أو ما هو في معنى الدية، فيردّ نصف الدية.
وفي القواعد استشكل الحكم بالردّ(2)، ممّا ذكر، ومن أنّ الدية للنفس وحدها، ومن ثمّ يقتل الكامل إذا قتل مقطوع اليدين والرجلين والأُذنين ونحو ذلك من غير ردّ، نظراً إلى مكافاة النفس للنفس من غير التفات إلى الأعضاء.
ص: 290
فرع: . لو جرحه اثنان كلّ واحد جرحاً فمات، فادّعى أحدهما اندمال جرحه وصدّقه الوليّ لم ينفذ تصديقه على الآخر؛ لأنّه قد يحاول أخذ دية الجرح من الجارح والدية من الآخر، فهو متهم في تصديقه؛ ولأن المنكر مدع للأصل فيكون القول قوله مع يمينه.
السادسة: • لو قطع يده من الكوع وآخر ذراعه فهلك قُتِلا به؛ لأنّ سراية الأوّل لم تنقطع بالثاني؛ لشياع ألمه قبل الثانية. وليس كذا لو قطع واحد يده وقتله الآخر؛ لأنّ السراية انقطعت بالتعجيل. وفي الأُولى إشكال.
قوله: «لو جرحه اثنان كلّ واحد جرحاً فمات» إلى آخره.
----------------------------------
إذا جرحه اثنان فصاعداً فاندمل بعض الجراحات وبقي بعض ومات به، فإن اتّفق الغرماء والوليّ على أن المندمل أو الباقي جرح معيّن لزم كلّ حكم جرحه من دية أو قصاص.
وإن اختلفوا وكان المفروض جرحين، فادّعى أحدهما أنّ جرحه هو المندمل، فإن صدقه الولي لم يقبل في حقّ الآخر؛ لأنّه يروم بذلك إثبات القصاص أو الدية كاملة عليه. ولكن يقبل في حقّ المقرّ له، فيسقط عنه القصاص والدية في النفس، ويثبت في الجرح خاصّة. وله قتل الآخر بعد أن يردّ عليه نصف الدية. وإن طلب الدية لم يكن له إلزامه بأزيد من النصف.
وإن كذَّب الوليّ مدّعي الاندمال حلف وله القصاص مع الردّ، أو المطالبة بنصف الدية.
قوله: «لو قطع يده من الكوع وآخر ذراعه فهلك قُتِلا به؛ لأنّ سراية الأوّل لم تنقطع بالثاني» إلى آخره.
هذه المسألة من صور اشتراك اثنين فما زاد في مباشرة الجناية. وقد تقدم أكثر أحكامها (1)، ومنها أنه لو مات بسرايتهما معاً فالقصاص عليهما.
وقد وقع الشك في بعض فروضها، وهي ما إذا دخلت الجناية الأُولى في الثانية، كما لو
ص: 291
• ولو كان الجاني واحداً دخلت دية الطرف في دية النفس إجماعاً منًا.
وهل يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس ؟ اضطربت فتوى الأصحاب فيه، ففى النهاية يقتص منه إن فرّق ذلك، وإن ضربه ضربة واحدة لم يكن عليه أكثر من القتل. وهي رواية محمد بن قيس عن أحدهما.
وفي المبسوط والخلاف يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس. وهي
----------------------------------
قطع واحد يده من الزند أو من المرفق فقطع الثاني بقيّة يده، إمّا من ذراعه في الأوّل أو من الكتف في الثاني. وفي حكمه وجهان:
أظهرهما: أنّ القتل منسوب إليهما؛ لأنّ القطع الأوّل قد انتشرت سرايته وآلامه، وتأثّرت به الأعضاء الرئيسة، وانضمّ إليها آلام الثاني، فأشبه ما إذا أجاف أحدهما جائفة وجاء آخر ووسّعها فمات، فإن القصاص عليهما.
والثاني: أنّ القصاص مختصّ بالثاني؛ لدخول الجناية الأُولى في جنايته، وانقطاع سرايتها بالثانية؛ لدخولها في ضمنها والألم السابق لم يبلغ حدّ القتل. وعليه فيلحق الأوّل حكم الجناية الأُولى خاصّة، وكان كما لو قطع واحد يده وقتله الآخر(1).
وأجاب المصنّف (رحمه اللّه) بالفرق بين الصورتين، بأنّ سراية اليد في الثانية انقطعت بتعجيل الثاني الإزهاق بخلاف قاطع اليد ثانياً من المرفق، فإنّ الروح معه باقية، والألم الحادث على النفس والأعضاء الرئيسة باق من الجنايتين.
قوله: «ولو كان الجاني واحداً دخلت دية الطرف في دية النفس - إلى قوله - ولا كذا لو كانت الضربة واحدة».
اختلف الأصحاب في دخول قصاص الطرف والشجاج في قصاص النفس إذا اجتمعا على أقوال ثلاثة، وكلّها للشيخ (رحمه اللّه):
أحدها: عدم الدخول مطلقاً. ذهب إليه في المبسوط والخلاف (2). واختاره ابن إدريس
ص: 292
رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي موضع آخر من الكتاب: لو قطع يد رجل ثمَّ قتله قطع ثمّ قتل.
----------------------------------
ناقلاً له عن الشيخ في الكتابين (1): العموم قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(2). وقوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» (3). ولثبوت القصاص بالقطع والشجّة عند فعلها، فيستصحب.
والثاني: ضدّه، وهو دخول الأضعف في الأقوى مطلقاً. نقله المصنّف عن الشيخ في الكتابين(4)، أيضاً. واحتجّ له برواية أبي عبيدة الحذاء الصحيحة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل ضرب رجلاً بعمود فسطاط على رأسه ضربة واحدة، فأجافه حتّى وصلت الضربة إلى الدماغ وذهب عقله. فقال: «إن كان المضروب لا يعقل منها أوقات الصلاة ولا يعقل ما قال ولا ما قيل له فإنّه يُنتظر به سنة، فإن مات فيما بينه وبين السنة أُقيد به ضاربه، وإن لم يمت فيما بينه وبين سنة ولم يرجع إليه عقله أغرم ضاربه الدية في ماله؛ لذهاب عقله». قلت: فما ترى عليه في الشجّة شيئاً؟ قال: «لا؛ لأنّه إنّما ضربه ضربة واحدة فجنت الضربة جنايتين، فألزمته أغلظ الجنايتين وهي الدية. ولو كان ضربه ضربتين فجنت الضربتان،جنايتين لألزمته جناية ما جنى كائناً ما كان إلا أن يكون فيهما الموت، فيقاد به ضاربه بواحدة وتطرح الأخرى». قال: «وإن ضربه ثلاث ضربات واحدة بعد واحدة فجنين ثلاث جنايات ألزمته جناية ما جنت الثلاث ضربات كائنة ما كانت ما لم يكن فيها الموت فیقاد به ضاربه». قال، وقال: «وإن ضربه عشر ضربات فجنين جناية واحدة، ألزمته تلك الجناية التي جنتها العشر ضربات كائنة ما كانت، ما لم يكن فيها الموت»(5).
ص: 293
والأقرب ما تضمنته النهاية؛ لثبوت القصاص بالجناية الأُولى. ولا كذا لو كانت الضربة واحدة، وكذا لو كان بسرایته، كمن قطع يد غيره فسرت إلى نفسه، فالقصاص في النفس لا في الطرف
----------------------------------
واحتجّ له فى المبسوط أيضاً برواية أصحابنا أنه: «إذا مثل إنسان بغيره وقتله لم يكن له غير القتل وليس له التمثيل بصاحبه»(1).
والثالث: التفصيل، وهو التداخل إن اتّحد الضرب وعدمه مع تعدّده. ذهب إليه الشيخ في النهاية(2). واستقر به المصنّف : لما ذكرناه في حجة الأوّل من ثبوت القصاص بالأُولى عند فعلها، والأصل عدم زواله، بخلاف ما إذا اتّحدت الضربة.
ولرواية محمد بن قيس عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في رجل فقأ عين رجل وقطع أنفه وأُذنيه، ثمّ قتله، فقال: «إن كان فرّق ذلك اقتصّ منه ثمّ يُقتل، وإن كان ضربه ضربة واحدة ضرب عنقه ولم يقتص منه»(3).
وحسنة حفص بن البختري قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل ضُرب على رأسه فذهب سمعه وبصره واعتقل لسانه ثمَّ،مات، فقال: «إن كان ضربه ضربة بعد ضربة اقتصّ منه ثمّ قتل، وإن كان أصابه هذا من ضربة واحدة قتل ولم يقتصّ منه»(4).
وصحيحة أبي عبيدة (5) تدلّ عليه أيضاً. ولعلّه أقوى.
وتوقف في المختلف(6)، مع نفيه البأس عمّا ذهب إليه ابن إدريس(7).
ص: 294
الأولى: • إذا اشترك جماعة فى قتل واحد قُتِلوا به. والولى بالخيار بين قتل الجميع، بعد أن يردّ عليهم ما فضل عن دية المقتول، فيأخذ كلّ واحد منهم ما فضل عن ديته من جنايته، وبين قتل البعض ويرد الباقون دية جنايتهم. وإن فضل للمقتولين فضل قام به الوليّ.
----------------------------------
قوله: «إذا اشترك جماعة في قتل واحد قُتلوا به - إلى قوله - وإن فضل للمقتولين فضل قام به الوليّ».
إذا قتل الجماعة واحداً قتلوا به سواء قتلوه بمحدّد أم مثقل، أم ألقوه من شاهق أم في بحر أم جرحوه جراحات مجتمعة أم متفرّقة. وهو قول أكثر العامّة.
واحتجّوا له - مع النصّ - بأن القصاص شرّع لحقن الدماء، فلو لم يجب عند الاشتراك لاتّخذ ذريعة إلى سفكها.
ومذهب الأصحاب أنّ نفس المقتول موزّعة بين القاتلين فيجب على كلّ واحد منهم بنسبته إلى الجميع. فإن اتّفقوا على الدية أو اختارها الولي لزم كلّ واحد منهم بتلك النسبة إلى الجميع، فلو كانوا ثلاثة فعلى كلّ واحد ثلث الدية.
وإن اختار القصاص فله قتل الجميع والبعض. فإن اقتصر على واحد فقد استوفى بمقدار حقّه، لكن يردّ على المقتول ما زاد عمّا يخصه منها، ويأخذه من الباقين.
وإن قتل أكثر من واحد لزمه دية الزائد. فلو قتل اثنين أدّى إلى أولياء كلّ واحد نصف ديته، وأخذوا من الباقي ثلث دية، فيجتمع لكلّ واحد من أولياء المقتولين ثلثادية، ويسقط ما قابل جنايته وهو الثلث. وهكذا.
ومستندهم على ذلك الأخبار الكثيرة منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عشرة اشتركوا في قتل رجل قال: «يخيّر أهل المقتول فأيهم شاؤوا قتلوا، ويرجع
ص: 295
وتتحقّق الشركة بأن يفعل كلّ منهم ما يقتل لو انفرد، أو ما يكون له شركة في السراية مع القصد إلى الجناية.
ولا يعتبر التساوي في الجناية، بل لو جرحه واحد جرحاً والآخر مائة، ثمّ سرى الجميع، فالجناية عليهما بالسوية. ولو طلب الدية كانت الدية عليهما نصفين.
----------------------------------
أولياؤه على الباقين بتسعة أعشار الدية»(1).
ورواية الفضيل بن يسار قال قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): عشرة قتلوا رجلاً، فقال: «إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعاً وغرموا تسع ديات وإن شاؤوا تخيّروا رجلاً فقتلوه، وأدّى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كلّ رجل منهم»، قال: «ثمَّ إنّ الوالي بعد يلي أدبهم وحبسهم» (2).
ورواية عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجلين قتلا رجلاً، قال: «إن أراد أولياء المقتول قتلهما أدواديةً كاملةً وقتلوهما وتكون الدية بين أولياء المقتولين، وإن أرادوا قتل أحدهما فقتلوه أدى المتروك نصف الدية إلى أهل المقتول» (3). وغيرها من الأخبار(4).
واختلف الجمهور في ذلك، فأكثرهم على ما ذهب إليه الأصحاب من جواز قتل الجميع، لكنّهم لم يوجبوا رداً، بل جعلوا دم كلّ واحد منهم مستحقاً للولي مجاناً، كما إذا قذف جماعة واحداً فاستوفي الحدّ من الجميع.
ص: 296
الثانية: • يقتص من الجماعة في الأطراف كما يقتص في النفس. فلو اجتمع جماعة على قطع يده أو قلع عينه فله الاقتصاص منهم جميعاً، بعد ردّ ما يفضل
----------------------------------
وذهب بعضهم إلى أنّ القصاص مفضوض عليهم(1)، فإذا قتل العشرة واحداً فالمستحقّ للولي العشر من دم كلّ واحد، إلا أنه لا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء الباقي، وقد يستوفي من المتعدّي غير المستحقّ إذا لم يمكن استيفاء المستحقّ إلا به، كما لو أدخل الغاصب المغصوب في بيت ضيق، واحتيج في ردّه إلى قلع الباب وهدم الجدار.
وذهب بعضهم إلى أنّ الوليّ ليس له قتل سوى واحد منهم، ويأخذ حصة الآخرين، ولا يقتل الجميع(2).
وهذا مروي أيضاً عندنا في الحسن عن أبي العبّاس، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا اجتمع العدّة في قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيهم شاؤوا، وليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد إن اللّه عزّ وجلّ يقول: «وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ، سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا». فإذا قتل ثلاثة واحداً خير الوالي أي الثلاثة شاء أن يقتل، ويضمن الآخران ثلثي الدية لورثة المقتول»(3). وحملها الشيخ على التقيّة، أو على أنّه لا يقتل إلّا بعد أن يردّ ما يفضل عن دية صاحبه. وكلاهما بعيد.
قوله: «يقتص من الجماعة في الأطراف كما يقتص في النفس» إلى آخره.
الحكم هنا كما سبق في قصاص النفس(4)، ولكن يفترقان في أن الاشتراك في النفس
ص: 297
لكلّ واحد منهم عن جنايته. وله الاقتصاص من أحدهم ويرد الباقون دية جنايتهم.
وتتحقّق الشركة في ذلك، بأن يحصل الاشتراك في الفعل الواحد. فلو انفرد كلّ واحد بقطع جزء من يده لم تقطع يد أحدهما.
وكذا لو جعل أحدهما آلته فوق يده والآخر تحت يده واعتمدا حتّى التقتا، فلا قطع في اليد على أحدهما؛ لأنّ كلاً منهما منفرد بجناية لم يشاركه الآخر فيها، فعليه القصاص في جنايته حسب.
الثالثة: • لو اشترك في قتله امرأتان قتلتا به ولا رد؛ إذ لا فاضل لهما عن ديته.
ولو كن أكثر كان للولى قتلهن بعد ردّ فاضل ديتهن بالسوية، إن كن متساويات في الدية، وإلّا أكمل لكلّ واحدة ديتها بعد وضع أرش جنايتها.
----------------------------------
يتحقّق بموته بالأمرين أو الأمور، سواء اجتمعت أم تفرّقت، وهنا لا تتحقّق الشركة إلّا مع صدور الفعل عنهم أجمع، إمّا بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع يده ثمّ يرجعوا، أو يكرهوا إنساناً على قطعه، أو يلقوا صخرة على طرفه فيقطعه، أو يضعوا حديدة على المفصل ويعتمدوا عليها جميعاً، ونحو ذلك.
فلو قطع كلّ واحد منهم جزءاً من يده لم يقطع أحدهم، بل يكون على كلّ واحد حقّ جنايته لانفراده بها.
وكذا لو وضعوا منشاراً ونحوه على عضوه ومدّه كلّ واحد مرّة إلى أن حصل القطع؛ لأنّ كلّ واحد لم يقطع بانفراده، ولم يشارك في قطع الجميع. فإن أمكن الاقتصاص من كلّ واحد على حدته ثبت بمقدار جنايته، وإلّا فلا.
قوله: «لو اشترك في قتله امرأتان قتلتا به ولا رد» إلى آخره.
يتحقّق التساوي بكونهن جميعاً حرائر مسلمات فلو كانت فيهنّ أمة أو ذمّيّة، وقيمة الأمة لا تبلغ دية الحرّة، لم يكن الردّ عليهنّ متساوياً.
ص: 298
• ولو اشترك رجل وامرأة فعلى كلّ واحد منهما نصف الدية، وللوليّ قتلهما، ويختصّ الرجل بالرد. وفي المقنعة: يقسم الردّ بينهما أثلاثاً. وليس بمعتمد.
ولو قتل المرأة فلا ردّ، وعلى الرجل نصف الدية. ولو قتل الرجل ردّت المرأة عليه نصف ديته. وقيل: نصف ديتها. وهو ضعيف.
وكلّ موضع يوجب الردّ فإنّه يكون مقدماً على الاستيفاء.
----------------------------------
قوله: «ولو اشترك رجل وامرأة فعلى كلّ واحد منهما نصف الدية - إلى قوله - وهو ضعيف».
إذا اشترك في قتله رجل وامرأة كان على كلّ منهما نصف الجناية. فإن اتّفقوا على الدية فعلى كلّ واحد منهما نصفها. وإن قتلهما الولي كان عليه نصف الدية؛ لأنها الفاضل عن مقدار حقّه. وإن قتلها خاصّة كان له على الرجل نصف الدية.
وإنّما الخلاف في موضعين:
أحدهما إذا قتلهما ففي مستحق النصف قولان:
أحدهما قول الأكثر أنه لأولياء الرجل خاصّة؛ إذ لا فاضل للمرأة عن قدر جنايتها، والمستوفى من الرجل ضعف جنايته، فيكون الرد مختصّاً به.
وقال المفيد (رحمه اللّه): إن المردود على تقدير قتلهما يقسم أثلاثاً، للمرأة ثلثه(1)، بناءً على أن جناية الرجل ضعف جناية المرأة؛ لأنّ الجاني نفس ونصف نفس جنت على نفس، فتكون الجناية بينهما أثلاثاً بحسب ذلك.
وضعفه ظاهر. وإنّما هما نفسان جنتا على نفس فكان على كلّ واحد نصف. فالفاضل للرجل خاصّة؛ لأنّ القدر المستوفى منه أكثر قيمة من جنايته، والمستوفى من المرأة بقدر جنايتها، فلا شيء لها.
والثاني: إذا قتل الرجل خاصّة ردّت المرأة نصف ديته؛ لأن عليها نصف الجناية.
ص: 299
الرابعة: • إذا اشترك حرّ وعبد في قتل حرّ عمداً، قال في النهاية للأولياء أن يقتلوهما ويؤدوا إلى سيّد العبد ثمنه، أو يقتلوا الحرّ ويؤدّي سيّد العبد إلى ورثة المقتول خمسة آلاف درهم، أو يسلّم العبد إليهم، أو يقتلوا العبد، وليس لمولاه على الحرّ سبيل.
والأشبه أنّ مع قتلهما يؤدون إلى الحرّ نصف ديته، ولا يردّ على مولى العبد شيء، ما لم تكن قيمته أزيد من نصف دية الحرّ، فيردّ عليه الزائد. وإن قتلوا العبد، وكانت قيمته زائدة عن نصف دية المقتول أدوا إلى مولاه الزائد. فإن استوعب الدية، وإلا كان تمام الدية لأولياء الأوّل. وفي هذه اختلاف للأصحاب، وما اخترناه أنسب بالمذهب.
----------------------------------
وقال الشيخ في النهاية : تردّ نصف ديتها، مائتين وخمسين ديناراً(1). وتبعه تلميذه القاضي(2). والأصحّ الأوّل.
قوله: «إذا اشترك حرّ وعبد في قتل حرّ عمداً» إلى آخره.
إذا اشترك حرّ وعبد في قتل حرّ عمداً فعلى كلّ منهما نصف الجناية قصاصاً ودية.
فإن اختار الوليّ قتلهما فقد استوفى من الحرّ نفساً كاملة، وعليه نصفها، فيرد على وليه نصف الدية.
وأمّا العبد فعوض جنايته معتبر بقيمته ما لم يزد على دية الحرّ، فيرد إليها. فإن كانت قيمته بقدر نصف دية الحرّ فقد استوفى الحق من رقبته، فلا يردّ على مولاه الزائد. وإن نقصت قيمته عن نصف الدية فلا شيء على مولاه؛ لأنّ الجاني لا يجني على أكثر من نفسه. وإن زادت قيمته عن نصف الدية ردّ على مولاه الزائد ما لم يتجاوز قيمته دية الحرّ فيردّ إليها، ويكون المردود على مولاه نصف ديته كالحرّ.
ص: 300
----------------------------------
وإن اختار قتل الحرّ خاصّة فالمردود على وليه نصف ديته. وهو واضح.
وأمّا مولى العبد فيلزمه أقلّ الأمرين من جنايته - وهو نصف الدية - ومن قيمة عبده؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو الجناية فلا يلزم الجاني سواها، وإن كان هو قيمة العبد فلا يجني على أكثر من نفسه، ولا يلزم مولاه الزائد. ثمّ إن كان الأقلّ هو قيمة العبد فعلى ولي المقتول إكمال نصف الدية لأولياء الحرّ.
وإن اختار قتل العبد خاصّة، وكانت قيمته بقدر نصف الدية فما دون، فلا شيء لمولاه. وكان للوليّ على الحرّ نصف الدية. وإن زادت قيمته عن الجناية وبلغت مقدار الدية أو أزيد، فالمردود من الحرّكله لمولاه. وإن كان أقلّ من الدية فالفاضل من قيمته عن جنايته له، وبقية المردود لوليّ المقتول.
وإن لم يقتلهما فعلى الحرّ نصف الدية، وعلى مولى العبد أقلّ الأمرين من النصف وقيمة العبد. ويتخير وليّ المقتول بين استرقاقه وأخذ العوض المذكور إن قامت جنايته بقيمته. وإن زادت القيمة استرق منه بقدر الجناية لا غير.
هذا هو الذي تقتضيه قواعد الأصحاب في الجنايات، وعليه عمل أكثرهم، بل جميع المتأخّرين. وفي المسألة أقوال أُخر ضعيفة:
منها قول الشيخ في النهاية(1). وهو الذي حكاه المصنّف. وهو قول المفيد (2) وابن البرّاج(3).
ومنها: أنه مع اختيار ولي الدم قتلهما يردّ قيمة العبد على سيده، وورثة الحرّ. وإن اختار قتل الحرّ فعلى سيّد العبد نصف ديته لورثته. وإن اختار قتل العبد قتله، وأدّى الحرّ إلى سيّده نصف قيمته. وهو قول أبي الصلاح(4). ولا يخفى ضعف ذلك على إطلاقه.
ص: 301
الخامسة: • لو اشترك عبد وامرأة في [قتل] حرّ فللأولياء قتلهما، ولا ردّ على المرأة ولا على العبد، إلا أن تزيد قيمته عن نصف الدية، فيرد على مولاه الزائد.
ولو قتلت المرأة به، كان لهم استرقاق العبد إلا أن تكون قيمته زائدة عن نصف دية المقتول فيرد على مولاه ما فضل.
وإن قتلوا العبد وقيمته بقدر جنايته أو أقلّ فلارد، وعلى المرأة دية جنايتها. وإن كانت قيمته أكثر من نصف الدية ردّت عليه المرأة ما فضل من قيمته. فإن استوعب دية الحرّ، وإلّا كان الفاضل لورثة المقتول أوّلاً.
وهي خمسة:
الأوّل: التساوي في الحرّيّة أو الرقّ • فيقتل الحرّ بالحرّ، والحرّة مع ردّ فاضل ديته. والحرّة بالحرّة والحرّ، ولا يؤخذ ما فضل على الأشهر.
----------------------------------
قوله: «لو اشترك عبد وامرأة في قتل حرّ، فللأولياء قتلهما» إلى آخره.
الحكم في هذه المسألة يظهر ممّا ذكرناه في السابقة، فإن نفس المقتول مضمونة عليهما، والمرأة تساوي جنايتها وهي نصف الدية، فلا شيء لأوليائها مع اختيار قتلها. وعلى العبد نصفها، فينظر النسبة بينه وبين قيمته، فإن تساويا أو كانت القيمة أقلّ فلا شيء المولاه. وإن زادت قيمته فالزائد لمولاه ما لم يتجاوز دية الحرّ، فيرد إليها. وباقي أقسام المسألة ظاهر.
قوله: «فيقتل الحرّ بالحرّ والحرّة مع ردّ فاضل ديته» إلى آخره.
عدم الأخذ من المرأة على تقدير قتلها زيادة على نفسها هو المشهور في روايات الأصحاب، والمعروف من مذهبهم لا يعلم فيه مخالف منهم.
ص: 302
----------------------------------
ومن الروايات الدالّة عليه صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إن قتلت المرأة الرجل قُتِلت به وليس لهم إلّا نفسها»(1).
وصحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول في امرأة قتلت زوجها متعمدة: «إن شاء أهله أن يقتلوها قتلوها، وليس يجني أحد أكثر من جنايته على نفسه»(2).
ورواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المرأة تقتل الرجل، قال: «لا يجني الجاني على أكثر من نفسه»(3).
وهذه كلّها صريحة في المطلوب، مع موافقتها لقوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(4).
وممّا خالف ذلك رواية أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال في امرأة قتلت رجلاً، قال: «تقتل، ويؤدي وليها بقيّة المال»(5).
قال الشيخ في كتابي الأخبار:
هذه شاذّة لم يروها إلا أبو مريم وإن تكرّرت في الكتب في مواضع. ومع ذلك فهي مخالفة لظاهر الكتاب والروايات الصحيحة الصريحة بأنه لا يجني الجاني على أكثر من نفسه، وأنّه ليس على أوليائها شيء. فلا يلتفت إلى هذه الرواية وإن كانت صحيحة؛ لمخالفتها للأصول(6).
ص: 303
• ويقتص للمرأة من الرجل في الأطراف من غير رد.
وتتساوى ديتهما ما لم تبلغ ثلث دية الحرّ، ثمّ ترجع إلى النصف، فيقتصّ لها منه مع رد التفاوت.
----------------------------------
ولا نعلم قائلاً من الأصحاب بمضمونها، وإن كان قوله «على الأظهر»(1) وكلام غيره (2) يشعر بالخلاف.
قوله: «ويقتص للمرأة من الرجل في الأطراف من غير ردّه» إلى آخره.
مستند هذا التفصيل أخبار كثيرة، منها صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: «عشر من الإبل». قلت: قطع اثنين؟ قال: «عشرون». قلت: قطع ثلاثاً ؟ قال: «ثلاثون». قلت: قطع أربعاً ؟ قال: «عشرون». قلت: سبحان اللّه يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون!! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان. فقال: «مهلاً يا أبان هذا حكم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين»(3).
وروى تفصيل الجراح جميل بن درّاج عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «بينها وبين الرجل قصاص في الجراحات حتّى تبلغ الثلث سواء، فإذا بلغت الثلث سواء ارتفع الرجل وسفلت المرأة» (4).
ص: 304
• ويقتل العبد بالعبد وبالأمة، والأمة بالأمة وبالعبد.
----------------------------------
وقال الشيخ (رحمه اللّه) ما لم يتجاوز الثلث(1). والأخبار الصحيحة حجّة المشهور.
إذا تقرّر ذلك، فلو قطع منها ثلاث أصابع استوفت مثلها منه قصاصاً من غير ردّ. ولو قطع أربعاً لم يقطع منه الأربع إّلا بعد ردّ دية إصبعين.
وهل لها القصاص في إصبعين من دون رد؟ وجهان، منشؤهما وجود المقتضي لجوازه كذلك، وانتفاء المانع.
أمّا الأول؛ فلأن قطع إصبعين منها يوجب ذلك فالزائد أولى.
وأمّا الثاني؛ فلأن قطع الزائد زيادة في الجناية، فلا يكون سبباً في منع ما ثبت أوّلاً.
و من النصّ الدال على أنه ليس لها الاقتصاص في الجناية الخاصّة إلّا بعد الردّ(2).
ويقوى الإشكال لو طلبت القصاص في ثلاث والعفو في الرابعة. وعدم إجابتها هنا أقوى.
وعلى الأوّل تتخير بين قطع إصبعين من غير ردّ، وبين قطع أربع مع ردّدية إصبعين. ولو طلبت الدية فليس لها أكثر من دية إصبعين.
هذا إذا كان القطع بضربة واحدة. ولو كان بأزيد ثبت لها دية الأربع أو القصاص في الجميع من غير ردّ؛ لثبوت حكم السابق فيستصحب. وكذا حكم الباقي.
قوله : «ويقتل العبد بالعبد وبالأمة، والأمة بالأمة وبالعبد».
هذا إذا تساويا قيمة أو كانت قيمة القاتل أقلّ من قيمة المقتول. أمّا لو كانت أزيد ففي جواز قتله من غير رد الزائد أو اشتراطه به قولان (3) منشؤهما عموم «النَّفْسَ بالنفس»(4).
ص: 305
• ولا يقتل حرّ بعبد ولا أمةٍ. وقيل: إن اعتاد قتل العبيد قتل؛ حسماً للجرأة.
----------------------------------
وقوله تعالى: «اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ»(1). وهو الذي يقتضيه إطلاق [عبارة ] (2) المصنّف (رحمه اللّه).
ومن أنّ ضمان المملوك يراعى فيه المالية، فلا يستوفى الزائد بالناقص، بل بالمساوي.
وهذا الأخير لا يخلو من قوة. وثبوت ردّ الزائد لا ينافي جواز قتل العبد بالعبد في الجملة.
قوله: «ولا يقتل حرّ بعبد ولا أمة. وقيل: إن اعتاد قتل العبيد قتل؛ حسماً للجرأة».
لا يقتل الحرّ بالعبد له ولا لغيره؛ لقوله تعالى: «اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ» (3). والتخصيص بالذكر هنا تخصيص للحكم وإن لم نقل بدليل الخطاب؛ حذراً من التكرار.
ولقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لا يقتل حرّ بعبد»(4).
وصحيحة الحلبي(5)، وغيره عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يقتل الحرّ بالعبد»(6). وادّعى في الخلاف إجماع الصحابة عليه (7).
وهذا الحكم متفق عليه عندنا مع عدم الاعتياد لقتلهم. ومعه قيل: يقتل، سواء كان عبده أم لا (8)؛ لرواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قتل مملوكه أو مملوكته،
ص: 306
----------------------------------
قال: «إن كان المملوك له أُدب وحبس، إلا أن يكون معروفاً بقتل المماليك، فيقتل به»(1).
ورواية يونس عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال : سئل عن رجل قتل مملوكه قال: «إن كان غير معروف بالقتل ضُرب ضرباً شديداً، وأخذ منه قيمة العبد فتدفع إلى بيت مال المسلمين، وإن كان متعوّداً للقتل قتل به»(2). والظاهر أن المسؤول أحد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ولرواية السكوني، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ): أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل حرّاً بعبد»(3). بحملها على المعتاد جمعاً.
وبمضمون ذلك أفتى جماعة من الأصحاب(4)، مع ضعف المستند ومخالفته للكتاب(5)، فإنّ الفتح مجهول الحال، والرواية الأخرى مرسلة مقطوعة، والأخيرة ظاهرة الضعف. فالقول بعدم قتله بالمملوك مطلقاً أقوى.
وعليه، ففي قتله قصاصاً أو لإفساده قولان (6). وتظهر الفائدة في رد الزائد من ديته عن قيمة المقتول على أوليائه. والأظهر على هذا التقدير الثاني؛ لأن قتله بعد الاعتياد ليس بواحد معين حتّى يعتبر قيمته واعتبار قيمة الجميع لا دليل عليه، والنصوص مطلقة، وظاهرها التعليل بالإفساد، وبه صرّح المصنّف.
ص: 307
• ولو قتل المولى عبده كفر وعُزّر ولم يُقتل به. وقيل: يغرم قيمته ويتصدق بها. وفي المستند ضعف. وفي بعض الروايات: إن اعتاد ذلك قتل به.
----------------------------------
قوله: «ولو قتل المولى عبده كَفَّر وعُزّر ولم يُقتل به» إلى آخره.
قد تقدم ما يدلّ على الحكم فيما لو كان المقتول عبده(1)، والرواية الدالّة على قتله مع الاعتياد، وأنّ القول بعدم قتله مطلقاً أقوى.
والقول بالصدقة بثمنه لأكثر الأصحاب، كالشيخين (2) والأتباع (3) وابن إدريس (4)؛ ولم يخالف فيه صريحاً إلا ابن الجنيد، فإنّه أورده بصيغة: وروي (5).
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في الحكم؛ استضعافاً للرواية الدالّة عليه. وكذلك العلّامة (6).
والرواية رواها الشيخ عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) رفع إليه رجل عذّب عبده حتّى مات فضربه مائة نكالاً، وحبسه سنة، وغرمه قيمة العبد، فتصدّق بها عنه»(7).
وفي طريقها سهل بن زياد، وضعفه مشهور، ومحمد بن الحسن بن شمّون، وهو غالٍ ضعيف جدّاً(8)، وعبد اللّه بن عبد الرحمن الأصم، وهو ضعيف ليس بشيء (9).
وباقي الروايات لم يذكر فيها سوى الكفّارة(10). وكثير منها صحيح أو حسن أو موثّق
ص: 308
• ولو قتل عبداً لغيره عمداً أغرم قيمته يوم قتل، ولا يتجاوز بها دية الحرّ، ولا بقيمة المملوكة دية الحرّة. ولو كان ذمّياً لذمّي لم يتجاوز بقيمة الذكر دية مولاه، ولا بقيمة الأنثى دية الذمّية.
----------------------------------
وقد تقدّم في رواية يونس أن قيمته توضع في بيت المال(1)، هو قريب من الصدقة بها.
وبالجملة، فالحكم مشكل؛ لضعف المستند، وعدم ظهور الإجماع، وإن كانت موافقة ابن إدريس لهم تؤذن به، حيث إنه لا يعمل بالأخبار الصحيحة فكيف بمثل هذه والشهيد في الشرح استند إلى فتوى الأصحاب (2) دون الرواية. ولا يخفى ما فيه.
قوله: «ولو قتل عبداً لغيره عمداً أغرم قيمته يوم قتل» إلى آخره.
القول بضمان قاتل العبد قيمته ما لم يتجاوز دية الحرّ فيرد إليها موضع وفاق ونصّ. ففي صحيحة ابن رئاب، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا قتل الحرّ العبد غرّم قيمته وأدب»، قيل: وإن كانت قيمته عشرين ألف درهم؟ قال: «لا تتجاوز قيمة العبد دية الأحرار» (3).
وفي صحيحة ابن رئاب أيضاً عن أبي الورد قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قتل عبداً خطاً، قال: «عليه قيمته، ولا يتجاوز بقيمته عشرة آلاف درهم»، قلت: ومن يقوّمه وهو ميت؟ قال: «إن كان لمولاه شهود أنّ قيمته كانت يوم قتله كذا وكذا أخذ بها قاتله، وإن لم يكن له شهود على ذلك كانت القيمة على من قتله مع يمينه، يشهد باللّه ما له قيمة أكثر ممّا قومته، فإن أبى أن يحلف ورد اليمين على المولى حلف المولى، فإن حلف المولى أُعطي ما حلف عليه، ولا يتجاوز بقيمته عشرة آلاف»(4). وغيرهما من الأخبار(5).
ص: 309
• ولو قتل العبد حرّاً قتل به، ولا يضمن المولى جنايته، لكن ولى الدم بالخيار بين قتله واسترقاقه، وليس لمولاه فكه مع كراهية الوليّ.
ولو جرح حرّاً كان للمجروح الاقتصاص منه.
----------------------------------
والحق بالذكر الأنتى وإن كان مولاها ذكراً. والذمّي إذا كان مولاه ذمياً اعتبر فيه دية الذمّي، وإن كان مسلماً فدية المسلم.
ولو كان المولى ذمّياً والعبد مسلم فقتل قبل أن يباع عليه، ففي اعتبار قيمته بدية المسلم أو الذمّي وجهان، منشؤهما اعتبار حال المقتول، مضافاً إلى عموم الأدلّة السابقة، ومن أنّ زيادة القيمة بسبب الإسلام، والذمّي لا يستقر ملكه على المسلم، وعموم ما روي: «أنّ العبد لا يتجاوز بقيمته دية مولاه» (1). والأصحّ الأوّل.
واستثنى بعضهم (2) من ذلك الغاصب، فحكم بضمانه القيمة بالغةً ما بلغت، مراعاةً لجانب المالية، ومؤاخذةً له بأشق الأحوال. وهو قويّ. وقد تقدّم تحقيقه في محلّه(3). فعلى هذا لو غصبه غاصب فقتله غيره، لزم القاتل أقلّ الأمرين من قيمته ودية الحرّ، ولزم الغاصب ما زاد من قيمته عن الدية.
قوله: «ولو قتل العبد حرّاً قتل به - إلى قوله - وليس لمولاه فكه مع كراهية الوليّ».
لا إشكال في تسلّط الوليّ على قتله؛ لأنّه موجب القتل عمداً. وأما إذا أراد استرقاقه، فهل يتوقّف على رضى المولى؟ وجهان أصحّهما - وهو الذي جزم به المصنّف (رحمه اللّه) - العدم؛ لأنّ الشارع سلّطه على إتلافه بدون رضى المولى المستلزم لزوال ملكه عنه، فإزالته إبقاء نفسه أولى لما يتضمّن من حقن دم المؤمن، وهو مطلوب للشارع، ولورود أخبار كثيرة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتخيّر الوليّ بين قتله واسترقاقه(4).
ص: 310
• فإن طلب الدية فكّه مولاه بأرش الجناية. ولو امتنع كان للمجروح استرقاقه إن أحاطت به الجناية. وإن قصر أرشها كان له أن يسترق منه بنسبة الجناية من قيمته. وإن شاء طالب ببيعه، وله من ثمنه أرش الجناية. فإن زاد ثمنه فالزيادة للمولى.
ولو قتل العبد عبداً عمداً فالقود لمولاه فإن قتل جاز. وإن طلب الدية تعلّقت برقبة الجاني.
فإن تساوت القيمتان كان لمولى المقتول استرقاقه. ولا يضمنه مولاه، لكن لو تبرع فكه بقيمة الجناية.
----------------------------------
ووجه العدم أن القتل عمداً يوجب القصاص، ولا يثبت المال عوضاً عنه إلّا بالتراضي، واسترقاقه من جملة أفراده.
قوله: «فإن طلب الدية فكه مولاه بأرش الجناية».
وجه فكه بأرش الجناية أنّه الواجب لتلك الجناية، فإن اتّفقا على المال فليكن بموجب الجناية. وهذا هو أحد القولين في المسألة.
والآخر أنّه يفكه بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية؛ لأن الأقلّ إن كان هو الأرش فواضح، وإن كان هو القيمة فهي بدل العين فتقوم مقامها، والجاني لا يجني على أكثر من نفسه والمولى لا يعقل مملوكه فلا يلزمه الزائد.
والقولان للشيخ(1)، بل ادّعى في الخلاف الإجماع على الثاني (2). وقد تقدّم الكلام فيهما في باب الاستيلاد(3).
ص: 311
وإن كانت قيمة القاتل،أكثر، فلمولاه منه بقدر قيمة المقتول.
وإن كانت قيمته أقلّ، فلمولى المقتول قتله أو استرقاقه. ولا يضمن مولى القاتل شيئاً؛ إذ المولى لا يعقل عبداً.
• ولو كان القتل خطأ كان مولى القاتل بالخيار بين فكه بقيمته - ولا يخيّر لمولى المجني عليه- وبين دفعه، وله منه ما يفضل عن قيمة المقتول وليس عليه ما يعوز.
ولو اختلف الجاني ومولى العبد في قيمته يوم قتل فالقول قول الجاني مع يمينه، إذا لم يكن للمولى بيّنة.
• والمدبّر كالقنّ، فلو قتل عمداً قُتل. وإن شاء الولي استرقاقه كان له. ولو قتل خطأ، فإن فكه مولاه بأرش الجناية، وإلّا سلّمه للرقّ.
فإذا مات الذي دبّره هل ينعتق؟ قيل: لا ؛ لأنّه كالوصية، وقد خرج عن ملكه بالجناية فيبطل التدبير. وقيل: لا يبطل بل ينعتق
ومع القول بعتقه، هل يسعى في فك رقبته؟ فيه خلاف الأشهر أنّه يسعى. وربما قال بعض يسعى في دية المقتول. ولعلّه وهم.
----------------------------------
قوله: «ولو كان القتل خطاً كان مولى القاتل بالخيار بين فكه بقيمته» إلى آخره.
بل بأقلّ الأمرين على أصح القولين، كما مرّ.
قوله: «والمدبّر كالقن، فلو قتل عمداً قُتِل» إلى آخره.
الخلاف في هذه المسألة في موضعين:
أحدهما: هل ينعتق المدبّر الجاني جناية تستغرق قيمته بموت مولاه، أم يبطل التدبير؟ ذهب الشيخان إلى الأوّل(1)، وابن إدريس إلى الثاني (2)، وتبعه أكثر المتأخّرين. ويظهر من المصنّف التردّد في الحكم، حيث اقتصر على نقل القولين.
ص: 312
----------------------------------
احتجّ الأوّلون بحسنة جميل بن دراج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: مدبّر قتل رجلاً خط من يضمن عنه؟ قال: «يصالح عنه مولاه، فإن أبى دفع إلى أولياء المقتول يخدمهم حتّى يموت الذي دبره، ثمّ يرجع حرّاً لا سبيل عليه»(1).
واحتجّ الآخرون بصحيحة أبي بصير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن مدبر قتل رجلاً عمداً، فقال: «يُقتل به»، قلت: وإن قتله خطاً؟ فقال: «يدفع إلى أولياء المقتول فيكون لهم، فإن شاؤوا استرقوّه وليس لهم قتله»، ثمّ قال: «يا أبا محمد إن المدبّر مملوك»(2).
وهذا نص حيث إنّ حكم المملوك ذلك؛ ولأنّ التدبير جائز كالوصيّة، فيبطل بفعل ما يوجب خروجه عن الملك كالبيع.
والثاني: على القول بعدم بطلان التدبير، والحكم بعتقه بعد موت المولى ، هل يسعى في شيء لأولياء المقتول؟ قيل: لا (3)؛ لإطلاق الرواية.
وقال الشيخ: يسعى في دية المقتول إن كان حرّاً، وقيمته إن كان عبداً(4).
والمصنّف (رحمه اللّه) نسب هذا القول إلى الوهم؛ لعدم الدليل عليه، خصوصاً مع زيادة الدية على قيمته.
وقال الصدوق: يسعى في قيمته (5)؛ لرواية هشام بن أحمد قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مدبّر قتل رجلاً خطاً، قال: «أيّ شيء روّيتم في هذا الباب؟» قلت: روينا عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 313
• والمكاتب إن لم يؤدّ من مكاتبته شيئاً أو كان مشروطاً فهو كالقنّ. وإن كان مطلقاً، وقد أدّى من مال الكتابة شيئاً تحرّر منه بحسابه.
فإذا قتل حرّاً عمداً قتل، وإن قتل مملوكاً فلا قود، وتعلّقت الجناية بما فيه من الرقّيّة مبعضة، فيسعى في نصيب الحرّيّة، ويسترق الباقي منه، أو يباع في نصيب الرقّ.
----------------------------------
أنّه قال: «يتلّ (1) برمته إلى أولياء المقتول فإذا مات الذي دبّره أعتق»، قال: «سبحان اللّه فيبطل دم امرئ مسلم؟!» قلت: هكذا روّينا، قال: غلطتم على أبي، يتلّ برمّته إلى أولياء المقتول، فإذا مات الذي دبّره استسعي في قيمته» (2).
واحتجّ الشيخ بأن الواجب في القتل دية المقتول أو قيمته، فإذا سعى فإنّما يسعى في ذلك المضمون (3).
وقيل: يسعى في أقلّ الأمرين من قيمة نفسه ومن دية المقتول أو قيمته(4)، جمعاً بين الأدلّة.
والأقوى فى الموضعين أنّه مع استرقاقه بالفعل قبل موت المولى يبطل التدبير، وإلّا عتق بموت مولاه، وسعى في فكّ رقبته بأقل الأمرين من قيمته يوم الجناية وأرش الجناية، إن لم يكن الجناية موجبة لقتله حرّاً؛ لأنّه لم يخرج عن ملك المولى بمجرّد الجناية، وقد تعلّقت برقبته، فإذا امتنع استرقاقه استسعى في حقّ الجناية. ويمكن الجمع بين الأخبار بذلك أيضاً.
قوله: «والمكاتب إن لم يؤد من مكاتبته شيئاً أو كان مشروطاً فهو كالقنّ - إلى قوله - ورفضها في غيره».
ص: 314
ولو قتل خطأً فعلى الإمام بقدر ما فيه من الحرّيّة، والمولى بالخيار بين فكّه بنصيب الرقيّة من الجناية، وبين تسليم حصة الرق لتقاصّ بالجناية.
وفي رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إذا أدى نصف ما عليه فهو بمنزلة الحرّ». وقد رجحها في الاستبصار، ورفضها في غيره.
والعبد إذا قتل مولاه جاز للولى قتله. وكذا لو كان للحرّ عبدان فقتل أحدهما الآخر، كان مخيّراً بين قتل القاتل وبين العفو.
----------------------------------
إذا جنى المكاتب، فإن كان مشروطاً أو مطلقاً ولم يؤد شيئاً من مال الكتابة فحكمه حكم المملوك. وقد تقدّم(1).
وإن كان مطلقاً وقد أدّى شيئاً من كتابته تحرّر منه بنسبته. وحينئذٍ فتتعلّق الجناية برقبته مبعضة. فما قابل نصيب الحرّيّة يكون على الإمام في الخطأ، وعلى ماله في العمد وما قابل نصيب الرقية إن فداه المولى فالكتابة بحالها. وإن دفعه استرقه أولياء المقتول وبطلت الكتابة في ذلك البعض.
هذا هو الذي تقتضيه الأصول، وعليه أكثر المتأخّرين. وفي بعض الأخبار (2) دلالة عليه.
وفي المسألة أقوال أُخر:
أحدها: أنّه مع أدائه نصف ما عليه يصير بمنزلة الحرّ فيستسعى في العمد، ويجب على الإمام أداء نصيب الجناية في الخطأ. وهو مذهب الشيخ في الاستبصار (3)، وقبله الصدوق(4).
ومستنده رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في حديث من جملته وسألته عن المكاتب إذا أدى نصف ما عليه، قال: «هو بمنزلة الحرّ في الحدود وغير ذلك، من قتل وغيره»(5).
ص: 315
----------------------------------
وفي طريق الرواية جهالة تمنع من العمل بها، مضافةً إلى مخالفتها للأصل.
وثانيها: أنّ على الإمام أن يؤدي بقدر ما عتق من المكاتب، وما لم يؤد للورثة أن يستخدموه فيه مدة حياته، وليس لهم بيعه. قاله الصدوق(1) أيضاً، وتلميذه المفيد (2)، وتلميذه سلّار(3). ونفى عنه في المختلف البأس (4).
ويدلّ عليه صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مكاتب قتل رجلاً خطاً، فقال: «إن كان مولاه حين كاتبه اشترط عليه إذا عجز فهو ردّ في الرقّ فهو بمنزلة المماليك، يدفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا باعوه، وإن كان مولاه حين كاتبه لم يشترط عليه وكان قد أدى من مكاتبته شيئاً، فإنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: يعتق من المكاتب بقدر ما أدّى من مكاتبته، وإن على الإمام أن يؤدّي إلى أولياء المقتول من الدية بقدر ما أعتق من المكاتب، ولا يبطل دم امرء مسلم، وأرى أن يكون ما بقي على المكاتب ما لم يؤدّه، فلأولياء المقتول أن يستخدموه حياته بقدر ما بقي عليه، وليس لهم أن يبيعوه»(5).
وثالثها: أنّ على مولاه ما قابل نصيب الرقيّة وعلى الإمام ما قابل الحرّيّة. وهو مذهب الشيخ في النهاية(6)، واختاره ابن إدريس(7)، وهو قول الصدوق (8)ذأيضاً.
ص: 316
مسائل ستّ:
الأولى: • لو قتل حرّ حرّين فليس لأوليائهما إلا قتله، وليس لهما المطالبة بالدية.
• ولو قطع يمين رجل ومثلها من آخر قطعت يمينه بالأوّل ويسراه بالثاني. فلو قطع يد ثالث قيل: سقط القصاص إلى الدية. وقيل: قطعت رجله بالثالث. وكذا لو قطع رابعاً.
----------------------------------
قوله: «لو قتل حرّ حرّين فليس لأوليائهما إلا قتله، وليس لهما المطالبة بالدية».
إذا قتل حرّ حرّين فصاعداً، فإن اجتمع أولياؤهم في الاستيفاء فليس لهم إلّا نفسه؛ لأنّ موجب العمد القصاص، فلا يجب غيره حيث يطلب.
وإن طلبه بعضهم دون بعض جاز قتله بالمبتدئ به؛ لأنّه مكافئ لنفسه، سواء كان هو الذي قتله ابتداءً أم لا.
وفي جواز مطالبة الباقين حينئذٍ بالدية وجهان من أنّ الجناية لم توجب إلّا القصاص، وقد امتنع بفوات محلّه، ودية العمد لا تثبت إلا صلحاً، ومن منع انحصار الحق في القصاص، بل الواجب أحد الأمرين منه ومن الدية كما دلّت عليه الرواية(1)، وذهب إليه جمع من الأصحاب(2).
ويؤيّده أنّ فيه جمعاً بين الحقّين، وأنّه لولاه لزم طلّ دم المسلم، وهو باطل؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يطل دم امرئ مسلم»(3). وهذا هو الوجه.
قوله: «ولو قطع يمين رجل ومثلها من آخر قطعت يمينه» إلى آخره.
أمّا قطع اليد باليد وإن كانت مخالفة للمقطوعة في الجهة فموضع وفاق، ولصدق المماثلة
ص: 317
أمّا لو قطع ولا يد له ولا رجل كان عليه الدية؛ لفوات محلّ القصاص
----------------------------------
في الجملة حيث تعذرت من كلّ وجه.
وأما قطع الرجل باليد فهو مذهب الشيخ(1) وأتباعه (2)؛ لصحيحة حبيب السجستاني، عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل قطع يدين لرجلين اليمينين، فقال: «يا حبيب تقطع يمينه للرجل الذي قطع يمينه أوّلاً، ويقطع يساره للذي قطع يمينه أخيراً؛ لأنّه إنما قطع يد الرجل الأخير، ويمينه قصاص للرجل». قال، فقلت: إنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنما كان يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. قال، فقال: «إنّما يفعل ذلك فيما يجب من حقوق اللّه تعالى، فأمّا ما يجب من حقوق المسلمين فإنّه يؤخذ لهم حقوقهم في القصاص اليد باليد إذا كان للقاطع يدان والرجل باليد إذا لم يكن للقاطع يدان». فقلت له: إنّما توجب عليه الدية وتترك رجله. فقال: «إنما توجب عليه الدية إذا قطع يد رجل وليس للقاطع يدان ولا رجلان، فثم توجب عليه الدية؛ لأنّه ليس له جارحة فيقا منها» (3).
ولأن المماثلة الحقيقية لو اعتبرت لما جاز التخطي من اليد اليمنى إلى اليسرى.
وذهب ابن إدريس إلى سقوط القصاص حينئذٍ، والانتقال إلى الدية؛ لفقد المماثلة بين اليد والرجل، بخلاف اليدين وإن اختلفا من وجه (4).
وهذا هو الوجه، إلّا أن تصحّ الرواية. وفي صحتها - وإن وصفها بها الجماعة (5) - منع واضح؛ لأنّ حبيباً لم ينصّ الأصحاب على توثيقه، وإنما ذكروا أنّه كان شارياً وانتقل إلينا (6).
ص: 318
• ولو قتل العبد حرّين على التعاقب كان لأولياء الأخير. وفي رواية أُخرى: يشتركان فيه ما لم يحكم به للأول. وهذه أشبه.
ويكفي في الاختصاص أن يختار الولى استرقاقه، ولو لم يحكم له الحاكم ومع اختيار ولي الأوّل لو قتل بعد ذلك كان للثاني.
----------------------------------
وفي إلحاقه بذلك بالحسن فضلاً عن الصحيح بعد. نعم، الطريق إليه صحيح. ولعلّ وصفهم لها بالصحة إضافية، كما سبق بيانه غير مرّة.
ولو قطع يد رابع فالقول في قطع رجله الأخرى كالقول في الثالثة، وأولى بالمنع. أمّا الخامسة فصاعداً ففيها الدية بغير إشكال.
قوله: «ولو قتل العبد حرّين على التعاقب كان لأولياء الأخير» إلى آخره.
احترز بالتعاقب عمّا لو قتلهم دفعة واحدة، فإنّ أولياء المقتولين يشتركون فيه اتفاقاً. وإنّما الخلاف فيما لو قتل واحداً بعد واحد.
والقول بكونه للأخير للشيخ في النهاية (1)؛ استناداً إلى رواية علي بن عقبة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن عبد قتل أربعة أحرار واحداً بعد واحد، قال: «هو لأهل الأخير من القتلى، إن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا استرقّوه؛ لأنّه إذا قتل الأوّل استحق أولياؤه، فإذا قتل الثاني استحق من أولياء الأوّل، فصار لأولياء الثاني، فإذا قتل الثالث استحقّ من أولياء الثاني، فصار لأولياء الثالث، فإذا قتل الرابع استحق من أولياء الثالث، فصار لأولياء الرابع، إن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا استرقّوه»(2).
وفي طريق الرواية ضعف. وحملها الشيخ في الاستبصار على أنّه إنّما يصير لأولياء الأخير إذا حكم بذلك الحاكم، أمّا قبل ذلك فلا، بل يشترك فيه الجميع (3). وهذا هو الذي اختاره المصنّف والأكثر.
ص: 319
الثانية: • قيمة العبد مقسومة على أعضائه، كما أنّ دية الحرّ مقسومة على أعضائه. فكلّ ما فيه منه واحد ففيه كمال قيمته كاللسان والذكر والأنف. وما فيه اثنان ففيهما [كمال] قيمته، وفي كلّ واحد نصف قيمته، وكذا ما فيه عشر، ففي كلّ واحد عشر قيمته.
وبالجملة الحرّ أصل للعبد فيما له دية مقدّرة، وما لا تقدير له ففيه الحكومة.
----------------------------------
ويدلّ عليه صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عبد جرح رجلين، قال: «هو بينهما إن كانت الجناية محيطة بقيمته»، قيل له: فإن جرح رجلاً في أوّل النهار وجرح آخر في آخر النهار؟ قال: «هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأول»، قال: «فإن جنى بعد ذلك جنايةٌ فإنّ جنايته على الأخير»(1). وهذا هو الأصحّ.
ونبه المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «ويكفي في الاختصاص أن يختار الولي استرقاقه» إلى آخره على خلاف الشيخ في الاستبصار، حيث اشترط في اختصاص الأخير حكم الحاكم به للسابق، كما حكيناه عنه في تأويل الخبر، ولعلّه جعل حكم الحاكم به كناية عن اختيار الأوّل الاسترقاق.
قوله: «قيمة العبد مقسومة على أعضائه» إلى آخره.
معنى كون الحرّ أصلاً للعبد فيما له دية مقدّرة: أنّ الثابت لمولى العبد بسبب الجناية عليه من قيمته على نسبة ما يثبت للحرّ من الدية. وما لا تقدير لديته فالعبد أصل للحرّ فيه، بمعنى أنّ الحرّ يقدر عبداً صحيحاً ومعيباً بذلك الجرح الذي لا تقدير له، ويثبت له من الدية بنسبة ما بين القيمتين.
وهذا الحكم كالمتفق عليه. وهو مروي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: جراحات العبيد على نحو جراحات الأحرار في الثمن» (2).
ص: 320
• فإذا جنى الحرّ على العبد بما فيه ديته، فمولاه بالخيار بين إمساكه ولا شيء له، وبين دفعه وأخذ قيمته.
ولو قطع يده ورجله دفعةً ألزمه القيمة، أو أمسكه ولا شيء له. أما لو قطع يده فللسيّد إلزامه بنصف قيمته. وكذا كلّ جناية لا تستوعب قيمته.
• ولو قطع يده قاطع ورجله،آخر قال بعض الأصحاب يدفعه إليهما، ويلزمهما الدية أو يمسكه، كما لو كانت الجنايتان من واحد.
والأُولى أن له إلزام كلّ واحد بدية جنايته، ولا يجب دفعه إليهما.
----------------------------------
قوله: «فإذا جنى الحرّ على العبد بما فيه ديته إلى آخره.
لئلّا يجمع بين العوض والمعوض. ولرواية أبي مريم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين في أنف العبد أو ذكره أو شيء يحيط بقيمته، أنّه يؤدّي إلى مولاه قيمة العبد، ويأخذ العبد»(1).
واستثني من ذلك ما لو كان الجاني غاصباً، فإنّه يجمع عليه بين أخذ العوض والمعوض؛ مراعاة لجانب المالية، ووقوفاً فيما خالف الأصل على موضع الوفاق. وقد تقدم في بابه (2).
قوله: «ولو قطع يده قاطع ورجله آخر» إلى آخره.
القائل بذلك الشيخ في المبسوط، فإنّه سوّى بين الجانيين والجاني الواحد في ذلك(3)، نظراً إلى المشاركة في العلّة.
وذهب ابن إدريس إلى إلزام كلّ واحد بدية جنايته من غير أن يدفع إليهما (4)؛ لأنّ ذلك هو مقتضى حكم الجناية.
ص: 321
الثالثة: • كلّ موضع نقول يفكه المولى، فإنّما يفكه بأرش الجناية، زادت عن قيمة المملوك الجاني أو نقصت وللشيخ قول آخر: أنّه يفديه بأقل الأمرين. والأوّل مرويّ.
الرابعة • لو قتل عبد واحد عبدين كلّ واحد لمالك. فإن اختارا القود، قيل: يقدّم الأوّل؛ لأنّ حقّه أسبق، ويسقط الثاني بعد قتله؛ لفوات محلّ الاستحقاق.
وقيل: يشتركان فيه ما لم يختر مولى الأوّل استرقاقه قبل الجناية الثانية، فيكون للثاني. وهو أشبه.
----------------------------------
والفرق بين الجاني الواحد وما زاد ثبت بالإجماع على الأوّل، فيقتصر فيه على مورده، ويبقى غيره على حكم الأصل. وهذا أقوى.
قوله: «كلّ موضع نقول يفكه المولى، فإنّما يفكّه بأرش الجناية - إلى قوله - والأوّل مرويّ»(1).
قد تقدم الكلام في هذه المسألة مراراً (2)، وأن القول الثاني أقوى.
قوله: «لو قتل عبد واحد عبدين كلّ واحد لمالك. فإن اختارا القود، قيل: يقدّم الأول؛ لأنّ حقّه أسبق» إلى آخره.
إذا قتل العبد عبدين وكانت قيمة كلّ واحد تستوعب قيمته، فإن كان القتل دفعة فلا إشكال في اشتراك الموليين في الحق قصاصاً واسترقاقاً.
وإن كان على التعاقب فقد تقدم أن التخيير في القتل والاسترقاق لمولى المجنيّ عليه(3).
ص: 322
• فإن اختار الأوّل المال وضمن المولى تعلّق حقّ الثاني برقبته وكان له القصاص. فإن قتله بقي المال في ذمّة مولى الجاني.
ولو لم يضمن ورضي الأوّل باسترقاقه تعلّق به حقّ الثاني فإن قتله سقط حقّ الأوّل، وإن استرق اشترك الموليان.
ولو قتل عبداً لاثنين فطلب أحدهما القيمة ملك منه بقدر قيمة حصته من المقتول، ولم يسقط حقّ الثانى من القود مع ردّ قيمة حصّة شريكه.
----------------------------------
فإن كان مولى الأوّل قد اختار الاسترقاق قبل الجناية الثانية صار ملكاً له، فإذا جنى بعد ذلك كانت واقعة في ملك مولى الأوّل، فيكون الحق منحصراً في مولى الثاني.
وإن لم يكن قد سبق اختياره الاسترقاق ففي اشتراكهما أو تقديم الأوّل قولان أصحّهما الأوّل (1)؛ لتعلّق الجنايتين برقبته فلا وجه للترجيح وإن كان أحد السببين أسبق؛ لأنّ مجرّد الجناية لم يوجب انتقاله إلى ملك مولى المجنيّ عليه، بل يتوقّف على اختياره، ولم يحصل. والثاني للشيخ في المبسوط ؛ نظراً إلى سبق الاستحقاق (2). وقد ظهر كونه غير كافٍ في التقديم بمجرّده
قوله: «فإن اختار الأوّل المال وضمن المولى - إلى قوله - اشترك الموليان».
قد تقدّم حكم ما إذا اختار الأوّل استرقاق الجاني قبل أن يجني على الثاني (3)، وأنّ اختياره لا يتوقّف على رضى مولاه، بل يملكه بمجرّد اختياره ذلك، كما له القود منه بدون رضاه. وحينئذٍ فيتعلّق حقّ الثاني برقبته.
وأمّا إذا اختار أخذ أرش الجناية من غير رقبته، فإنه يتوقّف على رضى مولاه؛ لأنّ ذلك (4)
ص: 323
الخامسة: لو قتل عشرة أعبد عبداً فعلى كلّ واحد عشر قيمته، فإن قتل مولاه العشرة أدّى إلى مولى كلّ واحد ما فضل عن جنايته. ولو لم تزد قيمة كلّ واحد عن جنايته فلاردّ.
----------------------------------
لم يجب بأصل الشرع، وإنّما هو معاوضة على الجناية فيتوقّف على التراضي. فإن رضي مولى الجاني بالمال انتقل إلى ذمّته، وبقي العبد على ملكه، وسقط عنه حقّ الأوّل. فإذا جنى بعد ذلك تعلّقت الجناية برقبته، وكان لمولى المجني عليه ثانياً استرقاقه وقتله. وعلى التقديرين فحق الأوّل باقي في ذمة مولاه.
وأمّا إذا اختار مولى الأوّل المال من غير رقبته فقد عرفت توقّفه على رضى مولاه، فإن لم يرض به لم يتعلّق بذمته شيء.
وهل يسقط بذلك حقّ الأوّل من القتل أو الاسترقاق؟ يحتمله؛ لأن عدوله عن القتل والاسترقاق إلى المال الخارج عن رقبته إسقاط لحقه منهما ابتداءً. وعدمه؛ لأنّ رضاه بالمال أعم من كونه على جهة الاسترقاق للجاني، فإنّه من جملة المال، فلا ينافيه. وحينئذٍ فيتعلّق حقّه بالرقبة أوّلاً، ثمّ يتعلّق بها حقّ المجنىّ عليه ثانياً، كما لو اختار الأوّل الاسترقاق ابتداءً.
وهذه الصورة لم يذكرها المصنّف صريحاً، وإنما ذكر حكم اختيار الأوّل المال مع رضى المولى، وحكم اختياره الاسترقاق من دون رضاه. وجعل هذه الصورة قسيمة للسابقة وكان حقّه أن يجعل القسيم هو المسألة المتروكة. ويمكن أن يكون وجه العدول دعوى تساويهما في الحكم. وهكذا صنع العلّامة في كتبه(1). ولا يخفى عدم استقامة تساوي الصورتين؛ لأنّ الرضى بالمال غايته أن يكون أعم من الاسترقاق، فلا يدل عليه.
ثمّ يبقى على تقدير اختياره الاسترقاق إشكال آخر في الحكم باشتراك الموليين فيه،
ص: 324
وإن طلب الدية، فمولى كلّ واحد بالخيار بين فكه بارش جنایته وبين تسليمه ليسترق إن استوعبت جنايته قيمته، وإلا كان لمولى المقتول من كلّ واحد بقدر أرش جنايته، أو يردّ على مولاه ما يفضل عن حقه، ويكون له.
ولو قتل المولى بعضاً جاز، ويردّ كلّ واحد عشر الجناية. فإن لم ينهض ذلك بقيمة من يقتل أتمّ مولى المقتول ما يعوز، أو يقتصر على قتل من ينهض الردّ بقيمته.
السادسة :• إذا قتل العبد حراً عمداً فأعتقه مولاه صحّ ولم يسقط القود. ولو قيل: لا يصحّ؛ لئلّا يبطل حقّ الوليّ من الاسترقاق كان حسناً، وكذا البحث في بيعه وهبته.
----------------------------------
فإنّ الظاهر حينئذٍ واللازم من القواعد السابقة كونه لمولى الثاني. وهذا هو الذي رجّحه في التحرير(1)، بعد أن حكم فيه وفي غيره من كتبه باشتراكهما (2)، كما ذكره المصنّف هنا.
والشيخ في المبسوط صرّح بكون العفو على مال يوجب تعلقه برقبته، وأنّه مع عفو الثاني على مال أيضاً يشترك الموليان فيه (3)، كما ذكره المصنّف والعلّامة. وهو مع مشاركته لهما في الحكم مصرّح بأن اختيار المال كاختيار الاسترقاق. وفيه الإشكال الذي ذكرناه(4).
قوله: «إذا قتل العبد حرّاً عمداً فأعتقه مولاه صح ولم يسقط القود» إلى آخره.
وجه صحّة العتق أنه لم يخرج بالجناية عن الرق، والرقّ قابل للعتق، وهو مبنيّ على التغليب. ومع ذلك لم يبطل حقّ الجناية رأساً؛ لأنّ الأصل في جناية العمد القصاص، وهو
ص: 325
• ولو كان خطأ قيل: يصحّ العتق، ويضمن المولى الدية على رواية عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي عمر و ضعف.
وقيل: لا يصحّ إلّا أن يتقدم ضمان الدية أو دفعها.
----------------------------------
باق مع العتق؛ لأنّ المقتول مكافئ للحرّ لو كانت الحرّيّة ابتداء، فمع طريانها أولى.
والأقوى ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من عدم صحة العتق؛ لأنّ حقّ الجناية من العبد موجبة ابتداءً لتخيير المجني عليه أو وليه بين الاسترقاق والقتل، والعتق يبطل أحد اللازمين والمنع من اللازم يستلزم المنع من الملزوم، وهو باطل. ويمنع كون الواجب ابتداءً بالجناية هو القصاص خاصّة مطلقاً، كما لا يخفى.
قوله: «ولو كان خطاً قيل: يصحّ العتق، ويضمن المولى الدية» إلى آخره.
إذا كانت جناية العبد خطأ فأعتقه مولاه قبل أداء حقّ الجناية، ففي صحة العتق قولان (1): أحدهما - وهو الذي ذهب إليه الشيخ في النهاية (2) - الصحّة، واختاره العلّامة في أحد قوليه (3)؛ لأنّ التخيير في جناية الخطأ إلى مولى الجاني، فإن شاء دفعه فيها، وإن شاء فداه بأرش الجناية، فله عتقه؛ لأنّه لم يخرج عن ملكه بها كما مرّ، ويكون العتق التزاماً بالفداء.
ويؤيده رواية عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عبد قتل حرّاً خطاً، فلما قتله أعتقه مولاه، قال : فأجاز عتقه وضمّنه الدية»(4).
والرواية مع ضعفها بعمرو(5) مرسلة أيضاً، لكنها تصلح شاهداً لما ذكر من التعليل.
ويشكل التعليل أيضاً على تقدير إعسار المولى بالدية، فإنّ عتقه حينئذٍ يوجب منع حقّ
ص: 326
الأوّل: • إذا جنى الحرّ على المملوك فسرت إلى نفسه فللمولی کمال قیمته.
ولو تحرّر وسرت إلى نفسه كان للمولى أقلّ الأمرين، من قيمة الجناية أو الدية عند السراية؛ لأن القيمة إن كانت أقلّ فهي المستحقة له، والزيادة حصلت بعد الحرّيّة، فلا يملكها المولى. وإن نقصت مع السراية لم يلزم الجاني تلك النقيصة؛ لأنّ دية الطرف تدخل في دية النفس، مثل أن يقطع واحد يده وهو رقّ، فعليه نصف قيمته، فلو كانت قيمته ألفاً، لكان على الجاني خمسمائة.
----------------------------------
الوليّ من الرقبة حيث يتعذر الفداء من المولى، فإنّ ذلك لازم قتل الخطأ.
ومن ثمّ قيّد في القواعد صحة العتق بيسار المولى المعتق(1). وفيه أيضاً: أنّه قد يدافع مع يساره.
فالأُولى حينئذٍ تقييد الصحة بأداء المولى الدية، سواء كان موسراً أم معسراً.
وقد يشكل حينئذٍ بأنّ العتق لا يقع موقوفاً؛ لبنائه على التغليب، بل إمّا أن يحكم بصحته منجّزاً أو ببطلانه.
والمصنّف (رحمه اللّه) اقتصر على نقل القولين مؤذناً بتردّده، مع ميله إلى البطلان؛ لطعنه في دليل الصحة. وقد ظهر وجهه.
قوله: «إذا جنى الحرّ على المملوك فسرت إلى نفسه» إلى آخره.
إذا جنى الحرّ على المملوك جناية بأن قطع يده عمداً، فلا قصاص عليه؛ لعدم المكافأة بينهما، ويثبت عليه نصف القيمة.
ولو فرض سريان الجناية إلى نفسه فلا قود عليه أيضاً، ولكن يلزمه تمام القيمة؛ لأنّ سراية الجناية تابعة لأصلها في الضمان.
ص: 327
----------------------------------
ولو فرض انعتاقه قبل السراية وبعد الجناية، ثمّ سرت إلى نفسه، فلا قود عليه أيضاً، اعتباراً بوقت الجناية. ويجب على الجاني دية الحرّ ؛ لأنّه مات حراً. ويكون بين المولى والوارث.
وما الذي يثبت للمولى منها؟ فيه وجهان:
أصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف رحمه اللّه، ولم يذكر غيره، وقبله الشيخ في المبسوط (1) - أنّ الواجب له أقلّ الأمرين من كلّ الدية ومن أرش الجناية، وهو في مثالنا نصف القيمة؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو نصف القيمة، بأن كانت قيمته عبداً مائة دينار، فليس له الزيادة عليها؛ لأنّ الزيادة حدثت بالسراية حال الحرّيّة، ولا حقّ له فيما زاد (2) حالتها. وإن كان نصف القيمة أكثر من الدية -كما لو كانت قيمته تزيد على ألف دينار- فله كمال الدية لا غير؛ لأنّ الواجب بالجناية نقص بالسراية حال الحرّيّة، فكان النقص من حقّ السيّد، والباقي له بعد النقصان؛ لأنّ قيمة العبد لا تتجاوز دية الحرّ.
والثاني: أنّ الواجب أقلّ الأمرين من كلّ الدية وكلّ القيمة؛ لأنّ الجناية حصلت بجناية مضمونة للسيّد، وقد اعتبرنا السراية حيث أوجبنا دية النفس، فلا بد من النظر إليها في حقّ السيّد، فيقدّر موته رقيقاً وموته حرّاً، ويوجب للسيّد أقلّ العوضين. فإن كانت الدية أقلّ فليس على الجاني غيرها، وإعتاق السيّد سبب النقصان. وإن كانت القيمة أقلّ فالزيادة وجبت بسبب الحرّيّة، وهي من فعل السيّد، فليس للسيّد إلّا قدر القيمة الذي كان يأخذه لو مات رقيقاً.
ويعبّر عن هذا الوجه بأن للسيّد الأقلّ ممّا يلزم الجاني أخيراً بالجناية على الملك أوّلاً. ومن مثل نسبته من القيمة.
ص: 328
• فلو تحرّر وقطع آخر يده وثالث رجله ثمّ سرى الجميع، سقطت دية الطرف وثبتت دية النفس وهي ألف، فلزم الأوّل الثلث بعد أن كان يلزمه النصف. فيكون للمولى الثلث وللورثة الثلثان من الدية. وقيل له أقلّ الأمرين هنا من ثلث القيمة و ثلث الدية والأوّل أشبه.
الثاني: لو قطع حريده فأعتق ثمّ سرت فلا قود؛ لعدم التساوي. وعليه دية حرّ مسلم؛ لأنّها جناية مضمونة، فكان الاعتبار بها حين الاستقرار. وللسيد نصف قيمته وقت الجناية ولورثة المجني عليه ما زاد.
ولو قطع حرّ آخر رجله بعد العتق وسرى الجرحان، فلا قصاص على الأوّل في الطرف ولا في النفس؛ لأنّه لم يجب القصاص في الجناية، فلم يجب في سرايتها، وعلى الثاني القود بعد رد نصف ديته، ولم يسقط القود بمشاركة الآخر في السراية، كما لا يسقط بمشاركة الأب للأجنبي، وبمشاركة المسلم الذمّي في قتل الذمّي.
----------------------------------
قوله: «فلو تحرّر وقطع آخر يده وثالث رجله - إلى قوله والأوّل أشبه».
إذا قطع حرّ إحدى يدي عبد ثمّ عُتق، ثمّ جرحه آخران، بأن قطع أحدهما يده الأخرى والآخر رجله، ثمّ سرى الجميع ومات، فلا قصاص على الأوّل في النفس ولا في الطرف؛ لأنّه لم يكن مكافئاً له وقت الجناية. وعلى الآخرين القصاص في النفس بعد ردّ فاضل ديتهما عن جنايتهما.
وأمّا الدية على تقدير الحكم بها فتجب موزّعةٌ على الجناية الثلاثة على كلّ واحد ثلثها. ولا حقّ للسيّد فيما يجب على الآخرين وإنّما يتعلّق حقّه بما يجب على الجاني في الرقّ. وفيما يستحقّه الوجهان، فعلى الأوّل له الأقلّ من ثلث الدية وأرش الجناية في ملكه، وهو نصف القيمة. وعلى الثاني أقلّ الأمرين من ثلث الدية وثلث القيمة، وهو مثل نسبته من القيمة.
والمصنّف (رحمه اللّه) أطلق الحكم بأن للمولى الثلث والمراد به: ثلث الدية إذا لم تكن القيمة أقلّ منه، كما تحقّق سابقاً.
ص: 329
الثالث: • لو قطع يده وهو رق ثمّ قطع رجله وهو حرّ، كان على الجاني نصف قيمته وقت الجناية لمولاه، وعليه القصاص في الجناية حال الحرّيّة. فإن اقتصّ المعتق جاز، وإن طالب بالدية كان له نصف الدية يختص به دون المولى.
ولو سرتا فلا قصاص في الأُولى ؛ لعدم التساوي. والقصاص في الرجل ؛ لأنّه مكافئ.
وهل يثبت القود؟ قيل : لا؛ لأن السراية عن قطعين، أحدهما لا يوجب القود. والأشبه ثبوته مع ردّ ما يستحقّه المولى.
ولو اقتصر الوليّ على الاقتصاص في الرجل أخذ المولى نصف قيمة المجنيّ عليه وقت الجناية. وكان الفاضل للوارث، فيجتمع له الاقتصاص وفاضل دية اليد إن كانت ديتها زائدة عن نصف قيمة العبد.
----------------------------------
قوله: «لو قطع يده وهو رق ثمّ قطع رجله وهو حرّ - إلى قوله - مع ردّ ما يستحقّه المولى».
إذا كان الجاني عليه في حالتي الرقيّة والحرّيّة واحداً، بأن قطع يده وهو رقّ ثمّ قطع رجله وهو حرّ، فإن لم يسر الجرحان ثبت القصاص عليه في الطرف الواقع حال الحرّيّة دون الآخر، وعليه له أرش الجناية لمولاه. وإن رضي المعتق بالدية للثاني فله ذلك يختص به دون المولى؛ لوقوع الجناية بعد زوال ملك المولى.
وإن سرتا إلى نفسه فلا قصاص في الأولى، كما لا قصاص في طرفها؛ لعدم التساوي في الحرّيّة. ويثبت القصاص في الثانية على الأصحّ ولا يمنع وقوع السراية بجرحين أحدهما لا يوجب القود، كما لو قتل بجرحين أحدهما من الأب، فإنّ ذلك غير مانع عندنا، وقد جزم به المصنّف (رحمه اللّه) فيما سلف(1)، ونقل الخلاف هنا. وحينئذٍ فيستوفى منه بعد أن يردّ عليه ما يستحقّه المولى، كما لو اشترك اثنان في قتله فقتل أحدهما.
ص: 330
فلا يقتل مسلم بكافر، ذمّياً كان أو مستأمناً أو حربيّاً، ولكن يعزّر ويغرم دية الذمّى. وقيل : إن اعتاد قتل أهل الذمّة جاز الاقتصاص بعد ردّ فاضل ديته.
----------------------------------
قوله: «التساوي في الدين، فلا يقتل مسلم بكافر - إلى قوله - بعد ردّ فاضل ديته».
أجمع الأصحاب على أن المسلم لا يقتل بالكافر مطلقاً، ذمّياً كان أم غيره؛ لقوله تعالى: «وَلَن يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً»(1). وإثبات القصاص لوارث الكافر إذا كان كافراً سبيل واضح، ولم يقل أحد بالفرق بين الوارث الكافر والمسلم.
ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يقتل مؤمن بكافر» (2) الشامل للذمّي وغيره. ولا يخصصه الخبر المحذوف في قوله: «ولا ذو عهد في عهده» (3) أي بكافر، حيث كان مخصوصاً بالحربي؛ لمنع الافتقار إلى الخبر أوّلاً. ومنع اشتراط المساواة من كلّ وجه لو سلّم التقدير.
وأمّا الأخبار من طرق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بذلك فكثيرة(4).
هذا إذا لم يكن المسلم معتاداً لقتل أهل الذمّة. أما إذا اعتاد قتلهم ظلماً ففي قتله أقوال:
أحدها: أنّه يقتل قصاصاً، بعد أن يردّ أولياء المقتول فاضل دية المسلم عن دية الذمّي. ذهب إليه الشيخ فى النهاية(5)، وأتباعه (6).
ص: 331
ويقتل الذمّي بالذمّي وبالذمّية بعد ردّ فاضل الدية. والذمّية بالذمّية وبالذمّي من غير رجوع عليها بالفضل.
----------------------------------
وثانيها : أنّه يقتل حدّاً لا قصاصاً ؛ لإفساده في الأرض. وهو قول ابن الجنيد (1)وأبي الصلاح(2). فلا ردّ عليه.
وثالثها أنّه لا يقتل مطلقاً. وهو قول ابن إدريس (3) والمصنّف هنا، حيث اقتصر على نقل قتله حينئذٍ قولاً المشعر بضعفه. وكذلك العلّامة في القواعد(4)، والشهيد في اللمعة(5). وصرح باختياره الفخر في شرحه(6). فضعف قول الشهيد في الشرح بأن القول بذلك إجماعي، وأنه لم يخالف فيه سوى ابن إدريس(7). كما ضعّف دعوى ابن إدريس الإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر(8)، فإنّه إن أراد ما يعمّ موضع النزاع فالإجماع ظاهر المنع، وإن أراد به في الجملة لم يستفد به فائدة.
ومستند القول بقتل المعتاد روايات كثيرة:
منها: رواية إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن دماء المجوس واليهود والنصارى، هل عليهم وعلى من قتلهم شيء إذا غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم والغش ؟ قال: «لا إلّا أن يكون متعوّداً لقتلهم». قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: «لا إلّا أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر»(9).
ص: 332
• ولو قتل الذمّى مسلماً عمداً دفع هو وماله إلى أولياء المقتول، وهم مخيّرون بين قتله واسترقاقه. وفي استرقاق ولده الصغار تردّد، أشبهه بقاؤهم على الحرّيّة. ولو أسلم قبل الاسترقاق لم يكن لهم إلّا قتله، كما لو قتل وهو مسلم.
ولو قتل الكافر كافراً وأسلم القاتل لم يقتل به، وألزم الدية إن كان المقتول ذادية.
----------------------------------
ورواية إسماعيل بن الفضل أيضاً عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت: رجل قتل رجلاً من أهل الذمّة، قال: «لا يقتل به إلّا أن يكون متعوّداً للقتل»(1).
وصحيحة محمّد بن الفضيل عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله(2).
وليس في هذه الأخبار ما يدلّ على قتله قصاصاً أو حدّاً، فالقولان مستنبطان من الاعتبار. ويتفرّع عليهما ما لو عفا وليّ الدم فيسقط القتل على الأوّل دون الثاني، كما يتوقّف على طلب وليه كذلك.
وهل المعتبر طلب جميع الأولياء أو ولي الأخير ؟ وجهان. وكذا الإشكال في ردّ الفاضل من ديته، هل هو عن ديات الجميع أو الأخير؟ ولما لم يكن للحكم بذلك مرجع صالح فللتوقّف وجه.
والمرجع في الاعتياد إلى العرف وربما تحقّق بمرّتين؛ لأنّه مأخوذ من العود فيقتل فيها أو في الثالثة. وهو أولى.
قوله: «ولو قتل الذمّي مسلماً عمداً دفع هو وماله إلى أولياء المقتول» إلى آخره.
هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، لم يخالف فيه ظاهراً إلا ابن إدريس، فإنّه لم يجز أخذ المال إلا بعد استرقاقه، حتّى لو قتله لم يملك ماله(3).
والأصل فيه حسنة ضريس الكناسي، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعبد اللّه بن سنان، عن
ص: 333
----------------------------------
أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نصراني قتل مسلماً فلما أُخذ أسلم، قال: «اقتله به»، قيل: فإن لم يسلم؟ قال: «يدفع إلى أولياء المقتول هو وماله» (1).
وأمّا حكم أولاده الأصاغر، فقد ذهب جماعة من الأصحاب - منهم المفيد (2) وسلّار (3). ونقل عن الشيخ (4)، أيضاً، لكنه لم يوجد في كتبه - أنّهم يسترقّون. ونفاه ابن إدريس(5). وتردد فيه المصنّف، ثمّ قوىّ العدم.
ومنشأ الخلاف من تبعية الولد لأبيه، وقد ثبت له الاسترقاق، فيثبت لتابعه، ولأنّ المقتضي لحقن دمه وماله ونفي استرقاقهم هو التزامه بالذمّة، وبالقتل خرقها، فتجري عليه أحكام أهل الحرب التي من جملتها استرقاق أصاغر أولاده.
ومن أصالة بقائهم على الحرّيّة؛ لانعقادهم عليها. وجناية الأب لا تتخطاه؛ لقوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(6).
ومنع استلزام القتل خرق الذمّة مطلقاً. والرواية خالية عن حكم الأولاد، ولأنّه على تقدير الحكم بخرقة لا يكون استرقاق ولده مختصاً بورثة المقتول، بل إمّا أن يختص بهم الإمام أو يشترك فيهم المسلمون والأقوى عدم استرقاقهم.
ص: 334
• ويقتل ولد الرشدة بولد الزنية؛ لتساويهما في الإسلام.
مسائل من لواحق هذا الباب
الأولى: • لو قطع مسلم يد ذمّي عمداً فأسلم وسرت إلى نفسه فلا قصاص ولا قود. وكذا لو قطع يد عبد ثمّ أُعتق وسرت؛ لأن التكافؤ ليس بحاصل وقت الجناية.
وكذا الصبيّ لو قطع يد بالغ ثمّ بلغ وسرت جنايته لم يقطع؛ لأنّ الجناية لم تكن موجبة للقصاص حال حصولها. وتثبت دية النفس؛ لأنّ الجناية وقعت مضمونة، فكان الاعتبار بأرشها حين الاستقرار.
----------------------------------
قوله: «ويقتل ولد الرشدة بولد الزنية؛ لتساويهما في الإسلام».
ولد الرشدة - بفتح الراء وكسرها - خلاف ولد الزنية بهما والمراد بكونه يقتل به بعد بلوغه وإظهاره الإسلام، كما يرشد إليه التعليل، بناءً على الأصحّ من الحكم بإسلامه كذلك. ومن قال: إنه لا يحكم بإسلامه، قال: لا يقتل به ولد الرشدة(1).
ولو قتله قبل البلوغ لم يقتل به مطلقاً؛ لانتفاء الحكم بإسلامه ولو بالتبعية للمسلم؛ لانتفائه عمّن تولّد منه.
قوله: «لو قطع مسلم يد ذمّي عمداً - إلى قوله - لأن الجناية وقعت مضمونة».
هذه المسائل معقودة للكلام فيما إذا تغيّر حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت. وهي إمّا بالعصمة، أو الإهدار، أو في القدر المضمون به.
واعلم أنّ المجروح إما أن يكون مهدراً في حالتي الجرح والموت أو يكون مهدراً في حالة الجرح دون الموت، أو بالعكس، أو معصوماً فيهما. وحينئذٍ إمّا أن يتخلّل المهدر
ص: 335
الثانية: • لو قطع يد حربي أو يد مرتد فأسلم ثمّ سرت، فلا قود ولا دية؛ لأنّ الجناية لم تكن مضمونة، فلم تضمن سرايتها.
ولو رمى ذمّيّاً بسهم فأسلم ثمّ أصابه فمات، فلا قود، وفيه الدية.
وكذا لو رمى عبداً فأعتق وأصابه فمات، أو رمى حربياً أو مرتداً، فأصابه بعد إسلامه، فلا قود وتثبت الدية؛ لأنّ الإصابة صادفت مسلماً محقون الدم.
----------------------------------
بينهما أو لا يتخلّل. وحينئذٍ إما أن يختلف قدر الضمان في الحالين، أو لا يختلف. فهذه أحوال ست. والأُولى والسادسة ظاهرتا الحكم. فبقيت الأربع.
والمقصود في المسألة الأُولى اختلاف حالته في مقدار الضمان. فإذا قطع مسلم يد ذمّي عمداً لم يقطع به، ويثبت عليه دية يد الذمّي. فإذا أسلم ثمّ سرت إلى نفسه فلا قصاص على المسلم أيضاً ؛ نظراً إلى حال الجناية، فإنها غير مضمونة بالقصاص حينئذٍ.
ومثله ما لو جرح صبيّ إنساناً ثمّ بلغ الصبي ومات المجروح؛ لأن الكفاءة تعتبر حالة الجراحة دون الموت ولكن تجب الدية عندنا؛ لأنّه قطع مضمون فسرايته مضمونة، ويعتبر أرشها حال استقرارها.
قوله: «لو قطع يد حربي أو يد مرتد فأسلم ثمّ سرت، فلا قود ولادية» إلى آخره.
هذه من جملة الصور التي ذكرناها جمعها مشوشة؛ لأنّ الأُولى منها تضمّنت ما لو كان المجروح مهدراً حالة الجرح معصوماً حالة السراية، والباقيتان تضمنتا حكم المضمون في الحالين مع اختلاف الضمان.
وحاصل الأُولى: أنّه إذا جرح حربيّاً أو مرتدّاً بقطع يد أو غيره ثمّ أسلم، أو عقدت الذمّة للحربي ثمّ مات من تلك الجراحة فلا قصاص؛ لأنّ قطع الحربي أو المرتدّ غير مضمون بالقصاص، فسرايته لا تكون مضمونة، كقطع يد السارق.
ولأنّ الجراحة إذا وقعت في حالة لا توجب القصاص لم يجب القصاص بما يحدث بعدها، كما لو جرح الصبيّ إنساناً ثمّ بلغ وسرت الجراحة. وهل تجب الدية؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنّه قطع غير مضمون فسرايته لا تكون مضمونة، كسراية القطع قصاصاً أو
ص: 336
الثالثة: • إذا قطع المسلم يد مثله فسرت مرتداً سقط القصاص في النفس، ولم يسقط القصاص في اليد؛ لأن الجناية حصلت موجبة للقصاص فلم يسقط
----------------------------------
بالسرقة، وكما لو جرح الصائل عليه دفعاً ثمّ أعرض فسرت الجراحة.
والثاني: الوجوب اعتباراً بحالة استقرار الجناية. وربما وجه في المرتدّ بأنه جرح ممنوع منه، فإنّ المرتدّ قتله مفوّض إلى الإمام لا إلى الأحاد، وإذا كان ممنوعاً منه جاز أن تكون سرايته مضمونة.
والأصحّ الأوّل. وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه).
