موسوعة الشهيد الثاني المجلد 25

هویة الکتاب

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجُزءُ الثَامِن عَشَر (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 9)

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة باقري

الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 268

حقوق الطبع محفوظة للناشر

موسوعة

الشهيد الثاني

الجُزءُ الخامس والعشرون

مَسَالِكُ الأَفْهَام

إلى تَنقيح

شَرائع الإسلام / 9

المركز العالي للعُلوم وَالثقافةِ الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

محرر الرقمي: محمّد رادمرد

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجُزءُ الخامس والعشرون

مَسَالِكُ الأَفْهَام

إلى تَنقيح

شَرائع الإسلام / 9

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

موسوعة الشهيد الثاني

الجُزءُ الخامس والعشرون (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 9)

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة: مطبعة باقري

الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 268

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534

ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن على 911-965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، 1434ق. = 2013م.

30 ج.

8 -74 - 5570 - 600 - 978 ISBN. (دوره)

1- 000- 195 -600 - 978 ISBN (ج5)

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا.

کتابنامه

مندرجات ج 17 - 28. مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام.-

1. اسلام - مجموعه ها 2 محقّق حلّی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسیر. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقّق حلّی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.

8م 92ش / 6 / 4 BP 08 / 297

ص: 4

دلیل

موسوعة الشهيد الثاني

المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأوّل = (1) منية المريد

الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة ؛ 3 التنبيهات العلّيّة؛ 4. مسكّن الفؤاد؛.5 البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل/ 2 : 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13. النيّة؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار؛ 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة ؛ 19. نيّات الحجّ والعمرة؛ 20. مناسك الحجّ والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفيّة.

الجزء الرابع = (31 - 43) الرسائل /3 : 31. تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبوليّة في الواجبات العينيّة؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34. وصيّةً نافعةٌ؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) لإجماعات نفسه؛ 38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفيّة

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصّر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

الجزء التاسع والعشرون = الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات

کتاب الجعالة

النظر في الإيجاب...23

فيما تصحّ الجعالة...25

شروط عوض الجعالة...26

شروط الجاعل والعامل...27

الجعالة جائزة من الطرفين...29

لو عقّب الجعالة على عمل معيّن بأخرى..32

أحكام الجعالة...34

لا يستحقّ العامل الأجرة إلّا إذا بذلها الجاعل أوّلاً...34

إذا بذل جعلاً فإمّا أن يعينه أو يطلق...35

إذا قال: من ردّ،عبدي فردّه جماعة...37

مسائل التنازع...41

لو اختلفا في الشرط...41

لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه...42

ص: 7

لو اختلفا في السعي...46

كتاب الأيمان

الأمر الأوّل: ما به تنعقد اليمين...47

عدم انعقاد اليمين بغير أسماء اللّه من المخلوقات... والأماكن...54

لا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة...56

الاستثناء بالمشيئة في اليمين يوقف اليمين عن الانعقاد...56

هل يدخل الاستثناء في الإقرار؟...60

حروف القسم...61

الأمر الثاني في الحالف...64

شروط الحالف...64

يمين الكافر...65

فيمن لا تنعقد منه اليمين...67

لو حلف بالصريح وادّعى عدم إرادة اليمين...69

الأمر الثالث في متعلّق اليمين...70

المطلب الأوّل فيما تنعقد عليه اليمين وما لا تنعقد عليه...70

المطلب الثاني في الأيمان المتعلّقة بالمأكل والمشرب...74

المطلب الثالث في المسائل المختصّة بالبيت والدار...97

المطلب الرابع في مسائل العقود...111

المطلب الخامس في مسائل متفرّقة...118

إذا لم يعيّن لما حلف وقتاً...118

البشارة اسم للإخبار الأوّل بالشيء السارّ...123

ص: 8

اسم المال يقع على العين والدين...125

إذا حلف أن لا يتكلّم هل يحنث بقراءة القرآن؟...126

الحنث يتحقّق بالمخالفة اختياراً...133

الأمر الرابع في اللواحق...135

الأيمان الصادقة كلّها مكروهة...135

هل اليمين الغموس محرّم؟...136

لا يجب التكفير إلّا بعد الحنث...140

لو أعطى الكفّارة كافراً أو من تجب عليه نفقته...141

لا يجزئ في التكفير بالكسوة إلّا ما يسمّى ثوباً...142

إذا مات وعليه كفّارة مرتبة ولم يوص...143

كتاب النذر

شروط الناذر...149

صيغة النذر...152

اشتراط نيّة القربة في النذر...154

متعلّق النذر وشرائطه...156

مسائل الحجّ...158

لو نذر الحجّ ماشياً...158

لو نذر أن يحج راكباً فمشى...165

حکم ناذر المشي في السفينة...166

لو نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام...167

لو نذر إن رزق ولداً يحجّ به أو يحج عنه ثمّ مات...170

ص: 9

لو نذر أن يحجّ ولم يكن له مال فحجّ عن غيره...171

مسائل الصوم...172

لو نذر صوم أيّام معدودة...172

لا ينعقد نذر الصوم إلّا أن يكون طاعةً...173

لا ينعقد نذر الصوم إذا لم يكن ممكناً...174

لو نذر صوم يوم معيّن فاتّفق في شهر رمضان...177

إذا وجب على ناذر صوم يوم معيّن صوم شهرين متتابعين...179

إذا نذر صوماً مطلقاً...180

لو نذر الصيام في بلد معيّن...181

لو نذر أن يصوم زماناً أو نذر حيناً...182

مسائل الصلاة...183

إذا نذر صلاة فأقل ما يجزئه ركعتان...183

لو نذر أن يفعل قربةً ولم يعيّنها...185

لو نذر الصلاة في وقت مخصوص...185

مسائل العتق...188

مسائل الصدقة...192

إذا نذر أن يتصدّق واقتصر...192

لو نذر الصدقة في موضع معيّن...194

لو نذر أن يتصدق بجميع ما يملكه...195

لو نذر أن يخرج شيئاً من ماله في سبيل الخير...198

مسائل الهدي...198

إذا نذر أن يهدي...198

ص: 10

لو نذر أن يهدي إلى بيت اللّه غير النعم...201

لو نذر نحر الهدي بمكّة أو بمنى، أو نذر بغير هذين...203

لو نذر أن يهدي بَدنَةٌ...204

لواحق النذر...206

كفّارة مخالفة النذر...206

إذا نذر صوم سنة معيّنة...206

لو نذر صوم الدهر...209

لو نذر صوم سنة غير معيّنة...210

إذا نذر أن يصوم أوّل يوم من شهر رمضان...214

نذر المعصية لا ينعقد...214

إذا عجز الناذر عمّا نذره...216

العهد حكمه حكم اليمين...218

هل ينعقد النذر والعهد بالضمير والاعتقاد؟...220

کتاب الصيد والذباحة

الأمر الأوّل فيما يؤكل صيده...226

الاصطياد بالحيوان...226

الاصطياد بالسيف والرمح والسهام وكلّ ما فيه نصل...230

شرائط صيرورة الكلب معلّماً...232

شروط المرسل....235

الأوّل: أن يكون مسلماً أو بحكمه...235

الثاني: أن يرسله للاصطياد...236

ص: 11

الثالث: أن يسمّي عند إرساله...237

الرابع: أن لا يغيب الصيد وحياته مستقرّة...241

الأمر الثاني في أحكام الاصطياد...243

لو أرسل المسلم والوثني آلتهما فقتلا الصيد...243

الاعتبار في حلّ الصيد بالمرسل لا بالمعلّم...245

لو أرسل كلبه على صيد وسمّى فقتل غيره...246

الصيد الذي يحلّ بقتل الكلب أو آلاته...248

لو رمى صيداً فتردّى من جبل أو وقع في الماء فمات...251

لو قطعت الآلة من الصيد شيئاً...251

الأمر الثالث في اللواحق...254

الاصطياد بالآلة المغصوبة...254

إذا عضّ الكلب صيداً كان موضع العضّة نجساً...255

إذا أرسل كلبه أو سلاحه فجرحه وأدركه حيّاً...256

ثبوت الملك على الصيد يحصل بأمور...261

الذباحة...263

شروط الذابح...263

ذبائح أهل الكتاب...263

عدم اشتراط الإيمان في الذابح...276

آلة الذبح...278

لا تصحّ التذكية إلّا بالحديد...278

هل تصحّ التذكية بالسنّ والظفر عند الضرورة؟...280

ص: 12

كيفية الذبح...281

الواجب قطع الأعضاء الأربعة...281

شروط التذكية:...283

الأوّل: أن يستقبل بها القبلة مع الإمكان...283

الثاني: التسمية...284

الثالث: اختصاص الإبل بالنحر وما عداها بالذبح...286

إبانة الرأس بالذبح عمداً هل هو محرّم أو مكروه؟...287

سلخ الذبيحة قبل بردها أو قطع شيءٍ منها هل محرّم أو مكروه؟...289

الرابع: الحركة بعد الذبح...290

مستحبّات الذبح...292

وقت ذبح الأضحيّة...293

مكروهات الذباحة...294

لواحق الذباحة...297

ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح...297

تذكية ما يتعذّر ذبحه أو نحره من الحيوان...298

إذا قطعت رقبة الذبيحة وبقيت أعضاء الذباحة حيّة...299

إذا نذر أضحيّة معيّنة زال ملكه عنها...301

لو نذر أضحيّة فذبحها يوم النحر غيره...302

ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّاً...304

ذكاة الجراد أخذه...309

ذكاة الجنين ذكاة أُمّه...310

خاتمة كتاب الصيد والذباحة...313

ص: 13

الأوّل في مسائل من أحكام الذباحة...313

وجوب متابعة الذبح حتّى يستوفي الأعضاء الأربعة...313

الثاني فيما تقع عليه الذكاة...315

ما لا تقع عليها الذكاة كالمسوخ والحشرات والآدمي...316

وقوع الذكاة على السباع...318

طهارة جلود السباع وما يقع عليه الذكاة بمجرّد الذكاة...319

الثالث في مسائل من أحكام الصيد...321

ما يثبت في آلة الصائد يملكه ناصبها...321

لو أطلق الصيد من يده هل يخرج عن ملکه؟...323

إذا رمى الأوّل صيداً فأثبته وقتله الثاني...325

إذا رمى الأوّل الصيد وجرحه الثاني ولم يقتله...327

ضمان دابّة أزمنها الأوّل ثمّ جرحها الثاني فهلكت بالجرحين...329

لو رمى الصيد اثنان فعقراه ثمّ وجد ميتاً...337

ما يقتله الكلب بالعقر أو بغيره...338

لو رأى صيداً فظنّه خنزيراً فقتله...338

الطير إذا صيد مقصوصاً لم يملكه الصائد...339

إذا أصابا صيداً دفعة...341

كتاب الأطعمة والأشربة

القاعدة الكلّية في معرفة ما يحلّ أكله وما يحرم...343

القسم الأوّل فى حيوان البحر...346

حكم ما ليس له فلس في الأصل...346

ص: 14

ما لا يؤكل من حيوان البحر....351

ما يوجد في جوف سمكة أخرى...352

لو اختلط الميّت بالحي بحيث لا يتميّز...354

حكم الجلّال من السمك...355

بيض السمك المحلّل حلال...355

القسم الثاني في البهائم....356

حلّيّة الأنعام الثلاثة وكراهية لحوم الحمولة الثلاثة....356

الحيوان الجلّال محرّم...359

استبراء الحيوان الجلّال...361

إذا وطئ الإنسان حيواناً مأكولاً حرم لحمه ولحم نسله...363

لو شرب شيء من الحيوان خمراً...365

ما يؤكل من الوحشية، وما يحرم منها...367

القسم الثالث في الطير...369

أصناف الطير المحرّم:...369

الأوّل: ما كان ذا مخلاب قويّ...369

حكم الغراب...370

الثاني: ما كان صفيفه أكثر من دفيفه...372

الثالث: ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصيّة...373

الرابع: ما يتناوله التحريم عيناً، كالخشاف والطاوس...374

حكم الخُطاف...375

المكروه من الطير...377

ما لا بأس به من الطيور...378

ص: 15

يعتبر في طير الماء ما يعتبر في الطير المجهول...379

حكم الطير الجلّال...380

بيض ما يؤكل من الطير حلال...381

المجثّمة والمصبورة حرام...382

القسم الرابع في الجامدات المحرّمة...382

الأوّل: الميتات المحرّمة....383

أجزاء الميتة التي لا تحلّها الحياة...384

إذا اختلط الذكيّ بالميتة...386

كلّ ما أبين من الحي فهو ميتة...388

الثاني: المحرّمات من الذبيحة...389

الثالث: الأعيان النجسة محرّمة...392

نجاسة ما باشره الكفّار...393

الرابع: أكل الطين حرام، إلّا تربة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...396

الخامس: السموم القاتلة محرّمة...398

القسم الخامس في المائعات المحرّمة...398

الأوّل: الخمر وكلّ مسكر والفقّاع...399

يحرم العصير إذا غلى...401

الثاني: الدم المسفوح نجس...405

لو وقع قليل من دم في قدرٍ...406

الثالث: كلّ ما حصل فيه شيء من النجاسات...407

الاستصباح بالدهن المتنجّس...408

يجوز بيع الأدهان النجسة...410

ص: 16

حكم أواني الكفّار التي استعملوها في المائعات...412

الرابع: هل يحرم أبوال ما يؤكل لحمه أم لا؟...415

الخامس: اللبن تابع للحيوان في الحلّ والحرمة...417

القسم السادس في اللواحق...417

لا يجوز استعمال شعر الخنزير اختياراً...417

الاستقاء بجلود الميتة...419

إذا وجد لحم ولا يدرى أذكيّ هو أم ميّت؟...420

لا يجوز أكل مال الغير إلّا في موارد...421

يحلّ الخمر إذا انقلبت خلّاً...424

لو أُلقي في الخمر خلّ، أو أُلقي في الخلّ خمر...425

حكم استعمال أواني الخمر...427

لا يحرم شيء من الربوبات والأشربة...430

یكره أكل ما باشره الجنب والحائض...430

النظر في حال الاضطرار...433

يجوز للمضطرّ أكل المحرّمات...433

تفسير المضطرّ...434

لا يترخّص الباغي ولا العادي...435

كيفية الاستباحة للمضطرّ...436

لو اضطرّ إلى طعام الغير وليس له الثمن...437

لو وجد ميتةً وطعام الغير...441

إذا لم يجد المضطرّ إلّا الآدمي ميناً أو حيّاً...443

لو لم يجد المضطرّ ما يلزم رمقه سوى نفسه...445

ص: 17

لو اضطرّ إلى شرب خمر وبول...445

لو لم يجد للشرب شيئاً إلّا الخمر...446

لا يجوز التداوي بالخمر وسائر المسكرات...447

خاتمة في الآداب....449

سنن الأكل:...449

غسل اليدين قبل الأكل وبعد الفراغ...449

مسح اليدين بالمنديل بعد الغسل الثاني...450

التسمية عند الشروع...451

حمد اللّه تعالى عند الفراغ...452

التسمية على كلّ لون عند الشروع في الأكل منه...453

مكروهات الأكل وهى أربعة...455

حرمة الأكل على مائدة يشرب عليها شيء من المسكرات...457

كتاب الغصب

النظر الأوّل في السبب...460

تعريف الغصب...460

من شرائط تحقّق الغصب استقلال الغاصب بإثبات اليد...463

يتحقّق غصب العقار كما يتحقّق غصب المنقول...464

لو سكن الدار مع مالكها قهراً....465

لو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب...468

الحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيراً...470

لو استأجر لعمل فاعتقله ولم يستعمله...471

ص: 18

لا تضمن الخمر إذا غصبت من مسلم...473

أسباب أخر يجب معها الضمان:...474

الأوّل: مباشرة الإتلاف...474

الثاني: التسبيب...474

إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان...476

لو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال غيره أو أجّج ناراً فيه...477

لو ألقى صبيّاً في مسبعة أو حيواناً يضعف عن الفرار...479

لو غصب شاةٌ فمات ولدها جوعاً...480

لو فك القيد عن الدابّة فشردت...480

لو فتح باباً على مال فسرق...481

لو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه...482

من أسباب الضمان القبض بالعقد الفاسد والقبض بالسوم...484

النظر الثانى فى الحكم...486

يجب ردّ المغصوب ما دام باقياً...486

لو مزج المغصوب بغيره مزجاً يشق تمييزه...487

لو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة...488

لو حدث في المغصوب عيب...489

لو تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله...491

لو غصب مثليّاً وتلف في يده وتعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض...493

إن لم يكن المغصوب مثليّاً ضمن قيمته يوم غصبه...494

الذهب والفضّة يضمنان بمثلهما...497

لو كان في المغصوب صنعة لها قيمة...499

ص: 19

لو كان المغصوب دابّة فجنى عليها الغاصب...500

لو غصب عبداً أو أمةً فقتله أو قتله قاتل...502

لو جنى الغاصب عليه بما دون النفس...503

كلّ جناية ديتها مقدّرة في الحرّ فهي مقدّرة في المملوك...505

إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل...507

لو غصب شيئين ينقص قيمة كلّ واحد منهما إذا انفرد عن صاحبه...508

لو أخذ فرداً من خفّين فتلف في يده...509

لو غصب مأكولاً فأطعمه المالك، أو أطعمه غير المالك...510

لو غصب فحلاً فأنزاه على الأُنثى...512

لو غصب ما له أجرة وبقي في يده حتّى نقص...512

لو أغلى الزيت فنقص به أو أغلى عصيراً فنقص وزنه...513

النظر الثالث في اللواحق...515

النوع الأوّل في لواحق أحكام الغصب...515

إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب...515

إذا غصب دهناً فخلطه بمثله...519

فوائد المغصوب مضمونة بالغصب...521

إذا تجدّد الكمال بعد النقصان...523

لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد ويضمنه...526

لو اشترى من غاصب ضمن العين والمنافع...527

ما يغترمه المشتري... فله الرجوع به على البائع...529

لو غصب مملوكة فوطئها...531

لو غصب مملوكةً فوطئها وكانا عالمين بالتحريم...535

ص: 20

إذا غصب حبّاً فزرعه أو بيضاً فاستفرخه...537

إذا غصب عصيراً فصار خمراً ثمّ صار خلّاً...538

لو غصب أرضاً فزرعها أو غرسها...539

إذا حصلت دابّة في دار لا تخرج إلّا بهدم...541

لو أدخلت دابّة رأسها في قدر وافتقر إخراجها إلى كسر القدر...542

إذا جنى العبد المغصوب عمداً فقتل...544

إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب...546

النوع الثاني في مسائل التنازع...547

إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة...547

إذا تلف وادّعى المالك صفةٌ يزيد بها الثمن...548

إذا باع الغاصب شيئاً ثمّ انتقل إليه بسبب صحيح...549

إذا مات العبد وادّعى الغاصب ردّه قبل موته...550

إذا اختلفا في تلف المغصوب...551

إذا اختلفا فيما على العبد من ثوب أو خاتم...552

ص: 21

ص: 22

كتاب الجعالة

النظر في الإيجاب

إشارة:

والنظر في الإيجاب والأحكام، واللواحق

• أما الإيجاب، فهو أن يقول : من ردّ عبدي، أو ضالّتي، أو فعل كذا، فله كذا.

-------------------------------------------------------------------

كتاب الجعالة

هي بتثليث الجيم، وكسرها،أشهر، وعليه اقتصر جماعة(1)، وآخرون على كسرها وفتحها (2). وهي كالجعل والجعلية - لغةً : اسم لما يجعل للإنسان على عمل شيء(3).

وشرعاً: التزام عوض معلوم على عمل.

والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: «وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير»(4)، وخبر الذي رقاه الصحابي بالفاتحة على قطيع من الغنم(5)، وفي بعض الروايات أنه أبو سعيد الخدري، والقطيع ثلاثون رأساً من الغنم. وأيضاً الحاجة قد تدعو إليها فجازت كالمضاربة والإجارة.

قوله: «أما الإيجاب فهو أن يقول: من ردّ عبدي» إلى آخره.

قد اختلف كلام الأصحّاب وغيرهم في الجعالة هل هي من قسم العقود أو الإيقاعات؟

ص: 23


1- راجع الصحاح، ج 3، ص 1656: ولسان العرب، ج 11، ص 111، «جعل».
2- راجع لسان العرب، ج 11، ص 111؛ والمصباح المنير، ص 102، «جعل».
3- لسان العرب، ج 11، ص 111، «جعل».
4- يوسف (12): 72.
5- مسند أحمد، ج 3، ص 367، ح 10602؛ صحیح مسلم، ج 4، ص 1727 - 1728، ح 22017/65 و 22017/66؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 265، ح 3418.

ولا يفتقر إلى قبول.

-------------------------------------------------------------------

فالمصنّف (رحمه اللّه) جعلها من الإيقاع وضعاً(1) وحكماً، حيث صرّح بعدم افتقارها إلى القبول وهو المطابق لتعريفهم لها، حيث جعلوها التزام عوض على عمل. ويؤيّده عدم اشتراط تعيين العامل، وإذالم يكن معيّنا لا يتصوّر للعقد قبول، وعلى تقدير قبول بعض لا ينحصر فيه إجماعاً.

ومنهم(2) من جعلها من العقود، وجعل القبول الفعلي كافياً فيها كالوكالة، والمنفي هو القبول اللفظي. وهو ظاهر كلام المصنّف فيما سيأتي حيث جعله عقداً جائزاً (3). والظاهر أنّه تجوز في ذلك؛ إذ لو كان عقداً عنده حقيقة لذكره في قسم العقود لا في قسم الإيقاعات، ومع ذلك فالجانب الآخر محتمل : لأنّه ذكر في قسم الإيقاعات ما هو عقد قطعاً كالكتابة(4)، لكن العذر له فيها أنّه استطردها مع العتق والتدبير وهما إيقاع جزماً، والعادة ذكر الثلاثة في محلّ واحد فجرى على ذلك هو وغيره(5).

وتظهر الفائدة فيما لو فعل العامل بغير قصد العوض، ولا قصد التبرّع بعد الإيجاب، فعلى الأوّل يستحقّ العوض؛ لوجود المقتضي له وهو الصيغة مع العمل. وعلى الثاني لا، وإن كان قد عمل؛ لأنّ المعتبر من القبول الفعلي ليس هو مجرد الفعل، بل لا بد معه من انضمام الرضى والرغبة فيه لأجله، كما نبه عليه في الوكالة (6).

واستقرب في الدروس استحقّاق العوض لو ردّ من لم يسمع الصيغة بقصد العوض، إذا كانت الصيغة تشمله(7).

ص: 24


1- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «وصفا» بدل «وضعاً».
2- كالعلّامة في تبصرة المتعلمين، ص 107؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 94 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- سيأتي عن قريب في المتن.
4- راجع ج 8، ص 427 وما بعدها.
5- كابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 355؛ ويحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع، ص 400 و 409؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 197 و 223 و 232.
6- راجع ج 4، ص 468 - 469.
7- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 94 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).

فيما تصحّ الجعالة

• وتصحّ على كلّ عمل مقصود محلل.

• ويجوز أن يكون العمل مجهولاً؛ لأنّه عقد جائز كالمضاربة.

-------------------------------------------------------------------

وهذا وإن كان محتملاً للأمرين إلّا أنّه بالأوّل أشبه؛ لأنّ قصد العوض ممّن لم يسمع الإيجاب لا يعد قبولاً مطلقاً، وإنّما فائدة قصد العوض فيه الاحتراز عمّا لو قصد التبرّع، فإنّه لا يستحقّ وإن سمع الصيغة. لكن يبقى ما لو خلا عن الأمرين ففعل لا بقصد التبرّع ولا بقصد العوض، والذي يناسب الاكتفاء بالإيجاب استحقّاقه هنا؛ لوجود المقتضي له.

قوله: «وتصحّ على كلّ عمل مقصود محلّل».

أي مقصود في نظر العقلاء، كالخياطة ورد الآبق والضالة، ونحو ذلك. و احترز به عمّا يجعل على فعل لمجرّد العبث كنزف البئر حيث لا غرض فيه، والذهاب

إلى موضع خطير لغير غاية مقصودة، ونحو ذلك.

وأراد بالمحلّل الجائز بالمعنى الأعمّ؛ ليشمل المباح والمندوب والمكروه حيث يكون مقصوداً، ولابدّ من إخراج الواجب منه، فلا تصحّ الجعالة عليه كما لا تصحّ الإجارة. ولو أُريد بالمحلل المباح لخرج غيره ممّا تصحّ الجعالة عليه، فينافي الحصر المستفاد من العبارة. وعلى التقديرين ففيها قصور، وإن كان الأوّل أولى.

قوله: «ويجوز أن يكون العمل مجهولاً؛ لأنّه عقد جائز كالمضاربة».

لما كان الغرض من مشروعية الجعالة تحصيل الأعمّال المجهولة غالباً، كرّد الآبق والضالّة، ومسافة ردّ الآبق لا تعرف غالباً - اغتفرت الجهالة في العمل المسيس الحاجة، كما دعت إلى احتمالها في عامل المضاربة. وإذا كنّا نحتمل الجهالة في القراض لتحصيل زيادة فلأن نحتملها في الجعالة لتحصيل أصل المال أولى.

وكما تصحّ الجعالة على العمل المجهول تصحّ على المعلوم بطريق أولى، خلافاً لبعض العامّة حيث خصها بالمجهول وجعل مورد المعلوم الإجارة (1)؛ وليس بشيء.

ص: 25


1- راجع الوجيز، ج 1، ص 415؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 337.

شروط عوض الجعالة

• أمّا العوض فلابدّ أن يكون معلوماً بالكيل، أو الوزن، أو العدد إن كان ممّا جرت العادة بعده. ولو كان مجهولاً ثبت بالردّ أجرة المثل، كأن يقول: «من ردّ عبدي فله ثوب أو دابّة».

-------------------------------------------------------------------

قوله: «أمّا العوض فلابدّ أن يكون معلوماً بالكيل» إلى آخره.

المشهور بين الأصحّاب اشتراط كون العوض معلوماً في صحّة الجعالة مطلقاً كما يشترط ذلك في عوض الإجارة - لأنّه لا حاجة إلى احتمال الجهالة فيه، بخلاف العمل، ولأنّه لا يكاد يرغب أحد في العمل إذا لم يعلم بالجعل، فلا يحصل مقصود العقد.

وفيه نظر؛ لأنّ مبنى الجعالة على الجهالة في أحد العوضين قطعاً، فصار أمرها مبنياً على احتمال الغرر وكما تمسّ الحاجة إلى جهالة العمل قد تمسّ إلى جهالة العوض، بأن لا يريد بذل شيء آخر غير المجعول عليه، إذ(1) لا يتّفق ذلك، بأن يريد تحصيل الآبق ببعضه وعمل الزرع ببعضه، ونحو ذلك.

ولا نسلّم أنّ ذلك ممّا لا يرغب فيه، بل العادة مطردة بالرغبة في أعمال كثيرة مجهولة بجزء منها مجهول، وإنّما التوقف في صحة ذلك.

ولإطباقهم على صحة الجعالة مع عدم تعيين الجعل ولزوم أُجرة المثل، مع أنّ العمل الذي يثبت عليه أجرة مثله غير معلوم عند العقد، بل يحتمل الزيادة والنقصان. وقد ورد النص بجواز جعل السلب للقاتل (2) من غير تعيين، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من قتل قتيلاً فله سلبه»(3) وهي جعالة على عمل مجهول.

ولذلك ذهب بعض الأصحّاب(4) إلى جواز الجهالة في العوض حيث لا يمنع من التسليم كنصف العبد الآبق إذا ردّه، ومنه سلب المقتول من غير تعيين؛ لأنّ ذلك معيّن في حدّ ذاته

ص: 26


1- في بعض النسخ: «أو» بدل «إذ».
2- راجع مسند أحمد، ج 7، ص 41 - 42، ح 23467؛ وصحيح مسلم، ج 3، ص 1374، ح 1753/44.
3- مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 134: صحیح مسلم، ج 3، ص 1371، ح 1751/41؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 70، ح 2717.
4- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 216.

شروط الجاعل والعامل

• ويعتبر في الجاعل أهليّة الاستئجار، وفي العامل إمكان تحصيل العمل.

-------------------------------------------------------------------

لا يفضي إلى التنازع، بخلاف جعل العوض ثوباً ودابّةً ونحو ذلك ممّا يختلف كثيراً وتتفاوت أفراده قيمةً تفاوتاً عظيماً يؤدّي إلى التنازع والتجاذب بخلاف الأوّل، ولا دليل على فساد مثل ذلك.

إذا تقرّر ذلك، فالمعتبر من العلم بالعوض على القول به ما يعتبر في عوض الإجارة، فيكفي فيه المشاهدة عن اعتباره بأحد الأمور الثلاثة حيث يكتفى بها في الإجارة بطريق أولى.

وحيث كان العوض مجهولاً ولم نقل بصحته فسد العقد، وثبت بالعمل أجرة المثل. ومثله ما لو قال: «إن فعلت كذا فأنا أرضيك وأعطيك شيئاً»، ونحو ذلك. وربما قيل بعدم فساد العقد بذلك، وأن أجرة المثل حينئذٍ هي العوض اللازم للعمل بواسطة الجعالة (1). وهو بعيد.

قوله: «ويعتبر في الجاعل أهلية الاستئجار، وفي العامل إمكان تحصيل العمل».

ملتزم الجعل يعتبر أن يكون مطلق التصرف، وإليه أشار بقوله «يعتبر فيه أهليّة الاستئجار». وإنّما خصّ الإجارة بالذكر؛ لأنّها أشبه بالجعالة من البيع وغيره؛ لأنّ كلّ واحد منهما مقابلة (2) منفعة بمال، ولا يعتبر ذلك في العامل؛ لما ذكرناه من أن ركنها الجاعل فلو ردّ الصبيّ المميز ولو بدون إذن وليه والمحجور عليه استحقّ الجعل، وفي غير المميّز والمجنون وجهان من حصول،الغرض، وعدم القصد إلى العوض. وقد تقدّم الكلام على هذا الشرط (3).

نعم، يشترط فيه إمكان تحصيل العمل بنفسه إن شرط عليه المباشرة، أو مطلقاً إن لم يشترط. والمراد بالإمكان ما يشمل العقلي والشرعي؛ ليخرج منه الكافر لو كان العمل المجعول عليه استيفاء الدين من المسلم.

ولو كان ردّ عبد مسلم ففي تناوله للذمّي وجهان من اقتضائه إثبات يده عليه الموجب

ص: 27


1- راجع إيضاح الفوائد، ج 2، ص 163.
2- في بعض النسخ: «يقابله» بدل «مقابلة».
3- تقدم في ص 24.

• ولو عيّن الجعالة لواحد فرد غيره كان عمله ضائعاً.

• ولو تبرع أجنبي بالجعل وجب عليه الجعل مع الردّ.

• ويستحقّ الجعل بالتسليم، فلو جاء به إلى البلد ففرّ لم يستحقّ الجعل.

-------------------------------------------------------------------

للسبيل المنفيّ(1)، ومن ضعف السبيل بمجرّد ردّه. والأقوى الجواز ما لم يكن الجعل ممتنعاً في حقّه، بأن كان العوض بعضه.

قوله: «ولو عيّن الجعالة لواحد فردّ غيره كان عمله ضائعاً».

لأنّه متبرّع حيث لم يبذل له أُجرة ولا لمن يشمله. هذا إذا شرط على المجعول له العمل بنفسه أو قصد الراد العمل لنفسه أو أطلق. أما لو ردّه نيابةً عن المجعول له - حيث يتناول الأمر النيابة كان الجعل لمن جعل له.

قوله: «ولو تبرّع أجنبي بالجعل وجب عليه الجعل مع الردّ».

كما يصحّ بذل المال عن العمل للباذل يصحّ عن غيره ؛ لأنّ ذلك أمر مقصود للعقلاء فيتناوله الإذن في الجعالة، بخلاف المعاوضة للغير بماله. وحينئذٍ فيلزم الباذل ما جعله مع ردّه إلى المالك أو إليه على حسب ما شرط، ولا يلزم المالك شيء للعامل ولا للباذل.

قوله: «ويستحقّ الجعل بالتسليم فلو جاء به إلى البلد ففرّ لم يستحقّ الجعل».