الثانية: إذا رمى المسلم ذمّياً بسهم فأسلم قبل الإصابة، ثمّ أصابه فمات منه فلا قود؛ لعدم الكفاءة في أوّل أوقات الجناية. وتثبت الدية اعتباراً بوقت الإصابة؛ لأنّها أقوى من وقت الاستقرار. وقد تقدّم أنّها مضمونة حالته أيضاً(1). ومثله ما لو رمى الحرّ عبداً فأعتق قبل الإصابة فصادفته الإصابة حراً فمات منها فإنّه لا قصاص؛ لعدم الكفاءة، وثبتت الدية.
الثالثة: لو رمى حربيّاً أو مرتداً فأصابه بعد إسلامه فلا قصاص؛ لأنّه لم توجد الكفاءة في أوّل الجناية كذلك.
وأمّا الضمان فإن قلنا: يجب الضمان إذا أسلم بعد الجرح ثمّ مات فهنا أولى. وإن قلنا: لا يجب - كما هو الأصحّ - فهنا وجهان:
أحدهما: الوجوب؛ اعتباراً بحالة الإصابة؛ لأنّها حالة اتصال الجناية، والرمي كالمقدّمة التي تسبب بها إلى الجناية.
والثاني: لا يجب اعتباراً بحال الرمي، فإنّه الداخل تحت الاختيار والأصحّ الأوّل وهو الذي لم يذكر المصنّف غيره.
قوله: «إذا قطع المسلم يد مثله فسرت مرتداً إلى قوله - والنفس هنا ليست مضمونة».
إذا جرح مسلماً - كأن قطع يده - فارتدّ ثمّ مات بالسراية لم يجب قصاص النفس
ص: 337
باعتراض الارتداد. ويستوفي القصاص فيها وليه المسلم، فإن لم يكن استوفاه الإمام.
وقال في المبسوط: الذي يقتضيه مذهبنا أنه لا قود ولا دية؛ لأنّ قصاص الطرف وديته يدخلان في قصاص النفس وديتها، والنفس هنا ليست مضمونة.
وهو يشكل، بما أنّه لا يلزم من دخول الطرف في قصاص النفس، سقوط ما ثبت من قصاص الطرف، لمانع يمنع من القصاص في النفس.
----------------------------------
ولا ديتها؛ لأنّها تلفت وهي مهدرة.
وأما القصاص في الجرح ففيه قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ(1) - عدم الثبوت أيضاً؛ لأن الطرف يتبع النفس إذا صارت الجناية قتلاً، فإذا لم يجب قصاص النفس لا يجب قصاص الطرف، ولذلك لو قطع طرف إنسان فمات منه فعفا وليه عن قصاص النفس لم يكن له أن يقتص في الطرف.
والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - الوجوب؛ لأن القصاص في الطرف ينفرد عن القصاص في النفس ويستقر فلا يتغيّر بما يحدث بعده. ولا يلزم من دخول قصاص الطرف في قصاص النفس على تقدير استيفاء النفس دخوله مطلقاً، فإنّه عين المتنازع سلّمنا، لكن لا يلزم من دخوله فيه سقوطه مطلقاً؛ لأنّ المانع هنا منع من استيفاء القصاص في النفس، فيبقى القصاص في الطرف إذ لا مانع منه؛ لثبوته حال التكافؤ، فيدخل تحت عموم: «وَالْجُرُوحَ قِصَاصُ» (2). وهذا هو الأقوى.
ونبّه بقوله ويستوفي القصاص فيها وليه المسلم على خلاف بعض العامّة، حيث جعل الاستيفاء للإمام (3)، بناءً على أنّ المرتدّ كافر لا يرثه المسلم، فيكون وليّه الإمام.
ووافقنا آخرون منهم مع موافقتهم على ما ذكر فارقين بين إرث المال والقصاص، بأنّه
ص: 338
• أما لو عاد إلى الإسلام، فإن كان قبل أن تحصل سراية ثبت القصاص في النفس. وإن حصلت سراية وهو مرتد، ثمّ عاد و تمت السراية حتّى صارت نفساً ففي القصاص تردّد، أشبهه ثبوت القصاص؛ لأن الاعتبار في الجناية المضمونة بحال الاستقرار.
وقيل: لا قصاص؛ لأنّ وجوبه مستند إلى الجناية وكلّ السراية، وهذه بعضها هدر؛ لأنّه حصل في حال الردّة.
ولو كانت الجناية خطأ ثبتت الدية؛ لأنّ الجناية صادفت محقون الدم، وكانت مضمونة في الأصل.
----------------------------------
موضوع للتشفّي، وذلك يتعلّق بالقريب دون الإمام(1).
قوله: «أما لو عاد إلى الإسلام - إلى قوله - في الجناية المضمونة بحال الاستقرار».
هذه صورة ما إذا تخلّل الهدر بين الجرح والموت. فإذا جرح مسلم مسلماً، فارتدّ المجروح ثمّ عاد إلى الإسلام ومات بالسراية، فإما أن يكون عوده بعد حصول بعض السراية أو لا. فإن لم يحصل فلا إشكال في القود؛ لحصول التكافؤ حالة الجناية والسراية. وأولى منه الدية والكفّارة.
وإن حصل ثبتت الدية والكفّارة. وفي ثبوت القصاص قولان:
أحدهما: العدم. ذهب إليه الشيخ في المبسوط (2) وأتباعه (3)؛ نظراً إلى أن السبب المقتضي للقود هو السراية، وهي مركّبة من أجزائها الواقعة زمن العصمة وغيره، فيكون موته بسببين أحدهما مضمون. والآخر غير مضمون. ولأنّه صار إلى حالة لو مات فيها لم يجب القصاص، فصار ذلك شبهة دارئة له.
والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، وقبله الشيخ في الخلاف(4)، ثبوته؛
ص: 339
الرابعة: • إذا قتل مرتد ذمّيّاً، ففى قتله تردّد منشؤه تحرّم المرتدّ بالإسلام. ويقوى أنّه يقتل؛ للتساوي في الكفر، كما يقتل النصراني باليهودي؛ لأنّ الكفر كالملة الواحدة. أما لو رجع إلى الإسلام فلا قود، وعليه دية الذمّي.
----------------------------------
لأنّه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت، فلا نظر إلى ما يتخلّلهما، ولأن الجناية مضمونة قطعاً، وليست خطاً؛ لأنّه الفرض، ولا على غير المكافيء، والعمد موجب للقود حيث كان مضموناً مع المكافأة، ولأنّه كشريك السبع، فإنّه يقتصّ منه وإن كان للسبع شركة.
وفي المسألة وجه ثالث، وهو ثبوت القصاص مع ردّ نصف الدية؛ لحصول التلف بسببين أحدهما غير مضمون ولا يعتبر زيادة أحد السببين على الآخر، كغيره من الأسباب المجتمعة.
قوله: «إذا قتل مرتد ذمّيّاً، ففي قتله تردّد» إلى آخره.
القول بقتله للشيخ في المبسوط والخلاف(1). وهو الذي اختاره المصنّف هنا، والعلّامة في التحرير والإرشاد (2)، وإن توقف في القواعد (3).
ووجهه ما أشار إليه من أنّ الكفر كالملة الواحدة، ولأنّ المرتدّ واجب القتل مع عدم التوبة، والذمّي ليس كذلك. ولأن المرتدّ لا تحل ذبيحته إجماعاً، بخلاف الذمّى فإنّ فيه خلافاً تقدّم(4). ولأنّه لا يقر بالجزية، فيكون المرتدّ أسوء حالاً من الذمّي فيقتل به بطريق أولى. ولا ينتقض بالزاني المحصن حيث كان واجب القتل؛ لأن قتله لا للكفر المشترك، بل لمعنى يختص به.
ووجه العدم منع الأولوية؛ لأنّ المرتدّ متحرم بالإسلام، ولهذا لم يجز للمرتدّ نكاح الذمّية، ولا يرثه وارثه الذمّي، بل الإمام مع فقد المسلمين، بخلاف الذمّي، ولأنّه يجب عليه قضاء الصلوات، ويحرم استرقاقه، ولا يمكّن الذمّي من نكاح المرتدّة. فكما امتنع القود مع حقيقة الإسلام، فكذا مع حكمه والأظهر الأوّل.
ص: 340
الخامسة: • لو جرح مسلم نصرانياً ثمّ ارتد الجارح وسرت الجراحة فلا قود؛ لعدم التساوي حال الجناية، وعليه دية الذمّي.
السادسة: • لو قتل ذمّي مرتدّاً قتل به؛ لأنّه محقون الدم بالنسبة إلى الذمّي أمّا لو قتله مسلم فلا قود قطعاً. وفي الدية تردّد، والأقرب أنّه لا دية.
----------------------------------
قوله: «لو جرح مسلم نصرانياً ثمّ ارتد الجارح وسرت الجراحة فلا قود لعدم التساوي حال الجناية، وعليه دية الذمّي».
الأصل في هذه المسألة ونظائرها أنّ كلّ واحدة من الجناية والسراية لها مدخل في الاقتصاص، فلا تكفي الكفاءة في إحدى الحالتين دون الأخرى، ولهذا لو جرح مرتداً ثمّ أسلم فسرت فلا قصاص. وكذا لو جرح مسلماً ثمّ ارتدّ كذلك.
والكلام في هذه المسألة كذلك، فإنّ النصراني وإن كان مضموناً إلّا أّنه لا قصاص في جراحته من المسلم فلا يغيّر هذا الحكم تغيّر حال الجارح إلى حالة تقتضي الكفاءة للنصراني، كالارتداد على تقدير تسليمها. لكن لما كانت الجناية مضمونة في الحالتين، والمعتبر مع كونها مضمونة بحالة السراية، ضمن له دية ذمّي.
قوله: «لو قتل ذمّى مرتداً قتل به» إلى آخره.
إذا قتل ذمّي مرتداً فمذهب الأصحاب أنّه يُقاد به؛ لأنّه إن كان مليّاً فإسلامه مقبول، وهو محترم به وإن كان فطريّاً فاستحقاق قتله للمسلمين، فإذا قتله غيرهم كان كما لو قتل من عليه القصاص غير المستحق.
وللشافعية قول بالمنع؛ لأنّه مباح الدم(1)، فلا يجب القصاص بقتله كالحربي، وكما لو قتله مسلم. وتحريم قتله لغيره مع كونه مباح الدم لكفره لا يوجب إقادة القاتل به كما لو قتل الزاني المحصن غير الإمام. وبهذا فارق من عليه القصاص إذا قتله غير المستحقّ؛ لأنّه معصوم بالنسبة إلى غيره.
ص: 341
• ولو وجب على مسلم قصاص فقتله غير الوليّ كان عليه القود. ولو وجب قتله بزنى أو لواط فقتله غير الإمام لم يكن عليه قود ولا دية؛ لأنّ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لرجل قتل رجلاً وادّعى أنه وجده مع امرأته: «عليك القود إلّا أن تأتي ببيّنة».
----------------------------------
ويمكن بناء هذين الوجهين على ما تقدّم في السابقة(1) من أن المرتدّ أسوء حالاً من الذمّى أم بالعكس.
وأمّا إذا قتله مسلم فلا قود قطعاً ؛ لعدم الكفاءة. وفي وجوب الدية وجهان، أقربهما العدم؛ لأنّه مباح الدم، وإن كان قتله إلى الإمام، فلا يترتّب على قتله دية.
ووجه وجوب الدية: أنّه محقون الدم بالنسبة إلى غير الإمام. وهو ضعيف، بل غاية ما يجب بقتله بدون إذنه الإثم، كغيره ممّن يتوقّف قتله على إذنه من الزاني واللائط وغيرهما.
قوله: «ولو وجب على مسلم قصاص» إلى آخره.
من ثبت عليه القصاص معصوم الدم بالنسبة إلى غير وليّ القصاص، وحقّ قتله خاصّ بوليّه، بخلاف الزاني واللائط ونحوهما، فإنّ دمهما هدر مطلقاً، غايته أنّ تولّي قتله متوقّف على أمر الحاكم، فإذا فعله غيره أثم ووقع موقعه.
ويؤيّده ما روي أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لمن قتل رجلاً وادّعى أنه وجده مع امرأته: «عليك القود إلّا أن تأتي بالبيّنة» (2). فلو كان القود ثابتاً عليه لفعله بدون إذن الإمام، لما رفعه عنه مع إتيانه بالبيّنة.
وفي الاستدلال بالخبر نظر؛ لأنّه مخصوص بمن يقتله الزوج لكونه زنى بزوجته، فلا يلزم تعديه إلى غيرها، خصوصاً الأجانب، مع عموم قوله تعالى: «النَّفْسَ بِالنفْسِ» (3) خصّ منه ما تضمنته الرواية، فيبقى ما عداه. والأُولى التعليل بالأوّل.
ص: 342
فلو قتل ولده لم يقتل به، وعليه الكفّارة والدية والتعزير وكذا لو قتله أب الأب وإن علا.
ويقتل الولد بأبيه. وكذا الأمّ تقتل به، ويقتل بها. وكذا الأقارب كالأجداد والجدات من قبلها، والإخوة من الطرفين، والأعمام والعمات والأخوال والخالات.
----------------------------------
قوله: «أن لا يكون القاتل أباً - إلى قوله - وكذا الأمّ تقتل به ويقتل بها».
لا قصاص على الوالد بقتل الولد ذكراً(1)، وأنثى، إجماعاً منّا ومن أكثر العامّة لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يُقاد الوالد بالولد»(2).
وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يقتل الأب بابنه إذا قتله، ويقتل الابن بأبيه إذا قتل أباه»(3).
ولأنّ الوالد سبب وجود الولد فلا يحسن أن يصير الولد سبباً معدماً له ولا يليق ذلك بحرمة الأبوّة، ولرعاية حرمته لم يحدّ لقذفه.
وكذا الأجداد والجدات لا يقتلون بالأحفاد، سواء قربوا أم بعدوا، وسواء كانوا من قبل الأب أم من قبل الأم؛ لوجود المقتضي في الجميع.
ويحتمل اختصاص الحكم بالأبوين(4)؛ لأنّه المتيقن في مخالفة عموم الآية (5)؛ لأنّ الجدّ ليس أباً حقيقة، كما تقدم في نظائره(6).
ص: 343
فروع:
الأوّل: • لو ادّعى اثنان ولداً مجهولاً، فإن قتله أحدهما قبل القرعة فلا قود؛ لتحقّق الاحتمال في طرف القاتل.
ولو قتلاه فالاحتمال بالنسبة إلى كلّ واحد منهما باق. وربما خطر الاستناد إلى القرعة. وهو تهجم على الدم. فالأقرب الأوّل.
ولو ادّعياه ثمّ رجع أحدهما وقتلاه توجه القصاص على الراجع بعد ردّ ما يفضل عن جنايته، وكان على الأب نصف الدية، وعلى كلّ واحد كفارة القتل بانفراده.
----------------------------------
ولا فرق فى الأب بين الحر والعبد، ولا بين المسلم والكافر؛ لوجود المقتضي للمنع وهو الأُبوّة؛ وأصالة عدم اشتراط أمر آخر.
ولا يتعدّى الحكم إلى الأمّ وإن علت أو كانت لأب عندنا، وإن تعدّى إلى أبيها وإن علا، ولا إلى غيرها من الأقارب، وقوفاً فيما خالف الأصل وعموم الآية (1) على مورده وموضع الوفاق.
والعامّة ألحقوا الأُمّ مطلقاً بالأب (2)؛ لاشتراكهما في العلّة المناسبة للحكم (3)، وهو التولّد
قوله: «لو ادّعى اثنان ولداً مجهولاً» إلى آخره.
إذا تداعى اثنان مولوداً مجهولاً ثمّ قتلاه أو أحدهما فلا قصاص في الحال؛ لأنّ أحدهما أبوه والاحتمال قائم في كلّ منهما، وذلك شبهة مانعة من التهجم على الدم. ولا يقدح في
ص: 344
• ولو ولد مولود على فراش مدعيين له كالأمة أو الموطوءة بالشبهة في الطهر الواحد، فقتلاه قبل القرعة لم يقتلا ؛ لتحقّق الاحتمال بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. ولو رجع أحدهما ثمّ قتلاه لم يقتل الراجع. والفرق أنّ البنوّة هنا تثبت بالفراش لا بمجرّد الدعوى. وفي الفرق تردّد.
----------------------------------
ذلك توقّف الحكم به لأحدهما بخصوصه على القرعة؛ لأنّها لم تقع بعد، فالاحتمال قائم.
ويحتمل القرعة بعد القتل، فإن ظهرت لمن قتله فلا قصاص، وإن ظهرت للآخر اقتصّ من القاتل ؛ لظهور انتفائه عنه شرعاً.
والأصحّ الأوّل؛ للشبهة الدارئة للقتل حالته، وفوات محلّ القرعة بالنظر إلى مثل ذلك وإن بقيت في غيره.
ولو كان قتله بعد القرعة ولحوقه بأحدهما قتل به الخارج عنه، وردّ عليه مع الاشتراك نصف الدية، وعلى الأب الدية أو نصفها.
ولو رجع أحدهما وأصرّ الآخر على الدعوى فهو ولده، فيقتص من الراجع إن كان هو القاتل أو اشتركا في قتله، بعد ردّ ما يفضل من ديته عن جنايته. وعلى كلّ منهما كفارة الجمع ؛ لثبوتها في قتل الولد كغيره.
قوله: «ولو ولد مولود على فراش مدعيين له» إلى آخره.
المولود على فراش المدعيين له إن قتلاه أو أحدهما قبل رجوع أحدهما عن الدعوى فلا إشكال في عدم قتله؛ لقيام الاحتمال الدافع للقتل بالشبهة. وإن كان بعد القرعة فالحكم كما سبق، من قتل الخارج عنها دون الخارج بها.
وإنّما الكلام فيما لو رجع أحدهما عن الدعوى، فالمشهور أنّه لا يقتل به أحدهما أيضاً بخلاف السابق.
والفرق ما أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) من أنّ «البنوّة هنا تثبت بالفراش المشترك بينهما، كما تثبت تبعاً للفراش المنفرد على ما تقرر في بابه، وهذا أمر لا يدفعه الرجوع
ص: 345
• ولو قتل الرجل زوجته هل يثبت القصاص لولدها منه؟ قيل لا؛ لأنّه لا يملك أن يقتص من والده ولو قيل: يملك هنا أمكن، اقتصاراً بالمنع على مورد النصّ.
وكذا البحث لو قذفها الزوج ولا وارث إلا ولده منها. أما لو كان لها ولد من غيره فله القصاص بعد ردّ نصيب ولده من الدية، وله استيفاء الحدّ كاملاً.
----------------------------------
بخلاف المدعى للبنوّة بغير فراش، فإنّ ثبوت الولادة فيه تابع للدعوى بشرائطها، فإذا انتفت انتفت. وبهذا الحكم - تبعاً للفرق - جزم في المبسوط(1)، والعلّامة في كتبه (2).
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في الفرق.
ووجه التردّد: ممّا ذكر الموجب لقوّة جانب الإلحاق في هذه الصورة، ومن اشتراكهما في
اعتراف الراجع بما يستلزم ثبوت القود عليه، فيلزم بموجب إقراره.
قوله: «ولو قتل الرجل زوجته هل يثبت القصاص لولدها منه ؟ قيل: لا؛ لأنّه لا يملك أن يقتص من والده» إلى آخره.
كما لا يثبت القود للولد على والده بالأصالة، فكذا بالتبعية والإرث على المشهور.
قطع بذلك الشيخ في المبسوط(3)، والعلّامة في كتبه (4)؛ لعموم الأدلّة (5)؛ وصلاحية العلّة المقتضية لذلك.
والمصنّف (رحمه اللّه) مال إلى قصر الحكم على موضع اليقين وظاهر النصّ، وهو ما لو
ص: 346
• ولو قتل أحد الولدين أباه ثمّ الآخر أُمّه فلكلّ منهما على الآخر القود. فإن تشاحًا في الاقتصاص أقرع بينهما، وقدّم في الاستيفاء من أخرجته القرعة. ولو بدر أحدهما فاقتصّ كان لورثة الآخر الاقتصاص منه.
----------------------------------
قتل الأب الابن؛ لدلالة ظاهر النصّ عليه في قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يقاد بالولد الوالد»(1) فإن الباء ظاهرة هنا في السببيّة، ولا يكون الولد سبباً للقود إلّا مع كونه هو المقتول، أّما إذا كان المقتول مورّثه فذلك المقتول هو السبب دون الولد.
ويضعف بأن استيفاء القصاص موقوف على مطالبة المستحق، وإذا كان هو الولد وطالب به كان هو السبب في القود، فيتناوله عموم النصّ أو إطلاقه. فالقول بالمشهور أجود.
ومثله القول في حدّ القذف الموروث للولد على الوالد. أما إذا كان له شريك في القصاص أو القذف فللشريك الاستيفاء بعد ردّ فاضل الدية على ورثة الأب. وأمّا الحدّ فيثبت للشريك كملاً، كما في نظائره من الحدّ الموروث لجماعة إذا طلبه بعضهم وعفا الباقون، فضلاً عن عدم ثبوته للبعض. وقد تقدّم(2).
قوله: «ولو قتل أحد الولدين أباه ثمّ الآخر أُمّه» إلى آخره.
إذا قتل أحد الوالدين أباه عمداً فالقصاص للآخر؛ لأنّ القاتل عمداً لا يرث القصاص كما يرث المال، فإذا قتل الآخر أمّه فالقصاص عليه للأوّل ؛ لما ذكر من العلّة، فيثبت لكلّ منهما على الآخر القود. فإذا تشاحًا فيمن يبدأ به في الاستيفاء أوّلاً أقرع بينهما؛ لعدم الأولويّة، وقدم من أخرجته القرعة، ثمّ يقتص ورثة المقتول من الآخر. وإنّما فائدة القرعة في تعجيل قتل أحدهما قبل الآخر.
ولو فرض أنّ أحدهما بدر واقتصّ من صاحبه بدون القرعة أثم واستوفى حقه، وبقي الحقّ عليه كما لو قدم بالقرعة، فيستوفي منه ورثة الآخر. وهو واضح.
ص: 347
فلا يقتل المجنون، سواء قتل مجنوناً أو عاقلاً، وتثبت الدية على عاقلته. وكذا الصبي لا يقتل بصبي ولا ببالغ. أما لو قتل العاقل ثمّ جنّ لم يسقط عنه القود.
وفي رواية: يقتص من الصبي إذا بلغ عشراً، وفي أخرى: إذا بلغ خمسة أشبار، وتقام عليه الحدود.
والوجه أنّ عمد الصبي خطأ،محض يلزم أرشه العاقلة حتّى يبلغ خمس عشرة سنة.
----------------------------------
قوله: «كمال العقل، فلا يقتل المجنون سواء قتل مجنوناً أو عاقلاً، وتثبت الدية على عاقلته. وكذا الصبي لا يقتل» إلى آخره.
من شرائط القصاص كون العاقل مكلفاً، فلا قصاص على الصبيّ والمجنون؛ لأنّ القلم مرفوع عنهما، كما لا قصاص على النائم إذا انقلب على إنسان فقتله. ولأنّهما لا يكلفان بالعبادات البدنية، فأولى أن لا يؤاخذا بالعقوبات البدنية.
والمنقطع جنونه كالعاقل في وقت،إفاقته، وكالمطبق جنونه في وقت جنونه.
ومن وجب عليه القصاص ثمّ جنّ استوفى منه القصاص، سواء ثبت موجب القصاص بإقراره أم بالبيّنة، خلافاً لبعض العامّة حيث منع من الاقتصاص منه في الجنون مطلقاً، ولبعض آخر حيث فصل فقال: إن جنّ حين قدّم للقصاص اقتصّ منه، وإن جنّ قبله لم يقتصّ.
ويضعّف بأنّه حقّ وجب عليه حال تكليفه، فلا يسقط باعتراض الجنون كغيره من الحقوق؛ ولأصالة بقاء الحقّ.
والرواية الواردة بالاقتصاص من الصبيّ إذا بلغ عشراً لم نقف عليها بخصوصها، ولكن الشيخ لما روى عن أبي بصير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن غلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلاً
ص: 348
----------------------------------
[خطاً]، فقال: «إن خطأ المرأة والغلام عمد، فإن أحبّ أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما»(1). الحديث، حمل هذه الرواية على بلوغ الغلام عشر سنين أو خمسة أشبار (2).
نعم، روى الحسن بن راشد عن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا بلغ الغلام ثمان سنين فجائز أمره في ماله، وقد وجب عليه الفرائض والحدود»(3).
وأمّا الرواية الدالّة على أنّ البالغ خمسة أشبار يقام عليه الحدّ، فرواها السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن رجل وغلام اشتركا في قتل رجل، فقال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار اقتصّ منه، وإذا لم يكن قد بلغ خمسة أشبار قضي بالدية» (4). وبمضمونها أفتى الصدوق (5) والمفيد(6)، وبالأوّل أفتى الشيخ في النهاية(7).
والحقّ أنّ هذه الروايات - مع ضعف سندها - شاذة مخالفة للأصول الممهدة، بل لما أجمع عليه المسلمون - إلّا من شدّ - فلا يلتفت إليها.
ويعتبر في ثبوت القصاص البلوغ بأحد الأمور الثلاثة، وقبله فعمد الصبي خطأ مطلقاً؛ لصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «عمد الصبيّ وخطوه واحد»(8). وغيرها من الأخبار(9).
ص: 349
فرع: • لو اختلف الوليّ والجاني بعد بلوغه أو بعد إفاقته، فقال: قتلت وأنتَ بالغ أو وأنتَ عاقل، فأنكر، فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنّ الاحتمال متحقّق، فلا يثبت معه القصاص وتثبت الدية.
• ولو قتل البالغ الصبي قُتِل به على الأصحّ. ولا يقتل العاقل بالمجنون، وتثبت الدية على القاتل إن كان عمداً أو شبيهاً بالعمد، وعلى العاقلة إن كان خطاً محضاً. ولو قصد القاتل دفعه كان هدراً. وفي رواية: ديته في بيت المال.
----------------------------------
قوله: «لو اختلف الوليّ والجاني بعد بلوغه أو بعد إفاقته» إلى آخره.
وجه تقديم قول الجاني فيهما - مضافاً إلى ما ذكره من الاحتمال - أصالة بقاء الصغر إلى زمن القتل، وعدم ثبوت العقل حينئذٍ.
ولا يخفى أنّه مشروط بإمكان ذلك، وإلا لم يقبل.
واحترز بقوله «بعد بلوغه» عمّا لو قال القاتل: أنا صغير، فلا قصاص مع إمكان صدقه، فإنّه ينتفي عنه القصاص بغير يمين؛ لعدم إمكان تحليفه؛ لأنّ التحليف لإثبات المحلوف عليه ولو ثبت صباه لبطلت يمينه
ونبّه بقوله «بعد إفاقته» على أنه كان قد عُهد له حالة جنون. فلو لم يعهد له ذلك كان المصدق هو المدّعي؛ لأصالة السلامة.
ويحتمل تقديم قول الجاني في الحالتين ؛ لقيام الاحتمال المانع من التهجّم على النفوس معه.
قوله: «ولو قتل البالغ الصبيَّ قُتِل به على الأصحّ» إلى آخره.
القول بقتل البالغ بالصبي مذهب أكثر الأصحاب، بل هو المذهب؛ لعموم الأدلّة(1) المتناولة له.
ص: 350
• وفي ثبوت القود على السكران تردّد، والثبوت أشبه؛ لأنّه كالصاحي في تعلّق الأحكام.
أما من بنج نفسه أو شرب مرقداً لا لعذر، فقد ألحقه الشيخ (رحمه اللّه) بالسكران. وفيه تردّد.
----------------------------------
وخالف في ذلك أبو الصلاح، فألحقه بالمجنون في إثبات الدية بقتله عمداً مطلقاً (1)؛ لاشتراكهما في نقصان العقل.
وأجيب ببطلان القياس مع وجود الفارق(2). والمجنون خرج بنص خاصّ، وهو صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قتل رجلاً مجنوناً، فقال: «إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فقتله فلا شيء عليه من قود ولا دية، ويعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين». قال: «وإن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده فلا قود لمن لا يقاد منه، وأرى أنّ على قاتله الدية في ماله يدفعها إلى ورثة المجنون، ويستغفر اللّه عزّ وجلّ ويتوب إليه»(3). وقريب منه روى أبو الورد، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).
ويمكن الاحتجاج لأبي الصلاح بقوله في الخبر الأوّل: «فلا قود لمن لا يقاد منه» فإنّ «مَنْ» عامّة تشمل الصبيّ والمجنون، حيث إنّه لا يقاد منهما فلا يقاد لهما من العاقل، فلا يكون قياساً على المجنون، بل كلاهما داخل في عموم النصّ، وإن كان المجنون منصوصاً على حكمه بالخصوص أيضاً.
قوله: «وفى ثبوت القود على السكران تردّد، والثبوت أشبه» إلى آخره.
منشأ التردّد أنّ الشارع لم يعذر السكران مطلقاً، بل نزله منزلة الصاحي، فيقتصّ منه.
ص: 351
ولا قود على النائم؛ لعدم القصد، وكونه معذوراً في سببه، وعليه الدية.
• وفي الأعمى تردّد أظهره أنّه كالمبصر في توجّه القصاص بعمده. وفي رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أن جنايته خطأ تلزم العاقلة.
----------------------------------
وهو اختيار الأكثر. ومن أنّ القصد شرط في العمد وهو منتف في حقّه. وتنزيله منزلة الصاحي مطلقاً ممنوع. ولعلّ هذا أظهر.
وعلى تقدير ثبوته في حقه، ففي إلحاق من زال عقله باختياره كمن بنّج نفسه وجهان، من مساواته له في المقتضي، وهو زوال العقل باختياره مع نهي الشارع عنه ومن قوة المؤاخذة والحكم في الأوّل، بإلحاق الضعيف بها مع عدم النصّ قياس مع وجود الفارق.
ولو منعنا من القود من السكران فهنا أولى، خصوصاً في شارب المرقد؛ لعدم زوال عقله بذلك، فإلحاقه بالسكران بعيد.
قوله: «وفى الأعمى تردّد أظهره أنه كالمبصر في توجه القصاص بعمده».
ذهب الشيخ في النهاية إلى أن عمد الأعمى وخطأه سواء، تجب فيه الدية على عاقلته(1). وتبعه ابن البرّاج (2). وهو قول ابن الجنيد (3) وابن بابويه (4).
والمستند رواية الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «الأعمى جنايته خطأ تلزم عاقلته، يؤخذون بها في ثلاث سنين، في كلّ سنة نجماً، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في ماله يؤخذ بها في ثلاث سنين»(5). الحديث.
ص: 352
احترازاً من المرتدّ بالنظر إلى المسلم، فإنّ المسلم لو قتله لم يثبت القود وكذا كلّ من أباح الشرع قتله. ومثله من هلك بسراية القصاص أو الحدّ.
----------------------------------
وروى أبو عبيدة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن أعمى فقأ عين رجل صحيح متعمّداً، فقال: «يا أبا عبيدة إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية من ماله، فإن لم يكن له مال فإنّ دية ذلك على الإمام، ولا يبطل حقّ مسلم»(1).
وهاتان الروايتان مشتركتان في الدلالة على أن عمد الأعمى خطأ، وفي ضعف السند. ومختلفتان في الحكم. ومخالفتان للأُصول؛ لاشتمال الأُولى على كون الدية تجب ابتداءً على العاقلة، ومع عدمها تجب على الجاني، وهذا مخالف لحكم الخطأ.
وفي الثانية مع جعله الجناية كالخطإ أوجب الدية على الجاني، ومع عدم ماله على الإمام ولم يوجبها على العاقلة وظاهر اختلاف الحكمين ومخالفتهما لحكم الخطأ.
وذهب ابن إدريس (2) وجملة المتأخّرين (3) إلى أنّ الأعمى كالمبصر في وجوب القصاص عليه بعمده ؛ لوجود المقتضي له وهو قصده إلى القتل، وانتفاء المانع ؛ لأن العمى لا يصلح مانعاً مع اجتماع شروط القصاص من التكليف والقصد ونحوهما. ولعموم الأدلّة من الآيات (4) والروايات (5) المتناولة له، وانتفاء المخصص؛ لما ذكرناه من الموجب لا طراحه. مع أن الرواية
ص: 353
ويشترط في المدعي البلوغ والرشد حالة الدعوى، دون وقت الجناية؛ إذ قد تتحقّق صحة الدعوى بالسماع المتواتر، وأن يدعي على من يصحّ منه مباشرة الجناية.
فلو ادّعى على غائب لم يقبل. وكذا لو ادّعى على جماعة يتعذّر اجتماعهم على قتل الواحد كأهل البلد وتقبل دعواه لو رجع إلى الممكن.
ولو حرّر الدعوى بتعيين القاتل وصفة القتل ونوعه، سمعت دعواه.
• وهل تسمع منه مقتصراً على مطلق القتل؟ فيه تردّد، أشبهه القبول.
----------------------------------
الأُولى ليست صريحة في مطلوبهم؛ لجواز كون قوله «خطأ» حالاً، والجملة الفعلية بعده الخبر، وإنّما يتم استدلالهم بها على تقدير جعله مرفوعاً على الخبريّة.
وأمّا نصب «خطاً» على التمييز - كما فعله بعضهم (1) - فهو خطأ واضح.
قوله: «وهل تسمع منه مقتصراً على مطلق القتل؟ فيه تردّد، أشبهه القبول».
منشأ التردّد من انتفاء فائدة الدعوى بدون التفصيل؛ إذ لا يمكن استيفاء موجبها من دون العلم بصفتها من عمد أو خطأ، فلا تفيد الشهادة على مقتضاها ولا اليمين.
و من احتمال علم الوليّ بصدور القتل من شخص وجهله بصفته، فلو لم تسمع دعواه لزم ضياع الحق. وقد تقدم البحث في سماع الدعوى المجملة مطلقاً في القضاء (2).
ثمّ على تقدير القبول لو ثبت المطلق بالشهادة كذلك أو باليمين رجع إلى الصلح. ويحتمل ثبوت الدية احتياطاً في الدماء، واقتصاراً على المتيقن. ويشكل بمنع كون ذلك هو المتيقن؛ لأنّ القتل أعم من كونه موجباً للدية على القاتل، كما لا يخفى.
ص: 354
• ولو قال: قتله أحد هذين سُمع؛ إذ لا ضرر في إحلافهما. ولو أقام بينةً سمعت لإثبات اللوث، إن خصّ الوارث أحدهما.
----------------------------------
قوله: «ولو قال: قتله أحد هذين، سُمع؛ إذ لا ضرر في إحلافهما» إلى آخره.
يعتبر في سماع الدعوى تعيين المدعى عليه، فإن ادّعى القتل على واحد أو جماعة معينين فهي مسموعة. وإذا ذكرهم للحاكم وطلب إحضارهم أجابه، إلا إذا ذكر جماعة لا يتصوّر اجتماعهم على القتل، فلا يحضرون ولا يبالي بقوله؛ فإنّه دعوى محال.
ولو قال: قتل أبي أحد هذين أو واحد من هؤلاء العشرة، وطلب من الحاكم أن يسألهم (1) ويحلف كلّ واحد منهم، ففي إجابته وجهان:
أحدهما: لا؛ لما في هذه الدعوى من الإبهام، وصار كما لو ادّعى ديناً على أحد الرجلين.
والثاني - وهو الذي جزم به المصنّف (رحمه اللّه) - القبول؛ لأنّه طريق يتوصّل به إلى معرفة القاتل واستيفاء الحق منه، ولأن القاتل يسعى في إخفاء القتيل كيلا يقصد ولا يطالب، ويعسر معرفته على الوليّ لذلك، فلو لم تسمع دعواه هكذا لتضرّر، وهم لا يتضرّرون باليمين الصادقة.
وهذا الخلاف يجري في دعوى الغصب والإتلاف والسرقة وأخذ الضالّة. ولا يجري في دعوى القرض والبيع وسائر المعاملات؛ لأنّها تنشأ باختيار المتعاقدين، وحقها أن يضبط كلّ واحد من المتعاقدين صاحبه ويحتمل إجراؤه في الجميع؛ لأن الإنسان عرضة للنسيان ولا يتضرّرون باليمين كما مرّ.
ولو أقام بيّنة على هذا الوجه سمعت لا لإثبات الحق عليهما أو على أحدهما بخصوصه، بل لإثبات اللوث لو عيّن بعد ذلك واحداً من المشهود على أحدهم من غير تعيين، فيثبت باليمين كما سيأتي(2).
ص: 355
مسائل:
الأولى: • لو ادّعى أنه قتل مع جماعة لا يعرف عددهم سمعت دعواه، ولا يقضى بالقود ولا بالدية؛ لعدم العلم بحصة المدعى عليه من الجناية، ويقضى بالصلح حقناً للدم.
----------------------------------
قوله: «لو ادّعى أنه قتل مع جماعة لا يعرف عددهم، سمعت دعواه» إلى آخره.
إذا ادّعى على معيّن القتل بشركة غيره، فإن ذكر جماعة لا يتصوّر اجتماعهم على القتل لغا قوله ودعواه كالسابق.
وإن ذكر جماعة يتصوّر اجتماعهم ولم يحصرهم أو قال: لا أعرف عددهم، فإن ادّعى قتلاً يوجب الدية سمعت دعواه، ولكن لا يثبت على المدعى عليه المعيّن شيء معين من الدية؛ لأنّ معرفة ما يخصه منها موقوف على معرفة عدد الشركاء، فيرجع إلى الصلح ويحتمل عدم سماع الدعوى؛ لعدم تحريرها.
وإن كان القتل موجباً للقود فعندنا أنه كذلك؛ لأنّ قتله موقوف على أن يردّ عليه ما فضل من ديته عن جنايته، وهو موقوف على معرفة عدد الشركاء.
ومن جوّز قتل المتعدّد من الشركاء بغير ردّ من العامّة، فرّق بين دعوى القتل الموجب للقصاص والدية، فسمعها في الأوّل دون الثاني (1)؛ لما أشرنا إليه من الفرق.
هذا كلّه إذا لم يحصر هم بوجه يمكن معه الحكم على المعين بحصة من الدية، وإلّا سمعت كما لو قال: لا أعرف عددهم على وجه التحقيق ولكن أعلم أنّهم لا يزيدون على عشرة، فتسمع الدعوى، ويترتّب على تحقيقها المطالبة بعشر الدية؛ لأنّه المتيقن ولو قتله ردّ عليه تسعة أعشار ديته كذلك.
ص: 356
الثانية: • لو ادّعى القتل ولم يبين عمداً أو خطأ، الأقرب أنّها تسمع، ويستفصله القاضي، وليس ذلك تلقيناً، بل تحقيقاً للدعوى.
ولو لم يبيّن قيل طرحت دعواه، وسقطت البيّنة بذلك؛ إذ لا يمكن الحكم بها. وفيه تردّد.
الثالثة: • لو ادّعى على شخص القتل منفرداً، ثمّ ادّعى على آخر لم تسمع الثانية، برّأ الأوّل أو شركه؛ لإكذابه نفسه بالدعوى الأُولى. وفيه للشيخ قول آخر.
----------------------------------
قوله: «لو ادّعى القتل ولم يبين عمداً أو خطأ» إلى آخره.
لتكن الدعوى مفصّلة بكون القتل عمداً أو خطأ أو عمد خطأ، منفرداً أو بشركة غيره، فإنّ الأحكام تختلف باختلاف هذه الأحوال، والواجب تارة يتوجه على القاتل وأُخرى على عاقلته، فلا يمكن فصل الأمر ما لم يعلم من يطالب وبم يطالب ؟ لكن هل ذلك شرط في سماع الدعوى أم لا؟ فيه وجهان، تقدّم الكلام فيهما(1). وإنّما أعاده ليرتب عليه تتمّة الحكم، ولو جمعهما في موضع واحد كان أجود.
ثمَّ على تقدير سماع المجملة فهل يستفصله الحاكم، أو يعرض عنه؟ وجهان:
أحدهما: أنه يعرض عنه؛ لأنّ الاستفصال ضرب من التلقين، وهو ممتنع في حقّ الحاكم. وأصحّهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، ولم يذكر غيره - أنّه يستفصل. ويمنع من كونه تلقيناً؛ لأن التلقين أن يقول له: قتل عمداً أو خطاً جازماً بأحدهما، ليبني عليه المدّعي. والاستفصال أن يقول له: كيف قتل عمداً أو خطأ ؟ لتحقّق الدعوى.
فإن لم يبيّن ففي سماعها حينئذٍ وجهان، من انتفاء الفائدة، وإمكان إثبات أصل القتل والرجوع إلى الصلح.
قوله: «لو ادّعى على شخص القتل منفرداً، ثمّ ادّعى على آخر» إلى آخره.
من شروط سماع دعوى القتل سلامتها عمّا يكذبها ويناقضها، فلو ادّعى على شخص
ص: 357
الرابعة: • لو ادّعى قتل العمد ففسّره بالخطأ لم تبطل أصل الدعوى. وكذا لو ادّعى الخطأ ففسّره بما ليس خطأ.
----------------------------------
أنّه منفرد بالقتل، ثمّ ادّعى على آخر أنّه شريك فيه أو منفرد به، لم تسمع الدعوى الثانية؛ لأنّ الأُولى يكذبها. ثمّ لا يمكن من العود إلى الأُولى أيضاً، إذا لم يكن قد أقسم عليها وأمضى الحكم بها؛ لأن الثانية يكذبها.
ولو أنّ الثاني صدقه في دعواه ففي القبول وجهان:
أحدهما: أنه ليس له أن يؤاخذه بموجب تصديقه؛ لأنّ في الدعوى الأُولى اعترافاً ببراءة غير المدّعى عليه.
وأصحّهما: المؤاخذة؛ لأن الحق لا يعدوهما، ويمكن أن يكون كاذباً في الدعوى الأُولى قصداً أو غلطاً صادقاً في الثانية.
والموجود في كلام الشيخ(1) وغيره (2) الخلاف في هذا القسم، وهو ما إذا صدّقه الثاني على دعواه، وأنّ المرجّح قبول دعوى المدعي الثانية حينئذٍ. فيكون هذا القول مخالفاً لإطلاق الأوّل عدم سماع الدعوى الثانية، المتناول لما إذا صدق المدعى عليه ثانياً وما إذا كذّب.
وأما القول بأن الدعوى الثانية مسموعة مطلقاً مع كونها مكذبة للأُولى فلا يظهر به قائل.
قوله: «لو ادّعى قتل العمد ففسّره بالخطأ لم تبطل أصل الدعوى» إلى آخره.
هذه المسألة كالمتفرعة على السابقة، من حيث إنّ كلّ واحد من العمد والخطأ يخالف الآخر. وإنّما فصلها عنها وحكم بالقبول؛ لأنّ كلّ واحد منهما قد يخفي مفهومه على كثير من الناس، فقد يظنّ ما ليس بعمد عمداً، فيتبيّن بتفسيره أنه مخطئ في اعتقاده، وبالعكس. وأيضاً فقد يكذب في الوصف ويصدق في الأصل، فلا يرد أصل الدعوى، ويعتمد على تفسيره، ويمضى حكمه.
ص: 358
وتثبت الدعوى بالإقرار، أو البيئة، أو القسامة.
• أمّا الإقرار فتكفي المرّة. وبعض الأصحاب يشترط الإقرار مرّتين.
ويعتبر في المقر البلوغ، وكمال العقل والاختيار والحرّيّة.
أمّا المحجور - لفلس أو سفه - فيقبل إقراره بالعمد، ويستوفى منه القصاص، وأمّا بالخطأ فتثبت، ولكن لا يشارك الغرماء.
----------------------------------
ويحتمل عدم القبول؛ لأنّ في دعوى العمدية اعترافاً ببراءة العاقلة، فلا يتمكّن من مطالبتهم، ولأنّ في دعوى العمدية اعترافاً بأنه ليس بمخطئ، وبالعكس، فلا يقبل الرجوع عنه. وكذا القول فيما لو ادّعى الخطأ المحض ثمّ فسّره بشبه العمد.
قوله : «أمّا الإقرار فتكفي المرّة، وبعض الأصحاب يشترط الإقرار مرّتين. ويعتبر في المقر البلوغ» إلى آخره.
القول بثبوته بالإقرار مرّة مذهب أكثر الأصحاب؛ لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1). وحمله على الزنى والسرقة وغيرهما ممّا يعتبر فيه التعدد قياس مع وجود الفارق؛ لأنّه حقّ آدمى فيكفى فيه المرّة كسائر الحقوق.
وذهب الشيخ في النهاية (2) والقاضي (3) وابن إدريس(4)، وجماعة(5) إلى اعتبار المرّتين؛ عملاً بالاحتياط في الدماء، ولأنّه لا ينقص عن الإقرار بالسرقة التي يشترط فيها التعدّد، ففيه أولى. وضعفه ظاهر.
ص: 359
• ولو أقرّ واحد بقتله عمداً وآخر بقتله خطأ، تخيّر الوليّ تصديق أحدهما، وليس له على الآخر سبيل.
• ولو أقرّ بقتله عمداً فأقرّ آخر أنّه هو الذي قتله ورجع الأوّل، درى عنهما القصاص والدية، وودي المقتول من بيت المال. وهي قضيّة الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ).
----------------------------------
قوله: «ولو أقرّ واحد بقتله عمداً وآخر بقتله خطأ» إلى آخره.
لأنّ كلّ واحد من الإقرارين سبب مستقل في إيجاب مقتضاه على المقرّ به، ولا يمكن الجمع بين الأمرين، فيتخيّر الوليّ في العمل بأيهما شاء وإن جهل الحال كغيره من الأقارير.
ويؤيّده(1)، رواية الحسن بن صالح قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل وجد مقتولاً فجاء رجلان إلى وليه، فقال أحدهما: أنا قتلته عمداً، وقال الآخر: أنا قتلته خطاً، فقال: «إن هو أخذ بقول صاحب العمد فليس له على صاحب الخطأ سبيل، وإن أخذ بقول صاحب الخطأ فليس له على صاحب العمد سبيل» (2).
قوله: «ولو أقرّ بقتله عمداً فأقرّ آخر أنه هو الذي قتله ورجع الأول» إلى آخره.
الأصل في هذه المسألة رواية عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أخبرني بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أتي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجل وجد في خربة وفي يده سكّين متلطَّخ بالدم، وإذا رجل مذبوح متشحّط في دمه، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما تقول؟». :قال يا أمير المؤمنين أنا قتلته قال: «اذهبوا به فأقيدوه (3)». فلمّا ذهبوا به ليقتلوه أقبل رجل مسرعاً فقال: لا تعجلوا وردّوه إلى أمير المؤمنين، فردّوه. فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما هذا قتل صاحبه أنا قتلته فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للأوّل: «ما حملك على إقرارك على نفسك؟».
ص: 360
وأمّا البيّنة. فلا يثبت ما يجب به القصاص إلّا بشاهدين. ولا يثبت بشاهد وامرأتين. وقيل: تجب به الدية. وهو شاذّ.
ولا بشاهد ويمين ويثبت بذلك ما موجبه الدية، كقتل الخطا والهاشمة والمنقلة وكسر العظام والجائفة.
----------------------------------
فقال: يا أمير المؤمنين، وما كنت أستطيع أن أقول وقد شهدوا عليّ أمثال هؤلاء الرجال، وأخذوني وبيدي سكين متلطَّخ بالدم والرجل متشحّط في دمه وأنا قائم عليه، وخفت الضرب فأقررت وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة فأخذني البول فدخلت الخربة فوجدت الرجل يتشحط في دمه، فقمت متعجباً فدخل عليّ هؤلاء فأخذوني. فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقولوا له : ما الحكم فيهما؟». قال: فذهبوا إلى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقصّوا عليه قصتهما. فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قولوا لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن كان هذا ذبح هذا فقد أحيا هذا، وقد قال اللّه تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1). فخلّى عنهما وأخرج دية المذبوح من بيت المال(2).
وبمضمون هذه الرواية عمل الأكثر مع أنها مرسلة مخالفة للأصل.
والأقوى تخيير الوليّ في تصديق أيهما شاء، والاستيفاء منه كما سبق.
وعلى المشهور لو لم يكن بيت مال أشكل درء القصاص عنهما وإذهاب حقّ المقرّ له، مع أن مقتضى التعليل ذلك. ولو لم يرجع الأوّل عن إقراره، فمقتضى التعليل بقاء الحكم أيضاً. والمختار التخيير مطلقاً.
قوله: «فلا يثبت ما يجب به القصاص إلّا بشاهدين» إلى آخره.
القول بعدم ثبوت ما يجب به القصاص بشاهد وامرأتين للشيخ في الخلاف (3)
ص: 361
----------------------------------
وابن إدريس (1)؛ عملاً بالقاعدة المشهورة من أنّ قبول شهادة المذكورين مشروطة بكون متعلقه المال، ولرواية محمّد بن الفضيل عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا في الدم» (2) وغيرها(3).
وذهب جماعة - منهم الشيخ في المبسوط(4)، والمصنّف في كتاب الشهادات(5)- إلى ثبوته بذلك، ويترتّب عليه موجبه من القود. وآخرون - منهم الشيخ في النهاية (6)، وابن الجنيد(7). وأبو الصلاح (8)، والقاضي(9) إلى ثبوته بذلك، لكن تجب الدية لا القود. وهو القول الذي نسبه المصنّف هنا إلى الشذوذ، مع ذهاب أكثر الأصحاب إليه، ومنهم العلّامة في المختلف(10).
ومستنده الجمع بين الأخبار التي دلّ بعضها على عدم ثبوته كما أشرنا إليه، وبعضها على ثبوته مطلقاً، كصحيحة جميل بن دراج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد سأله عن شهادة النساء في الحدود، قال: «في القتل وحده، إن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: لا يطل دم امرئ مسلم»(11). بحمل
ص: 362
• ولا تقبل الشهادة إلا صافية عن الاحتمال كقوله: ضربه بالسيف فمات، أو فقتله، أو فأنهر دمه فمات في الحال، أو فلم يزل مريضاً منها حتّى مات، وإن طالت المدة.
----------------------------------
ما دلّ على الثبوت على الدية، وعلى عدمه على القود.
وقد تقدم البحث في ذلك في الشهادات(1)، فلا وجه لإعادته إلا التنبيه على الرجوع عمّا سبق. وكذلك فعل العلّامة في القواعد والإرشاد (2).
قوله: «ولا تقبل الشهادة إلا صافية عن الاحتمال كقوله: ضربه بالسيف فمات، أو فقتله» إلى آخره.
يعتبر في الشهادة على الجناية وغيرها كونها مفسّرة مصرّحة بالغرض. فإذا كانت على القتل فشرطها أن تضيف الهلاك إلى فعل المشهود عليه. فلو قال: ضربه بالسيف، لم يكف، ولم يثبت به شيء؛ لأنّ السيف قد يصيب المضروب به على وجه لا يقتل.
ولو قال: ضربه وأنهر الدم أو وجرحه، لم يثبت القتل أيضاً ؛ إذ ليس في الشهادة تعرّض له. وكذا لو قال: ضربه بالسيف وأنهر الدم ومات؛ لاحتمال أنه مات بسبب آخر لا بجراحته وإنهاره.
ولو قال عقيب ذلك فمات، بالفاء، فقد جزم المصنّف بقبول الشهادة حينئذٍ، جعلاً للفاء سببيّة، فكأنه قال: فمات بسبب ذلك.
وهكذا أطلق غيره من الأصحاب، كالشيخ في المبسوط (3) والعلّامة في القواعد والإرشاد (4).
ص: 363
• ولو أنكر المدعى عليه ما شهدت به البيئة لم يلتفت إلى إنكاره. وإن صدقها وادّعى الموت بغير الجناية، كان القول قوله مع يمينه.
• وكذا الحكم في الجراح، فإنّه لو قال الشاهد: ضربه فأوضحه قبل ولو قال: اختصما ثمّ افترقا وهو مجروح، أو ضربه فوجدناه مشجوجاً لم يقبل؛ لاحتمال أن يكون من غيره. وكذا لو قال: فجرى دمه.
----------------------------------
وفي المسألة وجه آخر بعدم القبول بذلك؛ لاحتمال أنّه مات بسبب آخر لا بجراحته وإنهاره، والفاء لا تدلّ على المطلوب صريحاً كالواو والعبارة الصريحة أن يقول: فمات من جراحته، أو بسبب جراحته، أو بتلك الجراحة، ونحو ذلك. وهذا هو الظاهر. وعبارة التحرير في هذا الباب أجود؛ لأنّه اقتصر على أمثلة صريحة (1)نحو ما ذكرناه.
قوله: «ولو أنكر المدعى عليه ما شهدت به البيّنة لم يلتفت إلى إنكاره» إلى آخره.
عدم الالتفات إلى قوله مع إنكاره ما شهدت به البيّنة واضح، كما في كلّ مشهود عليه، إذ لو التفت إليه في ذلك أدى إلى تعطيل الحقوق ورد الشهادات.
وأمّا مع تصديقه إيّاها في الجناية ودعواه الموت بغيرها، فإن كانت الجناية ممّا لا يلزم عنها الموت والشهادة محتملة (2) كالأمثلة السابقة، فقبول قوله حسن أيضاً؛ لعدم ثبوت ما ينافي قوله من الشهادة.
وأمّا مع تصريح الشهادة بكون القتل ناشئاً عن الجناية فيشكل تقدیم قوله؛ لأنّه في معنى التكذيب للبيّنة في استناد القتل إلى الجناية، وإن صادقها في أصل الجناية.
والوجه أنّه متى لزم من إنكاره تكذيب الشهادة ولو في بعض أوصافها لم تسمع دعواه.
قوله: «وكذا الحكم في الجراح إلى قوله - قبلت في الدامية دون ما زاد».
لا إشكال في اشتراط خلوص الشهادة بالجرح كما يشترط في القتل. فمن أمثلة
ص: 364
أمّا لو قال: فأجرى دمه قبلت ولو قال أسال دمه فمات، قبلت في الدامية دون ما زاد.
----------------------------------
الخلوص ما لو نسب الأثر كالموضحة وسيلان الدم - إلى الجناية، كقوله : ضرب رأسه فأدماه أو أسال دمه ولو قال: فسال دمه لم يثبت؛ لاحتمال أن السيلان حصل بسبب آخر.
ولو قال: ضربه فأوضح رأسه أو اتضح من ضربه، ثبتت الموضحة. ولو قال: ضربه فوجدناه موضحاً أو فاتضح، ونحو ذلك، لم يثبت؛ للاحتمال.
وينبغي التعرّض في الموضحة لوضوح العظم؛ لأنّ هذه الألقاب المستعملة عند الفقهاء تخفى كثيراً على غيرهم، إلا أن يكون الشاهد ممّن يعرف ذلك، ويعلم الحاكم أنّه لا يطلقها إلا على ما يوضح العظم عادة.
ولو قال الشاهد: إنّه أسال،دمه ثبتت الدامية ولو أضاف إلى ذلك قوله: فمات، قال المصنّف (رحمه اللّه): «قبلت في الدامية دون ما زاد». وهو يتم على ما ذكرناه من عدم صراحة قوله: فمات في استناد الموت إلى الجناية، أما على ما اختاره المصنّف فلا يخلو من إشكال.
وهكذا صنع الشيخ في المبسوط (1)، والعلّامة في القواعد (2). وفي التحرير اقتصر على قوله: أسال دمه، ولم يذكر قوله فمات. وهو أجود. لكنّه قال: يثبت في الدامية دون الزائد (3). وعلى هذا لا يكون هناك أمر زائد.
وعلّل في المبسوط عدم قبول الزائد عن الدامية بأنها متحقّقة، وما زاد محتمل (4).
وهذا لا يتم إلا على ما أسلفناه من أن ذكر الموت بعد الجناية لا يستلزم كونه منها بمجرّده وإن عطف بالفاء، ما لم يسنده إليها، ولكنهم قد أسلفوا خلاف ذلك.
ص: 365
• ولو قال أوضحه، ووجدنا فيه موضحتين، سقط القصاص؛ لتعذر المساواة في الاستيفاء، ويرجع إلى الدية. وربما خطر الاقتصاص بأقلّهما. وفيه ضعف؛ لأنّه استيفاء في محلّ لا يتحقّق توجه القصاص فيه.
وكذا لو قال : قطع يده، ووجده مقطوع اليدين. ولا يكفي قوله : فأوضحه، ولا شبّه، حتّى يقول: هذه الموضحة وهذه الشجّة، لاحتمال غيرها أكبر أو أصغر.
----------------------------------
قوله: «ولو قال: أوضحه، ووجدنا فيه موضحتين، سقط القصاص» إلى آخره.
من جملة شرائط قبول الشهادة تعيين محلّ الجرح كالموضحة، وبيان مساحتها ليجب القصاص. فلو كان على رأسه موضحتان فصاعداً وعجز الشهود عن تعيين موضحة المشهود عليه، فلا قصاص حتّى لو لم يكن على رأسه إلّا موضحة واحدة وشهد الشهود بأنّه أوضح رأسه، فلا قصاص أيضاً؛ لجواز أن يكون عليه موضحة صغيرة فوسعها. وإنما يجب القصاص إذا قالوا: إنّه أوضح هذه الموضحة. ولكن تجب دية موضحة؛ لأنّها لا تختلف، وقد فات محلّ القصاص بالاشتباه، فتبقى الدية.
ويحتمل عدم الوجوب؛ لأنّ هذه الجراحة لو ثبتت على صفتها لوجب القصاص، وقد تعذّر إثبات القصاص، فلا تثبت الجناية أصلاً، كما لو شهد من لا تقبل شهادته في القصاص مع قبولها في المال.
ومثله ما لو شهد الشاهدان أن فلاناً قطع يد فلان ولم يعيّنا والمشهود له مقطوع اليدين.
وأمّا القول بثبوت الاقتصاص بأقل الموضحتين نظراً إلى أنّه المتيقن والزائد مشكوك فيه، فلا يخفى ضعفه؛ لمنع التيقن حينئذٍ ؛ لأنّ من شرط القصاص كونه في محلّ الجناية واشتباه الموضحة يقتضي اشتباه محلّها، فلا يعيّن (1) بشيء من ذلك.
ص: 366
• ويشترط فيهما التوارد على الوصف الواحد، فلو شهد أحدهما أنّه قتله غدوة والآخر عشيّة، أو بالسكين والآخر بالسيف، أو بالقتل في مكان معين والآخر في غيره، لم يقبل. وهل يكون ذلك لوثاً ؟ قال في المبسوط: نعم. وفيه إشكال؛ لتكاذبهما.
أماّ لو شهد أحدهما بالإقرار والآخر بالمشاهدة لم يثبت، وكان لوثاً لعدم التكاذب.
وهنا :مسائل :
الأولى: • لو شهد أحدهما بالإقرار بالقتل مطلقاً، وشهد الآخر بالإقرار عمداً، ثبت القتل، وكلّف المدّعى عليه البيان، فإن أنكر القتل لم يقبل منه؛ لأنّه إكذاب
----------------------------------
قوله: «ویشترط فيهما التوارد على الوصف الواحد، فلو شهد أحدهما أنه قتله غدوة والآخر عشيّة» إلى آخره.
عدم قبول شهادتهما مع الاختلاف المذكور واضح؛ لأن كلاً من الفعلين غير الآخر، ويمتنع وقوع القتل عليهما وأحدهما لا يثبت به القتل.
وهل يثبت بذلك لوث بحيث يحلف الوليّ مع أحدهما ؟ أثبته في المبسوط (1)؛ لصدق شهادة الواحد على ما يطابق دعوى المدعي، وسيأتي أنّ ذلك يفيد اللوث(2).
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل ذلك من حيث تكاذبهما الموجب لاطّراح شهادتهما. ولا نسلم أن شهادة الشاهد مطلقاً على وفق الدعوى موجبة للوث، بل مع عدم وجود ما ينافيها. وهو هنا موجود، ولأنّ تكاذبهما يضعف ظنّ الحاكم الذي هو مناط اللوث. وهذا هو الأظهر.
قوله: «لو شهد أحدهما بالإقرار بالقتل - إلى قوله - وإلا فالقول قول الجاني مع يمينه».
إذا شهد أحدهما بالقتل مطلقاً والآخر به عمداً، ثبت بهما أصل القتل؛ لقيام الشاهدين به،
ص: 367
للبيّنة. وإن قال : عمداً، قتل. وإن قال: خطاً وصدقه الولي، فلا بحث، وإلّا فالقول قول الجاني مع يمينه.
• ولو شهد أحدهما بالقتل عمداً والآخر بالقتل المطلق، وأنكر القاتل العمد، وادّعاه الولي، كانت شهادة الواحد لوثاً، ويثبت الولي دعواه بالقسامة إن شاء.
الثانية: • لو شهدا بقتل على اثنين، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنّهما هما القاتلان على وجه لا يتحقّق معه التبرع، أو إن تحقّق لا يقتضي إسقاط الشهادة، فإن صدّق الوليّ الأوّلين حكم له وطرحت شهادة الآخرين. وإن صدق الجميع أو صدق الآخرين سقط الجميع.
----------------------------------
دون الوصف؛ لأنّه لم يحصل به سوى شاهد واحد فلا يقبل إنكار المشهود عليه أصل القتل؛ لثبوته بالبيّنة، فيكون إنكاره تكذيباً لها.
نعم، يقبل إنكاره الوصف؛ لأن الخطأ لم يقم به بيّنة، والعمد لم يقم به سوی شاهد، فيكون القول قوله في صفته مع يمينه. فإن وافق على العمد قتل. ولو كان الولي يدعيه لم يفتقر إلى اليمين. وإن ادّعى الخطأ توقف على اليمين، ولزمه موجبه.
قوله: «ولو شهد أحدهما بالقتل عمداً والآخر بالقتل المطلق» إلى آخره.
إنّما كانت شهادة الواحد هنا لوثاً؛ لأنّه لا تكاذب بين الشهادتين، غايته أن شهادة الآخر لم تتضمّن الصفة، فيكون الأمر كما لو شهد واحد بالعمد ابتداءً من غير أن يشهد معه غيره فإنّه يكون لوثاً كما سيأتي(1)، بخلاف ما إذا تضمنت شهادة الآخر المناقضة للآخر، كما مرّ من اختلافهما في الوصف أو الزمان أو المكان (2).
وإنّما حكم باللوث على تقدير شهادتهما على أصل القتل دون الإقرار؛ لأنّ اللوث إنّما يثبت في الفعل دون الإقرار، وهذا هو الباعث على الفصل بين المسألتين.
قوله: «لو شهدا بقتل على اثنين فشهد المشهود عليهما» إلى آخره.
ص: 368
----------------------------------
إذا شهد اثنان على رجلين أنهما قتلا فلاناً، فشهد المشهود عليهما أن الأوّلين قتلاه، سُئل الولي، فإن صدق الأوّلين دون الآخرين ثبت القتل على الآخرين بشهادة الأوّلين. ولا تقبل شهادة الآخرين؛ لأن الولي يكذبهما، ولأنّهما يدفعان بشهادتهما ضرّ موجب القتل الذي شهد به الأوّلان، والدافع متهم في شهادته، ولأنّهما صارا عدوّين للأولين بشهادتهما عليهما غالباً.
وإن صدق الآخرين دون الأوّلين بطلت الشهادتان. أما شهادة الأوّلين؛ فلأنّ تصديق الآخرين يتضمن تكذيبهما. وأمّا شهادة الآخرين فلمعنى الدفع والعداوة.
وإن صدّق الفريقين جميعاً فذلك يبطل الشهادتين أيضاً؛ لأنّ في تصديق كلّ فريق تكذيب الآخر. وإن كذبهما جميعاً فهو أظهر.
واعترض على تصوير المسألة بأنّ الشهادة على القتل لا تسمع إلا بعد تقديم الدعوى، ولا بدّ في الدعوى من تعيين القاتل، فكيف يسأل المدّعي بعد شهادة الفريقين (1)؟!
وأجيب عنه بوجوه:
أحدها: أن تقديم الدعوى على الشهادة إنّما يشترط إذا كان المدعي ممّن يعبّر عن نفسه، فأمّا من لا يعبّر -كالصبيّ والمجنون - فتجوز الشهادة لهم قبل الدعوى، والمشهود له هنا لا يعبّر عن نفسه، وهو القتيل ألا ترى أنّه إذا ثبتت الدية قضي منها ديونه ونفذت وصاياه(2).
وفي هذا الجواب ذهاب إلى أن شهادة الحسبة تقبل في الدماء. وقد تقدّم إطلاق القول بأنّها لا تقبل في حقوق الآدميين المحضة أصلاً(3).
ص: 369
الثالثة: ● لو شهدا لمن يرثانه أنّ زيداً جرحه بعد الاندمال قبلت، ولا تقبل قبله؛ لتحقّق التهمة، على تردّد. ولو اندمل بعد الإقامة فأعاد الشهادة قبلت؛ لانتفاء التهمة.
ولو شهدا لمن يرثانه وهو مريض قبلت.
والفرق أنّ الدية يستحقانها ابتداءً، وفي الثانية يستحقانها عن ملك الميّت.
----------------------------------
والثاني (1): أنّ المسألة مصوّرة فيما إذا لم يعلم الولي القاتل، والشهادة قبل الدعوى مسموعة والحال هذه.
وفيه نظر؛ لإمكان إعلام الشاهد المستحقّ بالقاتل حتّى يقدّم الدعوى ثمّ يشهد الشاهد، فلا يقبل بدون ذلك.
والثالث: أن يدّعي الوليّ القتل على اثنين ويشهد بذلك شاهدان، فيبادر المشهود عليهما ويشهدا على الشاهدين بأنّهما القاتلان، وذلك يورث ريبة وشبهة للحاكم، فيراجع الولي ويسأله احتياطاً (2).
وحينئذٍ إن استمرّ على تصديق الأوّلين ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين أو صدقهم جميعاً بطلت الدعويان لتناقضهما، وبطلت الشهادات.
والرابع: إمكان تصوير المسألة فيما إذا كان قد وكل وكيلين لطلب الدم، فادّعى أحدهما على اثنين والآخر على اثنين وشهد كلّ اثنين على الآخرين(3).
وإلى هذا السؤال وأجوبته أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «على وجه لا يتحقّق معه التبرّع، أو إن تحقّق لا يقتضي إسقاط الشهادة».
قوله: «لو شهدا لمن يرثانه أنّ زيداً جرحه بعد الاندمال قبلت، ولا تقبل قبله؛ لتحقّق التهمة» إلى آخره.
ص: 370
----------------------------------
قد تقدّم في الشهادات أنّ من شرط قبول الشهادة الانفكاك عن التهمة(1)، وأن من أسباب التهمة أن يجرّ بالشهادة نفعاً إلى نفسه أو يدفع ضرراً.
فمن صور الجرّ أن يشهد على جرح مورثه قبل الاندمال؛ لأنّه لو مات كان الأرش له، فكأنّه يشهد لنفسه. ولو كان بعد الاندمال قبلت لانتفاء المانع. وكذا لو شهد قبل الاندمال ثمّ أعادها بعده؛ لانتفاء التهمة بالثانية. ولو شهد بمال آخر لمورثه في مرض الموت قبلت.
والفرق بين المال والجرح: أنّ أرش الجرح لا يثبت إلّا بعد الاستقرار، ومن جملة فروض تحقّقه أن يموت المجروح، فتكون الدية الثابتة بسبب الجرح مترتبة على شهادة المستحقّ لها، وذلك نفع،واضح بخلاف المال، فإنّه يثبت بالشهادة حالة المرض للمشهود له وإن انتقل عنه بعده للشاهد، فليست الشهادة ممّا يجرّ نفعاً لنفسه ابتداء؛ لإمكان أن يبرأ من مرضه أو يوصي به أو ينقله عن ملكه على وجه لا اعتراض فيه للوارث الشاهد.
ولبعض الشافعيّة هنا وجه بعدم القبول كالجرح، استناداً إلى أن المريض محجور في المرض بحقّ الورثة (2)، ولذلك لو وهب عين ذلك المال يعتبر من الثلث، وذلك يوجب التهمة في شهادة الوارث والأظهر عندهم الأوّل(3).
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في عدم القبول في صورة الجرح، ممّا ذكرناه، ومن إمكان مساواتها للشهادة له بالمال بدعوى أنّ الدية لا تنتقل إلى الوارث ابتداء، بل يتلقاها عن الميت، ومن ثمّ قضي منها ديونه ونفذت منها وصاياه، فيكون كالثانية.
والأظهر المنع وثبوت الفرق، ومنع استلزام اقتضاء ذلك ثبوت الدية في ملك الميت؛ لأنها لا تثبت إلا بعد الموت والميت غير قابل للملك. نعم، هو في حكم المالك لذلك. أو يقال: ثبت ذلك بالنصّ على خلاف الأصل، وإلا لكان مقتضاه عدم تعلّق ملك المقتول بها مطلقاً.
ص: 371
الرابعة : • لو شهد شاهدان من العاقلة بفسق شاهدي القتل، فإن كان القتل عمداً أو شبيهاً به أو كانا ممن لا يصل إليهما العقل حكم بهما وطرحت شهادة القتل. وإن كانا ممّن يعقل عنه لم تقبل؛ لأنهما يدفعان عنهما الغرم.
الخامسة : • لو شهد اثنان أنه قتل و آخران على غيره أنّه قتله سقط القصاص ووجبت الدية عليهما نصفين. ولو كان خطأ كانت الدية على عاقلتهما.
----------------------------------
قوله: «لو شهد شاهدان من العاقلة بفسق شاهدي القتل» إلى آخره.
هذه أيضاً من صور التهمة بدفع الضرر، فإنّ العاقلة تتحمل دية الخطأ دون العمد وشبهه. وقد يعرض انتفاء التحمّل عن العاقلة بأمرين أحدهما: الفقر. والثاني: بعد الدرجة مع قيام القريب بالدية. فإذا شهد الفقير أو البعيد الذي لا يصل إليه التوزيع، بأن يكون في القريب وفاء بالواجب، فتقبل شهادتهما في الموضعين؛ لانتفاء المانع.
وفيه وجه بالمنع؛ لأنّ الفقير يتحمّل لو أيسر، والبعيد يتحمّل لو مات القريب، فهما متهمان بدفع ضرر متوقع.
وفي ثالث بالفرق بين الأمرين، فيقبل من البعيد دون الفقير؛ لأن المال غادٍ ورائح، والغنى غير مستبعد، بل كلّ يحدّث نفسه به ويتمنّى الأماني، وموت القريب الذي يحوج الأبعد إلى التحمّل كالمستبعد في الاعتقادات، والتهمة لا تتحقّق بمثله.
والمصنّف (رحمه اللّه) اقتصر على فرض مثال البعيد خاصّة، إمّا تخصيصاً لموضع الحكم، أو على وجه المثال. وفي التحرير فرّق بين الأمرين(1). وفي القواعد استشكل الحكم فيهما (2). وعدم الفرق هو الوجه.
قوله: «لو شهد اثنان أنّه قتل، و آخران على غيره أنّه قتله» إلى آخره.
القول بسقوط القود في العمد، وثبوت الدية عليهما في العمد وشبهه وعلى العاقلة في
ص: 372
ولعلّه احتياط في عصمة الدم؛ لما عرض من الشبهة بتصادم البيّنتين.
ويحتمل هذا وجهاً آخر، وهو تخيّر الوليّ تصديق أيهما شاء، كما لو أقرّ اثنان، كلّ واحد بقتله منفرداً. والأوّل أولى.
----------------------------------
الخطأ للشيخين(1) وجماعة (2) منهم العلّامة (3): محتجّاً على الأوّل بأنّهما بيّنتان تصادمتا، وليس قبول إحداهما في نظر الشارع أولى من قبول الأخرى. ولا يمكن العمل بهما لاستلزامه وجوب قتل الشخصين معاً، وهو باطل إجماعاً، ولا العمل بإحداهما دون الأخرى لعدم الأولوية، فلم يبق إلّا سقوطهما معاً بالنسبة إلى القود؛ لأنّه تهجم على الدماء المحقونة في نظر الشرع بغير سبب معلوم ولا مظنون؛ إذ كلّ واحدة من الشهادتين تكذب الأخرى؛ ولأن القتل حدّ يسقط بالشبهة.
وأمّا الثاني وهو ثبوت الدية عليهما؛ فلئلّا يطلّ دم امرئ مسلم وقد ثبت أنّ قاتله أحدهما وجهل عينه، فيجب عليهما؛ لانتفاء المرجّح.
والوجه الآخر الذي ذكره المصنّف (رحمه اللّه) مذهب ابن إدريس (4)؛ محتجاً بقوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ، سُلْطَانًا»(5)، ونفي القتل عنهما ينافي إثبات السلطان. وبأن البيّنة ناهضة على كلّ منهما بوجوب القود فلا وجه لسقوطه. وبأنّا قد أجمعنا على أنّه لو شهد اثنان على واحد بأنّه القاتل فأقرّ آخر بالقتل يتخيّر الوليّ في التصديق والإقرار، كالبيّنة في حقّ الآدمي.
وأُجيب بأنّ الآية تدلّ على إثبات السلطان للولي مع علم القاتل لا مطلقاً، وهو منتفٍ
ص: 373
----------------------------------
هنا. والبيّنة إنّما تنهض مع عدم المعارض، وهو موجود والإجماع على المسألة المبنىّ عليها ممنوع، مع وجود الفرق بين الإقرار والبيّنة في كثير من الموارد، ومنه اشتراط تعدّد الشاهد دون الإقرار(1).
وفي هذا الأخير نظر؛ لأنّ الكلام في مساواة الإقرار الذي يثبت به الحق للبينة التي يثبت بها، وهي الشاهدان، هنا لا في مساواته للشاهد.
نعم، إلحاق حكم الإقرار الثابت بالنصّ (2) للبيّنة قياس لا نقول به مع عدم تساوي حكمهما من كلّ،وجه كما تقدّم كثيراً في تضاعيف الأحكام.
وللمصنف (رحمه اللّه) في النكت تفصيل حسن، وهو:
أنّ الأولياء إما أن يدعوا القتل على أحدهما، أو يقولوا: لا نعلم. فإن كان الأوّل قتلوه ؛ لقيام البيّنة بالدعوى، وتهدر الأخرى. وإن كان الثاني فالبيّنتان متعارضتان على الانفراد لا على مجرّد القتل فيثبت القتل من أحدهما ولا يتعيّن، والقصاص يتوقّف على تعيين القاتل فيسقط وتجب الدية ؛ لعدم أولوية نسبة القتل إلى أحدهما دون الآخر(3).
واعلم أن مقتضى عبارة الشيخين في الكتابين(4)، يدلّ على أنّ بالحكم الأوّل رواية. وبه صرّح العلّامة في التحرير(5)، ولم نقف عليها، فوجب الرجوع إلى القواعد الكلية في الباب.
ص: 374
السادسة : • لو شهدا أنه قتل زيداً عمداً فأقرّ آخر أنه هو القاتل وبرّأ المشهود عليه، فللوليّ قتل المشهود عليه، ويرد المقرّ نصف ديته، وله قتل المقر ولا ردّ، لإقراره بالانفراد، وله قتلهما بعد أن يرد على المشهود عليه نصف ديته دون المقرّ. ولو أراد الدية كانت عليهما نصفين. وهذه رواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وفي قتلهما إشكال؛ لانتفاء الشركة وكذا في إلزامهما بالدية نصفين والقول بتخيير الولىّ في أحدهما وجه قوي، غير أن الرواية من المشاهير.
----------------------------------
قوله: «لو شهدا أنه قتل زيداً عمداً فأقرّ آخر أنه هو القاتل» إلى آخره.
القول بالتفصيل المذكور في المسألة للشيخ(1) وأتباعه (2)، وابن الجنيد (3)، وأبي الصلاح(4)، وكثير من المتأخّرين.
ومستنده صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل شهد عليه قوم أنّه قتل عمداً، فدفعه الوالى إلى أولياء المقتول ليقاد به، فلم يريموا حتّى أتاهم رجل فأقرّ عند الوالي أنّه قتل صاحبهم عمداً، وأنّ هذا الذي شهد عليه الشهود بريٌ من قتل صاحبكم، فلا تقتلوه وخذوني بدمه. قال فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن أراد أولياء المقتول أن يقتلوا الذي أقرّ على نفسه فليقتلوه، ولا سبيل لهم على الآخر. ولا سبيل لورثة الذي أقرّ على نفسه على ورثة الذي شهد عليه. وإن أرادوا أن يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوه ولا سبيل لهم على الذي أقرّ. ثمّ ليؤدي الذي أقر على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية». قلت: أرأيت إن أرادوا أن يقتلوهما جميعاً؟ قال: «ذاك لهم، وعليهم أن يؤدوا إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصّة دون صاحبه، ثمّ يقتلوهما به». قلت: فإن أرادوا أن يأخذوا الدية؟
ص: 375
----------------------------------
فقال: «الدية بينهما نصفان؛ لأنّ أحدهما أقرّ والآخر شهد عليه». قلت: فكيف جعل لأولياء الذي شهد عليه على الذي أقر نصف الدية حين قتل، ولم يجعل لأولياء الذي أقرّ على أولياء الذي شهد عليه ولم يقرّ؟ فقال: «لأنّ الذي شهد عليه ليس مثل الذي أقرّ، الذي شهد عليه لم يقرّ ولم يبرئ صاحبه والآخر أقرّ وبرّأ صاحبه، فلزم الذي أقرّ وبرّأ ما لم يلزم الذي شهد عليه ولم يبرّى صاحبه»(1).
وهذه الرواية مع صحة سندها مشهورة بين الأصحاب. وردّها ابن إدريس على قاعدته وحكم بالتخيير كالمسألة السابقة (2). وقال:
لي في قتلهما جميعاً نظر؛ لعدم شهادة الشهود وإقرار المقرّ بالشركة. - قال: - أمّا لو شهدت البيّنة بالاشتراك وأقرّ الآخر به جاز قتلهما، ويرد عليهما معاً دية(3).
ونفى في المختلف عن هذا البأسَ (4)؛
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل أيضاً قتلهما كما ذكره ابن إدريس. وزاد الإشكال في إيجاب الدية عليهما نصفين؛ لعدم الاشتراك
وقال في النكت:
إن الإشكال هنا في ثلاثة مواضع:
الأوّل : لم يتخير الأولياء في القتل؟
وجوابه لقيام البيّنة على أحدهما الموجبة للقود، وإقرار الآخر على نفسه بما يبيح دمه.
الثاني: لِمَ وجب الردّ لو قتلوهما؟
وجوابه: ما تقرر من أنّه لا يقتل اثنان بواحد إلا مع الشركة، ومع الشركة يردّ فاضل الدية، وهو دية كاملة، لكن المقرّ أسقط حقّه من الردّ، فيبقى الردّ على المشهود عليه.
ص: 376
السابعة: • قال في المبسوط: لو ادّعى قتل العمد وأقام شاهداً وامرأتين ثمّ عفا لم يصح؛ لأنّه عفا عمّا لم يثبت.
وفيه إشكال؛ إذ العفو لا يتوقّف على ثبوت الحق عند الحاكم.
----------------------------------
الثالث: لِمَ إذا قتل المقرّ وحده لا يردّ المشهود عليه، بخلاف العكس؟ وجوابه: أنّ المقرّ أسقط حقّه من الردّ، والمشهود عليه لم يقرّ، فيرجع على ورثة المقرّ بنصف الدية؛ لاعترافه بالقتل وإنكار المشهود عليه.
قال: هذا كله بتقدير أن يقول الورثة: لا نعلم القاتل أما لو ادعوا على أحدهما سقط الآخر(1).
قوله: «قال في المبسوط: لو ادّعى قتل العمد وأقام شاهداً وامرأتين ثمّ عفا لم يصحّ؛ لأنّه عفا عما لم يثبت» إلى آخره.
قد عرفت الخلاف في ثبوت موجب القصاص بالشاهد والمرأتين وعدمه(2)، فإن قلنا به وعفا من أقام البيّنة كذلك عن حقه، فلا إشكال في صحة العفو؛ لثبوت حقّه وقبوله للعفو.
وإن لم نقل بثبوته بذلك فهل يصحّ عفوّه؟ نفاه في المبسوط ؛ محتجاً بأنّه عفا عمّا لم يثبت (3)، فوقع العفو لغواً.
ولا يخفى ضعفه ؛ لأنّ العفو عن الحقِّ يوجب سقوطه فيما بينه وبين اللّه تعالى وإن لم يثبت الحق عند الحاكم، كما لو عفا مدعي القتل عمداً من غير أن يقيم البيّنة.
وتظهر الفائدة في عدم سماع دعواه بعد ذلك ممّن علم منه العفو؛ لوجود المقتضي لصحته، وهو الصيغة الدالّة عليه، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلا عدم ثبوته عند الحاكم، وهو غير صالح للمانعيّة؛ لأنّ فائدة العفو إسقاط الحق بحيث تبقى ذمّة المعفوّ عنه خالية من الحقّ، ولا مدخل للحاكم في ذلك.
ص: 377
وأما القسامة، فيستدعي البحث فيها مقاصد:
ولا قسامة مع ارتفاع التهمة، وللولى إحلاف المنكر يميناً واحدةً، ولا يجب التغليظ. ولو نكل فعلى ما مضى من القولين.
واللوث أمارة يغلب معها الظنّ بصدق المدعي، كالشاهد ولو واحداً، وكما لو وجد متشحطاً بدمه وعنده ذو سلاح عليه الدم، أو في دار قوم أو في محلة منفردة عن البلد لا يدخلها غير أهلها، أو في صفّ مقابل للخصم بعد المراماة.
----------------------------------
وكذا القول في غير القصاص من الحقوق والإبراء منها في معنى العفو عنها.
قوله: «وأما القسامة، فيستدعي البحث فيها مقاصد - إلى قوله - أو في صفّ مقابل للخصم بعد المراماة».
القسامة لغةً: اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم(1).
وفي لسان الفقهاء: اسم للأيمان.
وفي الصحاح : القسامة هي الأيمان تقسم على الأولياء في الدم(2).
وعلى التقديرين فهي اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أقسم إقساماً وقسامةً وهي الاسم كما يقال: أكرم إكراماً وكرامة ولا اختصاص لها بأيمان الدماء لغةً، لكن الفقهاء خصوها بها.
وصورتها: أن يوجد قتيل في موضع لا يعرف من قتله، ولا تقوم عليه بيّنة، ويدّعي الوليّ على واحد أو جماعة، ويقترن بالواقعة ما يشعر بصدق الوليّ في دعواه، ويقال له: «اللوث» فيحلف على ما يدّعيه، ويحكم بما سيذكر.
ص: 378
ولو وجد في قرية مطروقة أو خلّة من خلال العرب أو في محلة منفردة مطروقة وإن انفردت، فإن كان هناك عداوة فهو لوث، وإلّا فلا لوث؛ لأنّ الاحتمال متحقّق هنا.
----------------------------------
والأصل فيه ما روي أنّ عبد اللّه بن سهل ومحيصة بن مسعود (رضي اللّه عنهما) خرجا إلى خيبر فتفرّقا لحاجتهما، فقتل عبد اللّه، فقال محيصة لليهود أنتم قتلتموه. فقالوا: ما قتلناه. فانطلق هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخ المقتول (رضي اللّه عنه) إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فذكر وا له قتل عبد اللّه بن سهل، فقال: «تحلفون خمسين يميناً، وتستحقّون دم صاحبكم». فقالوا: يا رسول اللّه لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «فتحلف لكم اليهود». فقالوا: كيف نقبل الأيمان من قوم كفّار ؟ فوداه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة. فقال سهل: لقد ركضتني منهم ناقة حمراء (1).
وفي رواية أخرى: يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمّته (2).
وفي رواية أخرى عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر إلّا في القسامة»(3).
ثمَّ القسامة خالفت غيرها من أيمان الدعاوي في أُمور، منها: كون اليمين ابتداء على المدّعي. وتعدد الأيمان فيها. وجواز حلف الإنسان لإثبات حقّ غيره، ولنفي الدعوى عن (حقّ)(4)، غيره. وعدم سقوط الدعوى بنكول من توجهت عليه اليمين إجماعاً، بل تردّ
ص: 379
ولو وجد بين قريتين فاللوث لأقربهما إليه. ومع التساوي في القرب فهما سواء في اللوث.
أمّا من وجد في زحام على قنطرة أو بئر أو جسر أو مصنع فديته على بيت المال. وكذا لو وجد في جامع عظيم أو شارع.
وكذا لو وجد في فلاة. ولا يثبت اللوث بشهادة الصبي ولا الفاسق، ولا الكافر ولو كان مأموناً في نحلته.
نعم، لو أخبر جماعة من الفساق أو النساء مع ارتفاع المواطأة أو مع ظنّ ارتفاعها كان لوثاً. ولو كان الجماعة صبياناً أو كفّاراً لم يثبت اللوث ما لم يبلغوا حدّ التواتر.
ويشترط فى اللوث خلوصه عن الشك، فلو وجد بالقرب من القتيل ذو سلاح متلطَّخ بالدم مع سبع من شأنه قتل الإنسان بطل اللوث؛ لتحقّق الشك.
----------------------------------
اليمين على غيره ولو لم يجتمع شروطها. فالحكم فيها كغيرها من الدعاوي في اليمين كيفية وكمّيّة، عملاً بالعموم ووقوفاً فيما خالف الأصل على مورده. فهذا هو القول الجملي في القسامة.
ولمّا كان اللوث قرينة حال تثير الظن، وتوقع في القلب صدق المدعي ذكر له طرق:
منها: أن يوجد قتيل في قبيلة أو حصن أو قرية صغيرة أو محلّة منفصلة عن البلد الكبير، وبين القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة، فهو لوث في حقهم، حتّى إذا ادّعى الولي القتل عليهم أو على بعضهم كان له أن يقسم. وهكذا كان الحال في قصة عبد اللّه بن سهل، فإنّ أهل خيبر كانوا أعداء للأنصار.
ومنها: تفرّق جماعة عن قتيل في دار كان قد دخل عليهم ضيفاً، أو دخلها معهم في حاجة، فهو لوث.
ومنها: إذا وجد قتيل وعنده رجل معه سلاح متلطخ بالدم، فهو لوث.
ص: 380
• ولو قال الشاهد: قتله أحد هذين كان لوثاً، ولو قال: قتل أحد هذين لم يكن لوثاً. وفي الفرق تردّد.
----------------------------------
ولو كان بقربه سبع أو رجل آخر مول ظهره، لم يوجب ذلك اللوث في حقّه.
ولو رأينا من بعد رجلاً يحرّك يده، كما يفعل من يضرب بالسيف أو السكّين، ثمّ وجدنا في الموضع قتيلاً، فهو لوث في حقّ ذلك الرجل.
ومنها: إذا شهد عدل أنّ فلاناً قتل فلاناً، فهو لوث.
ولو شهد جماعة ممن تقبل روايتهم كالعبيد والنسوة وأفاد خبرهم الظن فهو لوث، وإن احتمل التواطؤ على الكذب، كاحتماله في شهادة العدل.
وإن لم تقبل روايتهم، كالصبيّة والفسقة وأهل الذمّة، فالمشهور عدم إفادة قولهم اللوث؛ لأنّه غير معتبر شرعاً. ولو قيل بثبوته مع إفادته الظنّ كان حسناً؛ لأنّ مناطه الظن وهو قد يحصل بذلك.
ولو أفاد قولهم التواتر فلا شبهة في ثبوته، بل ينبغي على هذا أن يثبت القتل أيضاً؛ لأنّ التواتر أقوى من البيّنة.
نعم لو أخبروا بأنّ القاتل أحد هذين ونحو ذلك، افتقر تعيين الولي أحدهما إلى القسامة.
قوله: «ولو قال :الشاهد قتله أحد هذين كان لوثاً» إلى آخره.
إذا شهد شاهد أو شاهدان بأن فلاناً قتله أحد هذين ثبت اللوث في حقّهما، حتّى إذا عين الولى أحدهما وادّعى عليه كان له أن يقسم كما لو تفرّق اثنان أو جماعة عن قتيل، كما على التصوير الذي سبق.
ولو انعكس فقال الشاهد: إن فلاناً قتل أحد هذين القتيلين، لم يكن لوثاً؛ لأن ذلك لا يوقع في القلب صدق وليّ أحدهما إذا ادّعى القتل عليه بالتعيين.
هكذا ذكر الشيخ (رحمه اللّه) فارقاً بما ذكر(1). والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في الفرق.
ص: 381
• ولا يشترط في اللوث وجود أثر القتل على الأشبه.
• ولا في القسامة حضور المدعى عليه.
----------------------------------
وتردّده يحتمل إرادة تساوي الأمرين في إثبات اللوث وعدمه.
والظاهر هو الثاني؛ لاشتراكهما في الإبهام المانع من حصول الظن بالمعين. وبهذا صرّح العلّامة (1) وغيره من نقلة المسألة.
والظاهر هو الفرق؛ لأنّ قول الشاهد إن الشخص المعين قتل أحد هذين يثير الظنّ بكونه قاتلاً من غير اعتبار التعيين فحلف أحد الوليين بأنّه القاتل يوافق ما ظن فيه، بخلاف شهادته على أحد الرجلين أنّه قاتل المعين، فإنّه لا يحصل الظن بأحدهما على الخصوص ليثبت عليه القتل.
قوله: «ولا يشترط في اللوث وجود أثر القتل على الأشبه».
لا يشترط في القسامة ظهور الجراحة والدم ولا يبطل اللوث بالخلو عنهما عندنا وعند الأكثر؛ لأنّ القتل قد يحصل بالخنق وعصر الخصية والقبض على مجرى النفس، فإذا ظهر أثر الخنق أو العصر أو الضرب الشديد قام ذلك مقام الجراحة والدم.
وقال أبو حنيفة:
إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة. وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة. وإن وجد الدم دون الجراحة، فإن خرج من أنفه فلا قسامة، وإن خرج من العين أو الأذن ثبتت القسامة (2).
وبعض الشافعية اعتبر العلم بأنه قتيل، سواء كان بالجرح أم بغيره (3). وعموم الأدلّة يدلّ على عدم اشتراط ذلك كله.
قوله: «ولا في القسامة حضور المدعى عليه».
بناءً على القضاء على الغائب، وهو مذهب الأصحاب. ومن منعه اشترط حضوره
ص: 382
مسألتان:
الأولى: • لو وجد قتيلاً في دار فيها عبده كان لوثاً، وللورثة القسامة؛ لفائدة التسلّط بالقتل، أو لا فتكاكه بالجناية لو كان رهناً.
----------------------------------
وفي التحرير: الأقرب عدم اشتراط حضوره(1). وهو يشعر بخلاف عندنا.
وفي العامّة من منع منه (2) مع تجويزه القضاء على الغائب (3): محتجاً بأن اللوث ضعيف لا يعوّل عليه إلا إذا سلم عن قدح الخصم، وإنما يوثق بذلك مع حضوره.
وهذا يناسب القول المرجوح في التحرير، وإن قلنا بالقضاء على الغائب.
قوله: «لو وجد قتيلاً في دار فيها عبده كان لوثاً، وللورثة القسامة» إلى آخره.
قد عرفت أنّ وجوده قتيلاً في دار قوم يوجب عليهم اللوث خاصّة(4). ولا يفترق الحال بكون أهل الدار أحراراً وعبيداً للمقتول وغيره. فلو كان في الدار عبد المقتول خاصّة ثبت عليه اللوث. فإن أقسم الولي ثبت عليه القتل إن كان عمداً عندنا، وهي فائدة القسامة. ولو أرادوا استرقاقه فلهم ذلك.
وتظهر الفائدة حينئذٍ في افتكاكه من الرهن لو كان مرهوناً، فإنّ حقّ المجني عليه مقدم على حقّ الراهن، كما تقدّم في بابه(5).
ونبه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث منع من القسامة هنا لو كان القتل عمداً (6)؛ لأنّه لا تسلّط عنده بها على القتل، بل تثبت الدية، وهي لا تثبت على المملوك لمولاه، فإذا لم يكن مرهوناً انتفت الفائدة.
ص: 383
الثانية: • لو ادّعى الوليّ أن واحداً من أهل الدار قتله، جاز إثبات دعواه بالقسامة. فلو أنكر كونه فيها وقت القتل، كان القول قوله مع يمينه ولم يثبت اللوث؛ لأن اللوث يتطرّق إلى من كان موجوداً في تلك الدار، ولا يثبت ذلك إلّا بإقراره أو البيّنة.
[المقصد ] الثاني • في كميّتها
وهي في العمد خمسون يميناً. فإن كان له قوم حلف كلّ واحد يميناً إن كانوا عدد القسامة، وإن نقصوا عنه، كرّرت عليهم الأيمان حتّى يكملوا القسامة.
وفي الخطأ المحض والشبيه بالعمد خمس وعشرون يميناً.
----------------------------------
قوله: «لو ادّعى الوليّ أن واحداً من أهل الدار قتله» إلى آخره.
إذا ثبت اللوث على جماعة محصورين في الجملة، كما لو وجد قتيلاً في دار أو شهد الشاهد بقتله فيها، وأراد الولي إثبات دعواه بالقسامة على بعض أهلها، فادّعى عدم حضوره، فالقول قوله مع يمينه، ويسقط اللوث؛ لأنّ الأصل براءة ذمته. وعلى المدعي البيّنة على حضوره حينئذٍ أو على إقراره بالحضور، ولم يكن ذلك منافياً للوث الأوّل: لأنّه أثبت القتل على من كان حاضراً لا على الغائب، وقد ثبت غيبة المدعى عليه شرعاً. وهذا واضح.
قوله: «في كميتها: وهي في العمد خمسون يميناً - إلى قوله - والخمس والعشرون في الخطا».
لا خلاف في أنّ الأيمان في العمد خمسون يميناً، وفي الخبر السابق (1) المروي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما يدلّ عليه.
ص: 384
ومن الأصحاب من سوّى بينهما، وهو أوثق في الحكم، والتفصيل أظهر في المذهب.
ولو كان المدّعون جماعة، قسمت عليهم الخمسون بالسويّة في العمد والخمس والعشرون في الخطا.
----------------------------------
وأمّا في الخطأ ففيه قولان: المساواة، ذهب إليه من الأصحاب المفيد (1) وسلّار (2) وابن الجنيد (3) وابن إدريس(4)، وجماعة آخرون(5)، بل ادّعى عليه ابن إدريس إجماع المسلمين (6). و مستنده عموم النصوص وإطلاقها،
كالخبر السابق. ويشكل بأنه حكاية حال فلا يعم. وبأنّ ظاهره بل بعض عباراته يقتضي أن القتل وقع عمداً.
وذهب الشيخ (7) وأتباعه(8) والمصنّف والعلّامة في أحد قوليه(9) إلى أنها فيه خمسة وعشرون؛ لصحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «القسامة خمسون رجلاً في العمد، وفي الخطأ خمسة وعشرون رجلاً، وعليهم أن يحلفوا باللّه»(10).
وحسنة يونس عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جعل القسامة في النفس على العمد
ص: 385
• ولو كان المدعى عليهم أكثر من واحد ففيه تردّد، أظهره أنّ على كلّ واحد خمسين يميناً كما لو انفرد؛ لأنّ كلّ واحد منهم تتوجه عليه دعوى بانفراده.
أمّا لو كان المدعى عليه واحداً فأحضر من قومه خمسين يشهدون ببراءته، حلف كلّ منهم يميناً. ولو كانوا أقلّ من الخمسين كرّرت عليهم الأيمان حتّى يكملوا العدد.
ولو لم يكن للولى قسامة ولا حلف هو كان له إحلاف المنكر خمسين يميناً إن لم تكن له قسامة من قومه. وإن كان له قوم كان كأحدهم.
----------------------------------
خمسين رجلاً، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلا»(1). والتفصيل قاطع للشركة.
والمصنّف (رحمه اللّه) جعل التسوية أوثق في الحكم، والتفصيل أظهر في المذهب. وهو حسن.
إذا تقرر ذلك، فإنّه يبدأ أوّلاً بالمدعي وقومه، وهم أقاربه، فإن بلغوا العدد المعتبر وحلف كلّ واحد منهم يميناً، أو لم يبلغوا فكرّرت عليهم بالتسوية أو التفريق ثبت القتل.
ولو عدم قومه أو امتنعوا أو امتنع بعضهم؛ لعدم علمه بالحال أو اقتراحاً، حلف المدّعي ومن يوافقه منهم العدد. ولا فرق بين كون القوم ممّن يرث القصاص والدية وكانوا هم المدّعين، أو غير وارثين، أو بالتفريق.
قوله: «ولو كان المدعى عليهم أكثر من واحد ففيه تردّد، أظهره أن على كلّ واحد خمسين يميناً كما لو انفرد» إلى آخره.
إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد، فإن حلف المدعي وقومه كفاه الحلف خمسين أو ما في حكمها اتّفاقاً.
وإن توجّهت اليمين على المدعى عليهم، ففي اشتراط حلف كلّ واحد منهم العدد
ص: 386
• ولو امتنع عن القسامة ولم يكن له من يقسم ألزم الدعوى وقيل له ردّ اليمين على المدعي.
----------------------------------
المعتبر، أو الاكتفاء بحلف الجميع للعدد قولان للشيخ أوّلهما في المبسوط(1)، وثانيهما، في الخلاف محتجاً بإجماع الفرقة وأخبارهم وأصالة براءة الذمّة من الزائد (2).
وأصحّهما الأوّل؛ لأنّ الدعوى واقعة على كلّ واحد منهم بالدم، ومن حكمها حلف المنكر خمسين.
ووجه الثاني: أن المدعى به جناية واحدة؛ لاتّحاد موضوعها، وقد قدر الشارع عليها خمسين يميناً، فيقسّط عليهم كما يقسط على قوم المدعى عليه لو كان واحداً.
والفرق بين الأمرين واضح، فإنّ كلّ واحد من المدعى عليهم ينفي عن نفسه ما ينفيه الواحد، وهو القود، فلهذا يحلف كلّ منهم ما يحلفه الواحد إذا انفرد، وليس كذلك المدّعي؛ لأنّ الكلّ سواء يثبتون ما يثبته الواحد إذا انفرد. وبهذا فرّق الشيخ في المبسوط (3)، خلاف ما ذكره في الخلاف (4).
قوله: «ولو امتنع عن القسامة ولم يكن له من يقسم ألزم الدعوى» إلى آخره.
القول بردّ اليمين على المدّعى على تقدير امتناع المدعى عليه وقومه عن اليمين للشيخ في المبسوط (5)؛ عملاً بعموم القاعدة حيث لا يقضى بالنكول.
والأصحّ إلزام المدّعى عليه بالدعوى حينئذٍ، إما بناء على القضاء بالنكول، أو لأن اليمين إنّما وجبت على المنكر هنا بامتناع المدعي عنها، فلا تعود إليه بغير اختياره.
وعلى قول الشيخ تكفي يمين واحدة كغيره، اقتصاراً بالقسامة على موردها، وهو حلف المدّعي ابتداء والمنكر بعده.
ص: 387
• وتثبت القسامة في الأعضاء مع التهمة. وكم قدرها؟ قيل خمسون يميناً احتياطاً إن كانت الجناية تبلغ الدية، وإلا فنسبتها من خمسين يميناً.
وقال آخرون: ست أيمان فيما فيه دية النفس، وبحسابه من ستّ فيما فيه دون الدية. وهي رواية أصلها ظريف.
----------------------------------
ويفهم من قوله «ولم يكن له من يقسم» أنّ حلف القوم كافٍ عن حلف المنكر مع وجوده. وهو أحد الوجهين في المسألة؛ لأنّ الشارع اكتفى فى هذا الباب بحلف الإنسان لإثبات حقّ غيره أو إسقاط حقّ عنه، ولم يعتبر خصوصية الحالف، بل جعل يمين القوم قأئمّة مقام يمينه.
وقيل (1): لا يكفي قسامة القوم عن أحدهما، وإنّما يكتفى بها منضمة إليه، وقوفاً فيما خالف الأصل - وهو حلف الإنسان لإثبات مال غيره أو نفي الحق عنه - على موضع اليقين، وهو مساعدته عليها لا الاستقلال بها.
قوله: «وتثبت القسامة في الأعضاء مع التهمة - إلى قوله - وهي رواية أصلها ظريف».
اختلف الأصحاب في القسامة على الأعضاء مع اللوث، فذهب الأكثر إلى أنها كالنفس فيما فيه الدية كاللسان والأنف واليدين وبنسبتها من الخمسين فيما ديته دون ذلك. ففي اليد الواحدة خمس وعشرون وفي الإصبع خمس وهكذا.
وذهب الشيخ (2) وأتباعه (3) إلى أنها ست أيمان فيما فيه الدية، وبحسابه من ست فيما دون ذلك.
ومستنده رواية ظريف بن ناصح في كتابه المشهور في الديات، عن عبد اللّه بن أيوب، عن أبي عمرو المتطبب قال: عرضت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما أفتى به أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 388
ويشترط في القسامة علم المقسم، ولا يكفي الظنّ.
• وفي قبول قسامة الكافر على المسلم تردّد، أظهره المنع.
----------------------------------
في الديات، ومن جملته في القسامة جعل في النفس على العمد خمسين رجلاً، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلاً، وعلى ما بلغت ديته من الجوارح ألف دينار ستة نفر، فما كان دون ذلك فبحسابه من ستة نفر»(1). الحديث.
وفي طريقه ضعف وجهالة، فالعمل بالأوّل أحوط وأقوى.
قوله: «وفي قبول قسامة الكافر على المسلم تردّد، أظهره المنع».
القول بثبوت قسامة الكافر على المسلم للشيخ في المبسوط؛ محتجاً بعموم الأخبار (2)، غير أنّه لا يثبت القود، وإنّما يثبت به المال(3). ورجحه في المختلف (4).
وذهب في الخلاف إلى العدم(5). ووافقه العلّامة في القواعد والتحرير (6). وهو الذي اختاره المصنّف؛ استناداً إلى أنّ مورد النصّ كان في قسامة المسلم(7)، فإثباته في غيره يحتاج إلى الدليل، والأصل براءة الذمّة من القتل.
ولأنّ القسامة في العمد يثبت بها القود، وهو منفي هنا بموافقة الخصم. وإيجاب الدية ابتداءً على المسلم بيمين الكافر إضرار به من حيث إنّ الكفّار يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ولأنّ استحقاق القسامة سبيل، ولا شيء من السبيل بثابت للكافر على المسلم بالآية(8).
ص: 389
• ولمولى العبد مع اللوث إثبات دعواه بالقسامة، ولو كان المدعى عليه حراً؛ تمسكاً بعموم الأحاديث
----------------------------------
وأجاب في المختلف ب:
أنّ أصالة البراءة إنما يعمل بها ما لم يظهر المضادّ، وقد ظهر؛ لأن ثبوت اللوث ينفي ظن استصحاب أصالة البراءة. ودليل إثبات القتل على المسلم عمومات الأخبار الدالّة على إثبات القتل بالقسامة كما في الأموال(1)، وكما لا يجوز تخصیص عموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الیمین على المنكر»(2) كذا هنا.
والملازمة الأُولى - وهي وجوب القود لو ثبت بيمينهم - ممنوعة؛ لأن القتل قد يثبت بالبيّنة إجماعاً ولا يثبت به القود بل المال والملازمة الثانية منقوضة بدعوى المال مع الشاهد الواحد(3).
وبهذا يظهر جواب السبيل المنفي، فإنّ إثبات الكافر حقاً على المسلم بطريق شرعي سائغ إجماعاً، وهذا منه وهذا أظهر.
قوله: «ولمولى العبد مع اللوث إثبات دعواه بالقسامة» إلى آخره.
لما كان مناط القسامة إثبات القتل المحرّم لم يفرّق في المقتول بين كونه حراً ومملوكاً؛ عملاً بعموم النصوص(4) الدالّة على هذا الحكم. فيقسم المولى لإثبات قتل عبده عبده وأمته مع اللوث، سواء كان القاتل عبداً ليثبت عليه القود وغيره، أم حراً ليثبت عليه المال.
وربما قيل في العبد المملوك بالاكتفاء في إثبات قتله بيمين واحدة، من حيث إنه مال يضمن للمولى كسائر الأموال، فيكفي فيه اليمين الواحدة اعتباراً بالمالية.
والمذهب هو الأوّل.
ص: 390
• ويقسم المكاتب في عبده كالحرّ.
• ولو ارتد الولي منع القسامة. ولو خالف وقعت موقعها؛ لأنّه لا يمنع الاكتساب. ويشكل هذا بما أنّ الارتداد يمنع الإرث، فيخرج عن الولاية، فلا قسامة.
----------------------------------
وفي القواعد استشكل الحكم(1). وعبارة الكتاب أيضاً تشعر بالخلاف، وهو غير متحقّق وإن كان محتملاً.
قوله: «ويقسم المكاتب في عبده كالحرّ».
لأنّ الحالف بالأصالة كلّ من يستحق بدل الدم والمكاتب داخل فيه؛ لأنّه إذا قتل عبده استعان بقيمته على أداء النجوم، ولا يقسم مولاه؛ لانتفاء ولايته عن المكاتب ورقيقه كما مرّ(2)، بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون، فإنّ المولى يقسم دون المأذون؛ لأنّه لا حقّ له فيه والمكاتب صاحب حقّ في عبده.
فإن عجز قبل أن يقسم ويعرض عليه اليمين أقسم المولى. وإن عجز بعد ما عرضت اليمين ونكل لم يقسم المولى لبطلان الحق بنكوله، كما لا يقسم الوارث إذا نكل الموروث ولكن يحلف المدّعى عليه. ولو عجز المكاتب بعد ما أقسم أخذ السيّد الدية كما لو مات، وكما إذا مات الولي بعد ما أقسم.
قوله: «ولو ارتدّ الولي منع القسامة - إلى قوله - وإلّا قنع بما يعرف معه القصد».
القول بأنّ المرتدّ يمنع من القسامة ويقع منه لو خالف للشيخ في المبسوط، فإنّه قال:
والأُولى أن لا يمكّن الإمام من القسامة مرتدّاً ؛ لئلّا يقدم على يمين كاذبة، فمن خالف وقعت موقعها؛ لعموم الأخبار (3)، وقال شاذ: لا يقع، وهو غلط؛ لأنّه اكتساب، فهو غير ممنوع منه في مدة الإمهال وهي ثلاثة أيّام(4) .
ص: 391
ويشترط في اليمين ذكر القاتل والمقتول، والرفع في نسبهما بما يزيل الاحتمال، وذكر الانفراد أو الشركة، ونوع القتل.
أمّا الإعراب، فإن كان من أهله كلّف، وإلا قنع بما يعرف معه القصد.
----------------------------------
هذه عبارته، وصدرها يشمل المرتدّ بقسميه، وتعليله أخيراً يدلّ على إرادة المرتدّ عن ملة؛ لأنّ الفطري لا يمهل ولا يصلح للاكتساب؛ لأنّه لا يملك شيئاً، وينتقل ماله عنه إلى وارثه.
والمصنّف (رحمه اللّه) أورد عليه بأنّ الحالف لا بد أن يكون ولياً، والولاية هنا ولاية الإرث والارتداد مانع من الإرث.
ويظهر من قوله «ويشكل بما إذا كان الارتداد يمنع من الإرث» أن كلام الشيخ شامل للأمرين، وأنّ الإيراد بالفطري أو بهما حيث يكون الارتداد قبل قتل المقسم عليه، فإنّ المرتدّ بقسميه لا يرث المسلم وهو إيراد على إطلاق كلام الشيخ.
والحامل له على الإطلاق كذلك ممّا علم من قاعدته في الكتاب من حكاية كلام المخالف واختيار ما يوافق مذهبه، وعند المخالف أنّ المرتدّ قسم واحد، وأنّه يقبل الاكتساب(1)، فلذا أطلقه وعلّله بما ذكر.
ثمَّ تعليله على مذهبه يدلّ على تخصيصه بالملّي في مدة الإمهال، وظاهره أيضاً أنّ الارتداد مفروض بكونه بعد قتل المقسم على قتله، أما قبله فيمنع الولي من القسامة ؛ لعدم الإرث.
وعلى هذا فلا يتوجه ما أورده عليه؛ لأنّ المرتدّ عن ملة بعد قتل المقسم عليه قد انتقل إرثه إلى المرتدّ قبل ارتداده وصار كسائر حقوقه وأمواله، فلا يصدق منع الإرث، كما لو ارتد أحد الوارثين بعد موت المورّث، فإنّه لا يخرج عن كونه وارثاً، بل إذا كان ملياً وقتل
ص: 392
• وهل يذكر في اليمين أن النية نية المدعي ؟ قيل: نعم؛ دفعاً لتوهم الحالف. والأشبه أنّه لا يجب.
----------------------------------
أو مات مرتدّاً ورث عنه ما كان ورثه عن موّرثه.
وإنّما يتّجه الإيراد لو كان الشيخ قال بالقسامة في المرتدّ قبل القتل، لكنّه فرق بين الحالتين.
فظهر أنّ موضع النزاع المرتدّ عن ملة، وكون الارتداد واقعاً بعد القتل، وأنّ المانع من قسامته كفره، كما يمنع الكافر من القسامة على المسلم في أحد القولين، ولعدم وقوعها بإذن الحاكم؛ إذ الحاكم لا يجيبه إلى الحلف، ومن ثمّ فرضت فيما لو خالف إلّا أن يفرض جهل الحاكم بردّته فيستحلفه ثمّ يظهر أنّه مرتدّ، أو يعلّل بأن المرتدّ محجور عليه في تصرفاته، واليمين من جملتها، فلا تقع موقعها. والأظهر أنّ قسامة المرتدّ مطلقاً لا أثر لها.
قوله: «وهل يذكر في اليمين أنّ النّية نيّة المدّعي ؟ قيل: نعم؛ دفعاً لتوهم الحالف. والأشبه أنّه لا يجب».
القول بأنّ الحالف يذكر في يمينه أن النية نية المدعي - بمعنى أن التورية فيه لا تفيده - للشيخ (رحمه اللّه) (1): دفعاً لتوهم الحالف جواز التورية في اليمين، فيقدم عليها بالتأويل مع كونه كاذباً فيها.
والأصحّ عدم اشتراط ذلك؛ لأنّ كون النّية نيّة المدّعي حكم شرعي ثابت في اليمين سواء قال الحالف ذلك أم لا. ولا دليل على اشتراط التعرّض لذكره.
ودفع التوهّم يحصل بتنبيه الحاكم عليه لمن لا يعرف حكمه قبل الإحلاف والأصل براءة الذمّة عمّا عدا ذلك.
ص: 393
• لو ادّعى على اثنين وله على أحدهما لوث حلف خمسين يميناً، ويثبت دعواه على ذي اللوث، وكان على الآخر يمين واحدة، كالدعوى في غير الدم. ثمّ إن أراد قتل ذي اللوث ردّ عليه نصف ديته.
ولو كان أحد الوليين غائباً وهناك لوث حلف الحاضر خمسين يميناً، ويثبت حقّه، ولم يجب الارتقاب.
----------------------------------
قوله: «لو ادّعى على اثنين وله على أحدهما لوث» إلى آخره.
قد عرفت أنّ أيمان القسامة مشروطة باللوث، فإذا تعدد المدعى عليه وكان اللوث حاصلاً في الجميع حلف المدعي القسامة، وثبت القتل عليهما أو عليهم، وترتب عليه حكم القاتل المتعدّد.
وإن اختصّ اللوث بالبعض حلف القسامة على من حصل اللوث في جانبه، ولم يكن له أن يحلف لإثبات القتل على الآخر؛ لأنّه منكر، والدعوى مع عدم اللوث كغيرها في أنّ اليمين على المنكر ابتداء، وهي يمين واحدة عندنا(1)، فإذا حلف ثبت القتل على ذي اللوث بالاشتراك وإن لم يثبت على الشريك. فللوليّ قتله مع دفع ما زاد عن جنايته من الدية، عملاً باعتراف الولي بالشركة.
ولو نكل المدّعى عليه بدون اللوث عن اليمين حلف المدعي يميناً واحدة لإثباته عليه. وفي دخوله في جملة الخمسين أو كونه خارجاً عنها القولان السابقان فيما إذا تعدّد المدّعى عليه.
قوله: «ولو كان أحد الوليين غائباً وهناك لوث حلف الحاضر» إلى آخره.
إذا تعدّد الوليّ أو كان له قوم كفى حلف الجميع خمسين يميناً موزّعة عليهم، ولا يثبت
ص: 394
ولو حضر الغائب حلف بقدر نصيبه وهو خمس وعشرون يميناً. وكذا لو كان أحدهما صغيراً.
----------------------------------
الحقّ بدون مجموع الأيمان. فإذا امتنع الحلف من الشريك لمانع الغيبة أو الصغر أو غيرهما، اعتبر في ثبوت الحق حلف الباقين تمام العدد المعتبر. فإذا كان الولي اثنين وأحدهما غائب، تخيّر الحاضر بين أن يصبر إلى أن يحضر الغائب فيحلف كلّ واحد بقدر حصّته، وبين أن يحلف في الحال خمسين يميناً ويأخذ قدر حقّه.
فلو كان الورثة اثنين فإذا قدم الثاني حلف نصف الأيمان.
ولو كانوا ثلاثة أحدهم غائب، فإذا قدم حلف ثلث الأيمان، وهو سبع عشرة بجبر ما انكسر.
ولو كانوا أربعة أحدهم حاضر حلف خمسين وأخذ ربع الدية، إن كانت هي موجب الجناية، فإذا قدم الثاني حلف خمساً وعشرين، فإذا قدم الثالث حلف سبع عشرة، فإذا قدم الرابع حلف ثلاث عشرة. وإن فرض خامس، فإذا قدم حلف عشر أيمان.
ولو كان اثنان من الأربعة حاضرين واثنان غائبين حلف كلّ واحد من الحاضرين خمساً وعشرين، وإذا قدم الثالث والرابع فالحكم على ما ذكرناه. وإن قدم الغائبان معاً حلف كلّ واحد منهما ثلاث عشرة.
ونظير المسألة ما إذا حضر أحد الشركاء، فإنّه يأخذ جميع المبيع بالشفعة، فإذا قدم آخر شاركه وجعل بينهما نصفين، فإذا حضر ثالث شاركهما وجعل بينهما أثلاثاً.
ولو قال الحاضر: لا أحلف إلّا بقدر حصتي، لم يبطل حقّه من القسامة، حتّى إذا قدم الغائب يحلف معه، بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر: لا آخذ إلّا قدر حصتي، حيث يبطل حقّه من الشفعة.
والفرق أنّ الشفعة إذا تعرّضت للأخذ فالتأخير تقصير مفوّت؛ بناءً على الفورية، واليمين في القسامة لا تبطل بالتأخير.
ص: 395
• ولو أكذب أحد الوليين صاحبه لم يقدح ذلك في اللوث، وحلف لإثبات حقّه خمسين يميناً.
----------------------------------
ولو كان في الورثة صغير أو مجنون فالبالغ العاقل كالحاضر، والصبي والمجنون كالغائب، في جميع ما ذكرناه.
ولو حلف الحاضر أو البالغ خمسين، ثمّ مات الغائب أو الصبي وورثه الحالف، لم يأخذ نصيبه إلّا بعد أن يحلف بقدر(1) حصّته، ولا يحسب ما مضى؛ لأنّه لم يكن مستحقاً له حينئذٍ.
قوله: «ولو أكذب أحد الوليين صاحبه لم يقدح ذلك في اللوث» إلى آخره.
إذا كان للّذي هلك وارثان فقال أحدهما قتل مورّثنا فلان، وقد ظهر عليه اللوث، وقال الآخر: إنّه لم يقتله بل كان غائباً يوم القتل، وإنّما قتله فلان، أو اقتصر على نفي القتل عنه، أو قال: إنّه برئ من الجراحة ومات حتف أنفه، فهل يبطل تكذيبه اللوث، ويمنع الأوّل من القسامة؟ فيه وجهان:
أصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - لا، كما أنّ سائر الدعاوي لا تسقط بتكذيب أحد الوارثين حقّ الآخر. ولأنّ اللوث دلالة تنقل اليمين إلى جهة المدعي. فتكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من اليمين، كما لو ادّعى أحد الوارثين ديناً للمورّث وأقام عليه شاهداً واحداً وكذبه الثاني، فإنّ التكذيب لا يمنعه من أن يحلف مع شاهده.
وأيضاً فلو كان أحد الوارثين صغيراً أو غائباً كان للبالغ الحاضر أن يقسم، مع احتمال التكذيب من الثاني إذا بلغ أو قدم.
والثانى أنّه يبطل اللوث؛ لأنّ إنكار الثانى يدلّ على أنه ليس بقاتل، فإن النفوس مجبولة على الانتقام من قاتل المورّث، وإذا انخرم ظنّ القتل بطلت القسامة.
وفرّقوا بين الشاهد واليمين وبين ما نحن فيه بأن شهادة الشاهد محقّقة وإن كذب الآخر، وهي حجّة في نفسها، واللوث ليس بحجّة، وإنما هو ظنّ مرجّح، وبتكذيبه يبطل ذلك الظنّ.
ص: 396
----------------------------------
وفيما إذا كان أحدهما صغيراً أو غائباً لم يوجد التكذيب الجازم للظنّ فكان كما لو ادّعى أحدهما ولم يساعد الآخر ولم يكذب، فإن للمدّعي أن يقسم اتّفاقاً.
فعلى المختار من عدم بطلان اللوث بالتكاذب للمدعي أن يقسم خمسين يميناً ويأخذ حقّه من الدية، وهو النصف.
ولو قال أحد الابنين قتل أبانا زيد وقال الآخر بل عمرو، وقلنا لا يبطل اللوث بالتكاذب، أقسم كلّ واحد على من عيّنه وأخذ نصف الدية، أو قتله ودفعها حيث يكون موجباً للقود.
ولو قال أحدهما قتل أبانا زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه، فلا تكاذب بينهما؛ لاحتمال أنّ الذي أبهم هذا ذكره هو الذي عينه الآخر وبالعكس، فلكلّ منهما أن يقسم على من عينه ويأخذ منه ربع الدية إن أوجب الدية؛ لاعترافه بأنّ الواجب على من عينه نصف الدية، وحصته منه نصفه.
ثمّ إن عاد (1) وقال كلّ واحد منهما قد تبيّن لي أنّ الذي أبهمت ذكره هو الذي عينه الآخر. وكذلك العكس، فلكل واحد أن يقسم على الآخر ويأخذ ربعاً آخر.
ولو قال كلّ منهما الذي أبهمت ذكره ليس الذي عينه أخي، حصل التكاذب، فإن قلنا تبطل القسامة ردّ إلى كلّ واحد منهما ما أخذ بها، وإلّا أقسم كلّ واحد منهما على من عينه ثانياً، وأخذ منه ربع الدية حيث تكون هي الواجب.
ولو قال الذي عيّن زيداً: تبين لي أن الذي أبهمت ذكره عمر و الذي عيّنه أخي، وقال الذي عين عمراً: تبين لي أنّ الذي أبهمت ذكره رجل آخر لا زيد، فالذي عين عمراً لم يكذبه أخوه، فله أن يقسم على عمرو ويأخذ منه الربع، والذي عيّن زيداً كذّبه أخوه فيبني على الوجهين.
ص: 397
وإذا مات الوليّ قام وارثه مقامه. فإن مات في أثناء الأيمان، قال الشيخ: يستأنف الأيمان؛ لأنّه لو أتم لا يثبت حقّه بيمين غيره.
----------------------------------
ولو قال أحد الابنين: قتل أبانا زيد وحده، وقال الآخر: قتله زيد وعمرو بالشركة، فإن قلنا إن التكاذب لا يبطل القسامة أقسم الأوّل على زيد وأخذ منه نصف الدية، وأقسم الثاني عليهما وأخذ من كلّ واحد ربع الدية.
وإن قلنا إنه يبطلها فالتكاذب هنا في النصف. وهل يؤثر في بطلان اللوث والقسامة في الكلّ ؟ يحتمله، كما إذا شهد لشخصين فردّت شهادته لأحدهما. وإن بعضنا الشهادة فكذلك تتبعض القسامة.
ويحتمل أن يقسم الأوّل على زيد ويأخذ منه الربع؛ لأنّ ما بقي فيه اللوث من حصته النصف، والثاني يقسم عليه ويأخذ الربع، ولا يقسم على عمرو؛ لأنّ أخاه كذبه في الشركة.
قوله: «وإذا مات الولى قام وارثه مقامه» إلى آخره.
إذا مات الوليّ في أثناء القسامة فقد أطلق الشيخ (رحمه اللّه) الحكم بأن الوارث يستأنف ولا يبني؛ لأنّ الأيمان كالحجة الواحدة، ولا يجوز أن يستحق أحد شيئاً بيمين غيره(1). وليس كما إذا جنّ ثمّ أفاق، فإنّ الحالف واحد، ولا كما إذا قام شطر البيّنة ثمّ مات حيث يضمّ وارثه إليه الشطر الثاني، فلا يستأنف؛ لأن شهادة كلّ شاهد مستقلة منفردة عن شهادة الآخر، ألا ترى أنه إذا انضمت اليمين إليها قد يحكم بهما، وأيمان القسامة لا استقلال لبعضها، ولهذا لو انضم إليها شهادة شاهد لا يحكم بهما.
ونسبة المصنّف (رحمه اللّه) القول إلى الشيخ تؤذن بردّه أو توقّفه فيه.
ووجهه أنّ أيمان القسامة يبنى بعضها من واحد على بعضها من الآخر، وإذا كان الحقّ يثبت للمقتول والورثة يحلفون بحكم الخلافة، وضممنا يمين بعض الورثة إلى بعض لإثبات الحق للموروث، فأولى أن يكمل يمين المورّث في إثبات حقّه بيمين الوارث.
ص: 398
مسائل:
الأولى: • لو حلف مع اللوث واستوفى الدية ثمّ شهد اثنان أنه كان غائباً في حال القتل غيبة لا يتقدّر معها القتل، بطلت القسامة واستعيدت الدية.
الثانية: • لو حلف واستوفى الدية، ثمّ قال: هذه حرام، فإن فسّره بكذبه في اليمين استعيدت، وإن فسّر بأنّه لا يرى القسامة لم يعترضه. وإن فسر بأنّ الدية ليست ملكاً للباذل، فإن عيّن المالك، ألزم دفعها إليه، ولا يرجع على القاتل بمجرّد قوله، وإن لم يعيّن أُقرت في يده.
----------------------------------
قوله: «لو حلف مع اللوث واستوفى الدية ثمّ شهد اثنان أنه كان غائباً» إلى آخره.
لأنّ اللوث أمر ظنّي، فإذا ثبت بالبيّنة ما ينافيه قدّمت البيّنة. ومثله ما لو قامت البيّنة أنّ القاتل غيره، أو أقرّ المدّعى عليه.
ولو قال الشهود لم يقتله هذا واقتصروا عليه لم تقبل شهادتهم. ولو كان محبوساً أو مريضاً بحيث لا يمكن استناد القتل إليه عادة، وإن أمكن بضرب من الحيلة، فالأظهر أنه كالغيبة لانخرام الظنّ بالقتل.
قوله: «لو حلف واستوفى الدية، ثمّ قال: هذه حرام، فإن فسّره بكذبه في اليمين استعيدت» إلى آخره.
إذا اعترف بأنّ ما أخذه من الدية بالقسامة حرام، سئل عن معناه؛ لأنّ له محتملات كثيرة. فإن فسّره بكذبه في الدعوى على المدعى عليه بطلت قسامته، وردّ المال عليه.
وإن فسّر بأنّه حنفي لا يرى القسامة وتحليف المدعي ابتداء، لم تبطل القسامة؛ لأنّها تثبت باجتهاد الحاكم، فيقدم على اعتقاده ولا يعترض إلا أن يردّ المال باختياره تورّعاً، فيجوز أخذه منه.
وإن فسّر بأنّ المال مغصوب وعين المالك، ألزم بالدفع إليه. وليس له رجوع على الغريم
ص: 399
الثالثة: • لو استوفى بالقسامة، فقال آخر: أنا قتلته منفرداً، قال في الخلاف: كان الولي بالخيار. وفي المبسوط ليس له ذلك؛ لأنّه لا يقسم إلا مع العلم، فهو مكذب للمقرّ.
----------------------------------
إن كذّبه في ذلك؛ لأنّه لا يثبت كونه لغيره بإقرار غيره. وإن صادقه لزمه إبداله.
وإن لم يعيّن المستحقّ أقرّ في يده، ولا يطالب بالتعيين. ولو رأى الحاكم أخذه منه؛ لأنّه مال مجهول المالك، جاز.
قوله: «لو استوفى بالقسامة فقال آخر: أنا قتلته منفرداً، قال في الخلاف كان الوليّ بالخيار» إلى آخره.
إذا استوفى بالقسامة فأقرّ آخر غير المحلوف عليه أنه قتله منفرداً، فإن كذبه الحالف فلا
إشكال في عدم رجوعه عليه. وإن صدقه ففي جواز رجوعه عليه قولان للشيخ. ففي المبسوط : أنّ الحكم كما لو كذبه؛ لأنّه مكذب ليمينه، إذ لا قسامة إلّا مع العلم عندنا(1)، فكيف يدّعي علمه بأن الأوّل قاتل ثمّ يصدق الثاني ؟
وفي الخلاف يتخيّر (2)، أما في المحلوف عليه فباليمين، وأمّا في الآخر فلعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(3).
وأجيب عن الأوّل بأنّ كذب الحالف ممكن. وإكذابه نفسه إنما لم يسمع إذا تضمّن إنزال ضرر بالغير، لا بمجرّد إقرار ذلك الغير، وهنا لم يضطر الثاني بغير إقراره، ولأنّه لو أقرّ بقبض وديعة من المستودع فأنكر، ثمّ رجع عن إقراره كان له مطالبة المستودع، لاعترافه. ولو أقرّ له بشيء فأنكر تملكه، ثمّ عاد وادّعاه قبل. فحينئذٍ لا تنافي بين الإقرار بالمنافي والرجوع عنه (4).
ص: 400
الرابعة: • إذا اتّهم والتمس الولي حبسه حتّى يحضر بينة، ففي إجابته تردّد.
ومستند الجواز ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ النبيّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يحبس في تهمة الدم ستّة أيّام، فإن جاء الأولياء ببيّنة، وإلا خلّى سبيلهم». وفي السكوني ضعف.
----------------------------------
وفيه نظر؛ لأنّ غاية هذا أن يجوز الرجوع على الثاني، أما التخيير بمجرّد الشهوة فلا. نعم، لو أكذب نفسه وأراد الرجوع على المقر ينبغي أن لا يمنعه الشارع، لتمكّن المقرّ له بإقراره، كنظائره السابقة وغيرها.
وعلى التقديرين، إذا أكذب نفسه وجب عليه ردّ ما أخذه من المحلوف عليه، وإن لم نقل برجوعه على المقرّ ؛ لاعترافه بعدم استحقاقه شيئاً على الأوّل
قوله: «إذا اتهم والتمس الولي حبسه حتّى يحضر بينة» إلى آخره.
القول بحبس المتهم بالدم ستة أيّام للشيخ (1) وأتباعه (2)، استناداً إلى الرواية (3) المذكورة. وإطلاق الدم يشمل الجرح والقتل.
وتقييد المصنّف بالتماس الولي خلاف إطلاق الرواية وفتوى الشيخ.
ووجه التقييد: أنّ ذلك حقّ المدعي، فلا يفعل إلا بالتماسه.
والمصنّف (رحمه اللّه) استضعف طريق الرواية. وابن إدريس ردّها رأساً؛ لمخالفتها للأدلّة(4)، من تعجيل العقوبة قبل ثبوت موجبها.
وفي المختلف اختار الحبس مع حصول التهمة في نظر الحاكم؛ عملاً بالرواية، وتحفّظاً للنفوس عن الإتلاف، لا مع حصولها لغيره؛ عملاً بالأصل(5).
ص: 401
• قتل العمد يوجب القصاص لا الدية، فلو عفا الوليّ على مال لم يسقط القود، ولم تثبت الدية إلا مع رضى الجاني. ولو عفا ولم يشترط المال سقط القود ولم تثبت الدية.
ولو بذل الجاني القود لم يكن للولي غيره. ولو طلب الدية فبذلها الجاني صحّ، ولو امتنع لم يجبر ولو لم يرضَ الولى بالدية، جاز المفاداة بالزيادة.
----------------------------------
وابن حمزة اختار الحبس ثلاثة أيّام(1). ولا شاهد له هنا، وإن علّق عليها بعض الأحكام، كمدّة إمهال المرتدّ والشفيع.
والأصحّ عدم الحبس قبل ثبوت الحق مطلقاً.
قوله: «قتل العمد يوجب القصاص لا الدية - إلى قوله - جاز المفاداة بالزيادة».
كون الواجب في قتل العمد بالأصالة هو القود لا غير هو المشهور بين الأصحاب، منهم الشيخان (2) والأتباع (3) والمتأخّرون(4)، فلا تثبت الدية عندهم إلّا صلحاً. ومتى اختار وليّ المقتول الدية لم يستحقّها إلا برضى الجاني عليه، ولا يجب عليه إجابته إليها.
وقال ابن الجنيد:
إنّ لوليّ المقتول عمداً الخيار بين أن يقتص، أو يأخذ الدية أو يعفو عن الجناية. ولو شاء
ص: 402
ولا يقضى بالقصاص ما لم يتيقّن التلف بالجناية. ومع الاشتباه يقتصر على القصاص في الجناية لا في النفس.
----------------------------------
الوليّ أخذ الدية وامتنع القاتل عمداً من ذلك وبذل نفسه للقود، كان الخيار إلى الولي. ولو هرب القاتل فشاء الوليّ أخذ الدية من ماله حكم بها له. وكذلك القول في جراح العمد. وليس عفو الولي والمجني عليه عن القود مسقطاً حقّه من الدية(1).
حجة المشهور قوله تعالى: «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» (2)، وقوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصَاصُ» (3). وعموم قوله تعالى: «فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(4)، وقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّم»(5).
وصحيحة الحلبي وعبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سمعته يقول: «من قتل مؤمناً متعمداً قيد به، إلّا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية فإن رضوا بالدية وأحبّ ذلك القاتل فالدية اثنا عشر ألفاً» (6). الحديث.
ورواية جميل بن درّاج، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «العمد كلّ ما عمد به الضرب ففيه القود»(7).
ولأنّه متلف يجب به البدل من جنسه فلا يعدل إلى غيره إلّا بالتراضي، كسائر المتلفات.
وحجّة ابن الجنيد ما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إمّا أن يفدي وإمّا أن يقتل»(8).
ص: 403
----------------------------------
وفي رواية أخرى عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من أصيب بدم أو خبل - والخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : إمّا أن يقتصّ، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه» (1).
ورواية العلاء بن الفضيل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «والعمد هو القود أو رضى وليّ المقتول»(2).
ولأنّ وليّ الدم إذا رضي بالدية وأمكن القاتل دفعها كان ذلك ذريعة إلى حفظ نفسه، فيجب عليه حفظها، كما يجب عليه افتداؤها بالمال مع القدرة حيث يتوقّف عليه مطلقاً.
ومستند المشهور أصح سنداً، فإنّ الروايتين عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عامينان، وفي طريق الثالثة محمد بن سنان، ومحمد بن عيسى عن يونس، وحالهما مشهور.
إذا تقرّر ذلك، فلازم القول الأوّل أنّ وليّ المقتول إذا طلب المال يتخير الجاني بين دفعه وتسليم نفسه للقصاص. وأنه لو عفا على مال لم يصحّ عفوه بدون رضى القاتل؛ لأن حقّه ليس هو المال، وعفوه لم يقع مطلقاً. وأنه لو عفا مطلقاً سقط القود، ولم تلزم الدية؛ لأنّها ليست واجبة له بالأصالة، أو أحد أفراد الحقّ (3) حتّى يوجب إسقاط أحدهما بقاء الآخر.
وخالف في ذلك ابن الجنيد كما حكيناه عنه، وابن أبي عقيل حيث قال: فإن عفا الأولياء عن القود لم يقتل، وكان عليه الدية لهم جميعاً (4).
ووجهه ما أشرنا إليه من أن الواجب عندهم أحد الأمرين، فإذا عفا عن أحدهما بقي الآخر.
ص: 404
• ويرث القصاص من يرث المال عدا الزوج والزوجة فإن لهما نصيبهما من الدية في عمد أو خطأ.
وقيل: لا يرث القصاص إلا العصبة، دون الإخوة والأخوات من الأم ومن يتقرب بها. وهو الأظهر.
• وقيل: ليس للنساء عفو ولا قود.
• وكذا يرث الدية من يرث المال والبحث فيه كالأوّل، غير أنّ الزوج والزوجة يرثان من الدية على التقديرات.
----------------------------------
وعلى التعليل الأخير يجب على القاتل بذل ما يرضى به ولي الدم وإن زاد عن الدية، مع تمكنه منه؛ لوجوب حفظ نفسه الذي لا يتم إلا بذلك.
قوله: «ويرث القصاص من يرث المال عدا الزوج والزوجة» إلى آخره.
قد تقدم البحث في هذه المسألة في الميراث (1)، وأنّ القول الأوّل هو الأظهر.
قوله: «وقيل: ليس للنساء عفو ولا قود».
القول بذلك للشيخ في المبسوط (2) وكتابي الأخبار؛ استناداً إلى رواية أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ليس للنساء عفو ولا قود»(3).
وفي الطريق ضعف. والأقوى أن من يرث فله العفو، ذكراً كان أم أنثى.
قوله: «وكذا يرث الدية من يرث المال والبحث فيه كالأوّل» إلى آخره.
الخلاف في وارث الدية كما سبق في القصاص، والحكم واحد، غير أنّ الزوجين لا يرثان القصاص إجماعاً. والأصحّ أنهما يرثان من الدية كغيرهما من الوراث. وقد تقدّم البحث فيه ثمّة(4).
ص: 405
• وإذا كان الوليّ واحداً جاز له المبادرة. والأُولى توقّفه على إذن الإمام. وقيل: تحرم المبادرة ويعزّر لو بادر. وتتأكّد الكراهية في قصاص الطرف.
----------------------------------
قوله: «وإذا كان الوليّ واحداً جاز له المبادرة. والأُولى توقّفه على إذن الإمام» إلى آخره.
القول بتوقف استيفاء القصاص مطلقاً على إذن الإمام للشيخ في المبسوط والخلاف (1)، واختاره العلّامة في القواعد (2) ؛ لأنّه يحتاج في إثبات القصاص واستيفائه إلى النظر والاجتهاد، لاختلاف الناس في شرائط الوجوب وفي كيفية الاستيفاء، ولأنّ أمر الدماء خطير، فلا وجه لتسلّط الآحاد عليه، ولأنّه عقوبة تتعلق ببدن الآدمي، فلا بد من مراجعة الحاكم كحدّ القذف.
واختار الأكثر - ومنهم الشيخ في المبسوط (3) أيضاً، والعلّامة في القول الآخر(4) - جواز الاستقلال بالاستيفاء، كالآخذ بالشفعة وسائر الحقوق ولعموم قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليّهِ، سُلْطَانَا»(5). فتوقّفه على الإذن ينافي إطلاق السلطنة.
ثمّ اختلف قولا (6) الشيخ على تقدير التوقف في تعزيره مع المخالفة وعدمه، فأثبته في المبسوط، ونفاه في الخلاف.
والذي يناسب تحريم المبادرة بدون الإذن ثبوت التعزير لفعل المحرّم كغيره. ويتأكّد الحكم فيه وجوباً واستحباباً في الطرف؛ لأنّه بمثابة الحدّ، وهو من فروض الإمام. ولجواز التخطي مع كون المقصود معه بقاء النفس، بخلاف القتل، ولأن الطرف في معرض السراية. ولئلا تحصل مجاحدة.
ص: 406
• وإن كانوا جماعة لم يجز الاستيفاء إلّا بعد الاجتماع، إما بالوكالة أو بالاذن لواحد. وقال الشيخ (رحمه اللّه): يجوز لكلّ منهم المبادرة ولا يتوقّف على إذن الآخر، لكن يضمن حصص من لم يأذن.
----------------------------------
قوله: «وإن كانوا جماعة لم يجز الاستيفاء إلا بعد الاجتماع، إما بالوكالة أو بالإذن لواحد» إلى آخره
ما تقدّم حكم ما إذا اتحد الولي، أما مع تعدده فهل يتوقّف على اجتماع الأولياء في الاستيفاء، أم يجوز لكلّ منهم المبادرة إليه؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو الذي ذهب إليه الشيخ(1) - الجواز مع ضمان حصص الباقين ؛ لتحقّق الولاية لكل واحد بانفراده فيتناوله العموم (2)، ولبناء القصاص على التغليب، ومن ثمّ لا يسقط بعفو البعض عندنا على مال أو مطلقاً، بل للباقين الاقتصاص، مع أن القاتل قد أحرز بعض نفسه، فهنا أولى.
والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - المنع، كما لا ينفرد باستيفاء تمام الدية؛ لأنّه حقّ مشترك فيتوقّف تحصيله على اجتماعهم كغيره من الحقوق التي لا يمكن فصل حقّ بعض المستحقين عن بعض.
وعلى هذا، فلو بادر أحد الوليّين (3) وقتل الجاني بغير إذن الآخر ففي وجوب القصاص عليه وجهان:
أصحّهما أنّه لا يجب؛ لأنّه صاحب حقّ في المستوفى، وذلك شبهة دارئة للعقوبة. ولاختلاف العلماء في جواز القتل، وهو أيضاً شبهة دارثة للعقوبة.
والثاني: يجب؛ لأنّه استوفى أكثر من حقّه فيلزمه القصاص فيه، كما لو استحق الطرف
ص: 407
----------------------------------
فاستوفى النفس، ولأنّ القصاص لهما، فإذا قتله أحدهما فكأنّه أتلف نصف النفس متعدّياً، وهو سبب يوجب القصاص، كما إذا قتل الاثنان واحداً.
ويتفرّع على الوجهين أنا إن أوجبنا القصاص على الابن القاتل وجبت دية الأب في تركة الجاني، إن قلنا إن قوات محلّ القصاص يوجبها؛ لأنّه لم يقع هنا قتل الجاني قصاصاً. كما لو قتله أجنبي، فإذا فات القصاص وجبت الدية على ذلك التقدير. فإن اقتصّ وارث الجاني من الابن القاتل، أخذ وارث المقتصّ منه والابن الآخر الدية من تركة الجاني، وكانت بينهما نصفين. وإن عفا على الدية، فللأخ الذي لم يقتل نصف الدية في تركة الجاني، وللأخ القاتل النصف، وعليه دية الجاني بتمامها.
ويقع الكلام في التقاص، فقد يصير النصف بالنصف قصاصاً، ويأخذ وارث الجاني النصف الآخر. وقد يختلف القدر، بأن يكون المقتول أوّلاً رجلاً والجاني(1) امرأة، فيحكم في كلّ منهما بما تقتضيه الحال.
وإذا قلنا بالأصحّ ولم نوجب القصاص على الابن القاتل فلأخيه نصف الدية؛ لفوات محلّ القصاص.
وممّن يأخذ أخو القاتل النصف الذي وجب له؟ فيه أوجه:
أحدها: من أخيه القاتل؛ لأنّه صاحب حقّ في القصاص، فإذا بادر إلى القتل فكأنّه استوفى حقّ أخيه مع حقّ نفسه، كما إذا أودع إنسان وديعة ومات عن ابنين، فأخذها أحدهما وأتلفها من غير تفريط المودع، فإنّ الآخر يرجع بضمان نصيبه عليه لا على المودع.
وثانيها: أنّه يأخذ من تركة الجاني؛ لأنّ القاتل فيما وراء حقّه كالأجنبي، ولو قتله أجنبي لأخذ الوارث الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي، فكذلك هنا.
ص: 408
----------------------------------
ويخالف مسألة الوديعة من حيث إن الوديعة غير مضمونة على المودع، حتّى لو تلفت بآفة فلا ضمان، ولو أتلفها أجنبي غرّمه المالك، ونفس الجاني مضمونة، حتّى لو مات أو قتله أجنبي تؤخذ الدية من تركته.
ولأنّه لو كانت دية المقتول أوّلاً أقلّ من دية القاتل، بأن كان مسلماً والجاني ذمّي فقتله أحد ابني المسلم، فالواجب على الابن القاتل نصف دية الذمّي، والثابت لأخ القاتل نصف دية المسلم، فإن قلنا إنه يأخذ حقّه من أخيه لم يكن له أن يأخذ مجموع حقه، ولا أن يأخذ منه ومن ورثة الجاني ؛ لأنّ أخاه هو الذي أتلف جميع حقه، فلا رجوع له على غيره.
وثالثها: أنّه يتخيّر بين أن يأخذ حقّه من أخيه ومن تركة الجاني تنزيلاً لهما منزلة الغاصب والمتلف من يده. وهذا قوي، وهو الذي رجّحه في القواعد(1)، وولده في الشرح(2).
ويتفرّع على الأوّل: أن من لم يستوف لو أبرأ أخاه برئ، ولو أبرأ وارث الجاني لم يصحّ؛ لأنّه لا حقّ له عليه.
ولو أبرأ وارث الجاني الابن القاتل من الدية، لم يسقط النصف الذي ثبت عليه لأخيه. وأمّا النصف الثابت للوارث فيبنى على أنّ التقاصّ هل يحصل في الديتين بنفس الوجوب أم لا ؟ فإن قلنا به فالعفو لغو، وكما وجبا سقطا. وإن قلنا لا يحصل حتّى يتراضيا صحّ الإبراء، وسقط ما وجب للوارث على الابن القاتل ويبقى للابن القاتل النصف في تركة الجاني.
وإن قلنا إنّ حقّ الذي لم يقتل في تركة الجاني لا على أخيه، فلوارث الجاني على الابن القاتل دية تامة، وله في تركة الجاني نصف الدية، فيقع النصف في التقاص، ويأخذ وارث الجاني منه النصف. وإبراء الذي لم يقتل أخاه لاغ؛ لأنّه لا شيء له عليه. ولو أبرأ وارث الجاني صحّ.
ص: 409
• وينبغي للإمام أن يحضر عند الاستيفاء شاهدين فطنين احتياطاً، ولإقامة الشهادة إن حصلت مجاحدة.
وتعتبر الآلة؛ لئلا تكون مسمومة، خصوصاً في قصاص الطرف. ولو كانت مسمومة فحصلت منها جناية بسبب السمّ ضمنه.
----------------------------------
ولو أسقط وارث الجاني الدية عن الابن القاتل، فإن قلنا: يحصل التقاصّ بنفس الوجوب فقد سقط النصف كما وجب، ويؤثر الإسقاط في النصف الآخر، فلا يبقى لأحدهما على الآخر شيء. وإن قلنا: لا يقع التقاصّ إلّا بالتراضي سقط حقّ الوارث بإسقاطه، وبقي للابن القاتل نصف الدية في تركه الجاني.
قوله: «وينبغي (1) للإمام أن يحضر عند الاستيفاء - إلى قوله - كانت الأجرة على المجنى عليه».
في هذه الجملة مسائل:
إحداها: يستحبّ للإمام أن يحضر عند استيفاء القصاص شاهدين عارفين بمواقعه وشرائطه، احتياطاً في الدماء، وليشهدا إذا أنكر المقتص الاستيفاء، ولئلا يحتاج إلى القضاء فيه بعلمه على تقدير أن يكون الترافع إليه، فيخرج من عارض التهمة المستندة إلى القضاء بعلمه.
الثانية: لا يجوز الاستيفاء بالآلة المسمومة؛ لأنّه يفسد البدن، وقد يفضي إلى القطع وعسر الغسل والدفن؛ ولما فيه من هتك الحرمة. ولو لم يحصل ذلك منه عادة إلّا بعد الدفن احتمل جوازه وإن كره؛ لأنّه ليس فيه زيادة عقوبة وتفويت والأُولى عموم المنع.
ولو كان القصاص في الطرف فلا إشكال في تحريمه؛ لأنّ المقصود معه بقاء النفس، والسمّ يجهز عليه غالباً.
ص: 410
ويمنع من الاستيفاء بالآلة الكالة؛ تجنّباً للتعذيب. ولو فعل أساء ولا شيء عليه. ولا يقتصّ إلّا بالسيف.
ولا يجوز التمثيل به بل يقتصر على ضرب عنقه، ولو كانت جنايته بالتغريق أو بالتحريق أو بالمثقل أو بالرضخ.
----------------------------------
ولو فرض استيفاؤه بالمسموم فمات المقتص منه فلا قصاص؛ لأنّه مات من مستحقّ وغير مستحقّ. ويجب نصف الدية على المستوفي إن كان هو الوليّ.
ولو علم أنّ مثله يوجب الموت اقتصّ منه بعد أن يردّ عليه نصف الدية. ولو كان المستوفي غير الوليّ فالضمان على الولي إن دفع إليه الآلة المسمومة وهو لا يعلم. ولو علم فكالوليّ.
الثالثة: التفحّص عن حال السيف ليكون الاقتصاص بالصارم لا بالكال(1) المعذّب.
وقد روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» (2). ولو فعل بالكالّ أساء ولا شيء عليه، ولكن يعزّر على فعل المحرّم.
ولو قتل الجاني بسيف كال قتل بالصارم عند الأصحاب؛ عملاً بالعموم (3). ويحتمل جواز قتله بالكالّ حينئذٍ ؛ لعموم الأمر بالعقوبة المماثلة (4).
الرابعة: يتعيّن الاستيفاء بضرب العنق بالسيف، سواء كانت جنايته به أم بغيره من التغريق والتحريق والضرب بالحجر وغيرها عند أكثر الأصحاب(5)، لأنّ المقصود القود بإزهاق الروح، وهو متحقّق بذلك، والزيادة عليه مثلة منهي عنها (6).
ص: 411
وأجرة من يقيم الحدود من بيت المال فإن لم يكن بيت مال أو كان هناك ما هو أهمّ، كانت الأجرة على المجني عليه.
----------------------------------
وقال ابن الجنيد: يجوز قتله بمثل القتلة التي قتل بها (1)؛ لقوله تعالى: «فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(2).
وما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «من حرّق حرّقناه، ومن غرق غرّقناه»(3).
وروي أنّ يهوديّاً رضخ رأس جارية بالحجارة، فأمر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فرضخ رأسه بالحجارة (4).
ولأنّ المقصود من القصاص التشفّي، وإنما يكمل إذا قتل القاتل بمثل ما قتل به. وهذا القول لا بأس به، وإن كان الأشهر خلافه. وعلى تقديره يستثنى ثلاث صور:
الصورة الأُولى : إذا قتله بالسحر، فإنّه يقتص منه بالسيف؛ لأن عمل السحر محرّم، ولعدم انضباطه واختلاف تأثيراته.
الصورة الثانية: إذا قتل باللواط وكان ممّا يقتل غالباً أو قصده به، فإنّه يقتل بالسيف؛ لأنّه قتل بفعل محرّم في نفسه، فيقتل بالسيف كما لو كان قتل بالسحر. وفي وجه لبعض الشافعية أنّه يدسّ خشبة قريبة من آلته ويقتل بها (5)؛ تحقيقاً للمماثلة بقدر الإمكان.
الصورة الثالثة: إذا أوجره خمراً حتّى مات، وكان ذلك على وجه يوجب القصاص، فإنّه يقتل بالسيف بتقريب ما ذكر. ومثله ما لو وجره بولاً أو شيئاً نجساً. وفي مثل ذلك الوجه
ص: 412
• ولا يضمن المقتص سراية القصاص. نعم، لو تعدّى ضمن. فإن قال: تعمّدت اقتصّ منه في الزائد. وإن قال: أخطأت أخذت منه دية العدوان. ولو خالفه المقتص منه في دعوى الخطأ، كان القول قول المقتص مع يمينه.
وكلّ من يجري بينهم القصاص في النفس يجري في الطرف.
ومن لا يقتصّ له في النفس لا يقتصّ له في الطرف.
----------------------------------
أنّه يوجر مائعاً آخر من ماء أو خل أو شيء مرّ إلى أن يموت.
الخامسة: لينصب الإمام من يقيم الحدود ويستوفي القصاص بإذن المستحقين له ويرزقه من بيت المال. فإن لم يكن عنده منه شيء أو احتاج إليه لما هو أهم منه كالجهاد، ففى ثبوت أجرته على المقتص أو المقتص منه قولان:
أحدهما - وهو الذي قطع به المصنّف - الأوّل ؛ لأنّه لمصلحته ، والواجب على الجاني تسليم نفسه لا نفس القتل.
والثاني : أنّها على المقتص منه؛ لأنها حقّ مؤونة يلزمه توفيته(1)، فتلزمه تلك المؤونة، كما تلزم أجرة الكيال على البائع وأجرة وزّان الثمن على المشتري. ولعلّ هذا أظهر.
وعلى هذا، فلو قال الجاني: أنا اقتصّ من نفسي ولا أُؤدّي الأجرة، ففي تحقيق تمكينه منه وجهان، من حصول الغرض، وكون المقصود التشفّي وهو لا يتمّ بذلك. وربما علّل بأنّه لا يقع على الوجه المطلوب شرعاً، فإنه إذا مسته الحديدة مرّت يده ولم يحصل الزهوق إلا بأن يعذب نفسه تعذيباً شديداً، وهو ممنوع منه.
قوله: «ولا يضمن المقتص سراية القصاص - إلى قوله كان- القول قول المقتصّ مع يمينه».
إذا اقتصّ الوليّ أو غيره بإذن الإمام أو حيث تجوز المبادرة إليه بدونه، فلا ضمان على
ص: 413
وهاهنا مسائل:
الأولى: • إذا كان له أولياء لا يولّى عليهم كانوا شركاء في القصاص، فإن حضر بعض وغاب الباقون، قال الشيخ للحاضر الاستيفاء بشرط أن يضمن حصص الباقين من الدية وكذا لو كان بعضهم صغاراً.
وقال: لو كان الوليّ صغيراً وله أب أو جدّ لم يكن لأحد أن يستوفي حتّى يبلغ سواء كان القصاص في النفس أو في الطرف. وفيه إشكال.
وقال : يحبس القاتل حتّى يبلغ الصبي ويفيق المجنون. وهو أشدّ إشكالاً من الأوّل.
----------------------------------
المستوفي لما يحصل بسرايته، حيث لا يتعدى الحق الثابت له؛ لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل ولا جراحة»(1).
وحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أيما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له»(2).
وعن زيد الشحام قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قتله القصاص هل له دية؟ قال: «لو كان ذلك لم يقتص من أحد»(3).
هذا إذا لم يزد عن حقّه، وإلّا لزمه الزائد قصاصاً مع العمد ودية مع الخطأ. والقول قوله في أحد الوصفين؛ لأنّ ذلك لا يعلم إلّا من قبله.
قوله: «إذا كان له أولياء لا يولّى عليهم - إلى قوله - وهو أشد إشكالاً من الأول».
قد تقدم القول في جواز مبادرة أحد الأولياء بدون إذن الباقين(4)، سواء كان غيره
ص: 414
الثانية: إذا زادوا على الواحد فلهم القصاص.
• ولو اختار بعضهم الدية وأجاب القاتل جاز. فإذا سلّم سقط القود على رواية.
والمشهور أنّه لا يسقط، وللآخرين القصاص بعد أن يردوا عليه نصيب من فاداه.
----------------------------------
حاضراً أم غائباً وأنّه يضمن حصّتهم من الدية.
وإنّما الإشكال على تقدير كون الولي مولّى عليه في تأخير الاستيفاء إلى أن يبلغ، فمنشؤه من أنّ الحق له وهو قاصر عن أهلية الاستيفاء، فيتعيّن تأخيره إلى أن يكمل، ومن أنّ الوليّ مسلّط على استيفاء حقوقه مع المصلحة، وهذا منها. وهو أقوى.
ثمَّ على القول بالمنع فقد حكم الشيخ بحبس القاتل إلى أن يكمل المولّى عليه (1). وهو عند المصنّف (رحمه اللّه) أشدّ إشكالاً من السابق؛ لأنّ الواجب على القاتل بأصل الشرع هو القود أو الدية على تقدير الاتّفاق عليها كما مرّ(2)، فالحبس عقوبة خارجة عن الموجب، ولا موجب لها، ومن أنّ فيه حفظاً لحقّ الطفل وترفقاً به والأصحّ الأوّل.
قوله: «ولو اختار بعضهم الدية وأجاب القاتل «جاز» إلى آخره.
المشهور بين الأصحاب أنّ عفو بعض الأولياء على مال وغيره لا يسقط حقّ الباقين من القود ولكن على من أراد القصاص أن يردّ على المقتول بقدر نصيب من عفا من ديته؛ لأصالة بقاء الحق، وعموم قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانا»(3). والولاية صادقة على كلّ واحد.
ولصحيحة أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قتل وله أب وأم وابن، فقال الابن: أنا أريد أن أقتل قاتل أبي، وقال الأب: أنا أعفو، وقالت الأمّ: أنا آخذ الدية.
ص: 415
• ولو امتنع من بذل نصيب من يريد الدية جاز لمن أراد القود أن يقتصّ بعد ردّ نصیب شریکه.
----------------------------------
فقال: «فليعط الابن أم المقتول السدس من الدية، ويعطي ورثة القاتل السدس من الدية حقّ الأب الذي عفا، وليقتله»(1).
والرواية الدالّة على سقوط القود بعفو البعض متعدّدة، وكأنه أراد بها الجنس.
ومنها: صحيحة عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجلين قتلا رجلاً عمداً، وله وليّان فعفا أحد الوليّين، فقال: «إذا عفا بعض الأولياء درئ عنهما القتل، وطرح عنهما من الدية بقدر حصص من عفا، وأديا الباقي من أموالهما إلى الذين لم يعفوا»(2).
وقريب منها رواية زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3)، وغيرهما (4).
وليس فيها تصريح بطلب الآخر الدية، بل بالعفو، إلّا أنّ موجب العمد لمّا كان هو القصاص فطلب الدية عفو عن القود مع العوض، أو عفو عنه مطلقاً إن جعلنا الواجب أحد الأمرين والعمل على المشهور.
قوله: «ولو امتنع من بذل نصيب من يريد الدية جاز» إلى آخره.
أي امتنع القاتل أن يدفع إلى من عفا على مال نصيبه من الدية، لم يمنع ذلك الولي الآخر من القود، بل له أن يقتص منه، وإن منعنا من مبادرة أحد الشريكين بدون إذن الآخر؛ لأنّ عفو شريكه على الدية أسقط حقّه من القود.
ص: 416
• ولو عفا البعض لم يسقط القصاص، وللباقين أن يقتصوا بعد ردّ نصيب من عفا على القاتل.
----------------------------------
ولو لم يكن صرّح بالعفو بل اقتصر على طلب الدية، احتمل توقف مبادرة شريكه على إذنه على القول باشتراطه (1)؛ لأصالة بقاء حقه. وعلى التقديرين، لو بادر وقتله فعليه لشريكه مقدار نصيبه من الدية.
قوله: «ولو عفا البعض لم يسقط القصاص» إلى آخره.
هذا مذهب الأصحاب. وقد تقدم في صحيحة أبي ولّاد(2) ما يدلّ عليه. وروى جميل بن درّاج، عن بعض أصحابه، رفعه إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قتل وله وليّان، فعفا أحدهما وأبى الآخر أن يعفو، قال: «إنّ الذي لم يعف إن أراد أن يقتل قتل، ورد نصف الدية على أولياء المقتول المقاد منه»(3).
وذهب جماعة من العامّة إلى أنّ عفو بعض الأولياء يسقط القصاص لمن لم يعف، ويثبت له نصيبه من الدية (4)؛ لأنّ القاتل استحق بعضه والقتل لا يتبعّض.
وهو مرويّ أيضاً عندنا عن إسحاق بن عمّار، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه، أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: «من عفا عن الدم من ذي سهم ليبقيه(5) فعفوه جائز، ويسقط الدم ويصير دية، ويرفع، عنه حصة الذي عفا»(6). وفي الطريق ضعف، والمذهب هو الأوّل.
ص: 417
الثالثة : • إذا أقرّ أحد الوليين أن شريكه عفا عن القصاص على مال لم يقبل إقراره على الشريك، ولا يسقط القود في حقّ أحدهما، وللمقرّ أن يقتل لكن بعد أن يردّ نصيب شريكه. فإن صدقه فالردّ له، وإلّا كان للجاني، والشريك على حاله في شركة القصاص.
----------------------------------
قوله: «إذا أقرّ أحد الوليين أنّ شريكه عفا عن القصاص على مال لم يقبل إقراره على الشريك» إلى آخره.
إذا أقرّ أحد الوليّين بأنّ شريكه عفا عن القصاص على مال، فإن صدقه الشريك سقط حقّه من القود وصار حكمه كالسابق في جواز قتل الآخر بعد ردّ نصيب العافي من الدية على المقتول. ويلزم الجاني ما عفا عليه الشريك، إمّا مطلقاً أو مع رضاه. فإن امتنع من بذله إلى العافي فاقتصّ الآخر ردّ نصيب شريكه عليه.
وإن كذّبه لم ينفذ إقراره في حقّه؛ لأنّه إقرار في حقّ الغير. لكن ينفذ في حقّ نفسه بالنسبة إلى ما يترتّب عليه، فإنّ لازمه بحسب نفسه أنّه لا يجوز له قتل الجاني إلّا أن يردّ عليه بقدر نصيب العافي من الدية، إّما على الجاني، أو على العافي على تقدير عدم وصول ما أقرّ به إليه.
وحينئذٍ فيبقى الحق لهما معاً، فإن اتّفقا على القتل وباشره المدّعى عليه فذاك، وإن باشره المقرّ لزمه أن يؤدّي إلى أولياء الجاني مقدار حصة المقرّ من الدية، لا المال الذي زعم أنّه عفا عليه. وكذلك الشريك المنكر يأخذ نصيبه من الدية من مال الجاني؛ لفوات محلّ القصاص، أو من الشريك، نظراً إلى اعترافه له بالاستحقاق، وأن أولياء الجاني إذا لم يدفعوا إليه حقّه يكون هو الذي يؤدّي إليه كما مرّ.
وقوله «والشريك على حاله في شركة القصاص» بعد تفصيله الردّ على تقدير قتل الشريك، إما مبنيّ على عدم وقوع القصاص، أو يريد بشركة القصاص ما يشمل القود وأخذ عوض النفس اللازمة لاستحقاقه على تقدير فواته.
ص: 418
الرابعة: • إذا اشترك الأب والأجنبي في قتل ولده، أو المسلم والذمّي في قتل ذمّي، فعلى الشريك القود. ويقتضي المذهب أن يرد عليه الآخر نصف ديته.
وكذا لو كان أحدهما عامداً والآخر خاطئاً كان القصاص على العامد بعد الردّ، لكن هنا الردّ من العاقلة.
وكذا لو شاركه سبع لم يسقط القصاص لكن يردّ عليه الولي نصف ديته.
----------------------------------
قوله: «إذا اشترك الأب والأجنبي في قتل ولده أو المسلم والذمّي في قتل ذمّي، فعلى الشريك القود» إلى آخره.
الجنايات الصادرة من الجماعة الواردة على الواحد المستعقبة للموت، إن كانت بحيث يجب القصاص بكلّ واحد منها لو انفردت، وجب القصاص على الشركاء.
وإن كان القصاص ببعضها دون بعض فلعدم الوجوب أسباب:
منها: أن تكون جناية بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق، كالخدشة الخفيفة، فلا اعتبار بها، وكأنّه لم يوجد سوى الجناية الباقية.
ومنها: أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع بنسبة الزهوق إلى سائر الجنايات، كما إذا جرح اثنان أو جماعة ثمّ جاء آخر وحزّ الرقبة، فقصاص النفس على الحاز، والباقون خارجون يتعلّق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية.
ومنها: أن يكون امتناع القصاص على بعضهم لكون فعله خطاً، كما إذا جرحه أحدهما عمداً والآخر خطاً، أو يكون امتناع القصاص على بعضهم لمعنى في نفسه، إمّا مع كونه مضموناً، كما إذا شارك الأب أجنبياً في قتل الابن، أو المسلم الذمّي في قتل الذمّي، أو مع كونه غير مضمون، كما إذا شارك العامد سبع، أو لدغته حية أو عقرب وجرحه مع ذلك آدمي. فعندنا أنّ القصاص في هذه الفروض كلّها يثبت على من يجب عليه القصاص لو انفرد، بعد أن يردّ عليه نصف ديته في مقابلة الشركة. ولا قصاص على الخاطئ، ولا على الأب، ولا على المسلم كما لو انفرد؛ لأنّه قتل بسببين أحدهما يوجب القصاص، فيقتصّ منه
ص: 419
الخامسة. للمحجور عليه - لفلس أو سفه - استيفاء القصاص؛ لاختصاص الحجر بالمال. ولو عفا على مال ورضي القاتل قسمه على الغرماء.
----------------------------------
كما لو انفرد. ولا يسقط هذا الواجب بسبب الشركة كما لو شاركه من يقتص منه. ويلزم الآخر موجب جنايته، ويردّ على من يقتص منه ما زاد على فعله(1).
وخالف في كلّ واحد من هذه الفروض بعض العامّة. فمنهم من قال في اشتراك العامد والخاطئ : إنّه لا قود على أحدهما. وألحقوا به ما لو كان أحدهما عامداً والآخر شبيه العمد.
ومنهم من قال في شريك الأب إنه لا قصاص على أحدهما، ووافقنا في مسألة الخاطئ والعامد.
ومنهم من ألحق شريك السبع بشريك الخاطئ في نفي القصاص عنه.
وإلى خلافهم أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «ويقتضي المذهب» إلى آخره.
قوله: «للمحجور عليه لفلس أو سفه استيفاء القصاص - إلى قوله - وقيل: لا. وهو مرويّ».
هنا مسألتان:
الأُولى : إذا كان مستحق القصاص محجوراً عليه، نظر إن كان مسلوب العبارة كالصبيّ والمجنون فعفوه لغو. وإن كان الحجر عليه لحقّ غيره كالمحجور عليه للفلس، فله أن يقتصّ. ولو عفا عن القصاص سقط.
وأمّا الدية، فإن قلنا موجب العمد أحد الأمرين فليس له العفو عن المال. وإذا تعيّن المال بالعفو عن القصاص صرف إلى غرمائه. ولا يكلّف تعجيل القصاص أو العفو ليصرف المال إليهم.
ص: 420
ولو قتل وعليه دين فإن أخذ الورثة الدية صرفت في ديون المقتول ووصاياه كماله.
وهل للورثة استيفاء القصاص من دون ضمان ما عليه من الديون؟ قيل: نعم تمسكّاً بالآية. وهو أولى. وقيل: لا. وهو مرويّ.
----------------------------------
وإن قلنا بالمشهور من أنّ موجب العمد القود، فإن عفا على المال ثبت المال. وإن عفا مطلقاً فكذلك تثبت الدية إن قلنا: إنّ العفو المطلق يوجب الدية، كما نقلناه عن بعض الأصحاب(1). وإن قلنا: لا يوجبها، لم تثبت ولا يكلّف العفو على مال؛ لأنّه تكسب، وليس على المفلّس التكسب لما عليه من الديون، كما مرّ(2).
وأمّا المحجور عليه لسفه - وهو المبذر - فيصحّ منه إسقاط القصاص واستيفاؤه. وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس في عدم صحة العفو عنه.
الثانية: إذا قتل الشخص عمداً وعليه دين، فإن أخذ الورثة الدية صرفت في ديون المقتول ووصاياه كغيرها من أمواله؛ لما تقدّم غير مرّة من أنّ الدية في حكم مال الميت(3). سواء وجبت أصالة أم صلحاً.
وهل للورثة استيفاء القصاص مع بذل الجاني الدية من دون ضمان ما عليه من الديون أو ضمان مقدار الدية منها؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه)، وقبله ابن إدريس(4)، وبعده العلّامة في أكثر كتبه (5) - نعم؛ لأنّ موجب العمد القصاص، وأخذ الدية اكتساب، وهو غير واجب
ص: 421
----------------------------------
على الوارث في دين مورّثه. ولعموم قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطاَنا»(1)، وقوله تعالى: «النَّفْسَ بالنفس»(2).
والثاني: أنه لا يجوز لهم القصاص إلّا بعد ضمان الدين، أو الدية إن كانت أقلّ منه(3).
وقيل: ليس لهم العفو أيضاً بدونه(4)، لرواية عبد الحميد بن سعيد قال: سألت أبا الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالاً وأخذ أهله الدية من ماله، أ عليهم أن يقضوا الدين؟ قال: «نعم»، قلت: وهو لم يترك شيئاً، فقال: «إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا عنه الدين»(5).
ورواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يقتل وعليه دين وليس له مال، فهل للأولياء أن يهبوا دمه لقاتله؟ فقال: «إنّ أصحاب الدين هم الخصماء للقاتل، فإن وهب أولياؤه دمه للقاتل فجائز، وإن أرادوا القود فليس لهم ذلك حتّى يضمنوا الدين للغرماء»(6).
وأجاب المصنّف (رحمه اللّه) في النكت عن الرواية بضعف السند وندورها، فلا تعارض الأصول(7). وحملها الطبرسي على ما إذا بذل القاتل الدية(8)، فإنّه يجب حينئذٍ
ص: 422
السادسة: • إذا قتل جماعة على التعاقب ثبت لوليّ كلّ واحد منهم القود ولا يتعلّق حقّ واحد بالآخر. فإن استوفى الأوّل سقط حقّ الباقين لا إلى بدل، على تردّد. ولو بادر أحدهم فقتله فقد أساء وسقط حقّ الباقين. وفيه إشكال من حيث تساوي الكلّ في سبب الاستحقاق.
----------------------------------
قبولها، ولا يجوز للأولياء القصاص إلا بعد الضمان، فإن لم يبذلها جاز القود من غير ضمان. والأشهر الجواز مطلقاً.
قوله: «إذا قتل جماعة على التعاقب ثبت لوليّ كلّ واحد منهم القود» إلى آخره.
إذا قتل الواحد جماعة، فإن كان قتلهم دفعة واحدة، بأن هدم عليهم بناء أو جرحهم وماتوا معاً، لم يكن أحدهم أولى بالقود من الآخر، بل إن اجتمعوا في الاستيفاء فقتلوه استوفوا حقوقهم، وإن قتله واحد بالقرعة أو مطلقاً استوفى حقّه؛ لأن له نفساً مكافئة.
وفي استحقاق الباقين حينئذٍ الدية وجهان، من أن الواجب في العمد القصاص وقد فات محله، ومن استلزامه أن يطلّ(1) دم امرئ مسلم فينتقل إلى بدلها وهو الدية إن لم يكن الواجب ابتداء أحد الأمرين والأوّل اختيار الشيخ (2)، والثاني هو الأجود. ومما ذكرناه يظهر وجه التردّد. وهل لبعضهم طلب القود وللباقين الدية ؟ وجهان مرتّبان.
وإن قتلهم على التعاقب ثبت لكلّ واحد منهم القود أيضاً. لكن هل يقدّم السابق في الاستيفاء أم يستوون؟ وجهان من أن السابق قد استحق القصاص منفرداً من غير معارض قبل تعلق حقوق الباقين، فيقتص له، وفي أخذ الدية للباقين الإشكال السابق، ومن أنّ السبب الموجب لاستحقاق القصاص هو قتل النفس المكافئة عمداً ظلماً، وهو متحقّق في الجميع، فيستوون فيه، ويقدم أحدهم بالقرعة أو باجتماعهم على الاستيفاء كما مرّ.
وعلى كلّ تقدير، فإن بادر أحدهم واستوفى وقع موقعه؛ لأن له نفساً مكافئة، فقد
ص: 423
السابعة: • لو وكل في استيفاء القصاص فعزله قبل القصاص ثمّ استوفى، فإن علم فعليه القصاص، وإن لم يعلم فلا قصاص ولا دية.
----------------------------------
استوفى تمام حقّه من غير زيادة، وإن أساء حيث لا يكون هو السابق على القول بتقديمه، أو لم نقل بالتخيير. ويبقى الإشكال في سقوط حقّ الباقين من حيث فوات متعلّق القصاص أو الانتقال إلى الدية. وهو الأجود.
قوله: «لو وكل في استيفاء القصاص فعزله قبل القصاص ثمّ استوفى» إلى آخره.
قد سبق في الوكالة أن التوكيل في استيفاء القصاص جائز(1)، والخلاف فيما لو عزل الموكل الوكيل في غيبته، هل ينعزل بمجرّد العزل، أم يتوقّف على علمه بالعزل وما في معناه؟(2) فإذا وكله في القصاص واستمر على ذلك إلى أن استوفاه وقع موقعه للموكّل.
وإن رجع في الوكالة، فإن علم الوكيل بالعزل قبل الاستيفاء لم يجز له بعد ذلك الاقتصاص. فإن فعل فعليه القود، كما لو استوفى الأجنبي.
وإن لم يعلم بالعزل وقلنا لا ينعزل بدون العلم به وما في معناه، وقع الاستيفاء موقعه أيضاً، كما لو فعله قبل العزل. وإن قلنا بأنه ينعزل بنفس العزل فلا قصاص على الوكيل؛ لأنّه فعل فعلاً مأذوناً فيه شرعاً ظاهراً. وفي وجوب الدية والرجوع بها على الموكل حيث غرّه وجهان، يأتي مثلهما في العفو.
وإن لم يعزله لكن عفا عن القصاص، فإن كان بعد استيفاء الوكيل فلا حكم له. وإن كان قبله، فإن علم به قبل القتل ثمّ فعل فعليه القصاص، كما لو قتله. وإن كان جاهلاً فلا قصاص؛ لأنّه معذور لبنائه على الأصل وإذن الشارع له فيه. فإن ادّعى على الوكيل العلم بالعفو فأنكر صدق بيمينه. وإن نكل حلف الوارث واستحق القصاص.
ص: 424
أمّا لو عفا الموكل ثمّ استوفى ولمّا يعلم، فلا قصاص أيضاً، وعليه الدية للمباشرة، ويرجع بها على الموكل؛ لأنّه غار.
----------------------------------
وأمّا الدية ففي وجوبها وجهان:
أحدهما: لا تجب؛ لأنّه عفا بعد خروج الأمر من يده، فوقع لغواً، ولأنّ القتل يباح له في الظاهر، فلا يتّجه التضمين به.
وأصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - الوجوب؛ لأنّه بان أنه قتله بغير حقّ، ولأنّه لو علم العفو وقتله وجب عليه القصاص، فإذا جهله وجبت الدية، كما لو قتل من ظنّه مرتداً فبان رجوعه إلى الإسلام، وكما لو قتل في صف المشركين مَنْ حسبه كافراً فبان مسلماً أسيراً.
ووجه المشابهة أنّ الوكيل هاهنا قتل على ظنّ بقاء القصاص، وهو ظاهر الحال، كما أنّ القتل هناك مبنيّ على ظنّ ظاهر الكفر، وهو كون الواقف في صف الكفّار كافراً، لكن هناك قيل: تجب الدية في بيت المال ولا مال هنا.
ثم إن قلنا بوجوب الدية وجبت الكفّارة. وإن لم نوجب الدية ففي الكفارة وجهان، أظهرهما الوجوب، كما تجب على الرامي إلى صفّ الكفّار. ووجه العدم استناده إلى إذن الحاكم.
ثمَّ الدية الواجبة بقتل الوكيل لورثة الجاني لا تعلّق للموكل بها، بخلاف ما إذا ثبت القصاص لاثنين فبادر أحدهما وقتله، فإنّه يجب عليه نصف الدية للآخر كما مرّ(1).
والفرق أنّ القاتل هناك أتلف حقّ أخيه فتعلّق الأخ ببدله، والوكيل هنا قتل بعد سقوط حق الموكل.
وإذا غرم الوكيل الدية فهل يرجع من غرم على العافي؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - الرجوع؛ لأنّه غره، كما إذا قدّم
ص: 425
الثامنة : • لا يقتصّ من الحامل حتّى تضع. ولو تجدّد حملها بعد الجناية، فإن ادّعت الحمل وشهد لها القوابل ثبت وإن تجرّدت دعواها، قيل: لا يؤخذ بقولها؛ لأن فيه دفعاً للولي عن السلطان. ولو قيل: يؤخذ كان أحوط.
وهل يجب على الولي الصبر حتّى يستقلّ الولد بالاغتذاء؟ قيل: نعم؛ دفعاً المشقة اختلاف اللبن والوجه تسليط الولي إن كان للولد ما يعيش به غير لبن الأُمّ، والتأخير إن لم يكن.
----------------------------------
الغاصب الطعام المغصوب إلى غيره فأكله، فإن قرار الضمان على الغارّ.
والثاني : العدم ؛ لأنّه محسن بالعفو غير غار به، بخلاف المتصرف في الطعام المغصوب.
ويمكن الفرق بين ما إذا أمكن الموكل إعلام الوكيل فلم يفعل وعدمه، فيحصل الغرر والرجوع عليه في الأوّل دون الثاني.
وإذا قلنا بالرجوع فهل لولي الجاني أن يأخذ الدية ابتداء من العافي؟ فيه وجهان، أما الكفّارة فلا رجوع بها وجهاً واحداً.
ثمَّ إن كان الموكل قد عفا مجاناً أو مطلقاً وقلنا إن العفو مطلقاً لا يوجب الدية فلاشيء وإن عفا على الدية أو قلنا إن إطلاق العفو موجب لها، فله الدية في تركة الجاني إن أوجبنا بقتل الوكيل الدية. وإن لم نوجب وأهدرنا دم الجاني فلادية للموكل؛ لخروج العفو على هذا التقدير عن الإفادة ووقوعه لغواً.
قوله: «لا يقتص من الحامل حتّى تضع» إلى آخره.
المرأة الحامل لا يقام عليها القصاص في النفس ولا في الطرف ولا حدّ من حدود اللّه تعالى قبل الوضع؛ لما في إقامتها من هلاك الجنين أو الخوف عليه، والجنين بريء لا يهلك بجريمة غيره. ولا فرق بين أن يكون الولد من حلال أو حرام، ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة أو قبله.
ص: 426
----------------------------------
وإذا وضعت فلا يستوفى العقوبة أيضاً حتّى ترضع اللِّبَاً (1)؛ لأن المولود لا يعيش إلّا به على ما أطلقه جماعة (2) حكماً وتوجيهاً.
وردّ بالوجدان بأنه قد تموت المرأة في الطلق ويعيش الولد بلبن غيرها. ولعلّ الأغلب الأوّل، فيكفي في اعتباره خصوصاً مع قصر مدته. فيحتمل تأخير الاستيفاء فيها ليزول الخطر عن المولود ويكمل عيشه.
ثمَّ إذا أرضعته اللبأ، فإن لم يكن هناك من ترضع ولا ما يعيش المولود به من لبن بهيمة وغيره، ففي وجوب إمهالها إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به وجهان، أصحّهما ذلك؛ لأنّه إذا وجب تأخير العقوبة احتياطاً بالحمل، فلأن يجب وقد تيقنا بالوضع وجوده وحياته أولى.
ولو با در مستحق القصاص والحال هذه فقتلها فمات الطفل، احتمل كون المستوفي قاتل عمد للولد يلزمه القود، كما لو حبس رجلاً في بيت ومنعه الطعام والشراب، وعدمه، كما لو غصب طعام رجل وكسوته فمات جوعاً أو برداً.
والفرق بينه وبين الحالة الأولى: إمكان حصول الغذاء في كلّ وقت وإن اتّفق العدم. ويمكن على هذا ثبوت الدية وانتفاء الأمرين معاً.
والوجه الثاني : جواز المبادرة إلى قتلها فضلاً عن عدم الضمان. ولا يبالي بالولد، كما لو كان للقاتل عيال يضيعون ظاهراً لو اقتص.