المراد أنّ إطلاق الردّ محمول على تسليمه إلى المالك، فلا يكفي إيصاله إلى البلد، ولا إلى بيت المالك مع عدم قبضه له؛ لأنّه لم يردّه إليه، كما لو استأجره لخياطة ثوب فخاطه ولم يسلّمه حتّى تلف لم يستحقّ أُجرة.

ولا فرق مع عدم وصوله إلى يد المالك بين فراره وموته؛ لاشتراكهما في المقتضي. والفرق بين الموت والهرب من حيث عدم التقصير في الأوّل ضعيف؛ إذ لا دخل في ذلك لاستحقّاق الجعل على العمل المخصوص المنتفي في الصورتين.

ص: 28


1- النساء (4): 141.

الجعالة جائزة من الطرفين

• والجعالة جائزة قبل التلبّس، فإن تلبس فالجواز باق في طرف العامل، ولازم من طرف الجاعل، إلّا أن يدفع أجرة ما عمل.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «والجعالة جائزة قبل التلبّس» إلى آخره.

لا خلاف في أن الجعالة من الأمور الجائزة من الطرفين، بمعنى تسلّط كلّ من المالك والعامل على فسخها قبل التلبّس بالعمل وبعده، سواء جعلناها عقداً أم إيقاعاً؛ لأنّها من حيث عدم اشتراط القبول فيها بمنزلة أمر الغير بعمل له أجرة، فلا يجب المضي فيه من الجانبين.

ثمّ إن كان الفسخ قبل التلبّس فلا شيء للعامل؛ إذ ليس هناك عمل يقابل بعوض، سواء كان الفسخ من قبله أم من قبل المالك.

وإن كان بعد التلبّس وكان الفسخ من العامل فلا شيء له؛ لأنّ المالك لم يجعل له العوض إلّا في مقابلة مجموع العمل من حيث هو مجموع، فلا يستحقّ على أبعاضه؛ ولأن غرض المالك لم يحصل، وقد أسقط العامل حقّ نفسه حيث لم يأت بما شرط عليه العوض، كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، بخلاف الإجارة والفرق أنّها لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد وتستقر شيئاً فشيئاً، والجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلّا بالشرط ولم يوجد.

وإن كان الفسخ من المالك فعليه للعامل عوض ما عمل؛ لأنّه إنّما عمل بعوض لم يسلم له، ولا تقصير من قبله، والأصل في العمل المحترم الواقع بأمر المالك أن يقابل بالعوض.

وهل العوض الواجب له حينئذٍ أجرة مثل ما عمل أم بنسبة ما فعل إلى المجموع من العوض المبذول؟ وجهان أظهرهما الثاني؛ لأنّه العوض الذي اتّفقا عليه.

ووجه الأوّل: أنّه بالفسخ بطل حكم العقد، ولما كان العمل محترماً جبر بأجرة المثل كما لو فسخ المالك القراض.

وفيه: ما مرّ من أنّ تراضيهما إنّما وقع على العوض المعيّن فلا يلزم غيره، خصوصاً مع زيادة أجرة المثل عنه؛ لقدومه حينئذٍ على أن لا يستحقّ سواه. والفرق بينه وبين عامل القراض واضح؛ لأنّ المشروط للعامل في القراض جزء من الربح، فقبل ظهوره لا وجود له

ص: 29

-------------------------------------------------------------------

ولا معلوميّة حتّى ينسب إليه ما فعل بخلاف جعل عامل الجعالة، فإنّه مضبوط على وجه يمكن الاعتماد على نسبته.

إذا تقرّر ذلك فنقول: حكم المصنّف بلزومها من طرف الجاعل بعد التلبّس من حيث ثبوت (1) أجرة ما مضى من العمل عليه لا يقتضي اللزوم؛ لأنّ المراد من العقد الجائز والإيقاع جواز تسلّط كلّ منهما على فسخه، سواء ترتب على ذلك لزوم عوض في مقابلة العمل أم لا. والأمر هنا كذلك. ومجرد افتراق الحكم في فسخه من قبلهما بوجوب العوض إذا كان الفاسخ المالك دون العامل لا يقتضي اللزوم من طرف كما في القراض، فإنّه عقد جائز اتّفاقاً مع أنّ المالك لو فسخ قبل ظهور الربح فعليه أجرة المثل للعامل، ولا يخرج القراض بذلك عن الجواز من طرفه، فالأولى أن يقال: إنه جائز من الطرفين، لكن الحكم يختلف بما ذكر. إنه يفهم من قوله أنّه: «لازم من طرف الجاعل إلّا أن يدفع أجرة ما عمل أنّ فسخه متوقف على دفع الأجرة. وليس كذلك إجماعاً، بل متى فسخ لزمه الأجرة، وبطل حكم العقد من حين الفسخ إذا علم العامل به، سواء دفع الأجرة أم لا. ولو لم يعلم إلى أن أكمل العمل استحقّ تمام العوض، كالوكيل إذا لم يعلم بالعزل.

وربما استشكل الحكم بعدم وجوب عوض لما بعد الفسخ فيما إذا كان الجعل على ردّ الضالة ثمّ فسخ وقد صارت بيده فإنه لا يكاد يتحقّق للفسخ معنى حينئذٍ ؛ إذ لا يجوز له تركها، بل يجب تسليمها إلى المالك أو من يقوم مقامه، فيتمّ العمل.

ويمكن الجواب بأنّ فائدة البطلان مع الفسخ حينئذٍ أنّه لا يجب عليه السعي على إيصالها إلى المالك، وإنّما يجب عليه إعلامه بها، فإن كان قد بقي لردها مقدار معتد به من العوض فالفائدة ظاهرة، وإن لم يكن بقي فالساقط هو ما قابل ذلك المتخلف، ولا يحصل به نقص معتد به على العامل. ولو توقف إيصالها أو خبرها إلى المالك على عمل يقابل بأجرة أمكن ثبوت أُجرة المثل لذلك العمل؛ لأنّه عمل محترم مأذون فيه شرعاً مبتدأ بإذن المالك،

ص: 30


1- في بعض النسخ: «لزوم» بدل «ثبوت».

-------------------------------------------------------------------

فلا يضيع على العامل، ويظهر للفسخ معنى على التقديرين.

بقي في المسألة أُمور:

الأوّل: استثنى في الدروس من عدم وجوب شيء لو كان عدم إكمال العمل من قبل العامل ما إذا كان الجعل على نحو خياطة ثوب، فخاط بعضه ثمّ مات أو منعه ظالم، فإنّه يثبت له حصة من العوض، واحتمل ثبوتها مطلقاً، وكذلك قوى الاستحقّاق في ذلك مع الموت(1). ولا بأس بذلك. أما نحو ردّ العبد فلا إشكال في عدم استحقّاق شيء؛ لأنّه أمر واحد لا يتقسّط العوض على أجزائه، بخلاف خياطة الثوب، ومثلها ما لو كان الجعالة على بناء حائط أو تعليم القرآن، وفي حكم موت العامل هنا موت المتعلّم. ولو تلف الثوب في الأثناء، فإن كان في يد الخياط لم يستحقّ شيئاً؛ لأنّ الاستحقّاق مشروط بتسليمه ولم يحصل، وإن تلف فى يد مالك الثوب استحقّ من العوض بنسبة ما عمل والفرق بينه وبين موت الصبيّ أنّ الصبيّ يقع مسلّماً بالتعليم (2) بخلاف الثوب.

الثاني لو فسخ العامل ثمّ أراد العمل بالجعل فهل ينفسخ العقد، أم يستمرّ إيجاب الجاعل؟ يبنى على أن الجعالة هل هي عقد أم لا؟

فعلى الأوّل يحتمل الانفساخ ؛ لأنّ ذلك هو قضية العقد الجائز، فلا يستحقّ بالعمل بعد ذلك شيئاً، سواء علم المالك بفسخه أم لا، ويحتمل عدمه؛ لأنّ العبرة بإيجاب المالك وإذنه في العمل بعوض، وذلك أمر لا قدرة للعامل على فسخه، وإنّما تركه للعمل في معنى الفسخ. ومثله ما لو فسخ الوكيل الوكالة ثمّ فعل مقتضاها، ويمكن الفرق بين ما لو عمل قبل علم المالك بفسخه وبعده. ومثل هذا الخلاف جار في الوكالة.

وعلى الثاني يتّجه عدم بطلانها؛ لفسخه واستحقّاقه العوض بالفعل؛ لأنّها عبارة عن الإيجاب والإذن في الفعل، وحكمه بيد الآذن لا بيد غيره. ومعنى قولهم: «يجوز للعامل

ص: 31


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 96 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- في بعض النسخ: «بالتعلّم» بدل «التعليم».

لو عقّب الجعالة على عمل معيّن بأخرى

• ولو عقّب الجعالة على عمل معيّن بأخرى، وزاد في العوض أو نقص عمل بالأخيرة.

-------------------------------------------------------------------

الفسخ» أنّه لا يجب عليه الوفاء بالعمل، سواء شرع فيه أم لا، بل يجوز له تركه متى شاء وإن بقي حكم الآذن.

الثالث ممّا يترتّب على جوازها بطلانها بموت كلّ منهما. فإن كان ذلك قبل العمل فلا شيء، وإن كان بعد الشروع فيه فللعامل بنسبة ما عمل إن كان العمل ممّا يتوزع على أجزائه الأجرة، وإن كان نحو ردّ الآبق وقد حصل في يده قبل الموت فكذلك، وإن لم يحصل فلا شيء، وقد تقدم.

قوله: «ولو عقب الجعالة على عمل معيّن بأخرى» إلى آخره.

كما يجوز فسخ المالك أصل الجعالة واهماً لها رأساً، يجوز في قيودها من المكان، والزمان، وصفات الجعل بالزيادة والنقصان والجنس والوصف قبل التلبّس بالعمل وبعده قبل إكماله. فإذا عقب الجعالة على عمل معيّن بأخرى، وزاد أو نقص أو غير بعض ما ذكر، كما إذا كان قد قال: «من ردّ عبدي فله مائة درهم» ثمّ قال: «من ردّه فله خمسون أو فله دينار» فقد فسخ الجعالة الأُولى وجعل بدلها أُخرى.

فإن كان قبل أن يشرع في عمل الأولى عمل بالأخيرة، وسعيه على الردّ من غير أن يتسلّم العبد كما لو كان قبل العمل؛ لأنّه هنا هو الردّ والذهاب إليه من مقدماته لا منه نفسه. ولو كان في الأثناء، كما إذا كان قد قال: «من خاط ثوبي» أو «إن خطته فلك مائة»، فشرع خياطته، ثمّ قال له: إن خطته فلك دينار فله من المائة بنسبة ما عمل قبل الجعالة الثانية، ومن الدينار بنسبته إذا أكمل العمل. ولو ترك العمل بعد جعالته الثانية فله بنسبة ما مضى أيضاً؛ لما ذكرناه من أن ذلك رجوع عن الأولى، وهو من جهة المالك يوجب ذلك كما مرّ.

هذا كلّه إذا كان قد سمع الجعالتين. أمّا لو سمع إحداهما خاصّة فالعبرة بما سمعه لا غير.

ص: 32

-------------------------------------------------------------------

ومَنْ أوجب مع الفسخ في الأثناء أجرة المثل لما مضى أوجبه هنا أيضاً(1). ويبقى في وجوب العوض للثانية بنسبة ما بقي إشكال من حيث إنّه إنّما جعل العوض الثاني على مجموع العمل ولم يحصل ويفارق الحكم الأوّل بالنسبة من جهة حصول الفسخ فيها من قبل المالك فلا يضيع عمل العامل، بخلاف الثانية؛ فإنّه لم يقع فيها فسخ خصوصاً مع علم العامل بالحال، فإنّ عمله حينئذٍ للمتخلف واقع بغير عوض مبذول من المالك في مقابلته؛ لأنّ الجعالة لا تقابل بالأجزاء إلّا فيما استثني سابقاً، وهذا ليس منه.

ويمكن توجيهه بأنّ عمل العامل بأمر المالك بالعوض المعيّن وقد أتمّه، ولا سبيل إلى وجوب العوض الأوّل خاصّة، للرجوع عنه، ولا إلى مجموع الثاني؛ لأنّه لم يعمل مجموع العمل بعد الأمر به ولا سبيل إلى الرجوع إلى أجرة المثل؛ لأنّ العوض معيّن، فلم يبق إلّا الحكم بالتوزيع.

ولو كان التعيين في الثانية بالزمان والمكان كما إذا كان قد قال: «من ردّ عبدي من الشام فله مائة»، ثمّ قال: «من ردّه من بغداد فله دينار»، أو قال أولاً: «من ردّه يوم الجمعة فله مائة» ثمّ قال: «من ردّه يوم السبت فله دينار» ونحو ذلك، فالظاهر عدم المنافاة، فيلزم ما عيّن لكلّ واحد من الوصفين لمن عمل فيه.

وكذا لو كان الأوّل مطلقاً بأن قال: «من ردّه فله مائة» والثاني مقيداً بزمان أو مكان. فإن كان العوض الأوّل أقلّ فلا منافاة؛ لجواز اختصاص المقيد بأمر اقتضى الزيادة.

وكذا لو كان الجنس مختلفا مطلقاً. وإن اتّفق وكان المقيد أنقص احتمل كونه رجوعاً ؛ لأنّه إذا ردّه مع القيد فقد ردّه مطلقاً، فلو استحقّ الزائد لذلك لزم أن يلغو القيد، وأن يجمع بينهما بحمل المطلق على غير صورة المقيّد. وهذا أظهر، وإن كان في بعض فروضه لا يخلو من نظر بدلالة القرينة كما إذا كان المكان أو الزمان أقرب من المقيّد.

ص: 33


1- راجع تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 443، المسألة 502.

أحكام الجعالة

لا يستحقّ العامل الأجرة إلّا إذا بذلها الجاعل أوّلاً

وأمّا الأحكام، فمسائل

الأولى: • لا يستحقّ العامل الأُجرة إلّا إذا بذلها الجاعل أوّلاً.

ولو حصلت الضالة في يد إنسان قبل الجعل لزمه التسليم، ولا أُجرة.

• وكذا لو سعى في التحصيل تبرّعاً.

-------------------------------------------------------------------

وأطلق الأصحّاب كون الثانية رجوعاً من غير تفصيل، فيشمل جميع ذلك، لكنّه محمول على ما لو كانت الجعالتان مطلقتين، أما مع التقييد فلابدّ من التفصيل.

قوله: «لا يستحقّ العامل الأجرة إلّا إذا بذلها الجاعل أولاً» إلى آخره.

إذا حصلت الضالة في يد إنسان قبل الجعل، أو عمل غيرها من الأعمّال كان كالمتبرّع بعمله، فلا يستحقّ عليه أجرة لما مضى لذلك، ولا للتسليم؛ لوجوبه عليه إما بالرد أو إعلام المالك بحالها أو التخلية بينه وبينها.

وفصل في التذكرة حسناً فقال:

إذا ردّه من كان المال بيده قبل الجعل نظر، فإن كان في ردّه من يده كلفة ومؤونة- كالعبد الآبق - استحقّ الجعل وإن لم يكن كالدراهم والدنانير - فلا، فإنّ ما لا كلفة فيه لا يقابل بالعوض(1).

قوله: «وكذا لو سعى في التحصيل تبرّعاً».

لا فرق مع سعيه تبرّعاً بين وقوع السعي بدون جعالة من المالك كما هو الظاهر من مراد العبارة - وبين وقوعه بعد الجعالة لكن العامل نوى التبرّع، إمّا لكونه لم يسمع الجعالة، أو لأنّه سمعها ولكن قصد عدم العوض بسعيه، فإنّه لا شيء له على التقديرين. وإنّما المعتبر مع الجعالة عمله بنيّة الأجرة أو مطلقاً، على ما يأتي في هذا القسم.

ص: 34


1- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 434، المسألة 493.

إذا بذل جعلاً فإمّا أن يعينه أو يطلق

الثانية • إذا بذل جعلاً فإن عيّنه فعليه تسليمه مع الردّ، وإن لم يعينه لزم مع الردّ أجرة المثل، إلّا في ردّ الأبق، على رواية أبي سيار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جعل في الآبق ديناراً إذا أخذ في مصره، وإن أخذ في غير مصره فأربعة دنانير».

وقال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط : هذا على الأفضل لا الوجوب.

والعمل على الرواية ولو نقصت قيمة العبد.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا بذل جعلاً فإن عينه فعليه تسليمه مع الردّ» إلى آخره.

المالك إمّا أن يعين الجعل ويصفه بما يرفع الجهالة كقوله: «من ردّ عبدي فله دينار» أو يطلق العوض مع التعرّض لذكره كقوله: «فله على أجرة» أو «عوض» أو نحو ذلك، أو يستدعي الردّ من غير أن يتعرّض للأجرة، أو لا يستدعي أصلاً ويعمل له العامل مطلوبه بأن برد ضالته أو يخيط ثوبه ابتداءً.

ففي الأوّل يلزم ما عيّن بتمام العمل إذا لم يفعله العامل بنيّة التبرّع، وهذا لا إشكال فيه.

وفي الثاني يلزم أجرة المثل، إمّا لفساد العقد أو بدونه على ما مرّ تحقيقه، إلّا في موضع واحد، وهو ما إذا استدعى ردّ الآبق كذلك، فإنّه يثبت برده من مصره دينار ومن غيره أربعة على المشهور بين الأصحّاب.

ومستنده رواية مسمع بن عبد الملك أبي سيّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جعل في جعل الآبق ديناراً إذا أخذه في مصره، وإن أخذه في غير مصره فأربعة دنانير» (1).

وفي طريق الرواية ضعف عظيم بمحمّد بن الحسن بن شمّون، فإنّه غال وضّاع(2)، وعبداللّه بن عبد الرحمن الأصمّ، وحاله كذلك وزيادة (3)، وسهل بن زياد وحاله مشهور(4).

ص: 35


1- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 398 - 399، ح 1203.
2- راجع رجال النجاشي، ص 335، الرقم 899.
3- راجع رجال النجاشي، ص 217، الرقم 566.
4- راجع رجال النجاشي، ص 185، الرقم 490.

• وقيل: الحكم في البعير كذلك. ولم أظفر فيه بمستند.

-------------------------------------------------------------------

ونزلها الشيخ على الأفضل(1). ولا بأس به؛ للتساهل في دليل الفضل.

والمصنّف (رحمه اللّه) عمل بمضمونها وإن نقصت قيمة العبد عن ذلك؛ نظراً إلى إطلاق النصّ، وضعفه يمنع من التهجم على هذا القول البعيد.

وتمادى الشيخان في النهاية (2) والمقنعة (3)، فأثبتا ذلك وإن لم يستدع المالك الردّ؛ نظراً إلى إطلاق الرواية.

ووافق ابن إدريس - مع اطّراحه لخبر الواحد مطلقاً(4) - على أصل الحكم في غير صورة التبرّع(5).

وذهب بعضهم إلى وجوب أقلّ الأمرين من المقدار المذكور وقيمة العبد(6)؛ حذراً من إلزام المالك بزيادة عن ماله لأجل تحصيله.

والأصحّ الإعراض عن هذا الحكم أصلاً لما ذكرناه من ضعف المستند، واختلاف الأصحّاب في الحكم على وجه لا يجبر ضعفه على قواعدهم.

واعلم أنّه على القول بالمقدّر الشرعي لا فرق في العبد بين الصغير والكبير، والمسلم والكافر، والصحيح والمعيب، ولا يتعدّى إلى الأمة. أما البعير فعلى القول بإلحاقه يشمل الذكر والأنثى؛ لأنّه بمنزلة الإنسان في تناوله لهما.

قوله: «وقيل: الحكم في البعير كذلك. ولم أظفر فيه بمستند».

ص: 36


1- المبسوط، ج 3، ص 168.
2- الشيخ الطوسي في النهاية، ص 323 - 324.
3- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 648 - 649.
4- السرائر، ج 1 ص 51 و 52.
5- السرائر، ج 2، ص 109
6- راجع إيضاح الفوائد، ج 2، ص 164؛ وحاشية شرائع الاسلام، ج 2، ص 405 (ضمن حياة المحقّق الكركي و آثاره، ج 11).

إذا قال: من ردّ،عبدي فردّه جماعة

• أما لو استدعى الردّ ولم يبذل أُجرة لم يكن للراد شيء؛ لأنّه متبرّع بالعمل.

الثالثة: • إذا قال: «من ردّ عبدي فله دينار» فردّه جماعة كان الدينار لهم جميعاً بالسويّة؛ لأنّ العمل حصل من الجميع لا من كلّ واحد.

أمّا لو قال: «من دخل داري فله دينار»، فدخلها جماعة كان لكلّ واحد دينار؛ لأن العمل حصل من كلّ واحد.

-------------------------------------------------------------------

القائل بإلحاق البعير بالآبق المفيد (رحمه اللّه) وقال بذلك ثبتت السنّة(1). وهو يشعر بورود نصّ فيه، ولم يقف عليه المصنّف (رحمه اللّه) ولا غيره، فوجب اطراحه وإلحاقه بغيره ممّا يوجب أجرة المثل مع عدم تعيين العوض.

قوله: «أما لو استدعى الردّ ولم يبذل أجرة لم يكن للراد شيء؛ لأنّه متبرّع بالعمل».

هذا الحكم شامل لمسألة الآبق وغيرها. والتنبيه فيها على خلاف الشيخين (رضي اللّه عنهما)(2).

ووجه عدم لزوم الأجرة حينئذٍ عدم التزامه بالأجرة، والأصل براءة ذمّته منها، وطلبه أعمّ من كونه بأجرة ومجّاناً، فلا يجب عليه شيء؛ لأنّ العامل حينئذٍ متبرّع حيث قدم عليه من غير بذل. وفيه، منع كونه متبرّعاً وإنّما عمل بالأمر، والفرض أن لمثله أجرة فيجب، كما مر في الإجارة من أن من أمر غيره بعمل له أجرة في العادة يلزمه مع العمل أجرته (3). والمصنّف (رحمه اللّه) وافق على ذلك ثَمَّ(4)، وهذا من أفراده فوجوب الأجرة متى طلب أقوى، ما لم يصرّح بالتبرّع أو يقصده العامل.

قوله: «إذا قال: من ردّ عبدي فله دينار» إلى آخره.

إذا جعل على فعل، فإن لم يقبل التعدّد فالعوض لازم بفعله للفاعل، سواء كان متّحداً أم

ص: 37


1- المقنعة، ص 648-649.
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 648 - 649؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 323 - 324. حيث أطلقا وجوب الأجرة في ردّ الأبق والبعير.
3- مرّ في ج 4، ص 460 - 461.
4- مرّ في ج 4، ص 460 - 461.

فروع:

الأوّل: • لو جعل لكلّ واحد من ثلاثة جعلاً أزيد من الآخر، فجاؤوا به جميعاً، كان لكلّ واحد ثلث ما جعل له ولو كانوا أربعة كان له الربع، أو خمسة فله الخمس. وكذا لو ساوى بينهم في الجعل.

-------------------------------------------------------------------

متعدّداً، حيث تكون الصيغة شاملة للمتعدّد كقوله: «من ردّ عبدي فله دينار» فإنّ «من» عامّة تشمل ما إذا ردّه واحد وأكثر، والردّ لا يتعدد. فلو اشترك جماعة في رده فليس لهم إلّا عوض واحد.

وإن كان الفعل يقبل التعدّد كدخول الدار والصيغة تشمل الفاعل المتعدّد، ففعل كلّ واحد منهم ذلك الفعل استحقّ كلّ واحد العوض؛ لصدق الاسم على كلّ واحد منهم؛ إذ يصدق على كلّ واحد منهم أنه دخل الدار، ولا يصدق على كلّ واحد أنّه ردّ الابق، بل الفعل مستند إلى المجموع من حيث هو مجموع، وهو فعل واحد. ولابدّ من اعتبار غاية معتد بها في الجعل على دخول الدار وإلّا لم يصحّ، كما سلف من اعتبار ذلك في أصل الجعالة.

ونظير الدخول ما لو قال: «من ردّ عبداً من عبيدي فله دينار» فردّ كلّ واحد منهم عبداً، فإنّ كلّ واحد يستحقّ الدينار؛ لوجود الفعل من كلّ واحد على انفراده.

قوله: «لو جعل لكلّ واحد من ثلاثة جعلاً أزيد من الآخر» إلى آخره.

إذا جعل لكلّ واحد جعالة منفردةً على عمل فإما أن يساوي بينهم في الجعل، أو يخالفه بالزيادة والنقصان والجنس، أو يعين لبعض ويطلق لبعض. والفعل إمّا أن يقبل الاختلاف في العمل كخياطة الثوب، أو لا يقبل كردّ العبد.

فإذا اشتركوا في العمل، وكان ممّا لا يختلف، فلكلّ واحد منهم بنسبة ما جعل له من مجموع العاملين. وإن اختلف فلكلّ واحد بنسبة عمله من المجموع، ولمن لم يعيّن له من اجرة المثل بنسبة ذلك.

ص: 38

الثاني: • لو جعل لبعض الثلاثة جعلاً معلوماً ولبعضهم مجهولاً، فجاؤوا به جميعاً، كان لصاحب المعلوم ثلث ما جعل له وللمجهول ثلث أجرة مثله.

الثالث: • لو جعل لواحد جعلاً على الردّ فشاركه آخر في الردكان للمجعول له نصف الأجرة؛ لأنّه عمل نصف العمل، وليس للآخر شيء؛ لأنّه تبرع. وقال الشيخ يستحقّ نصف أجرة المثل. وهو بعيد.

-------------------------------------------------------------------

فلو قال لواحد : «إن رددت عبدي فلك دينار» وقال لآخر: «إن رددته فلك ديناران» وقال لثالث: «إن رددته فلك ثلاثة دنانير» ولرابع: «ردّ عبدي وعلي العوض» فإن ردّه واحد فله ما عيّن له خاصّة، ولمن لم يعيّن له أجرة المثل، ولو ردّه اثنان فلكلّ واحد منهما نصف ما جعل له. ولو كان أحدهما غير المعين فله نصف أجرة المثل، وللمعيّن نصف ما عيّن له. وإن رده ثلاثة فلكلّ واحد ثلث ما جعل له أو أربعة فلكلّ واحد الربع.

ولو كان الجعل على خياطة الثوب، فخاطه الأربعة فلكلّ واحد منهم بنسبة ما عمل إلى مجموع العمل ممّا عيّن له، ولمن لم يعين له من أُجرة المثل بنسبة ما عمل إلى المجموع، ولا نظر هنا إلى العدد.

هذا كلّه إذا عمل كلّ واحد لنفسه. أما لو قال أحدهم: «أعنت صاحبي فلا شيء له، وللباقين بالنسبة، ولو قال: «ما عدا واحد» عملنا لإعانته، فله مجموع ما عيّن له أو أُجرة المثل، ولا شيء لغيره. ولو عمل معهم متبرّع على المالك سقط بنسبة عمله من حصّة كلّ واحد ولو أعان بعض العاملين فله من حصته بمقدار عمل اثنين، وهكذا.

قوله: «لو جعل لبعض الثلاثة جعلاً معلوماً ولبعضهم مجهولاً» إلى آخره.

هذا الفرع أدرجناه في أقسام السابق، وجعلناه من جملة أفراده. وحكمه واضح بعد الإحاطة بما سلف من القيود. فلو كان العمل ممّا يختلف باختلاف الأشخاص فلمن لم يعيّن له بنسبة عمله من أجرة المثل، سواء زاد عن الثلث أم نقص.

قوله: «لو جعل لواحد جعلاً على الردّ فشاركه آخر في الرد» إلى آخره.

إنّما يكون له نصف الأجرة إذا قصد العمل للمالك أو لنفسه، أما لو قصد مساعدة العامل

ص: 39

الرابع: • لو جعل جعلاً معيّنا على ردّه من مسافة معيّنة فردّه من بعضها كان له من الجعل بنسبة المسافة.

-------------------------------------------------------------------

فالجميع له. والحكم على الأوّل باستحقّاق العامل النصف أو بنسبة عمله إن قبل التجزئة هو الأصحّ. أمّا استحقّاقه في الجملة؛ فلحصول غرض المالك، وأمّا بالنسبة؛ فلعدم استقلاله بالفعل.

وأمّا قول الشيخ باستحقّاق المشارك نصف أُجرة المثل مع عدم دخوله في الجعالة(1) فضعفه واضح؛ لأنّه لو استقل بالفعل لم يستحقّ شيئاً إجماعاً؛ لتبرعه بالعمل، فكيف يستحقّ مع المشاركة؟

وللعلّامة قول باستحقّاق العامل الجميع؛ لحصول غرض المالك (2).

ويضعّف أيضاً بأنّ مطلق حصول غرض المالك لا يوجب استحقّاق العامل الجميع بل مع عمله، كما أنّه لو ردّه الأجنبي وحده فقد حصل غرض المالك، ولا يستحقّ المجعول له شيئاً، بل لو قيل: إنّه مع مشاركة الأجنبي لا بنيّة مساعدة العامل لا يستحقّ العامل شيئاً كان أربط بقواعد الجعالة من هذين القولين؛ لما تقرّر من أنّ العامل لا يستحقّ إلّا بتمام العمل ولم يحصل مع المساعدة.

قوله: «لو جعل جعلاً معيّنا على ردّه من مسافة معيّنة» إلى آخره.

إنّما كان له بنسبة المسافة؛ لأنّه لم يعمل جميع العمل المشروط، فكان له من الجعل مقابلة عمله وسقط الباقي، هكذا ذكره الأصحّاب وغيرهم من غير نقل خلاف فيه. ولا يخلو من نظر على قاعدة الجعالة.

ولو ردّه من أزيد من المسافة، فإن دخل المعيّن فيه استحقّ الأجر المعين أو أجرة المثل له، ولا شيء له على الزائد؛ لأنّ المالك لم يلتزمه فيكون العامل فيه متبرّعاً فلا عوض له عنه. ولو لم يدخل فيه المعين فلا شيء له وإن كان أبعد؛ لأنّه لم يجعل في ردّه من غيره شيئاً، فكان كما لو جعل على ردّ شيء فرد غيره.

ص: 40


1- المبسوط، ج 3، ص 170.
2- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 439، المسألة 498؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 217.

مسائل التنازع

إشارة:

ويلحق بذلك مسائل التنازع، وهي ثلاث :

لو اختلفا في الشرط

الأولى: • لو قال: «شارطتني» فقال المالك: «لم أُشارطك» فالقول قول المالك مع يمينه.

• وكذا القول قوله لو جاء بأحد الآبقين، فقال المالك: لم أقصد هذا.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لو قال: شارطتني فقال المالك: لم أُشارطك» إلى آخره.

المراد بالمشارطة أن يجعل له جعلاً على الفعل(1)، سواء كان معيّنا أم مجملاً يوجب أُجرة المثل. فإذا ادّعاها العامل فأنكر المالك ذلك وادّعى تبرّع العامل فالقول قوله؛ لأصالة عدم الجعالة، وبراءة ذمّته.

أمّا لو كان النزاع في أنّ المالك هل شارطه على شيء بعينه، أو أمره على وجه يوجب أجرة المثل؟ فقد اتّفقا على ثبوت شيء في ذمة المالك، وإنّما اختلفا في تعيينه، فكان كالاختلاف في القدر أو الجنس، وسيأتي(2).

قوله: «وكذا القول قوله لو جاء بأحد الآبقين، فقال المالك: لم أقصد هذا».

لأنّ مرجع هذا الاختلاف إلى دعوى العامل شرط المالك له على هذا الآبق الذي ردّه، والمالك ينكر الجعل عليه، فكان القول قوله؛ لأصالة عدم الشرط عليه وإن كانا متّفقين على أصله في الجملة، وبهذا خالف السابق.

ومثله ما لو قال المالك شرطت العوض على ردّهما معاً، فقال العامل بل على أحدهما أو على هذا الحاضر، فيقدّم قول المالك؛ لأصالة براءة ذمّته من المجموع.

وهل يثبت للعامل قسط من رده من المجموع؟ يظهر من التذكرة (3) ذلك. وفيه نظر؛ لأنّ

ص: 41


1- في بعض النسخ: «العمل» بدل.«الفعل».
2- يأتي في ص 42.
3- راجع تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 447، المسألة 505.

لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه

الثانية: • لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه فالقول قول الجاعل مع يمينه. قال الشيخ وتثبت للعامل أجرة المثل. ولو قيل: يثبت أقلّ الأمرين من الأجرة والقدر المدّعى كان حسناً.

وكان بعض من عاصرناه يثبت مع اليمين ما ادّعاه الجاعل، وهو خطأ؛ لأنّ فائدة يمينه إسقاط دعوى العامل، لا ثبوت ما يدّعيه الحالف.

-------------------------------------------------------------------

المجعول عليه المجموع لا أبعاض ومثله ما لو اتّفقا على وقوع الجعالة عليهما فردّ أحدهما خاصّة.

قوله: «لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه» إلى آخره.

البحث هنا يقع في موضعين:

أحدهما: أن يختلفا في قدر الجعل بأن قال المالك بذلك خمسين، فقال العامل: بل مائة، مع اتّفاقهما على الجنس والوصف.

وفيه أقوال:

الأوّل: أنّ القول قول المالك، فإذا حلف ثبت أجرة المثل، وهو قول الشيخ(1) وجماعة(2) أمّا تقديم قوله فلأن الاختلاف في فعله فيقدّم فيه كما يقدّم في أصل الجعل، ولأنّه ينكر ما يدّعيه العامل من الزائد فيكون معه أصل عدم بذله وبراءة ذمّته منه وأمّا ثبوت أُجرة المثل؛ فلأنّ يمينه على نفي ما يدّعيه العامل لا على إثبات ما يدّعيه، فإذا انتفى ما يدّعيه العامل ولم يثبت ما يدّعيه هو ثبت أجرة المثل؛ للاتّفاق على وقوع العمل بعوض، وأجرة المثل عوض ما لا يثبت فيه مقدّر.

الثاني: أن القول قول المالك لما ذكر، لكن يثبت أقلّ الأمرين من أجرة المثل وما يدّعيه العامل؛ لأنّ أُجرة المثل إن كانت أقلّ فقد انتفى ما يدّعيه العامل بيمين المالك فيثبت

ص: 42


1- المبسوط، ج 3، ص 168 - 169؛ الخلاف، ج 3، ص 590. المسألة 18.
2- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 570؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 330.

-------------------------------------------------------------------

أُجرة المثل؛ لما ذكر في القول الأوّل، وإن كان ما يدّعيه أقلّ من الأجرة؛ فلاعترافه بعدم استحقّاق الزيادة، وببراءة المالك منها، فكيف تثبت له؟ ومن هنا يظهر ضعف إطلاق القول الأوّل. وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة في التذكرة (1) و التحرير(2).

الثالث: تقديم قوله، لكن يثبت مع يمينه أقلّ الأمرين من أجرة المثل ومدعى العامل. وأكثر الأمرين منها ومن مدّعى المالك (3). أمّا الأوّلان فقد علم وجههما. وأمّا الأخير؛ فلان ما يدّعيه المالك إن كان أكثر من أجرة المثل فهو يعترف بثبوته في ذمّته للعامل، فيؤاخذبإقراره، والعامل لا ينكره فقد ثبت باتّفاقهما.

وبهذا يظهر قوة هذا القول على الأوّلين، لكن يبقى الإشكال فيهما من حيث توقف ثبوت ذلك على يمين المالك مطلقاً؛ لأنّه مع مساواة ما يعترف به المالك لأجرة المثل أو زيادته عليها لا يظهر لليمين فائدة؛ لأنّه ثابت باتّفاقهما من غير يمين واليمين لا تثبت غيره فلا فائدة فيها. وأمّا مع نقصان ما يدّعيه عن أجرة المثل فقد تظهر فائدة يمينه في إسقاط الزائد عنه ممّا يدّعيه العامل فيتّجه يمينه لذلك.

الرابع: تقديم قول المالك، إلّا أنّ الثابت بيمينه هو ما يدّعيه لا أجرة المثل ولا الأقلّ. وهو قول الشيخ نجیب الدین محمّد بن نما (4) شيخ المصنّف (رحمه اللّه).

ووجهه أنّهما متّفقان على وقوع العقد وتشخصه بأحد العوضين، فإذا انتفى أحدهما وهو ما يدّعيه العامل - بيمين المالك ثبت الآخر؛ لاتّفاقهما على انتفاء سواه، مضافاً إلى أصالة براءة ذمّته من الزائد عمّا يعترف به كما يقدم قول المستأجر في نفي الزائد من مال الإجارة.

ص: 43


1- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 447، المسألة 505.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 444، كتاب الجعالة.
3- راجع إيضاح الفوائد، ج 2، ص 165.
4- حكاه عنه الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 96؛ واللمعة الدمشقيّة، ص 208 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11 و13).

-------------------------------------------------------------------

وبهذا يظهر جواب ما أورده عليه المصنّف (رحمه اللّه) ونسبه بسببه إلى الخطاء من حيث إنّ المالك إنّما يحلف على نفي ما يدّعيه العامل لا على إثبات ما يدّعيه هو، فكيف يثبت مدّعاه؟! وجوابه: أنّه ثبت بالانحصار المتّفق عليه، وكونه منكراً للزائد وقد حلف على نفيه، وهذا أقوى، وهو خيرة الشهيد في الدروس(1).

الخامس أنّهما يتحالفان؛ لأنّ كلّ واحد منهما مدّع ومدّعى عليه، فلا ترجيح لأحدهما، فيحلف كلّ منهما على نفي ما يدّعيه الآخر؛ ولأنّ العقد الذي تشخص بالعوض الذي يدّعيه المالك غير العقد الذي تشخص بما يدّعيه العامل، فكان الاختلاف فيه كالاختلاف في الجنس. وهذا هو الذي اختاره العلّامة في القواعد (2).

وفيه نظر؛ لأنّ العقد متّفق عليه، وإنّما الاختلاف في زيادة العوض ونقصانه، فكان كالاختلاف في قدر الثمن في البيع وقدر الأجرة في الإجارة، والقدر الذي يدّعيه المالك متّفق على ثبوته منهما(3)، وإنّما الخلاف في الزائد فيقدّم قول منكره. وقاعدة التحالف أن لا يجتمعا على شيء، بل يكون كلّ منهما منكراً لجميع ما يدّعيه الآخر.

ثمّ على تقدير التحالف ما الذي يثبت بعد تحالفهما؟ فيه الأوجه المتقدّمة من أُجرة المثل والأقلّ. واختار في القواعد ثبوت أقلّ الأمرين ما لم يزد ما ادّعاه المالك على أجرة المثل(4). فتثبت الزيادة بتقريب ما سبق. ويبقى الإشكال في توقف ثبوت ما يدّعيه المالك زائداً عن أُجرة المثل أو مساوياً على اليمين كما مرّ.

الموضع الثاني (5): أن يختلفا في جنس الجعل بأن قال العامل: جعلت ديناراً، فقال المالك: بل درهماً مثلاً.

ص: 44


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 96 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 218.
3- في بعض النسخ: «فيهما» بدل «منهما».
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 218.
5- تقدّم الموضع الأوّل في ص 42.

-------------------------------------------------------------------

وفيه قولان:

أحدهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) وقبله الشيخ (1) وجماعة (2) - تقديم قول المالك أيضاً : لأنّ القول قوله في أصله، فكذا في جنسه وقدره؛ لأنّه تابع له، ولأنّه اختلاف في فعله فيرجع إليه فيه.

والثاني: التحالف والرجوع إلى أُجرة المثل؛ لأنّ كلاً منهما منكر لما يدّعيه الآخر، وليس هنا قدر يتّفقان عليه ويختلفان فيما زاد عليه، بل مجموع ما يدّعيه كلّ منهما ينكره الآخر، وهي قاعدة التحالف(3). وهذا هو الأصحّ.

وعلى الأوّل، فإذا حلف المالك ثبت أُجرة المثل عند الشيخ(4)، وأقلّ الأمرين عند المصنّف (رحمه اللّه)، وأقلّهما ما لم يزد ما ادّعاه المالك عند العلّامة(5).

والأقوى تفريعاً على ذلك ثبوت أجرة المثل مطلقاً مع مغايرتها جنساً لما اختلفا في تعيينه، ومع موافقتها لدعوى العامل جنساً فأقل الأمرين أوجه، ومع موافقتها لدعوى المالك خاصّة، بأن كان النقد الغالب الذي تثبت به أُجرة المثل هو الذي يدّعيه المالك، فثبوت الزائد عليه عن أجرة المثل إذا كان مدّعاه الأزيد أجود وأمّا أخذ كلّ من الدعويين باعتبار القيمة ونسبتها إلى أجرة المثل وإثبات الأقلّ أو الأكثر فبعيد؛ لعدم اتّفاقهما على ما يوجب إلزامهما بالزائد بخلاف الموافق في الجنس.

ص: 45


1- راجع المبسوط، ج 2، ص 169؛ والخلاف، ج 3، ص 590 المسألة،18، ولكن لم يذكر الجنس فيهما؛ ولمزيد الاطّلاع راجع مفتاح الكرامة، ج 1، ص 203.
2- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 444؛ وإرشاد الأذهان، ج 1، ص 431.
3- لم نعثر عليه وقال النجفي في جواهر الكلام، ج 35، ص 219 - 220 : ويمكن القول بإرادته للشيخ والمصنّف وغيرهما.
4- لاحظ المبسوط، ج 2، ص 169؛ والخلاف، ج 3، ص 590، المسألة 18.
5- قواعد الأحكام، ج 2، ص 218.

لو اختلفا في السعي

الثالثة: • لو اختلفا في السعي بأن قال: حصل في يدك قبل الجعل فلا جعل لك، فالقول قول المالك تمسّكاً بالأصل.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لو اختلفا في السعي بأن قال: حصل في يدك قبل الجعل فلا جعل لك» إلى آخره.

هذا مبنيّ على ما تقدّم من أنه إذا حصل بيده الآبق قبل الجعل لا يستحقّ عليه وإن ردّه؛ لوجوبه عليه. فإذا ادّعاه المالك فقد أنكر استحقّاقه الجعل. وحصوله في يده قبله وإن كان خلاف الأصل، إلّا أنّ الأصل براءة ذمة المالك أيضاً؛ فلذلك قدم قوله. ولو فرض تساقط الأصلين لا يبقى دليل على ثبوت شيء للعامل؛ للشكّ في سببه.

وفي معنى حصوله في يده قبل الجعل حصوله بعده وقبل علمه به، وحصوله فيها من غير سعي مطلقاً؛ لانتفاء العمل، ووجوب تسليمه حينئذٍ.

وعلى ما تقدّم نقله عن التذكرة (1) - من أنه إذا حصل بيده قبل الجعل وتوقّف تسليمه على مؤونة تستحقّ - لا يتم هذا الاختلاف؛ لاستحقّاقه على التقديرين.

ص: 46


1- تقدّم في ص 34.

كتاب الأيمان

إشارة:

والنظر في أُمور أربعة:

الأمر الأوّل: ما به تنعقد اليمين

إشارة:

• لا تنعقد اليمين إلّا ب«اللّه» أو بأسمائه التي لا يشركه فيها غيره، أو مع إمكان المشاركة ينصرف إطلاقها إليه.

-------------------------------------------------------------------

كتاب الأيمان

هي جمع يمين وهو والحلف والإيلاء والقسم ألفاظ مترادفة.

والأصل فيه قبل الإجماع آيات الكتاب كآية «لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ»(1) الآية. والسنّة كما روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «واللّه لأغزونّ قريشاً» (2)، وأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان كثيراً ما يحلف فيقول: «لا ومقلّب القلوب»(3)، وأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان إذا اجتهد في يمينه قال: «والذي نفس محمّد بيده»(4).

قوله: «لا تنعقد اليمين إلّا ب«اللّه» أو بأسمائه التي لا يشركه فيها غيره» إلى آخره.

ص: 47


1- المائدة (5): 89.
2- سنن أبي داود، ج 3، ص 231، ح 3285: السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 82، ح 19927 و 19929 - 19930.
3- مسند أحمد، ج 2، ص 180، ح 5345؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 225، ح 3263.
4- مسند أحمد، ج 4، ص 589، ح 15783؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 676، ح 2090.

فالأوّل: كقولنا «ومقلّب القلوب» والذي نفسي بيده» «والذي فلق الحبة وبرأ النَسَمَة».

والثاني: كقولنا «واللّه»، «والرحمن»، «والأوّل الذي ليس قبله شيء».

والثالث: كقولنا «والربّ» «والخالق» «والبارئ» «والرازق» وكلّ ذلك تنعقد به اليمين مع القصد.

-------------------------------------------------------------------

قسم المصنّف (رضي اللّه عنه) ما ينعقد به اليمين إلى أقسام ثلاثة، مرجعها إلى الحلف باللّه، أو باسم من أسمائه المختصّة به، أو الغالبة عليه.

وأراد بالقسم الأوّل أن يذكر ما يفهم منه ذات اللّه تعالى ولا يحتمل غيره، من غير أن يأتي باسم مفرد أو مضاف من أسمائه الحسنى، كقوله: «والذي أعبده» أو «أصلّي له» أو «فلق الحبة وبرأ النسمة»، أو «نفسي بيده» أو «مقلب القلوب» وهذا القسم ينعقد به اليمين، سواء أطلق أو قصد به البارئ تعالى، حتّى لو قال: «قصدت غيره» لم يقبل ظاهراً ولو قبل منه عدم القصد إلى أصل اليمين.

والقسم الثاني هو الحلف بالأسماء المختصّة به تعالى ولا يطلق على غيره، ك«اللّه» و «الرحمن» و «ربّ العالمين»، و«مالك يوم الدين» و «خالق الخلق»، و«الأوّل الذي ليس قبله شيء»، و«الحي الذي لا يموت»، و«الواحد الذي ليس كمثله شيء». وحكمه حكم الأوّل.

وعد بعضهم «الخالق» و «الرازق» من هذا القسم(1). والأصحّ أنّه من الثالث؛ لأنّهما يطلقان في حقّ غير اللّه تعالى، قال تعالى: «وَتَخْلُقُونَ إفكَاً» (2)، وقال تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ»(3).

والقسم الثالث ما يطلق في حقّ اللّه تعالى وحقّ غيره، لكن الغالب استعماله في حقّ

ص: 48


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 184، المسألة 7953؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 12.
2- العنكبوت (29): 17.
3- النساء (4): 5.

ولا تنعقد بما لا ينصرف إطلاقه إليه، ك«الموجود» و«الحيّ» و«السميع» و«البصير»، ولو نوى بها الحلف؛ لأنّها مشتركة، فلم يكن لها حرمة القسم.

-------------------------------------------------------------------

اللّه تعالى، وإن تقيّد في حقّ غيره بضرب من التقييد، ك-«الرحيم» و«الربّ» و«الخالق» و«الرازق» و«المتكبّر» و«القاهر» و«القادر». وكلّ هذه تستعمل في حقّ غيره تعالى، يقال: «فلان رحيم القلب» و «جبّار» و «ربّ إبل» و «متكبّر» و «قادر على هذا» و «قاهر لفلان».

وبقي من أسمائه تعالى قسم رابع، وهو ما يطلق في حقّه تعالى وفي حقّ غيره، ولا يغلب استعماله في في أحد الطرفين، ك«الشيء» و«الموجود» و«الحي» و«السميع» و«البصير» و«المؤمن» و «الكريم» وما أشبهها، فلا يكون يميناً وإن نوى بها الحلف؛ لأنّها بسبب اشتراكها بين الخالق والمخلوق إطلاقاً واحداً ليس لها حرمة ولا عظم، فلا ينعقد بها اليمين.

واعترض الشهيد (رحمه اللّه) على هذا التقسيم بأنّ مرجع القسم الأوّل إلى أسماء تدلّ على صفات الأفعال ك«الخالق» و«الرازق»، التي هي أبعد من الأسماء الدالة على صفات الذات، التي هي دون اسم الذات وهو اللّه جلّ اسمه، بل هو الاسم الجامع(1)، فيكون القسم الأوّل.

وجوابه: أن تخصيص هذه الموضوعات يقسم من حيث دلالتها على ذاته تعالى من غير احتمال مشاركة غيره تعالى، ومع ذلك ليست من أسمائه تعالى المختصّة ولا المشتركة. وإنّما جعلوها في المرتبة الأولى لمناسبة التقسيم، فإنّ أسماءه تعالى لما انقسمت إلى أقسام كثيرة - منها المختصّ به، والمشترك الغالب وغيره، والدالّ على صفة فعل وغير ذلك من الأقسام - لم يناسب إدخال هذه في جملة الأقسام ولو ناسبت بعضها؛ لأنّها ليست بأسماء، ولا تأخيرها عنها؛ لأنّها أخصّ به تعالى من كثير من الأقسام، فأفردت قسماً وجعلت أولاً؛ الجهة اختصاصها، ولكونها قسماً لا ينقسم، وما هذا شأنه يقدم في القسمة على ما ينقسم. واسم اللّه وإن كان أدلّ على الذات منها إلّا أنّه من جملة أسمائه تعالى، فناسب ذكره مع باقي

ص: 49


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

• ولو قال: «وقدرة اللّه» و «علم «اللّه» فإن قصد المعاني الموجبة للحال لم تنعقد اليمين. وإن قصد كونه قادراً عالماً جرى مجرى القسم باللّه القادر العالم.

وكذا تنعقد بقوله: «وجلال اللّه» و «عظمة اللّه» «وكبرياء اللّه» وفي الكلّ تردّد.

-------------------------------------------------------------------

الأسماء، فلم يكن فيما ذكروه من التقسيم والترتيب قصور من هذا الوجه، وإن كان ما اعتبره (رحمه اللّه) حسناً أيضاً، إلّا أنّه غير مناف لما ذكره الجماعة(1).

قوله: «ولو قال: وقدرة اللّه وعلم اللّه» إلى آخره.

«قدرة اللّه» و «علم» «اللّه» قد يراد بهما صفاته القديمة الزائدة على الذات كما تقوله الأشاعرة(2). وقد يراد بهما نفس المقدور والمعلوم، كما يقال في الدعاء: «اغفر لنا علمك فينا» أي معلومك، وقولهم: «انظروا إلى قدرة اللّه» أي مقدوره، وقد يراد بهما ذات اللّه العالم القادر، من حيث إن صفاته تعالى أمور اعتبارية ليست زائدة على ذاته.

فإن قصد الحالف بأحدهما المعنى الأوّل لم ينعقد؛ لأنّه حلف بغير اللّه، وكذا إن قصد المعنى الثاني بطريق أولى. وإن قصد الثالث انعقدت؛ لأنّه حلف باللّه، وإن أطلق فالوجه الانعقاد؛ حملاً لكلامه على المعنى الحق، ولأنّه أغلب خصوصاً إذا كان يعتقد ذلك، ويحتمل العدم؛ لاشتراك اللفظ فيسقط حرمته، وكون المسألة اجتهادية قد اختلف فيها أكابر العلماء، فلا ينصرف إلى أحد الأمرين بدون القصد، وذلك يوجب وقوف اليمين.

وأمّا الحلف ب«جلال اللّه» و «كبريائه» و «عظمته» فتنعقد اليمين به مطلقاً؛ لأنّها وإن شاركت القدرة والعلم في الصفات لكن هذه ليست من الصفات التي ذهب بعضهم إلى زيادتها (3)، وإنّما مرجعها إلى ذات اللّه تعالى المتصفة بالكبرياء والعظمة والجلّال.

والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في انعقاد اليمين في الجميع ممّا ذكر، ومن أنّ اشتراك القدرة

ص: 50


1- راجع المبسوط، ج 4 ص 579 والسرائر، ج 3، ص 36؛ وقواعد الأحكام، ج 3، ص 265.
2- راجع الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ج 2، ص 140: والملل والنحل الشهرستاني، ج 1، ص94- 95.
3- راجع الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ج 2، ص 140: والملل والنحل الشهرستاني، ج 1، ص94- 95.

• ولو قال: «أقسم باللّه» أو «أحلف باللّه» كان يميناً. وكذا لو قال: «أقسمت باللّه» أو «حلفت باللّه».

ولو قال أردت الإخبار عن يمين ماضية، قبل؛ لأنّه إخبار عن نيّته. ولو لم ينطق بلفظة الجلالة لم تنعقد.

-------------------------------------------------------------------

والعلم يمنع من الانعقاد بهما وإن قصد بهما اللّه تعالى، كغيرهما من أسمائه المشتركة من غير أغلبية عليه تعالى والعظمة والجلّال والكبرياء كذلك ؛ لأنّها تستعمل في الصفة الزائدة، وربما أطلقت على ما يطلق عليه القدرة والعلم، ويقول الإنسان: «عاينت كبرياء اللّه وعظمته» ويريد مثل ذلك؛ ولأنّ هذه الصفات ليست من أسماء اللّه تعالى الغالبة ولا المشتركة، فلا ينعقد بها اليمين؛ لأنّها لا تنعقد إلّا باللّه وأسمائه والأشهر الأوّل.

قوله: «ولو قال: أقسم باللّه أو أحلف باللّه، كان يميناً» إلى آخره.

إذا قال: «أقسم» أو «أقسمت» أو «أحلف» أو «حلفت» فإن لم ينطق بالجلالة لم ينعقد يمينه قطعاً (1)؛ لعدم حلفه باللّه.

وإن نطق بها، فإن قصد اليمين أو أطلق انعقدت أمّا مع القصد فواضح، وأمّا مع الإطلاق؛ فلأنّه إنشاء يمين (2) عرفاً وشرعاً، قال تعالى: «وَأَقْسَمُواْ بِاللّه جَهْدَ أَيْمانهم» (3) فيحمل عليه. وإن قال: أردت الوعد في الأوّل والإخبار في الثاني، فقد أطلق المصنّف وجماعة(4)، قبوله؛ لظهور الاحتمال، وأصالة عدم الانعقاد، وكون ذلك راجعاً إلى قصده وهو أعلم به.

ويحتمل عدم القبول ظاهراً؛ لظهور كونه إنشاء، كما لا يقبل إخباره عن قوله: «أنت طالق» بأنّي أردت طلاقاً سابقاً، ولأنّ اللفظ إذا كان محتملاً للأمرين لم يحمل على اليمين

ص: 51


1- في بعض النسخ: «مطلقاً» بدل «قطعاً».
2- في بعض النسخ: «أنشأ يميناً» بدل «إنشاء يمين».
3- الأنعام (6): 109.
4- منهم الشيخ في المبسوط، ج 4 ص 580؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 266؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

• وكذا «أُشهد» إلّا أن يقول «باللّه». وفيه للشيخ قولان. ولا كذلك لو قال: «أعزم باللّه» فإنّه ليس من ألفاظ القسم.

-------------------------------------------------------------------

مع الإطلاق، بل يتوقّف الحكم بكونه يميناً على قصده. ومن حمل الإطلاق على اليمين لا يقبل منه غيره ظاهراً كما في نظائره.

قوله: «وكذا: أشهد إلّا أن يقول: اللّه» إلى آخره.

إذا قال: «أشهد باللّه» أو «شهدت باللّه» فالأشهر أنّه كالسابق يكون يميناً مع قصده وإطلاقه لورود الشرع بهذه اللفظة بمعنى اليمين، قال اللّه تعالى: «قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّه»(1). والمراد: نحلف؛ ولذلك قال تعالى على الأثر: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةٌ»(2).

وإن قال: أردت غير القسم كالوعد والإخبار عن الماضي، قبل؛ للاحتمال كالسابق. وللشيخ (رحمه اللّه) قولان: أحدهما في المبسوط: أنه إن أراد به اليمين كان يميناً، وإن أطلق أو لم يرد لم يكن يميناً(3). والثانى فى الخلاف : أنّه لا يكون يميناً مطلقاً؛ لأنّ لفظ الشهادة لا يسمّى يميناً(4)، ولم يطرد به عرف اللغة ولا الشرع، بخلاف القسم. ويحتمل أن يريد: «أشهد بوحدانية اللّه تعالى» ثمّ يبتدئ «لأفعلنّ كذا».

ولا كذلك لو قال: «أعزم باللّه» أو «عزمت باللّه لأفعلن كذا» فإنّه لا يكون يميناً مطلقاً لأنّ العرف لم يطّرد بجعله يميناً، ولا ورد الشرع به، ولإمكان أن يريد الإخبار عن عزمه والحلف على المعزوم عليه أو الوعد بذلك، خلافاً لبعض العامّة(5).

واعلم أن مقتضى قول المصنّف (رحمه اللّه) «وكذا أُشهد» وقوله للشيخ قولان» بعد قوله في المشبه به أنّه يحمل على اليمين إلّا مع دعوى إرادة الإخبار : أن الحكم في الشهادة كذلك، وأن أحد قولى الشيخ مثله. والذي صرّح به الشيخ خلاف ذلك، وأنّه لا يصير يميناً مع

ص: 52


1- السرائر، ج 3، ص 52.
2- السرائر، ج 3، ص 52.
3- المبسوط، ج 4، ص 581.
4- الخلاف، ج 2، ص 128، المسألة 19.
5- راجع بدائع الصنائع، ج 3، ص 10؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 204 - 205، المسألة 7970.

-------------------------------------------------------------------

لفظ «الشهادة» إلّا مع قصد اليمين لا مع الإطلاق، بخلاف القسم. ووجه الفرق أنّ القسم ظاهر في اليمين، وحمله على غيره خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلّا مع دعوى إرادته، بخلاف الشهادة.

وبهذا المعنى صرّح غير الشيخ من أتباعه(1)، والعلّامة في المختلف والتحرير(2)، وفي القواعد وافق المصنّف على الحكم بانعقاد اليمين مع الإطلاق(3)، وكذلك في الدروس ناقلاً له عن الشيخ(4)، كما أطلقه المصنّف. وليس كذلك، فإنّ الشيخ اعتبر في انعقاده يميناً قصده، وصرّح مع الإطلاق بعدم الانعقاد، وكذلك حكم في قوله: «أقسمت»(5). وغيره فرّق بين اللفظين(6) كما ذكرناه.

فإن قيل: القصد معتبر في سائر الأيمان، فكيف ينعقد هنا مع الإطلاق، فيكون تقييد الشيخ أجود من إطلاق من حكم بصحته مع الإطلاق؟!

قلنا : ليس المراد بالقصد الذي لم يعتبره القصد إلى اليمين الموجب لانعقاده في نفس الأمر ؛ لأنّ ذلك لا نزاع في اعتباره، وإنّما الكلام في القصد الذي لا يحكم بوقوع اللفظ المحتمل بدونه، كما سبق البحث فيه في الفرق بين اللفظ الصريح والكناية في الطلاق وغيره(7).

وحاصله : أنّ اللفظ إذا كان صريحاً يحكم بوقوعه على من تلفظ به ظاهراً وإن لم يعلم منه قصده إلى مدلول اللفظ، وإن كان محتملاً على السواء لا يحكم به إلّا مع تصريحه بإرادة المعنى المطلوب، هذا بحسب الظاهر، وأمّا فيما بينه وبين الظاهر، وأمّا فيما بينه وبين اللّه تعالى فالمعتبر ما نواه.

وعلى هذا فيحكم بوقوع اليمين ممّن سمع منه قوله: «أقسمت باللّه لأفعلنّ» ما لم يخبر

ص: 53


1- منهم ابن البرّاج على ما في بعض نسخه من مهذبه راجع المهذّب، ج 2، ص 407 (الهامش).
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 192 - 193، المسألة 30؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 297، الرقم 5837.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 266.
4- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- المبسوط، ج 4، ص 581.
6- انظر تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 297، الرقم 5837.
7- سبق في ج 7، ص 259 - 260.

عدم انعقاد اليمين بغير أسماء اللّه من المخلوقات... والأماكن

• ولو قال: «لعمر اللّه كان قسماً، وانعقدت به اليمين.

• ولا تنعقد اليمين بالطلاق ولا بالعتاق ولا بالتحريم، ولا بالظهار، ولا بالحرم، ولا بالكعبة والمصحف والقرآن، والأبوين، ولا بالنبيّ والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).

-------------------------------------------------------------------

عن إرادة الخبر، ولا يحكم على من سمع منه: «أشهد باللّه لأفعلن» إلّا مع إخباره بإرادة اليمين.

وعلى قول الشيخ لا يحكم باليمين فيهما إلّا مع إخباره بإرادة اليمين(1)، كما لو تلفّظ بالكنايات في الطلاق والظهار وقلنا بوقوعهما بها أو ببعضها، على ما سبق تحقيقه (2).

قوله: «ولو قال لعمر اللّه كان قسماً، وانعقدت به اليمين».

هو بفتح العين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف. والمعنى: لعمر اللّه قسمي. وهو بمعنى البقاء والحياة (3)، وهو قريب من العُمْر - بالضمّ - لكنّه لم يستعمل في القسم إلّا مفتوحاً. وهو بهذا المعنى محتمل للمعاني المانعة من انعقاد اليمين كالقدرة والعلم وغيرهما من الصفات، لكنه لما استعمل في اليمين عرفاً وشرعاً حكموا بانعقاده به.

قوله: «ولا تنعقد اليمين بالطلاق ولا بالعتاق» إلى آخره.

المشهور بين الأصحّاب أنّ اليمين لا تنعقد إلّا باللّه تعالى وأسمائه المذكورة سابقاً، ولا تنعقد بغيره من المخلوقات المعظّمة والأماكن المشرّفة، كالأنبياء والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) والملائكة والحرم والكعبة وغيرها، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا تحلفوا إلّا باللّه»(4). وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت»(5).

وروى محمّد بن مسلم - في الحسن - قال قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قول اللّه عزّ وجلّ: «وَأَلَّيْلِ

ص: 54


1- المبسوط، ج 4، ص 580 – 581.
2- سبق في ج 7، ص 251: وج 8، ص 37 وما بعدها.
3- راجع الصحاح، ج 2، ص 756، «عمر».
4- الكافي، ج 7، ص 438، باب أنّه لا يحلف إلّا باللّه، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 283 - 284، ح 1040.
5- سنن الدارمي، ج 2، ص 185 : صحيح البخاري، ج 2، ص 951، ح 2533؛ وج 6، ص 2449، ح 6270: صحیح مسلم، ج 3، ص 1267، ح 1646/3؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 50، ح 19823 و 19824.

• وكذا وحقّ اللّه فإنّه حلف بحقه لا به. وقيل: تنعقد. وهو بعيد.

-------------------------------------------------------------------

إِذَا يَغْشَىٰ»(1) «وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى» (2) وما أشبه ذلك، فقال: «إنّ اللّه يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلّا به»(3).

وشذّ قول ابن الجنيد بانعقاده بما عظّم اللّه من الحقوق، كقوله: «وحقّ رسول اللّه، وحقّ القرآن» وبالطلاق والعتاق والصدقة ونحوها(4).

قوله: «وكذا وحقّ اللّه» فإنّه حلف بحقه لا به. وقيل: تنعقد. وهو بعيد».

«حق اللّه» قد يراد به ما يجب له على عباده من العبادات التي أمر بها، وفي الحديث: :قلت يا رسول اللّه ما حقّ اللّه على عباده؟ قال: «أن لا يشركوا به شيئاً، ويعبدوه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة»(5).

وقد يراد به القرآن قال تعالى: «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ»(6) يعني القرآن.

وقد يراد به اللّه الحقّ كغيره من الصفات الراجعة إلى ذاته من غير اعتبار زيادة فإذا قال الإنسان: «وحقّ اللّه لأفعلن» لم تنعقد اليمين؛ لاشتراكه بين أمور كثيرة أكثرها لا تنعقد به الیمین، سواء قصد تلك الأفراد أم أطلق؛ لأنّ المتبادر من حقّه غيره.

وقال الشيخ في المبسوط (7) وجماعة(8): تنعقد اليمين بذلك؛ لأنّها يمين عرفاً، ولأغلبية

ص: 55


1- الليل (92): 1.
2- النجم (53): 1.
3- الكافي، ج 7، ص 449، باب أنه لا يجوز أن يحلف الإنسان إلّا باللّه عزّ وجلّ، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 283 – 277، ح 1009.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 164، المسألة،2، وليس فيه: «الطلاق والعتاق والصدقة».
5- نقله الماوردي بتمامه في الحاوي الكبير، ج 15، ص 275؛ وورد مع الاختلاف في مسند أحمد، ج 2، ص 595، ح 8024: وسنن ابن ماجة، ج 2، ص 1435 - 1436. ح 4296.
6- الحاقّة (69): 51.
7- المبسوط، ج 4، ص 581 و 583.
8- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 193، المسألة 28؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 128 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والمحقّق السيوري في التنقيح الرائع، ج 3، ص 506.