فهذا حكم ما إذا لم يكن هناك ما يعيش به المولود أصلاً. ووراءه حالتان:
إحداهما: إذا أمكنت تربية الولد بمراضع يتناوبن عليه أو بلبن شاة ونحوه ولم توجد مرضعة راتبة، فيستحبّ للوليّ أن يصبر لترضعه هي لئلا يفسد خلقه، ولا يشوّشه بالألبان المختلفة. ولو لم يصبر وطلب القصاص أجيب. وفي المقدور عليه بما يحصل به التربية بلاغ. ويحتمل العدم ؛ لما ذكر من المشقة.
ص: 427
• ولو قتلت المرأة قصاصاً فبانت حاملاً فالدية على القاتل. ولو كان المباشر جاهلاً به وعلم الحاكم ضمن الحاكم.
----------------------------------
والثانية: أن توجد مرضعة واحدة راتبة وطلب المستحقّ القصاص، ففي إجابته الوجهان. وأولى بالإجابة هنا؛ لقلة المشقة أو عدمها الناشئ من اتفاق اللبن وإن لم يكن لبن أُمّه.
ووجه العدم كون لبن أُمه أوفق بطباعه؛ لاغتذائه بمادته جنيناً، كما ينتظر إقامة الحدّ عليها إلى استغناء الولد، وقد تقدّم(1).
وقد يفرّق بين القصاص والحد بما تحقّق من أنّ حقوق اللّه تعالى تبنى على المساهلة، ولذلك يقبل الرجوع عن الإقرار فيها، وحقوق الآدمي مبنية على الضيق.
وجميع ما ذكرناه فيما إذا ظهرت مخايل الحمل ودلالته بالإقرار أو بشهادة النسوة.
ولو ادّعت المرأة أنّها حامل، فهل يمنع عنها بمجرّد دعواها؟ فيه وجهان، لا؛ لأن الأصل عدم الحمل، فلا يترك إقامة الواجب إلّا ببينة تقوم على ظهور مخايلة.
وأصحّهما نعم؛ لأنّ للحمل أمارات تظهر وأمارات تخفي، وهي عوارض تجدها الحامل من نفسها وتختص بمعرفتها، وهذا النوع تتعذر إقامة البيّنة عليه، فينبغي أن يقبل قولها فيه كالحيض. ولأنّ ما تدعيه محتمل احتمالاً لا بعد فيه، فلا وجه للتهجّم على ما يهلك الجنين إن كانت صادقة. وحينئذٍ فينتظر إلى أن تظهر مخايل الحمل، فيستمر أو يتيقّن العدم.
قوله: «ولو قتلت المرأة قصاصاً فبانت حاملاً فالدية على القاتل» إلى آخره.
إذا قتلت المرأة قصاصاً فبانت حاملاً بعد القتل، فإن بادر إليه الولي مستقلاً أثم ووجب ضمان الجنين بالغرّة أو الدية على ما سيأتي تفصيله على تقدير موته بذلك(2). وإن مكنه
ص: 428
----------------------------------
الحاكم وأذن في قتلها فقتلها، فالكلام في ثلاثة مواضع:
أحدها: الإثم. وهو يتبع العلم فإن علم الحاكم والوليّ أنّها حامل أثما جميعاً. وإن علم أحدهما دون الآخر اختصّ الإثم بمن علم. وإن جهلا فلا إثم.
والثاني: الضمان. وكيفيّته ومقداره يأتى فى محلّه(1).
والثالث: فيمن يضمن. ولا يخلو إما أن يكون الحاكم والولي عالمين بالحال، أو جاهلين، أو يكون الحاكم عالماً دون الولي، أو بالعكس.
ففي الحالة الأُولى يتعلّق الضمان بالولي المباشر؛ لأنّه أقوى وأولى بإحالة الهلاك عليه من السبب. وهذا هو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف (رحمه اللّه).
ووراءه وجهان آخران:
أحدهما أنّ الضمان يتعلّق بالحاكم؛ لأنّ الاجتهاد والنظر إليه، والبحث والاحتياط عليه. وفعل الوليّ صادر عن رأيه واجتهاده، فهو كالآلة.
والثاني: أن الضمان عليهما بالسوية؛ لأن الأوّل مباشر وأمر الحاكم كالمباشرة، فيشتركان في الضمان.
وفي الثانية وهي ما إذا كانا جاهلين، ففيمن عليه الضمان الوجوه الثلاثة السابقة. ويظهر من المصنّف اختيار ضمان الولي.
والثالثة: إذا كان الحاكم عالماً والولي جاهلاً. فإن أوجبنا الضمان على الحاكم إذا كانا عالمين فهنا أولى. وإن أوجبنا هناك على الولي فهنا وجهان أظهرهما ضمان الحاكم للغرور؛ كما لو أضاف الغاصب بالطعام المغصوب غيره.
والرابعة: إذا كان الوليّ عالماً والحاكم جاهلاً، والمشهور أن الضمان على الوليّ، وهو الذي يقتضيه إطلاق العبارة؛ لاجتماع العلم وقوة المباشرة. ويحتمل ضمان الإمام (2)؛
ص: 429
التاسعة: • لو قطع يد رجل ثمّ قتل آخر قطعناه أوّلاً ثمّ قتلناه. وكذا لو بدأ بالقتل؛ توصلاً إلى استيفاء الحقّين.
ولو سرى القطع في المجني عليه والحال هذه كان للولي نصف الدية من تركة الجاني؛ لأنّ قطع اليد بدل عن نصف الدية. وقيل: لا يجب في تركة الجاني شيء؛ لأن الدية لا تثبت في العمد إلّا صلحاً.
----------------------------------
لتقصيره في البحث فيشارك المباشر أو يختص كما مرّ. وهو ضعيف.
وحيث أوجبنا الضمان على الوليّ فالحكم في كونه عليه أو على العاقلة ما هو مقرّر في الخطأ وشبهه؛ نظراً إلى العلم بالحمل وعدمه.
وحيث أوجبناه على الحاكم، فإن كان عالماً فذاك. وإن كان جاهلاً فمن خطأ الحكام وقد تقرّر أنه في بيت المال.
فرع : إذا لم يعلم الإمام بالحمل فأذن للولي، ثمّ علم فرجع عن الإذن ولم يعلم الولي برجوعه فقتل، فعلى من الضمان؟ يبنى على ما إذا عفا الوليّ عن القصاص ولم يعلم الوكيل، وقد تقدّم(1).
قوله: «لو قطع يد رجل ثمّ قتل آخر قطعناه أوّلاً ثمّ قتلناه. وكذا لو بدأ بالقتل؛ توصلاً إلى استيفاء الحقين» إلى آخره.
وجه تقديم القطع في الموضعين الجمع بين الحقين، بخلاف ما إذا قدم استيفاء النفس، فإنّ قصاص الطرف يفوت.
ثمَّ على تقدير سراية القطع إلى المجني عليه، فإن كان قبل القصاص تساوى وليّه ووليّ المقتول في استحقاق القتل، وصار كما لو قتلهما. وقد سبق حكمه (2).
وإن كانت السراية بعد قطع يده قصاصاً ففيه أقوال:
أحدها - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - ثبوت نصف الدية لوليّ المقطوع من
ص: 430
• ولو قطع يديه فاقتصّ ثمّ سرت جراحة المجني عليه جاز لوليه القصاص فى النفس.
• ولو قطع يهودي يد مسلم فاقتصّ المسلم ثمّ سرت جراحة المسلم كان للولي قتل الذمّي. ولو طالب بالدية كان له دية المسلم إلا دية يد الذمّي، وهي أربعمائة درهم.
وكذا لو قطعت المرأة يد رجل فاقتصّ ثمّ سرت جراحته كان للولى القصاص. ولو طالب بالدية كان له ثلاثة أرباعها.
----------------------------------
تركة الجاني ؛ لأن قطع اليد وقع بدلاً من نصف الدية، فيكمل له عليها ليكون الجميع عوضاً عن النفس.
والثاني: أنه لا يجب شيء؛ لأنّ دية العمد إنّما تثبت صلحاً(1)، وسراية العمد توجب كون القتل عمداً كما تقدم، وقد فات محلّ القصاص.
والثالث: أنّه يرجع بالدية أجمع؛ لأنّ للنفس دية على انفرادها، والذي استوفاه في اليد وقع قصاصاً فلا يتداخل واختار هذا العلّامة في التحرير (2). وهو متّجه.
قوله: «ولو قطع يديه فاقتصّ ثمّ سرت جراحة المجنى عليه» إلى آخره.
لأنّ القصاص في اليدين وقع عوضاً عن اليدين، فإذا سرى إلى النفس كان كالقاتل عمداً. فيقتصّ منه. ولا شيء لقطع اليدين السابق لوقوعه قصاصاً، وإن كان لولا الاستيفاء لدخل في النفس.
قوله: «ولو قطع يهودي يد مسلم - إلى قوله - وما استوفاه وقع قصاصاً».
القول المحكي في المسائل الثلاث قبل التردّد للشيخ في المبسوط (3).
ص: 431
ولو قطعت يديه ورجليه فاقتصّ ثمّ سرت جراحاته كان لوليه القصاص في النفس وليس له الدية؛ لأنّه استوفى ما يقوم مقام الدية.
وفي هذا كله تردّد؛ لأنّ للنفس دية على انفرادها، وما استوفاه وقع قصاصاً.
----------------------------------
ووجه الحكم أنّ المقتول إذا كان مقطوع اليد بجناية من غير القاتل وقد أخذ ديتها، لا يقتل الجاني إلا بعد ردّ دية اليد، وإذا أخذت منه الدية تؤخذ الدية إلا دية اليد، فكذا هنا؛ لأنّ كلّ واحد من المسلم والرجل قد استوفى عوض ما جني عليه، وهو قطع يد الذمّي والمرأة، فله الدية إلا قدر ما استوفى. وفي الثالثة يكون قد استوفى ما يقوم مقام الدية فليس له غيره، كما لو أخذ دية اليد والرجل.
ولأنّه لو أخذ ديةً تامّةً اجتمع له العوض والمعوّض وزيادة في الأخيرة ونقيصة في الأوليين، وهو غير جائز.
ولأنّه يكون الاستيفاء قد وقع مرّتين، وهو ظلم. نعم له القصاص؛ لعدم دخول قصاص الطرف في قصاص النفس هنا قطعاً؛ لسبق الاستيفاء.
قال في المبسوط : وليس معنا موضع فيه قصاص لا يمكن العدول عنه إلى الدية إلّا هذا (1).
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في حكم المسائل الثلاث ومنشؤه ممّا ذكر. ومما أشار إليه من أنّ للنفس دية على انفرادها، وما استوفاه في الأعضاء سابقاً وقع قصاصاً، فلا يمنع أخذ عوض النفس.
وتقريره أن العدوان قد حصل من الجاني، فيثبت مقابلته بمثله أو بدله ما لم يمنع مانع.
أمّا حصول العدوان؛ فلأنّه حصل بسراية مضمونة، وجرح المضمون مضمون.
وأمّا وجوب المقابلة بالمثل لقوله تعالى : «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(2). والبدل لقوله تعالى : «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًا»(3). وثبوت
ص: 432
العاشرة: • إذا هلك قاتل العمد سقط القصاص. وهل تسقط الدية؟ قال في المبسوط: نعم. وتردّد في الخلاف.
وفي رواية أبي بصير: إذا هرب ولم يقدر عليه حتّى مات أخذت من ماله، وإلّا فمن الأقرب فالأقرب.
----------------------------------
كون الدية بدلاً عن النفس شرعاً.
وأمّا عدم المانع؛ فلأنه ليس إلا استيفاء البعض، فإن أقصاه القصاص في اليدين والرجلين، وهو بالنسبة إلى النفس بعض، وذلك غير مانع ؛ لأن المستوفى وقع قصاصاً عن الفعل الأوّل لا عن السراية الحادثة، فلا يكون له تأثير في إسقاط عوض النفس.
قوله: «إذا هلك قاتل العمد سقط القصاص. وهل تسقط الدية؟ قال في المبسوط : نعم. و تردّد في الخلاف» إلى آخره.
مبنى المسألة على أنّ الواجب في العمد بالأصالة هل هو القود لا غير، كما هو المشهور بين الأصحاب، أم أحد الأمرين، كمذهب ابن الجنيد (1) وابن أبي عقيل (2)؟
فعلى الثاني لا إشكال في وجوب الدية بفوات محلّ القصاص مطلقاً؛ لأنّها أحد الأمرين الواجبين على التخيير، فإذا فات أحدهما تعيّن الآخر.
وعلى الأوّل هل يقع للقود بدل أم لا؟ اختلف الأصحاب فيه، فذهب جماعة (3) - منهم الشيخ في المبسوط(4)، وابن إدريس مدّعياً الإجماع(5) - إلى العدم؛ لأن الثابت بالآية (6) والإجماع هو القصاص، فإذا فات محلّه فات.
ص: 433
----------------------------------
وذهب الأكثر - ومنهم الشيخ في النهاية(1)، وابن زهرة مدّعياً الإجماع (2)، والقاضي (3). وأبو الصلاح(4) - إلى وجوب الدية في ماله : العموم قوله تعالى: «فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانا»(5). وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا يطل دم امرئ مسلم»(6).
ورواية البزنطي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قتل رجلاً عمداً ثمّ فرّ ولم يقدر عليه حتّى مات، قال: «إن كان له مال أَخذ منه وإلا أُخذ من الأقرب فالأقرب»(7).
ورواية أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قتل رجلاً عمداً ثمّ هرب فلم يقدر عليه حتّى مات، قال: «إن كان له مال أُخذت الدية من ماله، وإلّا أُخذت من الأقرب فالأقرب، ولا يطلّ دم امرئ مسلم»(8).
ولأنّه لو قطع يداً ولا يد له أخذت الدية، فكذا في النفس.
وتردّد الشيخ في الخلاف بين القولين؛ لأنّه حكم في أول المسألة بالثاني، ثمّ نقل القول الأوّل عن أبي حنيفة، وقال: لو قلنا به لكان قوياً ؛ لأنّ الدية لا تثبت عندنا إلّا بالتراضي (9).
وإنّما نسب المصنّف (رحمه اللّه) الحكم إلى الرواية لقصورها عنه من حيث السند؛ لضعفها، وعدم دلالتها على وجوب الدية بهلاكه مطلقاً، بل على تقدير هربه إلى أن مات.
ص: 434
الحادية عشرة: • لو اقتصّ من قاطع اليد ثمّ مات المجني عليه بالسراية ثمّ الجاني وقع القصاص بالسراية موقعه. وكذا لو قطع يده ثمّ قتله فقطع الوليّ يد الجاني ثمّ سرت إلى نفسه.
أمّا لو سرى القطع إلى الجاني أوّلاً ثمّ سرى قطع المجني عليه لم تقع سراية الجاني قصاصاً ؛ لأنّها حاصلة قبل سراية المجني عليه هدراً.
----------------------------------
ويمكن أن يخص الحكم بموضع الفرض، نظراً إلى أنه فوت العوض مع مباشرة إتلاف المعوّض، فيضمن البدل، وهذا لا يتم بمطلق موته.
وبمضمونها أفتى أكثر القائلين به، وإن كان بعضهم قد جعل مورد الرواية مطلق الهلاك(1)، كما جعله المصنّف موضع الخلاف.
ثمَّ ظاهر التعليل المذكور بثبوت الدية مع تفويته نفسه يقتضي كون الدية في ماله لا غير، فلو لم يكن له مال سقطت. وهذا هو الذي اختاره المتأخرون. والروايتان دلّنا على وجوبها في مال الأقربين عند تعذر أخذها من ماله وعلى ذلك عمل الأكثر.
قوله: «لو اقتصّ من قاطع اليد ثمّ مات المجني عليه بالسراية» إلى آخره.
الحكم في الأوّل واضح لوقوع القصاص موقعه بعد وجوبه عليه، فيتأدى به القصاص كما لو باشر قتله.
وأمّا الثاني، وهو ما لو تقدّمت سراية الجاني، ففيه وجهان:
أصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - أنها لا تقع قصاصاً؛ لأنّه لم يقع موجبه بعد، وهو غير مضمون؛ لأنّه تلف سائغ.
والثاني : أنه وقع موقعه، كما لو قتله المجني عليه ثمّ سرى إلى الجاني ثانياً، فإنّه لا رجوع على تركة الأوّل بشيء، ولأنّه جرح مماثل، فلا يزيد حكم أحدهما على الآخر.
ويضعف بما مرّ، وبالفرق بين القتل والقطع، فإنّ (2) مع القتل يصير جانياً بعد أن كان مجنيّاً
ص: 435
الثانية عشرة: • لو قطع يد إنسان فعفا المقطوع ثمّ قتله القاطع، فللولي القصاص في النفس بعد ردّدية اليد.
وكذا لو قتل مقطوع اليد، قتل بعد أن يردّ عليه دية يد، إن كان المجني عليه أخذ ديتها أو قطعت في قصاص
ولو كانت قطعت من غير جناية ولا أخذ لها دية قتل القاتل من غير ردّ.
وهي رواية سورة بن كليب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).
----------------------------------
عليه، بخلاف القاطع قصاصاً، فإنّ قتله بالسراية سائغ، فلا يقوم مقام القتل المتعقب له. وتماثل الجرحين في الماهيّة لا يمنع من تخالفهما في بعض العوارض إذا حصل مقتضيه وهو هنا موجود فإنّ الجرح الأوّل سبب لإزهاق نفس معصومة فيجب ضمانها، وليس الآخر بإزاء النفس، بل بإزاء الطرف وسرايته غير مضمونة، فيبقى النفس بغير عوض.
ثمّ على تقدير عدم قيام السراية عوضاً عن نفس المجني عليه، هل يلزم الجاني شيء أم لا؟ يبنى على ما تقدّم من أنّ فوات محلّ القصاص هل يوجب الانتقال إلى الدية أم لا؟ فإن لم نقل به فات، وإن قلنا بالدية احتمل رجوع وليّ المجنيّ عليه على تركة الجاني بنصف الدية؛ لأنّه استوفى ما يقوم مقام نصف الدية، وأن يرجع بمجموع الدية؛ لأنّ ما استوفاه وقع قصاصاً عن اليد قبل أن يدخل في النفس، فإذا فاتت النفس على وجه مضمون وجب بدلها، حيث فات محلّ القصاص بتمام الدية. وقد تقدم القول في نظيره(1).
قوله: «لو قطع يد إنسان فعفا المقطوع ثمّ قتله القاطع» إلى آخره.
أمّا قتل القاطع به؛ فلأنه أزهق نفساً مكافئة معصومة فيقتل بها. وأمّا ردّ دية اليد عليه؛ فلأنّ المقتول ناقص فلا يقتص له من الكامل إلّا بعد الردّ، كالمرأة.
وفي المسألة وجهان آخران:
أحدهما: عدم قتل القاطع أصلاً، أخذاً من أن القتل بعد القطع كسراية الجناية الأُولى،
ص: 436
• وكذا لو قطع كفّاً بغير أصابع قطعت كفه بعد رد دية الأصابع.
----------------------------------
وقد سبق العفو عن بعضها فليس له القصاص في الباقي. هكذا علّله في المبسوط (1).
ولا يخفى ضعفه؛ فإنّ القتل إحداث قاطع للسراية، فكيف يتوهم أنّه كالسراية؟! وعلى تقديره فاستلزام العفو عن البعض سقوط القود ممنوع.
والثاني: أن يقتل من غير ردّ؛ لعموم قوله تعالى: «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» (2) وقوله (اَلْحُرُّ بِالحُرِّ»(3).
ولأنّ للنفس بدلاً بانفرادها ونقصان اليد يجري مجرى نقص صفة في الطرف، فإنّه ليس بمانع من القصاص في الطرف ولا من الردّ، فكذلك هنا، ولأنّه لو قتل فاقد اليد خلقة قتل من غير ردّ مع تحقّق النقصان فكذا هنا.
والمصنّف (رحمه اللّه) جعل مستند الردّ رواية سورة بن كليب - الحسنة - عن عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سئل عن رجل قتل رجلاً عمداً وكان المقتول أقطع اليد، فقال: «إن كانت قطعت يده في جناية جناها على نفسه، أو كان قطع وأخذ دية يده من الذي قطعها، فأراد أولياؤه أن يقتلوا قاتله، أدوا إلى أولياء قاتله دية يده التي قيد منها ويقتلوه، وإن شاؤوا طرحوا عنه دية يده وأخذوا الباقي»، قال: «وإن كانت يده قطعت من غير جناية جناها على نفسه، ولا أخذ لها دية قتلوا قاتله ولا يغرم شيئاً، وإن شاؤوا أخذوا دية كاملة، هكذا وجدناه في كتاب علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(4).
وهذه الرواية دالة على حكم الثانية، وقريبة من الأولى.
قوله: «وكذا لو قطع كفّاً بغير أصابع قطعت كفّه بعد ردّدية الأصابع».
الحكم في هذه كالسابقة. ويؤيّده رواية الحسن بن عبّاس بن الحريش عن أبي جعفر
ص: 437
• ولو ضرب وليّ الدم الجاني قصاصاً وتركه ظنّاً أنه قتله، وكان به رمق فعالج نفسه وبرئ، لم يكن للوليّ القصاص في النفس حتّى يقتص منه بالجراحة أوّلاً.
وهذه رواية أبان بن عثمان، عمّن أخبره عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). وفي أبان ضعف مع إرساله السند.
----------------------------------
الثاني (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أبو جعفر الأوّل (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعبد اللّه بن عباس : يا ابن عباس أنشدك اللّه هل في حكم اللّه اختلاف؟ قال: لا. قال: فما ترى في رجل ضربت أصابعه بالسيف حتّى سقطت فذهبت، فأتى رجل آخر فأطار كفّ يده، فأتي به إليك وأنت قاض، كيف أنت صانع؟ قال: أقول لهذا القاطع: أعطه دية كفّ، وأقول لهذا المقطوع: صالحه على ما شئت، أو ابعث إليهما ذوي عدل قال: فقال له: جاء الاختلاف في حكم اللّه، ونقضت القول الأوّل، أبى اللّه أن يحدث في خلقه شيئاً من الحدود وليس تفسيره في الأرض، اقطع يد قاطع الكفّ أصلاً ثمّ أعطه دية الأصابع، هذا حكم اللّه عزّ وجلّ»(1).
وفي طريق الرواية ضعف بسهل بن زياد(2)، وجهالة حال الحسن. وعمل بموجبها أكثر الأصحاب، كالشيخ (3) وأتباعه (4). ورده ابن إدريس، وأوجب الحكومة في الكفّ(5). ونفى عنه في المختلف البأس(6).
قوله: «ولو ضرب وليّ الدم الجاني قصاصاً - إلى قوله - لأنّه فعل سائغ».
الرواية المذكورة رواها أبان بن عثمان، عمن أخبره، عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أنّه قال: «أُتي
ص: 438
والأقرب أنه إن ضربه الولي بما ليس له الاقتصاص به، وإلا كان له قتله، كما لو ظنّ أنّه أبان عنقه ثمّ تبيّن خلاف ظنّه بعد انصلاحه، فهذا له قتله، ولا يقتص من الوليّ؛ لأنّه فعل سائغ.
----------------------------------
عمر بن الخطّاب برجل قتل أخا رجل، فدفعه إليه وأمره بقتله، فضربه الرجل حتّى رأى أنّه قد قتله، فحمل إلى منزله فوجدوا به رمقاً فعالجوه حتّى برى، فلمّا خرج أخذه أخو المقتول وقال له: أنت قاتل أخي ولي أن أقتلك! فقال له: قد قتلتني مرّة. فانطلق به إلى عمر، فأمر بقتله، فخرج وهو يقول: يا أيها الناس قد قتلني واللّه فمروا به على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبروه خبره، فقال: لا تعجل عليه حتّى أخرج إليك. فدخل على عمر فقال: ليس الحكم فيه هكذا. فقال: ما هو يا أبا الحسن؟ فقال: يقتصّ هذا من أخ المقتول الأوّل ما صنع به ثمّ يقتله بأخيه، فنظر أنّه إن اقتصّ منه أتى على نفسه فعفا عنه وتتاركا»(1).
وهذه الرواية ضعيفة بالرجال والإرسال وإن كان قد عمل بمضمونها الشيخ في النهاية (2) وأتباعه(3). ولذلك اختار المصنّف (رحمه اللّه) التفصيل، بأنّه إن كان ضربه بما ليس له الاقتصاص به كالعصا لم يكن له القصاص حتّى يقتص منه الجاني أو الدية، وإن كان قد ضربه بما له ضربه به كالسيف كان له قتله من غير قصاص عليه في الجرح؛ لأنّه استحق عليه إزهاق نفسه، وما فعله من الجرح مباح له؛ لأنّه جرحه بما له فعله، والمباح لا يستعقب الضمان، كما لو ضرب عنقه فظنّ أنّه مات. ويمكن حمل الرواية على هذا بأن يكون قد ضربه أخو المقتول بما ليس له قتله به.
ص: 439
وموجبه: الجناية بما يتلف العضو غالباً، أو الإتلاف بما قد يتلف، لا غالباً مع قصد الإتلاف.
ويشترط في جواز الاقتصاص التساوي في الإسلام والحرّيّة، أو يكون المجنيّ عليه أكمل.
فيقتص للرجل من المرأة، ولا يؤخذ الفضل ويقتص لها منه بعد ردّ التفاوت في النفس والطرف.
ويقتصّ للذمّى من الذمّى، ولا يقتص له من مسلم.
وللحرّ من العبد، ولا يقتص للعبد من الحرّ، كما لا يقتص له في النفس.
• والتساوي في السلامة، فلا تقطع اليد الصحيحة بالشلّاء ولو بذلها الجاني. وتقطع الشلاء بالصحيحة، إلّا أن يحكم أهل الخبرة أنها لا تنحسم فيعدل إلى الدية، تفصياً من خطر السراية.
----------------------------------
قوله - في قصاص الطرف -: «والتساوي في السلامة، فلا تقطع اليد الصحيحة بالشلّاء ولو بذلها الجاني» إلى آخره.
من شرائط القصاص في الطرف تساويهما في السلامة لا مطلقاً؛ لأن اليد الصحيحة تقطع بالبرصاء، بل المراد سلامة خاصّة، وهي التي يؤثر التفاوت فيها أو يتخيّل تأثيره، كالصحّة والشلل. فلا تقطع اليد والرجل الصحيحتان بالشلّاءين وإن رضي به الجاني، كما أنه لا يقتل الحرّ بالعبد والمسلم بالذمّي وإن رضي الحرّ والمسلم.
ص: 440
• وتقطع اليمين باليمين. فإن لم تكن يمين قطعت بها يسراه. ولو لم يكن يمين ولا يسار قطعت رجله، استناداً إلى الرواية.
وكذا لو قطع أيدي جماعة على التعاقب قطعت يداه ورجلاه بالأوّل فالأوّل، وكان لمن يبقى الدية.
----------------------------------
وأمّا اليد الشلّاء والرجل الشلاء فالمشهور أنه يراجع فيه أهل الخبرة، فإن قالوا: إنّها لو قطعت لم ينسدّ فم العروق بالحسم ولم ينقطع الدم فلا تقطع بها، لما فيه من استيفاء النفس بالطرف، وللمجني عليه الدية. وإن قالوا: ينقطع، فله قطعها ويقع قصاصاً، كقتل الذمّي بالمسلم والعبد بالحرّ. وليس له أن يطلب بسبب الشلل أرشاً.
ووجه ذلك بأن الصحيحة والشلاء متساويتان في الجرم، والاختلاف بينهما في الصفة، والصفة المجرّدة لا تقابل بالمال.
ولذلك إذا قتل الذمّي بالمسلم والعبد بالحرّ لم يجب لفضيلة الإسلام والحرّيّة شيء. وكذا التفصيل في قطع الشلاء بالشلاء.
والمراد بالشلل في اليد والرجل: بطلان العمل حتّى يصير العضو إذا أعمله صاحبه كإعمال آلة من الآلات وإن لم يبطل الحس والحركة رأساً.
واعتبر بعضهم بطلانها(1)، ولذلك تسمّى اليد الشلاء ميتة.
وردّ بأنّها لو كانت كذلك لأنتنت، وليس كذلك. ولا أثر للتفاوت في البطش، بل يقطع يد الأيد بيد الضعيف، ورجل المستقيم برجل الأعرج، وبالعكس.
قوله: «وتقطع اليمين باليمين فإن لم تكن يمين قطعت بها يسراه» إلى آخره.
تعتبر أيضاً المماثلة في المحلّ، فإنّها معتبرة في القصاص. وهي في الطرف بمثابة الكفاءة التي تطلق في النفس، فلا يقابل طرف بطرف من غير جنسه، كاليد والرجل والعين والأنف.
ص: 441
----------------------------------
وإن اتّحد الجنس لم يؤثر التفاوت في الصغر والكبر والطول والقصر والقوة والضعف والضخامة والنحافة، كما لا تعتبر مماثلة النفسين في هذه الأمور.
والسرّ في ذلك أنّ مماثلة النفوس والأطراف في ذلك لا يكاد يتّفق، وفي اشتراطها إبطال مقصود القصاص.
وعلى هذا، فلا تقطع اليمني باليسرى وبالعكس. وكذلك في الرجل والعين والأذن وغيرها. واستثني من ذلك ما إذا قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين فإنه تقطع يسراه، فإن لم يكن له يسار قطعت رجله.
ومستند الحكم رواية حبيب السجستاني قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قطع يدين لرجلين اليمينين. فقال: «يا حبيب تقطع يمينه للذي قطع يمينه أوّلاً، وتقطع يساره للّذي قطع يمينه أخيراً؛ لأنّه إنما قطع يد الرجل الأخير ويمينه قصاص للرجل الأول».
قال، فقلت: إن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنّما كان يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. قال: «إنّما كان يفعل ذلك فيما يجب من حقوق اللّه، فأما ما يجب من حقوق المسلمين فإنّه تؤخذ لهم حقوقهم في القصاص، اليد باليد إذا كانت للقاطع،يدان، والرجل باليد إذا لم يكن للقاطع يدان». فقلت له: أمّا توجب عليه الدية ويترك رجله؟ فقال: «إنّما توجب عليه الدية إذا قطع يد رجل وليس للقاطع يدان ولا رجلان فثم توجب عليه الدية؛ لأنها ليست له جارحة يقاص منها»(1).
والرواية صحيحة السند إلى حبيب المذكور، أما هو فلا نص على توثيقه. وحينئذٍ فإطلاق جماعة من الأصحاب (2) صحّة الرواية مدخول أو محمول على الصحّة الإضافيّة،
ص: 442
• ويعتبر التساوي بالمساحة في الشجاج طولاً وعرضاً، ولا يعتبر نزولاً، بل يراعى حصول اسم الشجّة، لتفاوت الرؤوس في السمن.
----------------------------------
كما تقدّم في نظائره. وهذا هو السر في نسبة المصنّف الحكم إلى الرواية من غير ترجيح له. ولكن عمل بمضمونها الشيخ(1)، والأكثر.
وردها ابن إدريس، وحكم بالدية بعد قطع اليدين لمن بقي (2)، وهو أقوى؛ لأن قطع الرجل باليد على خلاف الأصل، فلا بد له من دليل صالح، وهو منفي. وفي قوله تعالى: : «أَنَّ النَّفْسَ بالنفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» (3) الآية ما يدلّ على اعتبار المماثلة، والرجل ليست مماثلة لليد. نعم، يمكن تكلّف مماثلة اليد وإن كانت يسرى لليمين؛ لتحقّق أصل المماثلة في الحقيقة وإن تغايرا من وجه.
قوله: «ويعتبر التساوي بالمساحة في الشجاج طولاً وعرضاً. ولا يعتبر نزولاً، بل يراعى حصول اسم الشجّة، لتفاوت الرؤوس في السمن».
الكلام في قصاص الشجّة في الرأس من الموضحة وغيرها في المساحة والمحلّ. أما الثاني فسيأتي. وأمّا المساحة فمرعية طولاً وعرضاً، فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن واسعة.
أمّا العمق فغير معتبر؛ لأنّ المعتبر اسم الشجّة والتساوي في قدر العمق قليلاً ما يتّفق، خصوصاً مع اختلاف الرؤوس في السمن والضعف وغلظ الجلد ورقته، فيقطع النظر عنه كما يقطع النظر عن الصغر والكبر في الأطراف.
وذهب بعض الشافعية إلى اعتبار التساوي في العمق (4) أيضاً.
ص: 443
• ولا يثبت القصاص فيما فيه تغرير، كالجائفة والمأمومة. ويثبت في الحارصة والباضعة والسمحاق والموضحة، وفي كلّ جرح لا تغرير في أخذه وسلامة النفس معه غالبة. فلا يثبت في الهاشمة ولا المنقّلة، ولا في كسر شيء من العظام؛ لتحقّق التغرير.
• وهل يجوز الاقتصاص قبل الاندمال؟ قال في المبسوط: لا؛ لما لا يؤمن من السراية الموجبة لدخول الطرف فيها. وقال في الخلاف بالجواز مع استحباب الصبر. وهو اشبه.
----------------------------------
قوله: «ولا يثبت القصاص فيما فيه تغرير» إلى آخره.
لمّا كان الغرض من القصاص في الأطراف استيفاء الحق مع بقاء النفس؛ لبقائها في المجني عليه، اعتبر فيه أن لا يكون فيه تغرير بالنفس، وأن يمكن استيفاء المثل. فلا يثبت في الجائفة للمعنى الأوّل، ولا في كسر العظام للمعنيين معاً، بل الثاني أظهر؛ لأنّ كسر مطلق العظم لا تغرير فيه، لكن لا وثوق فيه باستيفاء المثل.
وظاهر الأصحاب الاقتصار فيما يمتنع فيه القصاص على الدية مطلقاً.
وجوّز بعضهم الاقتصار على ما دون الجناية من الشجّة التي لا تغرير فيها، وأخذ التفاوت بينها وبين ما استوفاه. فإذا أوضح رأسه مع الهشم له أن يقتص في الموضحة ويأخذ للهشم ما بين دية الموضحة والهاشمة، وهو خمس من الإبل ولو أوضح ونقل فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ ما بين أرش الموضحة والمنقلة، وهو عشر من الابل(1).
والمذهب هو الأوّل؛ لأنّ الاستيفاء على هذا الوجه ليس مماثلاً.
قوله: «وهل يجوز الاقتصاص قبل الاندمال ؟ قال في المبسوط : لا؛ لما لا يؤمن من السراية الموجبة لدخول الطرف فيها» إلى آخره.
ص: 444
• ولو قطع عدّة من أعضائه خطاً جاز أخذ دياتها، ولو كانت أضعاف الدية.
وقيل: يقتصر على دية النفس حتّى يندمل، ثمّ يستوفي الباقي أو يسري فيكون له ما أخذ وهو أولى؛ لأنّ دية الطرف تدخل في دية النفس وفاقاً.
وكيفيّة القصاص في الجراح: أن يقاس بخيط أو شبهه، ويعلّم طرفاه في موضع
----------------------------------
قد اختلف كلام الشيخ في جواز الاقتصاص قبل الاندمال (1)، من حيث عموم قوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» (2)، وقوله تعالى: «فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ» (3) الشامل للحالين، ومن إمكان السراية الموجب لدخول الطرف في النفس، فيقع الاستيفاء السابق بغير حقّ. والأوّل أقوى.
قوله: «ولو قطع عدّة من أعضائه خطاً جاز أخذ دياتها - إلى قوله - لأنّ دية الطرف تدخل في دية النفس وفاقاً».
إذا قطع أعضاء متعدّدة تزيد دياتها عن دية النفس، فإن كان ذلك عمداً - وهو محلّ البحث هنا - فقد تقدّم الخلاف في جواز الاقتصاص قبل الاندمال(4).
وإن اختار الدية أو كانت خطأ توجب الدية بالأصالة، ففي جواز أخذ دياتها أجمع أو ما يزيد عن دية النفس وإن لم يأخذ الجميع قولان:
أشهرهما - وهو الذي اختاره الشيخ في المبسوط(5)، ومال إليه المصنّف هنا - العدم، بل يقتصر على دية واحدة لا غير، إذ لم يعلم بقاء استحقاق الباقي ؛ لجواز السراية ودية الطرف تدخل في دية النفس اتفاقاً، فلا يتسلّط على ماله بمجرّد الظنّ.
ص: 445
الاقتصاص، ثمّ يشق من إحدى العلأُمّتين إلى الأخرى. فإن شق على الجاني جاز أن يستوفي منه في أكثر من دفعة.
ويؤخّر القصاص في الأطراف من شدة الحر والبرد إلى اعتدال النهار. ولا يقتص إلا بحديدة.
• ولو قلع عين إنسان فهل له قلع عين الجاني بيده؟ الأُولى انتزاعها بحديدة معوجة، فإنّه أسهل.
• ولو كانت الجراحة تستوعب عضو الجاني وتزيد عنه، لم يخرج في القصاص إلى العضو الآخر واقتصر على ما يحتمله العضو. وفي الزائد بنسبة المتخلّف إلى أصل الجرح.
----------------------------------
والثاني: الجواز (1)؛ عملاً بالاستحقاق الحالي، وأصالة عدم طريان المسقط، ولأنّه لو كان ظن الطريان أو وهمه موجباً لزوال ما ثبت في الواقع لكانت القوة فعلاً، وهو غير جائز، ولأنّه لولاه لم يستقر استحقاق، فإنّه لا استحقاق إلا ويمكن براءة المستحقّ عليه منه، والتالي باطل، ولأنّه يستلزم منع المستحقّ عن حقّه المالى بمجرّد الشبهة مع ثبوت موجبه، ولا أثر للشبهة في سقوط المال.
وفي المسألة قول ثالث بعدم جواز المطالبة بشيء أصلاً؛ لعدم الاستقرار إلا بعد الاندمال(2).
قوله: «ولو قلع عين إنسان فهل له قلع عين الجاني بيده؟» إلى آخره.
هذا ليس على وجه الخلاف بل المرجع فيه إلى نظر الحاكم ولو بادر المجنيّ عليه فاستوفى وقع موقعه وإن أساء، سواء كان بحديدة أم بغيرها.
قوله: «ولو كانت الجراحة تستوعب عضو الجاني وتزيد عنه» إلى آخره.
هذا كالتتمّة لقصاص الشجاج من حيث المحلّ، وقد تقدّم أنّ المعتبر منها مقدارها طولاً
ص: 446
ولو كان المجني عليه صغير العضو فاستوعبته الجناية، لم يستوعب في المقتصّ واقتصر على قدر مساحة الجناية.
----------------------------------
وعرضاً(1). وإنّما يتم ذلك مع مساواة عضو الجاني للمستوفى مساحة، فلو كان رأس الشاجّ أصغر استوعبنا رأسه، ولا ينزل لإتمام المساحة إلى الوجه ولا إلى القفا، فإنّهما عضوان وراء الرأس. ولا يكتفى به بل يأخذ للمتخلف بنسبته إلى مجموع الجراح من الدية. فلو كان المستوفى منه جميع رأسه بقدر الثلاثين أخذ ثلث دية ذلك الجرح، كما لو قطع ناقص الأصابع يداً كاملة الأصابع، فإنّه يقطع يده الناقصة ويؤخذ أرش الأصابع الناقصة.
وعند بعض العامّة لا يأخذ شيئاً من الأرش مع القصاص (2)، بل يتخيّر في الابتداء بين أن يقنع برأسه، كما يكتفى باليد الصغيرة في مقابلة الكبيرة، وبين أن يدع القصاص ويأخذ الدية.
ومذهبنا وأكثر من خالفنا على الأوّل. وفرّقوا بين الشجّة المذكورة واليد الصغيرة، حيث يكتفى بها في مقابلة الكبيرة، بأن ما به التفاوت بين اليدين على تجرّده ليس بيد، وما به التفاوت بين الشجتين على تجرّده شجّة، فلا يجعل تابعاً.
وأيضاً فالمرعيّ هناك اسم اليد، وهنا المعتبر المساحة. ألا ترى أن يد القاطع لو كانت أكبر قطعت ورأس الشاجّ لو كان أكبر لا يستوعب، بل يؤخذ منه بقدر ما جرح بالمساحة. وفي تفويض محلّ الابتداء إليه، أو إلى الحاكم، أو يبتدئ من حيث ابتدأ الجاني، أوجه أجودها الأخير.
ولو أنّ الجاني لم يوضح جميع الرأس، بل أوضح طرفاً منه كالناصية، فأوضحت ناصيته ولم تبلغ مساحة الموضحة التي جنى بها أكمل من باقي الرأس؛ لأن الرأس كله عضو واحد وإن اختصّ بعضه باسم خاص ولا فرق بين مقدّمه ومؤخّره. ويحتمل عدم جواز مجاوزة الموضع كما لا يجوز النزول إلى الوجه والقفا لتكميل موضحة الرأس.
ص: 447
ولو قطعت اذن إنسان فاقتص، ثمّ ألصقها المجني عليه كان للجاني إزالتها؛ لتتحقّق المماثلة. وقيل: لا ؛ لأنّها ميتة. وكذا الحكم لو قطع بعضها.
ولو قطعها فتعلّقت بجلدة ثبت القصاص؛ لأنّ المماثلة ممكنة.
----------------------------------
قوله: «ولو قطعت أذن إنسان فاقتص، ثمّ ألصقها المجني عليه» إلى آخره.
هنا مسائل:
الأولى: إذا قطع أذن إنسان فألصقها المجني عليه في حرارة الدم فالتصقت، لم يسقط القصاص ولا الدية على الجاني؛ لأن الحكم يتعلّق بالإبانة وقد وجدت. لكن لا تصحّ صلاة الملصق حتّى يبين ما ألصقه؛ لأنّ الأذن المبانة صارت نجسة، حيث إنّها قطعة تحلّها الحياة أبينت من حيّ.
وهل للجاني طلب إزالتها لا لأجل ذلك، بل لتحقّق المماثلة ؟ قال المصنّف (رحمه اللّه) وجماعة (1): نعم، والتعليل الأوّل أجود.
وتظهر الفائدة فيما لو كان الإلصاق قبل الاستيفاء، فللجاني الامتناع من القصاص إلى أن يبين المجنيّ عليه أذنه على الثاني. ولو كان إلصاقها بعده فله المطالبة بإزالتها ليصير مثله.
و على التعليل الأوّل، فالإزالة من قبيل الأمر بالمعروف، ولا اختصاص له به، بل النظر في مثله إلى الحاكم. وإنّما تجب إبانتها على هذا إذا لم يخف التلف وإلّا سقط.
ولو انعكس فاقتصّ المجنيّ عليه فألصق الجاني أذنه فالقصاص حاصل بالإبانة، وقطع ما ألصق بعد الإبانة لا يختصّ بالمجنيّ عليه على الثاني وله المطالبة بإزالتها على الأوّل بطريق أولى.
الثانية: لو قطع بعض أُذنه فحكمه حكم ما لو قطع الجميع. هذا إذا أبانها. ولو لم يُبن فكذلك بالنسبة إلى القصاص، وإن ألصقها المجنيّ عليه وأقرّ عليها، كما لا يسقط قصاص
ص: 448
• ويثبت القصاص في العين ولو كان الجاني أعور خلقة، وإن عمي فإنّ الحقّ أعماه، ولا ردّ. أمّا لو قلع عينه الصحيحة ذو عينين، اقتصّ له بعين واحدة إن شاء. وهل له مع ذلك نصف الدية؟ قيل: لا؛ لقوله تعالى: «وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ». وقيل: نعم تمسّكاً بالأحاديث والأوّل أولى.
----------------------------------
الموضحة بالاندمال. هذا إن عللنا بالنجاسة. ولو عللنا بالمماثلة فللمجني عليه طلب الإزالة.
وذهب بعض العامّة إلى عدم جواز القصاص هنا؛ لتعدّر المماثلة، وأنه لو ألصقها سقط القصاص والدية عن الجاني، ورجع الأمر إلى الحكومة(1)، حتّى لو جاء آخر فقطع الأذن بعد الإلصاق لزمه القصاص أو الدية الكاملة.
الثالثة: لو استأصل أذنه وبقيت معلّقة بجلدة، فلا خلاف في وجوب القصاص؛ لإمكان رعاية المماثلة. لكن هنا لو ألصقها المجني عليه لم يجب قطعها إن عللنا بالنجاسة. وإن اعتبرنا المماثلة اعتبر في استحقاق القصاص إزالتها إن طلبه الجاني، كما مرّ.
قوله: «ويثبت القصاص في العين ولو كان الجاني أعور خلقة» إلى آخره.
هنا مسألتان:
الأُولى : لو جنى الأعور على عين واحدة لذي العينين، بأن فقأها مثلاً، جاز الاقتصاص منه إجماعاً؛ لعموم قوله تعالى: «وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ»(2). لكن هنا يمكن المماثلة من حيث الجارحة، أمّا من حيث المنفعة فيختلف؛ لأنّ الذاهب على المجني عليه نصف البصر وعلى الجاني مجموعه، إلّا أنّه لا نظر إليه هنا، وإن كان لو جني عليه ابتداء بذهاب عينه ثبت له دية كاملة عوض النظر. هذا هو المشهور بين الأصحاب لا يظهر فيه مخالف.
والمستند النصوص الواردة بذلك، كرواية محمد بن قيس قال، قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): أعور فقأ عين صحيح، فقال: «تفقأ عينه»، قال قلت: يبقى أعمى، قال: «الحق أعماه»(3).
ص: 449
----------------------------------
ومرسلة أبان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن أعور فقأ عين صحيح متعمداً، قال: «تفقأ عينه»، قلت: فيكون أعمى، فقال: «الحقّ أعماه» (1).
ولا يخفى أن السند ليس بنقى، إلا أن الحكم لا رادّ له.
وفي معنى الأعور خلقة من ذهبت إحدى عينيه بآفة من اللّه تعالى ولو كان ذهابها بجناية أو جبت قوداً أو دية فلا إشكال في الحكم، كما لو كان ذلك في المجنيّ عليه.
الثانية: لو انعكس ففقاً الصحيح عين الأعور خلقة أو بآفة من اللّه تعالى، فلا خلاف بين أصحابنا في ثبوت الدية عليه كاملة، أعني دية النفس؛ لأنها جميع البصر إن وقع التراضي على الدية، أو قلنا إن الواجب أحد الأمرين، بل أطلق جماعة (2) تخيّر المجنيّ عليه بين أخذ الدية تامّة والقصاص.
فإذا اقتصّ من الصحيح فهل يجب على الصحيح أن يردّ على الأعور نصف دية النفس؟ قال الشيخ في النهاية (3) وأتباعه (4) والعلّامة في المختلف (5): نعم؛ لأنّه أذهب جميع بصره واستوفى منه نصف البصر، فيبقى عليه دية النصف، وهو نصف الدية. ولرواية محمّد بن قيس قال، قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل أعور أصيبت عينه الصحيحة ففُقِئت: أن تفقأ إحدى عيني صاحبه، ويعقل له نصف الدية، وإن شاء أخذ دية كاملة، ويعفا عن عين صاحبه»(6).
ص: 450
----------------------------------
ورواية عبد اللّه بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : سألته عن رجل صحيح فقاً عين رجل أعور، فقال: «عليه الدية كاملة، فإن شاء الذي فقئت عينه أن يقتص من صاحبه ويأخذ منه خمسة آلاف درهم فعل؛ لأنّ له الدية كاملة، وقد أخذ نصفها بالقصاص»(1).
وقال المفيد (2) والشيخ في الخلاف (3) وابن إدريس(4)، ومال إليه المصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة في التحرير (5): لا رد؛ لعموم: «وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» (6)، وللأصل.
وردّ بمنع عمومية العين، فإنّه مفرد معرّف. ولو سلّم خصّ بالدليل، وقد ذكر مع أنّه حكاية عن التوراة، فلا يلزم حكمها في شرعنا والأصل إنّما يكون حجة إذا سلم عن المعارض، وقد وجد.
وأجيب بأن الآية مقرّرة في شرعنا، لرواية زرارة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في قوله: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(7) الآية، قال: هي محكمة(8).
ولقوله تعالى: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّه فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَالِمُونَ»(9)، و«مَنْ» للعموم، و«الظلم» وضع الشيء في غير موضعه، وهو حرام، فتركه واجب، ولا يتمّ إلّا بالحكم بها.
والحق أنّ الروايتين قاصرتان من حيث السند عن إثبات الحكم، وكذلك الآية؛ لأنّ موجب إكمال الدية من حيث البصر لا من حيث العين والقول الأوّل لا يخلو من قوة. والرواية تصلح شاهداً مؤيّداً بوجوب الدية لهذه الجناية كاملة على تقدير الخطأ، كما مرّ.
ص: 451
• ولو أذهب ضوء العين دون الحدقة توصل في المماثلة. وقيل: يطرح على الأجفان قطن مبلول، ويقابل بمرآة محماة مواجهة للشمس حتّى يذوب الناظر وتبقى الحدقة.
ويثبت في الحاجبين، وشعر الرأس، واللحية، فإن نبت فلا قصاص، وفي قطع الذكر. ويتساوى في ذلك الشاب، والشيخ والصبي، والبالغ، والفحل، والذي سلّت خصیتاه، والأغلف، والمختون.
نعم، لا يقاد الصحيح بذكر العنّين، ويثبت بقطعه ثلث الدية. وفي الخصيتين القصاص. وكذا في إحداهما، إلا أن يخشى ذهاب منفعة الأخرى فتؤخذ ديتها.
----------------------------------
قوله: «ولو أذهب ضوء العين دون الحدقة توصل في المماثلة» إلى آخره.
إذا ذهب الضوء بالجناية وبقيت العين فالواجب في القصاص المماثلة كغيره، بأن يذهب من عين الجاني الضوء مع بقاء الحدقة كيف اتّفق. هذا هو الذي يوافق الأصل، ويقتضيه عموم الأدلّة(1).
والقول بتخصيص إذهابه بالكيفية المذكورة (2) مستند إلى رواية رفاعة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ عمر أتاه رجل من قيس بمولى له قد لطم عينه فأنزل الماء فيها وهي قأئمّة ليس يبصر بها شيئاً، فقال له: أعطيك الدية فأبى، فأرسل بهما إلى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: احكم بين هذين، فأعطاه الدية فأبى، فلم يزالوا يعطونه حتّى أعطوه ديتين، فقال: ليس أريد إلّا القصاص، فدعا عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمرآة فحماها، ثمّ دعا بكُرْسُف قبله ثمّ جعله على أشفار عينيه على حواليها، ثمّ استقبل بعينه عين الشمس قال: وجاء بالمرآة، وقال: انظر فنظر، فذاب الشحم وبقيت عينه قأئمّة وذهب البصر»(3).
ص: 452
• ويثبت في الشفرين كما يثبت في الشفتين. ولو كان الجاني رجلاً فلا قصاص وعليه ديتها. وفي رواية عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن لم يؤد لها ديتها قطعت لها فرجه». وهي متروكة.
ولو كان المجني عليه خنثى، فإن تبين أنه ذكر، فجنى عليه رجل كان في ذكره وأُنثييه القصاص، وفي الشفرين الحكومة.
ولو كان الجاني امرأةً كان في المذاكير الدية وفي الشفرين الحكومة؛ لأنّهما ليسا أصلاً.
ولو تبين أنه امرأة فلا قصاص على الرجل فيهما، وعليه في الشفرين ديتها وفي الذكر والأنثيين الحكومة.
----------------------------------
وفي طريق الرواية ضعف يمنع من تعين الاستيفاء بمضمونها، وإن كان وجهاً من وجوه الحلية في استيفاء الحق المذكور.
قوله: «ويثبت في الشفرين كما يثبت في الشفتين - إلى قوله - وهي متروكة».
الشفران ممّا في الإنسان منه اثنان كالشفتين. فإن وجد للجاني اقتصّ منه تحقيقاً للمماثلة. وإن فقدا - بأن كان رجلاً - فعليه ديتهما، كما لو قطع فاقد العضو عضواً غيرهما.
والرواية المذكورة بقطع فرج الرجل لهما حيث لا يؤدي الدية رواها الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو أنّ رجلاً قطع فرج امرأة لأغرمته لها ديتها، فإن لم يؤد إليها ديتها قطعت لها فرجه إن طلبت ذلك» (1).
وفي الطريق جهالة. وفي الحكم مخالفة للأصول الدالّة على اعتبار المماثلة بين الأعضاء، وهي مفقودة هنا.
ص: 453
ولو جنت عليه امرأة كان في الشفرين القصاص وفي المذاكير الحكومة.
ولو لم يصبر حتّى تستبان،حاله، فإن طالب بالقصاص لم يكن له؛ لتحقّق الاحتمال.
• ولو طالب بالدية أعطى اليقين وهو دية الشفرين. ولو تبيّن بعد ذلك أنّه رجل أكمل له دية الذكر والأنثيين والحكومة في الشفرين، أو [تبين] أنه أُنثى أعطي الحكومة في الباقي.
• ولو قال: أطالب بدية عضو، مع بقاء القصاص في الباقي لم يكن له. ولو طالب بالحكومة مع بقاء القصاص صح، ويُعطى أقلّ الحكومتين.
----------------------------------
قوله: «ولو طالب بالدية أعطي اليقين وهو دية الشفرين» إلى آخره.
المراد بكون دية الشفرين هي اليقين أنّ مقدارها هو المتيقن؛ لأنّه إن كان امرأة فله دية الشفرين وحكومة المذاكير، وإن كان رجلاً فله دية للذكر وأُخرى للأُنثيين وحكومة الشفرين، فالاقتصار على الدية على تقدير كونه امرأة يقيني بالنظر إلى الحكم بكونه رجلاً، ولازم ذلك أنّ الاقتصار على أخذ دية واحدة بجميع ذلك هو المتيقّن. فإن ظهر كونه رجلاً أكمل له دية أُخرى وحكومة الشفرين وإن بقي الاشتباه فالمتيقن الدية والباقي مشكوك فيه، لا أن الحكم على الشفرين بخصوصهما بإثبات ديتهما هو المتيقن؛ لأنّ ذلك مبني على كونه،امرأة، والفرض أنه غير معلوم.
قوله: «ولو قال: أطالب بدية عضو - إلى قوله - ويُعطى أقلّ الحكومتين».
إنّما لم يكن له القصاص في الزائد عن دية عضو؛ لأنّ الباقي حينئذٍ عضوان، ولا يمكن الحكم فيهما معاً بالقصاص؛ لأنّ أحد الثلاثة زائد، فلا يثبت فيه قصاص ولادية، فالجمع بين الدية والقصاص في الثلاثة لا يصحّ.
أمّا إذا طالب بالحكومة مع بقاء القصاص إلى أن يتبيّن الحال أجيب إليه؛ لإمكان التخلّص، بأن يعطى أقلّ الحكومتين على تقدير كون المذاكير زائدة أو كون الشفرين
ص: 454
ويقطع العضو الصحيح بالمجذوم إذا لم يسقط منه شيء. وكذا يقطع الأنف الشامّ بالعادم له، كما تقطع الأُذن الصحيحة بالصمّاء.
ولو قطع بعض الأنف، نسبنا المقطوع إلى أصله وأخذنا من الجاني بحسابه، لئلّا يستوعب أنف الجاني بتقدير أن يكون صغيراً.
وكذا يثبت القصاص في أحد المنخرين.
وكذا البحث في الأذن.
• وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة وهل تؤخذ بالمخرومة؟ قيل: لا، ويقتصّ إلى حدّ الخرم، والحكومة فيما بقي. ولو قيل: يقتص إذا ردّ دية الخرم كان حسناً.
----------------------------------
زائدين، فأقل الأمرين ثابت على كلّ تقدير. فإذا أخر القصاص إلى أن يتبيّن الحال فظهر ذكراً، وكان أقلّ الحكومتين النقص بالشفرين، اقتصّ بالمذاكير، وإن كان أقلهما نقص المذاكير أكمل له على حكومة الشفرين واقتصّ في المذاكير مع المماثلة. وعلى هذا القياس لو ظهر أُنثى.
قوله: «وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة» إلى آخره.
ثقب الأذن خصوصاً للنساء يعد جمالاً، ولا يفوت معه شيء من العضو، فلا يغيّر حكم الأذن في القصاص لها من الأذن التامة، وأخذ الدية التامة. هذا إذا لم يكن الثقب موجباً شيئاً ولا نقصاناً وإلا كان كالخرم.
وأمّا المخرومة فهي ناقصة بالنسبة إلى غيرها، فإذا قطع مخروم الأذن أُذناً تامةً قطعت أذنه قطعاً؛ لأنّها أقلّ من الواجب، وأخذ منه من الدية بقدر ما كان قد ذهب من المخرومة.
ولو انعكس، فقطع الصحيح أذناً مخرومة ففي الاقتصاص منه بجميع أذنه قولان:
أحدهما :نعم العموم: «وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ»(1)، والزيادة في أذن الجاني تستدرك، بأن يردّ عليه ما يقابلها من دية الخرم. وهذا هو الذي اختاره المصنّف.
ص: 455
• وفي السنّ القصاص، فإن كانت سنّ مثغر وعادت ناقصة أو متغيّرة، كان فيها الحكومة وإن عادت كما كانت فلا قصاص ولا دية. ولو قيل: بالأرش كان حسناً.
أمّا سنّ الصبي فينتظر بها، فإن عادت ففيها الحكومة، وإلا كان فيها القصاص. وقيل: في سنّ الصبي بعير مطلقاً. ولو مات قبل اليأس من عودها قضي لوارثه بالأرش.
----------------------------------
والثاني: المنع (1)؛ لاستلزامه الظلم بقطع الزائد عمّا استحق عليه من القصاص. فطريق القصاص أن يقطع من أذن الصحيح مقدار المخرومة إلى حدّ الخرم، ويترك الباقي، حذراً من قطع ما قابل المخروم وهو غير مستحق، وتؤخذ الحكومة في الباقي. وهذا هو الأجود.
قوله: «وفي السنّ القصاص - إلى قوله - وليس للقاطع أصابع».
السنّ ممّا يثبت فيه القصاص، عملاً بالآية (2). وإنّما يجب مع القلع، أمّا مع الكسر فلا؛ لما تقدّم من أنّه لا قصاص في كسر العظام (3)؛ لأنّه لا يمكن فيها المماثلة.
وربما احتمل ثبوته هنا إذا أمكن استيفاء المثل بلا زيادة ولا صدع في الباقي. والفرق بينها وبين غيرها من العظام أنّها عظم مشاهد من أكثر الجوانب، ولأهل الصنعة آلات قطاعة يعتمد عليها في الضبط، فلم تكن كسائر العظام.
ولمّا كانت المماثلة معتبرة في القصاص لم تؤخذ الصحيحة بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة مع قسط الذاهب من الأرش. وتؤخذ الزائدة بالزائدة. ولو لم يكن للجاني مثل تلك السن فلا قصاص وأخذت الدية. فإن نبتت بعد ذلك فلا قصاص أيضاً؛ لأنها لم تكن موجودة يوم الجناية ولا نجسة كالأُذن.
ص: 456
ولو اقتصّ البالغ بالسن فعادت سنّ الجاني لم يكن للمجني عليه إزالتها؛ لأنها لیست بجنسه.
ويشترط في الأسنان التساوي في المحلّ، فلا يقلع سنّ بضرس ولا بالعكس، ولا أصليّة بزائدة وكذا لا تقلع زائدة بزائدة مع تغاير المحلّين.
----------------------------------
ثمَّ إذا قلع سنّ غيره فذلك يفرض على وجوه:
أحدها: أن يقلع المثّغر سنّ الصبي الذي لم يثَّغر، فلا يؤخذ في الحال قصاص ولادية، ولكن عليه الحكومة إن نبتت سوداء، أو معوجة، أو خارجة عن سمت الأسنان، أو مشتملة على شين(1) آخر بعد النبات.
ومثله ما لو نبتت أطول ممّا كانت، أو نبتت معها سن صغيرة، ونحو ذلك. ولو نبتت أقصر ممّا كانت وجب بقدر النقصان من الأرش.
وإن جاء وقت نباتها، بأن سقطت سائر الأسنان وعادت ولم تنبت المقلوعة، رجع إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت معيّن انتظر، فإن مضى ولم تنبت، وقالوا (2): قد فسد المنبت ولا يتوقع النبات، ففيه قولان:
أصحّهما: وجوب القصاص (3): لأنّه قلع السن الحاصلة فى الحال وأفسد المنبت فيقابل بمثله؛ لعموم الأدلّة(4).
وثانيهما: لا يجب القصاص (5)؛ لأنّ سنّ الصبي فضلة في الأصل نازلة منزلة الشعر الذي ينبت مرّة بعد أخرى، وسنّ البالغ أصليّة، فلا تكون مماثلة لها.
ص: 457
وكذا حكم الأصابع الأصليّة والزائدة وتقطع الإصبع بالإصبع مع تساويهما.
وكلّ عضو يؤخذ قوداً مع وجوده تؤخذ الدية مع فقده، مثل أن يقطع إصبعين وله واحدة، أو يقطع كفاً تاماً وليس للقاطع أصابع.
----------------------------------
والقول بوجوب بعير لقلع سنّ الصبيّ لجماعة منهم ابن الجنيد (1) وأبو الصلاح (2) وابن حمزة(3)، واختاره في المختلف(4)، لرواية مسمع بن عبد الملك عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ عليّا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى في سنّ الصبي قبل أن يشعر بعيراً في كلّ سنّ»(5). ومثله روى السكوني عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(6).
والروايتان ضعيفتان، والأُولى منهما أشدّ ضعفاً.
ويدلّ على المشهور - مضافاً إلى موافقته للأصل - مرسلة جميل بن درّاج عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «في سنّ الصبي يضربها الرجل فتسقط ثمّ تنبت، قال: ليس عليه قصاص، وعليه الأرش»(7).
وثانيها: أن يقلع مثّغر سنّ مثغر، فلا كلام في تعلّق القصاص به، لكن إن قضى أهل الخبرة بعودها أُخّر القصاص أو الدية إلى مضي المدة. ثمّ إن عادت معيبة ففيها الأرش. وإن عادت تامة قيل: لا أرش ولا دية (8)؛ لأن ما عاد قائم مقام الأوّل، فكأنه لم يفت، وصار كما لو عاد سنّ غير المثّغر.
ص: 458
----------------------------------
والأظهر ثبوت الأرش؛ لأنّه نقص دخل على المجني عليه بسبب الجاني فلا يهدر، للحديث، ولزوم الظلم. وعود السنّ نافى القصاص أو الدية لا أرش النقص.
وفي المسألة وجه ثالث بعدم سقوط القصاص مطلقاً؛ لأنّه لم تجر العادة بنبات سن المثّغر، وما اتّفق نعمة وهبة جديدة من اللّه تعالى فلا يسقط به حقّه على الجاني. وعلى هذا فلا ينتظر، ولا يعرض على أهل الخبرة.
ويناسب هذا الوجه ما سيأتي في دية اللسان من حكم المصنّف بأنّ سنّ المثغر إذا عادت بعد أخذ ديتها لم تُسْتَعد الدية؛ محتجاً بأنّ الثانية غير الأولى(1)، وهو يخالف ما حكم به هنا. وكذلك صنع في القواعد (2).
وعلى الأوّل لو قضى أهل الخبرة بعدم عوده جاز تعجيل القصاص، وإن اتّفق عوده بعد ذلك؛ لأنّه حينئذٍ هبة جديدة، كما ذكر في هذا الوجه المطلق.
والمراد بالأرش في هاتين الحالتين: تفاوت ما بين كونه مقلوع السنّ مدّة لم تنبت ثمّ نبتت متغيّرة أو صحيحة على التقديرين، وبين كونه بسنّ تلك المدة وبعدها على حالتها.
وفيه قول ضعيف بأنه ما بين قيمة سن تامة وبينها متغيّرة على تقدير التغيّر من الدية(3).
والأوّل هو الموافق لأرش النقص الحادث بالجناية على المجني عليه.
وثالثها: أن يقلع غير مثغر سنّ مثغر. والغالب أن غير المثغر يكون غير بالغ. والحكم في جنايته الدية لا القصاص مطلقاً، إلّا أن تعود مطلقاً، أو يقضى أهل الخبرة بعودها وتعود، فالأرش كما مرّ.
ورابعها: أن يقلع غير متَّغر سنّ غير مثغر، فلا قصاص أيضاً على الوجه المتقدّم. ويأتي فى الأرش ما ذكر.
ص: 459
مسائل:
الأولى: • إذا قطع يداً كاملةً ويده ناقصة إصبعاً، كان للمجني عليه قطع الناقصة.
وهل يأخذ دية الإصبع؟ قال في الخلاف: نعم. وفي المبسوط: ليس له ذلك، إلّا أن يكون أخذ ديتها.
----------------------------------
والمراد بالمثَّغِر: من سقطت أسنانه الرواضع ونبت مكانها، يقال: ثغر الصبي بالتخفيف إذا سقطت رواضعه، فهو مثغور، وإذا نبتت قيل: اتغر بالتاء على الإدغام بعد قلب الثاء تاء، وانغر إظهاراً للحرف الأصلي (1).
قوله: «إذا قطع يداً كاملةً ويده ناقصة إصبعاً» إلى آخره.
تفاوت العضوين بالعدد قد يكون بالنقصان في طرف الجاني، وقد يكون بالنقصان في طرف المجنيّ عليه.
فإن كان في طرف الجاني، كما لو كانت يده ناقصة بإصبع وقد قطع يداً كاملةً، فإن أخذ المجني عليه دية اليد أخذها كاملة. وإن اختار القصاص فلا إشكال في جواز قطعه لليد الناقصة؛ لأنّها حقّه فما دون.
وهل يأخذ دية (2) الإصبع الناقصة ؟ قولان للشيخ. ففي موضع من المبسوط في أوّل فصل الشجاج (3) وفي الخلاف : لا تجزئ اليد الناقصة، بل يأخذ دية الإصبع، محتجّاً في الخلاف بالإجماع، وبقوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(4). والمثل إمّا من طريق الصورة الجليّة، وهو هنا متعذّر، أو (5) من طريق القيمة فيجب، وإلّا لم يتحقّق المماثلة.
ص: 460
----------------------------------
وفي موضع آخر من المبسوط - في الفصل المذكور بعد ذلك بنحو أربع ورقات - اختار الإجزاء إن كان ذلك خلقةً أو بآفة من اللّه تعالى، أما لو أخذ ديتها أو استحقها لم يجز (1)؛ نظراً إلى أنّه لما لم يكن سبباً في النقصان ولم يأخذ عوض الناقص لم يكن مضموناً؛ ولأنّه كالقاتل ويده أو يد مقتوله ذاهبة فإنّه قد قيل فيهما هذا التفصيل (2).
والأقوى الأوّل؛ للقاعدة المشهورة من أنّ كلّ عضو يُقاد تؤخذ الدية مع فقده، حتّى لو قطع مقطوع اليدين يدين أخذت ديتهما، وليس ذلك كالنفس، فإنّ في أخذ الدية عند فقدها خلافاً سبق (3)، والجاني هنا قد قطع منه إصبعاً لم يستوف قصاصها، فيكون له ديتها؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «في كلّ إصبع عشر من الإبل»(4). وتلك الإصبع لو كانت لكان له استيفاؤها، فإذا لم توجد استوفى بدلها، كما لو قطع إصبعين وليست له إلا واحدة. ويلزم على التفصيل أنه لو قطع يداً ولا يد له خلقةً لم يكن عليه شيء. وهو بعيد.
وأُورد على الأوّل ما إذا كانت يد الجاني شلاء وأراد المجني عليه قطعها، فإنّه لا يأخذ معها شيئاً، فما الفارق؟ (5)
وأُجيب بأن النقصان هناك نقصان صفة، وجرم الأصابع باق، والنقصان هنا نقصان صفة خاصّة وكيفيّة خاصّة، فهو كقتل العبد بالحرّ والكافر بالمسلم والمريض بالصحيح(6).
ص: 461
• ولو قطع إصبع رجل فسرت إلى كفّه ثمّ اندملت ثبت القصاص فيهما. وهل له القصاص في الإصبع وأخذ الدية في الباقي ؟ الوجه : لا ؛ لإمكان القصاص فيهما.
----------------------------------
ونظيره ما إذا أتلف عليه صاعى حنطة ووجد للمتلف صاعاً، فإن له أخذه وطلب بدل الفائت. ولو أتلف عليه صاعاً جيداً فوجد له رديئاً وأراد أن يأخذه ويطلب أرشاً، لم يكن له ذلك.
وكذا لو قطع إصبعين من واحد وله إصبع واحدة فللمجني عليه أن يقتص في الموجودة ويطالب ببدل المعدومة. ولو قطع إصبعاً صحيحة وتلك الإصبع منه شلاء، فأراد المجني عليه قطع الشلّاء لم يكن له سواها.
وقد يناقش في هذه الصورة، وانسحاب التفصيل في الشلل، فإن المماثلة إنما تتحقّق مع التساوي مطلقاً، وإلا لم يوجد مختلفان.
ولو كان النقصان في يد المجني عليه، كما إذا قطع السليم يداً ناقصة بإصبع، فليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة من الكوع؛ لما فيه من استيفاء الزيادة، لكنّه يلفظ الأصابع الأربع إن شاء ويأخذ دية الكفّ، أو يأخذ الدية.
وربّما قيل بالمنع من القصاص على هذا الوجه؛ لعدم المماثلة، فلا نجيز (1) أن تلقي حديدة القصاص في غير الموضع الذي لقيته حديدة الجاني.
قوله: «ولو قطع إصبع رجل فسرت إلى كفّه ثمّ اندملت» إلى آخره.
لأنّ الواجب في العمد القود، والدية لا تثبت إلا صلحاً أو بسبب عارض، وهو مفقود هنا، حيث يمكن القود تاماً.
ووجه الجواز تغاير المحلّ، وكونهما جنايتين متغايرتين تثبت إحداهما بالمباشرة والأخرى بالسراية التي هي في قوة التسبيب. والأصحّ الأوّل.
ص: 462
• ولو قطع يده من مفصل الكوع ثبت القصاص ولو قطع معها بعض الذراع اقتصّ في اليد، وله الحكومة في الزائد.
ولو قطعها من المرفق اقتصّ منه. ولا يقتص في اليد، ويأخذ أرش الزائد. والفرق بيّن.
الثانية: • إذا كان للقاطع إصبع زائدة والمقطوع كذلك ثبت القصاص؛ لتحقّق التساوي.
ولو كانت الزائدة للجاني، فإن كانت خارجة عن الكف اقتصّ منه أيضاً؛ لأنّها تسلّم للجاني. وإن كانت في سمت الأصابع منفصلة ثبت القصاص في الخمس دون الزائدة ودون الكفّ، وكان في الكفّ الحكومة. ولو كانت متصلة ببعض الأصابع جاز الاقتصاص فيما عدا الملتصقة، وله دية إصبع والحكومة في الكفّ.
----------------------------------
قوله: «ولو قطع يده من مفصل الكوع ثبت القصاص» إلى آخره.
الفرق أنّ القطع في الأُولى لم يقع على مفصل ينضبط معه القصاص، فيستوفي من المفصل وتؤخذ حكومة الزائد بخلاف الثانية، فإنّ القطع من المرفق مضبوط يمكن المماثلة فيه، فلا يقتصر على استيفاء بعض المقطوع وأخذ دية الباقي؛ لأن الواجب بالعمد القصاص، ولا ينتقل إلى الدية إلّا مع الاتّفاق أو العجز عن استيفاء الحق، وكلاهما منتف هنا.
قوله: «إذا(1) كان للقاطع إصبع زائدة والمقطوع كذلك ثبت القصاص» إلى آخره.
من شرائط القصاص المماثلة في الاستيفاء كما مرّ(2). ومن فروعها أن الزائد يقطع بالزائد إن اتحد المحل كالأصلي. فلو فرض شخصان لكلّ منهما إصبع زائدة، فقطع أحدهما زائدة الآخر أو مجموع اليد اقتصّ منه.
ولو قطع شخص معتدل الخلقة يداً عليها إصبع زائدة قطعت يده وأخذت منه دية الزائدة،
ص: 463
أما لو كانت الزائدة للمجني عليه فله القصاص ودية الزائدة، وهو ثلث دية الأصليّة.
ولو كانت له أربع أصليّة وخامسة غير أصليّة، لم تقطع يد الجاني إذا كانت أصابعه كاملة أصليّة، وكان للمجني عليه القصاص في أربع وأرش الخامسة.
أمّا لو كانت الإصبع التي ليست أصليّة للجاني ثبت القصاص؛ لأن الناقص يؤخذ بالكامل. فلو اختلف محلّ الزائدة لم يتحقّق القصاص، كما لا يقطع إبهام بخنصر.
ولو كان لأنملة طرفان فقطعها، فإن كان للجاني مساوية ثبت القصاص؛ لتحقّق التساوي، وإلّا اقتصّ وأخذ أرش الطرف الآخر.
ولو كان الطرفان للجاني لم يقتص منه، وكان للمجني دية أنملته، وهو ثلث دية الإصبع.
----------------------------------
سواء كانت معلومة بعينها أم لم تكن. ولو اتّفقا على الدية أو اختارها المجنيّ عليه على القول به أخذ دية اليد ودية الزائدة.
ولو انعكس فقطع صاحب الأصابع الست يد معتدل الخلقة، لم تقطع يده من الكوع، إلّا أن تكون الإصبع الزائدة نابتة من الذراع، فيمكن القطع من الكوع.
ولو تعذّر الاقتصاص من الكوع، فللمجني عليه لفظ الأصابع الخمس الأصليّات، وأخذ حكومة الباقي من الكفّ.
هذا إذا كانت الزائدة تحت (1) الأصليّة، بحيث لو قطعت الأصليّة بقيت بحالها. أمّا لو كانت ملتصقة بها لم تقطع الأصليّة؛ حذاراً من الزيادة في الاستيفاء، بل يقتصر على قطع أربع، ويأخذ دية إصبع.
ولو كانت نابتة على إصبع وأمكن قطع بعضها مع الأربع فعل، كما إذا كانت نابتة على الأنملة الوسطى من إصبع، فتقطع الأنملة العليا مع الأربع، ويؤخذ ثلثا دية إصبع.
ص: 464
• ولو قطع من واحد الأنملة العليا ومن آخر الوسطى، فإن سبق صاحب العليا اقتصّ له، وكان للآخر الوسطى. وإن سبق صاحب الوسطى أخر، فإن اقتصّ صاحب العليا، اقتصّ لصاحب الوسطى بعده. وإن عفا كان لصاحب الوسطى القصاص، إذا ردّدية العليا.
ولو بادر صاحب الوسطى فقطع فقد استوفى حقّه وزيادة، فعليه دية الزيادة، ولصاحب العليا على الجاني دية أنملته.
----------------------------------
وهذا كله مع كون الزائدة معلومة. فلو كانت الست كلّها أصليّة، بأن قسمت الطبيعة مادة الأصابع بتقدير العزيز العليم ستة أجزاء متساوية في القوة والعمل، بدلاً عن القسمة إلى خمسة أقسام، لم يجز الاستيفاء من الكوع للزيادة، ولا أي خمس اتّفقت للاشتباه، بل يقطع الإبهام، ويطالب بدية باقي الأصابع وحكومة الكفّ.
ولو بادر المجني عليه فقطع الجميع من الكوع استوفى وأثم، وعليه دية الزائدة.
ولو اقتصر على قطع خمس أساء أيضاً، واستوفى حقّه تاماً أو ناقصاً لجواز أن تكون فيها زائدة، ويطالب بحكومة الكفّ. هذا إذا لم يتميّز الإبهام، وإلا اشترط في تحقّق الاستيفاء فما دون قطع أربع مع الإبهام.
قوله: «ولو قطع من واحد الأنملة العليا ومن آخر الوسطى، فإن سبق صاحب العليا اقتصّ له» إلى آخره.
لا إشكال في استحقاق مقطوع الوسطى القصاص إذا تمكّن من استيفاء حقّه بغير زيادة، بأن استوفى مقطوع العليا قبله أو ذهبت العليا بآفة.
وإنّما الكلام فيما لو توقف استيفاؤه على قطع العليا، فإنّه يستلزم استيفاء أزيد من حقه. فإن كان حقّ مقطوع العليا باقياً لم يجز لذي الوسطى تعجيل الاستيفاء؛ لأن حقّ الآخر أسبق. فإن بادر واستوفى أساء، ولزمه دية العليا لمقطوعها.
وإن كان استيفاؤه بعد عفو ذي العليا، فقد أطلق المصنّف (رحمه اللّه) جواز الاقتصاص
ص: 465
الثالثة • إذا قطع يميناً فبذل شمالاً فقطعها المجني عليه من غير علم، قال في المبسوط: يقتضي مذهبنا سقوط القود. وفيه تردّد؛ لأنّ المتعيّن قطع اليمني فلا تجزئ اليسرى مع وجودها. وعلى هذا يكون القصاص في اليمني باقياً ويؤخر حتّى يندمل اليسار؛ توقياً من السراية بتوارد القطعين.
----------------------------------
مع ردّدية العليا؛ لتوقف تحصيل الواجب على الزائد، فيجوز من باب المقدّمة، ويجب حيث يطلب، كما لو قطع ذو الأصابع التامة كف مقطوع الأصابع على قول بعضهم، وكما لو عفا أحد الوليين، أو كان المشارك في القتل ممن لا يقتص منه كالأب، فإذا كان جائزاً في النفس ففي الطرف أولى.
وفيه نظر؛ لمنع جواز استيفاء الزائد في مسألة الأصابع وغيرها. وقد تقدّم(1). وجواز استيفاء أحد الوليين مع عفو الآخر وشبهه بدليل خارج، وإلّا كان مقتضى الدليل منعه. ولأنّ الاقتصاص في المتنازع يؤدّي إلى الجناية بغير حقّه؛ لأنّه يتلف عليه أنملتين وله واحدة، وقد قال تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ» (2) والمماثلة هنا منتفية.
وفي القواعد استشكل الحكم بالجواز(3). وله وجه إن لم يكن الراجح المنع.
قوله: «إذا قطع يميناً فبذل شمالاً فقطعها المجني عليه - إلى قوله - وفيه إشكال».
إذا وجب قطع يمين لكونه قد قطعها فبذل الجاني شمالاً، فإما أن يبذلها من غير استدعاء المقتصّ منه أو معه. وعلى التقديرين، فإما أن يكون المخرج عالماً بأنها اليسار مع سماعه لفظ اليمين، وتعمّده إخراج اليسار وعلمه بعدم الإجزاء عن اليمين، أو لا. وعلى التقديرات، فالمقتصّ إمّا عالم أو لا. فالأقسام ثمانية.
ص: 466
فأمّا الدية فإن كان الجاني سمع الأمر بإخراج اليمنى فأخرج اليسار مع العلم أنّها لا تجزئ وقصده إلى إخراجها فلادية أيضاً.
----------------------------------
وليعلم قبل البحث عن حكمها أن اليمين لا تقطع باليسار وبالعكس على ما مرّ. وإذا وجب القصاص في اليمين، واتّفقا على قطع اليسار بدلاً (1) عن اليمين، لم تكن بدلاً كما لو قتل في قصاص النفس غير القاتل برضاه.
وحينئذٍ فإن بذلها الجاني مع الاستدعاء عالماً بالحال فهي هدر؛ لأنّه أخرجها بنية الإباحة.
ثمَّ إن كان القاطع جاهلاً بالحال فلا قصاص عليه قطعاً. وفي وجوب الدية لليسار وجهان، نعم؛ لأنّه قطع غير مستحق وقع خطأ فوجبت له الدية، ولا؛ لإباحة المخرج يده مجاناً وإن لم يحصل النطق بذلك، فإنّ الفعل قد يقوم مقام النطق، كما أن تقديم الطعام إلى الضيف نازل منزلة الإذن لفظاً، وكما لو قال: ناولني متاعك لألقيه في البحر، فناوله إيّاه، فإنّه يكون كنطقه في عدم ضمانه بالإلقاء في البحر للمصلحة. وكذا تقديم الطعام لمن استدعاه.
ويشكل بأنّ الحكم في هذه الأمثلة ونظائرها مستند إلى العادة الغالبة، مع اتفاق المسؤول والمبذول، والأمر في المتنازع ليس كذلك، فإنّ المسؤول إخراج اليمين والمبذول اليسار.
ولأنّ الإذن في هذا الفعل لا يؤثر في الإباحة بخلاف الأمثلة المذكورة فكان القول بثبوت الدية أوجه.
وإن كان القاطع عالماً بالحال ضمنها؛ لإقدامه على الفعل المحرم الذي لم يبحه الإذن المقالية فضلاً عن الفعلية. ولكن هل يضمن اليسار بالدية أم بالقصاص ؟ فيه قولان من تحقّق قطعها قصداً ظلماً ؛ لعدم وجود ما يبيح القطع وهو الذي مال إليه المصنّف (رحمه اللّه). ومن أنّه يبذلها وله داعية القطع في القاطع، فكان شبهة في سقوط القود عنه. وهو اختيار الشيخ في المبسوط (2).
ص: 467
ولو قطعها مع العلم، قال في المبسوط: سقط القود إلى الدية؛ لأنّه بذلها للقطع، فكانت شبهة في سقوط القود.
وفيه إشكال ؛ لأنّه أقدم على قطع ما لا يملكه، فيكون كما لو قطع عضواً غير اليد.
وكلّ موضع لزمه دية اليسار يضمن السراية، ولا يضمنها لو لم يضمن الجناية.
• ولو اختلفا، فقال: بذلتها مع العلم لا بدلاً، فأنكر الباذل فالقول قول الباذل؛ لأنّه أبصر بنيته.
----------------------------------
ويضعف بأنّ مطلق الداعي لا يكفي في سقوط القصاص، وإنما يتوجه مع جهل القاطع لا مع علمه بالحكم.
ولو قطعها من غير بذل غلطاً فلا إشكال في الدية، كما أنّه مع العلم لا إشكال في القود.
وعلى كلّ تقدير، فهل يسقط قطع اليمين بما جرى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لأنّ الواجب قطعها، فلا تجزئ عنه اليسرى مع وجودها، وما فعله ليس عوضاً عنها؛ لأنّهما لو اتّفقا عليه لم يصر عوضاً.
ونعم؛ لأن اليسار تقطع باليمين مع فقدها كما مرّ(1)، فهي بدل في الجملة، وقد اتّفقا عليه، ولأن الرضى بأخذ اليسار عوضاً عن اليمين عفو عن اليمين. وفي المبسوط قوى الأوّل، وجعل الثاني مقتضى المذهب(2). والأقوى هو الأوّل.
قوله: «ولو اختلفا فقال : بذلتها مع العلم لا بدلاً، فأنكر الباذل، فالقول قول الباذل؛ لأنّه أبصر بنيّته» إلى آخره.
فائدة هذا النزاع تظهر على القول بسقوط القصاص أو الدية مع علم الباذل بكونها اليسار، وأنّ المطلوب شرعاً قطع اليمين، سواء قلنا إنها تقع بدلاً بقصده أم لا. ووجه تقديم
ص: 468
ولو اتّفقا على بذلها بدلاً لم تقع بدلاً، وكان على القاطع ديتها، وله القصاص في اليمنى؛ لأنّها موجودة. وفى هذا تردّد.
ولو كان المقتص مجنوناً فبذل له الجاني غير العضو فقطعه ذهب هدراً؛ إذ ليس للمجنون ولاية الاستيفاء فيكون الباذل مبطلاً حقّ نفسه.
• ولو قطع يمين مجنون فوثب المجنون فقطع يمينه، قيل : وقع الاستيفاء موقعه. وقيل : لا يكون قصاصاً ؛ لأن المجنون ليس له أهلية الاستيفاء. وهو أشبه. ويكون قصاص المجنون باقياً على الجاني، ودية جناية المجنون على عاقلته.
----------------------------------
قول الباذل: أن مرجع ذلك إلى القصد، وهو أعلم به.
والحقّ أنّها لا تقع بدلاً بالقصد كما مرّ(1). ووجه التردّد في القصاص ما تقدم بعينه (2).
قوله: «ولو قطع يمين مجنون فوثب المجنون فقطع يمينه» إلى آخره.
القولان حكاهما الشيخ في المبسوط، واختار منهما الثاني (3)، وهو الحقّ؛ لأنّ المجنون ليس له أهليّة استيفاء حقه، فكان فعله على عاقلته؛ لأنّ عمده خطأ كما تقرّر، وحقه بحاله.
ووجه القول بالسقوط أنّ المجنون إذا كان له حقّ معيّن فأتلفه كان بمنزلة الاستيفاء، كما لو كان له وديعة عند غيره فهجم عليها وأتلفها، فلا ضمان على المستودع.
والأصل ممنوع بل فعله منزل منزلة فعل الأجنبي بالنسبة إلى كونه استيفاء، فلا يسقط بفعله كما لا يسقط بفعل الأجنبي؛ لانتفاء الأهلية فيهما.
والاستشهاد بالوديعة كما ذكرناه، فإنّه مع عدم تفريط المستودع يكون إتلافه كتلفها من قبل أجنبي بغير اختياره، ومعه يضمن فيهما.
ص: 469
الرابعة: • لو قطع يدي رجل ورجليه خطأ واختلفا، فقال الولي: مات بعد الاندمال، وقال الجاني مات بالسراية. فإن كان الزمان قصيراً لا يحتمل الاندمال فالقول قول الجاني مع يمينه. وإن أمكن الاندمال فالقول قول الولي؛ لأنّ الاحتمالين متكافئان، والأصل وجوب الديتين. ولو اختلفا في المدة فالقول قول الجاني.
----------------------------------
قوله: «لو قطع يدي رجل ورجليه خطأ واختلفا - إلى قوله - وفيه تردّد».
إذا قطع يديه ورجليه فمات، واختلف الجاني والوليّ، فقال الجاني: مات بالسراية فعليّ دية واحدة؛ لدخول دية الطرف في دية النفس، والحال أن القطع خطأ شبيه العمد ليكون النزاع بينهما في محلّه، وقال الولي: بل مات بعد الاندمال فعليك ديتان. فإن لم يمكن الاندمال في مثل تلك المدة عادة؛ لقصر الزمان كيوم ويومين، فالقول قول الجاني ؛ لتطابق الأصل والظاهر على صدقه.
وهل يفتقر والحال هذه إلى اليمين أم لا؟ جزم المصنّف (رحمه اللّه) وقبله الشيخ في المبسوط بالأوّل (1)؛ لعموم: «واليمين على من أنكر»(2). ولجواز أن يكون الموت بسبب حادث كلدغ حيّة وشرب سمّ مدنف.
ويحتمل قوياً عدم اليمين؛ لأن المفروض عدم إمكان الاندمال والسبب الحادث لم يجر له ذكر حتّى يبقى وإنّما يجري التحليف بحسب الدعوى والإنكار.
وإن أمكن الاندمال في تلك المدة وعدمه فالقول قول الوليّ مع يمينه؛ لتكافؤ الاحتمالين، فيستصحب الحكم بوجوب الديتين، ولا يسقط بأمر محتمل.
هذا إذا اتّفقا على المدّة. فأما إن اختلفا فيها، فقال الجاني: مات قبل أن تمضي مدة يندمل في مثلها، إما مطلقاً كما قلناه أو مع تعيينها بالأيّام، وقال الولي: بل مضت مدة يندمل في
ص: 470
أما لو قطع يده فمات وادّعى الجاني الاندمال وادّعى الولي السراية فالقول قول الجاني إن مضت مدة يمكن الاندمال. ولو اختلفا فالقول قول الولى. وفيه تردّد.
ولو ادّعى الجاني أنه شرب سمّاً فمات وادّعى الولي موته من السراية فالاحتمال فيهما سواء.
----------------------------------
مثلها كذلك، فالقول قول الجاني؛ لأنّ الأصل بقاء المدّة حتّى يعلم انقضاؤها، وبقاء الجناية والسراية حتّى يعلم برؤها.
ولو كانت المسألة بالضد من هذا الحكم بأن كان قد قطع يد رجل فمات المقطوع، ثمّ اختلفا فقال الجاني مات بعد الاندمال فعلي نصف الدية، وقال الولي: بل قبل الاندمال فعليك كمال الدية، فإن كان قبل أن تمضي مدة يمكن فيها الاندمال فلا إشكال في تقديم قول الولي؛ لتطابق الأصل والظاهر على صدقه. والكلام في يمينه كما مرّ.
وإن كان بعد مضي مدة يمكن فيها الاندمال، فقد تعارض أصلا عدم الاندمال وبراءة ذمة الجاني ممّا زاد عن النصف فيقدّم قول الجاني؛ لشهادة الظاهر له مع الأصل.
وإن اختلفا في المدة، فقال الجاني: قد مضت مدة يندمل في مثلها، وقال الولي: ما مضت، ففي تقديم أيهما وجهان:
أحدهما - وهو الذي قطع به الشيخ في المبسوط (1)- تقديم قول الولي؛ لأنّ الأصل عدم مضيّ المدة، فالولي في هذه كالجاني في تلك.
والثاني: تقديم قول الجاني؛ لأصالة البراءة ممّا زاد على نصف الدية. والأشهر الأوّل. وممّا ذكرناه يظهر وجه التردّد.
قوله: «ولو ادّعى الجاني أنه شرب سمّاً فمات - إلى قوله - وفيه احتمال آخر ضعيف».
هنا مسألتان:
إحداهما متفرّعة على ما لو قطع إحدى يديه ومات، فقال الجاني : مات بسب آخر من
ص: 471
ومثله الملفوف في الكساء إذا قده بنصفين، وادّعى الولي أنه كان حياً وادّعى الجاني أنّه كان ميتاً، فالاحتمالان متساويان، فيرجح قول الجاني بما أنّ الأصل عدم الضمان وفيه احتمال آخر ضعيف.
----------------------------------
قتل أو شرب سمّ وليس عليه إلّا نصف الدية، وقال الوليّ: بل مات بالسراية وعليك دية تامّة، فقد تعارض هنا أصلا براءة الذمّة ممّا زاد على نصف الدية الثابت وجوبه بالجناية وعدم وجود سبب آخر.
وفي تقديم قول أيهما وجهان:
أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - تقديم قول الجاني ؛ ترجيحاً لأصل براءة الذمّة على أصل عدم تناول السم؛ لأنّ عدم تناوله لا يستلزم موته بالجناية، بل يحتمل الأمرين فكان أضعف من أصل البراءة المفضي إلى المطلوب من ترجيح جانب الجاني.
والثاني: تقديم قول الولي؛ ترجيحاً لأصله من حيث إن أصل البراءة قد انقطع بوجود سبب الضمان، فلا يزول إلى أن يعلم الاندمال. وفي المبسوط اقتصر على نقل الوجهين(1). ولم يرجّح شيئاً. وله وجه.
الثانية: لو قد ملفوفاً في ثوب بنصفين، وقال: إنه كان ميتاً، وادّعى الولى أنه كان حيّاً، فمن المصدّق منهما باليمين؟ فيه وجهان
أظهرهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) أيضاً (2) - تقديم قول الجاني ؛ لأنّ الأصل براءة ذمّته عن القصاص.
والثاني: تقديم قول الوليّ؛ لأنّ الأصل استمرار الحياة، ولأنّه كان مضموناً، والأصل استمرار تلك الحالة، فأشبه ما إذا قتل من عهده مسلماً وادّعى ردّته.
ص: 472
الخامسة : • لو قطع إصبع رجل ويد آخر اقتصّ للأوّل ثمّ للثاني ورجع بدية إصبع. ولو قطع اليد أوّلاً ثمّ الإصبع من آخر اقتصّ للأول وألزم للثاني دية الإصبع.
----------------------------------
وفيه وجه آخر يفرّق فيه بين أن يكون ملفوفاً فيما هو في صورة الكفن وبين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأحياء، فيقدّم قول الجاني في الأوّل دون الثاني.
وهذا احتمال ضعيف، فإنّ اللباس لا دخل له في الأحكام.
والاحتمال الضعيف الذي أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) يحتمل كونه هذا، وكونه الثاني، ولعلّه أظهر؛ لأنّ الشيخ اقتصر في المبسوط على نقل الأوّلين ولم يرجّح شيئاً، ولم يذكر هذا الأخير. نعم، هو وجه لبعض الشافعية ضعيف عندهم (1)أيضاً.
والوجهان يجريان فيما لو هدم عليه بيتاً وادّعى أنه كان ميتاً وأنكر الوليّ.
وسواء قلنا إن القول قول الجاني أم الوليّ، لو أقام الوليّ بينة على حياته عمل بها. ويجوز أن يصدق الشخص تارةً بالبيّنة وأخرى باليمين كالمودع في دعوى الرد. ولو قدمنا قول الجاني مع عدم البيّنة فلا إشكال في تقديم بيّنة الولي.
قوله: «لو قطع إصبع رجل ويد آخر اقتصّ للأوّل ثمّ للثانى» إلى آخره.
هذا إذا كانت الإصبع من اليد المقطوعة كاليمني مثلاً، لتكون مستحقة القطع في الصورة الأُولى قبل أن يستحق سائر اليد القطع، فيقدم السابق، ويصير الثاني بمنزلة ما إذا قطع يده الكاملة ذو يد ناقصة إصبعاً، فيرجع عليه بدية إصبع إما مطلقاً أو مع كون الإصبع قطعت باستحقاق، كما مرّ(2).
وعلى تقدير سبق قطعه اليد تصير يده مستحقّة للقطع قبل أن تقطع الإصبع، فيصير بمنزلة من قطع إصبعاً ولا إصبع له تماثلها، فيؤخذ منه ديتها.
ص: 473
السادسة • إذا قطع إصبعه فعفا المجني عليه قبل الاندمال، فإن اندملت فلا قصاص ولا دية؛ لأنّه إسقاط لحقّ ثابت عند الإبراء.
ولو قال: عفوت عن الجناية، سقط القصاص والدية؛ لأنّها لا تثبت إلا صلحاً.
ولو قال: عفوت عن الجناية، ثمّ سرت إلى الكفّ سقط القصاص في الإصبع
----------------------------------
قوله: «إذا قطع إصبعه فعفا المجني عليه قبل الاندمال، فإن اندملت فلا قصاص ولادية -إلى قوله - لأنّه بمنزله الوصية».
إذا قطع عضواً من غيره كيد وإصبع، فعفا المجني عليه عن موجب الجناية قوداً وأرشاً، فللجناية أحوال:
إحداها أن تقف ولا تتعدى محلّها وتندمل، فلا قصاص ولا دية؛ لأنّ المستحقّ أسقط الحقّ بعد ثبوته فيسقط، وهو اتفاق. ووافق عليه أكثر العامّة.
وخالف فيه بعضهم فأوجب الدية ؛ بناءً على أن استقرار الجناية باندمالها، فلا يعتبر العفو قبل الاستقرار(1).
ولا فرق في هذه الحالة بين أن يقتصر على قوله: عفوت عن موجبها، وبين أن يزيد فيقول: وعمّا يحدث منها، فإنّه لم يحدث منها شيء.
ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد، فهو عفو عن القود؛ لأنّه موجب الجناية عمداً، ويترتب عليه سقوط الدية أيضاً؛ لأنها لا تثبت إلا صلحاً، بناء على أنه الواجب بالأصالة. ومن قال: إن موجب العمد أحد الأمرين له في بقاء الدية وجهان. وعلى خلافه نبّه المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «والدية؛ لأنّها لا تثبت إلّا صلحاً».
الثانية: أن يسري القطع إلى عضو آخر، كما إذا قطع الإصبع فتأكل باقي اليد ثمّ اندمل.
ص: 474
وله دية الكفّ، ولو سرت إلى نفسه كان للولى القصاص في النفس بعد رد ما عفا عنه.
----------------------------------
فلا قصاص في الإصبع ولادية، وتجب دية الكفّ خارجاً منه الإصبع ؛ لأنّه عفا عن موجه الجناية الحاصلة في الحال فيقتصر أثره عليه.
ولبعض العامّة وجه بعدم وجوب الدية(1) أيضاً؛ لأنّه إذا أسقط الضمان بالعفو صارت الجناية غير مضمونة، كما إذا قطع يد مرتد فأسلم ثمّ سرى.
الثالثة: أن يسري القطع إلى النفس، فيثبت القصاص فيها عندنا بعد ردّدية ما عفا عنه، كما لو عفا أحد الأولياء. وقد تقدّم(2).
ولأنّ المعفوّ عنه قصاص الطرف دون النفس، وسقوط القصاص في الطرف لا يوجب سقوطه في النفس، ألا ترى أنه لو استوفى قصاص الطرف ثمّ مات المجني عليه بالسراية وجب قصاص النفس فليكن السقوط بالعفو كالسقوط بالاستيفاء.
ولبعض العامّة وجه بالمنع من القصاص هنا (3)، كما منع مع عفو بعض الأولياء؛ لأنّه عفا عن الطرف، ولا يمكن استيفاء النفس إلا باستيفاء الطرف ولأنّ السراية قد تولّدت من معفو عنه، فصارت شبهة دافعة.
هذا إذا اقتصر على العفو عن الجناية. أما لو أضاف إليه: «ما يحدث» ففي اعتباره فيما يحدث قولان:
أصحّهما أنّ هذه الألفاظ لاغية، ويلزمه ضمان ما يحدث، فإنّ إسقاط الشيء قبل ثبوته غير منتظم.
والثاني: أنها تعتبر، ولا يلزمه ضمان ما يحدث؛ لأنّ الجناية على الطرف سبب لفوات
ص: 475
ولو صرّح بالعفو صح ممّا كان ثابتاً وقت الإبراء، وهو دية الجرح. أما القصاص في النفس أو الدية، ففيه تردّد؛ لأنّه إبراء ممّا لم يجب. وفي الخلاف يصحّ العفو عنها وعمّا يحدث عنها. فلو سرت كان عفوه ماضياً من الثلث؛ لأنّه بمنزلة الوصيّة.
النفس، فإنّ النفس لا تباشر بالجناية ومثله الخلاف في الإبراء ممّا لم يجب كإبراء المتطبب والمتبيطر، بل هنا أولى. ويمنع من كونه غير ثابت؛ لأنّ الاستقرار أخص من الثبوت، فعدمه أعم من عدمه.
وفيه نظر؛ لأنّه لا يلزم من عمومه وجود الفرد الخاص، ومن المعلوم أنّ موجب النفس قبل الموت ليس بثابت وإنّما الثابت موجب الطرف خاصّة.
والقولان للشيخ أولهما فى المبسوط(1)، وثانيهما في الخلاف (2).
ثمّ على القول باعتباره هل يكون إبراء ممّا لم يجب أم وصية ؟ قيل بالأول؛ لعدم وجود لفظ الوصيّة (3)، فلا يصار إليها مع عدم لفظ يدلّ عليها.
وقيل بالثاني ؛ لأنّ الاستقرار إنما يتم بالموت، فلا يناسبه إلّا الوصية(4)، وهي لا تختص بلفظ.
وحينئذٍ فيبنى على صحة الوصيّة للقاتل وعدمها، فمن أجازها كالأكثر - وهو الذي فرضه الشيخ في الخلاف(5) - لزمه حكم الوصيّة في نفوذه من الثلث، ومن ردّها كابن الجنيد (6) - أبطل العفو هنا. نعم، أجاز الوصية للقاتل خطأ فيلزمه صحة العفو عنه خاصّة.
ص: 476
السابعة: • لو جنى عبد على حرّ جناية تتعلّق برقبته، فإن قال: أبرأتك لم يصحّ. وإن أبرأ السيّد صحّ؛ لأنّ الجناية وإن تعلّقت برقبة العبد فإنّه ملك للسيّد.
وفيه إشكال، من حيث إنّ الإبراء إسقاط لما في الذمّة. ولو قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، صح.
----------------------------------
قوله: «لو جنى عبد على حرّ جناية تتعلق برقبته» إلى آخره.
إذا جنى عبد جناية توجب المال، إما لكونها خطأ أو بسبب آخر، وعفا المجني عليه عن أرش الجناية، فإما أن يطلق العفو، أو يضيفه إلى السيّد، أو إلى العبد.
فإن أطلق العفو صح، بناءً على عدم اشتراط القبول فيه، بل هو إسقاط لما وجب في الذمّة أو مطلقاً.
وإن أبرأ السيّد صحّ؛ لأنّ الجناية وإن تعلّقت برقبة العبد إلّا أنّه ملك السيّد، فكان عفوه عنه في محله.
وإن أبرأ العبد لم يصح؛ لأنّ العفو عن غير من عليه الحق، وإن أضافه إلى متعلّقه وهو العبد، ولأنّ الإبراء إسقاط لما في الذمّة، والعبد لم يتعلّق بذمته شيء.
هكذا فصل الشيخ في المبسوط(1). والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل القول بصحّته على تقدير إبراء المولى. ووجه الإشكال ممّا ذكر، ومن أنّ الإبراء إذا كان إسقاطاً لما في الذمّة -كما ذكره الشيخ - لزم أن لا يصحّ إبراء المولى؛ لأنّه لم يتعلّق بذمته من الجناية شيء. وهو ظاهر. ولو جعل ذلك بلفظ العفو ارتفع الإشكال، إذ لا اختصاص له بما في الذمّة بخلاف الإبراء.
ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فالعفو عن كلّ واحد من العبد والمولى صحيح. وفي الإبراء إشكال من حيث إن القصاص لا يتعلّق بذمته.
ص: 477
• ولو أبرأ قاتل الخطأ المحض لم يبرأ. ولو أبرأ العاقلة، أو قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، صح.
ولو كان القتل شبيه العمد، فإن أبرأ القاتل أو قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، صح. ولو أبرأ العاقلة لم يبرأ القاتل
----------------------------------
قوله: «ولو أبرأ قاتل الخطأ المحض لم يبرأ» إلى آخره.
لما كان الإبراء إسقاط ما في الذمّة اشترط في صحّته تعلّقه بمن يكون الحقّ في ذمّته. ولمّا كان أرش الجناية في الخطأ المحض متعلقاً بالعاقلة، وفي شبيه الخطأ متعلّقاً بالقاتل، لزم منه صحة الإبراء إن تعلّق في الأُولى بالعاقلة وفي الثانية بالقاتل، دون العكس فيهما.
ولو أطلق العفو ولم يضفه إلى الجاني ولا إلى العاقلة، بل قال: عفوت عن الدية، صحّ مطلقاً.
ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة، حيث ذهب إلى أنّ الوجوب في قتل الخطأ يتعلّق بالقاتل والعاقلة يتحمّلون عنه(1)، فيصحّ إبراء كلّ منهما من الدية في الخطأ. وكلاهما ممنوع هذا إذا كان قتل الخطأ مستنداً إلى البيئة أو إقرار العاقلة. أمّا إذا أقرّ الجاني وأنكرت العاقلة، فإنّ الدية تجب على الجاني مطلقاً.
وهذه المسألة موجودة في بعض نسخ الكتاب دون بعض، وهي مناسبة لما قبلها، فكأنّ المصنّف (رحمه اللّه) ألحقها بالكتاب بعد نسخ الكتاب، فاختلفت النسخ لذلك. واللّه أعلم.
ص: 478
والنظر في أُمور أربعة:
الأوّل في أقسام القتل، ومقادير الديات
القتل عمد، وقد سلف مثاله(1). وشبيه العمد، مثل أن يضرب للتأديب فيموت. وخطأ محض، مثل أن يرمي طائراً فيصيب إنساناً.
----------------------------------
كتاب الديات
[الديات:](2) جمع دية، وهي المال الواجب بالجناية على الحرّ في نفس أو ما دونها. وربما اختصت بالمقدّر بالأصل، وأطلق على غيره اسم الأرش. وعلى التقديرين يراد من العنوان ما يشمل الأمرين بالأصل أو الاستتباع. وهاؤها عوض عن فاء الكلمة. وهي مأخوذة من الودي، وهو دفع الدية. يقال: وَدَيْتُ القتيل أدِيه ودياً(3).
ص: 479
• وضابط العمد: أن يكون عامداً في فعله وقصده.
وشبيه العمد أن يكون عامداً في فعله، مخطئاً في قصده.
والخطأ المحض: أن يكون مخطئاً فيهما.
وكذا الجناية على الأطراف تنقسم هذه الأقسام.
• ودية العمد مائة بعير من مسان الإبل، أو مائتا بقرة، أو مائتا حلّة، كلّ حلّة ثوبان من برود،اليمن، أو ألف دينار، أو ألف شاة، أو عشرة آلاف درهم.
وتستأدى فى سنة واحدة من مال الجاني مع التراضي بالدية.
وهي مغلظة في السن، والاستيفاء.
----------------------------------
والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: «وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه»(1) . والأخبار الكثيرة.
قوله: «وضابط العمد أن يكون عامداً في فعله وقصده» إلى آخره.
المراد بالعمد في الفعل: قصد الشخص المعين به، وبالعمد في القصد: أن يقصد قتله. وفي حكمه أن يكون الفعل ممّا يقتل غالباً وإن لم يقصده، كما مرّ(2).
وهكذا يجب تقييد الخطأ فى قصد شبيه العمد والخطأ المحض أن لا يقصد الفعل أصلاً، أو يقصده لكن لا بالشخص المعين فيتّفق وقوعه به. فالخطأ في الفعل أيضاً يحتاج إلى التقييد.
قوله: «ودية العمد مائة بعير من مسان الإبل، أو مائتا بقرة، أو مائتا حلة - إلى قوله - والاستيفاء».
فائدة دية العمد تظهر على القول بكونه يوجب أحد الأمرين: القصاص أو الدية (3). أما
ص: 480
وله أن يبذل من إبل البلد أو من غيرها، وأن يعطى من إبله أو إبل أدون أو أعلى إذا لم تكن مراضاً، وكانت بالصفة المشترطة.
• وهل تقبل القيمة السوقية مع وجود الإبل؟ فيه تردّد والأشبه لا.
وهذه الستة أصول في نفسها، وليس بعضها مشروطاً بعدم بعض، والجاني مخيّر في بذل أيها شاء.
----------------------------------
على القول بكون الواجب هو القود، ولا تجب الدية إلا صلحاً - كما هو مذهب المصنّف(1) والأكثر - ففائدته تظهر مع التراضي بالدية من غير تقييد، فيتخيّر في أدائها من أحد الأمور الستة. وإلى ذلك أشار بقوله «مع التراضي بالدية».
ويمكن فرضها بدون التراضي في قتل لا يوجب القود كقتل الوالد ولده، وحيث يفوت كما لو بادر أحد الأولياء إلى قتله بالنسبة إلى حصص الباقين، أو مات القاتل، أو كان القاتل عاقلاً والمقتول مجنوناً، أو كان القتل في أشهر الحرم بالنسبة إلى وجوب ثلث الدية زيادة على ما يجب في غيره، ونحو ذلك.
قوله: «وهل تقبل القيمة السوقية مع وجود الإبل؟ فيه تردّد، والأشبه لا».
منشأ التردّد من أنّ الواجب بالأصل الإبل فلا يعدل عنه إلى القيمة بغير دليل، والولي يستحقّ الإبل فلا يلزمه قبول غيرها.
وقال الشيخ في المبسوط :
الذي يقتضيه مذهبنا أنّه إذا كان من أهل الإبل وبذل القيمة قيمة مثله كان له ذلك، وإن قلنا ليس له ذلك كان أحوط، فأما إن كان من أهلها وطلب الولى القيمة لم يكن له ذلك (2).
والأصحّ الأوّل.
ص: 481
• ودية شبيه العمدة ثلاث وثلاثون بنت لبون، وثلاث وثلاثون حقّة، وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل. وفي رواية ثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وأربعون خَلفة، وهي الحامل. ويضمن هذه الدية الجاني دون العاقلة.
----------------------------------
قوله: «ودية شبيه العمد: ثلاث وثلاثون بنت لبون - إلى قوله - وهي الحامل».
مستند ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من أسنان الإبل وتفصيلها رواية أبي بصير (1) والعلاء بن الفضيل عن الصادق (2). واشتملت الأُولى على كون الثنية طروقة الفحل، والثانية على كونها خلفة طروقة الفحل والخلفة - بفتح الخاء وكسر اللام الحامل(3).
وفي سند الروايتين ضعف. فالأُولى بعلي بن أبي حمزة(4). والثانية بمحمد بن سنان(5)، ومحمد بن عيسى عن يونس(6).
والرواية التي أشار إليها المصنّف رواها عبد اللّه بن سنان - في الصحيح - قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الخطأ شبيه العمد أن يقتل بالسوط أو بالعصا أو الحجر، إنّ دية ذلك تغلّظ، وهي مائة من الإبل، منها أربعون خَلِفة بين ثنية إلى بازل عامها، وثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون»(7).
ص: 482
• وقال المفيد (رحمه اللّه): تستأدى في سنتين، فهي إذن مخفّفة عن العمد في السن وفي الاستيفاء.
ولو اختلف في الحوامل رجع إلى أهل المعرفة. ولو تبين الغلط لزم الاستدراك. ولو أزلقت بعد الإحضار قبل التسليم لزم الإبدال. وبعد الإقباض لا يلزم.
• ودية الخطأ المحض عشرون بنت مخاض وعشرون ابن لبون، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقّة.
----------------------------------
وعمل بمضمونها العلّامة في المختلف والتحرير(1). وهو في غير هما على الأول(2). وينبغي أن يكون العمل على الصحيح.
والمراد ب«بازل عامها» ما فطر نابها أي انشق في سنة، وذلك في السنة التاسعة، وربما بزل في الثامنة.
قوله: «وقال المفيد (رحمه اللّه): تستأدى في سنتين» إلى آخره.
إنّما نسب القول بتأديتها في سنتين إلى المفيد (3)؛ لعدم دليل صالح عليه من النصّ، وإنّما الموجود في النصوص تأدية دية الخطأ في ثلاث سنين، ودية العمد في سنة(4)، فكأنه رأى تأديتها في سنتين مناسباً؛ لكونها أخفّ من العمد وأغلظ من الخطأ، فجعلها بينهما. وعلى قوله يحصل التخفيف في الاستيفاء، وإلّا فالتخفيف فيها بشيء واحد، وهو السنّ في الإبل.
قوله: «ودية الخطأ المحض عشرون بنت مخاض -إلى قوله- وخمس وعشرون جذعة». تربيعها على الوجه الأوّل هو الموجود في صحيحة عبداللّه بن سنان – السابقة(5) - التي
ص: 483
وفي رواية: خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
وتستأدى في ثلاث سنين، سواء كانت الدية تامة أو ناقصة أو دية طرف. فهي مخفّفة في السن والصفة والاستيفاء. وهي على العاقلة لا يضمن الجاني منها شيئاً.
• ولو قتل في الشهر الحرام ألزم دية وثلثاً، من أي الأجناس كان تغليظاً.
وهل يلزم مثل ذلك في حرم مكة ؟ قال الشيخان: نعم. ولا يعرف التغليظ في الأطراف.
----------------------------------
لم يعمل بها المصنّف في دية شبيه العمد والرواية التي أشار إليها هنا بعد ذلك هي رواية العلاء بن الفضيل التي عمل بمضمونها فيما سبق (1). ولو عمل بالصحيحة في الموضعين كان أولى. وهكذا فعل جماعة من الأصحاب(2)، ولا أعلم الوجه في ذلك.
قوله « ولو قتل في الشهر الحرام ألزم دية وثلثاً» إلى آخره.
تغليظ الدية بالقتل في أشهر الحرم موضع،وفاق وبه نصوص كثيرة. وأمّا تغليظها في الحَرَم فلا نصّ عليه، ولكن حكم به الشيخان (3) وجماعة (4). وهو مناسب لاشتراكهما في الحرمة، وتغليظ قتل الصيد فيه المناسب لتغليظ غيره. ولا يخفى أن مثل هذا لا يصلح لايجاب ثلث الدية بمجرّده.
ص: 484
فرع: • لو رمى في الحلّ إلى الحرم فقتل فيه لزم التغليظ. وهل يغلّظ مع العكس؟ فيه التردّد.
• ولا يقتصّ من الملتجئ إلى الحرم فيه، ويضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يخرج. ولو جنى في الحرم اقتصّ منه؛ لانتهاكه الحرمة.
----------------------------------
وعليه، فلو اجتمع على القتل كونه في أشهر الحُرُم والحَرَم، ففي تعدّد التغليظ فتجب دية وثلثان، أو يقتصر على واحد وجهان، من أنّ كلّ واحد سبب تامّ فيه، وتعدد السبب يقتضي تعدّد المسبب، ومن أصالة عدم الزائد وصدق التغليظ بالثلث. وهذا أجود.
ونبّه بقوله ولا يعرف التغليظ في الأطراف على خلاف بعض العامّة حيث ألحقها بالنفس في ذلك(1). ولا دليل عليه عندنا ولا قائل به من أصحابنا.
قوله: «لو رمى في الحلّ إلى الحرم فقتل فيه لزم التغليظ» إلى آخره.
هذا متفرّع على قول الشيخين بالتغليظ في الحرم، وهو يتحقّق بالرمي فيه مع القتل إجماعاً، سواء رمى من الحلّ أم من الحرم.
ولو انعكس، بأن رمى من الحرم فأصابه في الحلّ فقتله، ففي التغليظ وجهان، من عدم صدق قتله في الحرم، مضافاً إلى أصالة عدم التغليظ، ومن حصول سببه في الحرم، فيكون كالقتل فيه، ومن ثمّ ضمن الصيد برميه من الحرم إلى الحلّ مع كونه محلّلاً بالأصل، وكان كما لو قتله في الحرم، فكون الإنسان المحترم كذلك أولى. وهذا مناسب للحكم بالتغليظ بالحرم لكن لما كان الأصل ضعيفاً فالفرع كذلك.
قوله: «ولا يقتص من الملتجئ إلى الحرم فيه - إلى قوله - قال به في النهاية».
لا خلاف في الأحكام المذكورة بالنسبة إلى الحرم، وهو مرويّ في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يجني في غير الحرم ثمّ يلجأ إلى الحرم، قال: «لا يقام عليه الحدّ، ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم ولا يبايع، فإنّه إذا فُعِل به ذلك يوشك أن يخرج
ص: 485
وهل يلزم مثل ذلك في مشاهد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)؟ قال به في النهاية.
ودية المرأة على النصف من جميع الأجناس.
• ودية ولد الزنى إذا أظهر الإسلام دية المسلم. وقيل: دية الذمّي. وفي مستند ذلك ضعف.
----------------------------------
فيقام عليه الحدّ، وإن جنى في الحرم جناية أُقيم عليه الحدّ في الحرم لأنّه لم يرَ للحرم حرمة»(1).
وأمّا إلحاق مشاهد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالحرم فلا نص عليه، والأصل يقتضي عدم ثبوته، ووجوب استيفاء الحق حيث كان. لكن ألحقها الشيخ في النهاية به(2)، وهو أعلم بالوجه؛ ولعدم ظهوره نسبه المصنّف إليه مقتصراً عليه.
قوله: «ودية ولد الزنى إذا أظهر الإسلام دية المسلم. وقيل: دية الذمّي. وفي مستند ذلك ضعف».
القول الأوّل مذهب الأكثر، وهم القائلون بإسلامه؛ لأنّه حينئذٍ مسلم فيدخل تحت عموم المسلمين.
والقول الثاني للمرتضى؛ مدعياً عليه الإجماع، وبأنه لا يكون مؤمناً فهو كالذمّي (3). واختاره الصدوق(4). و به روایتان مرسلتان عن الصادق(5)، والكاظم(6)(عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
ويظهر من ابن إدريس عدم ثبوت دية له أصلاً (7)؛ لأنّه ليس بمسلم ولا ذمّى وهو أوفق بأصله. والأصحّ الأوّل.
ص: 486
• ودية الذمّي ثمانمائة درهم يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسيّاً. ودية نسائهم على النصف.
وفي بعض الروايات دية اليهودي والنصراني والمجوسي دية المسلم. وفي بعضها: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم.
والشيخ (رحمه اللّه) نزلهما على من يعتاد قتلهم، فيغلّظ الإمام الدية بما يراه من ذلك حسماً للجرأة.
----------------------------------
قوله: «ودية الذمّى ثمانمائة درهم يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسيّاً» إلى آخره.
القول بأن دية الذمّي - من أي الفرق الثلاث كان - ثمانمائة درهم (1) هو الأصحّ رواية والأشهر فتوى. وممّا دلّ عليه صحيحة ليث المرادي قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن دية اليهودي والنصراني والمجوسي، قال: «ديتهم سواء ثمانمائة درهم»(2).
وروى سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خالد بن الوليد إلى البحرين فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس، فكتب إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إنّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة، وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدت إلى فيهم عهداً، قال : فكتب إليه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: إنهم أهل الكتاب»(3).
والرواية الدالّة على أنّ ديته دية المسلم رواها أبان بن تغلب - في الصحيح - قال: «دية النصراني والمجوسي دية المسلم»(4).
ص: 487
ولا دية لغير أهل الذمّة من الكفّار، ذوي عهد كانوا أو أهل حرب، بلغتهم الدعوة أو لم تبلغ.
ودية العبد قيمته. ولو تجاوزت دية الحرّ ردّت إليها. وتؤخذ من مال الجاني الحرّ، إن كانت الجناية عمداً أو شبيهاً، ومن عاقلته إن كانت خطأ.
ودية أعضائه وجراحاته، مقيسة على دية الحرّ. فما فيه ديته، ففى العبد قيمته، كاللسان والذكر. لكن لو جنى عليه جان بما فيه قيمته، لم يكن لمولاه المطالبة إلّا مع دفعه.
وكلّ ما فيه مقدّر في الحرّ من ديته فهو في العبد كذلك من قيمته. ولو جنى عليه جان بما لا يستوعب قيمته كان لمولاه المطالبة بدية الجناية مع إمساك العبد، وليس له دفع العبد والمطالبة بقيمته.
وما لا تقدير فيه من الحرّ ففيه الأرش، ويصير العبد أصلاً للحرّ فيه.
----------------------------------
وروى زرارة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: من أعطاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذمة فديته كاملة»(1).
«من والرواية الدالّة على أنّ دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم رواها أبو بصير بطريق ضعيف عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة ثمانمائة درهم» (2).
والشيخ (رحمه اللّه) جمع بين الأخبار، بحمل الأخبار الدالّة على زيادة ديته عن ثمانمائة درهم على من يعتاد قتل أهل الذمّة، فإنّه إذا كان كذلك فللإمام أن يلزمه دية المسلم كاملة تارةً، وأربعة آلاف درهم أخرى، بحسب ما يراه أصلح في الحال وأردع (3).
ص: 488
ولو جنى العبد على الحرّ خطاً لم يضمنه المولى ودفعه إن شاء، أو فداه بأرش الجناية، والخيار في ذلك إليه، ولا يتخيّر المجني عليه.
وكذا لو كانت جنايته لا تستوعب ديته، تخيّر مولاه في دفع أرش الجناية، أو تسليم العبد ليسترق منه بقدر تلك الجناية.
ويستوي في ذلك كله القن والمدبّر، ذكراً كان أو أُنثى.
• وفي أم الولد تردّد على ما مضى والأقرب أنّها كالقن، فإذا دفعها المالك في جنايتها استرقها المجني عليه أو ورثته. وفي رواية جنايتها على مولاها.
----------------------------------
قوله: «وفي أُمّ الولد تردّد على ما مضى».
في باب الاستيلاد. وقد تقدّم البحث فيه(1)، فلا وجه لإعادته.
ص: 489
والبحث إما في المباشرة، أو التسبيب، أو تزاحم الموجبات.
أمّا المباشرة، فضابطها الإتلاف لا مع القصد إليه كمن رمى غرضاً فأصاب إنساناً، وكالضرب للتأديب فيتّفق الموت منه.
وتتبيّن هذه الجملة بمسائل:
الأولى: الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً، أو عالج طفلاً أو مجنوناً لا بإذن الولي، أو بالغاً لم يأذن.
• ولو كان الطبيب عارفاً وأذن له المريض في العلاج فآل إلى التلف، قيل:
----------------------------------
قوله: «ولو كان الطبيب عارفاً وأذن له المريض في العلاج - إلى قوله - وهو أشبه».
إذا كان الطبيب حاذقاً، أي ماهراً في الصناعة والعلاج علماً وعملاً - والمراد: كونه عالماً بما يحتاج إليه ذلك المرض المعالج بحسب ما قرّر له في فنّه - فعالج فاتّفق التلف نفساً أو طرفاً، ففي الضمان قولان أصحّهما وأشهرهما: نعم. ذهب إليه الشيخان (1) والأتباع (2) والمصنّف (رحمه اللّه) وغيرهم(3). وجعلوه شبيه عمد. أما الضمان فلحصول
ص: 490
لا يضمن؛ لأنّ الضمان يسقط بالإذن، ولأنّه فعل سائغ شرعاً. وقيل: يضمن؛ لمباشرته الإتلاف. وهو أشبه.
فإن قلنا لا يضمن فلا بحث. وإن قلنا يضمن فهو يضمن في ماله.
• وهل يبرأ بالإبراء قبل العلاج؟ قيل: نعم لرواية السكوني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه، وإلّا فهو ضامن».
----------------------------------
التلف المستند إلى فعل الطبيب. وأمّا أنّه شبيه عمد فلتحقّق القصد إلى الفعل دون القتل.
وقال ابن إدريس: لا يضمن للأصل، ولسقوطه بإذنه، ولأنّه فعل سائغ شرعاً فلا يستعقب ضماناً (1).
وأُجيب بأنّ أصالة البراءة لا تتم مع دليل الشغل والإذن في العلاج لا في الإتلاف. ولا منافاة بين الجواز وبين الضمان، كالضارب للتأديب (2). وقد روى السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضمن ختاناً قطع حشفة غلام» (3). وهي شاهد وإن ضعف طريقها.
قال المصنّف (رحمه اللّه) في النكت:
الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه، والعمل على هذا الأصل، لا على هذه الرواية؛ لأنّ الأكثرين يطرحون ما ينفرد به السكوني(4).
وهذا يدلّ على دعوى الإجماع على الحكم، وعدم الالتفات إلى فتوى ابن إدريس بخلافه. وكذا ادّعى ابن زهرة الإجماع(5).
قوله: «وهل يبرأ بالإبراء قبل العلاج؟ - إلى قوله - لأنّه إسقاط الحق قبل ثبوته».
إذا قلنا بضمان الطبيب فهل يسقط بإبراء المعالج قبل العلاج؟ فيه قولان:
ص: 491
ولأنّ العلاج ممّا تمس الحاجة إليه، فلو لم يشرع الإبراء تعذّر العلاج.
وقيل: لا يبرأ؛ لأنّه إسقاط الحق قبل ثبوته.
----------------------------------
أحدهما - وهو المشهور بين الأصحاب - نعم. ذهب إليه الشيخ(1) وأتباعه (2)، وأبو الصلاح(3). والمصنّف في النافع(4)، والعلّامة في أحد قوليه(5)، والشهيد في اللمعة (6)؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك، فإنّه لا غنى عن العلاج، فإذا عرف البيطار والطبيب أنه لا مخلص له من الضمان توقف في العلاج مع الضرورة إليه، فوجب أن يشرع الإبراء دفعاً لضرورة الحاجة.
ولرواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه وإلا فهو له ضامن»(7). وإنّما ذكر الولي؛ لأنّه هو المطالب على تقدير التلف، فلمّا شرع الإبراء قبل الاستقرار صرف إلى من يتولّى المطالبة بتقدير وقوع ما يبرأ منه.
وفيه نظر، فإنّ الحاجة لا تكفي في شرعية الحكم بمجرّدها، مع قيام الأدلّة على خلافه. وضعف الخبر واضح. مع أنّا نقول بموجبه، فإنّ البراءة حقيقة لا تكون إلّا بعد ثبوت الحقّ؛ لأنها إسقاط ما في الذمّة من الحق. وينبه عليه أخذها من الولي؛ إذ لا حقّ له قبل الجناية، وقد لا يصير إليه بتقدير عدم بلوغها القتل إذا أدت إلى الضمان، ومن ثمّ ذهب ابن إدريس إلى عدم صحّتها قبله(8).
ص: 492
الثانية: • النائم إذا أتلف نفساً بانقلابه أو بحركته، قيل: يضمن الدية في ماله، وقيل: في مال العاقلة، وهو أشبه.
الثالثة: • إذا أعنف بزوجته جماعاً، في قبل أو دبر أو ضماً، فماتت ضمن الدية. وكذا الزوجة. وفي النهاية: إن كانا مأمونين لم يكن عليهما شيء. والرواية ضعيفة.
----------------------------------
وتوقف المصنّف (رحمه اللّه) هنا باقتصاره على نقل القولين. وكذلك العلّامة في الإرشاد(1). ورجح في القواعد الضمان (2)، ومال إليه في التحرير (3). وهو الوجه.
قوله: «النائم إذا أتلف نفساً بانقلابه أو بحركته» إلى آخره.
كون فعل النائم من باب الخطأ المحض يلزم العاقلة هو الموافق للقواعد السابقة؛ لعدم قصده إلى الفعل ولا إلى القتل، بل هو أولى من خطأ معه أصل القصد.
والقول الأوّل للشيخ (رحمه اللّه) (4) جعلاً لفعله من باب الأسباب لا الجنايات بالمباشرة، من حيث ارتفاع اختياره بالنوم. والأصحّ الأوّل.
قوله: «إذا أعنف بزوجته جماعاً، في قبل أو دبر أو ضمّاً» إلى آخره.
وجه الضمان حصول تلف نفس معصومة من فعله فيكون مضموناً وليس قاصداً للقتل؛ لأنّه الفرض، فلا يكون عمداً، وأصل الفعل مقصود، فيكون الخطأ في القصد خاصّة، وهو يقتضي كونه شبيه عمد، فتلزمه الدية في ماله.
ولصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أنّه سئل عن رجل أعنف على امرأته فزعم أنها ماتت من عنفه، قال: «الدية كاملة، ولا يقتل الرجل»(5). وهذا هو الأصح.
ص: 493
الرابعة: • من حمل على رأسه متاعاً فكسره، أو أصاب به إنساناً، ضمن جنايته في ماله.
----------------------------------
والشيخ (رحمه اللّه)(1) استند في التفصيل بالتهمة وعدمها إلى مرسلة يونس، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل أعنف على امرأته أو امرأة أعنفت على زوجها فقتل أحدهما الآخر، قال: «لا شيء عليهما إذا كانا مأمونين، فإن كانا متهمين ألزمتهما اليمين باللّه أنهما لم يريدا القتل» (2).
وضعف الرواية بالإرسال وجهالة بعض الرواة يمنع من العمل بمقتضاها، مع مخالفتها للأصل(3).
قوله: من حمل على رأسه متاعاً فكسره، أو أصاب به إنساناً، ضمن جنايته في ماله».
الأصل في هذه المسألة رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب إنساناً فمات أو انكسر منه، قال: «هو ضامن»(4).
وفي طريق الرواية سهل بن زياد، وهو ضعيف(5). وهي بإطلاقها مخالفة للقواعد؛ لأنّه إنّما يضمن المصدوم في ماله مع قصده إلى الفعل وخطئه في القصد، فلو لم يقصد الفعل كان خطاً محضاً كما تقرر.
وأمّا المتاع المحمول فيعتبر في ضمانه - لو كان لغيره - التفريط إذا كان أميناً عليه، كغيره من الأموال.
ص: 494
الخامسة : • من صاح ببالغ فمات فلادية. أما لو كان مريضاً أو مجنوناً أو طفلاً، أو اغتفل البالغ الكامل وفاجأه بالصيحة، لزم الضمان.
ولو قيل بالتسوية في الضمان كان حسناً؛ لأنّه سبب الإتلاف ظاهراً. قال الشيخ والدية على العاقلة.
وفيه إشكال، من حيث قصد الصائح إلى الإخافة، فهو عمد الخطأ.
وكذا البحث لو شهر سيفه في وجه إنسان.
• أما لو فرّ فألقى نفسه في بئر أو على سقف، قال الشيخ: لا ضمان؛ لأنّه ألجأه إلى الهرب لا إلى الوقوع فهو المباشر لإهلاك نفسه فيسقط حكم التسبيب.
----------------------------------
قوله: «من صاح ببالغ فمات فلا دية» إلى آخره.
الصياح كغيره من الأفعال الصادرة عن الإنسان يرجع فيها إلى القواعد المقرّرة، فإن كان ببالغ لا على حين غفلة منه فليس له أثر عادة في القتل، فإن اتّفق معه فلا ضمان به، بل هو موت اتفاقي كما يشهد به الوجدان، إلّا أن يعلم استناده إليه بوجه من الوجوه العارضة، فتلزمه الدية في ماله؛ لأنّه شبيه عمد.
وأمّا الصياح بالصبيّ والمجنون والمريض أو الصحيح على حين غفلة فإنّه من أسباب الضرر غالباً، فيلزم الصائح الدية في ماله؛ لقصده إلى الفعل، حيث لا يكون قاصداً للقتل، ولا هو ممّا يقتل غالباً، بناء على الغالب.
وقال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط : إن ديته على العاقلة(1)، جعلاً له من باب الأسباب.
وهو ضعيف؛ لظهور كونه مستنداً إلى فعله المقصود، والخطأ في قصد القتل، ولأنّ تضمين الغير جناية غيره على خلاف الأصل، فلا يصار إليه بدون دليل صالح.
قوله: «أما لو فرّ فألقى نفسه في بئر أو على سقف - إلى قوله في المضيق غالباً».
ما تقدّم حكم ما لو مات من الصيحة أو عندها على ما فصل، أمّا لو لم يمت كذلك لكنّه فرّ
ص: 495
وكذا لو صادفه في هر به سبع فأكله ولو كان المطلوب أعمى ضمن الطالب ديته؛ لأنّه سبب ملجئ.
وكذا لو كان مبصراً ووقع في بئر لا يعلمها، أو انخسف به السقف، أو اضطرّه إلى مضيق فافترسه الأسد؛ لأنّه يفترس في المضيق غالباً.
----------------------------------
خوفاً فألقى نفسه في بئر ونحوه، أو صادفه سبع في طريقه فافترسه، فإنّ الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط حكم بعدم الضمان فارقاً في الوقوع في البئر ومن السقف بين الأعمى وغيره، فأوجب الضمان لو كان المطلوب أعمى، وفي مصادفة السبع لم يفرّق بينهما وأسقط الضمان.
واحتجّ على الأوّل بأنّه إنّما ألجأه إلى الهرب لا إلى الوقوع، فإنه ألقى نفسه باختياره فهو من باب اجتماع المباشر والسبب غير الملجئ كالحافر والدافع، فإنّ الضمان على الدافع.
واحتجّ على الثاني بأنّ السبع له قصد واختيار فهو مباشر حقيقة، وذلك السبب غير ملجئ إلى افتراسه فكان أقوى(1).
والمصنّف (رحمه اللّه) اقتصر على نقل القول فيه مؤذناً بالتوقّف فيه أو ردّه، من حيث إنّه لولا الإخافة لم يحصل الهرب المقتضي للتلف. وكونه باختياره ممنوع، إذ لا مندوحة إلّا بالهرب، غايته أنّه اختار طريقاً على طريق بمرجّح أو بغير مرجّح، مع امتناع خلوّ الواقع منهما.
هذا إذا كانت الطريق متساوية في العطب. أما لو ترجّح أحدهما في السلامة فسلك الآخر باختياره اتّجه قول الشيخ.
ولو كانت الإخافة قد رفعت قصده أصلاً، فالضمان أوجه مطلقاً؛ لضعف المباشر حينئذٍ.
ص: 496
السادسة: • إذا صدمه فمات المصدوم فديته في مال الصادم. أما الصادم لو مات فهدر إذا كان المصدوم في ملكه، أو في موضع مباح، أو طريق واسع.
ولو كان في طريق المسلمين ضيق، قيل: يضمن المصدوم ديته؛ لأنّه فرّط بوقوفه في موضع ليس له الوقوف فيه، كما إذا جلس في الطريق الضيق وعثر به إنسان.
هذا إذا كان لا عن قصد. ولو كان قاصداً وله مندوحة، فدمه هدر، وعليه ضمان المصدوم
----------------------------------
ونصر شيخنا الشهيد قول الشيخ ب:
أنّ الهارب إما أن يكون مختاراً أو مكرهاً، فإن كان مختاراً فلا ضمان قطعاً، وإن كان مكرهاً فغايته أن يكون مثل مسألة: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، فإنّه لا ضمان، إذ لا معنى للخلاص عن الهلاك بالهلاك(1).
وفيه نظر؛ لأنّ المكره هنا - على تقديره - غير مباشر للقتل فاعتبر السبب، بخلاف القاتل نفسه، فإنّه يرجّح فيه المباشر على السبب، فافترقا.
قوله: «إذا صدمه فمات المصدوم فديته في مال الصادم - إلى قوله - وعثر به إنسان».
القول بضمان المصدوم دية الصادم على تقدير وقوفه في الطريق الضيّق للشيخ في المبسوط، محتجاً بأنّ وقوفه سبب في إتلافه، والمباشر ضعيف؛ لغروره. وشبهه بما لو جلس في طريق فعثر به إنسان آخر فماتا، فعلى عاقلة الجالس كمال دية العاثر (2).
والمصنّف (رحمه اللّه) توقف فيه حيث اقتصر على نقله قولاً. ووجهه أنّه لم يتلف الصادم مباشرة ولا تسبيباً، وإنّما حصل التلف بفعل الصادم، والوقوف من مرافق المشي فلا يستعقب ضماناً.
ص: 497
السابعة • إذا اصطدم حران فماتا، فلورثة كلّ واحد منهما نصف ديته، ويسقط النصف وهو قدر نصيبه؛ لأنّ كلّ واحد منهما تلف بفعله وفعل غيره.
ويستوي في ذلك الفارسان والراجلان والفارس والراجل. وعلى كلّ واحد منهما نصف قيمة فرس الآخر إن تلف بالتصادم، ويقع التقاص في الدية. وإن قصد القتل فهو عمد.
أمّا لو كانا صبيّين والركوب منهما فنصف ديّة كلّ واحد على عاقلة الآخر. ولو أركبهما وليّهما فالضمان على عاقلة الصبيّين؛ لأنّ له ذلك؛ ولو أركبهما أجنبي فضمان دية كلّ منهما بتمامها على المركب.
----------------------------------
ورد ب:
أنّ فعل الصادم غير معتبر، والمتلف في الحقيقة هو الواقف. والوقوف إنما يكون من المرافق إذا ساغ، كالوقوف في الطريق الواسع(1).
قوله: «إذا اصطدم حرّان فماتا، فلورثة كلّ واحد منهما نصف ديته» إلى آخره.
إذا اصطدم اثنان فلا يخلو إما أن يكونا حرّين أو عبدين أو بالتفريق ثمّ إما أن يكونا راكبين أو ماشيين أو بالتفريق وعلى التقادير التسعة إما أن يموتا أو أحدهما، أو يحصل بذلك جناية بغير الموت. ثمّ إمّا أن يقصدا التصادم أو أحدهما، أو لا يقصداه، بأن كانا في ظلمة أو أعميين وعلى تقدير القصد إمّا أن يكون الاصطدام ممّا يقتل غالباً أو لا.
والمصنّف (رحمه اللّه) أشار إلى حكم بعض صور المسألة. ونحن نشير إلى سائرها، فنقول:
إذا اصطدم حرّان ماشيان فوقعا وماتا، فكل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه، فهو شريك في القتلين، فيكون فعله هدراً في حقّ نفسه مضموناً في حقّ صاحبه، كما لو جرح نفسه وجرحه غيره ومات من الجراحة، فإنّه يسقط نصف الدية، ويجب على ذلك الغير
ص: 498
----------------------------------
نصفها. وذهب بعض العامّة إلى أنّه يجب لكلّ واحد منهما على الآخر كمال ديته(1).
ثمّ إن لم يقصد الاصطدام، بأن اتّفق ذلك في طريقه، أو كانا أعميين أو مدبرين فاصطدما من خلف أو كان كلّ واحد منهما غافلاً عن الآخر، فهو خطأ محض يجب على عاقلة كلّ منهما نصف ديته.
وإن تعمّد الاصطدام فالقتل الحاصل شبيه عمد؛ لأنّ الغالب أنّ الاصطدام لا يفضي إلى الموت. ولو فرض قصدهما القتل أو كان ممّا يقتل غالباً فهو عمد محض.
ولو كانا راكبين فحكم الدية كما بيناه. ولو تلفت الدابتان ففي تركة كلّ واحد نصف قيمة دابة الآخر؛ لاشتراكهما في إتلاف الدابتين. وأوجب بعض العامّة تمام القيمة كالدية (2). ولا مجال لتحمّل العاقلة هنا. وقد يقع التقاص هنا.
ولو غلبت الدابتان وجرى الاصطدام والراكبان،مغلوبان، ففيه وجهان:
أحدهما أنّ هلاكهما وهلاك الدابّتين حينئذٍ مهدران؛ لأنّه لا صنع ولا اختيار للراكبين فيما جرى فصار كالهلاك بالآفة السماوية.
والثانية: أنّ الحكم كما لو لم يكونا مغلوبين؛ لأنّ الركوب كان بالاختيار، والركوب لا يتقاعد في التسبيب عن حفر البئر، ولذلك كان الراكب في عهدة ما تتلفه الدابّة.
ولا فرق في اصطدام الراكبين بين أن يتّفق جنس المركوبين أو يختلف الجنس والقوّة، بأن يكون أحدهما راكباً بعيراً أو فرساً والآخر بغلاً أو حماراً. ولا في الراجلين بين أن يتّفق سيرهما قوّةً وضعفاً أو يختلف، بأن كان أحدهما يعدو والآخر يمشي ولا بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، كما إذا أجريت الدابتان فاصطدمتا من خلف، أو أحدهما مقبلاً والآخر مديراً؛ لأنّ الاصطدام والحركة المؤثرة إذا وجدت منهما جميعاً اكتفي به، ولم ينظر إلى مقادير المؤثّرة وتفاوت الأثر، كالجراحة الواحدة والجراحات.
ص: 499
----------------------------------
نعم، لو كانت إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنّه لا أثر لحركتها مع قوّة الدابّة الأُخرى، فلا يناط بحركتها حكم كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة.
ولا فرق بين أن يقع المصطدمان منكبين أو مستلقيين أو بالتفريق. وقال أبو حنيفة: إنّما يجب الضمان إذا وقعا مستلقيين(1)، وأما إذا وقعا منكبين فإنّهما مهدران؛ لأنّ الانكباب إنّما يحصل بفعل المنكب لا بفعل الآخر. ولو وقع أحدهما منكبّاً والآخر مستلقياً فالمنكبّ هدر، وضمان المستلقى على عاقلة المنكبّ.
ولو اصطدم ماش وراكب - لطول الماشي - وهلكا فالحكم كما بيّنّاه.
وفي معنى التصادم ما لو تجاذبا حبلاً فانقطع وسقطا وماتا. وأبو حنيفة عكس الحكم السابق هنا، فقال: إن وقعا منكبين فعلى عاقلة كلّ منهما تمام دية الآخر. وإن وقعا مستلقيين فهما مهدران؛ لأن انكباب كلّ واحد منهما هنا يكون بفعل الآخر(2)، والاستلقاء يكون بفعله لا بفعل الآخر، نقيض ما سبق. وظاهر الحال أنّ الأمر غير منضبط، وأنّ كلّ واحدة من الحالتين قد يكون بفعله وقد لا يكون.
هذا إذا كان المتجاذبان مالكين للحبل أو غاصبين، أما لو كان أحدهما مالكاً والآخر يظلمه قدم الظالم هدر.
وهذا كله حكم البالغين العاقلين. أمّا إذا اصطدم صبيان أو مجنونان أو بالتفريق، فإن ركبا بأنفسهما فالحكم كذلك، إلا أن الضمان هنا على العاقلة مطلقاً؛ لأنّ عمد الصبيّ خطأ.
وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما ولا إذن لم يهدر شيء من ديتهما ولا قيمة الدابّتين،
ص: 500
• ولو كانا عبدين بالغين سقطت جنايتهما ؛ لأن نصيب كلّ منهما هدر، وما على صاحبه فات بتلفه، ولا يضمن المولى.
----------------------------------
ولا شيء على الصبيّين ولا على العاقلتين، بل إن كان المركب واحداً فعليه قيمة الدايتين ودية الصبيّين. وفي محلّها ما علم من التفصيل.
وإن أركب ذا واحد وذا واحد، فعلى كلّ واحدٍ نصف قيمة كلّ واحدة من الدابتين؛ لأنّ الذي أركبه متعدّياً أتلف النصفين فضمنه. ويجب على كلّ واحد نصف دية الراكب. وفي محلّها ما ذكر.
وإن أركبهما وليهما لمصلحتهما فلا ضمان عليه، إذ لا تقصير، وكان كما لو ركبا بأنفسهما. ومع عدم المصلحة، ككون الدابة جموحة، فلا إشكال في ضمان الوليّ كالأجنبي.
قوله: «ولو كانا عبدين بالغين سقطت جنايتهما؛ لأن نصيب كلّ منهما هدر» إلى آخره.
ما تقدّم حكم تصادم الحرّين، فأمّا إذا كانا عبدين، فإن مات أحدهما وجب نصف قيمته متعلّقاً برقبة الحيّ. وإن ماتا معاً فهما مهدران؛ لأنّ جناية العبد تتعلّق برقبته، فإذا فاتت الرقبة فات محلّ التعلّق ولا فرق بين أن يختلف القيمتان أو يتّفقا.
ولو كان المصطدمان حرّاً وعبداً لزم كلّ واحد حكمه فإن مات العبد فنصفه هدر، ويجب نصف قيمته، ويكون على الحركقيمة الفرس وإن مات الحرّ وجب نصف ديته يتعلّق برقبة العبد.
وإن ماتا معاً وجب نصف قيمة العبد في تركة الحرّ، ويتعلّق به نصف دية الحرّ. وما تعلّق برقبة العبد إذا فات يتعلّق ببدلها، كما أنّ العبد الجاني الذي تعلّق الأرش برقبته إذا قتل انتقل إلى قيمته.
ثمَّ إن تساويا تقاصا، بناءً على أنّ نقد البلد الذي تجب فيه القيمة أحد أفراد الدية. ولو كان نصف القيمة أكثر وأوجبناها فللسيّد أخذ الزيادة من تركة الحرّ، وإلّا فلا. وإن كان نصف الدية أكثر فالزيادة مهدرة؛ لأنّه لا محلّ يتعلّق به.
ص: 501
• ولو اصطدم حران فمات أحدهما، فعلى ما قلناه يضمن الباقي نصف دية التالف. وعلى رواية عن أبي الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): يضمن الباقي دية الميّت. والرواية شاذّة.
• ولو تصادم حاملان سقط نصف دية كلّ واحدة، ويثبت نصف الدية للأُخرى. أمّا الجنين فيثبت في مال كلّ واحدة نصف دية الجنين.
----------------------------------
قوله: «ولو اصطدم حران فمات أحدهما» إلى آخره.
هذه المسألة بعض أقسام السابقة، وحكمها يعلم منها. وإنّما أعادها لينبه على الرواية(1) التي وردت في حكمها تخالف ما تقتضيه القواعد في حكم المسألة. والرواية مع شذوذها في طريقها جهالة، فهي مطرحة مع أنّها لا تدلّ على تصادم الحرّين، بل ظاهرها أنّ ضامن الدية صدم الميّت، فلا تخالف الأصول.
قوله: «ولو تصادم حاملان سقط نصف دية كلّ واحدة» إلى آخره.
من مسائل الاصطدام اصطدام المرأتين، وهو كاصطدام الرجلين.
ولو اصطدمت حاملان فماتنا وألقتا الجنين وجب في تركة كلّ واحدة أربع كفّارات: كفّارة لنفسها، وكفّارة لجنينها، وثالثة لصاحبتها، ورابعة لجنينها؛ لأنهما اشتركتا في إهلاك الأربعة، وسيأتي أنّ الكفّارة تجب مع الاشتراك على كلّ واحد من الشريكين كملاً كما تجب على المنفرد (2)، وكذلك تجب على قاتل نفسه.
ويجب على كلّ واحدة نصف غرّة لجنينها ونصف غرّة (3) لجنين الأخرى، أو نصف دية الجنين مع القصد إلى الاصطدام، وإلّا فعلى العاقلة. وأما الدية فيجب نصفها ويهدر نصفها كما مرّ(4).
ص: 502
الثامنة : • إذا مرّ بين الرماة فأصابه سهم فالدية على عاقلة الرامي. ولو ثبت أنّه :قال «حذار» لم يضمن؛ لما روي أن صبياً دق رباعية صاحبه بخطره «فرفع [ذلك] إلى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأقام بيّنة أنّه قال: حذارِ، فدرأ عنه القصاص، وقال: قد أعذر من حذّر».
ولو كان مع المار صبي فقربه من طريق السهم لا قصداً فأصابه، فالضمان على من قربه، لا على الرامي؛ لأنّه عرّضه للتلف. وفيه تردّد.
----------------------------------
قوله: «إذا مر بين الرماة فأصابه سهم فالدية على عاقلة الرامي» إلى آخره.
إنّما ينتفي الضمان عن الرامي مع التحذير حيث يسمع المرميّ ويمكنه الحذر، فلو لم يسمع أو لم يمكنه فالدية على عاقلة الرامي؛ لأنّه خطأ محض.
والمراد بالمار المصاحب للصبي البالغ ليتوجّه الحكم عليه بالضمان. فلو كان صبياً مثله فالضمان على عاقلته حيث يكون البالغ ضامنا.
والمراد بالضمان على الرامي حيث يفرض الضمان بسبب الرمي، وإلا فهو على عاقلته؛ لأنّه غير قاصد للشخص، وإلّا لاقتصّ منه.
والحكم بضمان المقرّب للشيخ (1) والقاضي (2)؛ نظراً إلى عدم قصد الرامي، فكان كالممسك والمقرّب كالذابح.
والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في ذلك. ومنشؤه ممّا ذكر، ومن حيث إنّ المقرّب عرّضه للتلف فهو سبب، والمباشر ضعيف للغرور، ومن أنّ الرامي هو المباشر حقيقة، والسبب لا يعلم الإصابة فجرى مجرى الدافع غيره في بئر لا يعلمها.
ومعنى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قد أعذر من حذر» (3) أي «صار ذا عذر». قاله الجوهري (4).
ص: 503
التاسعة: • روى السكوني عن أبي عبد اللّه : أن علياً ضمن ختاناً قطع حشفة غلام. والرواية مناسبة للمذهب.
العاشرة: • لو وقع من علوّ على غيره فقتله، فإن قصد وكان الوقوع يقتل غالباً فهو قاتل عمدٍ وإن كان لا يقتل غالباً، فهو شبيه بالعمد يلزمه الدية في ماله.
وإن وقع مضطراً إلى الوقوع أو قصد الوقوع لغير ذلك فهو خطأ محض، والدية فيه على العاقلة.
----------------------------------
وفي نهاية ابن الأثير : يقال: أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية من العذر، وقد يكون «أعذر» بمعنى عَذَر(1).
قوله: روى السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)» إلى آخره.
قد تقدّم أن الطبيب ونحوه يضمن في ماله وإن كان حاذقاً (2)؛ لأن فعله شبيه عمد. وهذه الرواية (3) تدلّ على ذلك وإن ضعف طريقها، فتكون شاهداً وإن لم تكن دليلاً.
قوله: «لو وقع من علوّ على غيره فقتله - إلى قوله - وهي رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)».
إذا وقع من علوّ على غيره فقتله، فإما أن يقصد الوقوع عليه، أو لا يقصده، أو يضطرّ إليه بهواء ونحوه. وعلى التقادير إما أن يكون الوقوع ممّا يقتل غالباً، أو لا يكون. وعلى تقدير القصد إمّا أن يقصد قتله أو لا.
فإن قصد الوقوع عليه باختياره، وكان ممّا يقتل غالباً، أو قصد القتل فهو عامد يقاد بالمقتول إن سلم، وتؤخذ الدية من تركته إن مات أيضاً، بناءً على أخذها من مال العامد إذا مات
ص: 504
أمّا لو ألقاه الهواء أو زلق فلا ضمان، والواقع هدر على التقديرات.
ولو دفعه دافع فدية المدفوع لو مات على الدافع أمادية الأسفل فالأصل أنّها على الدافع أيضاً.
----------------------------------
وإن قصد الوقوع دون القتل، ولم يكن ممّا يقتل غالباً فاتّفق به، فهو شبيه عمد تثبت فيه الدية في ماله.
وإن لم يقصده، بأن قصد الوقوع لا عليه، فهو خطأ محض يحال ضمانه على عاقلته.
وإن اضطرّ إلى الوقوع لم يكن القتل من فعله أصلاً، فلا ضمان عليه ولا على عاقلته.
وهذا كله مقتضى القواعد السابقة. ويدلّ على القسم الأخير رواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل وقع على رجل من فوق البيت فمات أحدهما، قال: «ليس على الأعلى شيء، ولا على الأسفل شيء»(1).
وعلى جميع هذه التقديرات فالواقع هدر؛ لأنّ قتله لم يستند إلى أحد يحال عليه الضمان.
ولو كان وقوعه بدفع غيره ممن يحال عليه، فالقول في ضمان المدفوع كما مر فيقتل به الدافع إن قصده وكان (2) ممّا يقتل غالباً، أو قصد القتل، وتلزمه ديته في ماله إن لم يكن كذلك مع قصده الفعل، وإلّا كان خطاً محضاً. هذا حكم المدفوع.
أمّا الأسفل ففي من يضمنه منهما قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف والعلّامة (3) وجماعة (4) - أنّه الدافع أيضاً؛ لأنّه السبب القوي، والمباشر ضعيف بالإلجاء أو منتفٍ.
ص: 505
وفي النهاية ديته على الواقع، ويرجع بها على الدافع. وهي رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الحادية عشرة: • روى أبو جميلة، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ قال: قضى أمير المؤمنين في جارية ركبت أخرى فنخستها ثالثة فقمصت المركوبة فصرعت الراكبة فماتت إنّ ديتها نصفان على الناخسة والمنخوسة. وأبو جميلة ضعیف، فلا استناد إلى نقله.
----------------------------------
والثاني: قول الشيخ في النهاية : إنّ دية الأسفل على الذي وقع عليه، ويرجع بها على الذي دفعه (1).
ومستنده صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل دفع رجلاً على رجل فقتله، فقال: «الدية على الذي وقع على الرجل فقتله لأولياء المقتول»، قال: «ويرجع المدفوع على الذي دفعه»، قال: «وإن أصاب المدفوع شيء فهو على الدافع أيضاً» (2).
قوله: روى أبو جميلة - إلى قوله - المشهور بين الأصحاب هو الأول».
هذه الرواية (3) مشهورة في هذا الباب، وعمل بمضمونها الشيخ(4)، وأتباعه(5)، مع أنها ضعيفة السند جدّاً، فإنّ أبا جميلة - وهو المفضل بن صالح - كان يضع الحديث حتّى أنّه أقرّ به(6)، فلا عبرة بما يرويه. وفي الطريق أيضاً ضعف من جهات أخر. ومع ذلك تخالف القواعد المتفق عليها من أنّ القتل إذا استند إلى جماعة يكون أثره موزّعاً عليهم، والراكبة من الجملة.
ص: 506
وفي المقنعة على الناخسة والقامصة ثلثا الدية، ويسقط الثلث لركوبها عبثاً. وهذا وجه حسن.
وخرّج متأخر وجهاً ثالثاً، فأوجب الدية على الناخسة إن كانت ملجئة للقامصة، وإن لم تكن ملجئة فالدية على القامصة.
وهو وجه أيضاً، غير أنّ المشهور بين الأصحاب هو الأوّل.
----------------------------------
وما نسبه المصنّف (رحمه اللّه) إلى المفيد ذكره في الإرشاد رواية (1)، وأفتى بمضمونها في المقنعة (2). واستحسنه المصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة في المختلف (3). وهو أوفق بالأصول من الرواية المشهورة.
والتخريج المتأخر لا بن إدريس، محتجاً عليه بأنه مع الإلجاء يصير فعل المكره مستنداً إلى مكرهه، ومع عدمه لا أثر للمكره(4). واختاره العلّامة(5)، ومال إليه المصنّف (رحمه اللّه) هنا. وهو أوجه الأقوال.
واعترض عليه الشهيد في الشرح ب:
أنّ الإكراه على القتل لا يسقط الضمان وبأن الحكم بوجوب الدية أيضاً لا يتمّ؛ لأن القموص ربما كان يقتل غالباً، فيجب القصاص(6).
وأجاب بأنّ الإكراه الذي لا يسقط الضمان ما يبقى معه قصد المكره إلى الفعل والمفروض هنا الإلجاء، وهو يرفع القصد ويصير كالآلة، ومن ثمّ وجب القصاص على الدافع دون الواقع إذا قتل بوقوعه آخر حيث بلغ الدفع الإلجاء، والقموص لا يستلزم
ص: 507
ومن اللواحق مسائل:
الأولى: • من دعا غيره فأخرجه من منزله ليلاً فهو له ضامن حتّى يرجع إليه. فإن عدم فهو ضامن لديته. وإن وجد مقتولاً وادّعى قتله على غيره وأقام بيّنة فقد برئ. وإن عدم البيّنة ففي القود تردّد، والأصحّ أن لا قود، وعليه الدية في ماله.
وإن وجد ميتاً، ففي لزوم الدية تردّد، ولعلّ الأشبه أنه لا يضمن.
----------------------------------
الوقوع بحسب ذاته فضلاً عن كونه ممّا يقتل غالباً، فمن ثمّ أطلقه.
ولو فرض أنه يوجب القتل في بعض الموارد لقلنا بإيجابه القصاص، لكنه نادر فلم يلتفت إليه، وصح إطلاق الحكم بدون.ه
قوله: «من دعا غيره فأخرجه من منزله ليلاً فهو له ضامن حتّى يرجع إليه فإن عدم فهو ضامن لديته» إلى آخره.
الأصل في هذه المسألة رواية عبد اللّه بن ميمون عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا دعا الرجل أخاه بليل فهو له ضامن حتّى يرجع إلى بيته» (1).
ورواية عمر و بن أبي المقدام قال: كنت شاهداً عند البيت الحرام ورجل ينادي بأبي جعفر وهو يطوف ويقول: يا أمير المؤمنين إنّ هذين الرجلين طرقا أخي ليلاً فأخرجاه من منزله فلم يرجع إليّ، واللّه ما أدري ما صنعا به؟! فقال لهما أبو جعفر : ما صنعتما به؟ فقالا: يا أمير المؤمنين كلّمناه ثمّ رجع إلى منزله. فقال لهما وافياني غداً صلاة العصر في هذا المكان. فوافياه من الغد صلاة العصر، وحضرته.
فقال الجعفر بن محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو قابض على يده يا جعفر اقض بينهم. فقال: «يا أمير المؤمنين اقض بينهم أنت». فقال له بحقي عليك إلا قضيت بينهم قال فخرج جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فطرح له مصلّى قصب فجلس عليه، ثمّ جاء الخصماء فجلسوا قدامه، فسألهم
ص: 508
----------------------------------
عن الدعوى، فأجابوا بمثل ما أجابوا به.
فقال جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا غلام اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): كلّ من طرق رجلاً بالليل فأخرجه من منزله فهو له ضامن، إلّا أن يقيم البيّنة أنه قد ردّه إلى منزله. يا غلام نحّ هذا فاضرب عنقه».
فقال: يا ابن رسول اللّه واللّه ما أنا قتلته، ولكنّي أمسكته ثمّ جاء هذا فوجأه فقتله. فقال: «يا غلام نحّ هذا واضرب عنق الآخر». فقال: يا ابن رسول اللّه واللّه ما عذّبته، ولكن قتلته بضربة واحدة. فأمر أخاه فضرب عنقه، ثمّ أمر بالآخر فضرب جنبيه وحبسه في السجن، ووقع على رأسه يحبس عمره، ويضرب كلّ سنة خمسين جلدة»(1).
إذا تقرّر ذلك، فإطلاق هاتين الروايتين يقتضي عدم الفرق بين أن يوجد مقتولاً أو ميتاً أو يشتبه حاله في ضمان المخرج له.
وظاهر الرواية الثانية أن الضمان بالقود. وأما الأُولى فإنّ مطلقه أعم منه ومن الدية. وكذا صدر الثانية.
وعمل بمضمونها جماعة من الأصحاب (2) منهم سلّار (3) وابن حمزة(4)، ما لم يدّع قتله على غيره فتجب الدية.
والشيخ (رحمه اللّه) حكم بالدية (5)؛ لأنّه أقلّ محتملات الضمان، مع الشك في جواز القتل، فينتفي للشبهة. وجاز استناد الحكم بالقتل في الثانية إلى إقراره، وأمر الغلام أوّلاً به
ص: 509
الثانية • إذا أعادت الظئر الولد فأنكره أهله، صدقت ما لم يثبت كذبها فتلزمها الدية، أو إحضاره بعينه، أو من يحتمل أنّه هو.
ولو استأجرت أخرى ودفعته بغير إذن أهله فجهل خبره ضمن الدية.
----------------------------------
لاستخراج ما فعلاه تهديداً وحيلةً على الإقرار الصحيح.
والمصنّف (رحمه اللّه) رجّح فيما لو وجد ميتاً عدم الضمان. وهو اختيار ابن إدريس(1) ؛ لأصالة البراءة إلى أن يثبت السبب الموجب لشغلها ولم يثبت؛ لأنّه لم يوجد به أثر القتل ولا لوث، وبتقديره فيلزمه حكمه لا ثبوت الدية أو القود مطلقاً.
والحقّ أنّ النصّ قاصر عن إفادة الحكم من حيث السند فإنّ فيه من لا يثبت عدالته، والمشترك بين الثقة وغيره(2)، مع مخالفته للأصل من ضمان الحرّ باليد فينبغي الاقتصار بالضمان على موضع الوفاق، وذلك فيما إذا وجد مقتولاً ولا لوث، وإلا ثبت موجب ما أقسم عليه الولي من عمد أو خطأ، ومع عدم قسامته يقسم المدعى عليه. ومن يعتمد الأخبار يلزمه الحكم بضمانه مطلقاً إلى أن يرجع؛ لدلالتها على ذلك، ثمّ يحتمل كونه بالقود وبالدية. ولو كان إخراجه بالتماسه ففي الضمان وجهان من عموم النصّ، وانتفاء التهمة، مع أصالة البراءة. ولعلّه أجود.
ولو تعدّد الداعي اشتركوا في الضمان كما تقتضيه الرواية ويوافقه الأصل، كما أن المدعوّ لو تعدّد ضمن الجميع على الوجه الذي ذكر.
قوله: «إذا أعادت الظئر الولد فأنكره أهله صدّقت ما لم يثبت كذبها فتلزمها الدية، أو إحضاره بعينه» إلى آخره.
وجه تصديقها في الأوّل كونها أمينة فيقبل قولها على ما في يدها، ولصحيحة الحلبي
ص: 510
الثالثة: • لو انقلبت الظئر فقتلته لزمها الدية في مالها، إن طلبت بالمظاءرة الفخر. ولو كان للضرورة فديته على عاقلتها.
----------------------------------
عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل استأجر ظئراً فدفع إليها، فغابت بالولد سنين ثمّ جاءت بالولد، وزعمت أمه أنها لا تعرفه، وزعم أهلها أنهم لا يعرفونه، قال: «ليس لهم ذلك فليقبلوه، فإنّما الظئر مأمونة» (1).
ولو ثبت كذبها، إما لقصور سنّ من أحضرته عن الولد المطلوب قطعاً أو زيادته كذلك، أو غير ذلك، لزمها الدية حتّى تحضره أو من يحتمله؛ لأنها لا تدعي موته وقد تسلّمته فيكون في ضمانها. ولو ادّعت الموت فلا ضمان.
وحيث تحضر من يحتمله يقبل وإن كذبت سابقاً؛ لأنّها أمينة ما لم يعلم كذبها.
ويدلّ على الحكم الثاني صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل استأجر ظئراً فأعطاها ولده فكان عندها، فانطلقت الظئر فاستأجرت أُخرى، فغابت الظئر بالولد فلا يدرى ما صنع به؟ قال: «الدية كاملة»(2).
قوله: «لو انقلبت الظئر فقتلته لزمها الدية في مالها إن طلبت بالمظاءرة الفخر ولو كان للضرورة فديته على عاقلتها».
مستند التفصيل روايات كثيرة :
منها رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أيّما ظئر قوم قتلت صبياً لهم وهي نأئمّة فانقلبت عليه فقتلته، فإنّ عليها الدية كاملة من مالها خاصّة، إن كانت إنّما ظاءرت طلباً للعزّ والفخر، وإن كانت إنّما ظاهرت من الفقر فإنّ الدية على عاقلتها»(3).
ص: 511
الرابعة • روى عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في لصّ دخل على امرأة فجمع الثياب ووطئها فثار ولدها فقتله اللصّ، وحمل الثياب ليخرج فحملت عليه فقتلته؟ فقال: يضمن مواليه دية الغلام، وعليهم في ما ترك أربعة آلاف درهم لمكابرتها على فرجها، وليس عليها في قتله شيء.
----------------------------------
ومثلها رواية عبد الرحمن بن سالم عن أبيه عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، ورواية سليمان بن خالد عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
وفي سند هذه الروايات ضعف وجهالة يمنع من العمل بمضمونها، مع مخالفتها للأصل من أن فعل النائم خطأ محض؛ لعدم القصد فيه إلى الفعل أصلاً.
وطلب الفخر لا يخرج الفعل عن وصفه بالخطأ وغيره. فكان القول بوجوب ديته على عاقلتها مطلقاً أقوى وهو خيرة أكثر المتأخّرين.
قوله: «روی عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في لصّ دخل على امرأة - إلى قوله - مهر أمثال القاتلة هذا القدر».
قد جرت عادة الفقهاء بذكر هذه المسألة وما بعدها منسوبة إلى الرواية (3)، نظراً إلى خفاء مدركها، ومخالفتها للأصول ظاهراً، وتوقف تنزيلها عليها على التأويل. مع أن الروايات كلها ليست من الصحيح، فليس إلى تكلّف ردّها إلى الأصول ضرورة.
وقد سئل المصنّف (رحمه اللّه) عن السبب في ذكرها مروية كذلك، فأجاب بستّة أوجه:
الأوّل: ليس على المصنّف(4)، اعتراض فيما يتخيّره من الإيراد، فلا يلزم بيان اللميّة؛ لأنّ التصنيف تابع للاقتراح.
ص: 512
ووجه الدية فوات محلّ القصاص؛ لأنّها قتلته دفعاً عن المال، فلم يقع قصاصاً. وإيجاب المال دليل على أن مهر المثل في مثل هذا لا يتقدر بخمسين ديناراً، بل بمهر أمثالها ما بلغ. وتنزل هذه الرواية على أنّ مهر أمثال القاتلة هذا القدر.
----------------------------------
الثاني: لعلّه رأى في موضع تلخيص العبارة أنهض بالمقصود، فاقتصر عليه.
الثالث: قد لا يكون مضمون الرواية اختياره، فيوردها ضبطاً للفتوى بالرواية.
الرابع: قد تكون فائدة الرواية غير معلومة؛ لبعدها عن شبه الأصول، فيورد الرواية بياناً لعلّة الحكم.
الخامس قد تكون الفتوى معلومة من فحوى الرواية لا من منطوقها، فلو اقتصر على إيراد الفتوى لم يدر السامع من أين نقلها، فيورد الرواية ليهتدي على منتزع الحكم.
السادس: أن ينبه على المستند؛ ليعرف هل هو حجة في نفسه أو ليس بحجّة؟
قال: وليس هذه الوجوه مجتمعة، بل قد تنفرد(1).
إذا تقرر ذلك، فهذه الرواية تنافي بظاهرها الأصول المقررة من وجوه:
الأوّل: أن قتل العمد يوجب القود، فلم يضمن الولي دية الغلام مع سقوط محلّ القود؟! وأجاب المصنّف (رحمه اللّه) عنه بمنع كون الواجب القود مطلقاً، بل مع إمكانه (2)، وإلّا فقد تقدّم الكلام في أنّ محلّ القود إذا فات وجبت الدية (3). إن لم نقل إن موجب العمد ابتداءً أحد الأمرين.
الثاني: الواجب في الوطء مكرهاً مهر المثل، فلم حكم بأربعة آلاف درهم، خصوصاً على القول بأن مهر المثل لا يتجاوز السنة؟! وأجاب المصنّف (رحمه اللّه) عنه باختيار
ص: 513
• وروي عنه، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في امرأة أدخلت ليلة البناء بها صديقاً إلى حجلتها، فلما أراد الزوج مواقعتها ثار الصديق فاقتتلا فقتله الزوج، فقتلته هي؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): تضمن دية الصديق، وتقتل بالزوج.
وفي تضمين دية الصديق تردّد، أقربه أن دمه هدر.
----------------------------------
كون موجبه مهر المثل، ومنع تقديره بالسنّة مطلقاً، بل حيث يجعل الحكم إلى الزوجة في تعيين المهر في عقد النكاح، لا فيما يشبه الجناية؛ تغليباً للمالية(1). وحينئذٍ فيحمل على أنّ مهر مثل هذه المرأة كان ذلك القدر.
الثالث: الواجب على السارق قطع اليد مع الشرائط، فلم يطلّ دمه ؟!
وأجاب (رحمه اللّه) بأنّ اللصّ محارب، والمرأة قتلته دفعاً عن المال، وإذا لم يمكن تخليص المال إلا بقتله يباح قتله، ويكون دمه هدراً(2).
وقد تقدم البحث فيه(3). وهو مروي في هذه المسألة بخصوصها(4).
الرابع: قتلها له كان بعد قتل ابنها، فلمَ لا يقع قصاصاً ؟!
وأجاب (رحمه اللّه) بأنها قصدت قتله دفعاً (5)؛ ليوافق الأصول. ولو فرض قتلها له قوداً بابنها لجاز أيضاً، ولا شيء على أولياء المقتول، أو قتلته لغير ذلك من الوجوه التي لا يجوز قتله قیدت به.
ونبّه بذلك كله على خلاف ابن إدريس (رحمه اللّه) حيث جعلها مخالفة للأدلة وأُصول المذهب(6)، بناءً على ما أشرنا إليه في الإيرادات الأربعة، مع أنّ حال الراوي مجهول.
قوله: «وروي عنه، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في امرأة أدخلت ليلة البناء بها صديقاً» إلى آخره.
ص: 514
----------------------------------
البحث في سند هذه الرواية (1)كالأُولى. وكذا حكمها. ونزّل ضمانها لدية الصديق على كونها سبباً لتلفه (2) ؛ لغرورها إيّاه
والمصنّف (رحمه اللّه) قوّى أن دمه هدر. وعلّل بأن للزوج قتل من يجده في داره للزنى، سواء هم بقتل الزوج أم لم يهمّ به؛ لما مرّ(3).
ويشكل بأنّ دخوله أعم من قصد الزنى، فلا يدلّ عليه. ولو سلم منعنا الحكم بجواز قتل من يريده مطلقاً.
والشهيد (رحمه اللّه) قوى أن دمه هدر مع علمه بالحال (4). وفيه الإشكال السابق وزيادة.
والوجه أن الحكم المذكور في الرواية - مع ضعف سندها - وقع مخالفاً للأصول، فلا يتعدّى الواقعة. ولعلّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علم بموجب ذلك.
والمراد بالبناء بالزوجة الدخول عليها. قال في الصحاح:
يقال : بنى على أهله بناءً، أي زفّها. والعامّة تقول : بنى بأهله، وهو خطأ والأصل فيه : أنّ الداخل بأهله يضرب عليها قبّة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله : بانٍ(5).
وفي نهاية ابن الأثير البناء: واحد الأبنية التي تسكنها العرب في الصحراء، ومنها الطراف، والخِباء، والبناء، والقبة، والمضرب (6).
ص: 515
الخامسة: • روى محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في في أربعة شربوا المسكر فجرح اثنان وقتل اثنان؟ فقضى دية المقتولين على المجروحين، بعد أن ترفع جراحة المجروحين من الدية.
----------------------------------
والحَجَلة - بفتح الجيم - واحدة حجال العروس وهي بيت يزيّن بالثياب والأسرة والستور قاله الجوهري(1).
وقال المصنّف في النكت هي الستر والخيمة التي تضرب للنساء في السفر (2).
قوله: «روی محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أربعة شربوا المسكر - إلى قوله - ما يوجب هذا الحكم».
الرواية الأُولى (3) مع ضعف طريقها، واشتراك محمد بن قيس بين الثقة(4)، والضعيف(5)، قد عمل بمضمونها كثير من الأصحاب. وفيها مع ذلك أنّ الاجتماع المذكور والاقتتال لا يستلزم كون القاتل هو المجروح وبالعكس، فينبغي أن يخص حكمها بواقعتها. نعم، يمكن الحكم بكون ذلك لوثاً يثبت القتل بالقسامة، من عمد أو خطأ وقتل وجرح.
وأورد عليها شيخنا الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح ب:
أنه إذا حكم بأنّ المجروحين قاتلان فلم لا يُستَقَد منهما؟! وبأن الحكم بأخذ دية الجرح وإهدار الدية لو ماتا مشكل أيضاً. وكذا في الحكم بوجوب الدية في جراحتهما؛ لأنّ موجب العمد القصاص (6).
ص: 516
وفي رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنّه جعل دية المقتولين على قبائل الأربعة، وأخذ دية جراحة الباقين من دية المقتولين.
ومن المحتمل أن يكون (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد اطلع في هذه الواقعة على ما يوجب هذا الحكم.
----------------------------------
وجوابه أنّ القتل وقع منهما حال السكر فلا يكون عمداً، بل يوجب الدية خاصّة وفرض الجرح غير قاتل كما هو ظاهر الرواية، ووجوب دية الجرح لوقوعه أيضاً من السكران كالقتل، أو لفوات محلّ القصاص.
وأمّا الرواية الثانية(1) فأضعف سنداً.
والحقّ فيهما أنّه حكم خاصّ في واقعة فلا يتعدى؛ لأن الفعل لا عموم له هذا على تقدير الاعتناء بهما.
وقال المصنّف (رحمه اللّه): هذا الاختلاف في حكاية الواقعة أحدث توقيفاً (2).
وقال ابن إدريس :
مقتضى أصول المذهب أن القاتلين يقتلان بالمقتولين، فإن اصطلح الجميع على أخذ الدية أُخذت كملاً من غير نقصان؛ لأن في إبطال القود إبطال القولين، وأمّا في نقصان الدية فذلك عند من خيّر بين القصاص وأخذ الدية، وذلك مخالف لمذهب أهل البيت(عَلَيهِم السَّلَامُ)(3).
ويشكل إثبات القتل على القاتلين بما ذكرناه سابقاً. ويمنع منافاة التخيير بين القصاص وأخذ الدية لمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). وقد تقدم البحث فيه(4)، وما ورد فيه من الأخبار، وذهاب قوم إليه من علمائنا الأخيار.
ص: 517
السادسة: • روى السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ومحمد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ستّة غلمان كانوا في الفرات فغرق واحد، فشهد اثنان على الثلاثة أنّهم غرّقوه، وشهد الثلاثة على الاثنين، فقضى بالدية ثلاثة أخماس على الاثنين وخمسين على الثلاثة.
وهذه الرواية متروكة بين الأصحاب، فإن صح نقلها كانت حكماً في واقعة فلا تعدّى؛ لاحتمال ما يوجب الاختصاص.
وضابطها ما لولاه لما حصل التلف، لكن علّة التلف غيره، كحفر البئر، ونصب السكين، وإلقاء الحجر، فإنّ التلف عنده بسبب العثار.
----------------------------------
قوله: روى السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)» إلى آخره.
الكلام في سندهاتين الروايتين(1) كما سبق(2). وفي الحكم مخالفة للأصل، من حيث قبول شهادة المشهود عليه على الشاهد في تلك الواقعة. والموافق للأصل من الحكم أن شهادة السابقين بها إن كانت مع استدعاء الوليّ وعدالتهم قبلت، ثمّ لا تقبل شهادة الآخرين للتهمة، وإن كانت الدعوى على الجميع أو حصلت التهمة عليهم لم تقبل شهادة أحدهم مطلقاً. ويكون ذلك لوثاً يمكن إثباته بالقسامة.
قوله: «في الأسباب وضابطها: ما لولاه لما حصل التلف» إلى آخره.
الواجب في إهلاك النفس وما دونها كما يجب بالمباشرة يجب بالتسبيب إليه حيث
ص: 518
ولنفرض الصورها مسائل:
الأولى: • لو وضع حجراً في ملكه أو مكان مباح لم يضمن دية العاثر. ولو كان في ملك غيره أو في طريق مسلوك ضمن في ماله.
----------------------------------
لا يجامع المباشرة، وإلا قدمت كما مرّ(1)، وسيأتي أيضاً (2). وقد تقدم في باب الغصب البحث عن السبب (3)، واختلاف تعريف المصنّف إيَّاه ثمّ وهنا، وأن هذا التعريف أقرب إلى معناه. لكن اختلف كلام المصنّف في جعل حفر البئر سبباً وعدمه، ففي الغصب جعله من جملة السبب(4)، وسيأتي أيضاً ما يفيده(5)، وهنا لم يجعله سبباً.
والأظهر أنّ كلّ واحد من الحفر ووضع الحجر ونصب السكين تصدق عليه السببية، لكن ما ينسب إليه التلف عرفاً يخص بالعلّة، والباقي بالسببيّة.
ثمَّ إن اتّحد السبب مع فقد المباشر فالضمان منسوب إليه. وإن تعدّد فالحوالة بالضمان على السبب المتقدّم في التأثير لا في العدوان كوضع الحجر بالنسبة إلى التردي في البئر. وكالتردّي مع وضع السكّين في قعر البئر، فإنّ العثار سابق على الوقوع، والوقوع سابق على إصابة السكين، وإن كان وضع الحجر متأخراً عن حفر البئر.
هذا كله مع تساويهما في العدوان، وإلا فالضمان على المتعدّي. وسيأتي تمام البحث فيه(6).
قوله: «لو وضع حجراً في ملكه أو مكان مباح لم يضمن - إلى قوله - وهو حسن».
لمّا ذكر أن الحفر ووضع الحجر ونصب السكين من أسباب الضمان في الجملة، أشار هنا إلى أنّه متى يكون عدواناً لينسب إليه الضمان؟ وذلك يفرض في مواضع:
أحدها: أن يفعل ذلك في ملك نفسه، فلا عدوان، حتّى لو دخل فيه داخل بإذنه وتردّى
ص: 519
وكذا لو نصب سكيناً فمات العاثر بها. وكذا لو حفر بئراً أو ألقى حجراً.
ولو حفر في ملك غيره فرضي المالك سقط الضمان عن الحافر.
ولو حفر في الطريق المسلوك لمصلحة المسلمين، قيل: لا يضمن؛ لأنّ الحفر لذلك سائغ. وهو حسن.
----------------------------------
فيه أو عثر به لم يجب ضمانه، إذا عرّفه المالك أنّ هناك بئراً وشبهه، أو كانت مكشوفة والداخل يتمكّن من التحرّز. فأما إذا لم يعرفه والداخل أعمى أو الموضع مظلم اتجه الضمان، كما لو دعا غيره إلى طعام مسموم فأكله.
وفي رواية زرارة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لو أنّ رجلاً حفر بئراً في داره ثمّ دخل رجل فوقع فيها لم يكن عليه شيء ولا ضمان، ولكن ليغطّها»(1).
الثاني: أن يفعل ذلك في مباح، كما لو حفر بئراً في موات أو وضع حجراً فلا ضمان أيضاً؛ لأنّه جائز كالحفر في الملك. وعلى ذلك يحمل قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «البئر جبار» (2).
الثالث: أن يحفر في ملك غيره أو يضع الحجر وشبهه، فإن كان بإذن المالك فهو كما لو فعل ذلك في ملك نفسه. وإن فعل بغير إذن المالك تعلّق به الضمان، لكونه عدواناً. ولو رضي المالك بالفعل بعد وقوعه فكالإذن فيه قبله؛ لزوال العدوان برضاه.
ولو كان الفعل في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذن الشريك تعلّق الضمان به أيضاً؛ لأنه لا يجوز الحفر في الملك المشترك.