لا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة

•ولا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة، ولو حلف من غير نيّة لم تنعقد، سواء كان بصريح أو كناية، وهي يمين اللغو.

• والاستثناء بالمشيئة يوقف اليمين عن الانعقاد إذا اتصل باليمين، أو انفصل بما جرت العادة أن الحالف لم يستوف غرضه. ولو تراخى عن ذلك من غير عذر حكم باليمين، ولغي الاستثناء. وفيه رواية مهجورة.

-------------------------------------------------------------------

استعمالها في المعنى الأخير، ولأنّ «حقّ» صفة عامّة، فإذا أُضيف إلى اللّه تعالى اختصّ به.

فكان يميناً كسائر صفات ذاته من العظمة والعزّة وغيرها. ولا إشكال في عدم الانعقاد لو قصد به أحد المعنيين الأولين.

قوله: «ولا تنعقد اليمين إلّا بالنيّة، ولو حلف من غير نيّة لم تنعقد» إلى آخره.

المراد بالنيّة القصد إليه. واحترز به عمّن سبق لسانه إلى كلمة اليمين كقوله في حالة غضب أو لجاج أو عجلة أو صلة كلام « لا واللّه» «بلى واللّه» فإنّ يمينه لا تنعقد ولا يتعلّق به كفّارة؛ لقوله تعالى: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمْ الْأَيْمَانَ»(1) فعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2) أنّه قال: «اللغو هو قول الرجل: لا واللّه وبلى واللّه، ولا يعقد على شيء»(3).

ولو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره فهو في معنى لغو اليمين أيضاً.

ولا فرق مع عدم القصد بين الصريح كقوله: «واللّه» والكناية كحلفه بما يحتمل اليمين و غیره كقوله: «وحقّ اللّه».

قوله: «والاستثناء بالمشيئة يوقف اليمين عن الانعقاد - إلى قوله ولا تكفي النيّة».

المراد الاستثناء بالمشيئة هنا أن يقول بعد اليمين: «إن شاء اللّه». فإذا عقّب اليمين بها لم يحنث بالفعل المحلوف عليه ولم تلزمه الكفّارة؛ لما روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من حلف على

ص: 56


1-
2- المائدة (5): 89.
3- الكافي، ج 7، ص 443، باب في اللغو، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 280، ح 1023.

الاستثناء بالمشيئة في اليمين يوقف اليمين عن الانعقاد

ويشترط في الاستثناء النطق، ولا تكفي النيّة.

ولو قال: «لأدخل الدار إن شاء زيد فقد علّق اليمين على مشيئته، فإن قال: «شئت» انعقدت اليمين، وإن قال: «لم أشأ» لم تنعقد. ولو جهل حاله - إمّا بموت أو غيبة - لم تنعقد اليمين؛ لفوات الشرط.

-------------------------------------------------------------------

يمين فقال: إن شاء اللّه، لم يحنث»(1). وعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): من استثنى في يمين فلا حنث عليه ولا كفّارة»(2).

ولا فرق بين ما يعلم مشيئة اللّه فيه كالواجب والندب وغيرهما؛ لعموم النص، خلافاً للعلّامة حيث خصّ الحكم بما لا يعلم فيه المشيئة (3)؛ نظراً إلى التعليل.

ويشترط أن يتلفظ بكلمة الاستثناء، فلو نوى بقلبه إن شاء اللّه» لم تعتبر نيّته، ولم يندفع الحنث والكفّارة.

وأن يكون قاصداً إلى التلفظ بها كاليمين، فلو سبق لسانه إليها من غير قصد لم يعتدّ بها.

وأن يكون كلمة الاستثناء متصلة باليمين لا يتخلّلها كلام ولا سكوت، إلّا أن يكون قليلاً كنفس(4)، وعي وتذكر وسعال ونحو ذلك ممّا لا يخل بالمتابعة عرفاً.

والرواية التي أشار إليها المصنّف بعدم اشتراط الاتصال رواها عبداللّه بن ميمون القدّاح -في الصحيح - قال: سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «للعبد أن يستثني في اليمين ما بينه وبين أربعين يوماً إذا نسي»(5). وهو مرويّ أيضاً عن ابن عباس (رضي اللّه عنه)(6). والرواية مهجورة لم يعمل بها أحد من الأصحّاب وإن كانت معتبرة الأسناد.

ص: 57


1- مسند أحمد، ج 2، ص 596، ح 8027: صحیح مسلم، ج 3، ص 1275 - 1276، ح 23 / 1654 و 1654/24.
2- الكافي، ج 7، ص 448، باب الاستثناء في اليمين 5 تهذيب الأحكام، ج 8، ص 282، ح 1031.
3- راجع قواعد الأحكام، ج 3، ص 267.
4- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «كتنفس» بدل «كنفس».
5- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 281، ح 1029 مع اختلاف يسير؛ الفقيه، ج 3، ص 362 - 363، ح 4287 مع زيادة.
6- راجع السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 82 83، ح 19931.

• ولو قال: «لأدخلنّ الدار إلّا أن يشاء زيد» فقد عقد اليمين، وجعل الاستثناء مشيئة زيد. فإن قال زيد: «قد شئت أن لا يدخل» وقفت اليمين؛ لأنّ الاستثناء من الإثبات نفى.

ولو قال: «لا دخلت إلّا أن يشاء فلان» فقال: «قد شنت أن يدخل» فقد سقط حكم اليمين؛ لأنّ الاستثناء من النفي إثبات.

-------------------------------------------------------------------

وحملت على ما لو استثنى بالنيّة واستمرت كذلك إلى أربعين يوماً ثمّ أظهرها. وإنّما اكتفى بالاستثناء نيّة؛ لأنّ اليمين تتخصص بالنيّة، كما إذا حلف على عام وخصصه بالنيّة أو مطلق وقيده بها، ونحو ذلك. فإذا استثنى سرّاً لم ينو شمول اليمين.

وفيه: أنّ الاستثناء يوقف اليمين فلا يتقيد حينئذٍ بالأربعين.

قيل : التقييد بالأربعين للمبالغة(1).

قلنا: إذا وقفت دائماً كان التقييد بالدوام أو بما زاد عليها أبلغ.

ولا فرق مع اتصاله باليمين بين تأخره عنها وتقدمه وتوسّطه. ثمّ مع تأخيره إن كان عازماً عليه من ابتداء اليمين فلا إشكال في صحته. وإن عزم عليه في أثنائه أو بعده بغير فصل فوجهان أصحهما الصحة.

ولو قال: «واللّه لأفعلنّ كذا إلّا أن يشاء اللّه» أو «لا أفعل إلّا أن يشاء اللّه» فوجهان، أشهرهما أنّه كالأوّل، فلا يحنث بالفعل ولا بعدمه، ويحتمل الحنث في الأوّل إن لم يفعل وفي الثاني إن فعل؛ لأنّ شرط منع الحنث مشكوك فيه.

قوله: «ولو قال لأدخلن الدار إلّا أن يشاء زيد» إلى آخره.

تعليق اليمين بشرط في عقدها وحلّها جائز، سواء كان الشرط مشيئة غيره أم لا.

وقد ذكر المصنّف من تعليقها بالمشيئة صوراً:

أحدها: أن يعلق عقدها على مشيئة زيد بأن يقول: «لأدخلنّ الدار إن شاء زيد» فهنا قد

ص: 58


1- قال به العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 194، المسألة 31.

-------------------------------------------------------------------

علق انعقاد اليمين على مشيئة زيد فيكون مشيئته شرطاً فيها. فإن قال: «شئت» انعقدت؛ لوجود الشرط. وإن قال: «لم أشأ» لم ينعقد؛ لفقد الشرط. وكذا لو جهل حال مشيئته بموت أو غيبة أو غيرهما؛ لعدم حصول شرط الانعقاد وهو مشيئته إن لم يفعل. وهذه الصورة لا إشكال فيها.

وثانيها: أن يعلّق الحلّ على مشيئته، بأن يقول: «لأدخلن الدار إلّا أن يشاء زيد» وهنا قد عقد اليمين، ولكن جعل لحلها طريقين: أحدهما: أن يدخل، والثاني: أن يشاء زيد أن لا يدخلها. فإن دخل قبل مشيئته برّ، سواء شاء زيد بعد ذلك أم لا؛ لحصول الحلّ بفعل مقتضى اليمين فلا تؤثّر المشيئة بعده فيه. وإن لم يدخلها وشاء زيد أن لا يدخلها برّ أيضاً. وهو معنى قول المصنّف (رحمه اللّه) «وقفت اليمين». ووجهه أنّ متعلّق المشيئة المذكورة هو عدم دخوله، فكأنّه قال: «لأدخلن إلّا أن يشاء زيد أن لا أدخل فلا أدخل» لأنّ المستثنى والمستثنى منه متضادان، والاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات ولمّا كان المحلوف عليه إثبات الدخول كان الاستثناء ضدّه وهو عدم الدخول، فإذا شاءه فقد حلّ اليمين.

ولو فرض مشيئة زيد الدخول فاليمين بحالها؛ لأنّ مشيئته للفعل غير مستثناة، وكذا لو جهل حال مشيئته؛ لأنّ الانعقاد حاصل، وإنّما الحلّ مشروط بمشيئته عدم الدخول ولم يحصل الشرط فلم يقع الحلّ؛ لأنّها منعقدة بدونه.

وثالثها: أن تتعلّق اليمين بنفي الدخول معلّقاً على المشيئة. وله صورتان كالإثبات، ذكر المصنّف منهما واحدةً، وهي المبهم منهما ومحل النظر كالسابقة.

فإن قال: «لا دخلت الدار إلّا أن يشاء فلان» فالكلام فيه كالسابق، فإنّ المستثنى منه نفي فيكون الاستثناء إثباتاً، فكأنه قال: «لا دخلتها إلّا أن يشاء زيد أن أدخل» فإن لم يدخل برّ في يمينه. وإن دخل وقد شاء فلان دخوله قبل أن يدخل برّ أيضاً. وإن كان

ص: 59

هل يدخل الاستثناء في الإقرار؟

• ولا يدخل الاستثناء في غير اليمين وهل يدخل في الإقرار؟ فيه تردّد. والأشبه أنّه لا يدخل.

-------------------------------------------------------------------

قد شاء أن لا يدخل حنث، ولا يغني مشيئة الدخول بعد ذلك. وإن لم تعرف المشيئة فهي منعقدة.

هذا ما اقتضاه لفظ الاستثناء عند الإطلاق أو مع قصده. أما لو قصد في استثنائه عكس ذلك فإنّه يقبل ويدين بنيته. فإن قال: إنّي أردت بالاستثناء مخالفة مشيئته، فأردت بقولي «لا أدخلنّ إلّا أن يشاء أن أدخل»: فإنّى أخالفه ولا أدخل، وبقوله(1) «لا أدخل إلّا أن يشاء أن لا أدخل»: فإنّى أُخالفه وأدخل فينعكس الحكم فإن شاء في الأُولى أن يدخل قبل دخوله انحلّت اليمين وارتفع وجوب الدخول؛ لوقوع الشرط. وفي الثانية إذا شاء أن لا يدخل انحلت اليمين أيضاً؛ لوجود شرط الحلّ، والتضادّ بين المستثنى والمستثنى منه حاصل على هذا التقدير أيضاً، والحكم مع الجهل بمشيئته كالسابق.

والضابط أنه كلما كان العقد موقوفاً وجهل الشرط فلا عقد، وكلما كان الحلّ موقوفاً فهي منعقدة إلّا مع علم شرط الحلّ.

والصورة الثانية للنفي ما لو قال: «لا دخلت الدار إن شاء زيد أن لا أدخلها» وإنّما تنعقد يمينه هنا إذا شاء زيد أن لا يدخلها. والبحث فيها كالأولى، فتنحلّ بدخولها قبل مشيئته، ويجهل حالها بموت وشبهه.

قوله: «ولا يدخل الاستثناء في غير اليمين» إلى آخره.

الاستثناء بمشيئة اللّه تعالى لا يدخل في غير اليمين، بمعنى صحة دخوله وإيقافه؛ لأنّه تعليق، فكلّ ما كان شرطه التنجيز ينافيه. واليمين خرج من ذلك بنص خاصّ وإلّا لكان حكمه كذلك.

ص: 60


1- كذا في النسخ الخطية، ولعلّ الأنسب: «وبقولي».

حروف القسم

• والحروف التي يقسم بها: الباء، والواو، والتاء. وكذا لو خفض ونوى القسم،

-------------------------------------------------------------------

وللشيخ قول بصحته في الطلاق والعتاق والإقرار بمعنى أنّه يوقفه أيضاً (1)؛ استناداً إلى عموم ما دلّ على دخوله في اليمين (2)، وتعليق الطلاق والعتق والإقرار على المشيئة يمين أيضاً وإن لم يكن باللّه كما مرّ عليه التنبيه في باب الظهار والإيلاء(3)، وأنّ اليمين والشرط متقاربان في الصيغة.

وعلى قوله يقف الطلاق والعتق بذلك كما يقف اليمين وهو في معنى البطلان على قول من أبطل ذلك بتعليقه على الشرط الفاسد، وإنّما يخالفه عند من يقول بصحة العقد والإيقاع وبطلان الشرط خاصّة كابن إدريس(4)، فإذا علّق الطلاق ونحوه على المشيئة صحّ ولغا الشرط. والأصحّ بطلانهما معاً. وهو قول الشيخ أيضاً في الخلافه(5).

وأمّا الإقرار فمن قال بدخوله في الطلاق والعتق قال به في الإقرار فحكم بالغاية إذا تعقّبته المشيئة. ومن ردّه فيهما اختلفوا هنا، فمنهم من جوّز دخوله فيه، ومنهم العلّامة في المختلف (6)؛ نظراً إلى أنّ الإقرار المعلق لا يصحّ، فيكون تعليقه على المشيئة موقفاً له، ولأصالة براءة الذمّة من موجبه والأكثر - ومنهم المصنّف - على عدم دخوله فيه، ويكون تعقیبه به كتعقيب الإقرار بالمبطل فيلغو الاستثناء ويلزم الإقرار، وهذا أقوى كلّ ذلك إذا لم يقصد بالمشيئة التبرك، وإلّا لم يضرّ في الجميع.

قوله: «والحروف التي يقسم بها: الباء، والواو، والتاء - إلى قوله - أشبهه الانعقاد».

قال أهل اللسان: حروف القسم ثلاثة، وهي: الباء الموحدة، والواو، والتاء. وأصلها الباء،

ص: 61


1- المبسوط، ج 4، ص 584.
2- الكافي، ج 7، ص 448، باب الاستثناء في اليمين، ح 5: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 282، ح 1031.
3- مرّ في ج 8، ص 31 و 190.
4- السرائر، ج 2، ص 695 - 696.
5- الخلاف، ج 4 ص 483 - 484، المسألة 53.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 165، المسألة 3.

من دون النطق بحرف القسم، على تردّد أشبهه الانعقاد.

-------------------------------------------------------------------

وهي صلة الحلف والقسم. وكأن الحالف يقول: «حلفت» أو «أقسمت «باللّه ثمّ لمّا كثر الاستعمال وفهم المقصود حذف الفعل.

وتلي الباء الواو، وآية قصورها عن الباء أن الباء تدخل على المضمر كما تدخل على

المظهر، تقول: «بك وبه لأفعلنّ كذا» بخلاف الواو.

وتلي الواو التاء. وقد تقام التاء مقام الواو، كما في تخمة وهي من الوخامة، وتراث وهو من قولهم ورث. وآية قصورها أنّها لا تدخل من الأسماء إلّا على اللّه، كما قال تعالى: «تَاللّه تَفْتَوُاْ تَذكُرُ يُوسُفَ(1)، «وَ تَاللّه لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم» (2)، ولا تدخل على سائر الأسماء. وربما قالوا: «تربي» و «ترب الكعبة» و«تالرحمن».

فإذا قال: «تاللّه لأفعلن كذا» فإن نوى به اليمين فلا شك في كونه يميناً. وكذا نحمله عليه مع الإطلاق؛ لاشتهار الصيغة في الحلف لغة (3) وشرعاً وعرفاً. ولو قال: لم أرد به اليمين -وإنّما أردت وثقت باللّه واعتصمت به أو أستعين باللّه أو أومن باللّه ثمّ ابتدأت لأفعلنّ - فوجهان، أظهرهما القبول إذا لم يتعلّق به حقّ آدمي، كما لو ادعى عدم القصد، وهذا بخلاف ما لو أتى بالباء أو الواو.

ولو قال: «واللّه» - برفع الهاء أو نصبها - فهو لحن، وفي انعقاد اليمين به مع قصده وجهان. ولو حذف حروف القسم وقال: «اللّه - بالجرّ - لأفعلنّ» ونوى اليمين ففي انعقاده وجهان، من وروده لغةً، ومنه قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديث ركانة: «اللّه ما أردت إلّا واحدة»(4) بالجرّ، ولأنّ الجرّ مشعر بالصلة الخافضة، ومن أنّ العادة لم تستمر بالحلف كذلك، ولا يعرفه

ص: 62


1- يوسف (12): 85.
2- الأنبياء (21): 57.
3- راجع الصحاح، ج 4، ص 2549، «تا».
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 661، ح 2051: السنن الكبرى البيهقي، ج 7، ص 560، ح 15001 و 15002 بتفاوتٍ.

• ولو قال: «ها اللّه كان يميناً.

• وفي «أيمن اللّه تردّد، من حيث هو جمع يمين. ولعلّ الانعقاد أشبه؛ لأنّه موضوع للقسم بالعرف وكذا: «ايم «اللّه» و «من» «اللّه» و «مُ اللّه».

-------------------------------------------------------------------

إلّا خواص الناس، والأوّل أقوى. ولو رفع أو نصب فالوجهان، وأولى بالوقوع هنا مع النصب؛ لجوازه بنزع الخافض.

ولو قال: «بلّه»، وشدّد اللام وحذف الألف بعدها، فهو غير ذاكر لاسم اللّه تعالى صريحاً، فإنّ البلّة هي الرطوبة، لكن إن نوى به اليمين فهو لحن شائع في ألسنة العوام والخواصّ، وقد يستجيز العرب حذف الألف في الوقف؛ لأنّ الوقف يقتضي إسكان الهاء، فالوجه وقوع اليمين به مع قصده، ويحتمل العدم؛ لكونه لحناً ظاهراً.

قوله: «ولو قال: «ها اللّه» كان يميناً».

ممّا يقسم به لغةً: «ها اللّه»، فإذا قيل: لاها اللّه ما فعلت فتقديره: لا واللّه، و«ها» للتنبيه يؤتى بها في القسم عند حذف حرفه. ويجوز فيها: «ها اللّه» بقطع الهمزة ووصلها، وكلاهما مع إثبات الألف وحذفها، نص عليه ابن هشام في المغني(1).

قوله: «وفي «أيمن اللّه» تردّد من حيث هو جمع يمين» إلى آخره.

ممّا يقسم به لغةً «أيمن اللّه» وهو اسم لا حرف، خلافاً للزجّاج والرمّاني (2). واختلفوا في أنّه مفرد مشتق من اليمين، أو جمع يمين، فالبصريون على الأوّل، والكوفيون على الثاني (3). وهمزته همزة وصل على الأوّل، وقطع على الثاني. واعترض(4) على القائل بجمعه بجواز کسر همزته وفتح ميمه ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو «أفلس» و«أكلب».

ص: 63


1- مغني اللبيب، ج 1، ص 656.
2- حكاه عنهم ابن هشام في مغني اللبيب، ج 1، ص 195.
3- حكاه عنهم ابن هشام في مغني اللبيب، ج 1، ص 195.
4- المعترض هو ابن هشام في مغني اللبيب، ج 1، ص 195 - 196.

الأمر الثاني في الحالف

شروط الحالف

• ويعتبر فيه البلوغ، وكمال العقل والاختيار، والقصد.

فلا تنعقد يمين الصغير، ولا المجنون، ولا المكره ولا السكران، ولا الغضبان إلّا أن يملك نفسه.

-------------------------------------------------------------------

والمصنّف (رحمه اللّه) تردد في انعقاد اليمين به من حيث إنه جمع يمين على قول(1)، فالقسم به لا باللّه وعلى القول الآخر فالقسم أيضاً بوصف من أوصاف اللّه وهو يمنه وبركته لا باسمه (2)، ومن أنّه موضوع للقسم عرفاً، والقسم بالوصف الذاتي للّه كالقسم به، ككبرياء اللّه وعظمته. وهذا أقوى.

والأغلب في هذا رفعه بالابتداء وإضافته إلى اسم اللّه والتقدير: «أيمن اللّه قسمي» ويجوز جرّه بحرف القسم، وإضافته إلى الكعبة وكاف الضمير.

وأمّا «أيم اللّه» وما بعده فمقتضب من «أيمن» تخفيفاً بحذف بعض حروفه أو إبداله؛ لكثرة الاستعمال.

وقد ذكر الفاضل اللغوي ابن برّي(3) في الاستدراك على الصحاح في هذه الكلمات إحدى وعشرين لغةً. أربع في «أيمن» بفتح الهمزة وكسرها مع ضم النون وفتحها. وأربع في «ليمن» باللام المكسورة والمفتوحة والنون المفتوحة والمضمومة. ولغتان في «يمن» بفتح النون وضعها. وثلاث لغات في «أيم» بفتح الهمزة وكسرها مع ضم الميم، وبفتح الهمزة مع فتح الميم. ولغتان في «إم » بكسر الميم وضتها مع كسر الهمزة فيهما. وثلاث في «من» بضمّ الميم والنون، وفتحهما، وكسرهما. و «م» بالحركات الثلاث. وكلّ ذلك يقسم به.

قوله - في الحالف : «ويعتبر فيه البلوغ، وكمال العقل، والاختيار، والقصد».

ص: 64


1- راجع مغني اللبيب، ج 1، ص 195.
2- راجع مغني اللبيب، ج 1، ص 195.
3- هو الإمام أبو محمّد عبداللّه بن بري (499 - 582 ه). له حاشية على الصحاح اسمها الإيضاح. راجع كشف الظنون، ج 2، ص 347، ذيل «صحاح اللغة».

يمين الكافر

• و تنعقد اليمين بالقصد.

• وتصحّ اليمين من الكافر، كما تصحّ من المسلم. وقال في الخلاف لا تصحّ.

-------------------------------------------------------------------

قد تقدّم في الصيغة اشتراط النيّة(1)، والمراد منها القصد إليها، فاشتراطه هنا إمّا باعتبار صلاحيته شرطاً للحالف كما يصلح شرطاً لصحة الصيغة، أو للتنبيه على مغايرته لها من وجه، بأن يراد منه اتصاف الحالف به في نفسه، سواء ربط بمقصود أم لا، وبالنيّة ربط القصد بالصيغة الدالة على الحلف، كما ينبه عليه،نشره، فإنّه أخرج باشتراط القصد السكران والغضبان الذي لا يملك نفسه، فإنّه لا قصد لهما في أنفسهما، بخلاف الكامل الخالي من موانع القصد، فإنّه قاصد في الجملة، لكن قد يربط قصده بالصيغة فيكون قاصداً ناوياً، وقد لا يتوجه بقصده إليها فيكون لاغياً بحلفه.

قوله: «وتنعقد اليمين بالقصد».

لا شبهة في انعقادها بالقصد مع باقي الشرائط، وإنّما الغرض أنها لا تنعقد بدونه، فالقصد من العبارة مفهومها لا منطوقها.

ونبه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث حكم بانعقاد اليمين بالقسم الصريح وإن لم يقصد، وإنّما يتوقّف على القصد ما ليس بصريح كالكناية بالحق والقدرة والكلام ونحو ذلك.

قوله: «وتصحّ اليمين من الكافر كما تصحّ من المسلم. وقال في الخلاف: لا تصحّ».

إذا حلف الكافر باللّه تعالى على شيء، سواء كان مقراً باللّه كاليهودي والنصراني ومن كفره ه بجحد فريضة من المسلمين، أم غير مقرّ به كالوثني، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) والشيخ في المبسوط (2) وأتباعه (3)، وأكثر المتأخّرين - الانعقاد؛ لوجود المقتضي، وهو حلفه باللّه تعالى مع باقي الشرائط، وانتفاء

ص: 65


1- تقدّم في ص 56.
2- المبسوط، ج 4، ص 578.
3- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 406.

-------------------------------------------------------------------

المانع؛ إذ ليس هناك إلّا كفره، وهو غير مانع؛ لتناول الأدلة الدالة على انعقاد اليمين له من الآيات(1) والأخبار (2)، ولأنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشرائع، فيدخلون تحت عموم قوله :تعالى: «وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقْدتُّمُ الْأَيْمَانَ» (3) وغيره(4).

وقال الشيخ في الخلاف(5) وابن إدريس(6): لا تنعقد مطلقاً؛ لأنّ شرط صحتها الحلف باللّه والكافر لا يعرف اللّه. وفى إطلاق القولين معاً منع ظاهر

وفصّل العلّامة في المختلف جيّداً فقال:

إن كان كفره باعتبار جهله باللّه وعدم علمه به لم تنعقد يمينه؛ لأنّه يحلف بغير اللّه، ولو عبّر به فعبارته لغو ؛ لعدم اعتقاده ما يقتضي تعظيمه بالحلف به. وإن كان جحده باعتبار جحد نبوّة أو فريضة انعقدت يمينه؛ لوجود المقتضي وهو الحلف باللّه تعالى من عارف به إلى آخر ما يعتبر(7).

وتوقّف فعل المحلوف عليه لو كان طاعة والتكفير على تقدير الحنث على الإسلام

لا يمنع أصل الانعقاد؛ لأنّه مشروط بشرط زائد على أصل اليمين، فلا ملازمة بينهما.

وفائدة الصحّة تظهر في بقاء اليمين لو أسلم في المطلقة أو قبل خروج وقت المؤقّتة، وفي العقاب على متعلّقها لو مات على كفره ولما يفعله، لا في تدارك الكفّارة لو سبق الحنث الإسلام؛ لأنّها تسقط عنه به.

ص: 66


1- المائدة (5) : 89؛ النحل (16): 9.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 259 - 269، الباب 30 و 32 من كتاب الأيمان.
3- المائدة (5): 89.
4- النحل (16): 91.
5- الخلاف، ج 6، ص 116 - 117، المسألة 9.
6- السرائر، ج 3، ص 48.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 172، المسألة 8.

فيمن لا تنعقد منه اليمين

• وفي صحة التكفير منه تردّد، منشؤه الالتفات إلى اعتبار نيّة القربة.

• ولا تنعقد من الولد مع والده إلّا مع إذنه وكذا يمين المرأة والمملوك، إلّا أن تكون اليمين في فعل واجب أو ترك قبيح. ولو حلف أحد الثلاثة في غير ذلك كان

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وفي صحة التكفير منه تردّد، منشؤه الالتفات إلى اعتبار نيّة القربة».

إذا قلنا بصحّة يمين الكافر على بعض الوجوه، وحنث في يمينه، ووجبت عليه الكفّارة، فظاهر مذهب الأصحّاب عدم صحّتها منه حال كفره مطلقاً؛ لأنّها من العبادات المشروطة بنيّة القربة فيها، وهي متعذّرة في حقّه، سواء عرف اللّه أم لا؛ لأنّ المراد من القربة ما يترتّب عليه الثواب، وهو منتفٍ في حقه.

والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في ذلك، ووجه التردّد ممّا ذكر، ومن احتمال أن يراد بالقربة قصد التقرّب إلى اللّه تعالى، سواء حصل له القرب والثواب أم لا، كما سبق تحقيقه في عتق الكافر(1)، ومن حيث إنّ بعض خصال الكفّارة قد يشكّ في اعتبار نيّة القربة فيها، كالإطعام والكسوة كما تقوله العامّة؛ فإنّهم لا يعتبرون النيّة إلّا في الصوم من خصالها(2) ؛ لصدق الإطعام ونحوه بدونها.

ولكن مذهب الأصحّاب اعتبار نيّة القربة في جميع خصالها، وظاهرهم اختيار المعنى الأوّل من معاني القربة، ومن ثمّ أبطلوا عبادات الكافر، ومن اختار منهم صحة يمينه منع من صحة التكفير منه ما دام على كفره(3).

فما تردّد المصنّف (رحمه اللّه) فيه لا يظهر فيه خلاف معتد به، وإن كان البحث قد ينساق إلى توجه القول على أحد الوجهين.

قوله: «ولا تنعقد من الولد مع والده إلّا مع إذنه - إلى قوله ولا كفّارة».

لا إشكال في توقف انعقاد يمين كلّ واحد من الثلاثة على إذن الوليّ المذكور، ما لم يكن

ص: 67


1- سبق في ج 8، ص 320.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 269؛ وكفاية الأخيار، ج 2، ص 155.
3- راجع المبسوط، ج 4 ص 578: والمهذّب، ج 2، ص 406.

للأب والزوج والمالك حلّ اليمين ولا كفّارة.

-------------------------------------------------------------------

يمينه على فعل واجب أو ترك محرّم. وهو مستفاد من أحاديث، منها حسنة منصور بن حازم(1) أنّ الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قال رسول اللّه : «لا يمين لولد مع والده، ولا للمملوك مع مولاه، ولا للمرأة مع زوجها»(2).

وإنّما الكلام في أنّ الإذن هل هو شرط في صحته، أو النهي مانع منها؟

فالمشهور - وهو الذي جزم به المصنّف (رحمه اللّه) هنا - الثاني، حيث جعل لكلّ واحد من الثلاثة حلّ اليمين لو بادر إليها المولّى عليه قبل الإذن، ولم يحكم ببطلانها بدون الاذن.

واحتجّوا على ذلك بعموم الآيات الدالة على وجوب الوفاء باليمين كقوله تعالى «وَلَا تَنقُضُواْ الْأَيْمَانَ» (3)، وقوله : «وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بمَا عَقَدتُمُ الْأَيْمَانَ»، إلى قوله: «ذَلِكَ كَفْرَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاَحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ»(4). وهذه الآيات تعم صورة النزاع، خرج منه ما إذا حلّ الأب والمولي والزوج فيبقى الباقي.

ولأنّ(5) البطلان إنّما كان لحق أحد الثلاثة، فإذنه ليس سبباً في الصحة، ولا عدم إذنه مانعاً، وإنّما المانع في الحقيقة نهيه.

ص: 68


1- في حاشية «و»: «في شرح الإرشاد جعلها صحيحة، مع أنّ في طريقها إبراهيم بن هاشم. والحقّ أنها حسنة كما ذكرناه. (منه رحمه اللّه)» ثمّ كتب: «هذه الحاشية ليست في نسخة الأصل». راجع غاية المراد، ج 3، ص 309 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
2- الكافي، ج 7، ص 440، باب ما لا يلزم من الأيمان والنذور، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 359 - 360، ح 4276؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 285 - 286، ح 1050.
3- النحل (16): 91.
4- المائدة (5): 89.
5- في حاشية «و»: «هذه حجته الثانية ذكرها الشهيد (رحمه اللّه) في شرح الإرشاد، وهي ضعيفة جدّاً. (منه رحمه اللّه)» وكتب أيضاً: «هذه أيضاً ليست في نسخة الأصل». راجع غاية المراد، ج 3، ص 310 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).

لو حلف بالصريح وادّعى عدم إرادة اليمين

• ولو حلف بالصريح وقال: لم أرد اليمين، قبل منه، ودين بنيته.

-------------------------------------------------------------------

وقيل : تقع بدون الإذن باطلة، حتّى لا تنفعه إجازة الوليّ فضلاً عن توقّف إبطالها على ردّه(1) ؛ لنفيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اليمين مع أحد الثلاثة (2) المحمول على نفي الصحّة؛ لأنّه أقرب المجازات إلى نفي الحقيقة؛ لأنّ نفيها غير مراد، ولأنّ اليمين إيقاع وهو لا يقع موقوفاً. وهذا أقوى.