الرابع: أن يحفر في شارع، فينظر إن كان ضيّقاً يتضرّر الناس بالبئر وجب ضمان ما هلك بها. وإن كان لا يتضرّر بها لسعة الشارع وانعطاف موضع البئر، فينظر أيضاً إن كان الحفر للمصلحة العامّة، كالحفر للاستقاء والحفر لماء المطر، ففي الضمان قولان:
أظهرهما أنّه لا ضمان لما فيه من المصلحة العامّة (3).
ص: 520
الثانية: • لو بنى مسجداً في الطريق، قيل: إن كان بإذن الإمام لم يضمن ما يتلف بسببه. والأقرب استبعاد الفرض.
----------------------------------
والثاني: الضمان(1). والجواز مشروط بالسلامة؛ لسبق استحقاق الاستطراق.
وربما فرّق بين إذن الإمام فيه وعدمه، فيضمن مع عدم إذنه مطلقاً، بخلاف ما إذا أذن؛ لأنّه النائب عن عامة المسلمين والنظر لهم.
وإن حفر لغرض نفسه وجب الضمان؛ لأنّه لا يختص الآحاد بشيء من طرق المسلمين. وربما احتمل التفصيل بوقوعه بإذن الإمام وعدمه.
قوله: «لو بنى مسجداً في الطريق» إلى آخره.
حكم البناء في الطريق حكم الحفر في الضمان وعدمه، لكن لو كان المبنيّ مسجداً بحيث لا يتضرر به المارّة - لكون الطريق واسعاً زيادة عمّا يحتاج إليه المارة أو عن المقدر شرعاً - فيعثر به إنسان أو بهيمة، أو سقط جداره عليه أو على مال فأهلكه، ففي ضمانه وجهان، من الشكّ في كون ذلك عدواناً، وكون الفعل على تقدير جوازه مشروطاً بالضمان.
وقيل: إن كان بناؤه بإذن الإمام لم يضمن ما يتلف بسببه، وإلّا ضمن (2).
والمصنّف (رحمه اللّه) استبعد الفرض، وهو كون الإمام يأذن في بناء مسجد في الطريق. وهذا الاستبعاد في محلّه إن فرض في موضع يضر بالمارة، أمّا في المتسع كما ذكرناه فلا بعد فيه. وقد جوّز جماعة (3) منهم الشهيد في الدروس(4) إحياء الزائد عن المقدّر شرعاً فجعله مسجداً لمصلحة المسلمين عامة أولى. فإن اتّفق إذن الإمام له في ذلك لم يضمن كما قيل(5)، وإلّا فالضمان قوي إن لم نجوّز إحياء الزائد.
ص: 521
الثالثة: • لو سلّم ولده لمعلّم السباحة فغرق بالتفريط ضمنه في ماله؛ لأنّه تلف بسببه. ولو كان بالغاً رشيداً لم يضمن؛ لأنّ التفريط منه.
الرابعة • لو رمى عشرة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم، سقط نصيبه من الدية؛ لمشاركته، وضمن الباقون تسعة أعشار الدية. وتتعلّق الجناية بمن يمدّ الحبال، دون من أمسك الخشب أو ساعد بغير المد.
ولو قصدوا أجنبياً بالرمي كان عمداً موجباً للقصاص. ولو لم يقصدوه كان خطاً.
----------------------------------
قوله: «لو سلّم ولده لمعلم السباحة فغرق بالتفريط ضمنه في ماله» إلى آخره.
وجه الضمان مع التفريط واضح؛ لكونه سبباً في تلفه، ولأنّ حفظه واجب عليه، فإذا فرط فيه ضمنه؛ لأنّه لا يستقل بحفظ نفسه من الماء الذي أوقعه فيه. وأما كونه في ماله؛ فلأنّه شبيه عمد؛ لقصده إلى الفعل دون القتل.
والتقييد بالتفريط يؤذن بأنه لا يضمن بدونه. وأطلق جماعة(1) ضمانه مطلقاً ؛ لما روي من ضمان الصانع وإن اجتهد وكان حاذقاً (2). وفي التحرير توقف في الضمان على تقدير عدم التفريط(3). وله وجه.
وفي حكم تسليم الولد غيره ممن له الولاية عليه. ولو كان المسلم غير وليّ، أو تسلّمه السبّاح بنفسه ضمن مطلقاً.
وفي حكم الصبي المجنون، دون البالغ العاقل؛ لأنّه في يد نفسه.
قوله: «لو رمى عشرة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم» إلى آخره.
إذا عاد حجر المنجنيق على الرامين فقتل واحداً منهم، فقد مات ذلك الواحد بفعله وفعل
ص: 522
وفي النهاية: إذا اشترك في هدم الحائط ثلاثة فوقع على أحدهم ضمن الآخران ديته؛ لأنّ كلّ واحد ضامن لصاحبه.
وفي الرواية بعد. والأشبه الأوّل.
----------------------------------
شركائه، كما في صورة الاصطدام. فإن كانوا عشرة أهدر عشر ديته، وعلى كلّ واحد من الباقين عشر الدية. ولو قتل اثنين فصاعداً فكذلك. ولو قتل العشرة أهدر العشر من دية كلّ واحد، ووجب في مال كلّ واحد من الباقين عشر الدية.
ولو أصاب الحجر غيرهم، نظر إن لم يقصدوا واحداً بعينه، أو أصاب غير من قصدوه(1)، كما إذا عاد الحجر وقتل بعض النظارة، فهو خطأ يوجب الدية على العاقلة.
وإن قصدوا شخصاً أو جماعة بأعيانهم، فقد جزم المصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة (2) بوجوب القصاص ؛ لقصدهم إلى فعل ما يقتل غالباً. وهو يتم مع تصوّر تحقّق (3) هذا القصد في المنجنيق، بأن كان المقصود في موضع مقابل بحيث يعلم الرامي أنه إذا سدّد الحجر أتى عليه. ولو لم يتّفق ذلك فهو شبيه عمد.
ولا يخفى أنّ الفعل لا ينسب إلى ممسك الخشب وصاحب المنجنيق وواضع الحجر ونحوهم ممن يساعد بغير المد.
وفي معنى الاشتراك في المنجنيق اشتراك جماعة في هدم حائط فوقع على أحدهم.
ومستند ما ذكره الشيخ في النهاية من ثبوت دية المقتول على الباقين خاصّة(4)، رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حائط اشترك في هدمه ثلاثة نفر فوقع على واحد منهم فمات فضمّن الباقين ديته؛ لأنّ كلّ واحد منهم ضامن صاحبه»(5).
ص: 523
الخامسة. لو اصطدمت سفينتان بتفريط القيمين وهما،مالكان فلكلّ منهما على صاحبه نصف قيمة ما أتلف صاحبه. وكذا لو اصطدم الحمّالان، فأتلفا أو أتلف أحدهما.
ولو كانا غير مالكين ضمن كلّ منهما نصف السفينتين وما فيهما؛ لأنّ التلف منهما، والضمان في أموالهما، سواء كان التالف مالاً أو نفوساً.
----------------------------------
وفي طريق الرواية ضعف (1) يمنع من العمل بها، مع مخالفتها للقواعد الشرعيّة.
قوله: «لو اصطدمت سفينتان بتفريط القيمين وهما مالكان، فلكل منهما على صاحبه نصف قيمة ما أتلف صاحبه» إلى آخره.
من مسائل الاصطدام ما إذا اصطدمت سفينتان وغرقتا بما فيهما، وكان ينبغي ذكرها مع تلك الصور السابقة (2) في الاصطدام.
ومحصّل حكم هذه أنّ الاصطدام إما أن يكون بفعلهما أو لا. فإن كان بفعلهما، نظر إن كانت السفينتان وما فيهما ملكاً للملاحين المجريين لهما، فنصف قيمة كلّ سفينة وما فيها مهدر، ونصف قيمتها وقيمة ما فيها على صاحب السفينة الأخرى؛ لأنّهما أتلفاهما وما فيهما بالشركة. فإن هلك الملاحان أيضاً فهما كالفارسين يموتان بالاصطدام.
وإن كانت السفينة لهما وحملا الأموال والأنفس، إما تبرّعاً أو بأجرة، فينظر إن تعمدا الاصطدام بما يعدّه أهل الخبرة مفضياً إلى الهلاك، تعلّق بفعلهما القصاص. وعلى كلّ واحد نصف قيمة ما في السفينتين من الأموال، لا يهدر منها شيء، ونصف قيمة السفينة الأخرى، ويهدر نصفها كما تقدّم، ويجري القصاص في القدر الذي يشتركان فيه.
وإن تعمّدا الاصطدام، وكان ما تعمدا به ممّا لا يفضي إلى الهلاك غالباً، وقد يفضي إليه،
ص: 524
ولو لم يفرّطا، بأن غلبتهما الرياح، فلا ضمان.
ولا يضمن صاحب السفينة الواقفة إذا وقعت عليها أُخرى، ويضمن صاحب الواقعة لو فرّط.
السادسة: • لو أصلح سفينة وهي سائرة، أو أبدل لوحاً فغرقت بفعله، مثل أن ستر مسماراً فقلع لوحاً، أو أراد رمّ موضع فانتهك، فهو ضامن في ماله ما يتلف من مال أو نفس؛ لأنّه شبيه بالعمد.
----------------------------------
فهذا شبيه عمد، والحكم كما بيّنا إلا أنه لا يتعلّق به القصاص.
وإن كانت السفينتان لغير الملاحين، وكانا أجيرين للمالكين أو أمينين لم يسقط شيء من ضمان السفينتين، بل على كلّ واحد منهما نصف قيمة كلّ سفينة. وكلّ واحد من المالكين بالخيار بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من أمينه ثمّ هو يرجع بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصفها منه والنصف من أمين الآخر. ولو كان المجريان عبدين تعلّق الضمان برقبتهما.
وإن حصل الاصطدام بغير فعلهما، فإن وجد منهما تقصير، بأن توانيا في الضبط ولم يعدلا بهما عن صوب الاصطدام مع إمكانه أو سيراهما في ريح شديدة لا تسير في مثلها السفن. أو لم يكملا عدتهما من الرجال والآلات، وجب الضمان على ما ذكرناه. وإن لم يوجد منهما تقصير وحصل الاصطدام بغلبة الرياح وهيجان الأمواج لم يضمنا؛ لأنهما مغلوبان، فأشبه ما إذا حصل الهلاك بصاعقة من السماء. ومهما كان أحد الملاحين عامداً دون الآخر أو مفرّطاً دون الآخر خص كلّ واحد منهما بالحكم الذي يقتضيه حاله على ما بيّن.
ولو كانت إحدى السفينتين مربوطة على الشط، فصدمتها السائرة فكسرتها فالضمان على مجري السفينة مع تفريطه أو تعديه: إذلا تقصير من الآخر ولا فعل. وكذا البحث في الحمالين.
قوله: «لو أصلح سفينة وهي سائرة، أو أبدل لوحاً فغرقت بفعله» إلى آخره.
أمّا ضمان الأنفس فواضح ؛ لأنّها تضمن بالعمد والخطأ، وما فعل مقصود له، وإنّما
ص: 525
السابعة: • لا يضمن صاحب الحائط ما يتلف بوقوعه إذا كان في ملكه أو مكان مباح. وكذا لو وقع إلى الطريق فمات إنسان بغباره.
ولو بناه مائلاً إلى غير ملكه،ضمن، كما لو بناه في غير ملكه. ولو بناه في ملكه مستوياً فمال إلى الطريق أو إلى غير ملكه ضمن إن تمكّن من الإزالة. ولو وقع قبل التمكن لم يضمن ما يتلف به؛ لعدم التعدي.
----------------------------------
أخطأ في قصد القتل، فيكون شبيه عمد.
ولو فرض إصابة الآلة غير الموضع المقصود بالإصلاح، أو انهتك غير الموضع ونحو ذلك فهو خطأ محض.
وأمّا ضمان المال مع عدم التفريط فمبني على ضمان الصانع وإن اجتهد. وقد تقدّم(1).
قوله: «لا يضمن صاحب الحائط ما يتلف بوقوعه» إلى آخره.
الحائط المبني في ملك صاحب الجدار لا ضمان فيما يتلف بسببه مطلقاً؛ لأن له التصرّف في ملكه كيف شاء. وكذا في المكان المباح.
ولو كان ملاصقاً للشارع، فإن بناء مستوياً فسقط من غير ميل ولا استهدام فلا ضمان أيضاً لما يتلف به؛ لأنّه تصرّف في ملكه، ولم يوجد منه تفريط.
ولو بناه مائلاً إلى ملكه، أو مال إليه بعد البناء وسقط فلا ضمان أيضاً؛ لأن له أن يبني في ملكه كيف شاء.
وإن بناء مائلاً إلى الشارع وجب ضمان ما يتولد من سقوطه. وإن بناه مستوياً ثمّ مال إلى الشارع وسقط فإن لم يتمكّن من الهدم والإصلاح فلا ضمان. وإن تمكن ولم يفعل ضمن؛ لتقصيره بترك النقض والإصلاح. وكذا القول لو سقط في الطريق فلم يرفعه حتّى عثر به إنسان أو هلك مال.
ص: 526
الثامنة: • نصب الميازيب إلى الطرق جائز، وعليه عمل الناس. وهل يضمن لو وقعت فأتلفت ؟ قال المفيد (رحمه اللّه): لا يضمن. وقال الشيخ يضمن؛ لأنّ نصبها مشروط بالسلامة والأوّل أشبه.
وكذا إخراج الرواشن في الطرق المسلوكة إذا لم تضر بالمارة. فلو قتلت خشبة بسقوطها، قال الشيخ يضمن نصف الدية؛ لأنّه هلك عن مباح ومحظور. والأقرب أنّه لا يضمن مع القول بالجواز.
----------------------------------
ولا فرق بين أن يطالبه الحاكم بالنقض وعدمه. وعند بعض العامّة أنّه لا يضمن إلّا مع مطالبته له أو إشهاده عليه فلم ينقضه (1).
والمراد بقوله «ولو بناه مائلاً إلى غير ملكه ضمن» أنّه بناه كذلك إلى ملك الجار أو الطريق. وللجار حينئذٍ منعه ومطالبته بالنقض. وكذا لو مال بعد الاعتدال، كما له المطالبة بإزالة أغصان شجرته إذا انتشرت إلى هواء الغير. وعن أبي حنيفة: إن نازع الجار وأشهد تعلق به الضمان حينئذٍ، وإلّا فلا(2).
ولو استهدم الجدار ولم يمل ففي مطالبته بنقضه وجهان، من أنه لم يتجاوز ملكه، ومن لحوق الضرر به كالمائل. وهذا أظهر.
قوله: «نصب الميازيب إلى الطرق جائز، وعليه عمل الناس وهل يضمن لو وقعت فأتلفت؟» إلى آخره.
ظاهر الأصحاب وغيرهم الاتّفاق على جواز إخراج الميازيب إلى الشوارع؛ لما فيه من الحاجة الظاهرة، وعليه عمل الناس قديماً وحديثاً من غير مخالف.
ويروى أنّ عمر مر تحت ميزاب للعباس (رضي اللّه عنه) فقطرت عليه قطرات فأمر بقلعه، فخرج العبّاس وقال: أتقلع ميزاباً نصبه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بيده؟! فقال عمر: واللّه
ص: 527
وضابطه أنّ كلّ ما للإنسان إحداثه في الطريق لا يضمن ما يتلف بسببه. ويضمن ما ليس له إحداثه كوضع الحجر وحفر البئر.
----------------------------------
لا ينصبه إلَّا مَنْ يرقى على ظهري، وانحنى للعبّاس حتّى رقى عليه فأعاده إلى موضعه(1).
وليكن الميزاب عالياً لئلا يضر بالمارة. وإذا سقط أو سقط منه شيء فهلك به إنسان أو مال ففي وجوب الضمان عليه قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ المفيد (2) وابن إدريس(3) - أنّه لا ضمان؛ لأنّه من ضرورة البناء، وللإذن في وضعه شرعاً، فلا يتعقّب الضمان.
والثاني - وهو اختيار الشيخ في المبسوط والخلاف (4) - الضمان؛ لأنّه ارتفاق بالشارع في غير السلوك، فيكون جوازه مشروطاً بالسلامة.
ولصحيحة أبي الصباح الكناني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من أضر بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن»(5).
ورواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): من أخرج ميزاباً أو كنيفاً، أو أوتد وتداً أو أوثق دابة أو حفر بئراً في طريق المسلمين فأصاب شيئاً فعطب فهو له ضامن»(6)، وهي نصّ في الباب.
ودعوى الضرورة ممنوعة؛ لأنّه يمكنه أن يتخذ لماء السطح بئراً في داره، أو يحدر
ص: 528
----------------------------------
الماء على الجدار في أُخدود من غير إخراج شيء.
وعلى هذا، فإن كان الميزاب خارجاً كلّه، بأن كان مسمّراً(1) بحذاء الحائط، تعلّق به جميع الضمان.
وإن كان بعضه في الجدار والبعض خارجاً، فإن انكسر وسقط الخارج أو بعضه وحصل الهلاك به فكذلك. وإن انقلع من أصله ففي ضمان الجميع كالأوّل أو البعض قولان من عموم الأخبار السابقة بالضمان، ومن أنّ التلف حصل من مباح مطلق ومباح بشرط السلامة، وهذا اختيار العلّامة (2) وجماعة (3).
ثم في قدر الواجب حينئذٍ وجهان:
أظهرهما: أنّ الواجب نصفه توزيعاً على النوعين؛ لأنّ الضمان يحال على السببين من غير التفات إلى زيادة أحدهما على الآخر، كما لو ضربه كلّ منهما ضربة فهلك، وكان ضرب أحدهما أقوى من الآخر.
والثاني: أنّه يوزّع على الداخل والخارج، فيجب قسط الخارج. وعليه فهل يوزّع باعتبار الوزن أو المساحة؟ وجهان.
وكذا يجوز إخراج الرواشن في الشوارع إذا لم تضر بالمارة، بأن تكون رفيعة لا يتضرر بها الراكب والحامل وغيرهما. ولو أضرّ منع وضمن ما تولّد منه.
وكذا القول في الساباط العالي.
والخلاف في الضمان بما يسقط من خشبه كالميزاب من عموم الأخبار، والإذن فيها شرعاً، مع القدح في دلالة الخبر الأوّل وسند الثاني.
ص: 529
• فلو أجج ناراً في ملكه لم يضمن ولو سرت إلى غيره، إلا أن تزيد عن قدر الحاجة، مع غلبة الظن بالتعدي، كما في أيّام الأهوية. ولو عصفت بغتة لم يضمن.
ولو أجّجها في ملك غيره ضمن الأنفس والأموال في ماله؛ لأنّه عدوان مقصود. ولو قصد إتلاف الأنفس مع تعذّر الفرار كانت عمداً.
• ولو بالت دابته في الطريق قال الشيخ يضمن لو زلق فيه إنسان وكذا لو ألقى قمامة المنزل المزلقة، كقشور البطيخ، أو رش الدرب بالماء.
والوجه اختصاص ذلك بمن لم ير الرش، أو لم يشاهد القمامة.
----------------------------------
قوله: «فلو أجج ناراً في ملكه لم يضمن ولو سرت إلى غيره» إلى آخره.
قد تقدّم البحث في تأجيج النار في ملك الإنسان فسرت إلى ملك غيره في باب الغصب(1)، فليراجع ثم.
ولا إشكال في الضمان على تقدير إضرامها في ملك الغير؛ لأنّه عدوان محض، سواء قصد الإتلاف به أم لا.
ثمّ إن قصده وكان ممّا يقتل غالباً، فإن كان الهالك نائماً أو لم يمكنه الفرار فهو عمد محض، وإلّا فهو شبيه عمد هذا حكم الأنفس. أمّا المال فيضمنه في ماله مطلقاً كغيره.
قوله: «ولو بالت دابته في الطريق قال الشيخ يضمن لو زلق فيه إنسان» إلى آخره.
وضع هذه الأشياء ونحوها في الطريق قد جرت العادة به على ممر الأعصار، كنصب الميازيب. والخلاف في الضمان بما يتلف بسببها قريب من الخلاف فيها. فالشيخ (رحمه اللّه) جعل الارتفاق بالطريق مشروطاً بسلامة العاقبة (2)، كما تقدّم.
والمصنّف (رحمه اللّه) خصّ الضمان في غير بول الدابة بمن لم ير الرش والقمامة، و سكت عن حكم بول الدابة مقتصراً على حكايته عن الشيخ (3).
ص: 530
التاسعة: • لو وضع إناء على حائطه فتلف بسقوطه نفس أو مال لم يضمن؛ لأنّه تصرّف في ملكه من غير عدوان.
العاشرة: • يجب حفظ دابته الصائلة، كالبعير المغتلم والكلب العقور. فلو أهمل
----------------------------------
ووجه التخصيص أنّ من رأى ذلك يكون مباشراً ومسبّباً في إتلاف نفسه، بخلاف غير الرائي، فإن السبب هو فاعل هذه الأشياء.
والوجه الضمان حينئذٍ ؛ لأن الطريق لم توضع لذلك، فيكون وضعها مشروطاً بالسلامة. ولكن يشكل الأمر في بول الدابة؛ لأنّه أمر اضطراري لا اختيار لصاحب الدابة فيه، بخلاف إلقاء هذه الأشياء ونحوها.
وفي القواعد رجّح عدم الضمان إلا مع الوقوف بالدابة. ثمّ استشكل الحكم (1).
ووجه الاستشكال أنّ المشي بالدابة هو فائدة الاستطراق، والبول ضروري، فلا تقصير، بخلاف الوقوف فإنّ الطريق لم توضع له.
ويشكل بما إذا حصل حالة البول خاصّة، فإنّ هذا المقدار من ضرورات السير عادة كالمشي في غيره(2).
قوله: «لو وضع إناء على حائطه فتلف بسقوطه نفس أو مال لم يضمن» إلى آخره.
هذا إذا كان مستقراً على العادة، وإلا ضمن للعدوان بتعريضه للوقوع. ومثله ما لو وضعه على سطحه أو شجرته الموضوعة في ملكه أو مباح.
قوله: «يجب حفظ دابته الصائلة، كالبعير المغتلم» إلى آخره.
يدلّ على ضمان ما يجنيه البعير المغتلم (3) ونحوه رواية عليّ بن جعفر عن أخيه
ص: 531
ضمن جنايتها. ولو جهل حالها أو علم ولم يفرّط فلا ضمان.
ولو جنى على الصائلة جان للدفع لم يضمن. ولو كان لغيره ضمن.
وفي ضمان جناية الهرة المملوكة تردّد، قال الشيخ يضمن بالتفريط مع الضراوة. وهو بعيد؛ إذ لم تجر العادة بربطها. نعم، يجوز قتلها.
الحادية عشرة: • لو هجمت دابة على أخرى فجنت الداخلة ضمن صاحبها. ولو جنت المدخول عليها كان هدراً.
وينبغي تقييد الأوّل بتفريط المالك في الاحتفاظ.
----------------------------------
موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن بختي اغتلم فقتل رجلاً ما على صاحبه؟ قال: «عليه الدية»(1). هذا إذا علم بحاله ففرّط في حفظه، وإلا فلا ضمان؛ لعدم التقصير.
وفي رواية مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان إذا صال الفحل أوّل مرّة لم يضمّن صاحبه، فإذا ثنّى ضمّن صاحبه»(2).
وفيه إشارة إلى التفصيل؛ لأنّه في أوّل مرّة لا يعلمه المالك غالباً، وفي المرة الثانية يعلم به. وفي حكم الثانية ما إذا طال زمان الأُولى بحيث علم به، واستمر كذلك بعد العلم قادراً على حفظه.
ولا يضمن دافع الصائل عن نفسه؛ لأنّ دفعه حينئذٍ جائز إن لم يكن واجباً، فلا يتعقّبه ضمان.
ووجه التردّد في ضمان جناية الهرّة الضارية ممّا ذكر في غيرها، ومن ثبوت الفرق، فإنّ العادة قاضية بحفظ الدواب وربطها بخلاف الهرّة.
وأمّا جواز قتلها والحال هذه فظاهرهم الاتّفاق عليه، كغيرها من المؤذيات.
قوله: «لو هجمت دابة على أخرى فجنت الداخلة ضمن صاحبها» إلى آخره.
ص: 532
الثانية عشرة: • من دخل دار قوم فعقره كلبهم ضمنوا إن دخل بإذنهم، وإلا فلا ضمان.
----------------------------------
التفصيل الأوّل بضمان جناية الداخلة دون المدخول عليها للشيخ (1) وجماعة (2)؛ استناداً إلى ما روي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ ثوراً قتل حماراً على عهد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فرفع ذلك إليه وهو في أناس من أصحابه منهم أبو بكر وعمر، فقال: يا أبا بكر اقض بينهم. فقال: يا رسول اللّه بهيمة قتلت بهيمة ما عليها شيء. فقال : يا عمر اقض بينهم. فقال مثل قول أبي بكر.
فقال: يا عليّ اقض بينهم فقال: نعم يا رسول اللّه إن كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان عليهم. فرفع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي جعل منّي من يقضي بقضاء النبيّين»(3).
والرواية ضعيفة السند بجماعة والتفصيل بتفريط مالك الداخل في احتفاظه فيضمن وعدمه فلا يضمن -كما اختاره المصنّف وأكثر المتأخّرين - قويّ. أمّا المدخول عليها فلا ضمان بسببها مطلقاً؛ لعدم التقصير من مالكها.
قوله: «من دخل دار قوم فعقره كلبهم ضمنوا إن دخل بإذنهم، وإلا فلا ضمان».
هذا الحكم بهذا التفصيل مشهور بين الأصحاب ومستنده أخبار كثيرة لا تخلو من ضعف في السند وإرسال منها رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل دخل دار قوم بغير إذنهم فعقره كلبهم، فقال: لا ضمان عليهم، وإن دخل بإذنهم ضمنوا»(4).
ص: 533
الثالثة عشرة: • راكب الدابة يضمن ما تجنيه بيديها. وفيما تجنيه برأسها تردّد، أقربه،الضمان لتمكنه من مراعاته. وكذا القائد.
ولو وقف بها ضمن ما تجنيه بيديها ورجليها. وكذا إذا ضربها فجنت ضمن. وكذا لو ضربها غيره ضمن الضارب وكذا السائق يضمن ما تجنيه.
ولو ركبها رديفان تساويا في الضمان ولو كان صاحب الدابة معها ضمن دون الراكب.
ولو ألقت الراكب لم يضمنه المالك، إلّا أن يكون بتنفيره.
----------------------------------
وإطلاق النصّ(1) والفتوى (2) يقتضي عدم الفرق بين أن يكون الكلب حاضراً في الدار عند الدخول وعدمه، ولا بين علمهم بكونه يعقر الداخل وعدمه.
قوله: «راكب الدابة يضمن ما تجنيه بيديها - إلى قوله - وكذا السائق يضمن ما تجنيه».
مستند هذا التفصيل روايات كثيرة، منها حسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أنه سئل عن الرجل يمرّ على طريق من طرق المسلمين فتصيب دابته إنساناً برجلها، قال: «ليس عليه ما أصابت برجلها، ولكن عليه ما أصابت بيدها؛ لأنّ رجلها خلفه إن ركب، وإن كان قائدها فإنّه يملك بإذن اللّه يدها يضعها حيث يشاء» (3).
ووجه التردّد فيما تجنيه برأسها من مساواته لليدين في التمكّن من حفظه، فيساويه في الحكم. وهو خيرة الشيخ في المبسوط(4). ومن أنّ هذا الحكم على خلاف الأصل فيقتصر
ص: 534
• ولو أركب مملوكه دابةٌ ضمن المولى جناية الراكب. ومن الأصحاب من شرط صغر المملوك. وهو حسن.
ولو كان بالغاً كانت الجناية في رقبته إن كانت على نفس آدمي. ولو كانت على مال لم يضمن المولى.
وهل يسعى فيه العبد؟ الأقرب أنّه يتبع به إذا أُعتق.
----------------------------------
فيه على مورد النصّ(1)، والأصل براءة الذمّة من الضمان فيما لا تفريط فيه مطلقاً. وهو ظاهر الشيخ في الخلاف(2).
قوله: «ولو أركب مملوكه دابةٌ ضمن المولى جناية الراكب. ومن الأصحاب من شرط صغر المملوك» إلى آخره.
القول بضمان المولى جناية العبد إذا أركبه مطلقاً للشيخ (3) وأتباعه(4).
ومستنده صحيحة عليّ بن رئاب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل حمل عبده على دابته فوطئت رجلاً، فقال: «الغرم على مولاه»(5).
والمشترط لصغر المملوك هو ابن إدريس؛ محتجاً بأنّ المولى فرّط بإركابه إياه الدابة بخلاف البالغ العاقل، فإنّ الجناية تتعلق برقبته أو يفديه السيّد (6).
والتفصيل،حسن إلا في الأخير، فإنّ الوجه أنه يتبع به بعد العتق كغيره من المضمونات عليه بغير إذن المولى.
ص: 535
• إذا اتّفق المباشر والسبب ضمن المباشر، كالدافع مع الحافر، والممسك مع الذابح وواضع الحجر في الكفّة مع جاذب المنجنيق.
ولو جهل المباشر حال السبب ضمن المسبب، كمن غطّى بئراً حفرها في غير ملكه فدفع غيره ثالثاً ولما يعلم، فالضمان على الحافر.
وكالفارٌ من مخيفة إذا وقع في بئر لا يعلمها.
ولو حفر فى ملك نفسه بئراً وسترها ودعا غيره فالأقرب الضمان؛ لأن المباشرة يسقط أثرها مع الغرور
----------------------------------
قوله: «إذا اتّفق المباشر والسبب ضمن المباشر» إلى آخره.
قد تقدّم البحث في ترجيح المباشر على السبب إلا في مواضع مخصوصة(1)، منها جهل المباشر بحال السبب، فإنّ المباشر يضعف بالغرور، ويرجّح عليه السبب، فلا وجه لإعادته.
قوله: «ولو حفر في ملك نفسه بئراً وسترها ودعا غيره فالأقرب الضمان» إلى آخره.
ضمان الحافر على هذا الوجه هو المشهور: لما أشار إليه من العلّة.
ووجه عدم الضمان أنه غير متعد بالحفر، وعموم رواية زرارة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لو أنّ رجلاً حفر بئراً في داره ثمّ دخل رجل فوقع فيها، لم يكن عليه شيء ولا ضمان ولكن ليغطّها» (2)، فإنّ الدخول أعم من كونه بدعائه وعدمه.
ومثله رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يحفر البئر في داره أو في أرضه؟ فقال: أمّا
ص: 536
• ولو اجتمع سببان ضمن من سبقت الجناية بسببه، كما لو ألقى حجراً في غير ملكه وحفر الآخر بئراً.
فلو سقط العاثر بالحجر في البئر فالضمان على الواضع. هذا مع تساويهما في العدوان. ولو كان أحدهما عادياً كان الضمان عليه.
وكذا لو نصب سكيناً في بئر محفورة في غير ملكه فتردّى إنسان على تلك السكين فالضمان على الحافر ترجيحاً للأوّل.
----------------------------------
ما حفر في ملكه فليس عليه ضمان، وأما ما حفر في الطريق أو في غير ما يملك فهو ضامن لما يسقط فيه»(1).
قوله: «ولو اجتمع سببان ضمن من سبقت الجناية بسببه - إلى قوله لكن الأوّل أشبه».
إذا اجتمع سببا هلاك فصاعداً قدّم الأوّل منهما. والمراد به الأسبق في الجناية وإن كان حدوثه متأخراً عن الآخر؛ لأنّه المهلك إما بنفسه أو بواسطة الثاني، وقد تحقّقت نسبة الضمان إليه قبل الآخر فيستصحب، كما لو حفر بئراً في محلّ عدوان أو نصب سكيناً، ووضع آخر حجراً، فعثر بالحجر ثمّ وقع في البئر، أو كان السكين في البئر فأصابته بعد وقوعه، فالضمان يتعلّق بواضع الحجر، لما ذكر؛ ولأن التعثر به هو الذي ألجأه إلى الوقوع في البئر أو على السكين، فكان كما لو أخذه وردّاه في البئر أو ألقاه على السكّين. وهذا كما لو كان في يده سكين فألقى عليه رجل إنساناً، فإنّ الضمان والقصاص على الملقي. ولا فرق بين وضع الحجر قبل حفر البئر وبعده. وكذا وضع السكّين.
وفي المسألة احتمالان آخران ذكر المصنّف (رحمه اللّه) أحدهما، وهو تساوي السببين في الضمان: لأن التلف حصل منهما، وكلاهما متعد فلا يرجح الأوّل بالسبق.
ص: 537
وربما خطر التساوي في الضمان؛ لأنّ التلف لم يتمحض من أحدهما. لكنّ الأوّل أشبه.
ولو سقط في حفرة اثنان فهلك كلّ منهما بوقوع الآخر فالضمان على الحافر؛ لأنّه كالملقي.
• ولو قال: ألق متاعك في البحر لتسلم السفينة، فألقاه فلا ضمان.
ولو قال: وعلى ضمانه، ضمن؛ دفعاً لضرورة الخوف. ولو لم يكن خوف،
فقال: ألقه وعليَّ ضمانه، ففي الضمان تردّد، أقربه أنه لا يضمن.
----------------------------------
والثاني: ترجيح السبب الأقوى، كما لو كان السكين قاطعاً موجباً، فيختصّ الضمان بناصبه. والأشهر الأوّل.
هذا إذا كانا متعدّيين. فلو اختص أحدهما بالعدوان اختصّ بالضمان، كما لو حفر بئراً أو نصب سكيناً في ملكه، ووضع المتعدي حجراً فعثر به، أو انعكس، بأن حفر المتعدي البئر في ملك غيره ووضع المالك الحجر، فإنّ الضمان على المتعدي في الصورتين.
أمّا الأُولى فواضح؛ لاجتماع العدوان والتقدّم.
وأمّا الثانية فلانتفاء العدوان عن المالك الموجب لانتفاء الضمان، فيختصّ بالسبب الآخر المتعدّي.
ويجيء على احتمال الاشتراك وجوب نصف الجناية على المتعدّي وسقوط النصف كما لو هلك بالتعدّي والسبع.
قوله: «ولو قال: ألق متاعك في البحر لتسلم السفينة - إلى قوله - وضمن هو الجميع».
هذه الصور تذكر في هذا الموضع لتعلقها بحال السفينة التي جرى الكلام في اصطدامها، وإلّا فلا اختصاص لها بالباب وقد تذكر في كتاب الضمان لمناسبة بعض أفرادها له.
والمقصود أّن السفينة إذا أُشرفت على الغرق يجوز إلقاء بعض أمتعتها في البحر، وقد
ص: 538
وكذا لو قال: مزّق ثوبك وعلي ضمانه، أو اجرح نفسك؛ لأنّه ضمان ما لم يجب ولا ضرورة فيه.
ولو قال عند الخوف ألق متاعك وعلي ضمانه مع ركبان السفينة، فامتنعوا، فإن قال: أردت التساوي، قبل ولزمه بحصته. والركبان إن رضوا لزمهم الضمان.
ولو قال: وقد أذنوا لي، فأنكروا بعد الإلقاء، صدقوا مع اليمين، وضمن هو الجميع.
----------------------------------
يجب رجاء نجاة الراكبين إذا خفت. ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الروح.
ولا يجوز إلقاء الحيوان إذا حصل الغرض بغيره. وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الحيوان قدّمت الدواب لإبقاء الآدميين والعبيد كالأحرار.
وإذا قصّر من لزمه الإلقاء فلم يلق حتّى غرقت السفينة فعليه الإثم لا الضمان، كما لو لم يطعم صاحب الطعام المضطرّ حتّى هلك. ولا يجوز إلقاء المال في البحر من غير خوف؛ لأنّه إضاعة للمال.
إذا تقرّر ذلك، فلو ألقى متاع نفسه أو متاع غيره بإذنه رجاء السلامة فلا ضمان على أحد. ولو ألقى متاع غيره بغير إذنه وجب الضمان؛ لأنّه أتلف مال غيره بغير إذنه من غير أن يلجئه إلى الإتلاف، فصار كما إذا أكل المضطرّ طعام الغير وليس كما إذا صالت عليه بهيمة فأتلفها دفعاً.
وذهب بعض العامّة إلى أنه لا ضمان على الملقي هنا.
والفرق بين إلقاء متاع نفسه لتخليص غيره من الغرق، وإطعام المضطر قهراً حيث يرجع عليه بقيمة الطعام دون المتاع أن ملقي المتاع إن كان يشمله الخوف - بأن كان بين ركّاب السفينة المشرفة على الغرق - فهو ساع في تخليص نفسه مؤدٍ واجباً عليه، وإن حصل بذلك تخليص غيره فلا يرجع على غيره، بخلاف صاحب الطعام مع المضطر. وإن كان صاحب المتاع على الشط أو في زورق لا خوف عليه، فالفرق أنّ المطعم مخلّص لا محالة ودافع
ص: 539
----------------------------------
للتلف الذي يفضي إليه الجوع، وملقي المتاع غير دافع لخطر الغرق، بل احتمال الغرق قائم على تقدير الإلقاء، وإن كان أضعف منه بدونه. وبعضهم أجرى الوجهين فيما إذا ألقى المتاع ولا خوف عليه(1).
ولو قال لغيره : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو على أنّي ضامن، أو على أنّي أضمن قيمته فألقاه فعلى الملتمس الضمان؛ لأنّه التماس إتلاف بعوض له فيه غرض صحيح، فصار كما لو قال: أعتق عبدك وعلي كذا، فأعتق.
وليس هذا على حقيقة الضمان وإن سمّي به، وإنّما هو بذل مال لتخليص عن الهلاك، فهو كما لو قال: أطلق هذا الأسير ولك عليّ كذا، فأطلقه.
ولو اقتصر على قوله: ألقه في البحر، ولم يقل: وعلي ضمانه، لم يضمن.
والفرق بينه وبين قوله: أد ديني، فأداه، حيث يرجع عليه أنّ أداء دينه ينفعه لا محالة، وإلقاء المتاع قد يفضي إلى النجاة وقد لا يفضي إليها، فلا يضمن إلّا مع التصريح به.
ويعتبر قيمة الملقى حين الإلقاء؛ لأنّه وقت الضمان ويحتمل اعتبارها قبل هیجان الأمواج لأنّ المال لا قيمة له في تلك الحالة.
ثمَّ الضمان إنّما يجب على الملتمس بشرطين:
أحدهما: أن يكون الالتماس عند خوف الغرق. فأما في غير حال الخوف فلا يقتضي الالتماس الضمان، سواء قال: على أنّي ضامن أم لم يقل، كما لو قال: أهدم دارك أو مزق ثوبك أو اجرح نفسك، ففعل.
هذا هو الأظهر في الحكم، بل ادّعى عليه الشيخ في المبسوط الإجماع (2). ولكن المصنّف (رحمه اللّه) تردّد في الحكم عند عدم الخوف.
ووجه التردّد من عدم الفائدة، والإجماع المدعى وكون الضمان على خلاف الأصل،
ص: 540
----------------------------------
وإنّما ترك العمل به مع الخوف للمصلحة فيبقى الباقي. ومن عموم الأمر بالوفاء بالعقود(1)، وهو عام إلّا ما خصّه الدليل، ولا مخصص هنا. وهو ضعيف، لوجود المخصّص.
والثاني: أن لا يختص فائدة الإلقاء بصاحب المتاع. فلو اختص به بطل، ولم يحلّ له أخذه؛ لأنّه فعل ما هو واجب عليه لمصلحة نفسه، فلا يستحق به عوضاً، كما لو قال للمضطرّ كلّ طعامك وأنا ضامن، فأكل، فإنّه لا يرجع على الملتمس. ويحتمل هنا الضمان، وهو الذي يقتضيه إطلاق كلام المصنّف (رحمه اللّه) لأنّه قد ضمن، والأصل الصحة. وجوابه كما سبق.
واعلم أنّ فائدة التخليص بإلقاء المتاع تفرض على وجوه:
أحدها: أن يختص بصاحب المتاع، كما إذا كان في السفينة المشرفة راكب ومتاعه، فقال له غيره من الشط أو من سفينة أخرى بقربها: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فألقى، لم يجب الضمان كما تقرّر.
وثانيها: أن يختص بالملتمس، بأن أشرفت سفينته على الغرق وفيها متاع لغيره وهو خارج منها، فقال له: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فيجب الضمان إذا ألقى. ولا فرق بين أن تحصل السلامة أو لا تحصل، حتّى إذا هلك الملتمس يكون الضمان في تركته؛ لأنّ المصحح رجاء الخلاص، وهو غرض صحيح عقلاً وشرعاً.
وثالثها: أن يختص بغيرهما، بأن كان الملتمس وصاحب المتاع خارجين من السفينة، وفيها جماعة مشرفون على الغرق، فيجب الضمان على الملتمس أيضاً؛ لأنّ تخليص من فيها غرض صحيح.
ورابعها : أن يرجع فائدة التخليص إلى ملقي المتاع وغيره، والملتمس خارج من السفينة.
ص: 541
----------------------------------
وفيما يجب وجهان أصحّهما أنّه يجب جميع الضمان؛ لأنّ فيه تخليص غير مالك المتاع، وهو يكفي مقصداً للإلزام.
والثاني: أنّه يقسّط المال الملقى على مالكه وعلى سائر من فيها، فيسقط قسط المالك ويجب الباقي. فلو كان معه واحد وجب نصف الضمان أو اثنان فالثلث، وهكذا، بناءً على عدم صحة الضمان لمصلحة المالك، وقد تقدّم(1).
وخامسها: أن يكون في الإلقاء تخليص الملتمس وغيره، بأن كان الملتمس بعض الركبان من بعض، فيجب الضمان على الملتمس؛ لأنّ له غرض تخليصه وتخليص غيره. ويجيء الاحتمال في سقوط حصة المالك. وهو ضعيف.
ومن فروع الباب ما لو قال: ألق متاعك وعلي ضمانه مع ركبان السفينة، أو: وأنا وركبان السفينة ضامنون، ونحو ذلك، فإن قال: كلّ منّا ضامن للجميع ونحوه فعليه ضمان الجميع. ولو قال: كلّ واحد بالحصّة، لزمه ما يخصه. وإن أطلق رجع إليه في قصد أحد الأمرين. فإن رضوا بذلك لزمهم كما ذكر. وإن امتنعوا أو أنكروا لزمه بحسب ما ضمن.
وإن قال: قد أذنوا لي في الضمان، فأنكروا، فإن كان قبل الإلقاء ضمن حصته حيث يكون الضمان للحصة لا غير بغير إشكال؛ لأنّ التقصير من المالك حيث لم يتوثق بالإشهاد عليهم.
وإن كان إنكارهم بعد الإلقاء فقد قطع المصنّف (رحمه اللّه) بضمان الملتمس الجميع. وهو يتمّ مع إرادة ضمان كلّ واحد الجميع بغير إشكال.
ووجهه مع إرادة التخلّص (2): أنّه قد غرّ المالك حيث أخبرهم بضمانهم، فيرجع عليه عند فواته منهم، كما لو قدّم طعام المغصوب منه إلى المالك.
وفيه قول آخر بضمان حصّته خاصّة لاستناد التفريط إلى المالك حيث لم يتوثّق لنفسه،
ص: 542
ومن لواحق هذا الباب. مسائل الزبية:
• فلو وقع واحد في زبية الأسد فتعلّق بثان وتعلّق الثاني بثالث والثالث برابع فافترسهم، فيه روايتان:
إحداهما: رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الأوّل فريسة الأسد، وغرّم أهله ثلث الدية للثاني، وغرّم الثاني لأهل الثالث
----------------------------------
ومن الجائز كون الملتمس صادقاً في خبره(1)، فكونه غاراً مطلقاً ممنوع. وهذا متّجه.
واعلم أن المتاع الملقى لا يخرج عن ملك مالكه، حتّى لو لفظه البحر على الساحل أو اتّفق الظفر به فهو لمالكه ويسترد الضامن المبذول إن لم تنقص قيمة المتاع ولو نقص لزمه من المبذول بنسبة النقص.
وهل للمالك أن يمسك ما أخذ ويردّ بدله ؟ فيه وجهان تقدّم مثلهما في المغصوب إذا ردّ الغاصب بدله لتعذر العين ثمّ وجدت (2)، وأولى بلزوم المعاوضة هنا.
قوله «مسائل الزبية».
الزبية - هي بضمّ الزاي - حفيرة تحفر للأسد. قيل: سمّيت بذلك؛ لأنهم كانوا يحفرونها
في موضع عالٍ، والرابية التي لا يعلوها الماء تسمّى الزبية، ومنه المثل: بلغ السيل الزبى (3). پقوله: «فلو وقع واحد في زبية الأسد فتعلّق بثان وتعلق الثاني بثالث والثالث برابع فافترسهم فيه روايتان».
هذه الواقعة مشهورة في كتب الخاصّة والعامّة (4) من قضاء عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيها عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) روايتان
ص: 543
ثلثي الدية، وغرّم الثالث لأهل الرابع الدية كاملة.
والثانية: رواية مسمع عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى: أنّ للأوّل ربع الدية، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية وللرابع الدية كاملة، وجعل ذلك على عاقلة الذين ازدحموا.
والأخيرة ضعيفة الطريق إلى مسمع، فهي إذن ساقطة. والأُولى مشهورة، لكنّها حكم في واقعة.
ويمكن أن يقال: على الأوّل الدية للثاني؛ لاستقلاله بإتلافه، وعلى الثاني دية الثالث وعلى الثالث دية الرابع لهذا المعنى.
فإن قلنا بالتشريك بين مباشر الإمساك والمشارك في الجذب كان على الأوّل دية ونصف وثلث، وعلى الثاني نصف وثلث، وعلى الثالث ثلث دية لا غير.
----------------------------------
مختلفتان من طرق الأصحاب(1)، وهما اللتان ذكرهما المصنّف (رحمه اللّه)، وفي طريق كلّ واحدة منهما ضعف. فالأُولى باشتراك محمد بن قيس الذي يروي عن الباقر بين الثقة (2) وغيره (3).
والثانية بجماعة منهم سهل بن زياد، وهو عامّي(4)، وابن شتون وهو غالٍ(5)، والأصمّ وهو ضعيف (6).
والمشهور في رواية الجمهور عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوافق الرواية الثانية. وطعنوا في طريقها
ص: 544
----------------------------------
أيضاً. ونقل في المبسوط عنهم أنهم رووا عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن للثاني ثلثي الدية؛ لأنّه هلك فوقه اثنان(1)، فيكون رواية ثالثة.
والمصنّف (رحمه اللّه) هنا اطرح الرواية الثانية لضعفها، وقصر الأُولى على واقعتها من غير ردّ لها، حيث إنّها مشهورة بين الأصحاب. وعمل بمضمونها جماعة منهم (2)، ومال إلى العمل بها في النكت(3).
ووجّهوها بأنّ الأوّل لم يقتله أحد، والثاني قتله الأوّل، وقتل هو الثالث والرابع، فقسّطت الدية على الثلاثة، فاستحق منها بحسب ما جني عليه، وسقط بحسب ما جناه، والثالث قتله اثنان وقتل هو واحداً فاستحق ثلثي الدية كذلك، والرابع قتله الثلاثة فاستحق تمام الدية.
وهذا توجيه ضعيف، فإنّه لا يلزم من قتله لغيره سقوط حقّه عن قاتله.
وربما قيل: بأنّ دية الرابع على الثلاثة بالسوية؛ لاشتراكهم في سببية قتله، وإنما نسبها إلى الثالث؛ لأنّه استحق على من قتله ثلثي الدية، فيضيف إليهما ثلثاً آخر ويدفعه إلى أولياء الرابع، كما أنّ الثاني استحق على الأوّل ثلثاً، فأضاف إليه ثلثاً آخر ودفعه إلى أولياء الثالث.
وهذا مع مخالفته للظاهر لا يتمّ في الآخرين؛ لاستلزامه كون دية الثالث على الأوّلين ودية الثاني على الأوّل؛ إذ لا مدخل لقتله من بعده في إسقاط حقّه كما مرّ.
ووجّهت الثانية بأنّ الأوّل مات بالوقوع في الزبية ووقوع الثلاثة فوقه، ووقوعهم نتيجة فعله، فلم يتعلّق به ضمان، فيسقط ثلاثة أرباع الدية؛ لكون ثلاثة أرباع السبب من فعله ويجب له ربع الدية على الحافر بتقدير كون حفره وقع عدواناً. وموت الثاني بجذب الأوّل ووقوع الاثنين فوقه، ووقوعهما من نتيجة فعله، فوجب ثلث الدية وموت الثالث من جذب
ص: 545
• ولو جذب إنسان غيره إلى بئر فوقع المجذوب فمات الجاذب بوقوعه عليه فالجاذب هدر. ولو مات المجذوب ضمنه الجاذب؛ لاستقلاله بإتلافه ولو ماتا فالأوّل هدر، وعليه دية الثاني في ماله.
----------------------------------
الثاني ووقوع الرابع فوقه، وذلك من فعله فوجب النصف. وباتفاق الروايات والأوجه تجب دية الرابع بكمالها؛ لأنّه لم يتسبب بشيء. وإنّما يحصل الاختلاف فيمن يجب عليه.
ويبقى فيها - مع ضعفها - إيجاب الدية على العاقلة، مع أن القتل إمّا عمد أو شبهه، وكلاهما يمنع تعلّق العاقلة به عندنا نعم، يجري على مذهب العامّة؛ لأنهم يوجبون دية شبيه العمد على العاقلة كالخطأ المحض (1).
وحيث يطرح الخبران لما ذكر فما وجهه المصنّف أخيراً هو الوجه لاستقلال كلّ واحد بإتلاف من أمسكه. هذا إذا لم نقل بالتشريك بين المباشر للإمساك والمشارك في الجذب، بل قلنا بتقديم المباشر.
ولو قلنا بالتشريك؛ لأنّ لكلّ فعلاً كان على الأوّل دية الثاني؛ لاستقلاله بإتلافه، ونصف دية الثالث؛ لأنّه تلف بجذبه وجذب الأوّل، وثلث دية الرابع؛ لأنّه تلف بجذب الثلاثة إيّاه. وعلى الثاني نصف دية الثالث وثلث دية الرابع لما ذكر. وعلى الثالث ثلث دية لا غير.
قوله: «ولو جذب إنسان غيره إلى بئر فوقع المجذوب فمات الجاذب بوقوعه عليه -إلى قوله - والثاني نصفين».
إذا وقع في البئر واحد بعد واحد فهلكوا أو بعضهم فإما أن يكون وقوع الثاني بجذب الأوّل أو بغير جذبه. فهنا حالتان اقتصر المصنّف (رحمه اللّه) على الثانية منهما.
الأولى: أن يقع من غير أن يجذبه الأوّل. فإن مات الأوّل فالثاني ضامن؛ لأنّه أتلفه بفعله (2) ووقوعه عليه، فكان كما لو رماه بحجر فقتله.
ص: 546
ولو جذب الثاني ثالثاً فماتوا بوقوع كلّ منهم على صاحبه، فالأوّل مات بفعله وفعل الثاني، فيسقط نصف ديته، ويضمن الثاني النصف. والثاني مات بجذبه الثالث عليه وجذب الأوّل، فيضمن الأوّل نصف ديته، ولا ضمان على الثالث. وللثالث الدية. فإن رجّحنا المباشرة، فديته على الثاني. وإن شركنا بين القابض والجاذب فالدية على الأوّل والثاني نصفين.
----------------------------------
وما الذي يلزمه؟ ينظر إن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يقتل مثله غالباً، فعليه القصاص. وإن تعمّده لكن لا يقتل مثله غالباً ولا قصده، فهو شبيه عمد. وإن لم يتعمد وتردّى في البئر بغير اختياره، أو لم يعلم بوقوع الأوّل، فهو خطأ محض.
ثمَّ هل يجب على الثاني كمال الدية أو نصفها؟ وجهان، من استناد موت الأوّل إلى وقوع الثاني عليه؛ لأنّ المفروض كون الوقوع في البئر لا يقتل عادة. وهو الذي اختاره في القواعد(1).
ومن استناد موته إلى سببين وهما الوقوع في البئر ووقوع الثاني عليه، فيلزمه نصف الدية، ويكون النصف الآخر على الحافر إن كان الحفر عدواناً، وإلا فهو مهدر.
وهذا إذا كان الوقوع له أثر فى الهلاك. أمّا لو وصل الأوّل إلى البئر ولم ينصدم، ثمّ وقع عليه الثاني، تعلّق بوقوعه كمال الدية.
وإن مات الثاني، فإن تعمّد إلقاء نفسه فيها أو لم يكن الحفر عدواناً فهو هدر، وإلّا تعلق الضمان بالحافر.
وإن ماتا معاً فالحكم في حقّ كلّ واحد على ما بيّناه. وعليه يتفرع ما لو وقع ثلاثة فصاعداً.
الحالة الثانية: أن يقع الثاني في البئر بجذب الأوّل، بأن يزلق على طرف البئر فجذب غيره فوقع ووقع المجذوب فوقه فماتا. فالثاني هلك بجذب الأوّل، فكأنه أخذه فألقاه في
ص: 547
----------------------------------
البئر، إلّا أنّه قصد الاستمساك والتحرّز عن الوقوع، فكان شبيه عمد.
وأمّا الأوّل فإن كان الحفر عدواناً ففيه وجهان
أحدهما: أنه مهدر لا يتعلّق شيء من ضمانه بحافر البئر؛ لأنّ الحفر سبب والذي وجد منه - وهو جذب الثاني - مباشرة، فصار كما إذا حفر بئراً عدواناً وطرح فيها آخر نفسه، فإنّه لا يجب على الحافر ضمانه.
والثاني: أنّه يجب نصف ديته على الحافر ويهدر النصف؛ لهلاكه بالسببين. وابتداء السقوط لم يكن بفعله، والجذب وجد بعد ذلك. وبهذا يخالف ما إذا طرح نفسه في البر قصداً، فإنّه أحدث سبب الهلاك باختياره.
وإن لم يكن الحفر عدواناً فالأوّل مهدر بغير إشكال.
ولو جذب الثاني ثالثاً وماتوا جميعاً، فالأوّل فيه وجهان:
أحدهما : أنه يهدر نصف ديته ؛ لجذبه الثاني، ويجب نصفها على الثاني ؛ لجذبه الثالث فإنّه مات بفعلهما. وهذا مبنيّ على أن الحفر لا أثر له مع الجذب، وهو الذي اقتصر المصنّف عليه.
والثاني: أنه مات بثلاثة أسباب: صدمة البئر وثقل الثاني والثالث كما مر، فيهدر لما حصل بفعله - وهو ثقل الثاني - ثلث الدية. وينظر بعد ذلك، إن كان الحفر عدواناً فثلثها على حافر البئر، وثلثها على الثاني؛ لجذبه الثالث. وإن لم يكن الحفر عدواناً أهدر ثلث آخر، و وجب الثلث على الثاني.
وأمّا الثاني فإنّه مات بجذب الأوّل، وإلقائه إيَّاه في البئر، وبثقل الثالث، وثقل الثالث حصل بفعله، فيهدر نصف ديته، ويجب نصفها على الأوّل، ولا أثر للحفر في حقّه إذا جذب وألقي فيها.
وأمّا الثالث فإنّه لم يوجد منه ما يؤثر في هلاكه، فيجب تمام ديته.
وعلى من يجب ؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنّه على الثاني؛ لأنّه الذي جذبه وأوقعه في البئر.
ص: 548
• ولو جذب الثالث رابعاً فمات بعض على بعض، فللأوّل ثلثا الدية؛ لأنّه مات بجذبه الثاني عليه، وبجذب الثاني الثالث عليه، وبجذب الثالث الرابع، فيسقط ما قابل فعله، ويبقى الثلثان على الثاني والثالث، ولا ضمان على الرابع.
وللثاني ثلثا الدية أيضاً؛ لأنّه مات بجذب الأوّل، وبجذبه الثالث، و بجذب الثالث الرابع عليه فيسقط ما قابل فعله، ويجب الثلثان على الأوّل والثالث.
وللثالث ثلثا الدية أيضاً؛ لأنّه مات بجذبه الرابع، وبجذب الثاني والأوّل له.
----------------------------------
والثاني: أنه على الأوّل والثاني جميعاً؛ لأنّه لمّا جذب الثاني الثالث والأوّل الثاني صار الثالث مجذوباً بالقوتين جميعاً.
وإلى الوجهين أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «فإن رجحنا المباشرة» إلى آخره.
قوله: «ولو جذب الثالث رابعاً فمات بعض على بعض» إلى آخره.
هذه هي الصورة السابقة بحالها إلا أن الثالث جذب رابعاً وماتوا جميعاً، فدية الرابع واجبة بكمالها. وفي محلّها ما تقدّم من الوجهين في كونه الثالث أو هو والثاني.
وأمّا الثلاثة الأوّل ففيهم وجوه:
أحدها - وهو الذي اقتصر عليه المصنّف (رحمه اللّه) - أنّه لا يعتبر صدمة البئر، وتوزّع الدية على الثلاثة، وأحدها بفعله، فيسقط ما قابل فعله وهو جذبه الثاني، ويجب ثلث على الثاني ؛ لجذبه الثالث وثلث على الثالث؛ لجذبه الرابع، ولا شيء على الرابع؛ لعدم تعديه.
ويجب للثاني أيضاً ثلثا الدية؛ لموته بثلاثة أسباب: جذب الأوّل إياه وثقل الثالث والرابع، فيهدر ثلث ديته في مقابلة فعله، ويجب ثلثها على الأوّل، والثلث على الثالث.
وللثالث ثلثا الدية أيضاً؛ لموته بثلاثة أسباب أحدها بفعله وهو جذبه الرابع، فيسقط منها ما قابله، ويجب ثلثا ديته على الأوّل والثاني؛ لأنّ الأوّل جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، فكأنّهما شاركاه في إهلاك نفسه. وهذا مبنيّ على عدم اعتبار الحفر؛ لأنّ أفعالهم مباشرة، فيقدّم على الحفر الذي هو السبب.
ص: 549
أمّا الرابع فليس عليه شيء، وله الدية كاملة. فإن رجحنا المباشر فديته عليه. وإن شركنا كانت ديته أثلاثاً بين الأوّل والثانى والثالث.
----------------------------------
والثاني: أن يعتبر معها صدمة البئر، فتجعل الأسباب أربعة، ويهدر ربع دية الأوّل، لجذبه الثاني، ويجب الربع على الحافر إن كان الحفر عدواناً، ويهدر إن لم يكن عدواناً، والربع على الثاني، لجذبه الثالث والربع على الثالث؛ لجذبه الرابع.
وأمّا الثاني فلا أثر للحفر في حقه، وقد مات بجذب الأوّل إياه وبفعل الثالث والرابع، فيهدر ثلث ديته، ويجب ثلثها على الأوّل، والثلث على الثالث.
وأمّا الثالث فقد مات بجذب الثاني إياه وبثقل الرابع، فيهدر نصف ديته، ويجب نصفها على الثاني.
والثالث: وجوب الديات بحسب ما روي في واقعة الزبية والأظهر هو الأوّل.
ص: 550
والمقاصد ثلاثة:
وكلّ ما لا تقدير فيه، ففيه الأرش.
والتقدير في ثمانية عشر:
الأوّل: الشعر، • وفي شعر الرأس الدية. وكذا في شعر اللحية. فإن نبتا، فقد قيل: في اللحية ثلث الدية والرواية ضعيفة. والأشبه فيه وفي شعر الرأس الأرش إن نبت.
----------------------------------
قوله: «وفي شعر الرأس الدية. وكذا في شعر اللحية - إلى قوله - ولو نبت ففيه مهرها».
المشهور بين الأصحاب أنّ في شعر الرأس إن لم ينبت الدية. وكذا في شعر اللحية إذا كانت لرجل وبه روايات، منها حسنة سليمان بن خالد قال، قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): رجل دخل الحمّام فصب صاحب الحمّام عليه ماء حاراً، فامتعط شعر رأسه ولحيته فلا ينبت أبداً، قال «عليه الدية»(1).
وروى مسمع عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله، إلّا أنّه قال: فيمتعط شعر رأسه فلا ينبت، قال: «عليه الدية
ص: 551
وقال المفيد (رحمه اللّه): في شعر الرأس إن لم ينبت مائة دينار. ولا أعلم المستند.
أمّا شعر المرأة ففيه ديتها. ولو نبت ففيه مهرها.
----------------------------------
كاملة»(1). ولم يذكر شعر اللحية.
وفي رواية أخرى له عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى في اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية كاملة، فإذا نبتت فثلث الدية (2).
وفي الاستدلال بهما نظر؛ لدلالة الأُولى على وجوب الدية لهما معاً، لا لكلّ واحد الذى هو المدّعى. والثانية نفسها ضعيفة السند جداً، فلا تصلح سنداً.
وقال المفيد: في كلّ منهما إذا لم ينبت مائة دينار(3). وذكر أن به رواية، ولم يثبت.
وفي المختلف ما يشعر بالتوقف في الحكم وأنه محل الإشكال؛ لأنّه قال عقيب رواية سلیمان بن خالد:
وهذه الرواية عندي حسنة يتعيّن العمل بها، ولأنّه واحد في الإنسان، فيدخل تحت حكم ما في الإنسان منه واحد، ويمكن منع الوحدة(4).
وأنت قد عرفت أنّ الرواية وإن كانت حسنة إلا أنها لا تدلّ على المطلوب. ومنع الوحدة واضح لأن الواحد هو جملة الشعر على الإنسان لا على بعض أعضائه.
وأما إذا نبت كلّ منهما ففيه أقوال:
أحدها - وهو الذي اختاره المصنّف الأرش؛ لأنّه الواجب حيث لا يثبت له تقدير شرعاً.
ص: 552
• وفي الحاجبين خمسمائة دينار، وفي كلّ واحد نصف ذلك، وما أصيب منه فعلى الحساب.
----------------------------------
وثانيها: أنّ في اللحية ثلث الدية، وفي شعر الرأس مائة دينار. وهو قول الشيخ في النهاية(1). والمستند رواية مسمع السابقة. وفيها قصور في السند والدلالة، فلذلك كان الأصحّ الأرش.
ولو كان المقطوع شعر رأس المرأة، فإن لم يعد فكالرجل، بل أولى. وإن عاد ففيه مهر نسائها على المشهور؛ لرواية عبد اللّه بن سنان قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): جعلت فداك ما على رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟ قال: «يضرب ضرباً وجيعاً، ويحبس في سجن المسلمين حتّى يستبراً شعرها، فإن نبت أخذ منه مهر نسائها، وإن لم ينبت أخذ منه الدية كاملة». قلت: فكيف صار مهر نسائها إن نبت شعرها؟ فقال: يا ابن سنان إن شعر المرأة وعذرتها شريكان في الجمال، فإذا ذهب بأحدهما وجب لها المهر كملاً» (2).
وفي طريق الرواية جهالة (3)، ولكن المشهور العمل بمضمونها.
وابن الجنيد سوى بين شعر رأسها وبين اللحية في وجوب ثلث الدية مع عود الشعر (4).
قوله: «وفى الحاجبين خمسمائة دينار» إلى آخره.
هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل ادّعى ابن إدريس عليه الإجماع(5). ومستنده غير معلوم والإجماع ممنوع وظاهرهم عدم الفرق بين أن ينبت وعدمه. وقيل: فيهما مع النبات الحكومة (6). وهو الأصح. وقيل: ربع الدية(7).
ص: 553
• وفي الأهداب تردّد. قال في المبسوط والخلاف: الدية إن لم ينبت. وفيها مع الأجفان ديتان والأقرب السقوط حالة الانضمام، والأرش حالة الانفراد.
----------------------------------
ويظهر من المبسوط أنّ حكمهما حكم شعر الرأس واللحية في وجوب الدية فيهما كاملة؛ لأنّه قال: فأمّا اللحية وشعر الرأس والحاجبين فإنّه يجب فيها عندنا الدية(1). ويؤيده الحديث العام، أعني كلّ ما في البدن منه اثنان (2).
وقال سلّار: روي فيهما إذا لم ينبتا مائة دينار (3).
قوله: «وفى الأهداب تردّد» إلى آخره.
الأهداب - بالدال المهملة والمعجمة - شعر الأجفان (4). وفيها أقوال:
أحدها الدية كاملة إذا قلعت منفردة مع عدم نباتها. وهو مذهب الشيخ (5) وابن حمزة(6)، والعلّامة في القواعد(7)، للحديث العامّ(8).
والثاني : نصف الدية. وهو مذهب القاضي (9).
والثالث: الأرش حالة الانفراد عن الأجفان والسقوط حالة الاجتماع، كشعر الساعدين وغيره. قاله ابن إدريس (10). واختاره المصنّف والعلّامة في المختلف والتحرير (11). وهو الأصح؛ لعدم دليل صالح يدلّ على التعيين، فيرجع إلى العموم. والحديث العام على
ص: 554
• وما عدا ذلك من الشعر لا تقدير فيه، استناداً إلى البراءة الأصليّة.
الثاني: العينان، وفيهما الدية. وفي كلّ واحدة نصف الدية. ويستوي الصحيحة والعمشاء والحولاء والجاحظة.
• وفي الأجفان الدية. وفي تقدير كلّ جفن خلاف، قال في المبسوط: في كلّ واحد ربع الدية. وفي الخلاف في الأعلى ثلثا الدية، وفي الأسفل الثلث. وفي موضع آخر في الأعلى ثلث الدية، وفي الأسفل النصف. وينقص على هذا التقدير سدس الدية، والقول بهذا كثير. وفي الجناية على بعضها بحساب ديتها.
----------------------------------
تقدير تسليمه ممنوع الدلالة؛ لأنّ الشعر المذكور ليس ممّا في البدن منه اثنان، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله: «وما عدا ذلك من الشعر لا تقدير فيه، استناداً إلى البراءة الأصليّة».
لو قيل بجريان هذا الدليل في جميع الشعور كان وجهاً؛ لضعف الدليل المخرج عن حكم الأصل في الجميع كما عرفت. وهو مذهب أكثر العامّة. ومنهم من وافق على وجوب الدية فيما سبق(1).
قوله: «وفي الأجفان الدية. وفي تقدير كلّ جفن خلاف - إلى قوله - والقول بهذا كثير».
اختلف الأصحاب في دية الأجفان على أقوال ثلاثة وكلّها للشيخ.
أحدها: أنّ فيها الدية، وفي كلّ واحد منها ربع ذهب إليه الشيخ في المبسوط (2). وابن أبي عقيل(3)، والعلّامة في المختلف(4)، والمصنّف (رحمه اللّه) اقتصر على الحكم
ص: 555
ولو قلعت مع العينين لم تتداخل ديتاهما.
----------------------------------
بوجوب الدية للجميع، ولم يرجح الحكم في البعض.
ومستند هذا القول صحيحة هشام بن سالم قال: «كلّ ما كان في الإنسان اثنان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصف الدية»(1). والظاهر أنه روى عن الإمام؛ لأنّه ثقة.
وفي حسنة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كذلك (2).
وفيهما منع الدلالة؛ لأنّ الأجفان ليس ممّا في الإنسان منه اثنان إلّا بتكلّف أنّ جفني كلّ عين كواحد، وهو مجرد عناية. مع أنّ الأُولى مقطوعة، والظن بكونها موصولة إلى الإمام غير كافٍ في الاعتماد عليها.
وثانيها: أنّ في الأعلى ثلث دية العين، وفي الأسفل نصفها، ويسقط سدس الدية. ذهب إلى ذلك ابن الجنيد(3)، والمفيد(4)، والشيخ في النهاية(5)، وأتباع الشيخين (6).
و مستنده رواية ظريف بن ناصح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتابه المشهور في الديات، قال: «أفتى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنّ في شعر الجفن الأعلى ثلث دية العين، وفي الأسفل نصف ديتها إذا شترا»(7).
وفي طريق الكتاب ضعف وجهالة، وإن كان مشهوراً بين الأصحاب.
وثالثها: أنّ في الأعلى الثلثين، وفي الأسفل الثلث ذهب إليه الشيخ في الخلاف؛
ص: 556
• وفي العين الصحيحة من الأعور الدية كاملة، إذا كان العور خلقة أو بآفة من اللّه. ولو استحق ديتها كان في الصحيحة نصف الدية خمسمائة دينار.
أمّا العوراء ففي خسفها روايتان إحداهما: ربع الدية، وهي متروكة والأخرى: ثلث الدية، وهي مشهورة، وسواء كانت خلقةً أو بجناية جانٍ وَوَهَم هنا،واهم، فتوقّ زلله.
----------------------------------
محتجّاً بالإجماع والأخبار(1). وتبعه ابن إدريس لشبهة الإجماع (2)، مع أنه قد قال في الكتاب المذكور بالقول الثاني أيضاً (3) كما أشار إليه المصنّف، فضلاً عن قوله في الكتابين الآخرين. وهذه الدعوى مجازفة محضة لا يعتمد عليها في الإجماع. وكيف كان، فالأظهر هو القول الأوّل.
قوله: « وفي العين الصحيحة من الأعور الدية كاملة، إذا كان العور خلقة أو بآفة من اللّه» إلى آخره.
أجمع المسلمون على أنّ في العينين معاً الدية، وفي إحداهما من الصحيح نصف الدية؛ لأنّها ممّا في البدن منه اثنان؛ ولما روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: «في العينين الدية»(4).
وفي خبر آخر عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «في العين خمسون من الإبل»(5).
وهذا يشمل عين الأعور وغيرها.
لكن روى أصحابنا روايات متعدّدة عن الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أن في عين الأعور الدية كاملة إذا
ص: 557
----------------------------------
لم يكن استحق دية الأخرى(1). والمعنى فيه: أنه يكون قد أذهب جميع بصره، فعليه الدية لذلك. وعلى تقدير استحقاقه دية الأخرى تكون الأخرى بمنزلة الموجودة؛ لأنّه أخذ عوضها أو استحقه، فتكون دية الصحيحة على أصلها بنصف دية كاملة.
ووافقنا بعض العامّة على وجوب دية كاملة لعين الأعور (2). وبقي آخرون على الأصل(3). فهذا حكم الصحيحة. وأما العوراء التي لا تبصر ففي الجناية عليها بخسفها روايتان:
إحداهما: صحيحة بريد بن معاوية عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «في لسان الأخرس وعين الأعور وذكر الخصي الحرّ وأنثييه ثلث الدية»(4).
ومثلها صحيحة أبي بصير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سأله بعض آل زرارة عن رجل قطع لسان رجل أخرس، فقال: «إن كان ولدته أمه وهو أخرس فعليه ثلث الدية، وإن كان ذهب به وجع أو آفة بعد ما كان يتكلّم، فإنّ على الذي قطع لسانه ثلث دية لسانه». قال: «وكذلك القضاء في العينين والجوارح». قال: «وهكذا وجدناه في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(5).
وإلى هذا ذهب الأكثر، ومنهم الشيخ (6) وأتباعه (7) والمصنّف والعلّامة(8).
ص: 558
----------------------------------
والثانية: رواية عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل فقأ عين رجل ذاهبة وهي قأئمّة قال: «عليه ربع دية العين»(1).
وبمضمونها عمل المفيد (2) وسلّار (3). وهي ضعيفة السند بأبي جميلة المفضل بن صالح (4)؛ وعبد اللّه بن سليمان مجهول الحال. فالعمل بالصحيح متعيّن.
مع أنّ هذا الراوي روى أيضاً بهذا الإسناد عن عبد اللّه بن أبي جعفر عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في العين العوراء تكون قأئمّة فتخسف قال: «قضى فيها عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) نصف الدية في العين الصحيحة»(5). وهي مع مشاركتها للسابقة في الضعف وزيادة(6)، لم يعمل بمضمونها أحد من الأصحاب.
ولا فرق على القولين بين أن يكون العور خلقةً أو بجناية جانٍ؛ لأنّه عضو أشلّ، وإنما التفصيل في صحيحته كما تقدّم(7).
وفصّل ابن إدريس هنا فقال:
في العين العوراء الدية كاملة إذا كانت خلقةً، أو قد ذهبت بآفة من اللّه تعالى، وإن كانت قد ذهبت وأخذت ديتها، أو استحق الدية وإن لم يأخذها، كان فيها ثلث الدية. وهو اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطه ومسائل خلافه. وذهب في نهايته إلى أن فيها نصف الدية.
ص: 559
----------------------------------
والأوّل الذي اخترناه هو الأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا؛ ولأن الأصل براءة الذمّة ممّا زاد على الثلث، فمن ادّعى زيادة عليه يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد.
وقال أيضاً:
في العين القأئمّة إذا خسف بها ثلث ديتها صحيحة، وكذلك في العين العوراء التي أخذت ديتها، أو استحقها صاحبها ولم يأخذها، ثلث ديتها صحيحة على ما بيّناه وشيخنا أبو جعفر في نهايته فرق بينهما، بأن قال: إذا قلع العين العوراء التي أخذت ديتها، أو استحقت الدية ولم يؤخذ نصف الدية، يعني: ديتها، فإن خسف بها ولم يقلعها ثلث ديتها. والأُولى عندي أنّ في القلع والخسف ثلث ديتها، فأما إذا كانت عوراء والعور من اللّه تعالى فلا خلاف بين أصحابنا أن فيها ديتها كاملة خمسمائة دينار (1). انتهى كلامه.
وهذا هو الوهم الذي أشار إليه المصنّف وأمر بالتوقي من زلله. ووهمه في هذه العبارة نشأ من عدم فهمه كلام الشيخ في النهاية، حيث قال فيها:
وفي العين العوراء الدية كاملة إذا كانت خلقةً، أو قد ذهبت بآفة من جهة اللّه تعالى، فإن كانت قد ذهبت وأخذ ديتها، أو استحق الدية وإن لم يأخذها، كان فيها نصف الدية (2).
فهذه عبارة الشيخ في النهاية. وأراد (رحمه اللّه) بالعين العوراء الصحيحة التي قد ذهبت أختها، واتبع في ذلك لفظ الرواية، حيث قال في رواية العلاء: «وفي العين العوراء الدية» (3). وإنّما أطلق عليها اسم العوراء مع كونها صحيحة؛ لأنّ ما لا أخ له يقال له: أعور، لغةً(4)، ومنه
ص: 560
الثالث: الأنف، وفيه الدية كاملة إذا استؤصل وكذا لو قطع،مارنه، وهو ما لان منه وكذا لو كسر ففسد.
ولو جبر على غير عيب فمائة دينار. وفي شلله ثلثا ديته.
• وفي الروثة - وهي الحاجز بين المنخرين - نصف الدية. وقال ابن بابويه هي مجتمع المارن. وقال أهل اللغة: هي طرف المارن.
----------------------------------
قول أبي طالب لأبي لهب لما اعترض على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا أعور ما أنت وهذا ولم يكن أبو لهب أعور، ولكن لم يكن له أخ من أبيه وأُمِّه(1).
وزلل ابن إدريس اتّفق في كلام الشيخ من وجوه:
الأوّل: إيجابه في العوراء الدية كاملة إذا كانت خلقة، وعنى بالعوراء المعيبة. وكذا إذا كانت قد ذهبت بآفة. وهو خلاف الإجماع: ولأنّها عضو أشلّ فيها ثلث دية الصحيح كما في نظائره.
الثاني: توهمه أنّ مراد الشيخ في النهاية ذلك، وبناؤه الحكم عليه. وهو لا يليق بالفقيه الذي يأخذ بالاستدلال، خصوصاً مثل ابن إدريس الذي لا يعتمد الأخبار غالباً كما علم من حاله.
الثالث: نقله عن المبسوط والخلاف أنهما موافقان لما قاله. وليس فيهما ما يدلّ على وافقته أصلاً، وإنما فيهما حكم الصحيحة التي لا أُخت لها. ولا حاجة بنا إلى نقلهما ؛ لأنّه معلوم مشهور.
قوله: «وفي الروثة - وهي الحاجز بين المنخرين - نصف الدية» إلى آخره.
المشهور أنّ دية الروثة نصف الدية والمستند كتاب ظريف (2). وفيه قول آخر إنّه
ص: 561
• وفي أحد المنخرين نصف الدية؛ لأنّه إذهاب نصف المنفعة. وهو اختياره في المبسوط.
وفي رواية غياث، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): ثلث الدية.
وكذا في رواية عبد الرحمن العرزمي، عن جعفر، عن أبيه (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وفى الرواية،ضعف، غير أن العمل بمضمونها أشبه.
----------------------------------
الثلث(1). ولم نقف على مستنده. وعلّلوه بأن في المارن الدية، وهو مشتمل على ثلاثة أجزاء: المنخرين والروثة، فتقسم الدية عليها؛ لأصالة البراءة من الزائد.
واختلفوا في تفسير الروثة، ففي كتاب ظريف - الذي هو مستند الحكم بالنصف - أنّ روثة الأنف: طرفه (2). وهو الموافق لكلام أهل اللغة. قال في الصحاح : الروثة: طرف الأرنبة (3). وقال المصنّف : إنها الحاجز بين المنخرين. ونقل عن ابن بابويه أنها مجمع المارن والأنف (4).
قوله: «وفي أحد المنخرين نصف الدية؛ لأنّه إذهاب نصف المنفعة. وهو اختياره في المبسوط» إلى آخره.
القول بالنصف للشيخ (5): استناداً إلى الرواية العامّة بأن ما في الإنسان منه اثنان ففي كلّ واحد نصف الدية(6).
واختار المصنّف والعلّامة (7) والأكثر الثلث؛ عملاً بالروايتين (8) الدالّتين عليه وإن ضعف
ص: 562
الرابع: الأذنان، وفيهما الدية. وفي كلّ واحدة نصف الدية. وفي بعضها بحساب ديتها.
• وفي شحمتها ثلث ديتها على رواية فيها ضعف، لكن تؤيدها الشهرة.
قال بعض الأصحاب: • وفي خرمها ثلث ديتها. وفسّره واحد بخرم الشحمة، وبثلث دية الشحمة.
----------------------------------
طريقهما لتأيّدهما بالشهرة وبأنّ الأنف الموجب للدية يشتمل على حاجز ومنخرين؛ ولأصالة البراءة من الزائد. وهو أولى.
قوله: «وفي شحمتها ثلث ديتها على رواية فيها ضعف، لكن تؤيّدها الشهرة».
الرواية المذكورة رواها مسمع عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى في شحمة الأذن ثلث دية الأُذن»(1).
وفي طريقها سهل بن زياد (2)، وابن شتون (3)، وعبد اللّه الأصمّ(4)، وهم في غاية الضعف كما أشرنا إليه سابقاً(5). لكن المصنّف (رحمه اللّه) جعل ضعفها منجبراً بالشهرة، فلذا عمل بمضمونها كالأكثر.
قوله: «وفي خرمها ثلث ديتها. وفسّره واحد بخرم الشحمة، وبثلث دية الشحمة».
المفسر بذلك هو ابن إدريس(6)، مع احتمال إرادة الأذن(7)، وثلث دية الأذن، أو ما هو أعمّ.
ص: 563
الخامس: الشفتان، وفيهما الدية إجماعاً. • وفي تقدير دية كلّ واحدة خلاف. قال في المبسوط في العليا الثلث، وفي السفلى الثلثان. وهو خيرة المفيد.
وفي الخلاف في العليا أربعمائة، وفي السفلى ستمائة. وهي رواية أبي جميلة عن أبان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وذكره ظريف في كتابه أيضاً. وفي أبي جميلة ضعف.
----------------------------------
وهذا اللفظ ذكره الشيخ (1)، وتبعه الجماعة (2)، ولا سند له يرجع إليه في تفسيره.
قوله: «وفي تقدير دية كلّ واحدة خلاف قال في المبسوط : في العليا الثلث - إلى قوله - وهذا حسن».
اختلف الأصحاب في دية كلّ واحدة من الشفتين على انفرادها، بعد اتّفاقهم على أن في المجموع منهما الدية كاملة على أقوال منشؤها اختلاف الأخبار.
أحدها: التسوية بينهما في وجوب نصف الدية لكلّ واحدة. ذهب إليه الحسن بن أبي عقيل (3)، واستحسنه المصنّف والعلّامة في القواعد والتحرير (4)؛ لصحيحة هشام المقطوعة، قال: «كلّ ما في الإنسان منه اثنان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصف الدية»(5).
وحسنة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ما كان في الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية»(6).
ويؤيده رواية سماعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الشفتان العليا والسفلى سواء في المقدار»(7).
ص: 564
وقال ابن بابويه - وهو مأثور عن ظريف أيضاً : في العليا نصف الدية، وفي السفلى الثلثان. وهو نادر وفيه مع ندوره زيادة لا معنى لها.
وقال ابن أبي عقيل هما سواء في الدية، استناداً إلى قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «كل ما في الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية». وهذا حسن.
وفي قطع بعضها بنسبة مساحتها.
----------------------------------
وثانيها: أنّ في العليا الثلث، وفي السفلى الثلثين ذهب إليه المفيد(1)، والشيخ في المبسوط (2)، وسلّار (3)، وأبو الصلاح(4) ؛ وذكروا أن بذلك روايات(5). واحتجوا أيضاً بكثرة منفعة السفلى، فإنّها تمسك الطعام والشراب، وترد اللعاب، ولزيادة الشين بذهابها، فيناسبها زيادة الدية. ولا يخفى ضعف التمسك.
وثالثها : أنّ في العليا خمسي الدية أربعمائة دينار، وفي السفلى ثلاثة أخماس الدية ستّمائة دينار. ذهب إليه الصدوق(6)، والشيخ في النهاية(7)، واختاره العلّامة في المختلف(8) ؛ لرواية أبي جميلة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه قال: «في السفلى ستّة آلاف، وفي العليا أربعة آلاف؛ لأن السفلى تمسك الماء»(9). والمراد بالعدد الدراهم.
ص: 565
وحدّ الشفة السفلى عرضاً : ما تجافى عن اللثة مع طول الفم والعليا: ما تجافى عن اللثة متصلاً بالمنخرين والحاجز مع طول الفم. وليس حاشية الشدقين منهما.. ولو تقلّصت، قال الشيخ فيه ديتها. والأقرب الحكومة ولو استرختا فثلثا الدية.
----------------------------------
والرواية ضعيفة بأبي جميلة (1). والمصنّف نقله أيضاً عن كتاب ظريف (2). وطريقه - مع تسليمه - ضعيف.
ورابعها: أنّ في العليا النصف، وفي السفلى الثلثين اختاره ابن الجنيد (3). ونقله المصنّف (رحمه اللّه) عن ابن بابويه (4). وهو في كتاب ظريف أيضاً. وقال فيه: «إنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فضّلها؛ لأنّها تمسك الطعام مع الأسنان»(5).
وفيه - مع ندوره، وضعف سنده - زيادة لا وجه لها. والأظهر هو الأوّل.
قوله: «ولو تقلّصت، قال الشيخ: فيه ديتها. والأقرب الحكومة. ولو استرختا فثلثا الدية».
وجه ما قرّبه المصنّف من ثبوت الحكومة وجود العيب بسبب الجناية، مع عدم ثبوت مقدّر لها شرعاً، وهو موجب لها.
ووجه كلام الشيخ (6) بأنّ مع التقلّص تزول المنفعة المخلوقة لأجلها والجمال، فيجري وجودها مجرى عدمها.
ص: 566
السادس: اللسان، وفي استئصال الصحيح الدية. وفي لسان الأخرس ثلث الدية. وفيما قطع من لسان الأخرس بحسابه مساحةً.
• أما الصحيح فيعتبر بحروف المعجم، وهي ثمانية وعشرون حرفاً. وفي رواية: تسعة وعشرون حرفاً، وهي مطرحة.
و تبسط الدية على الحروف بالسوية. ويؤخذ نصيب ما يعدم منها. وتتساوى اللسنية وغيرها ثقيلها وخفيفها ولو ذهبت أجمع وجبت الدية كاملة.
ولو صار سريع النطق أو ازداد سرعة أو كان ثقيلاً فزاد ثقلاً، فلا تقدير، وفيه الحكومة. وكذا لو نقص فصار ينقل الحرف الفاسد إلى الصحيح.
----------------------------------
ورد بمنع ذلك. وعورض ببطلان بطش اليد.
وربما احتمل وجوب ثلث ديتها؛ لصيرورتها حينئذٍ عضواً أشلّ.
ويضعف بأنّ الشلل يحدث استرخاء، وهو يقابل التقلّص، أو يراد به عدم الإحساس، كما قال الجوهري: إنّ الشلل فساد العضو(1).
قوله: «أما الصحيح فيعتبر بحروف المعجم» إلى آخره.
المشهور بين الأصحاب اعتبار لسان الصحيح بحروف المعجم، وأنّها ثمانية وعشرون حرفاً. وفي اعتباره بالحروف في الجملة روايات كثيرة، وإطلاقها منزل على ما هو المعهود منها، وهو ثمانية وعشرون. وفي رواية السكوني تصريح بكونها ثمانية وعشرين (2).
والرواية المتضمنة لكونها تسعة وعشرين هي صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا ضرب الرجل على رأسه فثقل لسانه عرضت عليه حروف المعجم، فما لم يفصح به منها يؤدى بقدر ذلك من الدية، وهي تسعة وعشرون حرفاً»(3).
ص: 567
• ولا اعتبار بقدر المقطوع من الصحيح، بل الاعتبار بما يذهب من الحروف. فلو قطع نصفه فذهب ربع الحروف فربع الدية. وكذا لو قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه فنصف الدية.
----------------------------------
ولم يبيّنها، والظاهر أنه جعل الألف حرفاً والهمزة حرفاً آخر، كما ذكره بعض أهل العربيّة(1).
وإنّما جعلها المصنّف مطرحة مع صحتها ؛ نظراً إلى تضمنها خلاف المعروف من الحروف المذكورة لغة (2) وعرفاً.
ونبّه بقوله «وتبسط الدية على الحروف بالسويّة» على الردّ على ما روي في بعض الأخبار من بسط الدية عليها بحسب حروف الجمل، فيجعل للألف واحد وللباء اثنان وللجيم ثلاثة وللدال أربعة، إلى الآخر(3).
والرواية المتضمنة لذلك - مع ضعف طريقها - لا تطابق الدية؛ لأنّه إن أُريد بالعدد المذكور الدراهم لا يبلغ المجموع الدية، وإن أريد به الدنانير يزيد عن الدية أضعافاً مضاعفة.
قوله: «ولا اعتبار بقدر المقطوع من الصحيح، بل الاعتبار بما يذهب من الحروف. فلو قطع نصفه فذهب ربع الحروف فربع الدية» إلى آخره.
وجه اعتبار البعض بالحروف مطلقاً(4) إطلاق النصوص باعتبار الدية بالذاهب منها بعضاً وكلّاً(5)، فلا عبرة حينئذٍ بجسم اللسان.
وقيل: مع قطع البعض يعتبر أكثر الأمرين من الذاهب من اللسان ومن الحروف؛ لأنّ
ص: 568
ولو جنى آخر اعتبر بما بقي، وأخذ بنسبة ما ذهب بعد جناية الأوّل.
ولو أعدم واحد كلامه ثمّ قطعه آخر كان على الأوّل الدية، وعلى الثاني الثلث.
ولو قطع لسان الطفل كان فيه الدية؛ لأن الأصل السلامة. أما لو بلغ حدّاً ينطق مثله ولم ينطق ففيه ثلث الدية؛ لغلبة الظن بالآفة. ولو نطق بعد ذلك، تبيّنا الصحة واعتبر بعد ذلك بالحروف، وألزم الجاني ما نقص عن الجميع، فإن كان بقدر ما أخذ وإلّا تمّم له.
• ولو ادّعى الصحيح ذهاب نطقه عند الجناية صدّق مع القسامة؛ لتعذّر البيّنة.
وفي رواية: يضرب لسانه بإبرة، فإن خرج الدم أسود صدق، وإن خرج أحمر كذب.
----------------------------------
اللسان عضو متّحد في الإنسان فيه الدية من غير اعتبار الحروف، كما أنّ النطق بالحروف منفعة متحدة فيها الدية من غير اعتبار اللسان، فإذا كان الذاهب من اللسان أكثر من الحروف وجب دية الزائد من حيث اللسان، وبالعكس(1). وهذا أظهر.
قوله: «ولو ادّعى الصحيح ذهاب نطقه عند الجناية صدق مع القسامة» إلى آخره.
وجه الرجوع إلى القسامة تعذر إقامة البيّنة على ذلك مع حصول الظن المستند إلى الأمارة لصدقه، فيكون لوثاً.
والرواية المشار إليها رواها عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن الوليد، عن محمد بن الفرات، عن الأصبغ بن نباتة قال: سئل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل ضرب رجلاً على هامته، فادّعى المضروب أنّه لا يبصر شيئاً، وأنّه لا يشم الرائحة، وأنّه قد ذهب لسانه فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن صدق فله ثلاث ديات». فقيل: يا أمير المؤمنين فكيف يعلم أنّه صادق؟ قال: «أمّا ما ادّعى أنّه لا يشم رائحة فإنّه يدنا منه،الحراق، فإن كان كما يقول وإلّا
ص: 569
• ولو جني على لسانه فذهب كلامه ثمّ عاد هل تستعاد الدية؟ قال في المبسوط : نعم؛ لأنّه لو ذهب لما عاد وقال في الخلاف: لا، وهو الأشبه.
----------------------------------
نحّى رأسه ودمعت عينه. وأمّا ما ادّعاه في عينه، فإنّه يقابل بعينه عين الشمس، فإن كان كاذباً لم يتمالك حتّى يغمض عينه، وإن كان صادقاً بقيتا مفتوحتين. وأما ما ادعاه في،لسانه، فإنّه يضرب على لسانه بالإبرة، فإن خرج الدم أحمر فقد كذب، وإن خرج أسود فقد صدق»(1).
والرواية ضعيفة السند بمحمد بن الوليد، فإنّه فطحي (2)، وابن الفرات ضعيف جداً غالٍ(3)، ولم يدرك الأصبغ، فتكون مع الضعف مرسلة. هذا، مع قطع النظر عن الأصبغ.
قوله: «ولو جني على لسانه فذهب كلامه ثمّ عاد هل تستعاد الدية؟» إلى آخره.
وجه ما اختاره المصنّف من عدم الاستعادة كما ذهب إليه الشيخ في الخلاف (4) - تحقّق استحقاق الدية بالجناية الموجبة لإذهاب الكلام، فأخذها منه يحتاج إلى دليل، إذ الأصل بقاء الاستحقاق. واستحسنه في التحرير(5).
وفي المختلف (6) وافق الشيخ في المبسوط؛ لأنّه لما نطق بعد أن لم ينطق عُلم أنه لم يذهب،كلامه، إذ لو ذهب لما عاد؛ لأن انقطاعه بالشلل والشلل لا يزول. قال: وليس كذلك لو نبت اللسان؛ لأنّا نعلم أنه هبة(7)، بخلاف النطق، فإنّ زواله لم يكن معلوماً، وقد ظهر خلاف ما حكم به.
ص: 570
• أمّا لو قلع سنّ المثغر فأخذ ديتها وعادت لم تستعد ديتها؛ لأنّ الثانية غير الأولى.
وكذا لو اتّفق أنّه قطع لسانه فأنبته اللّه [تعالى] ؛ لأنّ العادة لم تقض بعوده فيكون هبة.
ولو كان للسان طرفان فأذهب أحدهما اعتبر بالحروف، فإن نطق بالجميع فلا دية، وفيه الأرش؛ لأنّه زيادة.
السابع الأسنان، وفيها الدية كاملة.
• وتقسم على ثمانية وعشرين سناً، اثنا عشر في مقدّم الفم، وهي ثنيتان،
----------------------------------
وقال في القواعد: إن حكم بأن الذهاب أوّلاً ليس بدائم استعيد، وإلّا فلا(1). ومرجعه إلى الرجوع إلى أهل الخبرة في ذلك، وأنه مع الشك لا يستعاد. والأوّل لا يخلو من قوّة.
قوله: «أما لو قلع سن المثغر فأخذ ديتها وعادت لم تستعد ديتها» إلى آخره.
قد تقدّم في قصاص الطرف حكم المصنّف بأنّ سنّ المثغر إذا عادت كما كانت فلا قصاص، ولا دية، بل الأرش خاصّة (2). ولم يتعرّض لحكاية هذا القول، مع أنّ هذا قول وجيه؛ لقضاء العادة بأنّ العائدة من سنّ المثّغر غير الأولى، وأنها هبة من اللّه تعالى جديدة. ولكن يلزم من هذا ثبوت القصاص أو الدية في قلعها، سواء عادت أم لا، وسواء قضى أهل الخبرة بعودها أم لا، بل لا يتجه حكم أهل الخبرة بذلك أيضاً؛ لأنّه خلاف الضرورة فضلاً عن العادة.
قوله - في دية الأسنان -: «وتقسّم على ثمانية وعشرين سناً» إلى آخره.
لا خلاف في ثبوت الدية لجملة الأسنان، سواء زادت أم نقصت.
ص: 571
ورباعيّتان، ونابان، ومثلها من أسفل. وستة عشر في مؤخّره، وهي ضاحك وثلاثة أضراس من كلّ جانب، ومثلها من أسفل.
ففي المقاديم ستمائة دينار، حصة كلّ سنّ خمسون ديناراً. وفي المآخير أربعمائة دينار حصة كلّ ضرس خمسة وعشرون ديناراً. وتستوي البيضاء والسوداء خلقةً. وكذا الصفراء وإن جني عليها.
----------------------------------
وأمّا قسمتها على ثمانية وعشرين، وتفصيلها على الوجه الذي ذكره، فهو المعروف من مذهب الأصحاب، وبه رواية ضعيفة(1)، لكنّها مشهورة مجبورة بذلك على قاعدتهم. مع أنهم رووا - في الصحيح - عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الأسنان كلها سواء، فى كلّ سن خمسمائة درهم»(2).
وفي كتاب ظريف بن ناصح أيضاً عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وجعل الأسنان سواء»(3). ورواه العامّة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه كتب لعمرو بن حزم: «وفي السن خمس من الإبل» (4). وروى أصحابنا مثل ذلك أيضاً(5).
وعلى التقسيم المشهور بين الأصحاب، فما زاد عن الثمانية والعشرين يجعل بمنزلة السن الزائدة فيها ثلث دية الأصليّة بحسب محلّها. لكن ذلك مع تمييزها عن الأصليّة، أمّا مع اشتباهها بها - كما هو الغالب من بلوغ الأسنان اثنين وثلاثين من غير أن يتميز بعضها عن بعض - يشكل الحكم.
ص: 572
• وليس للزائدة دية إن قلعت منضمة إلى البواقي. وفيها ثلث دية الأصلي، لو قلعت منفردة. وقيل: فيها الحكومة والأوّل أظهر.
• ولو اسودت بالجناية ولم تسقط فثلثا ديتها. وفيها بعد الاسوداد الثلث على الأشهر.
----------------------------------
قوله: «وليس للزائدة دية إن قلعت منضمة إلى البواقي» إلى آخره.
القول بالحكومة للمفيد (1)؛ نظراً إلى عدم نص على ديتها بخصوصها.
ووجه ما استظهره المصنّف من وجوب ثلث دية الأصل ما تقرّر في غيرها من وجوب ثلث دية الأصل لكلّ عضو زائد (2)، فيكون هنا كذلك. وهذا هو الأشهر.
قوله: «ولو اسودت بالجناية ولم تسقط فثلثا ديتها» إلى آخره.
القول بوجوب ثلثي ديتها في اسودادها بالجناية للشيخ في النهاية (3)؛ واختاره المصنّف والعلّامة (4)؛ لصحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «السنّ إذا ضربت انتظر بها سنة، فإن وقعت أغرم الضارب خمسمائة درهم، وإن لم تقع واسودّت أغرم ثلثي ديتها»(5). ولأن ذلك كشللها.
وادّعى الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة وأخبارهم على وجوب ثلث ديتها إذا قلعها بعد الاسوداد (6)؛ ولرواية العرزمي، عن أبيه، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن في السن
ص: 573
• وفي انصداعها ولم تسقط ثلثا ديتها. وفي الرواية ضعف، فالحكومة أشبه. والدية في المقلوعة مع سنخها، وهو الثابت منها في اللثة.
----------------------------------
السوداء ثلث ديتها»(1). وقول الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وما كان من شلل فهو على الثلث»(2).
وقال في المبسوط في اسودادها الحكومة، وفي قلع السوداء الحكومة (3) لأنها المتيقّن، وضعف مستند التقدير. وهو يتجه في الثاني دون الأول؛ لصحّته.
وقال في النهاية : في قلعها مسودة ربع دية السنّ(4) ؛ لرواية عجلان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)قال: «دية السنّ السوداء ربع دية السن»(5). وفي طريقها ضعف(6).
قوله: «وفي انصداعها ولم تسقط ثلثا ديتها» إلى آخره.
وجه وجوب الثلثين - مضافاً إلى الرواية (7) - تنزيله منزلة الشلل. وفيه منع. فالقول بالحكومة قوي؛ لعدم دليل صالح يوجب التقدير. والموجود في كتاب ظريف أنّ فيها إذا انصدعت ولم تسقط خمسة وعشرين ديناراً(8). وفي الطريق ضعف أيضاً.
ولو قلعها قالع بعد انصداعها فالحكومة أيضاً؛ لما ذكر. وقيل: ثلث الدية(9)، بناء على وجوب الثلثين للانصداع. وقال الصدوق فيه ربع الدية (10).
ص: 574
• ولو كسر ما برز عن اللثة فيه تردّد والأقرب أنّ فيه دية السنّ ولو كسر الظاهر عن اللثة، ثمّ قلع الآخر السنخ، فعلى الأوّل دية، وعلى الثاني حكومة.
وينتظر بسنّ الصغير، فإن نبتت لزم الأرش، • ولو لم تنبت فدية المثغر.
وفي الأصحاب من قال فيها بعير، ولم يفصل. وفي الرواية ضعف.
• ولو أثبت الإنسان موضع المقلوعة عظماً فنبت فقلعه قالع قال الشيخ: لا دية. ويقوى أنّ فيه الأرش؛ لأنّه يستصحب ألماً وشيناً.
الثامن: • العنق، وفيه إذا كسر فصار الإنسان أصور الدية. وكذا لو جني عليه بما يمنع الازدراد ولو زال فلادية، وفيه الأرش.
----------------------------------
قوله: «ولو كسر ما برز عن اللثة، فيه تردّد» إلى آخره.
وجه القرب أنّ ذلك يسمّى سناً لغةً، قال الشيخ في المبسوط : السنّ ما شاهدته زائداً على اللثة، والسنخ أصله (1).
ووجه العدم أنّ المستور باللثة بعض السن، ومن ثمّ يقال: قلع سنه، وانكشفت اللثة عن سنّه، ونحو ذلك، ولأصالة البراءة من إيجاب الزائد والأظهر الأوّل.
قوله: «ولو لم تنبت فدية المثغر. وفي الأصحاب من قال: فيها بعير» إلى آخره.
الأصحّ الأوّل. وقد تقدّم البحث فيه (2).
قوله: «ولو أثبت الإنسان موضع المقلوعة عظماً فنبت فقلعه قالع» إلى آخره.
هذا هو الأقوى؛ لأنّ ذلك لا يعدّ سنّاً لغةً ولا عرفاً، فلا تتناوله الأدلّة الدالّة على دية السنّ. ويثبت الأرش إن حصل به نقص، كما هو مقتضاه.
قوله: «العنق، وفيه إذا كسر فصار الإنسان أصور الدية».
الأصور: المائل العنق. قال في النهاية الأثيرية والغريبين: في حديث: «حملة العرش
ص: 575
التاسع اللحيان، وهما العظمان اللذان يقال لملتقاهما «الذقن» ويتّصل طرف كلّ واحد منهما بالأُذن.
وفيهما الدية لو قلعا منفردين عن الأسنان كلحيى الطفل، أو من لا أسنان له. ولو قلعا مع الأسنان فديتان. وفي نقصان المضغ مع الجناية عليهما أو تصلّبهما الأرش.
العاشر: اليدان، وفيهما الدية، وفي كلّ واحدة نصف الدية. وحدها المعصم، فلو قطعت مع الأصابع فدية اليد خمسمائة دينار.
ولو قطعت الأصابع منفردة فدية الأصابع خمسمائة [دينار].
ولو قطع معها شيء من الزند، ففي اليد خمسمائة دينار، وفي الزائد حكومة.
• ولو قطعت من المرفق أو المنكب قال في المبسوط: عندنا فيه مقدّر، محيلاً على التهذيب.
----------------------------------
كلّهم صور»، هو جمع أصور، وهو المائل العنق؛ لثقل حمله (1).
قوله -في اليد- : «ولو قطعت من المرفق أو المنكب قال في المبسوط : عندنا فيه مقدّر، محيلاً على التهذيب».
محصّل كلام الشيخ في المبسوط :
أنّ اليد التي يجب نصف الدية فيها هي الكفّ إلى الكوع، وهو أن يقطعها من المفصل
ص: 576
ولو كان له يدان على زند ففيهما الدية وحكومة؛ لأن إحداهما زائدة. وتتميز الأصليّة بانفرادها بالبطش، أو كونها أشدّ بطشاً. فإن تساويا فإحداهما زائدة في الجملة.
• فلو قطعهما ففي الأصليّة دية وفي الزائدة حكومة. وقال في المبسوط: ثلث دية الأصليّة. ولعلّه تشبيه بالسن والإصبع. فالأقرب الأرش.
----------------------------------
الذي بينها وبين الذراع، فإذا قطع أكثر من ذلك فقد نقل أن فيه الحكومة. ثمّ قال: إنّ جميع ذلك فيه، مقدر ذكرناه في التهذيب(1).
وهو يحتمل إرادة وجوب نصف دية أخرى للذراع، ونصف دية للعضد؛ للحديث العامّ: «أنّ ما في الإنسان منه اثنان في كلّ واحد منهما نصف الدية» (2).
ويحتمل أن يريد وجوب دية اليد للمجموع؛ لصدق اليد على ذلك كله أيضاً. وليس في التهذيب ما يدلّ على حكم مخصوص لهذه الأشياء زيادة على الخبر العامّ.
والأقوى وجوب دية واحدة للمجموع، وإن وجبت للبعض حيث تقطع من الكوع. فعلى هذا إذا قطعت من المنكب ففيها أوجه:
أصحّها: وجوب دية اليد للجميع(3).
والثاني: وجوب دية، وحكومة لما زاد عن الكوع.
والثالث: وجوب دية اليد للكفّ، ثمّ دية أخرى للذراع، ثمّ ثالثة للعضد؛ نظراً إلى الخبر العامّ.
قوله: «فلو قطعهما ففي الأصليّة دية، وفي الزائدة حكومة» إلى آخره.
وجه الأقرب عدم وجود دليل يقتضي التقدير، فيرجع إلى الحكم العامّ وهو الحكومة.
ص: 577
• ويظهر لي في الذراعين الدية. وكذا في العضدين. وفي كلّ واحد نصف الدية.
الحادي عشر: الأصابع، وفي أصابع اليدين الدية. وكذا في أصابع الرجلين.
• وفي كلّ واحدة عشر الدية. وقيل: في الإبهام ثلث الدية، وفي الأربع البواقي الثلثان بالسويّة.
ودية كلّ إصبع مقسومة على ثلاث أنامل بالسوية، عدا الإبهام، فإنّ ديتها مقسومة بالسوية على اثنين.
وفي الإصبع الزائدة ثلث الأصليّة. وفي شلل كلّ واحدة ثلثا ديتها، وفي قطعها بعد الشلل الثلث. وكذا لو كان الشلل خلقة.
----------------------------------
ولكن لما ورد التقدير للزائدة في بعض الموارد أحال في المبسوط الباقي عليه(1). وله وجه، وإن كان ما اختاره المصنّف أظهر.
قوله: «ويظهر لي في الذراعين الدية. وكذا في العضدين. وفي كلّ واحد نصف الدية».
وجه الظهور دلالة الخبر العام عليه، فإنه ممّا في البدن منه اثنان.
ويحتمل اختصاص الدية باليد من الكوع، ووجوب الحكومة للزائد إن قطع منفرداً؛ لعدم تقدير ديته بخصوصه شرعاً. ولو قطع مع الكفّ ففيه ما تقدّم من الاحتمالات.
قوله: «وفي كلّ واحدة عشر الدية - إلى قوله - الثلثان بالسوية».
القول بتساوي الأصابع في الدية ووجوب العشر لكل واحدة هو المشهور بين الأصحاب؛ عملاً بالخبر العام، وخصوص صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أصابع اليدين والرجلين سواء في الدية، في كلّ إصبع عشر من الإبل»(2).
ص: 578
• وفي الظفر إذا لم ينبت عشرة دنانير. وكذا لو نبت أسود. ولو نبت أبيض كان فيه خمسة دنانير.
وفي الرواية،ضعف غير أنها مشهورة.
وفي رواية عبد اللّه بن سنان في الظفر خمسة دنانير.
----------------------------------
وحسنة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في الإصبع عشر الدية إذا قطعت من أصلها». قال: وسألته عن الأصابع أسواء هنّ في الدية؟ قال: «نعم»(1).
ورواية الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الخلقة التي قسمت عليها الدية عشرة أصابع في اليدين، فما زاد أو نقص فلا دية له، في كلّ إصبع من أصابع اليدين ألف درهم، وفي كلّ إصبع من أصابع الرجلين ألف درهم، وكلّ ما كان من شلل فهو على الثلث من دية الصحاح»(2).
والقول بجعل ثلث الدية على الإبهام والثلثين على الأربع البواقي لأبي الصلاح (3) وابن حمزة (4)؛ استناداً إلى كتاب ظريف(5)، وطريقه ضعيف.
قوله: «وفي الظفر إذا لم ينبت عشرة دنانير» إلى آخره.
هذا التفصيل للشيخ في النهاية (6) وأتباعه(7). والمستند رواية مسمع عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(8).
ص: 579
الثاني عشر: الظهر، وفيه إذا كسر الدية كاملة. وكذا لو أصيب فاحدودب أو صار بحيث لا يقدر على القعود. • ولو صلح كان فيه ثلث الدية.
وفي رواية ظريف: إن كسر الصلب فجبر على غير عيب فمائة دينار. وإن عثم فألف دينار.
----------------------------------
وقد تكرّر القول في ضعف طريقها بسهل وابن شمّون والأصمّ (1).
ورواية عبد اللّه بن سنان بوجوب خمسة دنانير في الظفر (2) صحيحة السند، لكن لا عامل بمضمونها. وحملت على ما لو عاد أبيض جمعاً بين الروايتين. وليس بجيد؛ لعدم صلاحيّة الضعيفة للمعارضة، وبعد الحمل على تقديره
وذهب جماعة (3) - منهم العلّامة في المختلف (4)- إلى وجوب عشرة دنانير متى قلع ولم يخرج، ومتى خرج أسود فثلثا ديته ؛ لأنّه في معنى الشلل، ولأصالة براءة الذمّة من وجوب الزائد، مع ضعف المأخذ، وبعد مساواة عوده لعدمه أصلاً. وهو أولى.
قوله: «ولو صلح كان فيه ثلث الدية. وفي رواية ظريف: إن كسر الصلب فجبر على غير عيب فمائة دينار. وإن عثم فألف دينار».
وجوب الثلث مع صلاحه هو الأشهر بين الأصحاب. وأما رواية كتاب ظريف(5)، فقد عرفت ما فيها (6).
ص: 580
ولو كسر فشلت الرجلان فدية له وثلثادية للرجلين.
وفي الخلاف لو كسر الصلب فذهب مشيه وجماعه فديتان.
الثالث عشر: النخاع، وفي قطعه الدية كاملة.
الرابع عشر: الثديان، وفيهما من المرأة ديتها. وفي كلّ واحد نصف ديتها. ولو انقطع لبنهما ففيه الحكومة. وكذا لو كان اللبن فيهما وتعذر نزوله.
ولو قطعهما مع شيء من جلد الصدر ففيهما ديتها، وفي الزائد حكومة.
ولو أجاف مع ذلك الصدر لزمه دية الثديين والحكومة ودية الجائفة.
• ولو قطع الحلمتين قال في المبسوط فيهما الدية.
وفيه إشكال، من حيث إنّ الدية في الثديين والحلمتان بعضهما.
----------------------------------
والمراد بالعثم: الانجبار غير التام. قال ابن الأثير في النهاية : يقال: عثمت يده فعثمت إذا جبرتها على غير استواء، وبقي فيها شيء لم ينحكم(1).
وقال الهروي في الغريبين:
في حديث إبراهيم في الأعضاء إذا انجبرت على عثم، أي على غير استواء، يقال: عثمت يده وعثمتها إذا جبرتها ولم تحكم فبقي في العظم عقدة (2).
قوله: «ولو قطع الحلمتين قال في المبسوط : فيهما الدية» إلى آخره.
القول بوجوب الدية في الحلمتين للشيخ في كتابي الفروع (3)؛ نظراً إلى الحديث العامّ بأنّ ما كان في الإنسان منه اثنان ففيهما الدية (4).
ص: 581
• أمّا حلمتا الرجل، ففي المبسوط والخلاف فيهما الدية. وقال ابن بابويه (رحمه اللّه): في حلمة ثدي الرجل ثمن الدية مائة وخمسة وعشرون ديناراً. وكذا ذكر الشيخ (رحمه اللّه) في التهذيب عن ظريف. وفي إيجاب الدية فيهما بعد. والشيخ أضرب عن رواية ظريف وتمسك بالحديث الذي مرّ في فصل الشفتين.
----------------------------------
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل ذلك من حيث إنّ الدية تجب في الثديين، والحلمتان بعضهما.
وتقريره بترتيب قياس استثنائي يلزم من صدق مقدّمه ثبوت تاليه وهو أنّ كلّ ما كان في الثديين الدية لم تجب في الحلمتين الدية، لكن المقدّم حقّ بالإجماع، فالتالي مثله.
وبيان الملازمة أنّ الحلمتين بعض الثديين، والبعض مغاير للكلّ، والحكم المعلّق على الكلّ يقتضي توزيعه على أجزاء ذلك الكل، فلو وجب فيهما الدية لزم مساواة الجزء للكلّ، وهو محال.
واجيب بانتقاضه باليدين والذكر والأنف(1)، فإنّها بعض البدن وتجب فيها الدية، مع أنّها بعض من جملة تجب له الدية.
وردّ بأنّ هذه خرجت بالنص الخاصّ(2)، فيبقى غيرها على الأصل، إلّا أن يدّعى دخول موضع النزاع في النصّ أيضاً، وهو الرواية العامّة. والأُولى الرجوع فيهما إلى الحكومة.
قوله: «أما حلمتا الرجل، ففي المبسوط والخلاف: فيهما الدية» إلى آخره.
اختلف الأصحاب في الواجب في قطع حلمتي الرجل، فذهب الشيخ في الكتابين (3)
ص: 582
الخامس عشر الذكر، وفي الحشفة فما زاد الدية وإن استؤصل، سواء كان لشاب أو شيخ أو صبي لم يبلغ، أو من سلّت خصيتاه.
ولو قطع بعض الحشفة كانت دية المقطوع بنسبة الدية من مساحة الكمرة حسب.
----------------------------------
وابن إدريس(1) والعلّامة في المختلف (2) إلى وجوب الدية فيهما كحلمتي المرأة ؛ استناداً إلى الأحاديث العامّة الدالّة على أنّ كلّ ما في البدن منه اثنان ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها(3)، والأمر في المتنازع كذلك.
وقال الصدوق(4)، وابن حمزة (5): في حلمة ثدي الرجل ثُمن الدية ؛ استناداً إلى رواية ظريف(6) المتضمنة لذلك. وقد عرفت ضعف طريقها(7). والشيخ مع عمله بها في مواضع كثيرة أعرض عنها هنا، ورجع إلى الأحاديث العامّة التي أشرنا إليها في دية الشفتين(8).
والمصنّف استبعد القول بإيجاب الدية فيهما، من حيث إنهما زيادتان لا منفعة فيهما معتداً بها كغيرهما من الأعضاء، خصوصاً مع القول بعدم وجوبها لحلمتي المرأة، مع كثرة نفعهما وشدّة الحاجة إليهما في إرضاع الولد. وكتاب ظريف لا يعتمد عليه كما يعهد منه، وذلك يقتضي الميل إلى إيجاب الحكومة فيهما. وهو الوجه وقواه فخر المحقّقين (9).
ص: 583
ولو قطع الحشفة وقطع آخر ما بقي كان على الأوّل الدية وعلى الثاني الأرش.
وفي ذكر العنّين ثلث الدية، وفيما قطع منه بحسابه.
• وفي الخصيتين الدية. وفي كلّ واحدة نصف الدية. وفي رواية: في اليسرى ثلثا الدية؛ لأنّ منها الولد.
والرواية حسنة، لكن تتضمّن عدولاً عن عموم الروايات المشهورة.
----------------------------------
قوله: «وفي الخصيتين الدية. وفي كلّ واحدة نصف الدية» إلى آخره.
لا خلاف في أن في الخصيتين معا الدية، وإنما الخلاف فيما يخص كلّ واحدة، فالأكثر- ومنهم المفيد(1)، والشيخ في المبسوط والنهاية (2)، وأتباعه (3)، وابن إدريس(4)، والمصنّف، والمتأخّرون - على التسوية بينهما، وأن في كلّ واحدة نصف الدية، للخبر العامّ(5).
وذهب الشيخ في الخلاف محتجاً بالإجماع والأخبار (6) - وسلّار (7)، والقاضي في المهذّب(8) - وهو في الكامل مع الفريق الأوّل (9) - والعلّامة في المختلف (10) إلى أنّ في اليمنى الثلث وفي اليسرى الثلثين ؛ لحسنة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ما كان في الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية». قلت: رجل فقئت عينه؟ قال: «نصف الدية».
ص: 584
• وفي أدرة الخصيتين أربعمائة دينار، فإن فحج فلم يقدر على المشي فثمانمائة دينار. ومستنده كتاب ظريف، غير أن الشهرة تؤيّده.
----------------------------------
قلت: قطعت يده؟ قال: «نصفها». قلت: فرجل ذهبت إحدى بيضتيه؟ قال: «إن كانت اليسار ففيها ثلثا الدية». قلت: أليس قلت: ما كان في الجسد منه اثنان ففيه نصف الدية؟ قال: «لأنّ الولد من البيضة اليسرى»(1).
وهذا الخبر خاص، فيكون مقدّماً على ذلك العام، مع اشتراكهما في الحسن، وما صحّ في ذلك مقطوع كما تقدم، ولأنّهما متفاوتتان في المنفعة فيناسبهما التفاوت في الدية.
وجمع الراوندي بين الروايتين بحمل الأُولى على من لا يصلح للتولّد كالشيخ اليائس من الجماع، والثانية على غيره(2).
وذهب ابن الجنيد إلى أنّ في اليمنى نصف الدية، وفي اليسرى تمام الدية، محتجّاً بأنّ الولد منها (3)، ففي فواتها فوات منفعة تامة فتجب الدية لذلك كغيرها من المنافع.
وقد يترجّح الأوّل بكثرة رواياته(4)، وشهرة مضمونها، ومناسبتها لغيرها ممّا في البدن منه اثنان وقد أنكر بعض الأطباء انحصار التولّد في الخصية اليسرى. ونسبه الجاحظ في حياة الحيوان إلى العامّة(5).
وقوّة المنفعة لا تؤثر في زيادة الدية، كما لا تزيد اليد الباطشة عن الضعيفة، وكذلك العين. ولو صح نسبة التولّد إلى الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) لم يلتفت إلى إنكار منكره، لكن قد عرفت حاله.
قوله: «وفي أُدرة الخصيتين أربعمائة دينار» إلى آخره.
الأُدرة - بضمّ الهمزة وسكون الدال - انتفاخ الخصية، يقال: رجل آدر إذا كان كذلك (6).
ص: 585
السادس عشر الشفران وهما اللحم المحيط بالفرج إحاطة الشفتين بالفم، وفيهما ديتها. وفي كلّ واحد نصف ديتها. وتستوي في الدية السليمة والرتقاء.
وفي الركب حكومة، وهو مثل موضع العانة من الرجل.
• وفى إفضاء المرأة ديتها، وتسقط في طرف الزوج إن كان بالوطء بعد بلوغها. ولو كان قبل البلوغ ضمن الزوج مع مهرها ديتها والإنفاق عليها حتّى يموت أحدهما.
ولو لم يكن زوجاً وكان مكرهاً فلها المهر والدية. وإن كانت مطاوعة فلا مهر، ولها الدية.
ولو كانت المكرهة بكراً هل يجب لها أرش البكارة زائداً عن المهر؟ فيه تردّد، والأشبه وجوبه. ويلزم ذلك في ماله؛ لأنّ الجناية إما عمد أو شبيه العمد.
----------------------------------
والفَحْج: هو تباعد أعقاب الرجلين مع تقارب صدورهما حالة المشي. قال الجوهري: الفَحْج بالتسكين مشية الأفحج، وتفرّج في مشيته مثله(1).
ومستند الواجب المذكور كتاب ظريف(2)، وقد عرفت ضعف سنده، لكن العمل بما ذكر مشهور، فهي مؤيّدة كما ذكره المصنّف.
قوله: «وفى إفضاء المرأة ديتها - إلى قوله - والأشبه وجوبه».
وجوب الدية بإفضاء من لم تبلغ التسع هو المشهور بين الأصحاب. وهو مناسب لإذهاب منفعة الوطء، وهي من أهم المنافع التي تجب بفواتها الدية.
وقد رواه بريد العجلي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل اقتض جارية - يعني امرأته - فأفضاها، قال: «عليه الدية إن كان دخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين». قال: «فإن أمسكها فلم يطلّقها
ص: 586
السابع عشر: الأليتان • قال في المبسوط في الأليتين الدية. وفي كلّ واحدة نصف الدية. ومن المرأة ديتها، وفي كلّ واحدة منها نصف ديتها.
وهو حسن، تعويلاً على الرواية التي مرّت في فصل الشفتين.
----------------------------------
فلاشيء عليه، وإن كان دخل بها ولها تسع سنين فلا شيء عليه، إن شاء أمسك وإن شاء طلّق»(1).
وفي طريقها جهالة (2) إلّا أنّها مناسبة كما أشرنا إليه.
ولا فرق في وجوب الإنفاق عليها ما دامت حيّة بين أن يطلقها أو يبقيها على حباله؛ العموم صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فأفضاها، قال: «عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة»(3).
وقد تقدم الحكم بتحريمها عليه بذلك أبداً في بابه(4).
ووجه سقوط المهر دون الدية في المطاوعة: أنّ البضع لا يضمن للمطاوعة؛ لأنّها بغي بخلاف الدية؛ فإنّها لا تسقط بالإباحة كما سبق.
والأقوى وجوب الجمع للمكرهة بين أرش البكارة والمهر؛ لأن الأرش عوض جزء فائت، والمهر يجب عوضاً عن وطء البكر، فلا يتداخلان. وقد تقدم البحث في ذلك أيضاً مراراً، كما تقدّم البحث عن تحقيق الإفضاء(5).
قوله: «قال في المبسوط في الأليتين الدية» إلى آخره.
أشار بنسبة القول إلى المبسوط (6) وبالتعليل بالرواية المذكورة إلى أنّه لا نصّ على
ص: 587
الثامن عشر الرجلان، وفيهما الدية، وفي كلّ واحدة نصف الدية. وحدّهما مفصل الساق.
وفي الأصابع منفردة دية كاملة. • وفي كلّ إصبع عشر الدية. والخلاف في الإبهام هنا كما في اليدين.
ودية كلّ إصبع مقسومة على ثلاث أنامل بالسوية، وفي الإبهام على اثنتين. وفي الساقين الدية. وكذا في الفخذين. وفي كلّ واحدة نصف الدية.
مسائل:
الأولى: • في الأضلاع ممّا خالط القلب لكل ضلع إذا كسرت خمسة وعشرون ديناراً. وفيها ممّا يلي العضدين لكلّ ضلع إذا كسرت عشرة دنانير.
----------------------------------
حكمها بالخصوص، لكن عموم الخبر والعمل بمضمونها فيهما يقتضي ذلك. مضافاً إلى ما فيهما من الجمال والمنفعة الظاهرة في القعود والركوب وغيرهما.
ولا فرق فيهما بين الرجل والمرأة، بمعنى وجوب دية كلّ واحد منهما لهما. ولا نظر إلى اختلاف القدر الثاني، بل اختلاف الناس في ذلك كاختلافهم في سائر الأعضاء.
قوله - في الرجلين - : «وفي كلّ إصبع عشر الدية. والخلاف في الإيهام هنا كما في اليدين».
والمختار هنا كالمختار ثمّة.
قوله: «في الأضلاع ممّا خالط القلب لكلّ ضلع إذا كسرت» إلى آخره.
مستند هذا التفصيل كتاب ظريف(1).
والمراد بمخالطة القلب وعدمه: كونه في الجانب الذي فيه القلب، كما أن عدم المخالطة
ص: 588
الثانية : • لو كسر بعصوصه فلم يملك غائطه كان فيه الدية. وهي رواية سليمان بن خالد. ومن ضرب عِجانه فلم يملك غائطه ولا بوله ففيه الدية. وهي رواية إسحاق بن عمّار.
الثالثة: • في كسر عظم من عضو خُمس دية العضو. فإن صلح على غير عيب فأربعة أخماس دية كسره. وفي موضحته ربع دية كسره.
----------------------------------
خلاف ذلك. فالضلع الواحد إن كسر من جهة القلب ففيه أعلى الديتين، وإن كسر من الجهة الأخرى فقيه أدناهما، فيستوي في ذلك جميع الأضلاع
قوله: «لو كسر بعصوصه، فلم يملك غائطه كان فيه الدية» إلى آخره.
البعصوص: هو العصعص بضمّ عينيه، وهو عجب الذنب بفتح عينه(1)، أعني عظمه. وقال الراوندي: البعصوص عظم رقيق حول الدبر (2). ولم يذكر ذلك أهل اللغة.
والعجان - بكسر العين - ما بين الخصيتين والفقحة(3).
و مستند الحكم فيهما الروايتان(4). وإنّما نسب المصنّف الحكم إليهما؛ لأن سليمان بن خالد لم ينص الأصحاب على توثيقه على تقدير سلامة عقيدته، وإن كان الطريق إليه صحيحاً. وأما إسحاق فهو فطحي وإن كان ثقة(5). لكن العمل بهما مشهور، وكثير من الأصحاب لم يذكر في ذلك خلافاً.
قوله: «في كسر عظم من عضو خُمس دية العضو» إلى آخره.
مستند هذا التفصيل كتاب ظريف(6). ولم يتوقّف المصنّف في حكمه هنا ولا الأكثر.
ص: 589
وفي رضه ثلث دية العضو. فإن برئ على غير عيب فأربعة أخماس دية رضّه.
وفى فكه من العضو بحيث يتعطّل العضو ثلثا دية العضو، فإن صلح على غير عیب، فأربعة أخماس دية فكه.
الرابعة: • قال في المبسوط والخلاف في الترقوتين الدية. وفي كلّ واحدة منهما مقدر عند أصحابنا.
ولعلّه إشارة إلى ما ذكره الجماعة عن ظريف، وهو في الترقوة إذا كسرت فجبرت على غير عيب أربعون ديناراً.
----------------------------------
وفي مختصر الكتاب نسبه إلى الشيخين (1) مقتصراً عليه. ووجهه ضعف المستند.
قوله: «قال في المبسوط والخلاف : في الترقوتين الدية. وفي كلّ واحدة منهما مقدر عند أصحابنا» إلى آخره.
الترقوة - بفتح التاء فسكون الراء فضم القاف - هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق(2).
والمرويّ في كتاب ظريف (3) فيها ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه)، وليس فيه حكم ما لو تجبر، ولا ما إذا جبرت على عيب، ومقتضى الأصل أنّ فيها الحكومة، مع احتمال الدية، رجوعاً إلى الخبر العامّ. ويشكل الحكومة لو نقصت عن الأربعين؛ لوجوبها فيما لو عدم العيب، فأولى أن تجب معه.
وإطلاق النصّ(4)، يقتضى التسوية بين ترقوة الرجل والمرأة.
ص: 590
الخامسة: • من داس بطن إنسان حتّى أحدث ديس بطنه أو يفتدي ذلك بثلث الدية. وهي رواية السكوني وفيه ضعف.
السادسة: من افتضّ بكراً بإصبعه فخرق مثانتها فلا تملك بولها فعليه ثلث ديتها - وفي رواية: ديتها، وهي أولى ومثل مهر نسائها.
وهي سبعة
الأوّل: • العقل، وفيه الدية وفي بعضه الأرش في نظر الحاكم، إذ لا طريق إلى تقدير النقصان.
وفي المبسوط: يقدّر بالزمان، فلو جنّ يوماً وأفاق يوماً كان الذاهب نصفه. أو يوماً وأفاق يومين كان الذاهب ثلثه. وهو تخمين.
----------------------------------
قوله: «من داس بطن إنسان حتّى أحدث ديس بطنه» إلى آخره.
هذه الرواية رواها السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى بذلك(1).
وذهب جماعة (2) إلى الحكومة ؛ لضعف مستند غيره. وهو الوجه.
قوله: «العقل، وفيه الدية وفي بعضه الأرش في نظر الحاكم - إلى قوله - وهو تخمين».
ما ذكره في المبسوط (3) - مع كونه تخميناً لا يرجع إلى دليل صالح - لا يتمّ في جميع أفراد النقص، بل الغالب منها، كما لو اتّفق نقصه في جميع الأوقات ولم يذهب رأساً، فلا طريق له إلا نظر الحاكم كما ذكره الأصحاب.
ص: 591
ولا قصاص في ذهابه ولا في نقصانه؛ لعدم العلم بمحله.
• ولو شجّه فذهب عقله لم تتداخل دية الجنايتين. وفي رواية: إن كان بضربة واحدة تداخلتا والأوّل أشبه.
وفي رواية : لو ضرب على رأسه فذهب عقله انتظر به سنة، فإن مات فيها قيد به، وإن بقي ولم يرجع عقله ففيه الدية. وهي حسنة.
----------------------------------
ثمَّ الزائل قد ينضبط للحاكم بالزمان، كما ذكره الشيخ(1). وقد ينضبط بغيره، بأن يقابل صواب قوله ومنظوم فعله بالخطأ، وينظر النسبة بينهما. وقد لا يمكنه الضبط، بأن كان يفزع أحياناً ممّا لا يفزع منه، أو يستوحش إذا خلا، فيرجع في تقديره إلى اجتهاد الحاكم.
قوله: «ولو شجّه فذهب عقله لم تتداخل دية الجنايتين» إلى آخره.
المشهور بين الأصحاب أنّ الجناية على الطرف والمنفعة لا تتداخلان، كما لو ضربه فقطع يده أو شجّه فذهب عقله، سواء كان ذلك بضربة واحدة أم أزيد؛ لأن كلّ واحد من الطرف
والمنفعة سبب في إيجاب الدية، وله عوض مقدّر، فلا يتداخل؛ لأنّه على خلاف الأصل. ولكن روي التفصيل بكونه بضربة واحدة فيتداخل وبأزيد فلا، وهي صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل ضرب رجلاً بعمود فسطاط على رأسه ضربة واحدة، فأجافه حتّى وصلت الضربة إلى الدماغ وذهب عقله. فقال: «إن كان المضروب لا يعقل منها أوقات الصلوات ولا يعقل ما قال ولا ما قيل له فإنه ينتظر به سنة، فإن مات فيما بينه وبين سنة أقيد به ضاربه، وإن لم يمت فيما بينه وبين سنة، ولم يرجع إليه عقله، أغرم ضاربه الدية في ماله لذهاب عقله». قلت: فما ترى عليه في الشجة شيئا؟ قال: «لا، إنّما ضربه ضربة واحدة، فجنت الضربة جنايتين، فألزمته أغلظ الجنايتين وهي الدية. ولو كان ضربه ضربتين فجنت الضربتان جنايتين، لألزمته جناية ما جنى كائنة ما كانت إلا أن يكون فيهما الموت فيقاد به ضاربه». قال: «وإن كان ضربه عشر ضربات فجنت جناية
ص: 592
• ولو جنى فأذهب العقل ودفع الدية ثمّ عاد لم يرتجع الدية؛ لأنّه هبة مجددة.
----------------------------------
واحدة ألزمته تلك الجناية التي جنتها العشر ضربات كائنة ما كانت ما لم يكن فيها الموت»(1).
وهذه هي الرواية التي أشار إليها المصنّف (رحمه اللّه) ثانياً بانتظاره سنة، ونسبها إلى الحسن، مع أنها صحيحة، فلعله أراد بالحسن غير المصطلح عليه في دراية الحديث.
وعمل بموجبها الشيخ (2) وابن البرّاج (3) وابن إدريس(4)، بالنسبة إلى الانتظار بالمجني عليه سنة، بل قال الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح ما علمت لها مخالفاً(5).
وحكاية المصنّف لها بلفظ الرواية يشعر بعدم العمل بمضمونها. وكذا فعل العلّامة (6).
وجهه أنّ إطلاق القود بعد (7) مضيّ السنة لا يتمّ إلّا بتقدير أن تكون الضربة ممّا يقتل غالباً، أو قصده وحصل الموت بها، والرواية أعمّ من ذلك. ولكن هذا مقيد للنص الصحيح، فلذا لم يتوقّف فيه غيرهما. ويمكن تقييده بما يوافق الأصول جمعاً، وقرينته (8) الضرب بعمود الفسطاط على الرأس، فربما كان ذلك ممّا يقتل غالباً.
قوله: «ولو جنى فأذهب العقل ودفع الدية ثمّ عاد لم يرتجع الدية؛ لأنّه هبة مجدّدة».
مستند الحكم على الإطلاق رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: جعلت فداك، ما تقول في رجل ضرب رأس رجل بعمود فسطاط فأمّه - يعني ذهب
ص: 593
الثاني: السمع، وفيه الدية إن شهد أهل المعرفة باليأس. وإن أملوا العود بعد مدّة معيّنة توقعنا انقضاءها. فإن لم يعد فقد استقرت الدية.
ولو أكذب المجني عند دعوى ذهابه، أو قال: لا أعلم، اعتبرت حاله عند الصوت العظيم والرعد القويّ، وصيح به بعد استغفاله. فإن تحقّق ما ادعاه، وإلّا أحلف القسامة، وحكم له.
ولو ذهب سمع إحدى الأذنين ففيه نصف الدية.
• ولو نقص سمع إحداهما قيس إلى الأخرى، بأن تسد الناقصة وتطلق الصحيحة، ويصاح به حتّى يقول: لا أسمع، ثمّ يعاد عليه ذلك مرّة ثانيةً، فإن تساوت المسافتان صدّق. ثمّ تطلق الناقصة وتسدّ الصحيحة، ويعتبر بالصوت حتّى يقول: لا أسمع، ثمّ يكرّر عليه الاعتبار، فإن تساوت المقادير في سماعه فقد صدق، وتمسح مسافة الصحيحة والناقصة، ويلزم من الدية بحساب التفاوت.
عقله ؟ قال: «عليه الدية». قلت: فإنّه عاش عشرة أيّام أو أقلّ أو أكثر فرجع إليه عقله، أله أن يأخذ الدية؟ قال: «لا قد مضت الدية بما فيها»(1). الحديث. وفي الطريق جهالة.
ولو قيل بالرجوع إلى أهل الخبرة في ذلك، فإن قضوا بذهابه بالكلية لم يرتجع وإلا فالحكومة كان حسناً.
قوله: «ولو نقص سمع إحداهما قيس إلى الأخرى - إلى قوله - وفي رواية: يعتبر بالصوت من جوانبه الأربعة».
هذه الرواية رواها أبو بصير عن أبي عبد اللّه (2)، وفي طريقها ضعف. والأقوى الاكتفاء
ص: 594
وفي رواية: يعتبر بالصوت من جوانبه الأربعة، ويصدق مع التساوي، ويكذّب مع الاختلاف.
وفي ذهاب السمع بقطع الأذنين ديتان. ولا يقاس السمع في الريح، بل يتوخى سكون الهواء.
الثالث في ضوء العين وفيه الدية كاملة فإن ادّعى ذهابه وشهد له شاهدان من أهل الخبرة أو رجل وامرأتان، إن كان خطأ أو شبيه عمد فقد ثبتت الدعوى. فإن قالا : لا يرجى عوده، فقد استقرت الدية. وكذا لو قالا : يرجى عوده لكن لا تقدير له. أو قالا : بعد مدة معيّنة، فانقضت ولم يعد. وكذا لو مات قبل المدّة. أمّا لو عاد ففيه الأرش. ولو اختلفا في عوده، فالقول قول المجني عليه مع يمينه.
• وإذا ادّعى ذهاب بصره وعينه قأئمّة أحلف القسامة وقضي له. وفي رواية تقابل بالشمس، فإن كان كما قال بقيتا مفتوحتين
ولو ادّعى نقصان إحداهما قيست إلى الأُخرى، وفعل كما فعل في السمع.
----------------------------------
بما يتيقّن معه صدقه، وربما حصل بتكرّر الامتحان إلى جهتين.
قوله: «وإذا ادّعى ذهاب بصره وعينه قأئمّة أحلف القسامة وقضي له. وفي رواية تقابل بالشمس، فإن كان كما قال بقيتا مفتوحتين».
هي رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد تقدمت وأنّ في طريقها ضعفاً(1). والأشهر تصديقه بالقسامة.
ص: 595
ولو ادّعى النقصان فيهما قيستا إلى عيني من هو من أبناء سنه، وألزم الجاني التفاوت بعد الاستظهار بالأيمان. ولا تقاس عين في يوم غيم، ولا في أرض مختلفة الجهات.
• ولو قلع عيناً وقال: كانت قأئمّة، وقال المجني عليه : كانت صحيحة، فالقول قول الجاني مع يمينه.
وربما خطر أن القول قول المجني عليه مع يمينه ؛ لأنّ الأصل الصحّة.
وهو ضعيف؛ لأنّ أصل الصحة معارض بأصل البراءة، واستحقاق الدية أو القصاص منوط بتيقن السبب ولا يقين هنا؛ لأن الأصل ظنّ لا قطع.
الرابع: الشم، وفيه الدية كاملة.
وإذا ادّعى ذهابه عقيب الجناية اعتبر بالأشياء الطيبة والمنتنة، ثمّ يستظهر عليه بالقسامة ويقضى له؛ لأنّه لا طريق إلى البيئة.
----------------------------------
قوله: «ولو قلع عيناً وقال: كانت قأئمّة - إلى قوله - لأن الأصل ظنّ لا قطع».
موضع الخلاف ما إذا ادّعى الجاني كونها عادمة البصر في أصلها ليتّجه تقديم قوله؛ نظراً إلى تعارض أصل الصحة والبراءة. ولعلّ معنى قيام العين ذلك.
أمّا لو اعترف الجاني بأنها كانت صحيحة، ولكن ادّعى ذهاب بصرها قبل الجناية عليها، وادّعى المجني عليه صحتها، فلا إشكال في تقديم قول المجني عليه، للعلم بسبق الصحة فيستصحب، وهذا يقطع أصالة البراءة. وبهذا التفصيل صرّح في التحرير(1).
والأقوى تقديم قول الجاني في الأول؛ لتعارض الأصلين فيتساقطان، ويبقى استحقاق القصاص أو الدية مفتقراً إلى سبب يوجبه، وهو غير معلوم.
ص: 596
• وفي رواية : يحرق له حراق ويقرب منه، فإن دمعت عيناه ونحى أنفه فهو كاذب.
• ولو ادّعى نقص الشم، قيل: يحلف؛ إذ لا طريق إلى البيّنة، ويوجب له الحاكم ما يؤدي إليه اجتهاده.
ولو أخذ دية الشمّ ثمّ عاد، لم تعد الدية. ولو قطع الأنف، فذهب الشمّ فديتان.
الخامس: • الذوق، يمكن أن يقال فيه الدية، لقولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): كلّ ما في الإنسان منه واحد ففيه الدية.
----------------------------------
قوله « وفي رواية: يحرق له حراق ويقرب منه» إلى آخره.
هي رواية الأصبغ السابقة(1)، وقد تقدم ضعف سندها، وأن الأشهر القول بالقسامة؛ لتعذّر إقامة البيّنة عليه.
قوله: «ولو ادّعى نقص الشمّ، قيل: يحلف؛ إذ لا طريق إلى البيّنة» إلى آخره.
هذا القول لأبي الصلاح(2)، وقطع به العلّامة في كثير من كتبه (3)، ونفى عنه في المختلف البأس إذا استفاد الحاكم منه ظنّاً (4).
ووجهه أنه لا طريق إلى البيّنة ولا إلى الامتحان.
وإنّما نسبه إلى القول؛ لعدم دليل يعتد به عليه مع أصالة البراءة، وكون حلف المدعي على خلاف الأصل، وإنّما مقتضاه حلف المدعى عليه على البراءة.
قوله: «الذوق، يمكن أن يقال فيه الدية».
ص: 597
ويرجع فيه عقيب الجناية إلى دعوى المجني عليه مع الاستظهار بالأيمان. ومع النقصان، يقضي الحاكم بما يحسم المنازعة تقريباً.
السادس: لو أُصيب، فتعذر عليه الإنزال في حال الجماع كان فيه الدية.
السابع :. قيل : في سلس البول الدية وهي رواية غياث بن إبراهيم وفيه ضعف. وقيل: إن دام إلى الليل ففيه الدية، وإن كان إلى الزوال فثلثا الدية، وإلى ارتفاع النهار ثلث الدية.
وفي الصوت الدية كاملة.
----------------------------------
إنّما نسبه إلى الإمكان، لعدم دليل عليه بخصوصه، وقد قال به جماعة من الأصحاب (1)؛ لأنّه منفعة متّحدة في الإنسان مقصودة، فتدخل في عموم الخبر العام(2). وهو حسن.
قوله: «قيل: في سلس البول الدية» إلى آخره.
المشهور بين الأصحاب ثبوت الدية في سلس البول، وهو نزوله ترشّحاً؛ لضعف القوة الماسكة.
والمستند رواية غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى في رجل ضرب حتّى سلس بوله بالدية الكاملة»(3).
وغياث ضعيف(4)، إلّا أنّ الرواية مناسبة؛ لما يترتّب عليه من فوات المنفعة المتّحدة. هذا إذا دام، وإلّا فالحكومة.
ص: 598
• والشجاج ثمان الحارصة والدامية، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة والمنقلة، والمأمومة.
----------------------------------
والقول بالتفصيل إلى الليل وغيره للشيخ في النهاية(1)، وأتباعه (2) وابن إدريس (3)؛ استناداً إلى رواية صالح بن عقبة، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل ضرب رجلاً فقطع بوله، فقال له: «إن كان البول يمرّ إلى الليل فعليه الدية؛ لأنّه قد منعه المعيشة، وإن كان إلى آخر النهار فعليه الدية، وإن كان إلى نصف النهار فعليه ثلثا الدية، وإن كان إلى ارتفاع النهار فعليه ثلث الدية»(4).
وفي طريق الرواية ضعف؛ لأنّ صالحاً كذّاب(5)، وإسحاق فطحي(6). وظاهر الرواية أنّ المراد وقوع ذلك كلّ يوم؛ ليتحقّق فوت منفعة الإمساك وتعطيل المعيشة.
قوله - في الشجاج والجراح : «والشجاج ثمان» إلى آخره.
الشجاج - بكسر الشين - جمع شجّة بفتحها، وهي الجرح المختص بالرأس والوجه(7). ويسمى في غيرهما جرحاً بقول مطلق.
ص: 599
• أما الحارصة، فهي التي تقشّر الجلد، وفيها بعير. وهل هي الدامية ؟ قال الشيخ : نعم. والرواية ضعيفة. والأكثرون على أنّ الدامية غيرها. وهي رواية منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). في الدامية - إذن بعيران، وهي التي تأخذ في اللحم يسيراً.
----------------------------------
قوله: «أما الحارصة، فهي التي تقشّر الجلد، وفيها بعير - إلى قوله - في اللحم يسيراً».
الحارصة: هي التي تشق الجلد قليلاً نحو الخدش، وتسمّى الحَرْصة أيضاً. يقال: حرص القصّار الثوب، إذا خدشه وشقه بالدقّ(1).
وعن الأزهري: إذا قصره ونحى عنه الدرن كأنه قشره عنه (2).
والدامية هي التي تدمي موضعها من الشق والخدش(3).
وقد اختلف الفقهاء في أنّ الحارصة والدامية هل هما مترادفان، أم مختلفان؟ فذهب الشيخ(4)، وجماعة(5) إلى الأوّل ؛ لرواية مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): قضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المأمومة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي الموضحة خمساً من الإبل، وفي الدامية بعيراً، وفي الباضعة بعيرين. وقضى في المتلاحمة ثلاثة أبعرة. وقضى في السمحاق أربعة من الإبل»(6).
وروى السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قضى في الدامية بعيراً، وفي الباضعة بعيرين، وفي المتلاحمة ثلاث أبعرة، وفي السمحاق أربعة»(7).
والروايتان ضعيفتا السند.
ص: 600
• وأما المتلاحمة، فهي التي تأخذ في اللحم كثيراً، ولا تبلغ السمحاق، وفيها ثلاثة أبعرة.
وهل هي غير الباضعة ؟ فمن قال: الدامية غير الحارصة، فالباضعة والمتلاحمة واحدة. ومن قال الدامية والحارصة واحدة فالباضعة غير المتلاحمة.
----------------------------------
وذهب الأكثرون كالمفيد(1) وسلّار (2) والمرتضى (3) وأكثر المتأخّرين إلى الثاني، فجعلوا الدامية زائدة على الحارصة، وهي التي تأخذ في اللحم يسيراً؛ لرواية منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «في الحارصة - وهي الخدش - بعير، وفي الدامية بعيران»(4). وهذا هو الأشهر.
قوله: «وأما المتلاحمة، فهي التي تأخذ في اللحم كثيراً، ولا تبلغ السمحاق، وفيها ثلاثة أبعرة وهل هي غير الباضعة؟» إلى آخره.
اتّفق الفقهاء على أنّ هذه الألفاظ الأربعة - وهي الحارصة والباضعة والدامية والمتلاحمة - موضوعة لثلاثة معانٍ لا غير، وهي ما تقشّر الجلد، وتدخل في اللحم يسيراً، وتدخل فيه كثيراً.
ثم اختلفوا في أي الألفاظ المترادف؟ فقيل: إنّ الدامية ترادف الحارصة، فتكون الباضعة غير المتلاحمة.
فالباضعة هي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تقطعه، يقال: بضع اللحم وبضّعه(5)، ومنه المِبْضَعُ (6) وهي الداخلة في اللحم يسيراً. وهي الدامية على القول الآخر.
ص: 601
• وأما السمحاق، فهي التي تبلغ السمحاقة، وهي جلدة مغشية للعظم. وفيها أربعة أبعرة.
• وأما الموضحة، فهي التي تكشف عن وضح العظم. وفيها خمسة أبعرة.
فروع:
لو أوضحه اثنتين ففي كلّ واحدة خمس من الإبل.
----------------------------------
والمتلاحمة هي الداخلة فيه كثيراً، بحيث لا تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم (1).
وقيل: إنّ الدامية تغاير الحارصة، فتكون الباضعة مرادفة للمتلاحمة (2).
ولا خلاف في مقادير ديات الثلاث ولا في انحصارها فيها، فالنزاع حينئذٍ في مجرّد اللفظ.
قوله : «وأمّا السمحاق، فهي التي تبلغ السمحاقة، وهي جلدة مغشية للعظم. وفيها أربعة أبعرة».
السمحاق: هي الشجّة التي تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، ويقال لتلك الجلدة السمحاق.
وكلّ جلدة رقيقة فهي سمحاق (3). وقد تسمّى هذه الجلدة الملطى والمِلْطاة واللاطية. والمشهور عند الفقهاء أنّها تسمّى السمحاقة بالهاء.
قوله: «وأما الموضحة، فهي التي تكشف عن وضح العظم. وفيها خمسة أبعرة».
الموضحة هي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم، وتبدي وضحه. والوضح الضوء والبياض(4).
ص: 602
• ولو وصل الجاني بينهما صارتا واحدة، كما لو أوضحه ابتداء.
وكذا لو سرتا فذهب ما بينهما؛ لأن السراية من فعله.
ولو وصل بينهما غيره، لزم الأوّل ديتان والواصل ثالثة؛ لأن فعله لا يبنى على فعل غيره.
ولو وصلهما المجني عليه، فعلى الأوّل ديتان والواصلة هدر.
ولو اختلفا فقال الجاني أنا شققت بينهما، وأنكر المجنى [عليه]، فالقول قول المجنىّ عليه مع يمينه؛ لأنّ الأصل ثبوت الديتين، ولم يثبت المسقط.
وكذا لو قطع يديه ورجليه ثمّ مات بعد مدة يمكن فيها الاندمال، واختلفا، فالقول قول الوليّ مع يمينه.
ولو شجّه واحدة واختلفت مقاديرها أخذ دية الأبلغ ؛ لأنها لو كانت كلها كذلك لم تزد على ديتها.
ولو شجّه في عضوين كان لكلّ عضو دية على انفراده، وإن كان بضربة واحدة.
----------------------------------
قوله: «ولو وصل الجاني بينهما صارتا واحدة، كما لو أوضحه ابتداء».
وجه الاتّحاد اتصال الشجتين في الحسّ، كما لو شجّه ابتداء بهذا المقدار أو أزيد منه، فتكون موضحة واحدة؛ لصدق الوحدة عليها الآن؛ ولأصالة براءة الذمّة من الزائد على دية الواحدة.
ويشكل بأنّه قد وجب عليه ديتان قبل الوصول والوصل أحدث جناية أخرى، فإذا لم يوجب حقاً مالياً بتعديه فلا أقلّ من بقاء ما وجب ابتداء من الحقّين.
والوجه وجوب دية موضحتين؛ لوجوبهما ابتداءً فيستصحب. وهو خيرة فخر المحقّقين في شرحه (1). وفي القواعد استشكل الحكم (2).
ص: 603
• ولو شجّه في رأسه وجبهته فالأقرب أنّها واحدة؛ لأنهما عضو واحد.
• وأما الهاشمة، فهي التي تهشم العظم وديتها عشر من الإبل، أرباعاً إن كان خطأً، وأثلاثاً إن كان شبيه العمد ولا قصاص فيها. ويتعلّق الحكم بالكسر وإن لم يكن جرح.
----------------------------------
قوله: «ولو شجّه في رأسه ووجهه (1)فالأقرب أنّها واحدة؛ لأنّهما عضو واحد».
وجه الوحدة أنّ الرأس لغةً يشملهما (2)، ومن ثمّ أطلق اسم الشجاج على ما يقع فيهما من الجرح دون غيرهما من البدن.
ووجه العدم تغايرهما عرفاً واسماً؛ ولا نتفاء التكرار في قولهم «رأسه ووجهه».
والحقّ أنّ الرأس يطلق على ما يعتهما وعلى منبت الشعر، ومع حصول الشكّ فالأصل براءة الذمّة من الزائد. وموضع الخلاف ما لو كانت الشجّة واحدة متصلة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه.
قوله: «وأما الهاشمة، فهي التي تهشم العظم» إلى آخره.
الهاشمة هي التي تهشم العظم، أي تكسره، ومنه قيل للنبات المنكسر: هشيم(3)، سواء جرحه مع الكسر أم لا؛ لصدق الهشم على التقديرين.
والمراد بكون الدية أرباعاً في الخطأ كون الإبل على نسبة ما يوزّع في الدية الكاملة من بنات المخاض واللبون والحقق وأولاد اللبون فالعشرة هنا: بنتا مخاض، وابنا لبون، وثلاث بنات لبون، وثلاث حقق. وبكونها أثلاثاً أنّها ثلاث حقق، وثلاث بنات لبون وأربع خلف حوامل، بناءً على ما دلّت عليه صحيحة ابن سنان من التوزيع(4). وعلى
ص: 604
ولو أوضحه اثنتين وهشمه فيهما واتصل الهشم باطناً، قال في المبسوط: هما هاشمتان. وفيه تردّد.
• وأما المنقلة، فهي التي تحوج إلى نقل العظم. وديتها خمسة عشر بعيراً. ولا قصاص فيها. وللمجني [عليه] أن يقتص في قدر الموضحة ويأخذ دية ما زاد، وهو عشر من الإبل.
----------------------------------
الرواية الأُخرى (1) لا يتحقّق بالتحرير، ولكن ما ذكرناه منه مبرئ أيضاً؛ لأنّه أزيد سنّاً في بعضه.
قوله: «وأما المنقلة، فهي التي تحوج إلى نقل العظم» إلى آخره.
المنقّلة - بكسر القاف المشدّدة أفصح من فتحها - هي التي تنقّل العظم من محلّ إلى آخر وإن لم توضحه وتهشمه. ويقال: هي التي تكسر وتنقل. ويقال: هي التي تكسر العظم حتّى يخرج منها فراش العظام (2). والفراشة: كلّ عظم رقيق. وفراش الرأس عظام رقاق تلي القحف(3).
وما ذكره من جواز الاقتصاص في قدر الموضحة ويأخذ دية ما زاد إنّما يتمّ مع اجتماع الإيضاح والتنقيل، أما مع فرض كونها منقلة من غير إيضاح - كما ذكرنا من شمولها لذلك - لم يجز له الاقتصار على ما ذكر؛ لأنّه لم يجيء موضحة حتّى يستوفي منه.
ووجوب خمسة عشر بعير عشر بعيراً في المنقلة هو المشهور بين الأصحاب، وعليه دلّت الروايات (4).
ص: 605
• وأمّا المأمومة، فهي التي تبلغ أُمّ الرأس، وهي الخريطة التي تجمع الدماغ، وفيها ثلث الدية: ثلاث وثلاثون بعيراً.
والدامغة: هي التي تفتق الخريطة، والسلامة معها بعيدة.
ولا قصاص في المأمومة؛ لأنّ السلامة معها غير غالبة.
----------------------------------
وذهب ابن أبي عقيل إلى أن فيها عشرين بعيراً(1)، وهو شاذ.
وإنّما لم يكن فيها ولا فيما قبلها - وهي الهاشمة - قصاص على تقدير وقوعها عمداً ؛ لعدم إمكان الاستيفاء على وجه المساواة، وخطره على النفس. وقد تقدّم الكلام فيه(2).
قوله: «وأما المأمومة، فهي التي تبلغ أُمّ الرأس» إلى آخره.
أطلق المصنّف (رحمه اللّه) وجماعة من الأصحاب (3) وجوب ثلاثة وثلاثين بعيراً دية المأمومة، جامعين بين ذلك وبين قولهم إنّ فيها ثلث الدية» تبعاً للنصوص الواردة بذلك. كصحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في الموضحة خمس من الإبل - إلى قوله - والمأمومة ثلاث وثلاثون من الإبل»(4).
ورواية زرارة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وفي المأمومة ثلاث وثلاثون من الإبل»(5).
وذهب بعض الأصحاب إلى وجوب ثلث الدية (6): محتجاً بزيادة ثلث بعير عما ذكر؛ لإطلاق روايات كثيرة بوجوب الثلث لها المقتضي لزيادة الثلث، كصحيحة معاوية بن وهب
ص: 606
• ولو أراد المجني [عليه] أن يقتص في الموضحة ويطالب بدية الزائد جاز. والزيادة ثمانية وعشرون بعيراً. قال في المبسوط: وثلث بعير. وهو بناء على أنّ في المأمومة ثلاثة وثلاثين وثلثاً. ونحن نقتصر على ثلاثة وثلاثين، تبعاً للنقل.
ولو جنى عليه موضحة فأتمها آخر هاشمة، وثالث منقلة، ورابع مأمومة فعلى الأوّل خمسة، وعلى الثاني ما بين الموضحة والهاشمة خمسة أيضاً، وعلى الثالث ما بين الهاشمة والمنقلة خمسة أيضاً، وعلى الرابع تمام دية المأمومة ثمانية عشر بعيراً.
----------------------------------
قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الشجّة المأمومة، فقال: «ثلث الدية، والشجة الجائفة ثلث الدية»(1).
ومثلها رواية زيد الشحّام (2)، ورواية مسمع بن عبد الملك، عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والأوّلون حملوا الثلث على ما فيه إسقاط الثلث على وجه المجاز، جمعاً بين الروايات. والأظهر العكس، وهو إثبات الثلث بحمل ما أطلق من الروايات الأوّل عليه؛ تحقيقاً في اللفظ ؛ وتجوّزاً في العدد بالاقتصار على الأعداد الصحيحة، والإيماء إلى إكمال الثلث من إيجابه.
قوله: «ولو أراد المجني [عليه] أن يقتص في الموضحة - إلى قوله - تبعاً للنقل».
قد تقدم البحث في ذلك، وذكر النقل الدال عليه(4)، وأن الأظهر إيجاب الثلث كما اختاره الشيخ (رحمه اللّه)(5).
ص: 607
ومن لواحق هذا الباب مسائل:
الأولى: • دية النافذة في الأنف ثلث الدية، فإن صلحت فخمس الدية مائتا دينار. ولو كانت في أحد المنخرين إلى الحاجز فعشر الدية.
الثانية: • في شقّ الشفتين حتّى تبدو الأسنان ثلث ديتهما، ولو برئت فخمس ديتهما. ولو كان في إحداهما، فثلث ديتها، ومع البرء خمس ديتها.
الثالثة: الجائفة، هي التي تصل إلى الجوف، من أي الجهات كان، ولو من ثغرة النحر، وفيها ثلث الدية، ولا قصاص فيها.
ولو جرح في عضو ثمّ أجاف لزمه دية الجرح ودية الجائفة مثل أن يشقّ الكتف حتّى يحاذي الجنب ثمّ يجيفه.
----------------------------------
قوله: «دية النافذة في الأنف ثلث الدية» إلى آخره.
مستند هذا التفصيل كتاب ظريف، وفيه إطلاق العشر مع النفوذ في أحد المنخرين (1) كما ذكر. وقيده العلّامة بما إذا صلحت، وإلّا فسدس الدية؛ لأنّها على النصف من الواجب فيها(2).
قوله: «في شق الشفتين حتّى تبدو الأسنان ثلث ديتهما» إلى آخره.
مستند هذا التفصيل أيضاً كتاب ظريف(3)، وقد عرفت حاله والمصنّف (رحمه اللّه) وغيره تارةً يعمل بمقتضاه جازماً به، وتارةً يتوقّف، وتارةً يرده لضعفه، كما قد عرفته مراراً.
ص: 608
فروع:
لو أجافه واحد كان عليه دية الجائفة.
ولو أدخل آخر سكينه ولم يزد فعليه التعزير حسب. وإن وسعها باطناً أو ظاهراً ففيه الحكومة.
ولو وسّعها فيهما فهي جائفة أخرى كما لو انفردت.
ولو أبرز حشوته فالثاني قاتل.
• ولو خيطت ففتقها،آخر فإن كانت بحالها لم تلتئم ولم تحصل بالفتق جناية، قال الشيخ (رحمه اللّه) فلا أرش ويعزّر. والأقرب الأرش؛ لأنّه لا بد من أذى ولو في الخياطة ثانياً. ولو التحم البعض ففيه الحكومة.
ولو كان بعد الاندمال فهى جائفة مبتكرة، فعليه ثلث الدية. ولو أجافه اثنتين فثلثا الدية.
• ولو طعن في صدره فخرج من ظهره، قال في المبسوط: واحدة، وفي الخلاف: اثنتان وهو أشبه.
----------------------------------
قوله: «ولو خيطت ففتقها آخر - إلى قوله - ولو في الخياطة ثانياً».
ما قربّه المصنّف (رحمه اللّه) حسن؛ لما ذكر من العلّة. وكلام الشيخ (1) محمول على ما إذا لم يوجب ذلك نقصاً يقتضى الحكومة.
قوله: «ولو طعن في صدره فخرج من ظهره» إلى آخره.
وجه الأشبهية إطلاق الاسم عليهما من البطن والظهر، وأنه لو انفرد كلّ منهما لأوجب حكماً، فعند الاجتماع لا يزول ما كان ثابتاً حالة الانفراد.
ص: 609
الرابعة: • قيل: إذا نفذت نافذة في شيء من أطراف الرجل، ففيها مائة دينار.
----------------------------------
ولأنّه لو طعنه من كلّ جانب طعنة فالتقتا كانتا،جائفتين فكذا هنا، إذ لا فارق إلّا اتّحاد الضربة،وتعدّدها، وهو غير صالح للفرق.
وفيه نظر؛ لمنع التعدد هنا، كما لو أوضحه موضحتين ووصل بينهما، بل لو أوضحه موضحة طويلة تنقسم اثنتين ومن ثمّ ذهب في المبسوط إلى الوحدة(1).
ولأنّ الجائفة ما نفذت إلى الجوف من ظاهر، ولأصالة البراءة، والشك في السبب الموجب، فلا يتسلّط على المال المحترم بالاحتمال.
قوله: «قيل: إذا نفذت نافذة في شيء من أطراف الرجل، ففيها مائة دينار».
هذا القول للشيخ (2) وأتباعه (3)؛ استناداً إلى كتاب ظريف فإنّه قال فيه: «وفي النافذة إذا نفذت من رمح أو خنجر في شيء من الرجل من أطرافه، فديتها عشر دية الرجل مائة دينار»(4).
وهو - مع ضعف المستند - يشكل بما لو كانت دية الطرف تقصر عن المائة كالأنملة، إذ يلزم زيادة دية النافذة فيها على دية قطعها، بل على دية أنملتين حيث يشتمل الإصبع على ثلاث أنامل.
وربما خصها بعضهم بعضو فيه كمال الدية(5). وهو أولى من الإطلاق. وخصّوا(6) الحكم بالنافذة في أطراف الرجل تبعاً للرواية.
وفى نافذة المرأة أوجه أجودها الحكومة مطلقاً، عملاً بالأصل. وكونها على النصف من
ص: 610
الخامسة" في احمرار الوجه بالجناية دينار ونصف، وفي اخضراره ثلاثة دنانير.
وكذا في الاسوداد عند قوم. وعند الآخرين ستة دنانير وهو أولى؛ لرواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ ولما فيه من زيادة النكاية.
قال :جماعة ودية هذه الثلاث في البدن على النصف.
السادسة: كلّ عضو ديته مقدّرة، ففي شلله ثلثا ديته، كاليدين والرجلين والأصابع. وفي قطعه بعد بعد شلله ثلث ديته
السابعة: دية الشجاج في الرأس والوجه سواء، ومثلها في البدن بنسبة دية العضو الذي يتّفق فيه من دية الرأس.
الثامنة: • المرأة تساوي الرجل في ديات الأعضاء والجراح، حتّى تبلغ ثلث دية الرجل، ثمّ تصير على النصف، سواء كان الجاني رجلاً أو امرأةً. ففي الإصبع مائة، وفي الاثنتين مائتان، وفي الثلاث ثلاثمائة، وفي أربع مائتان.
----------------------------------
الرجل، فيثبت فيها خمسون ديناراً مطلقاً. ومساواتها للرجل في ذلك؛ لأنّها إنّما تنتصف في جناية تبلغ الثلث، وهنا ليس كذلك.
قوله: «المرأة تساوي الرجل في ديات الأعضاء والجراح» إلى آخره.
قد تقدّم ما يدلّ على هذا التفصيل من النصوص في كتاب القصاص(1).
ونبّه بالتسوية بين الرجل والمرأة في ذلك على خلاف بعضهم، حيث فرّق بينهما في ذلك، وحكم فيما إذا جنت المرأة على مثلها فيما لا تبلغ ديته الثلث كالإصبع - فإنّ دية مجموع أصابع اليد من المرأة لا تبلغ ثلث دية الرجل - فإنّ ديتها مائتان وخمسون ديناراً، وذلك يقتضي التوزيع على الخمس، فيكون في كلّ واحدة خمسون خرج منه ما إذا كان الجاني رجلاً للنصّ، فتبقى
ص: 611
وكذا يقتص من الرجل في الأعضاء والجراح من غير ردّ حتّى تبلغ الثلث، ثمّ يقتص مع الرد.
التاسعة: كلّ ما فيه دية الرجل من الأعضاء والجراح فيه من المرأة ديتها. وكذا من الذمّي ديته، ومن العبد قيمته. وما فيه مقدر من الحرّ فهو بنسبته من دية المرأة والذمّى وقيمة العبد.
العاشرة: • كلّ موضع قلنا فيه الأرش أو الحكومة فهما واحد والمعنى أنّه يقوّم صحيحاً أن لو كان مملوكاً، ويقوم مع الجناية وينسب إلى القيمة ويؤخذ من الدية بحسابه. وإن كان المجني عليه مملوكاً، أخذ مولاه قدر النقصان.
المرأة على الأصل مع أصالة براءة الذمّة من الزائد(1).
وفي القواعد استشكل الحكم هنا (2)، ممّا ذكر، ومن إطلاق النصّ بتساوي دية الرجل والمرأة فيما لا تبلغ ديته الثلث الشامل لموضع النزاع.
قوله: «كلّ موضع قلنا فيه الأرش أو الحكومة فهما واحد» إلى آخره.
المقصود أنّ الحكومة جزء من الدية نسبتها إليه نسبة ما تنقصه الجناية من قيمة المجنيّ عليه بتقدير التقويم. وذلك بأن يقدّر المجني عليه بصفاته التي هو عليها لو كان عبداً، وينظر كم تنقص الجناية من قيمته؟ فإن قوم بمائة دون الجناية وبتسعين بعد الجناية، فالتفاوت
عشر فيجب عشر الدية. ووجّه ذلك بأنّ الجملة مضمونة بالدية، فتضمن الأجزاء بجزء من الدية. فإذا قدر الشارع جزءاً من الدية اتبعناه. وإذا لم يقدر اجتهدنا في معرفته، ونظرنا في النقصان؛ لأنّ الأصل أن يجب بالجناية قدر النقصان فيقدر كذلك ليعرف قدر النقصان، ثمّ نعود إلى الدية،
ص: 612
الحادية عشرة: • من لا وليّ له فالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وليّ دمه، يقتص إن قتل عمداً. وهل له العفو ؟ الأصحّ لا. وكذا لو قتل خطأ فله استيفاء الدية، وليس له العفو.
----------------------------------
فتكون الجملة مضمونة بها. وهذا كما أنا ننظر في نقصان القيمة إذا أردنا أن نعرف أرش العيب، ثمّ نعود إلى الثمن؛ لأن المبيع مضمون بالثمن.
ولوقوع الحاجة في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق قالوا: إن العبد أصل للحرّ في الجنايات التي لا يتقدّر أرشها، كما أنّ الحرّ أصل للعبد في الجنايات التي يتقدّر أرشها، حيث يجعل جراح العبد من قيمته كجراح الحرّ من ديته.
والمراد بالدية التي يرجع إليها في النسبة دية النفس؛ لأنّا نقوم النفس أوّلاً فنعتبر النقصان من ديتها.
وذهب بعض الشافعيّة إلى أنّ المعتبر دية العضو الذي وردت الجناية عليه(1)، فلو نقص عشر القيمة بالجناية على اليد فالواجب عشر دية اليد.
ثمَّ الجناية إما أن ترد على عضو له دية مقدّرة، أو على ما ليس له ذلك.
ففي الأوّل إن نقص الأرش عن دية ذلك العضو فالحكم كما ذكر. وإن ساواه أو زاد عنه فمقتضى إطلاق المصنّف (رحمه اللّه) وغيره (2) ثبوته مطلقاً. ولو قيل بأنّه ينقص منه شيئاً لئلا تساوي الجناية على العضو مع بقائه زواله رأساً، كان وجهاً؛ لأن العضو مضمون بالدية المقدرة لوفات فلا يجوز أن تكون الجناية عليه مضمونة مع بقائه.
وفي الثاني، يعتبر نقصانه عن دية النفس كما ذكر.
قوله: «من لا ولي له فالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولي دمه، يقتص إن قتل عمداً» إلى آخره.
عدم جواز عفو الإمام عن القصاص والدية - حيث يكون هو الوليّ - هو المشهور بين الأصحاب، حتّى كاد يكون إجماعاً. والمستند صحيحة أبي ولاد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل
ص: 613
----------------------------------
يقتل وليس له وليّ إلّا الإمام: «أنّه ليس للإمام أن يعفو، وله أن يقتل أو يأخذ الدية» (1). وهى تتناول العمد والخطأ.
وذهب ابن إدريس إلى جواز عفوه عن القصاص والدية كغيره من الأولياء، بل هو أولى بالعفو (2). لكن الرواية الصحيحة مع عدم المعارض النقلي تعيّن المصير إلى ما عليه معظم الأصحاب.
ص: 614
وهي أربع:
• ودية جنين المسلم الحر مائة دينار إذا تم ولم تلجه الروح، ذكراً كان أو أُنثى.
----------------------------------
قوله: «ودية جنين المسلم الحرّ مائة دينار إذا تم ولم تلجه الروح ذكراً كان أو أنثى».
المشهور بين الأصحاب أنّ دية جنين الحرّ المسلم بعد تمام خلقته وقبل ولوج الروح فيه مائة دينار. ذهب إلى ذلك الشيخان (1) والأتباع (2) وابن إدريس (3) وجملة المتأخّرين (4)؛ لصحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، إلى أن قال: «فإذا تم الجنين كان له مائة دینار»(5). وغيرها من الأخبار(6).
ص: 615
----------------------------------
وذهب ابن الجنيد إلى أنّ دية الجنين مطلقاً غرّة عبد أو أمة قيمتها نصف عشر الدية(1).
وهو مذهب الجمهور، و به وردت رواياتهم عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). وفيها: أن امرأتين من هُذيل رمت إحداهما الأُخرى فطرحت جنينها، فقضى رسول اللّه بغرة عبد أو وليدة، فقال بعضهم: كيف فدى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهلّ، ومثل ذلك يطلّ؟! فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ هذا من إخوان الكهان، وروى أسجعاً كسجع الجاهليّة» (2).
ورواه الأصحاب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حكم بذلك(3). وحملها الشيخ (رحمه اللّه) على ما إذا لم يتمّ خلقته، جمعاً بين الأخبار(4)، مع أن في بعضها (5) ما ينافي هذا الحمل.
والمراد بالغرّة: عبد أو أمة. يقال: غرّة عبد أو أمة على الإضافة، ويروى على البدل. والغرّة الخيار.
ولا فرق في الجنين بين الذكر والأنثى؛ لعموم الأخبار، وبه صرّح الشيخ في الخلاف(6). وفرّق في المبسوط، فأوجب في الذكر عشر ديته، وفي الأُنثى عشر ديتها(7).
واعتبار قيمة الغرّة بنصف عشر الديةكما ذكره ابن الجنيد - موجود في صحيحة
ص: 616
• ولو كان ذمّيّاً فعشر دية أبيه. وفي رواية السكوني عن جعفر عن عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): عشر دية أُمّه. والعمل على الأوّل.
• أما المملوك فعشر قيمة أمه المملوكة.
----------------------------------
عبيد بن زرارة، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قلت : إنّ الغرّة تكون بمائة دينار وتكون بعشرة دنانير فقال: «بخمسین»(1).
ونقل في الغريبين عن الفقهاء أنّ الغرّة من العبيد الذي يكون ثمنه عشر الدية (2). وهو مناسب للمشهور من وجوب مائة دينار، وإن خالفه في عين الواجب.
قوله: «ولو كان ذمّيّاً فعشر دية أبيه» إلى آخره.
وجه الأوّل: أنّ الواجب في جنين الحرّ المسلم مائة دينار، وهي عشر دية الأب. والرواية المذكورة (3) ضعيفة السند بالسكوني(4). وحملها العلّامة على ما إذا كانت أُمّه مسلمة (5)؛ جمعاً. وهو بعيد.
قوله: «أما المملوك فعشر قيمة أمه المملوكة».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، ورواه السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في جنين الأمة عشر ثمنها»(6).
وذهب الشيخ في المبسوط إلى أن ديته عشر قيمة الأب للذكر، وعشر قيمة الأُمّ للأُنثى (7). وهو أوفق بما تقرر لجنين الحرّ والذمّي.
ص: 617
ولو كان الحمل زائداً عن واحد فلكلّ واحد دية، ولا كفارة على الجاني.
ولو ولجت فيه الروح فدية كاملة للذكر ونصف للأُنثى. ولا تجب إلا مع تيقن الحياة ولا اعتبار بالسكون بعد الحركة؛ لاحتمال كونها عن ريح. وتجب الكفّارة هنا مع مباشرة الجناية.
----------------------------------
وفصل ابن الجنيد، فأوجب نصف عشر قيمتها إذا ألقت ميّتاً، وإن ألقته حياً ثمّ مات فعشر قيمتها (1)؛ لرواية ابن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قتل جنين أمة لقوم في بطنها، فقال: «إن كان مات في بطنها بعد ما ضربها فعليه نصف عشر قيمة الأمة، وإن ضربها فألقته حياً فمات فإنّ عليه عشر قيمة الأمة»(2).
هذا إذا كانت أمه أمة ليمكن اعتبار عشر قيمتها فلو كانت حرّة وهو رقيق على وجه يصح، بأن كانا رقيقين فأعتقت بعد حملها به وقبل الوضع، أو شرط مولى أبيه رقية الولد من حرة وجوزناه، ففي اعتبار قيمة أبيه، أو أُمه بتقدير كونها أمة، أو ما لم تزد عن قيمة أبيه أوجه، من أنّ الأصل في دية الجنين التبعية لدية الأب، خرج منه ما إذا كانت أمة بالنص فيبقى غيره على الأصل. ومن عموم النصّ باعتبار دية جنين الأمة بقيمة الأُمّ، فتقدر أمة حيث لا تكون أمة حقيقة.
وتقييده بعدم الزيادة عن قيمة الأب؛ لأنّه الأصل فلا يتجاوزه، كما لا يتجاوز (بقيمة) (3) العبد دية الحرّ. وهذا اختيار العلّامة في التحرير(4)، والأوّل اختياره في القواعد(5).
ص: 618
• ولو لم تتم خلقته، ففي ديته قولان:
أحدهما: غرّة، ذكره في المبسوط وفي موضع من الخلاف وفي كتابي الأخبار. والآخر - وهو الأشهر - توزيع الدية على مراتب التنقل، ففيه عظماً ثمانون ومضغةً ستون، وعلقةً أربعون.
----------------------------------
قوله: «ولو لم تتم خلقته، ففي ديته قولان - إلى قوله - وعلقةً أربعون».
قد عرفت اختلاف الأخبار في دية الجنين وأن كثيراً منها أطلق فيه كون الدية غرّة (1). وفي بعضها ما يدلّ على خلافه، كصحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة؟ فقال: «عليه عشرون ديناراً». قلت: فيضربها فتطرح العلقة؟ قال: «أربعون ديناراً». قلت: فيضربها فتطرح المضغة؟ قال: «عليه ستون ديناراً». قلت فيضربها فتطرحه وقد صار له عظم ؟ فقال: «عليه الدية كاملة. وبهذا قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)». قلت : وما صفة خلقة النطفة التي تعرف بها ؟ قال : «النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة، فتمكث في الرحم إذا صارت فيه أربعين يوماً، ثمّ تصير إلى علقة». قلت : فما صفة خلقة العلقة التي تعرف بها ؟ قال : «هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة، تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة». قلت : فما صفة خلقة المضغة وخلقتها التي تعرف بها ؟ قال : «هي مضغة لحم حمراء فيها عروق خضر مشبكة، ثمّ تصير إلى عظم». قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً ؟ قال: «إذا كان عظماً شق له السمع والبصر، ورتبت جوارحه، فإذا كان كذلك فإن فيه الدية كاملة»(2).
وفي معناه أخبار كثيرة(3).
ص: 619
ويتعلّق بكلّ واحدة من هذه أُمور ثلاثة: وجوب الدية، وانقضاء العدّة.
• وصيرورة الأمة أُمّ ولد.
ولو قيل: ما الفائدة وهي تخرج بموت الولد عن حكم المستولدة؟ قلنا: الفائدة هي التسلّط على إبطال التصرفات السابقة، التي يمنع منها الاستيلاد.
----------------------------------
واختلف الأصحاب حينئذٍ بسبب اختلاف الأخبار والأكثر على التفصيل الذي اختاره المصنّف؛ لأن روايته أصح في طريق الأصحاب والأكثر. مع أن في كلّ منهما منعاً ظاهراً، بل بعض كلّ منهما صحيح، وبعضه ضعيف الطريق.
وجمع الشيخ بينهما بحمل الغرّة على ما قبل تمام الخلقة (1). وليس بواضح؛ لتصريح كثير من الأخبار -كالذي ذكرناه - بالتفصيل المنافي للغرّة.
وربما قيل بالتخيير بين الغرّة وما ذكر، جمعاً بين الأخبار. وهو حسن، إلّا أن التخيير بين الغرّة التي لا تختلف قيمتها كثيراً - خصوصاً مع تقديرها بخمسين ديناراً - وبين المراتب المختلفة المقدار جداً لا يخلو من بعد، ولكنّه أسهل من اطّراح بعضها.
قوله: «وصيرورة الأمة أمّ ولد» إلى آخره.
نبّه بذلك على أن حكم الاستيلاد لا ينحصر في انعتاق أُمّ الولد، وتحريم التصرف فيها بعد الولادة بما يخرج عن الملك، ليتوهم انتفاء الفائدة في كونها أم ولد بإسقاطها؛ لأنّ موت أُمّ الولد يخرجها عن حكم المستولدة عند الأصحاب فالإسقاط أولى.
ووجه عدم الانحصار : أن بطلان التصرفات كما يتحقّق في الواقعة بعد الولادة، يتحقّق في الواقعة بعد انعقاد الولد وإن لم تضعه، بمعنى أنه لو باع الجارية ثمّ ظهر بها حمل من المولى زمان البيع بوضع الميت أو نحو العلقة كان باطلاً، ونحو ذلك من الفوائد.
ص: 620
• أما النطفة، فلا يتعلّق بها إلا الدية، وهي عشرون ديناراً بعد إلقائها في الرحم. وقال في النهاية تصير بذلك في حكم المستولدة وهو بعيد.
• قال بعض الأصحاب وفيما بين كلّ مرتبة بحساب ذلك. وفسّره واحد: بأنّ النطفة تمكث عشرين يوماً ثمّ تصير علقةً. وكذا ما بين العلقة والمضغة، فيكون لكلّ يوم دينار.
ونحن نطالبه بصحة ما ادعاه الأوّل، ثمّ بالدلالة على أن تفسيره مراد.
على أنّ المروي فى المكث بين النطفة والعلقة أربعون يوماً. وكذا بين العلقة والمضغة. روى ذلك سعيد بن المسيب عن عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأبو جرير القمي عن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ).
----------------------------------
قوله: «أمّا النطفة، فلا يتعلّق بها إلا الدية» إلى آخره.
القول المذكور للشيخ في باب أمهات الأولاد من النهاية(1)، بناء على أن الاستيلاد مبنىّ على التغليب كالعتق، ولهذا اعتدّ بالعلقة والمضغة، والنطفة بعد استقرارها واستعدادها للصورة الإنسانية تشبه العلقة.
واستبعده المصنّف (رحمه اللّه) من حيث إنّ الاستيلاد حكم شرعي فيتوقّف على متحقّق، ولا يتحقّق في كون النطفة ولداً، فتبقى الأمة على ما كانت عليه من حكم الأصل، ولبعد تسمية النطفة ولداً. وهو ظاهر كلامه في المبسوط (2).
قوله: «قال بعض الأصحاب وفيما بين كلّ مرتبة بحساب ذلك» إلى آخره.
المراد ببعض الأصحاب القائل بذلك الشيخ، فإنّه قال ذلك في النهاية(3).