والجواب عن الآيات المذكورة أنّ الأمر بامتثال مقتضى اليمين، وحفظها موقوف على وقوعها صحيحةً إجماعاً، وهو عين المتنازع، ونحن نمنع وقوعها فضلاً عن عقدها و توكيدها، فلا يدل على مطلوبهم.

وأمّا دعوى كون الإذن ليس سبباً في الصحة ولا عدم الإذن مانعاً، فهو مصادرة محضة، فإنّ الخصم يقول: إن إذنه شرط أو سبب، وإن عدم إذنه مانعها لا نهيه.

وتظهر فائدة القولين فيما لو زالت الولاية بفراق الزوج وعتق المملوك، وموت الأب قبل الحلّ في المطلق أو مع بقاء الوقت. فعلى الأوّل تنعقد اليمين، وعلى الثاني هي باطلة بدون الإذن مطلقاً.

واعلم أنّ العبارة لا تخلو عن تسامح؛ لأنّه حكم أوّلاً بعدم انعقاد اليمين من أحد الثلاثة بدون الإذن، ومقتضاه أنّه منحلّ ؛ لأنّه ضدّ العقد، ثمّ قال: إنّه لو فعل قبل الإذن فلهم حلّها وهو يقتضي انعقادها؛ لأنّ الحلّ لا يكون إلّا للمنعقد. وكأنه أراد لا ينعقد انعقاداً تاماً بل متوقفاً على الإذن، ومن ثمّ كان الإذن اللاحق بعده مصححاً لها، فلو كانت منحلة لم يؤثّر فيها الإذن بعدها.

قوله: «ولو حلف بالصريح وقال: لم أرد اليمين، قبل منه، ودين بنيته».

وذلك لأنّ القصد من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها غيره فيرجع إليه فيه، ولجريان

ص: 69


1- راجع إرشاد الأذهان، ج 2، ص 84- 85.
2- تقدّم تخريجه في ص 68، الهامش 2.

الأمر الثالث في متعلّق اليمين

إشارة:

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل فيما تنعقد عليه اليمين وما لا تنعقد عليه

الأوّل: • لا تنعقد اليمين على الماضي، نافية كانت أو مثبتةً. ولا تجب بالحنث فيها الكفّارة ولو تعمّد الكذب.

-------------------------------------------------------------------

العادة كثيراً بإجراء ألفاظ اليمين من غير قصد بخلاف الطلاق ونحوه، فإنّه لا يصدّق؛ لتعلّق حقّ الآدمي به، وعدم اعتياد عدم القصد فيه، فدعواه عدم القصد خلاف الظاهر.

ولو فرض اقتران اليمين بما يدلّ على قصده كان دعوى خلافه خلاف الظاهر، فيتّجه عدم قبول قوله من هذا الوجه. لكن مقتضى العلة الأولى وإطلاق الفتوى القبول مطلقاً: لإمكانه، وحقّ اللّه لا منازع فيه، فيديّن بنيّته.

قوله: «لا تنعقد اليمين على الماضي، نافيةً كانت أو مثبتةً. ولا تجب بالحنث فيها الكفّارة ولو تعمد الكذب».

اليمين على الماضي غير منعقدة عندنا. ثمّ إن كان كاذباً وتعمد فهي الغموس، سمّيت به؛ لأنّها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار(1).

ولا كفّارة لها عندنا سوى الاستغفار، خلافاً للشافعي حيث أوجبها لها، وحكم بانعقاد اليمين على الماضي مطلقاً (2)؛ عملاً بعموم الآيات(3)، ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «واليمين على من أنكر»(4)، وهو حلف على الماضي. ولو تضمّنت الغموس ظلماً فكفارته مع الاستغفار ردّه.

ص: 70


1- لسان العرب، ج 6، ص 156، «غمس».
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 266 - 267؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 3.
3- البقرة (2): 225؛ المائدة (5): 89.
4- سنن الدارقطني، ج 3، ص 37، ح 98/3151 و 99/3152، وص 460، ح 4427 - 4428: السنن الكبرى، البيهقي، ج 8، ص 213، ح 16445: وج 10، ص 427، ح 21201.

• وإنّما تنعقد على المستقبل، بشرط أن يكون واجباً أو مندوباً، أو ترك قبيح، أو ترك مكروه، أو مباح يتساوى فعله وتركه، أو يكون البرّ أرجح. ولو خالف أثم ولزمته الكفّارة.

ولو حلف على ترك ذلك لم تنعقد ولم تلزمه الكفّارة، مثل أن يحلف لزوجته أن لا يتزوّج أو لا يتسرى، أو تحلف هي كذلك، أو تحلف أنّها لا تخرج معه ثمّ احتاجت إلى الخروج.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وإنّما تنعقد على المستقبل، بشرط أن يكون واجباً أو مندوباً أو ترك قبيح، أو ترك مكروه» إلى آخره.

هذه هي القاعدة في متعلّق اليمين على مذهب الأصحّاب. وضابطه ما كان راجحاً أو متساوي الطرفين، ومتى كان الرجحان في نقيضه ديناً أو دنياً لم ينعقد. ورواياتهم به كثيرة.

ففي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبداللّه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا حلف الرجل على شيء، والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير ولا كفّارة عليه، فإنّما ذلك من خطوات الشيطان»(1).

وروى زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كلّ يمين حلف عليها أن لا يفعلها ممّا له فيه منفعة في الدنيا والآخرة فلا كفّارة عليه، وإنّما الكفّارة في أن يحلف الرجل : واللّه لا أزني، واللّه لا أشرب واللّه لا أخون وأشباه هذا، ثمّ فعل فعليه الكفّارة» (2) وغيرها من الأخبار (3).

ص: 71


1- الكافي، ج 7، ص 443، باب من حلف على يمين فرأى خيراً منها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 284، ح 1043.
2- الكافي، ج 7، ص 447، باب اليمين التي تلزم صاحبها الكفّارة، ح 8 ؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 291، ح 1075.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 240 - 243، الباب 18 من كتاب الأيمان.

-------------------------------------------------------------------

وخالف في ذلك العامّة، فأوجبوا الكفّارة بالمخالفة وإن كانت أولى(1)؛ لرواية رووها في ذلك(2).

واعلم أنّ الأولوية في المباح متنوّعة(3)، ولو طرأت بعد اليمين انحلّت، فلو كان البرّ أولى في الابتداء ثمّ صارت المخالفة أولى اتّبع ولا كفّارة. ولو تجدّد ما يوجب البرّ بعد ذلك فإن كان قد خالف مقتضى اليمين انحلت وإلّا اتّبع الطارئ أيضاً، وهكذا.

وقوله «مثل أن يحلف لزوجته أن لا يتزوج أو لا يتسرّى» مثال للحلف على ترك الراجح؛ لما تقدّم من كون النكاح راجحاً في الجملة(4)، سواء منع من النقيض أم لا، فالحلف على تركه لا ينعقد هذا إذا جعلنا النكاح حقيقة في الوطء. ولو جعلناه حقيقة في العقد لم يدخل التسرّي؛ لأنّه وطء الأمة مع التخدير أو بدونه. فإذا حلف على ترك التسرّي اعتبر في صحة اليمين رجحانه أو تساوي طرفيه. فلو كان تركه أرجح ولو في الدنيا لبعض العوارض انعقدت اليمين وحنث بالفعل. وبذلك صرّح الشيخ في الخلاف(5).

وربّما استفيد من عدم انعقاد اليمين لامرأته على ترك التزويج أنّه لا يكره تزويج الثانية فصاعداً، وإلّا لانعقدت اليمين على تركه. وهو أصحّ القولين(6) في المسألة لمن وثق من نفسه بالعدل.

ص: 72


1- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 264 ؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 173 - 174، المسألة 7946.
2- وهي قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه». راجع مسند أحمد، ج 5، ص 315، ح 17787؛ وسنن الدارمي، ج 2، ص 186، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ وسنن ابن ماجة، ج 1، ص 681، ح 2108.
3- في بعض النسخ «ممنوعة» وفي «و»: «متبوعة».
4- تقدّم في ج 6، ص 18.
5- الخلاف، ج 1، ص 187، المسألة 106.
6- راجع قواعد الأحكام، ج 3، ص 269.

• ولا تنعقد على فعل الغير، كما لو قال: «واللّه لتفعلنّ» فإنّها لا تنعقد في حقّ المقسم عليه، ولا المقسم.

-------------------------------------------------------------------

وعلى القول بالكراهة (1) يحمل انعقاد اليمين على كون الحالف ممّن ينعقد اليمين في حقّه، لعارض اقتضی رجحان تزويجه كما فرضوا اليمين على ترك كثير من الأمور الراجحة بمجرّد الغرض.

قوله: «ولا تنعقد على فعل الغير» إلى آخره.

إذا قال لغيره: «أسألك باللّه لتفعلنّ» أو «أقسم عليك باللّه» ونحو ذلك، وتسمّى يمين المناشدة فهي غير منعقدة في حقّه ولا في حقّ القائل. أمّا في حقّه؛ فلأنّه لم يوجد منه لفظ ولا قصد. وأمّا في حقّ القائل؛ فلأن اللفظ ليس صريحاً في القسم؛ لأنّه عقد اليمين لغيره لا لنفسه.

ولكن يستحبّ للمخاطب إبراره في قسمة؛ لما رواه البراء بن عازب: أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر بسبع: بعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وتسميت العاطس، وردّ السلام، وإجابة الداعي وإبرار القسم، ونصرة المظلوم (2). وإذا لم يفعل فلا كفّارة على أحدهما.

وفي مرسلة عبداللّه بن سنان عن علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أقسم الرجل على أخيه فلم يبرّ قسمه فعلى المقسم كفّارة يمين»(3). وهو قول لبعض العامّة(4). وحملها الشيخ على الاستحباب(5)، مع أنّ إرسالها يمنع من الإيجاب. وقد روي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يقسم على أخيه قال: «ليس عليه شيء، إنّما أراد إكرامه»(6).

ص: 73


1- في «ع» والحجرّيتين وعلى تقدير الكراهة بدل «وعلى القول بالكراهة».
2- الخصال، ص 340 - 341، باب السبعة، ح 2.
3- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 293، ح 1080، وص 302، ح 1122؛ الاستبصار، ج 4، ص 41، ح 141.
4- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 278 - 279؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 248، المسألة 8015.
5- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 302، ذيل الحديث 1122؛ الاستبصار، ج 4، ص 41، ذيل الحديث 141.
6- الكافي، ج 7، ص 462، باب النوادر، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 294، ح 1089؛ الاستبصار، ج 4، ص 41، ح 139.

• ولا تنعقد على مستحيل، كقوله: «واللّه لأصعدن السماء» بل تقع لاغية. وإنّما تقع على ما يمكن وقوعه. ولو تجدد العجز انحلت اليمين، كأن يحلف ليحجّ في هذه السنة فيعجز.

المطلب الثاني في الأيمان المتعلّقة بالمأكل والمشرب

وفيه مسائل:

الأولى: • إذا حلف لا يشرب من لبن عنز له، ولا يأكل من لحمها لزمه الوفاء، وبالمخالفة الكفّارة، إلّا مع الحاجة إلى ذلك.

ولا يتعدّاها التحريم. وقيل: يسري التحريم إلى أولادها، على رواية فيها ضعف.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولا تنعقد على مستحيل» إلى آخره.

لا فرق في عدم انعقاد اليمين على غير المقدور بين المستحيل عادة كصعود السماء، وعقلاً كالجمع بين النقيضين، وشرعاً كترك الصلاة حال كونه مكلفاً بها.

ولو كان الفعل ممكناً في نفسه لكن الحالف عاجز عنه في الحال، كما لو حلف أن يحجّ ماشياً هذه السنة وهو عاجز عنه في الوقت المعيّن لم ينعقد، ولو تجدّدت القدرة بعد السنة.

ولو انعكس فكان قادراً حال اليمين ثمّ تجدّد العجز قبل الفعل انحلت اليمين؛ لفقد الشرط، مع كونه موسعاً فلم يكن بالتأخير مقصرّاً. لكن لو تجدّدت القدرة بعد العجز في غير المقيّد بالوقت أو فيه قبل خروجه وجب.

قوله: «إذا حلف لا يشرب من لبن عنز له» إلى آخره.

الحلف على شرب لبن العنز وأكل لحمها من قبيل الحلف على المباح، فيعتبر في انعقاده تساوي طرفيه في الدنيا أو رجحان جانب اليمين، فلو كان محتاجاً إلى الأكل لم ينعقد. وكذا لو تجدّدت الحاجة كما مرّ. ومثله ما لو كان الأكل(1) راجحاً كالهدي والأضحيّة.

ص: 74


1- في بعض النسخ زيادة: «منها».

الثانية: • إذا حلف «لا آكل طعاماً اشتراه زيد» لم يحنث بأكل ما يشتريه زيد وعمرو، ولو اقتسماه على تردّد.

ولو اشترى كلّ واحد منهما طعاماً وخلطاه، قال الشيخ: إن أكل زيادة عن النصف حنث. وهو حسن.

-------------------------------------------------------------------

وحيث تنعقد اليمين لا يتعدى التحريم إلى أولادها على الأصحّ للأصل، وعدم تعلّق اليمين بغيرها، وعدم تناول الأم للولد بإحدى الدلالات.

والقول بسريان التحريم إلى أولادها للشيخ(1) وأتباعه (2) وابن الجنيد (3)، استناداً إلى رواية عيسى بن عطية قال قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): إني آليت أن لا أشرب من لبن عنزي، ولا آكل من لحمها، فبعتها وعندي من أولادها، فقال: «لا تشرب من لبنها، ولا تأكل من لحمها فإنّها منها»(4).

والرواية ضعيفة السند، فإنّ عيسى بن عطيّة مجهول الحال، مع جماعة آخرين في سندها(5)، وفيه أيضاً عبداللّه بن الحكم وهو ضعيف(6). فهي بالإعراض عنها حقيق.

قوله: «إذا حلف لا أكل طعاماً اشتراه زيد، لم يحنث» إلى آخره.

هنا مسائل:

الأولى: لو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه،زید فاشترى زيد وعمرو طعاماً صفقة واحدة، ففي حنثه بالأكل منه وجهان:

أحدهما: نعم لأنّهما لما اشترياه فكلّ واحد منهما قد اشترى نصفه، ومن ثمّ كان على كلّ واحد نصف ثمنه، وإذا كان لزيد نصفه فقد أكل من طعام اشتراه زيد.

ص: 75


1- النهاية، ص 560 - 561.
2- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 403؛ والراوندي في فقه القرآن، ج 2، ص 225.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 169، المسألة 6.
4- الكافي، ج 7، ص 460، باب النوادر، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 8، ص 292 - 293، ح 1082.
5- في حاشية «و،خ»: «هم سهل بن الحسن ويعقوب بن إسحاق الضبي وأبو محمّد الأرمني. (منه رحمه اللّه)».
6- رجال النجاشي، ص 225، الرقم 591.

-------------------------------------------------------------------

والثاني: لا؛ لأنّ الشراء عقد واحد، فإذا اشترك فيه اثنان ولم ينفرد أحدهما به اختصّ كلّ واحد منهما في العرف بنصفه، فلم تكمل الصفقة لأحدهما، فلم يقع الحنث؛ لأنّ الأسماء في الأيمان تتبع العرف. وحينئذٍ فليس فيه جزء يقال إن زيداً انفرد بشرائه، بل كلّ جزء يقال: إنّه اشتراه زيد وعمرو، فهو كما لو حلف «لا لبست ثوب زيد» فلبس ثوباً لزيد وعمرو، أو قال: «لا دخلت دار زید» فدخل داراً لزيد وعمرو.

وهذا اختيار المصنّف والأكثر، ومنهم الشيخ في الخلاف(1)، وفي المبسوط قوّى القولين معاً (2).

وأجيب عن حجّة الأوّل بأنّه لا يلزم من لزوم كلّ واحد نصف ثمنه أن يكون مشترياً لنصفه، وإنّما الواقع أنّ كلّ واحد منهما نصف مشتر لجميعه لا مشتر تامّ لنصفه (3). وهذا قويّ (4).

وأمّا تشبيه الطعام المشترك بالثوب والدار فضعيف؛ للفرق بأنّ بعض القميص ليس بقميص وبعض الدار ليس بدار، والحال أنّ زيداً لم يشتر جميع القميص والدار، بخلاف الطعام، فإنّ اسمه يقع على القليل والكثير، وإنّما المخلص منه بما ذكر من أن المشترك ليس ولا بعضه مال زيد ولا ما اشتراه.

الثانية: حيث قلنا: إنّه لا يحنث بالأكل منه إذا كان مشاعاً فاقتسماه لم يحنث بما يأكله من نصيب عمرو، وهل يحنث بما يأكله من نصيب زيد؟ و جهان، منشؤهما من أن القسمة تمييز لما اشتراه زيد عمّا اشتراه عمرو، فيصدق على ما حصل لكلّ واحد منهما أنّه الذي اشتراه، ومن أنّ الذي اشتراه غير معين، وما حصل له بالقسمة معيّن، فهذا ليس هو الذي اشتراه بعينه فلا يحنث به ولا نسلّم أنّ القسمة تميّز ما اشتراه، بل تميّز حقّه من المشترك

ص: 76


1- الخلاف، ج 6، ص 149، المسألة 46.
2- المبسوط، ج 4، ص 609.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 196، المسألة 34.
4- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «أقوى» بدل «قوي».

-------------------------------------------------------------------

بينهما بالشراء المشترك، وهذا أقوى. وتردّد الشيخ في المبسوط أيضاً بين القولين(1).

الثالثة: لو كان قد حلف على ما اشتراه،زید فاشترى طعاماً منفرداً، واشترى عمرو طعاماً كذلك، ثمّ اختلطا فأكل منه الحالف، ففيه أوجه:

أحدها - وهو الذي اختاره الشيخ في الخلاف(2)، واستحسنه المصنّف - أنّه إن أكل النصف فما دونه لم يحنث، وإن زاد على النصف حنث؛ لأنّه بزيادته على النصف يقطع بأنه أكل من طعام زيد لا بدونه. ومثله ما ذكروه فيما لو حلف «لا يأكل تمرة» فاختلطت بتمر كثير، فإنّه لا يحنث ما أبقى تمرة، ويحنث لو أكل الجميع؛ لأنا تحقّقنا حينئذٍ أنّه أكل المحلوف عليه ومحلّ التقييد بالنصف عند استواء القدرين، وإلّا فالمعتبر الزيادة على مقدار حقّ عمر و ليتحقّق دخول حقّ زيد.

وثانيها: أنّه لا يحنث ولو أكل كلّه؛ لأنّه لا يمكن الإشارة إلى شيء منه بأنه اشتراه زيد.

فصار كما لو اشتراه زيد مع غيره بتقريب ما تقدم. وثالثها: أنه إن أكل المخلوط قليلاً يمكن أن يكون ممّا اشتراه الآخر كالحبة والحبتين من الحنطة - لم يحنث وإن أكل قدراً صالحاً - كالكفّ والكفّين - يحنث لأنا نتحقّق (3) عادة أن فيه ممّا اشتراه زيد وإن لم يتعيّن لنا.

ورابعها التفصيل بوجه آخر، وهو أن الطعام إن كان مائعاً كاللبن والعسل - أو ما يشبه الممتزج كالدقيق - حنث بأكل قليله وكثيره؛ لامتزاجه واختلاط جميع أجزائه بعضها ببعض، فأي شيء أكله يعلم أنّ فيه أجزاء ممّا اشتراه زيد، وإن كان متميزاً - كالتمر والرطب والخبز - لم يحنث حتّى يأكل أزيد ممّا اشتراه عمرو؛ لدخول الاحتمال في المتميز وانتفائه

ص: 77


1- المبسوط، ج 4، ص 609.
2- الخلاف، ج 6، ص 150 - 151، المسألة 48.
3- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «لأنّه يتحقّق» بدل «لأنا نتحقّق».

• ولو حلف لا يأكل تمرةً معيّنة، فوقعت في تمر، لم يحنث إلّا بأكله أجمع أو بتيقّن أكلها. ولو تلف منه تمرةً لم يحنث بأكل الباقي مع الشكّ.

-------------------------------------------------------------------

عن الممتزج. وهذا اختيار العلّامة في المختلف(1).

وخامسها: أنه يحنث بالأكل منه مطلقاً. اختاره ابن البرّاج واحتجّ عليه بأنّه لا يقطع على أنّه لم يأكل من طعام زيد(2).

وهذا الوجه ضعيف، وحجته واهية جدّاً؛ لأنّ الحنث منوط بالقطع بأكل ما اشتراه زيد الذي هو متعلّق اليمين، لا بعدم القطع بأنّه لم يأكل منه.

قوله: «ولو حلف لا يأكل تمرةً معيّنة فوقعت في تمر، لم يحنث» إلى آخره.

إذا حلف لا يأكل تمرةً معيّنة أو عدداً مخصوصاً، فوقع المحلوف عليه في تمر واشتبه، لم يحنث بالأكل منه إلّا أن يعلم أكل المحلوف عليه، ولا يعلم ذلك إلّا بأكل الجميع؛ لأنّه يتيقن أكلها. وقد يعلم بدون ذلك، كما لو كانت من جنس مخصوص ووقعت في أجناس مختلفة، فأكل مجموع جنس المحلوف عليه، فإنّه يحنث وإن بقي غيره؛ لأنّ المعتبر العلم بكونه أكل المحلوف عليه. ومتى أبقى من المجموع أو من الجنس بقدر العدد المحلوف عليه لم يحنث.

والفرق بين هذا وبين ما لو اشتبهت الحليلة بنساء أجنبيّات - حيث حكموا بتحريم الجميع - أو اشتبهت أجنبية بزوجاته أنّ الأصل في النكاح تحريم ما عدا الحليلة، فما لم تعلم بعينها يحرم النكاح؛ عملاً بالأصل إلى أن يثبت السبب المبيح، بخلاف التمرة المحلوف عليها، فإنّ أمرها بالعكس؛ إذ الأصل جواز أكل التمر إلّا ما علم تحريمه بالحلف. فما لم يعلم يبقى على أصل الحلّ. وكذا القول في نظائره من الأعداد المشتبهة بغيرها المخالف لها في الحكم؛ فإنّه يعمل فيه بالأصل من حلّ وحرمة وطهارة ونجاسة.

هذا من حيث الحنث وعدمه. وهل حلّ التناول ملازم لعدم الحنث؟ المشهور ذلك، وهو

ص: 78


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 198، المسألة 34.
2- المهذّب، ج 2، ص 417.

الثالثة: • إذا حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فأكله اليوم، حنث ؛ لتحقّق المخالفة، ويلزمه التكفير معجّلاً. وكذا لو هلك الطعام قبل الغد أو في الغد بشيء من جهته. ولو هلك من غير جهته لم يكفّر.

-------------------------------------------------------------------

الذي أطلقه المصنّف واستقرب العلّامة وجوب اجتناب المحصور الذي لا يشق تركه (1)؛ لأنّه احتراز عن الضرر المظنون ولا حرج فيه، فيجب. ويؤيّده قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال»(2).

ولو فرض تلف تمرة لم يحنث بأكل الباقي، كما لو أبقى تمرة؛ لاحتمال كون التالفة هي المحلوف عليها، فيتمسّك في الباقي بأصالة الحلّ.

واعلم أنّ المصنّف (رحمه اللّه) وكثيراً مثلوا لعدم الحنث بإبقاء تمرة، والأولى التمثيل بإبقاء بعض تمرة؛ لينبّه على أنّ من حلف لا يأكل تمرة لا يحنث بأكل بعضها. وكذا لو حلف لا يأكل رمّانةٌ أو رغيفاً ونحو ذلك. وإنّما يحنث بأكل الجميع؛ لأنّ البعض لا يصدق عليه اسم المحلوف عليه.

ولو كان الحلف على أكلها فاختلطت لم يبر إلّا بأكل الجميع؛ لاحتمال أن يكون المتروك هو المحلوف عليه أو بعضه. والحكم هنا كما سبق في اقتضائه الجميع فلا يبر إلّا به.

وفي استثناء ما بقي من فتات الرغيف التي جرت العادة بأن يدعه الناس ولا يتكلفون التقاطه وجهان، والأجود اتباع العرف

ولو قال: «لأكلنّ هذه الرمانة» فترك حبّةٌ لم يبر. ولو قال: «لا أكلها» فترك حبّة لم يحنث مع احتماله كما سبق.

قوله: «إذا حلف ليأ كلن هذا الطعام غداً إلى آخره.

إذا حلف ليأ كلنّ هذا الطعام غداً، فلا يخفى البرّ إن أكله غداً، والحنث إن أخر أكله

ص: 79


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 271.
2- كشف الخفاء، ج 2، ص 212، ح 2186؛ مختلف الشيعة، ج 7، ص 32، ذيل المسألة 1؛ الدرر المنتثرة. ص 126. ح 401.

-------------------------------------------------------------------

عن الغد مع الإمكان، ويبقى الكلام في مواضع:

الأوّل: أن يأكله قبل الغد اختياراً، وقد جزم المصنّف (رحمه اللّه) بالحنث ولزوم تكفيره معجّلاً؛ لتحقّق المخالفة منه لمقتضى اليمين اختياراً، وقد كان وجب عليه الوفاء باليمين؛ لإيقاعه إياه، فيدخل تحت العموم(1)، ولا يتم ذلك إلّا بحفظ الطعام إلى الغد ليبرّ به يمينه، فإذا أكله فقد فوّت البرّ بنفسه مختاراً، وهذا معنى الحنث، فتجب الكفّارة حينئذٍ.

ويضعّف بأنّ الحنث لا يتحقّق إلّا بمخالفة اليمين بعد انعقادها ولم يحصل قبل الغد؛ لأنّه سبب الوجوب فلا يحصل المسبب قبله ولإمكان موته قبل مجيء الغد فيسقط؛ ولأنّ تعليقه الأكل على مجيء الغد تعليق بما لا يقدر عليه الحالف، فكيف يحنث قبل حصوله؟!

والأقوى مراعاة وجوبها ببقائه إلى الغد، وتمكنه من أكله لو كان موجوداً.

وبالجملة : فالحاصل قبل الغد باليمين جزء السبب لإتمامه، وإنّما يتم بحضور الغد.

وربما بني الحكم على أنّ المكلف إذا علم انتفاء شرط التكليف هل يحسن تكليفه قبل مجيء وقته أم لا؟ وفيه خلاف بين الأصوليّين، تقدّم البحث فيه في الصوم إذا طرأ المانع في أثناء النهار وقد أفسده قبله باختياره (2).

وفيه نظر؛ للفرق بين الأمرين، فإنّه في هذه المسألة لم يتم سبب الوجوب قطعاً؛ لتعليق اليمين على أمر متجدّد لم يحصل بعد، بخلاف القاعدة الأصوليّة، فإنّها مفروضة فيما إذا اجتمعت الشرائط وتمَّ السبب وإنّما طرأ بعد ذلك ما أبطله، فيمكن الحكم هنا بوجوب الكفّارة؛ لاجتماع شرائط التكليف في ابتداء الفعل، دون مسألة النزاع.

الثاني : أن يهلك الطعام قبل الغد بسبب من الحالف. وفيه القولان (3)كما لو أكله.

ص: 80


1- المائدة (5): 89 : النحل (16): 91.
2- تقدّم في ج 1، ص 537 وما بعدها.
3- القول بعدم الحنث للشيخ في المبسوط، ج 4، ص 615 والقول بالحنث لبعض العامّة، راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 61: والمجموع شرح المهذّب، ج 18، ص 107.

-------------------------------------------------------------------

الثالث: أن يهلك الطعام قبله لا بسببه، فلا حنث ولا كفّارة قطعاً.

الرابع: أن يهلك في الغد قبل التمكن من أكله، باختياره أو بغير اختياره. والحكم كما لو تلف قبله.

الخامس: أن يهلك في الغد بعد التمكن من أكله باختياره، فيحنث قطعاً وتجب الكفّارة؛ لتفويته الواجب باختياره، كما لو حلف «ليأكلنّه» من غير تقييد بوقت فلم يأكله اختياراً وأتلفه.

السادس: أن يهلك في الغد بعد التمكّن لا باختياره وفي حنثه وجهان، من إخلاله بمقتضى اليمين بعد انعقادها مختاراً، ومن أنّ الوقت موسّع قد جوز له الشارع تأخيره؛ لأنّ جميع الغد وقت له فليس مقصّراً في التأخير.

وربما خرّج الوجهان على أن من مات في أثناء الوقت ولم يصلّ هل يجب عليه القضاء أم لا؟ لأنّ التأخير عن أوّل الغد كتأخير الصلاة عن أوّل الوقت.

وربما فرّق بينه وبين ما لو قال لأكلن هذا الطعام» وأطلق، ثمّ أخر مع التمكن حتّى تلف الطعام؛ فإنّه ليس هناك لجواز التأخير وقت مضبوط، والأمر فيه إلى اجتهاد الحالف فإذا مات بان خطوه وتقصيره، وهاهنا الوقت مقيّد(1) مضبوط، وهو في مهلة من التأخير إلى تلك الغاية. وهكذا نقول: من مات في أثناء الوقت قبل أن يصلّي لا يقضى على الأظهر.

وفيه: أنّ وقت الموسع العمر، وتضيّقه مشروط بطنّ ضيق العمر عنه بقرائن حالية، فلا تقصير مع حصول الموت قبله مطلقاً، بل مع ظهور الأمارة والمخالفة، فلو مات فجأة لم يتبيّن الخطأ، حيث لم يخالف ما ناطه الشارع به كالوقت الموسع.

ثم إذا قلنا بالحنث في الغد فهل يحكم به في الحال أو قبيل(2) الغروب؟ وجهان. وتظهر

ص: 81


1- في بعض النسخ: «مقدّر» بدل «مقيد».
2- في بعض النسخ «قبل» بدل «قبيل».

الرابعة: • لو حلف «لا شربت من الفرات» حنث بالشرب من مائها، سواء كرع منها أو اغترف بيده أو بإناء. وقيل: لا يحنث إلّا بالكرع منها. والأوّل هو العرف.

-------------------------------------------------------------------

فائدة الوجوب المعجّل في جواز الشروع في إخراجها حينئذٍ، وفيما لو مات فيما بين الوقتين.

قوله: «لو حلف: لا شربت من الفرات» إلى آخره.

إذا حلف «لا شربت من ماء الفرات» مثلاً، حنث بالشرب منها كرعاً قطعاً. وهل يحنث بالشرب من آنية اغترفت منها، أو بالشرب بيده منها؟ قولان:

أحدهما: يحنث، وإليه ذهب الأكثر، ومنهم الشيخ في الخلاف(1)، وإليه مال المصنّف (رحمه اللّه)؛ لدلالة العرف على صدق الشرب منه بذلك، واللغة لا تنافي ذلك؛ لأنّ «من» هنا للابتداء، والمراد كون الفرات مبدأ للشرب، سواء كان بواسطة أم بغيرها.

ويؤيّده قوله تعالى: «إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» إلى قوله: «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَ بِيَدِهِ» (2) والاستثناء حقيقة في المتّصل.

والثاني: لا يحنث؛ لأنّ الشرب منها بغير واسطة كالكرع - حقيقة وما عداه مجاز، وآية الحقيقة أن الحلف لو كان على الشرب من ماء الإداوة لم يحنث بصب مائها في إناء غيرها أو في يده ثمّ شربه قطعاً، ولو كان حقيقةً في الأعمّ لزم الحنث هنا. وهذا اختيار الشيخ في المبسوط (3) وابن إدريس(4).

والأقوى الأوّل؛ لدلالة العرف عليه، والشرب من الشيء بواسطة أو بغيرها غير منضبط؛ لأنّه لو اعتبر عدم الواسطة لزم عدم الحنث بالكرع أيضاً؛ لأنّ أخذه بالفم سابق على الشرب، بدليل أنه لو مجّه من فيه بعد أخذه لم يكن شارباً، ولو صبّ من الكوز في القدح

ص: 82


1- الخلاف، ج 6، ص 163 - 164، المسألة 67.
2- البقرة (2): 249.
3- المبسوط، ج 4، ص 620.
4- السرائر، ج 3، ص 52.

الخامسة: • إذا حلف: «لا أكلت رؤوساً» انصرف إلى ما جرت العادة بأكله غالباً، كرؤوس البقر والغنم والإبل، ولا يحنث برؤوس الطيور والسمك والجراد. وفيه،تردّد، ولعلّ الاختلاف عادي.