ص: 621
أمّا العشرون فلم نقف بها على رواية ولو سلمنا المكث الذي ذكره من أين أنّ التفاوت في الدية مقسوم على الأيّام؟ غايته الاحتمال، وليس كلّ محتمل واقعاً. مع أنّه يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما رواه يونس الشيباني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ لكلّ قطرة تظهر في النطفة دينارين». وكذاكلّ ما صار في العلقة شبه العرق من اللحم يزاد دينارين.
----------------------------------
واختلف الأصحاب في تفسيرها، فقال الفاضل ابن إدريس (رحمه اللّه):
في النطفة بعد وضعها في الرحم إلى عشرين يوماً عشرون ديناراً، ثمّ بعد العشرين يوماً لكلّ يوم دينار إلى أربعين يوماً، ففيه أربعون ديناراً دية العلقة، ثمّ تصير مضغة ففيها ستّون. وكذلك إلى المائة، وما بين ذلك بحسابه(1).
قال المصنّف (رحمه اللّه): «ونحن نطالبه بصحّة ما ادّعاه الأوّل - أعني الشيخ (رحمه اللّه) - ثمّ بالدلالة على أنّ تفسيره مراد. فإنّ المروي في المكث بين النطفة والعلقة أربعون يوماً، وكذا بين العلقة والمضغة».
وقد تقدمت رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) الدالّة على ذلك(2)، وهي صحيحة.
وأمّا رواية سعيد بن المسيّب فقد رواها الحسن بن محبوب، عن عبد اللّه بن غالب، عن أبيه، عن سعيد :قال سألت على بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن رجل ضرب امرأة حاملاً برجله فطرحت ما في بطنها ميناً ؟ فقال : «إن كان نطفة فإنّ عليه عشرين ديناراً». قلت : فما حدّ النطفة ؟ قال: «هي التي وقعت في الرحم فاستقرّت فيه أربعين يوماً». قال : «فإن طرحته علقة فإن عليه أربعين ديناراً». قلت : فما حدّ العلقة؟ قال: «هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه ثمانين يوماً». قال: «وإن طرحته وهي مضغة فإنّ عليه ستين ديناراً». قلت: فما حدّ المضغة؟ قال: «هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه مائة وعشرين يوماً».
ص: 622
وهذه الأخبار وإن توقفت فيها؛ لاضطراب النقل أو لضعف الناقل، فكذا أتوقف عن التفسير الذي مرّ بخيال ذلك القائل.
----------------------------------
قال: «فإن طرحته وهي نسمة مخلّقة له عظم ولحم مرتب الجوارح قد نفخ فيه روح العقل، فإنّ عليه دية كاملة». قلت له: أرأيت تحوّله في بطنها من حال إلى حال أبروح كان ذلك أم بغير روح؟ قال: «بروح غذاء الحياة القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ولولا أنه كان فيه روح غذاء الحياة ما تحوّل من حال بعد حال في الرحم، وما كان إذن على من قتله دية وهو في تلك الحال»(1).
ورواية أبي جرير القمّي قال: سألت العبد الصالح (عَلَيهِ السَّلَامُ)عن النطفة ما فيها من الدية، وما في العلقة، وما يقرّ في الأرحام؟ قال: «إنّه يخلق في بطن أُمّه خلقاً من بعد خلق، يكون نطفة أربعين يوماً، ثمّ يكون علقة أربعين يوماً، ثمّ مضغة أربعين يوماً، ففى النطفة أربعون ديناراً، وفي العلقة ستون ديناراً، وفي المضغة ثمانون ديناراً، فإذا اكتسى العظام لحماً ففيه مائة دينار، قال اللّه تعالى: «ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»»(2).
قال المصنّف (رحمه اللّه): «وهذه الأخبار وإن توقفت فيها؛ لاضطراب النقل أو لضعف الناقل، فكذا أتوقف عن التفسير الذي مر بخيال ذلك القائل».
وعنى باضطراب النقل أنّ بعض هذه الروايات دلّ على أنّ دية الجنين إذا صار كاملاً دية الكامل وإن لم تلجه الروح (3)، وبعضها على أنّ ديته مائة دينار، وأن الكاملة موقوفة على ولوج الروح(4). ثمّ في بعضها دية العظم ثمانون(5)، وفي بعضها (6) لم يذكر هذه المرتبة.
ص: 623
----------------------------------
وأمّا ضعف الناقل فحال سعيد بن المسيب في الخلاف لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في الأحكام الشرعيّة(1) وأقواله المشهورة فيها واضح.
وأمّا رواية محمّد بن مسلم فقد ذكرنا أنها صحيحة السند.
ورواية أبي جرير من الحسن فالتوقف فيها من هذا الوجه ليس بحسن، إلّا أّنها لا تدل على الحالات المذكورة. ومع ذلك فالمكث عشرين يوماً لم نقف فيه على رواية وعلى تقدير تسليمه لا يلزم توزيع الدية على الأيّام كما ادّعاه.
قال (رحمه اللّه): ويحتمل أن يكون مراد الشيخ بذلك الإشارة إلى ما رواه يونس الشيباني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
وقال في النكت:
الذي يتغلّب أنّه لم يرد الأيّام، بل يريد ما رواه يونس الشيباني قال، قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): فإن خرجت في النطفة قطرة دم؟ قال: «القطرة عشر النطفة فيها اثنان وعشرون ديناراً ». قلت : فإن قطرت قطرتين ؟ قال : «أربعة وعشرون ديناراً ». قلت : فإن قطرت ثلاث ؟ قال : «ستة وعشرون ديناراً». قلت : فأربع ؟ قال : «ثمانية وعشرون ديناراً، وفي خمس ثلاثون، وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتّى تصير علقة فإذا صارت علقة ففيها أربعون»(3). الحديث.
وهذا الحديث أيضاً في سنده جهالة فالاستناد إليه مشكل.
ص: 624
• ولو قتلت المرأة فمات معها [ولدها] فدية للمرأة، ونصف الديتين للجنين إن جهل حاله. ولو علم ذكراً فديته، أو أنثى فديتها.
وقيل: مع الجهالة يستخرج بالقرعة؛ لأنّه مشكل. ولا إشكال مع وجود ما يصار إليه من النقل المشهور.
ولو ألقت المرأة حملها مباشرة أو تسبيباً فعليها دية ما ألقته. ولا نصيب لها من هذه الدية. ولو أفزعها مفزع فألقته فالدية على المفزع.
----------------------------------
قوله: «ولو قتلت المرأة فمات معها ولدها فدية للمرأة - إلى قوله - من النقل المشهور».
الحكم بوجوب نصف الديتين هو المشهور بين الأصحاب، ذهب إليه الشيخان (1) والأتباع (2)، بل ادّعى عليه في الخلاف الإجماع(3).
والمستند ما روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قضى بذلك في رواية طويلة(4) (عَلَيهِ السَّلَامُ) في سندها ضعف.
ورواية عبد اللّه بن مسكان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وإن قتلت المرأة وهي حبلى، فلم يدر أذكَرُ كان ولدها أو أنثى ؟ فديته للولد :نصفين نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى، وديتها كاملة»(5).
وفي طريق الرواية محمد بن عيسى، عن يونس أو غيره، عن عبد اللّه بن مسكان. وقد عرفت مراراً ضعف هذا الطريق (6). وأيضاً فعبد اللّه بن مسكان لم يثبت روايته عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 625
ويرث دية الجنين من يرث المال الأقرب فالأقرب. ودية أعضائه وجراحته بنسبة ديته.
ومن أفزع مجامعاً فعزل فعلى المفزع عشرة دنانير.
----------------------------------
بغير واسطة. وقال النجاشي: إنه قيل ذلك، ولم يثبت(1).
وذهب ابن إدريس إلى القرعة للإجماع على أنّها لكلّ أمر مشكل(2).
وأجاب المصنّف (رحمه اللّه) بأنّه لا إشكال مع وجود ما يصار إليه من النقل المشهور.
وبالغ العلّامة في المختلف، وتمالاً على ابن إدريس في ذلك، وقال:
إنّ الروايتين وردتا في الصحيح، وإذا كانت الروايات متطابقة على ذلك، وأكثر الأصحاب قد صاروا إليها، فأيّ مشكل بعد ذلك في هذا الحكم حتّى يرجع إليها ويعدل عن النقل وعمل الأصحاب؟! ولو استعملت القرعة في ذلك لاستعملت في جميع الأحكام؛ لأنا إذا تركنا النصوص بقيت مشكلة هل التحريم ثابت أم لا ؟ وكذا باقي الأحكام.
-قال: - وهذا في غاية السقوط(3).
وأنت لا يخفى عليك ما في هذه المبالغة؛ لظهور ضعف الروايتين، وإرسال الثانية على الوجه الذي أشرنا إليه حتّى لو حصل الشك في لقاء ابن مسكان للصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكفى ذلك في عدم الحكم بالاتصال.
وفى رواية التهذيب ما يشعر بعدم الاتصال أيضاً؛ لأنّه قال: عن عبد اللّه بن مسكان، ذكره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (4) فأشار بقوله: ذكره إلى ما أشرنا إليه على اصطلاح أهل الحديث. وإذا كانت الروايتان ضعيفتين لا يحصل نقل يعتمد عليه في ذلك، فيقع الإشكال الموجب للقرعة.
ص: 626
• ولو عزل المجامع اختياراً عن الحرّة ولم تأذن، قيل: يلزمه عشرة دنانير. وفيه تردّد أشبهه أنّه لا يجب.
أمّا العزل عن الأمة فجائز ولادية وإن كرهت.
و تعتبر قيمة الأمة المجهضة عند الجناية لا وقت الإلقاء.
----------------------------------
وبهذا يفرق بين هذه المسألة وغيرها من الأحكام التي قيل فيها بالقرعة، فإنّه لا يلزم من اطراح ما هذا شأنه اطراح جميع النقل الوارد بالأحكام والرجوع إلى القرعة. نعم، لو ثبت الإجماع الذي ادّعاه الشيخ كان هو المستند وامتنع القول بالقرعة بعده، لكن دونه خرط القتاد.
وقد عرفت ما في هذه الدعوى من المجازفة، خصوصاً دعوى الشيخ في الخلاف، فقد وقفناك في كلّ باب من أبواب الفقه على دعواه ذلك مع مخالفته له في غيره من كتبه.
هذا كله على تقدير العمل بالنقل وإن كان بطريق الآحاد وأمّا على قاعدة ابن إدريس(1) والمرتضى (رحمه اللّه) (2) فلا أثر عندهما لصحة النقل حيث لا يكون متواتراً، فعذره في العدول إلى القرعة واضح. وأمّا العامل بخبر الواحد فإن توقف على صحته أو حسنه أو ثقته لم يمكنه العمل بهذين الخبرين، إلّا أن يجعل الشهرة جابرة للضعف، أو يقول بثقة محمد بن عيسى وإن روى عن يونس، وفي المقامين خلاف مشهور بین علماء الرجال، فليعتمد الفقيه على ما يقتضيه نظره في ذلك. واللّه أعلم.
قوله: «ولو عزل المجامع اختياراً عن الحرّة ولم تأذن - إلى قوله - أشبهه أنّه لا يجب».
القول بوجوب الدية على المجامع للشيخين (3) وجماعة(4)، استناداً إلى ما روي صحيحاً
ص: 627
فروع:
• لو ضرب النصرانيّة حاملاً فأسلمت وألقته لزم الجاني دية جنين المسلم؛ لأنّ الجناية وقعت مضمونة، فالاعتبار بها حال الاستقرار.
ولو ضرب الحربية فأسلمت وألقته لم يضمن؛ لأن الجناية لم تقع مضمونة. فلم يضمن سرايتها.
----------------------------------
عن عليّ من وجوبها على من أفزع مجامعاً فعزل (1).
وهو استدلال بغير موضع النزاع.
والأصحّ عدم الوجوب؛ للأصل، وجواز العزل على أصح القولين (2) أيضاً، فلا يتعقبه ضمان. وقد تقدّم البحث في ذلك في النكاح (3)، وأن بعض الأصحاب(4)، أوجب على العازل دية النطفة وإن جاز العزل. وهو ضعيف جداً.
قوله: «لو ضرب النصرانيّة حاملاً فأسلمت وألقته - إلى قوله - على التقديرين».
إذا جنى على ذمّيّة حبلى تحت ذمّي فأسلمت أو أسلم الذمّي فتبعه الولد ثمّ أجهضت وجب على الجاني دية جنين مسلم؛ لأن الاعتبار في قدر الضمان بالأعلى حيث وقعت الجناية مضمونة، كما لو ضرب ذمّيّاً فأسلم ثمّ سرت الجناية على نفسه، فإنّه يجب له دية المسلم كما تقدّم(5).
ص: 628
ولو كانت أمة فأعتقت وألقته، قال الشيخ للمولى أقلّ الأمرين من عشر قيمتها وقت الجناية أو الدية؛ لأنّ عشر القيمة إن كان أقلّ فالزيادة بالحرّيّة فلا يستحقّها المولى فتكون لوارث الجنين. وإن كانت دية الجنين أقلّ كان له الدية؛ لأن حقّه نقص بالعتق.
وما ذكره بناءً على القول بالغرّة، أو على جواز أن تكون دية جنين الأمة أكثر من دية جنين الحرّة. وكلا التقديرين ممنوع. فإذا له عشر قيمة أمه يوم الجناية على التقديرين.
----------------------------------
وهذا بخلاف ما إذا جنى على حربية فأسلمت ثمّ أجهضت فإنّه لا ضمان أصلاً؛ لأنّه لم يكن مضموناً في الابتداء، كما لو جرح حربياً فأسلم ثمّ سرت إليه. وذهب بعض العامّة إلى وجوب دية كاملة هنا اعتباراً بحالة الإجهاض، فإنّ الجناية حينئذٍ تتحقّق (1).
ولو كان المضروب أمة فأعتقت ثمّ أجهضت ضمن دية الحرّة كالأُولى؛ لما ذكر فيها من التعليل.
ثمَّ ما الذي يستحقّه المولى من ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو الذي ذهب إليه الشيخ في المبسوط (2) - أنّ المستحقّ الأقلّ من عشر قيمة الأمة ومن دية الجنين؛ لأنّه إن كانت الدية أقلّ فلا واجب غيرها، وإن كان العشر أقلّ فهو المستحقّ للسيّد وما زاد زاد بالحرّيّة.
وهذا القول لا يتمّ إلّا بأحد أمرين:
إمّا القول بوجوب الغرّة للجنين مطلقاً، فيمكن كون قيمة الغرّة أكثر من الدية. والشيخ (رحمه اللّه) وإن كان يقول به على بعض الوجوه، لكن في المبسوط جعل دية الجنين الحرّ مائة دينار (3)، فلا يتم البناء.
ص: 629
• ولو ضرب حاملاً خطاً فألقت، وقال الولي: كان حياً، فاعترف الجاني، ضمن العاقلة دية الجنين غير الحيّ، وضمن المعترف ما زاد؛ لأن العاقلة لا تضمن إقراراً.
• ولو أنكر وأقام كلّ واحد بينة قدّمنا بينة الولي؛ لأنّها تتضمن زيادة.
----------------------------------
وإما القول بجواز أن تكون دية جنين الأمة أزيد من دية جنين الحرة إذا زادت قيمة الأمة عن دية الحرّة، وأنه لا يلزم من ردّ قيمة الأُمّ (1) إلى دية الحرّة ردّ دية جنينها إلى دية جنين الحرّة.
وكلاهما ممنوع عند المصنّف (رحمه اللّه)، فلهذا اختار القول الثاني في المسألة، وهو وجوب عشر قيمة أمه يوم الجناية مطلقاً، والزائد بالحرّيّة لورثة الجنين.
ولبعض الشافعية وجه ثالث، وهو أنّه لا يستحق المولى بحكم الملك شيئاً؛ لأنّ الإجهاض وقع في حال الحرّيّة، وما يجب إنّما يجب بالإجهاض، فأشبه ما إذا حفر بئراً فتردى فيها حرّكان رقيقاً عند الحفر، فإنّه لا يستحق السيّد من الضمان شيئاً (2).
والفرق بين الأمرين،واضح، فإنّ الحفر لا تأثير له في البدن قبل الوقوع، بخلاف الضرب. قوله: «ولو ضرب حاملاً خطاً فألقت» إلى آخره.
وجه عدم ضمان العاقلة دية الحي - مضافاً إلى ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) من أنّها لا تضمن إقراراً - أنّ الأصل عدم حياة الجنين؛ لأنّ حياته حادثة، والأصل في الحادث عدم وجوده في وقت يحصل الشك فيه، فالمتيقن عليهم دية جنين غير حي، والزائد ثبت باعتراف الجاني فلا يلزم العاقلة؛ لما ذكر من أنها لا تضمن إقراراً.
قوله: «ولو أنكر وأقام كلّ واحد بينة قدّمنا بينة الولى؛ لأنها تتضمن زيادة». وهي الحياة التي قد تخفى على بينة الضارب؛ لجواز بنائها على الأصل، فيكون المثبت مقدماً على النافي.
ص: 630
• ولو ضربها فألقته فمات عند سقوطه، فالضارب قاتل يقتل إن كان عمداً، ويضمن الدية في ماله إن كان شبيهاً، ويضمنها العاقلة إن كان خطأ، وكذا لو بقى ضمناً ومات، أو وقع صحيحاً وكان ممن لا يعيش مثله. وتلزمه الكفّارة في كلّ واحدة من هذه الحالات.
•ولو ألقته حياً فقتله آخر، فإن كانت حياته مستقرة فالثاني قاتل ولا ضمان على الأوّل ويعزّر. وإن لم تكن مستقرّة فالأوّل قاتل والثاني آثم يعزّر لخطئه.
• ولو جهل حاله حين ولادته، قال الشيخ سقط القود للاحتمال، وعليه الدية.
----------------------------------
قوله: «ولو ضربها فألقته فمات عند سقوطه» إلى آخره.
ضابط الحكم بالقصاص أو الدية في الجميع تيقن حياته بعد الانفصال، سواء كانت مستقرة أم لا، وموته من الجناية؛ لصدق إزهاق الروح المحترمة، خلافاً لبعض العامّة حيث حكم بأنه إذا لم يتوقع أن يعيش لا يكمل فيه الدية(1).
قوله: «ولو ألقته حياً فقتله آخر» إلى آخره.
لا فرق في ضمان النفس بالقصاص والدية بين أن يكون حياة المجني عليه مستقرة،وعدمه، حيث لا يكون ذلك بجناية. وإنما يعتبر ذلك لو كان عدم استقرارها مستنداً إلى جناية، فإنّه حينئذٍ يقدّم السابق؛ لأنّه القاتل حقيقة، والثاني آثم لفعله المحرم، فيعزر عليه كما في فاعل كلّ محرّم.
ولا إشكال في ضمان الثاني لو كان حياته مستقرة بعد وضعه بجناية الأوّل؛ لأنّ الثاني هو القاتل، ويعزّر الأوّل لجنايته التي لم يترتب عليها المال.
قوله: «ولو جهل حاله حين ولادته، قال الشيخ سقط القود للاحتمال وعليه الدية».
وجه سقوط القود أصالة عدم الحياة. والمراد بالدية دية جنين ميت؛ لأن ذلك هو المتيقن.
ص: 631
ولو وطئها ذمّي ومسلم لشبهة في طهر واحد فسقط بالجناية، أقرع بين الواطئين، وألزم الجاني بنسبة دية من ألحق به.
• ولو ضربها فألقت عضواً كاليد فإن ماتت لزمه ديتها ودية الحمل. ولو ألقت أربع أيدٍ فدية جنين واحد؛ لاحتمال أن يكون ذلك لواحد.
ولو ألقت العضو ثمّ ألقت الجنين ميتاً دخلت دية العضو في ديته. وكذا لو ألقته حياً فمات.
ولو سقط وحياته مستقرة ضمن دية اليد حسب. ولو تأخر سقوطه، فإن شهد أهل المعرفة أنّها يد حيّ، فنصف ديته، وإلا فنصف المائة.
----------------------------------
ونسبة هذا القول إلى الشيخ (1) يؤذن بردّه أو التردّد فيه. ولا وجه له، إلا أن يريد الشيخ بالدية الكاملة للحي، فيشكل ذلك بأصالة عدم الحياة الدافعة للقود على تقدير التعمّد، فكذلك الدية.
وفي القواعد جزم بالحكم كذلك من غير أن ينسبه إلى الشيخ، وأطلق وجوب وجوب الدية (2). وينبغي أن يراد بها ما ذكرناه.
قوله: «ولو ضربها فألقت عضواً كاليد - إلى قوله - وإلّا فنصف المائة».
إذا ألقت المرأة بالجناية عليها يداً أو رجلاً وماتت ولم ينفصل الجنين بتمامه، وجبت دية الجنين مضافاً إلى ما يجب بالجناية عليها من قود أو دية؛ لأن العلم قد حصل بوجود الجنين، وشهادة الظاهر بأن عضوه بان بالجناية.
ولو ألقت يدين أو رجلين فلا إشكال في وجوب تمام ديته.
ولو ألقت من الأيدي أو الأرجل أربعاً أو ثلاثاً لم يجب إلا دية واحدة؛ لأصالة عدم الزائد عن واحد، ويمكن كون الجميع،لواحد بعضها أصليّة وبعضها زائدة، وإن كان بعيداً، إلّا أنّه يؤيده الأصل.
ص: 632
مسألتان:
الأولى: دية الجنين إن كان عمداً أو شبيه العمد ففي مال الجاني. وإن كان خطاً فعلى العاقلة، وتستأدى في ثلاث سنين.
----------------------------------
ولو ألقت رأسين فكذلك؛ لإمكان كونهما لواحد. وقد تقدّم في الميراث ما يدلّ عليه (1).
وقد روي أنّ امرأة ولدت ولداً له رأسان، وكان إذا بكى بكى بهما، وإذا سكن سكن بهما(2).
ولو ألقت،بدنين فإن كانا تامين فهما اثنان وإن أمكن كونهما على حقو واحد فكالر أسين؛ لأصالة عدم الزائد.
ولو ألقت بالجناية عضواً من يد أو رجل ثمّ ألقت جنيناً، فله حالتان:
إحداهما: أن يكون الجنين بعد ذلك العضو، فإن كان ميتاً لم يجب إلا دية واحدة، ويقدّر العضو مباناً منه بالجناية، فتدخل ديته في دية النفس. وكذا لو انفصل حياً ثمّ مات بالجناية. وإن عاش فدية العضو حسب.
ولو تأخر سقوط الجنين عن العضو وشككنا في حياته حالة انفصال العضو منه وعدمها، احتمل الاقتصار على نصف المائة؛ لأصالة عدم الحياة حينئذٍ، ولأنّه المتيقن. وكذا لو أوجبنا الغرّة لكماله وجب هنا نصفها.
واختار المصنّف (رحمه اللّه) وجماعة (3) مراجعة القوابل وأهل المعرفة، فإن أخبروا بأنّها يد من لم تخلق فيه الحياة فالواجب نصف دية الجنين، وإن قالوا : إنها يد من خلقت فيه الحياة فنصف الدية.
وهذا حسن مع إمكان الحكم بذلك، وإلا فالأصل البراءة من الزائد.
ص: 633
الثانية. في قطع رأس الميت المسلم الحرّ مائة دينار. و في قطع جوارحه بحساب ديته. وكذا في شجاجه وجراحه ولا يرث وارثه منها شيئاً، بل تصرف في وجوه القرب عنه، عملاً بالرواية. وقال علم الهدى (رحمه اللّه): تكون لبيت المال.
----------------------------------
ثمَّ على تقدير الحكم بجناية فالإشكال واقع في ذكوريته وأنوثيته، والمتيقن نصف دية الأنثى، فإن انفصل ذكراً أكمل، ولو استمر الاشتباه - بأن ماتت - فالحكم كما سبق من القرعة أو نصف الديتين(1).
قوله: «فى قطع رأس الميت المسلم الحرّ مائة دينار» إلى آخره.
هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب. ومستنده أخبار(2) :
منها حسنة سليمان بن خالد قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت: إنا روينا عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حديثاً أُحبّ أن أسمعه منك! قال: «وما هو ؟». قلت: بلغني أنه قال في رجل قطع رأس رجل ميت، قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إنّ اللّه حرّم من المسلم ميتاً ما حرم منه حيّاً، فمن فعل بميت ما يكون في ذلك اجتياح نفس الحي فعليه الدية». فقال: «صدق أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، هكذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )». قلت: من قطع رأس رجل ميت أو شقّ بطنه أو فعل به ما يكون في ذلك الفعل اجتياح نفس الحّي، فعليه دية النفس كاملة؟ فقال: «لا»، ثمّ أشار إليّ بإصبعه الخنصر فقال: «أليس لهذه دية؟». قلت: بلى. قال: «فتراه دية نفس؟». قلت: لا. قال: «صدقت». قلت : ومادية هذا إذا قطع رأسه وهو ميّت؟ قال: «ديته دية الجنين في بطن أُمّه قبل أن تنشأ فيه الروح، وذلك مائة دينار». قال: فسكت وسرّني ما أجابني به. فقال: «لم لا تستوف مسألتك؟». فقلت: ما عندي فيها أكثر ممّا أجبتني به، إلّا أن يكون شيء لا أعرفه. فقال: «دية الجنين إذا ضربت أمه فسقط من بطنها قبل أن تنشأ فيه الروح مائة دينار،
ص: 634
----------------------------------
وهي لورثته، وإن دية هذا إذا قطع رأسه أو شق بطنه فليس هي لورثته، إنّما هي له دون الورثة». فقلت : وما الفرق بينهما ؟ فقال: «إنّ الجنين مستقبل مرجو نفعه، وإنّ هذا قد مضى وذهبت منفعته، فلما مثل به بعد موته صارت ديته بتلك المثلة له لا لغيره، يحج بها عنه أن يفعل بها من أبواب البرّ والخير من صدقة أو غيرها». قلت: فإن أراد رجل أن يحفر له بئراً ليغسله في الحفيرة، فسدر (1) الرجل فيما يحفر بين يديه، فمالت مسحاته في يده فأصابت بطنه فشقته، فما عليه؟ فقال: «إن كان هكذا فهو خطأ، وإنما عليه الكفارة: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو صدقة على ستين مسكيناً، لكل مسكين بمد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )» (2).
وإطلاق هذه الرواية وغيرها (3) يدل على عدم الفرق في ذلك بين الصغير والكبير، والحرّ والعبد، والذكر والأنثى. ومقتضى آخرها أنّ الخاطئ لا شيء عليه من الدية، وإن كان إطلاقها الأوّل يقتضى عدم الفرق أيضاً بين العمد وغيره.
ويؤيّد الأخير أنّ هذا الحكم على خلاف الأصل فينبغي أن يقتصر فيه على موضع اليقين، خصوصاً فيما يوجب الدية على العاقلة.
والحكم مختص بالمسلم، فلو كان ذمّياً احتمل عدم وجوب شيء، ووجوب عشر ديته، كما ينبه عليه إلحاقه بالجنين التام. ولو كان عبداً فعشر قيمته.
ودلّت الرواية أيضاً على صرف الدية في وجوه البر عن الميّت.
ص: 635
وهي باعتبار المجني عليه تنقسم أقساماً ثلاثة:
الأوّل: ما يؤكل كالغنم والبقر والإبل. فمن أتلف شيئاً منها بالذكاة لزمه التفاوت بين كونه حيّاً وذكيّاً.
----------------------------------
والمرتضى (رحمه اللّه) أوجب جعلها في بيت المال(1). والعمل بالمروي أظهر.
ولو كان عليه دين فقضاء دينه أهم من وجوه البرّ عنه، خصوصاً مع قوله في الرواية: «إنما هي له دون الورثة».
وفي مقابلة القول المشهور بوجوب مائة دينار لقطع رأس الميت قول ابن بابويه بوجوب دية كاملة لمن فعل به فعلاً يوجب قتله لو كان حيّاً؛ لرواية عبد اللّه بن مسكان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قطع رأس الميت، قال: «عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً » (2).
فحملها الصدوق على ما إذا أراد قتله في حياته، فإنّه يلزمه الدية، وإذا لم يرد قتله في الحياة كان عليه مائة دينار(3).
وحملها الشيخ على إرادة دية الجنين، وهو مائة دينار (4). وهذا أجود، مع أن في طريق الرواية محمّد بن سنان، فهي ضعيفة(5).
قوله - في الجناية على الحيوان : «فمن أتلف شيئاً منها بالذكاة لزمه التفاوت بين كونه حياً وذكيّاً - إلى قوله - وهو أشبه».
ص: 636
وهل لمالكه دفعه والمطالبة بقيمته ؟ قيل: نعم. وهو اختيار الشيخين (رحمهما اللّه)؛ نظراً إلى إتلاف أهم منافعه. وقيل: لا؛ لأنّه إتلاف لبعض منافعه، فيضمن التالف. وهو أشبه.
ولو أتلفه لا بالذكاة لزمه قيمته يوم إتلافه ولو بقي فيه ما ينتفع به، كالصوف والشعر والوبر والريش، فهو للمالك يوضع من قيمته. ولو قطع بعض أعضائه أو كسر شيئاً من عظامه، فللمالك الأرش.
الثاني: ما لا يؤكل وتصح ذكاته كالنمر والأسد والفهد فإن أتلفه بالذكاة ضمن الأرش؛ لأنّ له قيمة بعد التذكية. وكذا في قطع جوارحه وكسر عظامه مع استقرار حياته. وإن أتلفه لا بالذكاة، ضمن قيمته حيّاً.
الثالث: ما لا يقع عليه الذكاة. ففي كلب الصيد أربعون درهماً. ومن الناس من خصه بالسلوقي؛ وقوفاً على صورة الرواية. وفي رواية السكوني عن أبي عبد اللّه في كلب الصيد أنه يقوم. وكذا كلب الغنم، وكلب الحائط والأوّل أشهر.
----------------------------------
القول بتحتم أرشه وعدم جواز دفعه إلى مالكه لابن إدريس (1)؛ لتحقّق ماليته بعد الجناية، وأصالة براءة الذمّة ممّا زاد عن الأرش. وهذا أقوى.
وضعف قول الشيخين (2) ظاهر ؛ لأنّ فوات أهم المنافع لا يقتضي رفع ماليته رأساً حتّى يلزم بتمام القيمة.
قوله: «ففي كلب الصيد أربعون درهماً» إلى آخره.
الخلاف في هذا الكلب وقع في موضعين:
أحدهما: هل هو كلب الصيد مطلقاً، والمراد به المعلّم، سواء كان سلوقياً أم لا، أم هو
ص: 637
----------------------------------
مخصوص بالسلوقي؟ فالأكثر على الأوّل، والشيخان على الثاني (1)؛ لوروده في الروايات، كرواية الوليد بن صبيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «دية الكلب السلوقي أربعون درهماً، أمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بذلك أن يَدِيَه لبني خزيمة» (2).
ورواية أبي بصير عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «دية الكلب السلوقي أربعون درهماً»(3).
والسلوقي منسوب إلى سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة(4) ؛ والأولون حملوه على المعلم مطلقاً؛ للمشابهة.
وفي طريق الروايتين ضعف، الأُولى بإبراهيم بن عبد الحميد(5)، والثانية بعليّ بن أبي حمزة، فإنّهما واقفيان (6).
والثاني في تقدير موجب قتله، فالمشهور أنه أربعون درهماً، وهو المذكور في الروايتين.
وقال ابن الجنيد: فيه قيمته، ولا يتجاوز به أربعين درهماً(7). واستحسنه في المختلف(8). ووجه بأمرين:
أحدهما: عدم ثبوت التقدير المذكور؛ لضعف مستنده، مع كون الكلب المذكور مملوكاً فيكون فيه القيمة.
ص: 638
• وفي كلب الغنم كبش. وقيل: عشرون درهماً. وهي رواية ابن فضال عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، مع شهرتها. لكن الأوّل أصح طريقاً.
----------------------------------
لكن هذا التعليل لا يطابق التقدير بعدم زيادة القيمة على أربعين درهماً، بل مقتضاه وجوب القيمة كيف كانت.
والثاني: رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيمن قتل كلب الصيد: إنه يقومه، وكذلك البازي، وكذلك كلب الغنم، وكذلك كلب الحائط»(1).
والمستند ضعيف أيضاً، إلا أنّه موافق للأصل، وغير مقيّد بالأربعين. فلو قيل بوجوب القيمة مطلقاً لذلك (2) كان أجود، إلّا أنّ المشهور خلافه.
ولو اعتبرت هذه النصوص، كما تقتضيه قاعدة كثير من الأصحاب، لكان لازمها وجوب أربعين درهماً للسلوقي خاصّة، والقيمة لغيره من كلاب الصيد مطلقاً، جمعاً بين الأخبار. ثمّ يمكن على هذا أن يقال: مع تجاوز قيمة غير السلوقي الأربعين لا يزاد عن الأربعين كما ذكره ابن الجنيد؛ نظراً إلى أنّ السلوقي أعلى قيمة وأهمّ في نظر الشارع، فتقدير قيمته شرعاً بالأربعين لا أزيد يقتضي عدم زيادة غيره بطريق أولى والظاهر على هذا أن ابن الجنيد حاول بما اختاره الجمع بين النصوص، فأوجب القيمة عملاً برواية السكوني وقيدها بعدم تجاوز الأربعين التفاتاً إلى الروايات الأخر.
قوله: «وفي كلب الغنم كبش. وقيل: عشرون درهماً» إلى آخره.
القول بوجوب الكبش للأكثر. ومستنده رواية أبي بصير السابقة(3). وبالعشرين درهماً
ص: 639
• وقيل: في كلب الحائط عشرون درهماً. ولا أعرف المستند.
• وفى كلب الزرع قفيز من برّ.
----------------------------------
للشيخين(1) وابن إدريس (2) وجماعة(3)؛ استناداً إلى رواية ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4). وفيها الضعف والإرسال.
ومنه يظهر أنّ قول المصنّف (رحمه اللّه) أنّ الأوّل أصح طريقاً لا يخلو من تجوز؛ لاشتراكهما في الضعف، وغايته أن تكون الثانية أضعف لا أن تكون الأُولى أصح؛ لعدم اشتراكهما في أصل الصحة حتّى تفضل الأُولى عليها. وناهيك بضعف علي بن أبي حمزة البطائني(5)، فكيف توصف روايته بمسمّى الصحة فضلاً عن الرجحان؟!
وفي المسألة قول ثالث بوجوب القيمة مطلقاً (6)؛ لضعف موجب التقدير فيهما. وهو أقعد، لكنّه خلاف المشهور.
قوله: «وقيل: في كلب الحائط عشرون درهماً. ولا أعرف المستند».
القول المذكور للشيخين (7) والأكثر حتّى ابن إدريس(8). وليس له مستند ظاهر، ومن ثمّ قيل بوجوب القيمة عملاً بالأصل(9)، مع تأيده برواية السكونى السابقة (10).
قوله: «وفي كلب الزرع قفيز من برّ».
ص: 640
• ولا قيمة لما عدا ذلك من الكلاب وغيرها. ولا يضمن قاتلها شيئاً.
أما ما يملكه الذمّي كالخنزير، فهو يضمن بقيمته عند مستحليه. وفي الجناية على أطرافه الأرش.
مسائل:
الأولى: • لو أتلف لذمّي خمراً أو آلة لهو ضمنها المتلف ولو كان مسلماً.
----------------------------------
مستنده رواية أبي بصير السابقة(1)، وقد عرفت حالها. والمرجع في الطعام إلى ما يطلق عليه اسمه عرفاً، وخصه جماعة (2) بالحنطة. وهو أجود.
وذهب جماعة (3) إلى عدم وجوب شيء بقتله ؛ لعدم دليل يقتضيه.
وقال الصدوق فيه زِنْبيل من تراب على القاتل أن يعطى، وعلى صاحب الكلب أن يقبله (4).
قوله: «ولا قيمة لما عدا ذلك من الكلاب وغيرها. ولا يضمن قاتلها شيئاً».
يدخل في ذلك كلب الدار والجرو القابل للتعليم. ووجه عدم وجوب شيء للجميع عدم المقتضي له، وعدم قيمة للكلب حيث لا يرد فيها مقدّر.
ويشكل على القول بأنّها مملوكة، فإنّ لها حينئذٍ قيمة في الجملة.
وقال ابن الجنيد في كلب الدار زبيل من تراب (5)؛ لرواية أبي بصير السابقة (6). وسمّاه كلب الأهل. والمراد به: ما يتخذ لحراسة أهله في البوادي، وقد يتخذه أهل الحضر لذلك.
قوله: «لو أتلف لذمّي خمراً أو آلة لهو، ضمنها المتلف ولو كان مسلماً» إلى آخره.
لأنّه مُقَرٌ على ذلك مع استتاره ومقتضى الوفاء له ضمان ما يتلف عليه منه بقيمته؛ لتعذّر
ص: 641
ويشترط في الضمان الاستتار. ولو أظهرها الذمّي لم يضمن المتلف.
ولو كان ذلك المسلم لم يضمن الجاني على التقديرات.
الثانية • إذا جنت الماشية على الزرع ليلاً ضمن صاحبها ولو كان نهاراً لم يضمن ومستند ذلك رواية السكوني، وفيه ضعف.
والأقرب اشتراط التفريط في موضع الضمان ليلاً كان أو نهاراً.
----------------------------------
الحكم بالمثل والمعتبر القيمة عند مستحلّيه، إما بشهادة عدلين قد أسلما وعرفا الحال، أو مطّلعين على قيمته عندهم.
قوله: «إذا جنت الماشية على الزرع ليلاً ضمن صاحبها. ولو كان نهاراً لم يضمن. ومستند ذلك رواية السكوني، وفيه ضعف» إلى آخره.
القول بضمان جنايتها ليلاً لا نهاراً للأكثر، ومنهم الشيخان(1)، والأتباع (2).
ورواه ابن الجنيد عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنّ على أهل الأموال حفظها نهاراً، وعلى أهل الماشية ما أفسدت مواشيهم بالليل» حكم به في قضيّة ناقة البراء بن عازب لما دخلت حائطاً فأفسدته(3).
وهو رواية السكوني، عن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه قال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يضمّن ما أفسدت البهائم نهاراً، ويقول: على صاحب الزرع حفظه، وكان يضمن ما أفسدته ليلاً»(4).
ص: 642
الثالثة: • روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنه قضى في بعير بين أربعة عقله أحدهم فوقع في بئر فانكسر : أنّ على الشركاء حصته ؛ لأنّه حفظ، وضيّع الباقون
----------------------------------
وذهب المتأخرون كابن إدريس (1) والمصنّف (رحمه اللّه) ومن تأخر عنه (2) - إلى اعتبار التفريط وعدمه، سواء كان الإفساد ليلاً أم نهاراً ؛ لضعف مستند التفصيل.
وقال الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح:
والحقّ أن العمل في هذه ليس على هذه الرواية، بل إجماع الأصحاب، ولما كان الغالب حفظ الدابة ليلاً وحفظ الزرع نهاراً أخرج الحكم عليه، وليس في حكم المتأخّرين ردّ لقول القدماء، وإنّما القدماء تبعوا عبارة الأحاديث والمراد هو التفريط، فلا ينبغي أن يكون الخلاف هنا إلا في مجرّد العبارة عن الضابط، وأما المعنى فلا خلاف فيه(3). انتهى.
وهذا البحث ليس بواضح، وظاهر أنّ الخلاف معنوي؛ لأن مقتضى التفصيل أنّ ما جنته البهائم نهاراً غير مضمون على أربابها، سواء فرّط في حفظها أم لا؛ لأنّ على صاحب الزرع حفظه نهاراً، وأنّ ما جنته ليلاً مضمون مطلقاً، وأنّ الحفظ متعلّق بمالك البهائم. ولو فرض عدم تفريطه في حفظها فإنّ جنايتها ليلاً مضمونة، نظراً إلى تعليق الحكم على الليل والنهار، لا على التفريط وعدمه، فحمل ذلك على التفريط وعدمه خلاف مدلول اللفظ وكيف كان فالرجوع إلى التفريط وعدمه هو الأظهر.
قوله: «روي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنه قضى في بعير بين أربعة» إلى آخره.
ص: 643
الرابعة: • دية الكلاب الثلاثة مقدّرة على القاتل. أمّا لو غصب أحدها وتلف في يد الغاصب ضمن قيمته السوقية، ولو زادت عن المقدّر.
----------------------------------
هذه الرواية رواها محمّد بن قيس عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى بذلك(1). وقد عرفت ضعف الطريق باشتراك محمد بن قيس الراوي.
وهو مشكل على إطلاقه؛ لأن مجرد وقوعه أعم من كونه بتفريطهم، بل من تفريط العاقل، ومن ثمّ أوردها المصنّف كغيره (2) بلفظ الرواية.
قال المصنّف (رحمه اللّه) في النكت:
إن صحّت هذه الرواية فهي حكاية في واقعة ولا عموم للوقائع، فلعلّه عقله وسلّمه إليهم ففرّطوا، أو غير ذلك، أما اطّراد الحكم على ظاهر الواقعة فلا(3).
والأقوى ضمان المفرّط منهم دون غيره.
قوله: «دية الكلاب الثلاثة مقدرة على القاتل» إلى آخره.
لما كان الغاصب مؤاخذاً بأشق الأحوال، وجانب المالية مرعي في حقه، اعتبر في ضمانه لهذه الكلاب قيمتها وإن زادت عن المقدّر، كما يضمن قيمة العبد وإن زادت عن دية الحرّ، بخلاف غيره.
وينبغي على هذا أن يضمن أكثر الأمرين من المقدّر الشرعي والقيمة؛ لأن المقدر إذا كان أزيد من القيمة وضمنه غير الغاصب فهو أولى بضمانه، فلا يناسب الحكم بإطلاق ضمانه القيمة مطلقاً.
والمراد بالثلاثة ما عدا كلب الحائط، بناءً على ما أسلفه من عدم وقوفه على مستند ديته المقدرة(4).
ص: 644
• تجب كفّارة الجمع بقتل العمد، والمرتبة بقتل الخطأ، مع المباشرة لا مع التسبيب. فلو طرح حجراً أو حفر بئراً أو نصب سكيناً في غير ملكه، فعثر عاثر فهلك بها ضمن الدية دون الكفّارة.
----------------------------------
قوله: «تجب كفّارة الجمع بقتل العمد» إلى آخره.
لا خلاف بين المسلمين في أنّ كفّارة قتل الخطأ مرتبة. وهي المنصوصة في القرآن، قال تعالى: «وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ - إلى قوله - تَوْبَةٌ مِّنَ اللّه»(1).
واُلحق به القتل عمداً بالنص والإجماع. وهي عند الأصحاب كفّارة جمع بالنصّ.
فمنه صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمداً أله توبة ؟ فقال: «إن كان قتل لإيمانه فلا توبة له. وإن كان قتله لغضب أو لسبب من أسباب الدنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه. وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية، وأعتق نسمة، وصام شهرين متتابعين، وأطعم ستين مسكيناً، توبة إلى اللّه عزّ وجلّ»(2).
ولم يذكر في كفّارة قتل الخطأ الإطعام في الآية (3)، ومذهب الأصحاب ثبوته مرتباً على فقد الأمرين بالنصّ(4). وبعض العامّة(5) أثبته بالقياس على غيرها، ونفاه آخرون(6) لذلك.
ص: 645
و تجب بقتل المسلم ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً. وكذا تجب بقتل الصبي والمجنون، وعلى المولى بقتله عبده.
ولا تجب بقتل الكافر ذمّيّاً كان أو معاهداً؛ استناداً إلى البراءة الأصليّة. ولو قتل مسلماً في دار الحرب مع العلم بإسلامه ولا ضرورة فعليه القود والكفّارة.
----------------------------------
إذا تقرّر ذلك، فمذهب الأصحاب أنّها لا تجب إلّا مع مباشرة القتل دون التسبيب. وهو مذهب بعض العامّة (1). ومنهم من أوجبها بالمباشرة والتسبيب، كما يستويان في وجوب الضمان (2).
وإنما تجب بقتل المسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى، حراً أم مملوكاً، للقاتل وغيره؛ عملاً بالعموم(3). ولا تجب بقتل الكافر وإن كان ذمّيّاً أو معاهداً.
وإطلاق النصّ(4)، يقتضي عدم الفرق في القاتل بين كونه مكلفاً وغيره، فتجب على الصبيّ والمجنون بقتل المسلم وإن لم تجب عليهما الكفّارة في غيره.
فيخرج العتق والإطعام من مالهما كما يخرج غيرها من الحقوق. ولا يصام عنهما، ولا يجزئ صومهما قبل التكليف، فإذا كملا خوطبا به ولو ماتا قبله أُخرجت الأجرة من مالهما.
وفي المسألة وجه بعدم وجوب الكفّارة عليهما، بناءً على أنها تكليف وليسا من أهله. وهو ممنوع
ص: 646
● ولو ظنّه كافراً فلادية وعليه الكفّارة.
ولو كان أسيراً، قال الشيخ: ضمن الدية والكفّارة؛ لأنّه لا قدرة للأسير على التخلص. وفيه تردّد.
• ولو اشترك جماعة في قتل واحد فعلى كلّ واحد كفّارة.
----------------------------------
قوله: «ولو ظنّه كافراً فلا دية وعليه الكفّارة» إلى آخره.
إذا قتل مسلماً في دار الحرب وجبت الكفّارة بكل حال، قال تعالى: «فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عدّة لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ»(1)، قالوا: المعنى فيه: وإن كان في قوم عدوّ لكم مع كونه مؤمناً.
وأمّا القصاص أو الدية فإن ظنّه القاتل كافراً لكونه على زي أهل الشرك فلا قصاص قطعاً ولا كفّارة (2) عندنا؛ للأصل، وإباحة الفعل ظاهراً، إلّا أن يكون المقتول أسيراً، فقد قال الشيخ (رحمه اللّه) : بوجوب الدية كالكفّارة؛ محتجاً بعموم قوله تعالى: «وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا... فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ» (3) وهذا مؤمن فيجبان معاً بقتله؛ عملاً بظاهر الآية، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»(4).
وزاد في المبسوط (5) الاستدلال بأنّ الأسير غير مختار في كونه هناك، فلا تقصير منه، بخلاف غيره، فتجب له الدية.
وينبغي أن تكون الدية في بيت المال؛ لئلا يرغب المسلم عن قتل الكافر خوفاً من ذلك.
قوله: «ولو اشترك جماعة في قتل واحد فعلى كلّ واحد كفّارة».
هذا مذهب الأصحاب. ووجه بأنّ الكفّارة لا تتبعض، ولهذا لا تنقسم على الأطراف، وما
ص: 647
• وإذا قبل من العامد الدية وجبت الكفّارة قطعاً. ولو قتل قوداً، هل تجب في ماله ؟ قال في المبسوط: لا تجب. وفيه إشكال ينشأ من كون الجناية سبباً.
والنظر في تعيين المحلّ، وكيفيّة التقسيط، وبيان اللواحق.
----------------------------------
لا يتبعّض إذا اشترك الجماعة في سببه وجب على كلّ واحد بكماله. وبأن فيها معنى العبادة والعبادة الواحدة لا تتوزّع على الجماعة.
وللشافعية وجه بوجوب كفارة واحدة على الجميع (1)؛ لأنّه قتل واحد.
قوله: «وإذا قبل من العامد الدية وجبت الكفّارة قطعاً» إلى آخره.
وجه ما اختاره الشيخ (2) أنّها شرعت لتكفير المذنب ممّا ارتكبه، فإذا سلّم نفسه واقتصّ منه فقد أعطى الحقِّ، فيُكتفى به كفّارة. وقد روي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «القتل كفارة»(3). فعلى هذا إنما يجب إخراج الكفّارة إذا لم يقتص منه، بأن مات أو عفي عنه أو أخذت منه الدية.
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل في ذلك من حيث إنّ القتل سبب للكفارة، وقد وجد فيوجد المسبب، ويستصحب وجوبه؛ لأصالة عدم المسقط، ولأنّ حقوق اللّه تعالى الواجبة فى المال لا تسقط بالموت.
وهذا هو الأظهر. وهو مذهب الشيخ أيضاً في الخلاف : محتجّاً بإجماع الفرقة وأخبارهم (4).
ص: 648
أمّا المحل فهو العصبة، والمعتق، وضامن الجريرة، والإمام.
• وضابط العصبة من يتقرب بالأب، كالإخوة وأولادهم، والعمومة وأولادهم. ولا يشترط كونهم من أهل الإرث في الحال.
وقيل: هم الذين يرثون دية القاتل لو قتل.
وفي هذا الإطلاق وهم؛ فإنّ الدية يرثها الذكور والإناث والزوج والزوجة ومن يتقرب بالأُم على أحد القولين ويختص بها الأقرب فالأقرب كما تورّث الأموال. وليس كذا العقل، فإنّه يختص الذكور من العصبة، دون من يتقرب بالأُمّ، ودون الزوج والزوجة.
----------------------------------
قوله : « وضابط العصبة : من يتقرب بالأب - إلى قوله - على أحد القولين».
الأصل في وجوب دية قتل الخطأ على العاقلة - قبل إجماع المسلمين - ما روي من حكم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بذلك(1).
قال العلماء (رحمهم اللّه): وتغريم غير الجاني خارج عن الأقيسة الظاهرة، إلا أن القبائل في الجاهلية كانوا يقومون بنصرة من جنى منهم، ويمنعون أولياء القتيل من أن يدركوا بثأرهم ويأخذوا من الجاني حقهم، فجعل الشرع بدل تلك النصرة بذل المال حيث لا يكون الجاني متعمداً آثماً.
وربما شبّه إعانة الأقارب بتحمّل الدية بإعانة الأجانب الذين عزموا الإصلاح ذات البين، بصرف سهم من الزكاة إليهم. وأجلت على العاقلة نظراً لهم؛ ليتحملوا ما تحمّلوا في مدة الأجل، فلا يشق عليهم أداؤه. إذا تقرر ذلك، فالمراد بالعاقلة من تقرب بالأب من الإخوة والأعمام وأولادهما، وإن
لم يكونوا ورثة في الحال. هذا هو المشهور بين الأصحاب.
والقول بكونهم الذين يرثون دية القاتل لو قتل للشيخ في النهاية (2). وردّه المصنّف
ص: 649
• ومن الأصحاب من خص به الأقرب ممّن يرث بالتسمية. ومع عدمه يشترك العقل بين من تقرّب بالأمّ مع من تقرّب بالأب أثلاثاً.
وهو استناد إلى رواية سلمة بن كهيل، عن أمير المؤمنين. وفي سلمة ضعف.
----------------------------------
(رحمه اللّه) بأنّه غير مانع، فإنّ الزوجين والإناث يرثون من الدية وليسوا بعصبة، وكذا من يتقرب بالأُم على الخلاف الذي سبق غير مرّة(1)، فإن أراد الحكم مطلقاً فهو وهم؛ لأنّه لا يقول بما دلّ عليه بإطلاقه.
وفي المسألة أقوال أُخر. ومستند الجميع غير نقي. وستأتي الإشارة إلى بعضه.
قوله: «ومن الأصحاب من خصّ به الأقرب ممّن يرث بالتسمية» إلى آخره.
القائل بذلك من الأصحاب ابن الجنيد (رحمه اللّه)(2).
والمستند رواية سلمة بن كهيل قال: أتى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجل من أهل الموصل قد قتل رجلاً خطاً، فكتب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى عامله بها في كتابه: «اسأل عن قرابته من المسلمين، فإن كان من أهل الموصل ممّن ولد بها وأصبت له قرابة من المسلمين فاجمعهم إليك، ثمّ انظر فإن كان هناك رجل يرثه له سهم في الكتاب لا يحجبه أحد من قرابته فألزمه الدية، وخذها منه في ثلاث سنين. وإن لم يكن له من قرابته أحد له سهم في الكتاب، وكانوا قرابته سواء في النسب، ففض الدية على قرابته من قبل أبيه، وعلى قرابته من قبل أمه، من الرجال الذكور المسلمين، ثمّ اجعل على قرابته من قبل أبيه ثلثي الدية، واجعل على قرابته من قبل أمّه ثلث الدية»(3). الحديث.
والرواية ضعيفة السند، فإنّ سلمة بن كهيل بتري مذموم(4).
ص: 650
• وهل يدخل الآباء والأولاد في العقل؟ قال في المبسوط والخلاف: لا. والأقرب دخولهما؛ لأنّهما أدنى قومه. ولا يشركهم القاتل في الضمان.
ولا تعقل المرأة ولا الصبي ولا المجنون وإن ورثوا من الدية. ولا يتحمّل الفقير شيئاً. ويعتبر فقره عند المطالبة، وهو حول الحول.
----------------------------------
قوله: «وهل يدخل الآباء والأولاد في العقل؟ - إلى قوله - لأنهما أدنى قومه».
ما اختاره الشيخ (رحمه اللّه) من عدم دخولهما في العقل (1) هو المشهور بين الأصحاب، بل احتجّ عليه في الخلاف بإجماعنا؛ وبعدم الدليل على اعتبار الوالدين والأولاد؛ وبأصل البراءة؛ وبرواية ابن مسعود أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، لا يؤخذ الرجل بجريرة،ابنه ولا ابن بجريرة أبيه». قال: وهو نصّ. وبرواية سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فقتلت إحداهما الأخرى، ولكلّ زوج وولد، فبرأ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الزوج والولد، وجعل الدية على العاقلة (2).
والمصنّف (رحمه اللّه) اختار دخولهما؛ لأنهما أدنى قومه. وفي رواية سلمة بن كهيل ما يدلّ عليه.
وأجيب عمّا ذكره الشيخ من الإجماع بمنعه، كيف وهو في النهاية مخالف (3)؟! والخبران عاميان، مع إمكان حمل الأوّل على العمد والولد في الثاني على الأنثى (4)؛ والمسألة موضع توقّف، من حيث عدم الدليل الصالح من الجانبين.
ص: 651
• ولا يدخل في العقل أهل الديوان ولا أهل البلد إذا لم يكونوا عصبة. وفي رواية سلمة ما يدلّ على إلزام أهل بلد القاتل مع فقد القرابة ولو قتل في غيره. وهو مطّرح.
ويقدّم من يتقرّب بالأبوين على من انفرد بالأب.
ويعقل المولى من أعلى، ولا يعقل من أسفل.
----------------------------------
قوله: «ولا يدخل في العقل أهل الديوان ولا أهل البلد إذا لم يكونوا عصبة - إلى قوله - وهو مطّرح».
المراد بأهل الديوان الذين رتبهم الإمام للجهاد، وأدرّ لهم أرزاقاً، وجعلهم تحت راية أمير يصدرون عن رأيه.
وعند أبي حنيفة أنه يتحمّل بعضهم عن بعض وإن لم يكن بينهم قرابة، ويتقدمون على الأقارب، اتّباعاً لما ورد من قضاء عمر (1).
لنا: أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قضى بالدية على العاقلة (2)، ولم يكن في عهده ديوان ولا في عهد أبي بكر، وإنّما وضعه عمر حين كثر الناس واحتاج إلى ضبط الأسماء والأرزاق، فلا يترك ما استقرّ في عهد رسول اللّه بما أُحدث بعده.
وحمل قضاء عمر بذلك على أنه كان في الأقارب من أهل الديوان.
وأما دخول أهل البلد في العقل مع عدم القرابة فهو في رواية سلمة السابقة (3)، فقال في آخرها: «وإن لم يكن له قرابة من قبل أمه، ولا قرابة من قبل أبيه، ففض الدية على أهل الموصل ممن ولد بها ونشأ، ولا تدخلن فيهم غيرهم من أهل البلد» الحديث. وقد عرفت ضعفه.
ص: 652
• وتحمل العاقلة دية الموضحة فما زاد قطعاً. وهل تحمل ما نقص؟ قال في الخلاف: نعم، ومنع في غيره. وهو المروي، غير أنّ في الرواية ضعفاً.
----------------------------------
قوله: «وتحمل العاقلة دية الموضحة فما زاد قطعاً. وهل تحمل ما نقص؟» إلى آخره.
اختلف قول الشيخ وغيره من الأصحاب في تحمّل العاقلة ما دون الموضحة، فذهب الشيخ في المبسوط (1) والخلاف (2) وابن إدريس إليه، بل ادّعى ابن إدريس الإجماع عليه (3)؛ العموم الأدلّة على التحمّل من غير تفصيل.
وذهب جماعة - منهم الشيخ في النهاية(4)، وابن الجنيد(5)، وأبو الصلاح(6)، وابن البرّاج في أحد قوليه(7)، والعلّامة في أحد قوليه(8) - إلى عدم التحمّل؛ لأصالة إيجاب العقوبة على مباشر الجناية، وحوالتها على غيره خلاف الأصل، حكم به في الموضحة فما فوقها بالإجماع وندوره، فلا يتعدّى إلى غيره، وبخصوص موثّقة أبي مريم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه لا يحمل على العاقلة إلّا الموضحة فصاعداً، وما دون السمحاق وأجرة الطبيب سواء»(9). ولعلّ هذا أجود.
ص: 653
وتضمن العاقلة دية الخطأ في ثلاث سنين، كلّ سنة عند انسلاخها ثلاثاً، تامة كانت الدية أو ناقصة، كدية المرأة ودية الذمّى.
• أما الأرش، فقد قال في المبسوط: يستأدى في سنة واحدة عند انسلاخها، إذا كان ثلث الدية فما دون؛ لأنّ العاقلة لا تعقل حالاًّ.
وفيه إشكال ينشأ من احتمال تخصيص التأجيل بالدية لا بالأرش.
قال: ولو كان دون الثلاثين حلّ الثلث الأوّل عند انسلاخ الحول، والباقي عند انسلاخ الثاني.
ولو كان أكثر من الدية - كقطع يدين وقلع عينين - وكان لاثنين، حلّ لكلّ واحد عند انسلاخ الحول ثلث الدية. وإن كان لواحد حلّ له ثلث لكلّ جناية سدس الدية. وفي هذا كله الإشكال الأوّل.
• ولا تعقل العاقلة إقراراً ولا صلحاً ولا جناية عمد مع وجود القاتل ولو كانت موجبة للدية، كقتل الأب ولده أو المسلم الذمّي، أو الحرّ المملوك.
----------------------------------
قوله: «أمّا الأرش، فقد قال في المبسوط : يستأدى في سنة واحدة» إلى آخره.
هذا كله قول الشيخ في المبسوط(1). ومحصله: إلحاق الأرش بالدية في التأجيل، لكلّ سنة ثلث الدية. فما كان فيه ثلث فما دون يتأجل إلى سنة، وما زاد عنه يتأجل الزائد منه إلى سنتين، إلّا أن يتجاوز الثلثين، فيتأجل الزائد عنهما إلى ثلاث سنين، إلى آخر ما ذكره من التفصيل. ووافقه العلّامة في القواعد (2).
والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل جميع هذه المسائل، من حيث إن المتيقن تأجيل الدية فتعدّيه إلى الأرش يحتاج إلى الدليل، وليس بظاهر. وعذره في الإشكال واضح.
قوله: «ولا تعقل العاقلة إقراراً ولا صلحاً - إلى قوله - ولو كانت موجبةً للدية».
ص: 654
----------------------------------
لا فرق في العمد بين كونه محضاً وشبيه عمد عند الأصحاب. ومستند الجميع رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا تضمن العاقلة عمداً ولا إقراراً ولا صلحاً»(1).
ورووا عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال: «لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً» (2).
وحيث لا يتحمّل الإقرار يلزم موجبه المقرّ؛ إذ لا سبيل إلى تعطيل دم المسلم، وقد تعذّر التحمّل ولأنّ الأصل في الجناية لزومها للجاني، فإذا لم تحمل العاقلة هنا يرجع إلى الأصل.
ولبعض العامّة قول بعدم لزوم شيء بهذا الإقرار (3)؛ لأنّه واقع في حقّ الغير لا في حقّ المقرّ، فلا يسمع، بناءً على القول بأن الدية تجب ابتداءً على العاقلة لا على وجه التحمّل عن القاتل.
ونبّه بقوله مع وجود «القاتل على خلاف بعضهم، حيث حكم بوجوبها مع هر به على العاقلة إذا لم يكن له مال (4)؛ لرواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد سأله عن رجل قتل رجلاً متعمداً ثمّ هرب القاتل فلم يقدر عليه، قال: «إن كان له مال أخذت الدية من ماله، وإلّا فمن الأقرب فالأقرب، فإنه لا يطل دم امرئ مسلم»(5). وقد تقدم البحث في ذلك(6).
ص: 655
• ولو جنى على نفسه خطاً، قتلاً أو جرحاً، طلّ، ولم تضمنه العاقلة.
• وجناية الذمّي في ماله وإن كانت خطاً، دون عاقلته. ومع عجزه عن الدية فعاقلته الإمام؛ لأنّه يؤدّي إليه ضريبته.
----------------------------------
والعامّة لم يفرّقوا بين الخطأ المحض وعمد الخطأ الخطأ المحض وعمد الخطأ في حمله على العاقلة (1)، استناداً إلى حديث المرأتين (2) وأنّ فعلهما كان شبيه العمد وحكم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحمله على العاقلة. وهو قول لبعض أصحابنا(3)، لكن الأشهر خلافه.
قوله: «ولو جنى على نفسه خطاً، قتلاً أو جرحاً، طلّ، ولم تضمنه العاقلة».
نبّه بذلك على خلاف بعض العامّة، حيث أوجب ديته على النفس على عاقلته لورثته، وفي الطرف له (4).
ويضعف بأنّ الدية تجب للمقتول والمقطوع بدليل قضاء دينه وتنفيذ وصاياه منها. ولا يجب للإنسان بجنايته في حقّ نفسه شيء كما لو أتلف ماله. وضمان العاقلة على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النصّ والإجماع، ومحله الجناية على الغير.
قوله: «وجناية الذمّي في ماله وإن كانت خطاً، دون عاقلته» إلى آخره.
نبّه بقوله «لأنّه يؤدّي إليه ضريبته» على أنه كالمملوك الذي يؤدي الضريبة إلى مولاه، فلا تعقله العاقلة؛ لأنّها لا تعقل عبداً، وإنّما يعقله الإمام. مع أن مقتضى التعليل عدمه؛ لأنّه ليس مملوكاً محضاً.
والحق الاستناد إلى النصّ، وهو صحيحة أبي ولاد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ليس بين
ص: 656
• ولا يعقل مولى المملوك جنايته، قناً كان أو مدبّراً أو مكاتباً أو مستولدةً على الأشبه.
• وضامن الجريرة يعقل ولا يعقل عنه المضمون ولا يجتمع مع عصبة ولا معتق؛ لأن عقده مشروط بجهالة النسب وعدم المولى. نعم، لا يضمن الإمام مع وجوده ويسره على الأشبه.
----------------------------------
أهل الذمّة معاقلة فيما يجنون من قتل أو جراحة، إنّما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت على إمام المسلمين؛ لأنّهم يؤدون إليه الجزية كما يؤدي العبد الضريبة إلى سيّده. قال: وهم مماليك،الإمام، فمن أسلم منهم فهو حرّ»(1).
قوله: «ولا يعقل مولى المملوك جنايته» إلى آخره.
بمعنى أن جنايته تتعلق برقبته ولا يلزم المولى مطلقاً. وقد تقدم البحث فيه (2).
والخلاف في أُمّ الولد، فقد قال الشيخ في المبسوط : جنايتها على سيدها (3)؛ لمنعه من بيعها بالاستيلاد، فأشبه عتق الجاني؛ ولرواية مسمع عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ جنايتها في حقوق الناس على سيّدها»(4). وهو ضعيف كالرواية. وقد تقدّم البحث فيه.
قوله «وضامن الجريرة يعقل ولا يعقل عنه المضمون» إلى آخره.
من حيث إنّه مضمون أمّا لو دار الضمان من الجانبين عقل كلّ منهما الآخر من حيث إنّه ضامن لا من حيث إنّه مضمون.
ص: 657
• وأما كيفية التقسيط، فإنّ الدية تجب ابتداءً على العاقلة، ولا يرجع بها على الجاني، على الأصحّ.
• وفي كمية التقسيط قولان:
أحدهما: على الغنيّ عشرة قراريط، وعلى الفقير خمسة قراريط، اقتصاراً على المتّفق.
والآخر يقسّطها الإمام على ما يراه بحسب أحوال العاقلة وهو أشبه.
----------------------------------
قوله: «وأما كيفية التقسيط فإنّ الدية تجب ابتداءً على العاقلة، ولا يرجع بها على الجاني، على الأصحّ».
اختلف فى أنّ الدية هل تجب ابتداء على الجاني ويتحمّلها عنه العاقلة، أم تجب عليهم ابتداء؟ فالأظهر في المذهب والمدلول عليه في النصوص (1): الثاني.
ووجه الأوّل أنّ الأصل في الضمان كونه على المتلف، فيكون العدول عنه تحملاً. وعليه يتفرّع ما إذا لم تف العاقلة بالدية، فإنّه يرجع بها أو بباقيها على القاتل على الأوّل وهو اختيار الشيخ في النهاية (2) وجماعة (3). والأصحّ أنه لا يدخل في الضمان مطلقاً.
قوله: «وفي كمّيّة التقسيط قولان: أحدهما على الغنيّ عشرة قراريط، وعلى الفقير خمسة قراريط» إلى آخره
القولان للشيخ في كلّ واحد من المبسوط(4)، والخلاف(5). واحتج للأول بأنّه المتّفق عليه،
ص: 658
• وهل يجمع بين القريب والبعيد ؟ فيه قولان، أشبههما الترتيب في التوزيع.
• وهل تؤخذ من الموالي مع وجود العصبة ؟ الأشبه نعم مع زيادة الدية عن العصبة. ولو اتسعت أخذت من عصبة المولى ولو زادت فعلى مولى المولى ثمّ عصبة مولى المولى.
----------------------------------
وما زاد عنه مختلف فيه، والأصل براءة الذمّة من الزائد.
والمتوسط هنا في معنى الفقير؛ لأن المراد منه من ليس بغني.
واختار المصنّف والعلّامة في أحد قوليه (1)الثاني : لأصالة عدم التقدير، وعدم وجود دليل صالح له، ولأنّه دين وجب على العاقلة عند أجله، فيجب أداؤه كغيره من الديون.
ولأنّ التقديرات تتوقف على النصّ، ولا يجري فيها القياس عند كثير ممن قال به، فعند المانع منه - كأصحابنا - أولى. وهذا هو الأظهر.
قوله: «وهل يجمع بين القريب والبعيد ؟ فيه قولان، أشبههما الترتيب في التوزيع».
القول بفض الدية على القريب والبعيد مطلقاً للشيخ (رحمه اللّه)(2)؛ نظراً إلى عموم الأدلّة بوجوبها على العاقلة (3) المتناول للجميع.
والأشبه عند المصنّف وأكثر المحقّقين الترتيب في التوزيع، فيقدم الأقرب فالأقرب.
ولا يعدل إلى البعيد إلّا مع عجز القريب عن الإتمام بحسب نظر الإمام، أو نقصانه عن القدر المعتبر وحيث يحكم بالتقدير فيبدأ بالإخوة إن لم نقل بدخول الأب والولد، ثمّ بأولادهم، ثمّ بالأعمام، ثمّ بأولادهم على ترتيب الإرث.
قوله: «وهل تؤخذ من الموالي مع وجود العصبة ؟ - إلى قوله - يؤخذ الزائد من الإمام».
هذا متفرّع على القولين السابقين، فإنّا إن اعتبرنا القريب والبعيد في درجة واحدة أخذ
ص: 659
ولو زادت الدية عن العاقلة أجمع، قال الشيخ : يؤخذ الزائد من الإمام، حتّى لو كانت الدية ديناراً وله أخ أخذ منه عشرة قراريط، والباقي من بيت المال.
والأشبه إلزام الأخ بالجميع إن لم تكن عاقلة سواه؛ لأنّ ضمان الإمام مشروط بعدم العاقلة أو عجزهم عن الدية.
----------------------------------
هنا من المنعم مع وجود العصبة؛ لأنّه من جملة العاقلة، وإن تأخرت عن عصوبة النسب كما في الميراث.
وإن قلنا بمراعاة الأقرب فالأقرب، فإن لم يعجز النسب عن الدية لم ينتقل إلى الموالي. وإن عجز أو لم يكمل القدر حيث اعتبرنا التقدير تحمّل معتقه، فإن فضل عنه شيء تحمّل عصبته، ثمّ معتق المعتق، ثمّ عصبته، وهكذا.
فإن فقد من له نعمة الولاء على الجاني وعصباته تحمّل معتق الأب، ثمّ عصباته، ثمّ معتق معتق الأب، ثمّ عصباته، كما ذكرناه في الجاني.
فإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الأب تحمّل معتق الجد؛ لأنّ ضمانه مشروط بعدمه كالإمام، ثمّ عصباته كذلك، وهكذا.
والوجه الآخر الذي أشار إليه المصنّف بالخلاف أنه لا تؤخذ من الموالي إلا مع فقد العصبة النسبيّة.
وأما على تقدير زيادة الدية عن العاقلة أجمع ما عدا الإمام، ففي أخذ الزائد من الإمام قولان:
أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ (1) وجماعة (2) - أنه يؤخذ الباقي منه، بل الجميع
ص: 660
----------------------------------
لو لم تكن عاقلة؛ لأنّ الإمام يرثه بالولاء فيكون كغيره من الوارثين؛ ولرواية سلمة بن كهيل السابقة(1)، فإنّه قال في آخرها: «وإن لم يكن له قرابة فردّه إلي مع رسولي، فأنا وليه والمؤدي عنه، ولا يطل دم امرئ مسلم».
ومقتضى ذلك أنّ الإمام يؤدّي ذلك من ماله لا من بيت مال المسلمين. وقيل: بل من بيت مال المسلمين (2)، بناءً على صرف میراث من لا وارث له إليه عند فقد الأُولى (3)، والأظهر الأوّل.
والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف - أنه لا يؤخذ من الإمام شيء مع وجود العاقلة النسب؛ لأنّ ضمانه مشروط بعدمه. وفيه نظر.
وقوله نقلاً عن الشيخ «حتّى لو كانت الدية ديناراً وله أخ أخذ منه عشرة قراريط، والباقي من بيت المال والأشبه إلزام الأخ بالجميع إن لم تكن عاقلة سواء؛ لأن ضمان الإمام مشروط بعدم العاقلة» مبنيّ على تقدير التقسيط كما هو رأي الشيخ، وعلى ضمان العاقلة دية ما عدا الموضحة، ليمكن فرض كون الدية ديناراً، وكلاهما ممنوع كما تقدّم(4).
وفي قوله «والباقي من بيت المال» دلالة على أن مراده بكون الباقي على الإمام أنّه يؤدّيه من بيت المال. وبهذا المراد صرّح في المبسوط(5).
وربما حمل قوله «بيت المال» على بيت مال الإمام؛ لما ذكرناه من كون الإمام هو
ص: 661
• ولو زادت العاقلة عن الدية لم يختص بها البعض.
وقال الشيخ يخص الإمام بالعقل من شاء؛ لأنّ التوزيع بالحصص يشقّ. والأوّل أنسب بالعدل.
----------------------------------
الوارث، فيكون من العاقلة وهو بعيد.
والأُولى أن يريد به بيت مال المسلمين؛ لأنّه الظاهر مع أنه في الاستبصار جعل ميراث السائبة لبيت المال(1) ؛ محتجّاً برواية سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن مملوك أعتق سائبة؟ قال: «يوالي من شاء، وعلى من يوالي جريرته، وله ميراثه». قلت: فإن مكث حتّى يموت؟ قال: «يجعل ميراثه في بيت مال المسلمين» (2). وحملوه أيضاً على بيت مال الإمام. وهو بعيد.
قوله «ولو زادت العاقلة عن الدية لم يختص بها البعض» إلى آخره.
القولان للشيخ (رحمه اللّه). فالأوّل في الخلاف : محتجاً بأن الدية فرضت على العاقلة كلّهم، فمن خصّ بها قوماً دون قوم فعليه الدلالة(3).
والثاني قوله في المبسوط: محتجاً بما أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) من مشقة التوزيع (4).
والأظهر الأوّل.
وهذا الخلاف مبني على تقدير التوزيع؛ ليفرض زيادة عدد العاقلة عن قدر ما يخص الواحد منهم. وعلى القول الآخر يسقط البحث.
ص: 662
• ولو غاب بعض العاقلة لم يخص بها الحاضر.
• وابتداء زمان التأجيل من حين الموت. وفي الطرف من حين الجناية، لا من وقت الاندمال. وفي السراية من وقت الاندمال؛ لأنّ موجبها لا يستقر بدونه، ولا يقف ضرب الأجل على حكم الحاكم.
----------------------------------
قوله: «ولو غاب بعض العاقلة لم يخص بها الحاضر».
لاشتراك الجميع في العصوبة والميراث.
وخالف في ذلك بعض العامّة، فحكم باختصاص الحاضر بها؛ لاختصاصهم بقرب الدار(1)، كما يقدم المختصون بقرب القرابة، ولأنّ التحمّل نوع نصرة، وهو إنما يتأتى للحاضرين.
وضعفه ظاهر للفرق الواضح بين قرب النسب وقرب الدار، ولو كان كذلك لافترق الحاضرون بالقرب والبعد أيضاً.
ووجه التحمّل النصّ والإجماع المتعلّق بالعاقلة لا من حيث النصرة، ومن ثمّ حمل من لم يصلح لها منهم.
قوله: «وابتداء زمان التأجيل من حين الموت. وفي الطرف من حين الجناية، لا من وقت الاندمال» إلى آخره.
لما كانت الدية مالاً يحلّ بانقضاء الأجل، وجب أن يكون ابتداؤه من وقت وجوبه كسائر الديون المؤجّلة. ووقت الوجوب في دية النفس وقت الزهوق، سواء قتل بجراحة مدفّفة أم بسراية، من قطع عضو أو جراحة أخرى.
وأما ما دون النفس فإن لم تسر الجناية فابتداء المدّة من وقت الجناية أيضاً؛ لأنّ الوجوب يتعلّق بها وبالاندمال يتبيّن استقرارها، فلا يعتبر الاندمال وإن أوقفنا المطالبة
ص: 663
• وإذا حال الحول على موسر توجّهت مطالبته ولو مات لم يسقط ما لزمه ويثبت في تركته.
ولو كانت العاقلة في بلد آخر كوتب حاكمه بصورة الواقعة ليوزّعها، كما لو كان القاتل هناك.
----------------------------------
بالدية عليه؛ لأنّ التوقف بالمطالبة على تقديره ليتبين منتهى الجراحة، وابتداء المدّة ليس وقت طلب، فلا تلزمه المطالبة. فإذا انقضت السنة والجراحة باقية فالحكم في مطالبة العاقلة كالجاني إذا كان عامداً ونحوه.
وإن سرت من عضو إلى غيره، كما إذا قطع إصبعه فسرى إلى الكفّ، ففيه وجهان:
أحدهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) - أنّ الابتداء من وقت الاندمال؛ لأنّ الجراحة لم تقف على محلّها، بل سرت، فتعتبر المدّة من نهاية أثرها؛ لأنّها لا تستقر بدونه.
والثاني : أنّ ابتداءه من وقت سقوط الكفّ في المثال؛ لأنّه نهاية الجناية، وقطع الإصبع مع السراية كقطع الكفّ ابتداء.
والأشهر الأوّل. ونبه بقوله «ولا يقف ضرب الأجل على حكم الحاكم» على خلاف بعض العامّة، فجعل ابتداء الأجل من حين المرافعة إلى الحاكم(1)، وآخرين جعلوا أوله من وقت حكم الحاكم بالدية على العاقلة، حتّى لو مضت ثلاث سنين ثمّ ترافعوا يفتتح الحاكم ضرب المدة؛ محتجاً بأنّ هذه مدّة تناط بالاجتهاد فلا تبتدأ بدون الحكم (2).
قوله: «وإذا حال الحول على موسر توجهت مطالبته ولو مات لم يسقط ما لزمه ويثبت في تركته» إلى آخره.
ص: 664
ولو لم يكن عاقلة أو عجزت عن الدية أخذت من الجاني. ولو لم يكن له مال أخذت من الإمام. وقيل: مع فقر العاقلة أو عدمها تؤخذ من الإمام دون القاتل. والأوّل مروى.
----------------------------------
لاستقرار الوجوب عليه بحول الحول، فلا يسقط بالموت كغيره من الديون خلافاً لبعض العامّة حيث حكم بسقوطه عنه لو مات قبل الأداء مطلقاً(1).
قوله: «ولو لم يكن عاقلة أو عجزت عن الدية أخذت من الجاني».
القولان للشيخ (رحمه اللّه)، إلّا أنّه جعل الوجوب على بيت مال المسلمين لا على الإمام(2). والمصنّف (رحمه اللّه) جعل الأوّل منهما مرويّاً.
وليس في الروايات ما يدلّ عليه صريحاً، وإنّما دلّت على الثاني، كرواية سلمة بن كهيل السابقة(3).
ورواية يونس بن عبد الرحمن - المرسلة - عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أنّه قال في الرجل إذا قتل رجلاً خطاً فمات قبل أن يخرج إلى أولياء المقتول من الدية: «أن الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال»(4).
وفي رواية أبي ولاد: «أنّ جناية المقتول كانت على الإمام، فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين»(5).
وهذا هو الأظهر. وقد تقدم البحث فيه عن قريب(6).
ص: 665
• ودية الخطأ شبيه العمد في مال الجاني، فإن مات أو هرب، قيل: تؤخذ من الأقرب إليه ممّن يرث ديته. فإن لم يكن فمن بيت المال.
ومن الأصحاب من قصّرها على الجاني، وتوقع مع فقره يسره. والأوّل أظهر.
وأما اللواحق فمسائل:
الأولى: • لا يعقل إلّا من عرف كيفية انتسابه إلى القاتل، ولا يكفي كونه من القبيلة؛ لأنّ العلم بانتسابه إلى الأب لا يستلزم العلم بكيفية الانتساب والعقل مبنيّ على التعصيب، خصوصاً على القول بتقديم الأُولى.
----------------------------------
قوله: «ودية الخطأ شبيه العمد في مال الجاني» إلى آخره.
القول الأوّل للشيخ (1) والأكثر. ومستنده الأخبار الدالّة على أن قاتل العمد مع هر به أو موته تؤخذ دية جنايته من عاقلته (2)، وهذا من أفراده. وقد تقدم البحث في ذلك في القصاص(3).
والقول الثاني لابن إدريس ؛ استناداً إلى أنّ دية عمد الخطأ على الجاني دون العاقلة، فلا ينتقل إليهم بموته وهربه؛ عملاً بالأصل، وردّ الأخبار الدالّة عليه على أصله (4).
والأظهر الأول؛ لصحيحة البزنطي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5)، مؤيدة بغيرها (6) وإن ضعف طريقها.
قوله: «لا يعقل إلا من عرف كيفية انتسابه إلى القاتل» إلى آخره.
ص: 666
الثانية: • لو أقرّ بنسب مجهول ألحقناه به فلو ادّعاه الآخر وأقام البيّنة قضينا له وأبطلنا الأوّل. فلو ادّعاه ثالث وأقام البيّنة أنّه ولد على فراشه قضي له بالنسب؛ لاختصاصه بالسبب.
الثالثة: • لو قتل الأب ولده عمداً دفعت الدية منه إلى الوارث، ولا نصيب للأب. ولو لم يكن وارث فهي للإمام. ولو قتله خطأ فالدية على العاقلة. ويرثها الوارث. وفي توريث الأب هنا قولان.
ولو لم يكن وارث سوى العاقلة، فإن قلنا: الأب لا يرث، فلا دية. وإن قلنا: يرث، ففى أخذه من العاقلة تردّد.
وكذا البحث لو قتل الولد أباه خطاً.
----------------------------------
لأن المعتبر في التحمّل كونه من العاقلة، وهي مختصة بالعصبة بالنسبة إلى النسب، والقبيلة أعم من العصبة، فلا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، كما لا يخفى.
قوله: «لو أقرّ بنسب مجهول ألحقناه به فلو ادّعاه الآخر وأقام البيّنة قضينا له وأبطلنا الأول» إلى آخره.
لأنّ ذا البيّنة مقدّم على ذي اليد. ومع إقامة الثالث بيّنة بولادته على فراشه، يبنى على تقديم الخارج مع تعارض البينتين مطلقاً أو مع تسبّبها، فإن قلنا بأحدهما قدّم الثالث أيضاً كذلك. وهو الذي اعتمده المصنّف (رحمه اللّه) هنا وفيما سبق(1).
قوله: «لو قتل الأب ولده عمداً دفعت الدية منه إلى الوارث، ولا نصيب للأب. ولو لم يكن وارث فهى للإمام» إلى آخره.
لا شبهة في عدم استحقاق الأب القاتل عمداً في الدية ولا غيرها ممّا تركه الولد؛ لأنّ القاتل عمداً لا يرث مطلقاً.
ص: 667
الرابعة: • لا يضمن العاقلة عبداً ولا بهيمة ولا إتلاف مال ويختص بضمان الجناية على الآدمي حسب.
----------------------------------
وأمّا على تقدير قتله خطأ ففي مشاركته للورثة في التركة مطلقاً، أو في الدية، أو منعه مطلقاً، أقوال تقدّم البحث فيها في الميراث(1). وإنّما أعادها هنا ؛ لأنّه على تقدير القول بإرثه من الدية هل يأخذها من العاقلة أم لا؟ والأصحّ العدم.
قوله: «لا يضمن العاقلة عبداً ولا بهيمة ولا إتلاف مال» إلى آخره.
معنى عدم عقلها العبد أنه لو جنى على غيره جناية توجب الدية على العاقلة لو كان حرّاً لا يتعلّق بعاقلته، بل برقبته، كما لو جنى عمداً.
هذا هو المشهور بين الأصحاب ومنصوصهم. وفيه قول نادر بضمانهم جناية العبد كالحرّ ؛ عملاً بالعموم (2). وهو ضعيف.
وكذا لا يعقل عاقلة الإنسان ما تجنيه بهيمته جناية مضمونة، بل يكون على المالك.
وكذا لا يعقل العصبة قتل البهيمة خطاً، بل هى كسائر ما يتلفه من الأموال.
وأمّا جنايته على العبد خطاً فمقتضى قوله «ويختصّ بضمان الجناية على الآدمي حسب» أنّها تضمن كما تضمن جنايته على الحرّ. وهو أحد القولين في المسألة.
وقيل: لا تضمن الجناية عليه أيضاً، بل إنّما تعقل الديات والمأخوذ عن العبيد قيمة لا دية، كسائر قيم الأموال المتلفة. وبهذا قطع في التحرير (3)، وجعله تفسيراً لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا تعقل العاقلة عبداً»(4)، والأجود الأوّل.
ص: 668
الخامسة: • لو رمى طائراً وهو ذمّى ثمّ أسلم فقتل السهم مسلماً، لم يعقل عنه عصبته من الذمّة؛ لما بيّناه؛ ولأنّه أصاب وهو مسلم، ولا عصبته المسلمون؛ لأنّه رمى وهو ذمّي. وتضمن الدية في ماله.
وكذا لو رمى مسلم طائراً ثمّ ارتد فأصاب مسلماً، قال الشيخ: لم يعقل عنه المسلمون من عصبته، ولا الكفّار.
ولو قيل: يعقل عصبته المسلمون كان حسناً؛ لأنّ ميراثه لهم على الأصحّ.
----------------------------------
والظاهر من الحديث أنّها لا تعقل ما يجنيه العبد على غيره، كما لا يعقله مولاه أيضاً، بل يتعلّق برقبته.
قوله: «لو رمى طائراً وهو ذمّي ثمّ أسلم فقتل السهم مسلماً - إلى قوله - على الأصحّ».
هنا مسألتان: إحداهما إذا رمى الذمّي طائراً (1) فأسلم ثمّ أصاب إنساناً، فالدية في ماله، لا تضرب على عاقلته الذمّيين ولا المسلمين. أمّا الذمّيون فلما تقدّم من الحكم بأنّهم لا يتعاقلون بالنصّ(2). ولأنّهم لم يكونوا عاقلة عند الإصابة.
وأمّا المسلمون؛ فلأنهم لم يكونوا عاقلته عند الرمي، وإنّما يتحمّل من يكون عاقلته في الحالتين.
وعند العامّة أنّ الكافر يعقله مثله، ولكنّهم وافقونا هنا على حكم المسألة؛ لما ذكرناه من التعليل. وفرعوا على ذلك ما لو رمى وهو يهودي صيداً ثمّ تنصر ثمّ أصاب السهم إنساناً، فإن قلنا: إنّه يقرّ على ما انتقل إليه فالدية على عاقلته على أيّ دين كان؛ لأن الكفر ملّة واحدة. وإن قلنا: لا يقرّ عليه فهو مرتدّ لا عاقلة له، فتكون الدية في ماله.
ص: 669
وحيث أتينا بما قصدناه، ووفينا بما وعدناه، فلنحمد اللّه الذي جعلنا عند تبدّد الأهواء وتعدّد الآراء من المتمسّكين بمذهب أعظم العلماء استحقاقاً للعلاء، وأكرم النجباء إعراقاً في شرف الأمهات والآباء، المنتزعين من مشكاة الضياء، المتفرعين عن خاتم الأنبياء وسيّد الأوصياء. أظهر عظماء الأنام فهماً وبياناً، وأكثر علماء الإسلام علماً وعرفاناً المخصوصين بالنبوّة من منصب النبوّة، المختارين للإمامة من فروع صاحب الأخوّة. الذين أمر اللّه سبحانه بمودّتهم،
----------------------------------
الثانية: لو رمى طائراً وهو مسلم ثمّ ارتدّ ثمّ أصاب مسلماً، ففي عقل المسلمين من عصبته قولان:
أحدهما: العدم. ذهب إليه الشيخ في المبسوط (1)؛ نظراً إلى أنه أصاب في حال الردّة، والمرتدّ لا يعقله المسلم كما لا يعقل الذمّي.
والثاني: نعم. وهو الذي استحسنه المصنّف (رحمه اللّه) لأنّ المسلم وارث المرتدّ على الأصحّ، فيكون عقله عليه. وأمّا الكفّار فلا يعقلونه؛ لأنّه رمى وهو مسلم، ولأنّ ميراثه ليس لهم، ولأنّهم لا يعقلون الذمّي عندنا، فالمرتدّ أولى.
وهذا الخلاف يجري على القول بأن المسلم لا يعقل المرتد؛ نظراً إلى رميه وهو مسلم. أمّا لو قلنا بأنه يعقله فهنا أولى؛ نظراً إلى ابتداء الجناية حالة الإسلام.
والأصحّ مراعاة الابتداء والخاتمة كما مرّ، وهو يرجع هنا إلى اعتبار الخاتمة. نسأل اللّه تعالى حسنها، وسلامة عاقبتها في الدارين.
وحيث انتهت مسائل الكتاب هنا التي تعلّق الغرض ببحثها، فلنحمد اللّه تعالى على نعمه، ونسأل من جوده وكرمه أن يتقبل منا ما عملناه، وأن يسامحنا فيما أغفلناه أو أخطأناه. وأن يكتبه في صحائف الحسنات، ويجعله ذريعة إلى رفيع الدرجات، وأن يقرنه (2) برضاه،
ص: 670
وحثّ رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على التمسّك بهم، والعمل بسنّتهم حتّى قرنهم بالكتاب المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
ونسأله أن يقبضنا سالكين محجتهم، ممسكين بحجتهم، وأن يجعلنا من خلصاء شيعتهم الداخلين في شفاعتهم، إنه ولي ذلك.
تمّ كتاب شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام بحمد اللّه وحسبي توفيقه وصلاته على محمّد النبيّ وآله وسلامه.
----------------------------------
ويجعله خالياً عن شوب سواه، وأن يجعل ما بقي من أيّام هذه المهلة على طاعته موقوفاً. وعمّا يبعد عن مرضاته مصروفاً، إنه هو الجواد الكريم.
والحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فرغ من تعليقه مصنّفه العبد الفقير إلى عفو اللّه تعالى وكرمه زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي، منتصف نهار الإثنين ثامن شهر ربيع الآخر عام أربع وستين وتسعمائة، تقبل اللّه تعالى عمله، وغفر زلله، حامداً مصلياً مسلماً مستغفراً.
ص: 671