-------------------------------------------------------------------

وشرب لا يصدق عليه أنه شرب من الكوز، فدلّ على عدم انضباط الواسطة. وإنّما المرجع إلى العرف وهو دالّ في الشرب من النهر على ما يعم الواسطة، وفي الكوز على ما كان بغير واسطة، وعلى أنّ توسط الفم غير مانع مطلقاً.

قوله: «إذا حلف: لا أكلت رؤوساً انصرف» إلى آخره.

الرؤوس حقيقة لغوية في جميع هذه الأشياء وأشباهها، لكنّ العرف خصها عند إطلاق القائل «أكلت رؤوساً» أو «اشتر لنا رؤوساً» ونحو ذلك على التي تميّز عن الأبدان وتشوى وتطبخ وتباع بانفرادها، وهي رؤوس الإبل والبقر والغنم. أمّا الأخيران فواضح. وأمّا الأوّل فلاعتياد أهل البادية أكله منفرداً، وذكروا أن ذلك يعتاد بالحجاز أيضاً.

وقد اختلف الفقهاء في حملها عند الإطلاق على معناها العام، أو على بعض أفرادها وهي «النَعَم» وما شابهها، فالأكثر على الثاني؛ ترجيحاً للعرف على اللغة، وابن إدريس على الأوّل(1)؛ حملاً للفظ على معناه لغةً. ولعلّ العرف غير منضبط.

والمصنّف (رحمه اللّه) حمل الاختلاف على اختلاف العادة وليس بجيّد، بل الاختلاف واقع وإن استقرّت العادة في مقابلة اللغة؛ نظراً إلى أن اللغة حقيقة إجماعاً، والعادة ناقلة عن الحقيقة اللغويّة أو مخصصّة، وكلاهما مجاز، غايته أن يصير راجحاً، ومع تعارض الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح يقع الإشكال في الترجيح. ولو ادعي صيرورة العرف حقيقةً ففي ترجيح إحدى الحقيقتين على الأخرى خلاف بين الأصوليّين، وإن كان المختار من ذلك ترجيح العرف على اللغة إذا كان منضبطاً، والمعتبر منه عرف الحالف، هذا كلّه إذا لم ينو الحالف شيئاً، وإلّا تعيّن.

ص: 83


1- السرائر، ج 3، ص 50 - 51.

• وكذا لو حلف لا يأكل لحماً. وهنا يقوى أنّه يحنث بالجميع.

• ولو حلف لا يأكل شحماً، لم يحنث بشحم الظهر. ولو قيل : يحنث عادةً كان حسناً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وكذا لو حلف لا يأكل لحماً. وهنا يقوى أنه يحنث بالجميع».

الخلاف هنا كالسابق، من حيث إنّ اللحم لغةٌ متناول لجميع لحوم الحيوان، ومن دلالة العرف على خروج بعضها إذا قال القائل: «أكلت لحماً» والقولان للشيخ. فالثاني له في المبسوط، إلّا أنه استثنى الحيتان خاصّة، وحكم بدخول لحم الصيد والطير فيه(1). والأوّل له في الخلاف، محتجاً بأن اسم اللحم يطلق عليه، قال تعالى: «وَمِن كلّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيئًا»(2). وقوّاه ابن إدريس (3) مع ذهابه في الأوّل إلى التقييد؛ مستدلّاً بترجيح عرف الشرع على العادة(4)، وكذلك المصنّف.

والأقوى أن الحكم فيه كالسابق من البناء على العرف إن انضبط، وإلّا عم؛ عملاً بالحقيقة اللغويّة. هذا إذا لم ينو شيئاً مخصوصاً، وإلّا فالمعتبر ما نواه.

قوله: «ولو حلف لا يأكل شحماً لم يحنث بشحم الظهر» إلى آخره.

المراد بشحم الظهر الأبيض الملاصق للّحم بحيث لا يختلط بالأحمر في الظهر، ومثله في الحنث. وفي دخوله في اسم اللحم أو الشحم وجهان:

ووجه الأوّل: أنّه لحم سيمين، ولهذا يحمر عند الهزال.

ووجه الثاني: إطلاق اسم الشحم عليه، ولهذا استثناه اللّه تعالى منه بقوله: «وَمِن كلّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيئًا»(5) والأصل في الاستثناء المتصل كما مر في الإقرار(6)، والمنفصل

ص: 84


1- المبسوط، ج 4، ص 627.
2- الخلاف، ج 6، ص 167 - 168، المسألة 73؛ والآية في سورة الفاطر (35): 12.
3- السرائر، ج 3، ص 52.
4- السرائر، ج 3، ص 52.
5- الأنعام (6): 146.
6- مرّ في ج 8، ص 577.

• وإن قال: «لا ذقت شيئاً» فمضغه ولفظه، قال الشيخ: يحنث. وهو حسن.

-------------------------------------------------------------------

مجاز لا يحمل عليه اللفظ عند الإطلاق بدون القرينة.

ويشكل بأنّ القرينة موجودة؛ لأنّه عطف معه الحوايا وما اختلط بعظم، وهو لحم اتّفاقاً، فيلزم أن يصير الاستثناء متصلاً ومنفصلاً، فحمله في الجميع على المنفصل أولى.

وأجيب بأنّ العطف في قوة تكرير العامل، فيكون الاستثناء في قوّة المتعدّد، فيصير استثناءات متعدّدة لا يضر اختلافها بالاتصال والانفصال(1).

وادعى ابن إدريس إجماع أهل اللغة على تسميته شحماً حقيقة (2). والأقوى الرجوع فيه إلى العرف وهو الذي يقتضيه كلام المصنّف، غير أنّه ادعى دلالة العرف على تسميته شحماً. وعلى كلّ تقدير فهو منحصر في أحد الصنفين اللحم والشحم، فإذا حلف على أكل اللحم ولم نقل يكون السمين شحماً دخل في اللحم، وإلّا ففي الشحم.

قوله: «وإن قال: لا ذقت شيئاً، فمضغه ولفظه، قال الشيخ: يحنث. وهو حسن».

إذا حلف لا ذقت شيئاً، فأكل أو شرب حنث قطعاً؛ لتضمّنهما الذوق وزيادةً. وإن اقتصر على مضغه ولفظه من فيه من غير أن يدخله أو بعضه الحلق فوجهان، أصحهما الحنث لتحقّق الذوق بذلك؛ لأنّه حقيقة في إدراك طعم الشيء في الفم بالقوة المودعة في اللسان المنبثّة (3) في العصب المفروش على وجهه، وهي كقوة المسّ(4)، في توقّفها على المماسة باللسان(5)، ويتم فعلها بتوسّط الرطوبة اللعابية، ولا يشترط إدخاله بعد ذلك إلى الحلق ومن ثمّ جاز للصائم أن يذوق الطعام من غير أن يفطر به.

وفيه وجه ضعيف بأنه لا يحنث بذلك؛ لأنّه(6) لا يفطر الصائم به ولا يخفى عدم الملازمة.

ص: 85


1- راجع إيضاح الفوائد، ج 4، ص 14 مع الاختلاف في التعبير.
2- السرائر، ج 3، ص 55-56.
3- في بعض النسخ: «المثبتة» بدل «المنبتة».
4- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «اللمس بدل «المسّ».
5- في «ع»: «للسان» بدل «باللسان».
6- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «كما» بدل «لأنّه».

السادسة: • إذا قال: «لا أكلت سمناً» فأكله مع الخبز حنث. وكذا لو أذابه على الطعام وبقي متميّزاً. أمّا لو حلف لا يأكل لبناً، فأكل جبناً أو سمناً أو زبداً لم يحنث.

السابعة • لو قال: «لا أكلت من هذه الحنطة» فطحنها دقيقاً أو سويقاً لم يحنث

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا قال: لا أكلت سمناً، فأكله مع الخبز حنث» إلى آخره.

كل واحد من السمن والجبن واللبن والزبد أشياء مختلفة اسماً وصفةً، وإن كان بعضها في الأصل راجعاً إلى بعض. فإذا حلف أن لا يأكل سمناً لم يحنث بأكل اللبن والجبن قطعاً. وفي حنثه بأكل الزبد وجهان أصحهما أنه لا يحنث لتفاوتهما في الأسماء والصفات.

ووجه الحنث أنّ الزبد سمن؛ لاشتماله عليه دون العكس؛ لأنّ الزبد عبارة عن مجموع السمن وباقي المخيض.

ولا فرق في السمن بين أكله جامداً وذائباً، مع الخبز ومنفرداً، وعلى الطعام إذا بقي متميّزاً؛ لصدق اسمه، أما إذا استهلك في الطعام لم يحنث.

واحترز بقوله «وكذا لو أذابه على الطعام» عمّا لو شربه ذائباً بغير طعام ونحوه، فإنّه لا يحنث؛ لعدم دخول الأكل في الشرب. مع احتماله هنا؛ نظراً إلى العرف، وهو بعيد. وانضباط العرف ممنوع

وكذا لا يحنث بحلفه على أكل الزبد بالسمن، ولا باللبن والجبن بطريق أولى وبالعكس ؛ لاختلاف الاسم والوصف لغةٌ وعرفاً. ويدخل في اللبن الحليب والرائب(1) واللّبأ (2) والمخيض (3) من الأنعام والصيد، إلّا أن يخص العرف بعضها.

قوله: «لو قال: لا أكلت من هذه الحنطة فطحنها دقيقاً أو سويقاً لم يحنث».

هذا ممّا تعارض فيه الاسم والإشارة، فإنّ «هذه» تقتضي تعلّق اليمين بها ما دامت موجودةً وإن تغيّرت، وتقييدها بالحنطة والدقيق ونحوهما يقتضي زوال اليمين بزوال القيد.

ص: 86


1- راب اللين: إذا خَثر وأدرك، فهو راتب الصحاح، ج 1، ص 140، «روب».
2- اللباً: أوّل اللبن في النتاج. الصحاح، ج 1، ص 70، «لبأ».
3- المخيض: اللبن الذي قد مُخض وأخذ زبده الصحاح، ج 2، ص 1105، «مخض».

وكذا لو حلف لا آكل الدقيق فخبزه وأكله.

-------------------------------------------------------------------

وفي بقاء الحنث بالتغير المذكور وجهان:

أجودهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) ولم يذكر غيره، وقبله الشيخ في المبسوط (1) - زواله؛ لأنّ اسم الحنطة قد زال بالطحن، وصورته قد تغيّرت، فصار كما لو زرعها فنبتت فأكل حشيشها، أو قال: «لا آكل من هذا البيض» فصار فرخاً فأكله.

والثاني: بقاء الحنث، ذهب إليه القاضي ابن البرّاج (2)؛ لأنّ الإشارة وقعت على العين وهي باقية؛ ولأنّ الحنطة إنّما تؤكل غالباً كذلك، فصار كما لو قال: «لا آكل هذا الكبش» فذبحه وأكله؛ ولأنّ الحقيقة النوعيّة ما تبدّلت، وإنّما المتغيّر بعض أوصافها، بخلاف ما لو صارت الحنطة حشيشاً والبيض فرخاً.

وكذا الحكم فيما لو قال: «لا آكل الرطب» فصار تمراً، أو البسر فصار رطباً، أو العنب فصار زبيباً، أو «لا أشرب من هذا العصير» فصار خلاً.

وذكر أنه باحث الشيخ في ذلك، وأورد عليه:

إنّ عين الحنطة باقية، وإنّما تغيّرت بالتقطيع الذي هو الطحن.

فأجابه بأنّ متعلّق اليمين مسمّى الحنطة والدقيق لا يسمّى حنطة، كما أن الخبز لا يسمى دقيقاً.

فألزمه بأنّ من حلف أن لا يأكل هذا الخيار وهذا التفاح، ثمّ قشره وقطعه وأكله أن لا يحنث؟! (3) ولا شبهة في أنه يحنث. فالتزم بمثل ذلك في الخيار والتفّاح(4).

وهو التزام رديء.

والحق أنّ الخيار والتفّاح لم يخرجا عن مسمّاهما بالتقطيع، ولا حدث لهما اسم زائد

ص: 87


1- المبسوط، ج 4، ص 629.
2- المهذّب، ج 2، ص 419 - 420.
3- في النسخ: «لا يحنث» بدل «أن لا يحنث». والمثبت كما في المصدر.
4- المهذّب، ج 2، ص 419 - 420.

• وكذا لو حلف لا يأكل لحماً، فأكل أليةً، لم يحنث. وهل يحنث بأكل الكبد والقلب؟ فيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

على كونه خياراً مقطعاً أو تفاحاً كذلك، بخلاف الحنطة المطحونة، فإنّها لا تسمى بعد الطحن حنطة لغةٌ ولا عرفاً إلّا على وجه المجاز. وبهذا حصل الفرق بينهما الموجب للحنث في أكل الخيار المقطع والتفاح دون الدقيق(1).

وفي المختلف - بعد أن نقل كلام الشيخين واعترض عليه - حقق المسألة بما محصّله يرجع إلى اختيار كلام القاضي في الحنطة والدقيق، دون الرطب إذا صار تمراً والعنب زبيباً، ونحو ذلك.

والفرق أنّ ما يصلح للأكل حالة اليمين على حالته التي هو عليها يتعلّق به التحريم على تلك الحالة دون غيرها ممّا ينتقل إليها عن اسمه الأوّل، وما لا يؤكل على تلك الحالة يتعلّق التحريم به على حالة تؤكل كالحنطة والدقيق، فيحنث بأكلها خبزاً.

قوله: «وكذا لو حلف لا يأكل لحماً، فأكل ألية، لم يحنث» إلى آخره.

إذا حلف لا يأكل لحماً أو لا يشتريه، لا يحنث بالشحم إذا كان في البطن قطعاً. وفيما خالط اللحم من شحم الظهر والبطن وجهان(2). وقد تقدّم الكلام فيهما (3).

وكذا الإشكال في الألية، فقيل: إنّها من اللحم كشحم الظهر؛ لأنّها نابتة من اللحم قريبة من اللحم السمين(4).

وأصحّهما المنع؛ لمخالفتها اللحم اسماً وصفةً، ولأنّها تذوب كالشحم والإشكال في دخولها في اسم الشحم لو حلف عليه كذلك، فإنّها منحصرة فيهما.

ص: 88


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 203 - 204، المسألة 41.
2- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «الوجهان» بدل «وجهان».
3- تقدّم في ص 84.
4- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 35 و 36؛ والمجموع شرح المهذّب، ج 18، ص 59 و 61.

الثامنة : • لو حلف لا يأكل بسراً، فأكل منصفاً، أو لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً حنث. وفيه قول آخر ضعيف.

-------------------------------------------------------------------

ويحتمل خروجها عنهما معاً؛ لمخالفتها لهما اسماً وصفةً. وكذا البحث في السناء ولا يحنث على أحدهما بالآخر.

وهل يحنث في اللحم بالكبد والقلب؟ وجهان، من أنّهما في معناه، وقد يقومان مقامه، ويؤيّده في القلب قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إن في الجسد مضغةً»(1). الحديث، والمضغة القطعة من اللحم. و من عدم انصراف اللفظ إليهما عند الإطلاق، كما إذا قال السيد لعبده: اشتر لنا لحماً، فاشتراهما مدعياً أنهما داخلان تحت إطلاق الأمر، فإنّه يستحقّ اللوم، ويمنع من دخولهما عرفاً، وهو آية الحقيقة ولصحة السلب، يقال: ما اشتريت لحماً وإنّما اشتريت كبداً وقلباً. ولعلّ هذا أظهر عرفاً.

والوجهان آتيان في لحم الرأس والخدّ واللسان والأكارع (2) وأولى بالدخول لو قيل به ثمّ أمّا الكرش (3) والمصران(4)، والمخّ فلا.

قوله: «لو حلف لا يأكل بسراً، فأكل منصّفاً» إلى آخره.

لمّا كان معتمد البرّ والحنث على موجب اللفظ الذي تعلّقت به اليمين ما لم يقترن به نيّة أو قرينة خارجيّة، وكان مدلول كلّ من لفظ البسر والرطب مخالفاً للآخر، فإنّ الأوّل يطلق على ما لم يرطب من ثمرة النخل بعد مقاربتها(5) له، والثاني لما نضج منه وسرت فيه الحلاوة والمائية، لم يدخل أحدهما في الآخر إذا حلف عليه.

ص: 89


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 28 - 29، ح 52؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1220، ح 1599/107؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 5، ص 433، ح 10400.
2- الكراع في الغنم والبقر : بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير، وهو مستدق الساق. الصحاح، ج 3، ص 1275، «کرع».
3- الكرش لكلّ مُجترّ بمنزلة المعدة للإنسان. الصحاح، ج 2، ص 1017، «کرش».
4- المصير : المعا، والجمع المُصران الصحاح، ج 2، ص 817، «مصر».
5- في بعض النسخ: مقارنتها» بدل «مقاربتها».

التاسعة: • اسم الفاكهة يقع على الرمان والعنب والرطب. فمتى حلف لا يأكل فاكهةً، حنث بأكل كلّ واحد من ذلك. وفي البطيخ تردّد.

-------------------------------------------------------------------

أمّا المنصّف - وهو الذي صار نصف الواحدة منه رطبةً ونصفها بقي بسراً - ففي الحنث به لو حلف على أن لا يأكل البسر أو الرطب، أو البرّ به لو حلف على أن يأكله، وجهان من صدق اسم الرطب على الجزء المرطب والبسر على الجزء الذي لم يرطب فيحنث بأكله وهو مذهب الأكثر، ومن عدم صدق كلّ واحد من اسم الرطب والبسر عليها حقيقةً، وإنّما لها اسم خاص ووصف خاص، فلا يحنث، وإليه ذهب ابن إدريس(1)، وهو الذي أشار المصنّف إلى ضعفه.

هذا إذا أكل الجميع أو النصف الموافق لمقتضى اليمين، أما لو أكل النصف المخالف خاصّة فلا إشكال في عدم الحنث.

ولو كانت يمينه أن لا يأكل رطبة أو بسرةً فأكل منصّفةً، فلا إشكال في عدم الحنث؛ لأنّ الرطبة اسم لما يرطب كلّها والبسرة لما لم يرطب منه شيء، وذلك غير متحقّق في النصف ولا المعظم، بخلاف مطلق البسر والرطب، فإنّه يصدق ببعضها.

فائدة: أوّل التمرة طلع، ثمّ خلال - بفتح المعجمة - ثمّ بلح، ثمّ بسر، ثمّ رطب، ثمّ تمر.

قوله: «اسم الفاكهة يقع على الرمان والعنب والرطب» إلى آخره.

الفاكهة اسم لما يتفكّه به - أي يتنعّم - قبل الطعام وبعده ممّا لا يكون مقصوداً بالقوت من العنب والتين والرطب والرمّان والتفّاح والمشمش والسفرجل والكمّثرى والخوخ والأُترجّ والنارنج والليمون والنبق والموز والتوت بأنواعه ونحوها(2).

وتخصيص المصنّف الثلاثة على وجه يشعر بانحصار الفاكهة فيها لا يخلو من تجوّز. والحامل عليه تخصيص أشرف الأفراد وموضع النزاع، فإنّ بعض العامّة منع من تناول

ص: 90


1- السرائر، ج 3، ص 56.
2- راجع المصباح المنير، ص 479، «فکه».

-------------------------------------------------------------------

الفاكهة للرطب والرمّان؛ لأنّه تعالى عطفهما عليها في قوله : «فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» المقتضي للمغايرة(1).

وأُجيب بأنّ المغايرة متحقّقة على التقديرين؛ فإنهما جزئيان لها والجزئي مغاير للكلّي. وقد يعطف عليه لمزيد شرف له عن غيره من الجزئيات واهتمام بشأنه وإظهار لفضله، كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة في قوله تعالى: «مَن كَانَ عَدُوًّا للّه وَمَلائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَ جِبْرِيلَ وَمِيكَال»(2) وعطف الصلاة الوسطى على مطلق الصلوات بقوله: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوَةِ الْوُسْطَى»(3).

ولا تدخل الخضراوات كالقثّاء والخيار والباذنجان والجزر والقرع - في الفاكهة قطعاً. واختلف في البطّيخ، فأدخله الشيخ فى المبسوط فيها؛ لصدق اسمها عليه عرفاً، ولأنّ لها نضجاً وإدراكاً كالفواكه(4). وقيل: هو من الخضراوات(5). والأولى الرجوع فيه إلى العرف، فإن فقد فالأصل عدم الحنث به.

ثم لا إشكال في تناول الفاكهة لما ذكر من أفرادها رطباً. وفي تناوله له يابساً- كالتمر والزبيب ومشمس المشمش والخوخ والتين - وجهان، من انقسام الفاكهة إلى الرطبة واليابسة المقتضي لصدقها عليهما، ومن خروج اليابس عنها عرفاً، والانقسام أعمّ من الحقيقة ولا نزاع في جواز التسمية في الجملة والوجه اتباع العرف، وهو الآن لا يتناول اليابس.

وكذا البحث في اللبوب كالفستق والبندق والجوز، وأولى بالمنع هنا، وهو الأصحّ. وفي

ص: 91


1- بدائع الصنائع، ج 3، ص 88؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 316، المسألة 8138؛ والآية في سورة الرحمن (55): 68.
2- راجع إيضاح الفوائد، ج 4، ص 16؛ والآية في سورة البقرة (2): 98.
3- البقرة (2): 238.
4- المبسوط، ج 4، ص 638.
5- لم نعثر عليه، ويستفاد ذلك من عبارة الغزالي في الوجيز، ج 2، ص 228 بقوله : وفي البطيخ تردّد؛ وفي روضة الطالبين، ج 8، ص 39: ويحنث بالبطّيخ على الأصحّ.

• والأدم اسم لكلّ ما يؤتدم به، ولو كان ملحاً، أو مائعاً كالدبس، أو غير مائع كاللحم.

-------------------------------------------------------------------

تناولها للبري من الزعرور(1) وحبّ الآس(2) وحبّ الصنوبر (3) إن أدخلنا اللبوب وجهان. وجزم في التحرير(4) بدخول المستطاب منها، كحب الصنوبر.

والأجود اتّباع العرف.

واعلم أنّ الأترجّ(5) بضم الهمزة والراء وتشديد الجيم، ويقال فيه: أترنج بالنون، وترج، والنبق بفتح النون وسكون الموحّدة وكسرها. والفستق بضمّ الفاء وفتحها. والقثّاء بكسر القاف أكثر من فتحها، وبمثله مع المدّ والباذنجان بكسر المعجمة. والجزر بفتح الجيم وكسرها.

قوله : «والأُدم اسم لكلّ ما يؤتدم به ولو كان ملحاً، أو مائعاً كالدبس، أو غير مائع كاللحم».

الأدم ما يضاف إلى الخبز ويؤكل معه(6)، مرقة كان أم دهناً، جامداً كالجبن والتمر والملح والبقول والبصل والفجل، أم مائعاً كالخلّ والدبس والعسل والسمن.

ونبّه بالتسوية بين الجامد والمائع على خلاف بعض العامّة حيث خصّه بما يصطبغ به (7).

ويرده قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «سيّد إدامكم الملح»(8)، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد أخذ كسرة من خبز شعير فوضع

ص: 92


1- الزعرور: ثمر شجرة تكون حمراء وربما كانت صفراء. لسان العرب، ج 4، ص 323 - 324، «زعر».
2- الأس: ضرب من الرياحين لسان العرب، ج 6، ص 19.
3- الصنوبر شجرة من الفصيلة المخروطية الصنوبرية... ولبعض أنواعه بزور صغيرة لذيذة الطعم. وهو شجر جبلي. المعجم الوسيط، ص 524، «صنبر».
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 319، الرقم 5864.
5- الأترج شجر من جنس الليمون، المعجم الوسيط، ص 4، «أُترج».
6- راجع لسان العرب، ج 12، ص 9، «أدم».
7- بدائع الصنائع، ج 3، ص 83؛ حلية العلماء، ج 7، ص 275.
8- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1102، ح 3315.

العاشرة: • إذا قال: «لا شربت ماء هذا الكوز» لم يحنث إلّا بشرب الجميع. وكذا لو قال: «لا شربت ماءه».

ولو قال: «لا شربت ماء هذه البئر» حنث بشرب البعض؛ إذ لا يمكن صرفه إلى إرادة الكلّ. وقيل: لا يحنث وهو حسن

-------------------------------------------------------------------

عليها تمرة وقال: «هذه إدام هذه»(1)، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «سيّد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم»(2) ؛ مضافاً إلى اللغة (3) والعرف.

قوله: «إذا قال: لا شربت ماء هذا الكوز، لم يحنث» إلى آخره.

إذا حلف على فعل شيء لا يبرّ إلّا بفعله أجمع، ولو حلف أن لا يفعله لم يحنث بفعل البعض؛ لأنّ البعض غير المجموع في الموضعين.

وعليه يتفرّع ما لو قال: «لا شربت ماء هذا الكوز» أو الجرّة أو الحبّ(4)، أو غيرهما ممّا يمكن شرب مائه ولو في مدة طويلة، فإنّه لا يحنث إلّا بشرب جميعه، وما دام يبقى فيه شيء فلا حنث، ويستثنى من ذلك البلل الذي يبقى في العادة.

خلافاً لبعض العامّة حيث ذهب إلى أنّه يحنث بالبعض(5).

لنا : أنّ الماء معروف بالإضافة إلى الإداوة ونحوها، فيتناول الجميع، كما في طرف الإثبات.

ولو قال: «الأشرين ماء هذه الإداوة»(6) أو «الحبّ» لم يبرّ إلّا بشرب الجميع، لعين ما ذكر.

ص: 93


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 225، ح 3259 و 3260: السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 107 - 108، ح 20026.
2- الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 199، ذيل الآية 32 من سورة الأعراف (7)؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 31، «أدم».
3- راجع الصحاح، ج 3، ص 1859؛ ولسان العرب، ج 12، ص 9، «أدم».
4- الحب: الجَرّة الضخمة. لسان العرب، ج 1، ص 295، «حبب».
5- راجع مختصّر المزني المطبوع ضمن الأم، ج 9، ص 311؛ والحاوي الكبير، ج 15، ص 380.
6- إلاداوة: المِطْهَرَة. الصحاح، ج 4، ص 2266، «أدا».

-------------------------------------------------------------------

وينبغي أن يكون هو المراد من قول المصنّف (رحمه اللّه) «وكذا لو قال: شربت ماءه» بجعل الأخيرة نون التوكيد لاتاء المتكلّم، ليفيد التنبيه على حكم النفي والإثبات.

وأمّا قوله : «لا شربت (1) ماءه» فلا فرق بينه وبين السابق ولا وجه للجمع بينهما. قال الشهيد (رحمه اللّه) في بعض تعليقاته : إنّما في الأصل من لفظة «شربت» من تحريف الكتّاب(2).

ولو قال : «لا شربت ماء هذه البئر العظيمة أو النهر» فهل يحنث بشرب بعضه؟ فيه وجهان:

أحدهما نعم؛ لأنّه لا يمكن شرب الجميع، فتنصرف اليمين إلى البعض؛ ولأنّ من شرب من دجلة أو الفرات يصدق عرفاً أنّه شرب ماء دجلة والفرات.

والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - لا ؛ لأنّ الحلف على الجميع، فصار كما لو قال: لا شربت ماء هذه الإداوة، والعرف بما ادعوه غير منضبط. وينبغي على هذا أن يقال: لا تنعقد يمينه؛ لأنّ الحنث فيه غير متصوّر، كما لو حلف لا يصعد إلى السماء.

ويتفرّع على ذلك ما لو قال: «لأشر بن ماء هذه البئر أو النهر». فيحتمل حمل اليمين على البعض، فيبرّ بشرب بعضه وإن قلّ. والأظهر أنّه لا يبرّ بشرب البعض، بل يكون كالحالف على غير المقدور، فلا تنعقد اليمين؛ لأنّ البر فيه غير متصوّر.

ولو كانت يمينه في الأوّل لا شربت من ماء هذه الإداوة أو الجرة» حنث بما شرب من مائها، قليلاً كان أم كثيراً. ولو قال: «لأشرب من مائها» بر بما شرب منه كذلك.

وكذا الحكم في ماء النهر والبئر ؛ لإفادة «من» التبعيض هنا بالقرينة، ولعدم صلاحية التبيين (3) هنا.

ص: 94


1- في الطبعة الحجريّة: «لأشربن» بدل «لا شربت».
2- لم نعثر عليه.
3- في الطبعة الحجريّة: «صلاحيته للتبيين» بدل «صلاحية التبيين».

الحادية عشرة: لو قال: «لا أكلت هذين الطعامين» لم يحنث بأحدهما، وكذا لو قال: «لا أكلت هذا الخبز وهذا السمك» لم يحنث إلّا بأكلهما؛ لأنّ الواو العاطفة للجمع، فهي ك«ألف» التثنية.

وقال الشيخ: لو قال: «لا كلّمت زيداً وعمراً» فكلّم أحدهما حنث؛ لأنّ الواو تنوب مناب الفعل والأوّل أصحّ.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لو قال: لا أكلت هذين الطعامين لم يحنث بأحدهما» إلى آخره.

الجمع بين شيئين أو أشياء بصيغة واحدة يصيّر كلّ واحد مشروطاً بالآخر بغير خلاف عندنا. فإذا قال: «لا آكل هذين الرغيفين» أو «الطعامين»، أو «لا ألبس هذين الثوبين»، لم يبرّ إلّا بأكلهما أو لبسهما، ولا فرق بين أن يلبسهما معاً، أو يلبس أحدهما وينزعه ثمّ يلبس الآخر.

وكذا لو قال: «لأكلن هذين الرغيفين» أو «لألبسنّ هذين الثوبين» لم يبرّ إلّا بأكلهما ولبسهما، خلافاً لبعض العامّة حيث حكم بالحنث بأكل أحد الطعامين والرغيفين ولبس أحد الثوبين، ووافق في طرف الإثبات(1).

ولو جمع بواو العطف فقال: «لا آكل من هذا الخبز وهذا السمك» أو «لا أُكلّم زيداً وعمراً» فالأظهر أنّه كذلك، فلا يحنث إلّا إذا أكلهما وكلّمهما، إن لم ينو غير ذلك؛ لأنّ «الواو» العاطفة تجعلهما كالشيء الواحد لما علم من أنّها بمثابة ألف التثنية وواو الجمع.

وخالف الشيخ هنا، فحكم بالحنث بكلّ واحد منهما؛ مستدلاً بأن الواو تنوب مناب الفعل العامل فكأنّه قال: «لا كلّمت زيداً ولا كلّمت عمراً»(2). والأوّل أظهر؛ لما ذكر.

أمّا لو كرر حرف النفي فقال: «لا أُكلّم زيداً ولا عمراً» أو «لا أكل هذا الخبز ولا هذا السمك» حنث بكلّ واحد منهما، وصار بمنزلة يمينين، وبالحنث في إحداهما لا تنحلّ الأُخرى، كما لو قال: «واللّه لا أكلم زيداً واللّه لا أُكلّم عمراً».

ص: 95


1- انظر الحاوي الكبير، ج،15، ص 379، حكاه عن مالك.
2- المبسوط، ج 4، ص 619.

الثانية عشرة: • «إذا حلف لا آكل خلّاً» فاصطبغ به حنث. ولو جعله في طبيخ فأزال عنه السمة لم يحنث.

الثالثة عشرة: • لو قال: «لا شربت لك ماء من عطش» فهو حقيقة في تحريم الماء. وهل يتعدّى إلى الطعام؟ قيل: نعم عرفاً، وقيل: لا؛ تمسّكاً بالحقيقة.

-------------------------------------------------------------------

ومثله ما لو قال: «لا أكلم أحدهما» أو «لا أكلم واحداً منهما» ولم يقصد واحداً بعينه، فيحنث إذا كلّم أحدهما وتنحل اليمين، فلا يحنث إذا كلّم الآخر.

ولو قال في الإثبات: «لألبسنّ هذا الثوب وهذا الثوب» ففي كونهما يمينين أو واحدة وجهان كما سبق.

قوله: «إذا حلف لا آكل خلاً فاصطبغ به حنث» إلى آخره.

الاصطباغ به جعله إداماً للخبز، قال الهروي: كلّ إدام يؤتدم به فهو صبغ(1).

والغرض أنّ الحلف على أكل الخلّ ونحوه ينصرف إلى أكله متميّزاً، إمّا منفرداً أو مع غيره مع بقاء تميّزه. فلو استهلك بالمزج في نحو الطعام وانتفت التسمية فلا حنث، وإن بقيت الحموضة وغيرها من أوصافه. وقد تقدم مثله في السمن(2).

قوله: «لو قال: لا شربت لك ماء من عطش» إلى آخره.

هذا اللفظ حقيقة فى شرب مائه حالة العطش لا مطلقاً. وقد يتجوّز به فيما هو أعمّ من ذلك، بأن يريد أنّه لا يتناول شيئاً من ماله وإن قلّ، فلفظه خاص، وقد قيل: يعم بواسطة سببه، وهو عكس ما يقوله الأصوليون فيما إذا كان اللفظ عاماً والسبب خاصّاً (3) هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ (4)

وقد اختلفوا فى العمل بحقيقة هذا اللفظ الخاص أو بمجازه، حيث هو كناية عن

ص: 96


1- غريب الحديث الهروي، ج 1، ص 289، «أدم».
2- تقدّم في ص 86.
3- كذا في «و»، وفي سائر النسخ: «خاص» بدل «خاصّاً».
4- انظر نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 333 - 335.

المطلب الثالث في المسائل المختصّة بالبيت والدار

المسألة الأولى: • إذا حلف على فعل فهو يحنث بابتدائه، ولا يحنث باستدامته إلّا أن يكون الفعل ينسب إلى المدة كما ينسب إلى الابتداء. فإذا قال: «لا أجرت هذه الدار» أو «لا بعتها» أو «لا وهبتها» تعلّقت اليمين بالابتداء لا بالاستدامة.

أمّا لو قال: «لا سكنت هذه الدار» وهو ساكن بها، أو «لا أسكنت زيداً» وزيد فيها حنث باستدامة السكنى أو الإسكان. ويبرّ بخروجه عقيب اليمين. ولا يحنث بالعود لا للسكنى بل لنقل رحله.

وكذا البحث في استدامة اللبس والركوب.

أمّا التطيّب ففيه التردّد. ولعلّ الأشبه أنه لا يحنث بالاستدامة.

وكذا لو قال: «لا دخلت داراً» حنث بالابتداء دون الاستدامة.

-------------------------------------------------------------------

تناول غير الماء من المأكول وغيره بحسب القرينة، فقيل: يعمل بالثاني ؛ لدلالة العرف عليه(1)، فيكون من باب تعارض اللغة والعرف أو الحقيقة المتروكة والمجاز الغالب، وهو حسن مع انضباط العرف أو دلالة القرائن عليه، وإلّا تمسّك بالحقيقة؛ لأصالة البراءة ممّا زاد عليها، ولأنّ إرادة العام من اللفظ الخاصّ ليس من أفراد المجاز المستعملة اصطلاحاً، فكيف يحمل عليه عند الاشتباه؟ وإنّما غايته أن يحمل عليه مع قصده أو ظهور القرائن بإرادته.

وقيل: يعمل بالحقيقة مطلقاً؛ لأنّ الإيمان تبنى على الألفاظ لا على القصود التي لا يحتملها اللفظ ولم يستعمل لغةٌ فيها، كما إذا حلف على الصلاة وقال أردت الصوم فإنّه لا يقبل اتّفاقاً.

قوله: «إذا حلف على فعل فهو يحنث بابتدائه، ولا يحنث باستدامته» إلى آخره.

الأفعال المحلوف عليها قد يتعلّق الحنث بابتدائها دون استدامتها، وقد يتعلّق بهما.

ص: 97


1- راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 2، ص 333 - 335.

-------------------------------------------------------------------

والضابط الفارق بينهما: أنّ ما لا يتقدّر بمدة كالبيع والهبة والتزويج وغيرها من العقود والإيقاعات والوطء والدخول ونحو ذلك، لا يحنث باستدامتها؛ لأنّ استدامة الأحوال المذكورة ليست كإنشائها؛ إذ لا يصحّ أن يقال: بعت شهراً، ولا دخلت، وكذا البقيّة.

وما يتقدّر بمدّة -كالقيام والقعود والسكنى والمساكنة واللبس والركوب والمشي - يحنث باستدامته كابتدائه إذا حلف أن لا يفعله فاستدام؛ لصدق اسمه بذلك؛ إذ يصحّ أن يقال: «لبست شهراً» و «ركبت ليلة» و«سكنت سنةً» و«ساكنته شهراً» وكذا البواقي.

وقد يقع الاشتباه في بعض الأفعال كالتطيب، فيبقى(1) الإشكال في حكمه؛ إذ يحتمل فيه مغايرة الابتداء للاستدامة، فلا يحنث لو حلف لا يتطيّب باستدامة الطيب؛ لأنّه لا يقال: تطيّب شهراً، بل منذ شهر وإن كان باقياً عليه، كالطهارة مع البقاء عليها. ويحتمل اتّحادهما؛ لأنّه يصدق عليه الآن أنّه متطيّب، ولأنّه يحرم عليه استدامته في الإحرام.

والذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - وهو الأقوى - الأوّل؛ لأنّه لم يحلف على أنّه لا يكون متطيّباً، بل على أنّه لا يتطيّب، وبينهما فرق. وإنّما حرم استدامة الطيب على المحرم بدليل من (2) خارج، كتحريم شمّه عليه، وابتداؤه يحصل باستدامته (3)، ولصحّة السلب، فإنّه يصحّ أن يقال: ما تطيّبت منذ يومين وما تطيّبت اليوم، وإن كان الطيب باقياً.

والوجهان آتيان في الوطء؛ إذ لا يقال: وطئت يوماً ولا شهراً، ومقتضاه(4)، أن من حلف «أن لا يطأ» لا يحنث باستدامته ما لم يعد بعد النزع، لكن تحريم الاستدامة على الصائم والمحرم كالابتداء، فأشبه الطيب.

إذا تقرّر ذلك، فلو قال: «لا دخلت داراً» أو «دار فلان» وهو فيها لم يحنث بالمكث فيها

ص: 98


1- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «فيقع» بدل «فيبقى».
2- كلمة «من» سقطت في بعض النسخ.
3- في الحجريتين زيادة: «أو غير ذلك».
4- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «إذ مقتضاه» بدل ومقتضاه».

-------------------------------------------------------------------

وإن طالت المدة، فإذا خرج منها ثمّ دخلها حنث حينئذٍ.

وكذا لو قال: «لا بعت» وقد باع ولو بالخيار فاستمرّ عليه، أو «لا تزوّجت» وله زوجة فلم يطلّقها.

ولو قال: «لا سكنت هذه الدار» وهو ساكن بها وجب التحوّل منها على الفور وإن بقى رحله وأهله؛ لأنّ الحلف تعلّق بسكناه بنفسه لا بأهله ومتاعه، كما أنّه لا فرق حينئذٍ في الحنث مع مكثه بين أن يكون قد أخرج أهله ورحله وعدمه، خلافاً لبعض العامّة فيهما(1).

ولا يحنث بالعود إليها لا للسكنى بل لنقل رحله وإن مكث بخلاف ما لو حلف على دخولها، فإنّه يحنث به وإن كان للنقل.

ولو مكث بعد اليمين ولو قليلاً، فإن لم يكن لأجل نقل متاعه حنث لصدق الاستدامة. ولو كان لأجله، بأن نهض لجمع (2) المتاع ويأمر أهله بالخروج ويلبس ثوب الخروج، فهل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما نعم؛ لأنّه أقام فيها مع التمكّن من الخروج. وبهذا جزم في التحرير(3)، ولم يذكر سواه.

وأرجحهما - وبه جزم في القواعد (4)- المنع؛ لأنّ المشتغل بأسباب الخروج لا يعدّ ساكناً في الدار، ويؤيّده ما اتّفقوا عليه من أنه لو خرج في الحال ثمّ عاد لنقل متاع أو زيارة أو عيادة مريض أو عمارة ونحو ذلك لا يحنث ؛ ولأنّه فارقها في الحال وبمجرد العود لا يصير ساكناً.

ولو احتاج أن يبيت فيها ليلة لحفظ المتاع فوجهان، أجودهما عدم الحنث؛ لأنّ الضرورة على هذا الوجه لا تجامع الحنث، بل ربما نافت أصل اليمين.

ص: 99


1- المبسوط، السرخسي، ج 8، ص 162؛ بدائع الصنائع، ج 3، ص 105؛ وانظر أيضاً الحاوي الكبير، ج 15، ص 343: وحلية العلماء، ج 7، ص 257 - 258.
2- في بعض النسخ: «يجمع» بدل «لجمع».
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 306، الرقم 5851.
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 274.

الثانية: • إذا حلف «لا دخلت هذه الدار» فإن دخلها أو شيئاً منها أو غرفةً من غرفها حنث ولو نزل إليها من سطحها. أّما إذا نزل إلى سطحها لم يحنث ولو كان محجراً.

ولو حلف: «لا أدخل بيتاً» فدخل غرفته لم يحنث.

ويتحقّق الدخول إذا صار بحيث لو ردّ بابه كان من ورائه.

-------------------------------------------------------------------

ولو خرج في الحال ثمّ اجتاز بها لم يحنث ؛ لأنّ ذلك لا يعدّ سكنى، فإن تردّد فيها ساعةً بلا غرض احتمل الحنث ويشكل بعدم صدق السكني بذلك؛ إذ ليس المراد منها المكث مطلقاً بل اتّخاذها مسكناً، وهو لا يصدق بالتردّد وإن مكث على وجه لا يصدق اسمها. وهذا وارد على التفصيل الوارد عند الخروج، إلّا أنّه يمكن الفرق بأنّها إذا كانت سكناً(1) إلّا يخرج عنه بمجرد النيّة، كما أنّ المقيم لا يصير مسافراً بمجرد النيّة، بخلاف من خرج عنها ثمّ عاد، فإنّه بخروجه عن اسم الساكن يحتاج في عوده إلى الاسم إلى إحداث إقامة يصدق معها ذلك.

قوله: «إذا حلف لا دخلت هذه الدار، فإن دخلها أو شيئاً منها أو غرفةٌ من غرفها حنث ولو نزل إليها من سطحها» إلى آخره.

الأصل المرجوع إليه في البر والحنث اتباع موجب الألفاظ التي تعلّقت بها اليمين، وقد تتقيّد وتتخصّص بنيّة تقترن بها أو باصطلاح خاصّ أو قرينة أخرى، كما أشرنا إليه في المسائل السابقة.

وعليه يتفرّع ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) من المسائل وغيرها. فمنها: إذا حلف لا يدخل هذه الدار، فالمفهوم من الدخول الانتقال من خارج (2) الدار إلى داخلها، فيحنث بالحصول في عرصتها وفي أبنيتها من البيوت والغرف وغيرها، سواء دخلها من الباب

ص: 100


1- في بعض النسخ: «مسكناً» بدل سكناً».
2- في «م، خ»: «فالمفهوم من الباب المعهود من خارج الدار» وفي حاشية «و» أنّها: «كذلك في الأصل».

-------------------------------------------------------------------

المعهود أم من غيره، ولو من السطح على الأصحّ، لا بالصعود إلى السطح بالتسلّق من خارج أو من دار الجار وإن كان محجراً، أي محوطاً من جوانبه، خلافاً لبعض العامّة حيث الحقّ المحوط بالدار؛ لإحاطة حيطان الدار به(1)، ولآخرين حيث حكموا بالحنث بصعوده وإن لم يكن محوطاً (2). هذا كلّه إذا لم يكن السطح مسقفاً، وإلّا كان كطبقة أُخرى في الدار.

وشمل قوله «دخلها أو شيئاً منها» ما إذا دخل الدهليز خلف الباب أو ما بين البابين؛ لأنّه من جملة الدار ومن جاوز الباب عدّ داخلاً.

ولو كان الحلف على دخول البيت لم يتناول بقية الدار ولا الغرفة فوقه أو في بقية الدار؛ لأنّ اسم البيت لا يتناول ذلك بخلاف الدار، فإنّه اسم للمجموع، وإنّما يتناول البيت ماكان داخلاً عن بابه بحيث لو أغلق الباب كان من ورائه.

هذا كلّه إذا كان الحالف خارجاً عن الدار أو البيت فلو كان فيهما فلم يخرج لم يحنث بالإقامة؛ لأنّ ذلك لا يسمّى دخولاً؛ لما ذكرناه في الضابط من أنّه لا ينسب إلى المدة، فلا يقال: «دخلت الدار» أو «البيت شهراً ولا يوماً»، وإنّما يقال: «سكنت أو أقمت شهراً»، ويقال: دخلت منذ شهر» كما يقال: «بعت منذ شهر». خلافاً لبعض العامّة حيث حكم بالحنث استناداً إلى أن استدامة الدخول في حكم الابتداء شرعاً (3)، بقرينة أنه لو دخل داراً مغصوبةً ولم يعلم بحالها ثمّ علم فلم يخرج أثم.

ويضعّف بأنّ الإثم لا من حيث الدخول بل من حيث التصرّف في المغصوب، فإنّ التصرّف فيه بالكون به متحقّق بالاستدامة، وهو ممّا لا يفرّق فيه بين الابتداء والاستدامة

ص: 101


1- راجع الحاوي الكبير، ج،15، ص 348؛ وحلية العلماء، ج 7، ص 260 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 290، المسألة 8083.
2- راجع الحاوي الكبير، ج،15، ص 348؛ وحلية العلماء، ج 7، ص 260 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 290، المسألة 8083.
3- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 366؛ وحلية العلماء، ج 7، ص 259؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير. ج 11، ص 295، المسألة 8093؛ وروضة الطالبين، ج 8، ص 26.

الثالثة: • إذا حلف لا دخلت بيتاً حنث بدخول بيت الحاضرة، ولا يحنث بدخول بيت من شعر أو أدم. ويحنث بهما البدوي، ومن له عادة بسكناه.

-------------------------------------------------------------------

وينسب إلى المدّة، بخلاف الدخول.

والمعتبر من الدخول الانتقال بجميع بدنه فلو أدخل يده أو رأسه أو رجليه وسائر بدنه خارج لم يحنث، كما لا يحنث لو حلف على أن لا يخرج فأخرج بعض أعضائه وهو كائن في الدار.

قوله: «إذا حلف لا دخلت بيتاً، حنث بدخول بيت الحاضرة، ولا يحنث بدخول بيت من شعر» إلى آخره.

اسم «البيت» يقع على المبنيّ من الطين والآجر والمدر والحجر، وعلى المتّخذ من الخشب ومن الشعر والصوف والجلد وأنواع الخيام. فإذا حلف على دخول(1) البيت، نظر إن نوى نوعاً منها حملت اليمين عليه، وإن أطلق حنث بأيّ بيت كان إن كان الحالف بدوياً؛ لأنّ الكل بيت عنده. وإن كان من أهل الأمصار والقرى لم يحنث ببيت الشعر وأنواع الخيام؛ لأنّ المتعارف عندهم والمفهوم من اسم البيت هو المبنيّ.

وفى المسألة وجه بالحنث بدخول بيت الشعر ونحوه مطلقاً؛ لأنّه بيت حقيقي لغةً (2) وشرعاً. أمّا الأوّل فظاهر عند أهل البادية، وهم من أهل اللسان. وأمّا الثاني فلقوله تعالى: «وَ جَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُونَهَا»(3).

وأجيب بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة سلّمنا لكن العرف مقدم على اللغة، ومن ثمّ قلنا: يحنث البدوي به خاصّة؛ ولهذا حكموا باختصاص لفظ «الرؤوس» و«البيوض» بأنواع خاصّة.

ص: 102


1- كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّتين، ولعل الصحيح: «على عدم دخول».
2- لسان العرب، ج 2، ص 14، «بيت».
3- النحل (16): 80.

• ولو حلف «لا دخلت دار زيد» أو «لا كلّمت زوجته» أو «لا استخدمت عبده» كان التحريم تابعاً للملك. فمتى خرج شيء من ذلك عن ملكه زال التحريم.

أمّا لو قال: «لا دخلت دار زيد هذه» تعلّق التحريم بالعين ولو زال الملك. وفيه قول بالمساواة حسن

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو حلف: لا دخلت دار زيد أو لا كلمت زوجته» إلى آخره.

إذا حلف لا يدخل دار زيد، فباعها زيد ثمّ دخلها، أو لا يكلّم عبده أو يستخدمه أو زوجته(1)، فكلّم بعد ما زال ملكه عنه أو انقطع النكاح لم يحنث؛ لأنّه حينئذٍ لم يدخل دار زيد ولم يكلّم زوجته ولا عبده ولا استخدمه، حتّى لو فرض أنّ زيداً اشترى داراً أخرى أو عبداً أو تزوج امرأة حنث بالثاني دون الأوّل، إلّا أن يقول: أردت الأوّل بعينه، فلا يحنث بهما ولو قال أردت داراً جرى عليها ملكه، أو عبداً كذلك، أو امرأة جرت عليها زوجيته، حنث بكلّ منهما.

هذا إذا لم يضف إلى الإضافة التعيين. أما لو جمع بينهما فقال: «لا أدخل دار زيد هذه» فباعها زيد ثمّ دخلها، قيل: يحنث؛ لأنّه عقد اليمين على عين تلك الدار ووصفها بالإضافة فتغلب العين على الإضافة (2).

وقيل: لا يحنث كالأوّل(3)، واستحسنه المصنّف؛ لأنّ المتبادر إلى الذهن تعلّق الغرض بالملك والحلف لأجله فتغلب الإضافة، ولأنّها سابقة مستقرّة فلا يؤثّر فيها التعيين الطارئ، ولأنّه ليس نسبة الحكم إلى التعيين أولى من نسبته إلى الإضافة، وغايته أن يكون العكس كذلك، فيكون تابعاً لهما، أي للمركب من الإضافة والعين وزوال أحد جزئي المركب يخرجه عن كونه مركباً، فلا يبقى الحكم المعلّق عليه باقياً وهذا أقوى.

ص: 103


1- أي لا يكلّم زوجته.
2- الخلاف، ج 1، ص 151، المسألة 49: المهذّب، ج 2، ص 418.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 199، المسألة 35.

الرابعة: • إذا حلف «لا دخلت داراً» فدخل براحاً كان داراً لم يحنث.

أمّا لو قال: «لا دخلت هذه الدار» فانهدمت وصارت براحاً قال الشيخ (رحمه اللّه) لا يحنث وفيه إشكال، من حيث تعلّق اليمين بالعين، فلا اعتبار بالوصف.

-------------------------------------------------------------------

واختلفت فتوى العلّامة، فاستقرب في القواعد الأوّل(1)، وفي المختلف الثاني في ضمن تفصيل لا يخرج عنه (2)، وتردّد في التحرير(3) والإرشاد(4)، ومحلّ الخلاف ما إذا أطلق ولم يقصد شيئاً بخصوصه، وإلّا اعتبر قصده.

قوله: «إذا حلف لا دخلت داراً فدخل براحاً كان داراً لم يحنث» إلى آخره.

أمّا عدم الحنث في المطلقة؛ فلأنّها بصيرورتها براحاً خرجت عن اسم الدار، فلم يصدق أنّه دخل داراً.

وأمّا المعيّنة فأمرها كذلك، إلّا أنّه عارض الاسم - الذي هو في قوة الوصف الإشارة وفي تغليب أيّهما وجهان كالسابق. ويزيد هنا أنّ الغرض من الوصف في السابق مقصود غالباً، بخلاف الدار، فإنّ الحكم فيها تابع لمحض الاسم أو المشار إليه، وهذا هو السر في ترجيح المصنّف زوال الحنث بانتفاء الوصف في السابقة، واستشكاله هنا.

ويمكن أن يعكس الاعتبار ويقال: إذا كان زوال الوصف في السابقة موجباً لزوال الحكم، مع أن حقيقة المحلوف عليه - وهو المرأة والعبد والدار باقية فلأن يزول الحكم هنا مع زوال حقيقة المحلوف عليه - وهو الدار - أولى؛ لأنّ عرصة الدار - المعبّر عنها بالبراح يفتح الباء، وهو الأرض الخالية من البناء والشجر والزرع (5) - لا تسمى داراً حقيقة، بل يمكن أن يقال بزوال حكم الإشارة أيضاً؛ لأنّها تعلّقت بعين تسمّى داراً، وهي اسم مركّب من

ص: 104


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 276.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 199، المسألة 35.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 310، الرقم 5854.
4- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 88.
5- لسان العرب، ج 2، ص 409: المصباح المنير، ص 42، «برح».

• ولو حلف «لا دخلت هذه الدار من هذا الباب» فدخل منه حنث.

ولو حوّل الباب عنها إلى باب مستأنف، فدخل بالأوّل قيل يحنث لأنّ الباب

-------------------------------------------------------------------

العرصة وما تشتمل عليه من البناء وآلات الدار، والجزء الذي هو العرصة غير المركّب فلا يكون هو المشار إليه.

وربما نازع بعضهم في اشتراط أمر زائد على العرصة في إطلاق اسم الدار، وزعم أنّها اسم للعرصة وليست العمارة جزءاً من مفهوم الدار بل من كمالها، فإنّ العرب تطلق الدار على العرصة(1)، كقول النابغة:

يا دارميّة بالعليا فالسند***أقوت وطال عليها سالف الأبد (2)

فسمّاها داراً بعد إقواتها. ويقال: دار ربيعة ودار بني فلان، لصحاري ليس بها عمارة. وعلى هذا فالاسم والإشارة باقيان عكس ما قيل في توجيه الأول(3).

والحقّ أنّ إطلاق اسم الدار على العرصة مجاز، ومجرّد استعماله فيها أعمّ من الحقيقة، وآية المجاز هنا عدم تبادر الذهن إليها عند إطلاق اسم الدار وصحّة سلبها عنها، وغير ذلك من علامات المجاز.

ويتفرّع على هذا التوجيه أيضاً وجه حكم المصنّف في السابقة دون هذه، من حيث إنّ المشار إليه في الأُولى تغيّر وصفه بالإضافة المذكورة وبقيت الإشارة، وحصل التعارض بين الوصف والإشارة، بخلاف هذه، فإنّ المشار إليه باق على حقيقته على زعم القائل ببقاء اسم الدار مع بقاء رسمها، فلا يلزم من عدم الحنث في الأوّل عدمه هنا، فلذا حكم بزواله في الأولى واستشكل في الثانية.

قوله: «ولو حلف: لا دخلت هذه الدار من هذا الباب - إلى قوله - متحقّقة فيه».

إذا حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من موضع آخر وذلك الباب بحاله

ص: 105


1- راجع الحاوي الكبير، ج،15، ص 356؛ وبدائع الصنائع، ج 3، ص 53 - 54.
2- دیوان النابغة، ص 30.
3- راجع الخلاف، ج 1، ص 152 - 153، المسألة 50.

الذي تناوله اليمين باق على حاله ولا اعتبار بالخشب الموضوع. وهو حسن.

ولو قال: «لا دخلت هذه الدار من بابها» ففتح لها باب مستأنف، فدخل به حنث لأنّ الإضافة متحقّقة فيه.

-------------------------------------------------------------------

لم يحنث قطعاً، كما أنه لو دخل من الباب المحلوف عليه حنث قطعاً.

ولو قلع الباب وحوّل إلى منفذ آخر في تلك الدار ففيه أوجه:

أحدها - وهو الذي نقله المصنّف (رحمه اللّه) قولاً (1)واختاره - حمل اليمين على ذلك المنفذ ؛ لأنّه المحتاج إليه في الدخول دون الباب المنصوب عليه. فإن دخل من ذلك المنفذ حنث، وإن دخل من المنفذ المحوّل إليه لم يحنث.

والثاني: أنّها تحمل على الباب المتخذ من الخشب ونحوه؛ لأنّ اللفظ له حقيقة، فيحنث بدخول المنفذ المحوّل إليه، ولا يحنث بالأوّل.

والثالث: أنّها تحمل على المنفذ والباب الخشب جميعاً؛ لأنّ الإشارة وقعت إليهما جميعاً، فلا يحنث بدخول منفذ آخر وإن نصب عليه الباب، ولا بدخول ذلك المنفذ إذا لم يبق عليه باب.

والأشهر الأوّل هذا عند الإطلاق. وأمّا إذا قال: أردت بعض هذه المحامل، حملت اليمين عليه وارتفع الإشكال.

ولو قلع الباب ولم يحوّل إلى موضع آخر ففي حنثه بدخول ذلك المنفذ وجهان مبنيّان على أنّ الاعتبار بالمنفذ أو الباب المنصوب عليه.

ويتفرّع عليهما أيضاً ما لو نقل الباب إلى دار أُخرى فدخلها منه، فإنّه يحنث على الثاني دون الأوّل، مع احتمال عدمه هنا على التقديرين، إلّا أن يريد الحالف أن لا يدخل منه حيث نصب.

ولو قال: «لا أدخل هذه الدار من بابها» من غير إشارة إلى باب مخصوص، أو «لا أدخل

ص: 106


1- المبسوط، ج 4، ص 611.

الخامسة : • إذا حلف «لا دخلت» أو «لا أكلت» أو «لا لبست» اقتضى التأبيد. فإن ادّعى أنّه نوى مدةً معيّنة دين بنيّته.

-------------------------------------------------------------------

باب هذه الدار ففتح لها باب جديد فدخلها منه، ففيه وجهان :

أحدهما لا يحنث ؛ لأنّ اليمين انعقدت على الباب الموجود حينئذٍ، فصار كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباعها زيد ثمّ دخلها.

وأصحّهما - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) ولم يذكر غيره - أنّه يحنث ؛ لأنّه عقد اليمين على بابها، وهذا المفتوح،بابها، ولا يشترط لما تناوله اللفظ أن يكون موجوداً عند اليمين إّا ترى أنّه إذا قال: «لا أدخل دار زيد» فدخل داراً ملكها زيد بعد اليمين يحنث؟

والفرق بين قوله: «لا أدخل الدار من بابها» وبين قوله: «لا أدخل دار زيد» واضح، فإنّ بابها يصدق بكلّ (1) واحد من الأبواب الموجودة والمتجدّدة، بخلاف دار زيد، فإنّه مقيّد بكونها ملكه، فإذا زال الملك زالت الإضافة على وجه الحقيقة وإن تجوّز في إضافتها إليه بعد ذلك، وآية المجاز مبادرة المعنى إلى غيره، وافتقار حمله على ما كان إلى قرينة.

قوله: «إذا حلف: لا دخلت أو لا أكلت» إلى آخره.

إذا حلف على شيء فلا يخلو إمّا أن يحلف على فعله، أو على تركه.

ففي الأوّل يكفي الإتيان بجزئي من جزئياته؛ لأنّ مدلوله إيجاد الماهيّة، وهي تتحقّق في ضمنه في وقت من الأوقات، من غير أن يقتضي فوراً أو تراخيّاً أو مرّةً أو تكراراً؛ لأنّها خارجة عن مدلوله وإلّا لزم التكرار لو قرن به، أو النقض إن قرن بالآخر (2).

وفي الثاني لا بدّ من الانتهاء عنه في جميع الأوقات إذا لم يخصه بوقت؛ لأنّ المقصود منه نفي الماهية مطلقاً، وهو لا يتحقّق بدون ذلك، وهو مأخوذ من أن الأمر بالفعل لا يقتضي

ص: 107


1- في «و»: «لكلّ» بدل «بكلّ».
2- في بعض النسخ «أو بالآخر لزم النقض».

• ولو حلف «لا أدخل على زيد بيتاً» فدخل عليه وعلى عمرو، ناسياً أو جاهلاً بكونه فيه فلا حنث. وإن دخل مع العلم حنث، سواء نوى الدخول على عمر و خاصّة أو لم ينو. والشيخ (رحمه اللّه) فصل.

وهل يحنث بدخوله عليه في مسجد أو في الكعبة؟ قال الشيخ: لا؛ لأنّ ذلك لا يسمّى بيتاً في العرف وفيه إشكال يبنى على ممانعته دعوى العرف.

-------------------------------------------------------------------

التكرار. بخلاف النهي. وهو القول الصحيح للأصوليين(1). وعلى القول الشاذ لهم بعدم دلالة النهي على التكرار (2) يأتي مثله هنا في النهي.

هذا إذا أطلق ولم يقصد تخصيصاً بزمن أو وصف. أمّا لو نوى بقوله: «لا أفعل كذا» وقتاً مخصوصاً أو مدةً معيّنة فالمعتبر ما نواه؛ لأنّ ذلك كتخصيص العام وتقييد المطلق، وهما يدخلان اليمين بمجرّد النيّة، ويقبل قوله في ذلك، كما لو ادّعى التخصيص في جزئيات العام أو التقييد فى المطلق بأن حلف لا يأكل اللحوم ونوى لحم الإبل، أو لا يشتري الرقيق ونوى الكافر.

قوله: «ولو حلف: لا أدخل على زيد بيتاً - إلى قوله - حنث مع العلم».

هنا صورتان :

إحداهما: أن يحلف لا يدخل على زيد، فدخل على جماعة هو فيهم. فإن لم يعلم به أو نسي أو جهل لم يحنث؛ لما سيأتي من أنّ الجهل والنسيان حكمهما مرتفع هنا (3). وإن دخل عالما به، فإن لم يعزله بالنيّة فلا إشكال في الحنث، وإن استثناه بقلبه وقصد الدخول على غیره ففيه قولان:

أحدهما: أنّه لا يحنث، وهو قول الشيخ في المبسوط(4)، لأنّ مقصوده الدخول على غيره.

ص: 108


1- نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 1، ص 435 وما بعدها؛ وج 2، ص 71 وما بعدها.
2- المحصول، ج 2، ص 282.
3- يأتي في ص 133 - 134.
4- المبسوط، ج 4، ص 613 - 614.

أمّا لو قال: «لا كلّمت زيداً» فسلم على جماعة فيهم زيد وعزله بالنيّة صحّ. وإن أطلق حنث مع العلم.

-------------------------------------------------------------------

والثاني - وهو الأقوى - أنه يحنث؛ لوجود صورة الدخول على الجميع، وهو حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف المقاصد. وهو قول الشيخ في الخلاف(1) والأكثر.

والثانية: إذا حلف لا يكلّم زيداً أو لا يسلّم عليه، فسلّم على قوم فيهم زيد عالماً بأنّه فيهم، فإن نوى السلام عليه معهم فلا إشكال في الحنث أيضاً، وكذا لو أطلق. وإن استثناه بلفظه فقال: إلّا زيداً، أو بقلبه كذلك لم يحنث.

والفرق بين الكلام والدخول أن الكلام لفظ فيقبل التعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد، بخلاف الدخول، فإنّه ماهيّة واحدة كالضرب - لا يتخصّص وإن تخصّص الباعث عليه، ولا يقبل الاستثناء، فلا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلّا على فلان، ويصحّ أن يقول: سلام عليكم إلّا على فلان.

ثم استطرد المصنّف (رحمه اللّه) البحث عن معنى البيت الذي يحنث بدخوله عليه فيه، وإن كان البحث عنه منفرداً أولى؛ لأنّه ممّا يحتاج إليه في مواضع كثيرة، كما لو حلف لا يدخل بيتاً مطلقاً، أو لا يسكن بيتاً، ونحو ذلك، وهو يطلق على البيت المعدّ للسكنى والإيواء قطعاً.

وهل يطلق على غير ذلك كالمسجد والكعبة؟ قولان: أحدهما: لا(2)؛ لأنّه لا يعدّ بيتاً في العرف، ولا يطلق عليه اسم البيت إلّا بضرب من التقييد، كما يقال: الكعبة بيت اللّه، أو البيت الحرام والمسجد بيت اللّه.

والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل ذلك مانعاً لدعوى العرف؛ ولأن اللّه تعالى أطلق عليهما اسم البيت فقال: «طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ»(3)،«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّه أَن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا أَسْمُهُ»(4).

ص: 109


1- الخلاف، ج 6، ص 157، المسألة 56.
2- هذا القول نسبه الشيخ في المبسوط، ج 4، ص 640 إلى قومٍ، والقول الآخر سيأتي.
3- الحجّ (22): 26.
4- النور (24): 36.

السادسة: • قال الشيخ (رحمه اللّه) : اسم البيت لا يقع على الكعبة، ولا على الحمّام؛ لأنّ البيت ما جعل بإزاء السكني.

وفيه إشكال يعرف من قوله تعالى: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». وفي الحديث «نعم البيت الحمّام». قال: وكذا الدهليز والصفّة.

-------------------------------------------------------------------

وادّعى ابن إدريس أن ذلك عرف شرعي، وهو مقدّم على العرف العادي(1) لو سلم والأقوى اتّباع العرف، ومع انتفائه لا حنث.

قوله: «قال الشيخ (رحمه اللّه): اسم البيت لا يقع على الكعبة» إلى آخره.

قد عرفت الخلاف في إطلاق البيت على المسجد والكعبة وتوجيه القولين.

وأمّا الحمّام فوجه إطلاقه عليه الحديث المذكور، وهو كالآيات الدالة على إطلاقه على المسجد والكعبة.

والحقّ أن الإطلاق أعمّ من الحقيقة، والعرف ربما يأبى ذلك.

ومثله إطلاقه على «الفُرْن»(2) و «المَعْصَرَة» (3) ونحوهما ممّا لا يعد للسكنى.

وأمّا «الدهليز» - بكسر الدال - وهو ما دخل عن باب الدار بينه وبينها(4)، و«الصفة» وهى الرواق في الدار تحته دكة أو مطلقاً(5). وقال الهروي: في الحديث «مات رجل من أهل الصفّة» هو موضع مظلّل من المسجد كان يأوي إليه المساكين(6)، ففي دخولهما في اسم البيت وجهان أيضاً، من حيث إنّهما لا يعدّان للسكنى، ويقال : فلان لم يدخل البيت وإنّما وقف في الدهليز والصفّة، وإليه ذهب الشيخ(7)، ومن أنّ جميع الدار بيت بمعنى الإيواء.

ص: 110


1- السرائر، ج 3، ص 38 - 39.
2- القُرْن موقد للخبز وغيره. المعجم الوسيط، ص 686.
3- المَعْصَرَة : المكان يعصر فيه السمسم ونحوه لاستخراج الزيت. المعجم الوسيط، ص 605، «عصر».
4- لسان العرب، ج 5، ص 349، «دهلز».
5- انظر لسان العرب، ج 9، ص 195، «صفف».
6- الغريبين في القرآن والحديث، ج 4، ص 1085؛ وراجع النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 37، «صفصف».
7- المبسوط، ج 4، ص 640.

المطلب الرابع في مسائل العقود

الأولى: • العقد اسم للإيجاب والقبول، فلا يتحقّق إلّا بهما، فإذا حلف ليبيعنّ، لا يبرّ إلّا مع حصول الإيجاب والقبول، وكذا لو حلف ليهبنّ.

وللشيخ في الهبة قولان: أحدهما: أنّه يبرّ بالإيجاب. وليس بمعتمد.

-------------------------------------------------------------------

والوجه الرجوع إلى العرف، وهو لا يدلّ على دخولهما في مفهومه. نعم، هما داخلان في اسم الدار، أمّا البيت فلا.

قوله: «العقد اسم للإيجاب والقبول» إلى آخره.

لا خلاف في أنّ البيع لا يتم إلّا بالإيجاب والقبول وأن القبول جزء السبب فيه، وقد علم ذلك من تعريفه في بابه ب«أنّه الإيجاب والقبول الدالان على نقل الملك» إلى آخره، أو اللفظ الدالّ عليه(1)، وهو شامل للإيجاب والقبول.

وإنّما الخلاف في الهبة، وأصحّ القولين أنها كذلك ؛ لأنّها من جملة العقود التي من شأنها أن لا تتحقّق إلّا بالإيجاب والقبول، وللإجماع على أنّ الملك لا ينتقل إلى الموهوب له بدون القبول.

لكن قال الشيخ في الخلاف : إنّ الحالف لا يهب يحنث بالإيجاب، سواء قبل الموهوب له أم لم يقبل. ثمّ نقل عن بعضهم: أنّه لا يحنث بالإيجاب وحده كالبيع. قال: وهو قويّ(2). وفي المبسوط قوّى القولين أيضاً(3). وهو يدلّ على تردّده.

والأقوى أنّه لا يحنث بدون القبول كغيره من العقود. ويستثنى من ذلك الوصيّة؛ فإنّها عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول كما مرّ(4)، لكن لمّا كان قبولها المعتبر ما كان بعد الموت

ص: 111


1- راجع ج 3، ص 47.
2- الخلاف، ج 6، ص 186، المسألة 103؛ ولقول البعض راجع المجموع شرح المهذّب، ج 18، ص 94.
3- المبسوط، ج 4، ص 641.
4- مرّ في ج 5 ص 252.

الثانية • إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد، ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ، وكذا غيره من العقود.

-------------------------------------------------------------------

إجماعاً - وإن جاز قبله على الخلاف - يحنث الحالف عليها بمجرّد الإيجاب؛ إذ لا يعقل توقف الحنث على ما يقع بعد الموت أو يجوز وقوعه؛ ولأنّ المتبادر من الوصيّة عرفاً إذا قيل: «فلان أوصى بكذا» وقوله: «أوصيت بكذا» هو الإيجاب. مع احتمال توقف الحنث على القبول، اطّراداً لباب العقود ودليلها السابق.

واعلم أنّ الفاضل فخر الدين ادعى الإجماع على أن القبول في الوصيّة ليس شرطاً في صحتها، بمعنى أنها تصلح أن تؤّثر فهو شرط لا جزء من السبب المملّك بخلاف البيع وغيره(1).

وفي صحّة هذه الدعوى نظر بيّن، فإنّ المعهود شرعاً من سببيّة سائر العقود أنّها الإيجاب والقبول، وأنّ القبول تمام السبب المملك وإن توقف على شرط وهو الموت؛ لأنّ تأثير السبب يجوز أن يتوقّف على شرط، ولا يلزم من وجوده وجود المسبّب(2) إلّا مع اقترانه بوجود الشرط (3) وانتفاء المانع كما حقّقناه في بابه(4)، ومن ثمّ قيل: إن القبول في الوصيّة کاشف عن سبق الملك من حين الموت(5)، ولو كان شرطاً لما تُصوّر تقدم الملك قبله؛ لأنّ المشروط لا يتقدّم على الشرط مطلقاً.

قوله: «إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح» إلى آخره.

عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم باع فلان،داره،وغیره

ص: 112


1- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 27.
2- في بعض النسخ: «السبب» بدل «المسبب».
3- في «م، خ، ع، و»: «بعدم الشرط» بدل «بوجود الشرط».
4- راجع ج 5 ص 252 وما بعدها.
5- حكاه الشيخ عن بعضٍ في المبسوط، ج 3، ص 229؛ وراجع أيضاً جامع المقاصد، ج 10، ص 10.

الثالثة: • قال الشيخ (رحمه اللّه): الهبة اسم لكلّ عطيّة متبرّع بها، كالهدية والنحلة والعمرى والوقف والصدقة.

ونحن نمنع الحكم في العمرى و النحلة؛ إذ يتناولان المنفعة، والهبة تتناول العين.

وفي الوقف والصدقة تردّد، منشؤه متابعة العرف في إفراد كلّ واحد باسم.

-------------------------------------------------------------------

ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه، حتّى لو ادعى إرادة الفاسد لم تسمع إجماعاً، وعدم صحة السلب وغير ذلك من خواصه ولو كان مشتركاً بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره ب«أحدهما» كغيره من الألفاظ المشتركة، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة.

وحيث كان الإطلاق محمولاً على الصحيح لا يبر بالفاسد ولو حلف على الإثبات، سواء كان فساده لعدم صلاحيته للمعاوضة كالخمر والخنزير، أم لفقد شرط فيه -كجهالة مقداره وعينه - وسيأتي البحث فيه(1).

قوله: «قال الشيخ (رحمه اللّه): الهبة اسم لكلّ عطية متبرّع بها» إلى آخره.

لا إشكال في تناول العطية المتبرّع بها لجميع ما ذكر ؛ لأنّ العطية المتبرّعة أعمّ من تعلّقها بالعين والمنفعة، فيدخل في الأوّل الهدية والوقف والصدقة، وفي الثاني النحلة والعمرى.

وإنّما الكلام في مساواة الهبة للعطيّة، فإنّ الظاهر من معناها لغةً وعرفاً خلاف ذلك، وأنّها لا تطلق على هبة المنفعة ولا على الصدقة؛ لاختلافهما اسماً ومقصوداً وحكماً. أمّا الاسم، فمن تصدّق على فقير لا يقال وهب منه. وأمّا المقصود فالصدقة يراد بها التقرّب إلى اللّه تعالى، والهبة لاكتساب المودة أو الأعمّ. وأما الحكم؛ فلأنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهديّة والهبة (2).

وكذلك الوقف، خصوصاً على القول بعدم انتقال الملك إلى الموقوف عليه، ولو أُطلقت الهبة عليه لصحّ إيقاعه بلفظها.

ص: 113


1- يأتي في ص 117.
2- انظر صحیح مسلم، ج 2، ص 756، ح 1077/175.

-------------------------------------------------------------------

الرابعة: • إذا حلف لا يفعل، لم يتحقّق الحنث إلّا بالمباشرة. فإذا قال: «لا بعت» أو «لا شريت» فوكّل فيه لم يحنث.

أمّا لو قال: «لا بنيت بيتاً» فبناه البنّاء بأمره أو استئجاره، قيل : يحنث؛ نظراً إلى العرف. والوجه أنّه لا يحنث.

ولو قال: «لا ضربت» فأمر بالضرب لم يحنث. وفي السلطان تردّد، أشبهه أنّه لا يحنث إلّا بالمباشرة.

-------------------------------------------------------------------

والسكنى والرقبى في معنى العمرى، لكنّ الشيخ خصّ العمرى؛ لما روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «العمرى هبة لمن وهبت له»(1).

وأنكر ابن إدريس ذلك وقال:

لا يبرّ الحالف على الهبة بالوقف ولا بالصدقة؛ لإفراد كلّ باسم، والأصل براءة الذمّة، وللفرق بين الهبة والصدقة، ومن جملته جواز الرجوع في الهبة على بعض الوجوه دون الصدقة(2).

والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل تناول الهبة للوقف والصدقة؛ لما ذكر.

والأقوى عدم دخول الوقف مطلقاً. وكذا الصدقة الواجبة.

أمّا المندوبة ففي دخولها احتمال من حيث اشتراكهما في التبرّع بالعين. واشتراط القربة في الصدقة لا ينافيه؛ لأنّ القربة تدخل في الهبة أيضاً وإن لم يكن شرطاً، ويتداخلان تداخل العموم والخصوص، ويقال: إن كلّ صدقة هبة، ولا ينعكس.

وربما دخلت الوصيّة في تعريف الشيخ أيضاً؛ لأنّها عطية متبرّع بها، غايتها أنّها بعد الموت، وليس في إطلاق العطية ما يخرجها، ودخولها في الهبة أبعد.

قوله: «إذا حلف لا يفعل، لم يتحقّق الحنث إلّا بالمباشرة» إلى آخره.

ص: 114


1- المبسوط، ج 4، ص 633؛ وللرواية راجع صحيح البخاري، ج 2، ص 925. 2482؛ وصحيح مسلم، ج 3، ص 1246. ح 1625/25.
2- السرائر، ج 3، ص 55.

-------------------------------------------------------------------

إسناد الفعل وما في معناه إلى الفاعل حقيقة وإلى غيره -كالسبب ونحوه - مجاز. وقد تقدّم أنّ اللفظ عند الإطلاق يحمل على حقيقته اللغوية ما لم يعارضه العرف أو الشرع(1)، فإذا عارضه وهجرت الحقيقة اللغويّة فلا إشكال في ترجيح العرفية، وإن بقيت مستعملة مرجوحةً فوجهان مبنيان على ترجيح المجاز الراجح أو الحقيقة المرجوحة، وإن استويا في الاستعمال صار كالمشترك في المنع من ترجيح أحد أفراده بغير قرينة أو الحمل على الجميع على قول(2).

وهذه المسألة ترجع إلى جميع هذه القاعدة، فإنّ البناء حقيقة لغوية في مباشرته، ومجاز في الأمر به، لكن قد غلب العرف في ذلك حتّى لا يتبادر من قول القائل: «بنيت داراً» و «فلان بني بيتاً» إلّا هذا المعنى، إلّا أن الحقيقة لم تهجر أصلاً؛ لأنّ من باشر البناء يقال: إنّه بنى أيضاً بطريق أولى. وأما نحو البيع والشراء فالحقيقة اللغوية فيه باقية بلا معارض، وإن أسند إلى غير الفاعل فهو قليل لا يخرج عن أصل المجازية.

ويترتّب على ذلك أنّ الحالف على البيع والشراء نفياً وإثباتاً يحمل على مباشرته ذلك، فلا يحنث بالتوكيل؛ كما لا يبرّ به في جانب الإثبات.

والحالف على البناء يحنث بمباشرته قطعاً، وفى حنثه بالأمر به وجهان واستوجه المصنّف فيه عدم الحنث، عملاً بالحقيقة واستصحّاباً لحكمها. وذهب جماعة (3) إلى الحنث به لغلبة استعماله في العرف. وفيه قوّة.

ومثله حلف السلطان ونحوه ممّن يترفّع عن مباشرة الضرب عليه، فإنّه يحنث بمباشرته، وفي أمره الوجهان. وحكم المصنّف (رحمه اللّه) فيهما واحد والقول بالحنث فيه أيضاً قويّ.

ص: 115


1- تقدّم في ص 83.
2- راجع الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 1، ص 17؛ وحكاه الآمدي عن عدة من علماء العامّة في الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 452، المسألة السابعة.
3- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 178، المسألة 13؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 27.

• ولو قال: «لا أستخدم فلاناً» فخدمه بغير إذنه لم يحنث.

• ولو توكل لغيره في البيع أو الشراء ففيه تردّد، والأقرب الحنث لتحقّق المعنى المشتقّ منه.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أنّ المسألة مفروضة فيما إذا أطلق ولم ينو شيئاً. أمّا إذا نوى أن لا يفعل ولا يفعل بإذنه، أو لا يفعل ولا يأمر به، فلا خلاف في الحنث إذا أمر به غيره. هكذا أطلقه جماعة(1).

وربما أشكل من حيث إنّ اللفظ حقيقة لفعل نفسه، واستعماله في المعنى الآخر مجاز، وفي ذلك استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعاً، وهو غير مرضي عند أهل الأصول.

وطريق التخلّص منه أن يقال: إن الاستعمال كذلك مجاز، وهو صحيح في باب اليمين مع قصده، وهو الفرض. ويجوز أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز، فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في تحقيق ذلك الفعل حنث بمباشرته وبالأمر به؛ لشمول المعنى، وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز وحده أو الحقيقة وحدها.

قوله «ولو قال: لا أستخدم فلاناً فخدمه بغير إذنه لم يحنث».

لأنّ الاستفعال حقيقة في طلب الفعل، فلا يصدق بدون الطلب، فلا يحنث بما يقع بغير إذنه؛ لعدم تحقّق الاستخدام.

فإن قيل: قد وقع الاستفعال بمعنى الفعل لغةً كما في قولهم «استقر» بمعنى قرّ، وفي التنزيل: «أَسْتَوْقَدَ نَارًا» (2) بمعنى أوقد، فكيف يحكم بانحصار الاستفعال في طلب الفعل؟

قلنا ما خرج عن باب الطلب مع ندوره لا يفيد المطلوب هنا؛ لأنّ الحلف تعلّق بفعل نفسه لا بفعل غيره، وخدمة الغير لا تدخل تحت اليمين، وإنّما يدخل تحته ما هو من فعل الحالف وهو طلب الخدمة، فإذا انتفى انتفت اليمين وإن تحقّق أصل الخدمة من الغير.

قوله: «ولو توكل لغيره في البيع أو الشراء ففيه تردّد» إلى آخره.

ص: 116


1- لم نعثر على من أطلق الحكم بذلك، وانظر قواعد الأحكام، ج 3، ص 275 - 276.
2- البقرة (2): 17.

الخامسة • لو قال: «لا بعت الخمر» فباعه قيل لا يحنث. ولو قيل: يحنث، كان حسناً؛ لأنّ اليمين ينصرف إلى صورة البيع، فكأنّه حلف لا يوقع الصورة.

وكذا لو قال: «لا بعت مال زيد قهراً». ولو حلف «ليبيعنّ الخمر» لم تنعقد يمينه.

-------------------------------------------------------------------

المراد أنّه حلف أن لا يبيع أو لا يشتري، فإن باع لنفسه أو اشترى فلا إشكال في الحنث؛ لأنّ فعله لنفسه داخل في إطلاق البيع والشراء قطعاً، وإنّما الكلام في أن ذلك هل يتناول بيعه لغيره بالوكالة أو شراءه له أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف - أنّه يحنث ؛ لتحقّق البيع والشراء؛ لأنّ البائع والمشتري مشتقان من البيع والشراء وقد تحقّق المعنى المشتق منه؛ لأنّه أعمّ من وقوعه لنفسه ولغيره.

ووجه العدم صحة نفيه عنه عرفاً، فيقال: ما بعت ولا اشتريت بل المشتري فلان والبائع زيد وأنا وكيله والأوّل أظهر.

قوله: «لو قال: لا بعت الخمر فباعه، قيل: لا يحنث» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ إطلاق العقد محمول على الصحيح دون الفاسد (1)؛ لأنّه حقيقة فيه، وإنّما يحمل اللفظ مع الإطلاق على الحقيقة مع عدم قرينة صارفة عنه إلى المجاز. فإذا حلف: «ليبيعنّ الخمر» لم ينعقد؛ لأنّ العقد الصحيح متعذّر، وغيره غير مراد من إطلاق اللفظ لغةً ولا عرفاً.

ولو حلف «لا يبيعه» قيل: لا يحنث ببيعه؛ لأنّه بيع فاسد فلم تتناوله اليمين(2). واختار المصنّف (رحمه اللّه) والأكثر الحنث هنا لدلالة العرف على أنّ المراد هنا صورة البيع، ولأنّه لمّا أضاف البيع إليها وهي غير قابلة له كان اللفظ محمولاً على صورة البيع، صوناً لكلامه عن الهذر.

وعلى تقدير انصراف الإطلاق إلى الصورة هل يشترط اجتماع شرائط الصحّة لولاه؟

ص: 117


1- تقدّم في ص 112.
2- راجع روضة الطالبين، ج 8، ص 44 - 45.

المطلب الخامس في مسائل متفرّقة

إذا لم يعيّن لما حلف وقتاً

الأولى: • إذا لم يعيّن لما حلف وقتاً لم يتحقّق الحنث إلّا عند غلبة الظنّ بالوفاة، فيتعيّن قبل ذلك الوقت بقدر إيقاعه، كما إذا قال: لأقضين حقّه، لأعطينّه شيئاً، لأصومنّ لأُصلّين.

-------------------------------------------------------------------

قيل : نعم (1)؛ لأنّه أقرب المجازات إلى الحقيقة فيحمل عليه عند تعذّرها. ويحتمل عدمه؛ للأصل، ووجود الصورة على التقديرين.

واعلم أنه لو باع على تقدير حلفه على عدمه انعقد وإن حنث؛ لأنّ النهي في المعاملات لا يقتضى الفساد، خصوصاً إذا كان النهي لوصف خارج كما هنا.

ولو قلنا بدلالته على الفساد كالعبادات، ففي الجمع بين ذلك وبين حمل مطلقه على البيع الصحيح إشكال؛ لأنّ اليمين تقتضي عدم الصحة، فلو اشترط صحته لزم الجمع بين النقيضين أو لزوم غير مراد الحالف، ولأنّه يلزم من ثبوت اليمين النهي عنه، المقتضي لفساده، المقتضي لعدم تعلّق النهي (2) به، فيحكم بصحته، فيلزم من ثبوت اليمين نفيها، فلا يتحقّق بعد تعلّقها الحنث لامتناع وقوع ضده وهو العقد الصحيح.

والأولى أن يقال على هذا التقدير: إن متعلّق اليمين البيع الصحيح لولا اليمين، فيتحقّق الحنث بكلّ بيع لولا اليمين لصحّ.

قوله: «إذا لم يعيّن لما حلف وقتاً لم يتحقّق الحنث» إلى آخره.

الحلف على الإثبات عندنا يقتضي وجوب المحلوف عليه، كما أنّ الحلف على النفي يقتضي التحريم. فإذا حلف على فعل شيء، فإن عيّن له وقتاً تعيّن، فإن كان أوسع من الفعل كان كالوقت الموسع بالأصالة، فيجوز التأخير إلى آخره. وإن أطلق كان وقته العمر، وجاز

ص: 118


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 275.
2- في «ع»: «اليمين» بدل «النهي».

الثانية: • إذا حلف ليضر بن عبده مائة سوط، قيل: يجزئ الضغث. والوجه انصراف اليمين إلى الضرب بالآلة المعتادة، كالسوط والخشبة. نعم، مع الضرورة، كالخوف على نفس المضروب، يجزئ الضغث.

هذا إذا كان الضرب مصلحة، كاليمين على إقامة الحد، أو التعزير المأمور به. أمّا التأديب على شيء من المصالح الدنيوية فالأولى العفو، ولا كفّارة.

-------------------------------------------------------------------

التأخير اختياراً إلى أن يظن الضيق فيتعين حينئذٍ فعله، بناءً على أن الأمر الأصلي لا يقتضي الفور فالعرضي أولى. ومتى ظنّ الضيق لكبر أو مرض فلم يبادر أثم بالتأخير حينئذٍ.

ثمّ إن مات قبل فعله وكان ممّا يقضى قضي عنه وإلّا فات، كما لو حلف «ليكلّمن زيداً» فمات قبله.

ولو فرض كذب ظنّه بأن زال المرض الذي ظن اتصال الموت به أو نحو ذلك، ففي إلحاقه بالمعيّن وقته إذا أخّره عنه فيلزمه الحنث، أو تبقى اليمين ولا يحنث وإن أثم، وجهان، أجودهما الثاني؛ عملاً بالأصل، والتضيق إنّما جاء بأمر عارض لا بأصل اليمين، بخلاف المعيّن بأصله.

ومثله ما لو ظنّ العجز عن أداء الصلاة في أوّل وقتها فأخّرها(1) ثمّ تجدّدت القدرة أو استمرّت وكذب ظنّه، فإنّها تبقى أداءً، ولا يقوم ذلك التضيّق لعارض الظنّ مقام الوقت المضيّق، ولا خروجه بخروج الوقت.

والقول بتوسعة اليمين المطلقة كذلك هو الأشهر بين الأصحّاب. وفيه قول نادر أنّه يتعين فعله أوّل أوقات الإمكان؛ نظراً إلى اقتضاء الأمر المطلق الفور، وهو ممنوع، ولو سلّم لم يلزم مثله في اليمين.

قوله: «إذا حلف ليضر بن عبده مائة سوط - إلى قوله - ضارباً».

إذا حلف على الضرب تعلّقت اليمين بما يسمى ضرباً، ولا يكفي فيه وضع اليد والسوط

ص: 119


1- في «ع»: «وآخرها» بدل «فأخّرها».

ويعتبر في الضغث أن يصيب كلّ قضيب جسده، ويكفي ظنّ وصولها إليه، ويجزئ ما يسمّى به ضارباً.

-------------------------------------------------------------------

ورفعهما، والعض والقرص والخنق ونتف الشعر. وفي الوكز واللكز واللطم وجهان، أجودهما اعتبار صدقه عرفاً.

وهل يشترط فيه الإيلام؟ قيل: لا؛ لانقسام الضرب إلى المؤلم وغيره(1)، والمقسوم صادق على أقسامه حقيقةً، والعامّ لا يدلّ على الخاص؛ ولصدق سلبه عنه، فيقال: ضربه ولم يؤلمه وهو يقتضي نفي اللزوم. ويخالف الحدّ والتعزير حيث يعتبر فيهما الإيلام بأن الغرض هناك الزجر، وإنّما يحصل ذلك بالإيلام، واليمين تتعلق بالاسم.

وقيل: يشترط الإيلام لدلالة العرف عليه(2)، ولأن اليمين لا تنعقد إلّا مع رجحان الضرب بسبب حدّ أو تعزير أو تأديب، ولا يحصل الغرض بدونه.

والقول بإجزاء الضغث - وهو لغةً: ملء اليد من الحشيش ونحوه(3)، والمراد هنا ضربه بقبضة تشتمل على عدد من القضبان والسياط ونحوها - للشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط(4). أخذاً من قوله تعالى في قصّة أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين حلف ليضربن زوجته: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِعْثَا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ»(5)، ولأن الضرب حقيقةً هو وقوع المضروب به على المضروب بقوة يفعل الضارب، وقد حصل بذلك.

واستوجه المصنّف عدم الإجزاء بذلك، وانصراف اليمين إلى الضرب بالآلة المعتادة للضرب كالسوط والخشبة. وخصّ الاجتزاء بالضغث بحالة الضرورة، كالخوف على نفس المضروب من ضربه بالسوط ونحوه.

ص: 120


1- المبسوط، ج 4، ص 632؛ الخلاف، ج 1، ص 175، المسألة 89.
2- المدوّنة الكبرى، ج 2، ص 140؛ حلية العلماء، ج 7، ص 281؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 327، الرقم 8158.
3- انظر لسان العرب، ج 2، ص 164، «ضعت».
4- المبسوط، ج 4، ص 633.
5- سورة ص (38) 44.

-------------------------------------------------------------------

وفيه نظر؛ لأنّ متعلّق اليمين فيما فرضه الضرب بالسوط فكيف يجزئ الضرب بغيره؟ لأنّ حقيقته لغةً وعرفاً مغايرة للخشب، والمناسب للأخذ بحقيقة اللفظ أنه مع اليمين على الضرب بالسوط لا يجزئ غيره، وكذا بالخشب، ومع إطلاق الضرب يجزئ ما يحصل به من الآلات المعتادة له.

وحيث يجزئ الضغث يشترط أن يصيب كلّ واحد من آلة الضرب جسده ولو ظنّاً؛ ليتحقّق الضرب بذلك العدد. كذا أطلقه هنا المصنّف وغيره(1)، مع أنه سيأتي في باب الحدود عدم اشتراط وصولها إليه جمع (2)، ويكفي انكباس بعضها على بعض بحيث يناله ثقل الكلّ، وهنا أولى بالحكم؛ لما تقدّم من أنّ المقصود من الحد الردع، وهنا الاسم والآية تدلّ عليه، ومن المستبعد في العدد المجتمع إصابة جميعه للبدن، خصوصاً إذا اجتمعت (3) المائة كما ذكروه.

والوجه التسوية بين الأمرين، وحيلولة بعضها ببعض مع إصابة ثقلها كحيلولة الثياب وغيرها ممّا لا يمنع تأثر البشرة بالضرب، والغرض هنا التخفيف ومراعاة المسمّى كما تدلّ عليه الآية، والاكتفاء بذلك أولى.

إذا تقرّر ذلك، فشرط انعقاد اليمين كون الضرب سائغاً، إمّا مع رجحانه بأن يكون المضروب مستحقاً لحد أو تعزير، أو متساوي الطرفين كالتأديب على المصالح الدنيوية مع عدم رجحان أحد الجانبين. وفي هذه الصورة لا يتعيّن الضرب، بل الأولى معه العفو ولا كفّارة؛ لأنّ اليمين لا تنعقد على خلاف الأولى؛ ولرواية محمّد العطار قال: سافرت مع أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى مكة فأمر غلامه بشيء فخالفه إلى غيره، فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «واللّه لأضربنك یا غلام»، قال فلم أره،ضربه فقلت: جعلت فداك إنك حلفت لتضربنّ غلامك فلم أرك

ص: 121


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 137 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- يأتي في ج 12، ص 75 وما بعدها.
3- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «جمعت» بدل «اجتمعت».

الثالثة : • إذا حلف «لا ركبت دابّة العبد» لم يحنث بركوبها؛ لأنّها ليست له حقيقة، وإن أضيفت إليه فعلى المجاز.

أمّا لو قال: «لا ركبت دابّة المكاتب» حنث بركوبها؛ لأنّ تصرّف المولى ينقطع عن أمواله. وفيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

ضربته فقال: «أليس اللّه يقول: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى؟»(1).

وفي طريق الرواية ضعف، ولكنّ العمل بها مشهور ويمكن الاحتجاج بعموم الآية وإن كانت مسوقةً لغير ذلك.

وفي إطلاق المصنّف إشكال من وجه آخر، وهو أنّه فرض الضرب مائة سوط وشرط كونه واقعاً في حدّ أو تعزير. ولا يخفى أن مقدار الحد ونهايته لا يتجاوز المائة، وشرط التعزير أن لا يبلغ الحد، فلا يتم التمثيل بالتعزير على تقدير فرض الحلف على مائة سوط، ولا الحدّ إلّا على بعض الوجوه، ولا التأديب مطلقاً كالتعزير، فلا يتم فرض المسألة إلّا فيما دون المائة.

قوله: «إذا حلف: لا ركبت دابّة العبد لم يحنث بركوبها» إلى آخره.

الحالف على دابّة عبد فلان وداره لا يحنث بالدابّة والدار المجعولين باسمه إلّا أن يريده؛ لأنّ الإضافة للملك ولا ملك للعبد، مع احتمال الحنث ؛ حملاً للإضافة على الاختصاص، ولدلالة العرف عليه.

ولو ملك دابّة أو داراً بعد العتق لم يحنث بهما ؛ لأنّه لم يركب دابّة العبد وإنّما ركب دابّة حرّ. نعم لو قال: «لا أركب دابّة هذا» حنث وإن قال: «لا أركب دابّة هذا العبد» بُني على الخلاف فيما إذا حلف لا يكلّم هذا العبد فعتق ثمّ كلّمه، هل يغلب الوصف أو الإشارة؟

وأطلق في القواعد الحكم بالحنث لو ركب دابّة العبد، إذا ركب ما ملكه بعد العتق (2). وليس بجيّد.

ص: 122


1- الكافي، ج 7، ص 460 - 461، باب النوادر، ح4، وفيه عن نجية العطار؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 290. ح 1073: والآية في سورة البقرة (2): 237.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 277.
البشارة اسم للإخبار الأوّل بالشيء السارّ

الرابعة: • البشارة اسم للإخبار الأوّل بالشيء السارّ. فلو قال: «لأعطينّ من بشّرني بقدوم زید» فبشّره جماعة دفعةً استحقّوا. ولو تتابعوا كانت العطية للأوّل.

وليس كذلك لو قال: «من أخبرني» فإنّ الثاني مخبر كالأوّل.

-------------------------------------------------------------------

ولو كان الحلف على ركوب دابّة المكاتب حنث، سواء كان مشروطاً أم مطلقاً لانقطاع تصرّف المولى عنه، وتحقّق ملكه متزلزلاً.

وربما احتمل عدم الحنث هنا أيضاً؛ لعدم تماميّة الملك، ومن ثمّ يمنع من التصرّف في ماله بما ينافي الاكتساب، وهو بمعرض أن يعود رقّاً ويرجع ماله للمولى؛ ولعدم جريان أحكام الأحرار عليه مطلقاً. والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد لذلك.

وربما فرّق بين المكاتب المطلق والمشروط، فحكم بالحنث بركوب دابّة الأوّل دون الثاني. والأظهر الحنث مطلقاً؛ لثبوت الملك في الجملة. والحجر عليه على بعض الوجوه لا ينافيه، كما لا ينافي ملكية الحرّ المحجور عليه بأحد أسبابه. ويكفي في صحّة الإضافة هذا القدر من الملك إن لم يكتف بما دونه.

قوله: «البشارة اسم للإخبار الأوّل بالشيء السار» إلى آخره.

الإخبار أعمّ من البشارة مطلقاً؛ لصدقه بالخبر السار وغيره، وبما وقع أوّلاً وغيره. والبشارة مختصّة بما وقع أوّلاً بالأمر السارّ، وإطلاقه على غيره كقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(1) مجاز أو تهكّم. فإذا حلف «ليعطينّ من يبشّره بكذا»، فهو لمن يخبره أوّلاً به. فإن كان متّحداً،استحقّه، وإن كان متعدّداً بأن نطقوا دفعةً اشتركوا فيه.

وهل يشترط في تحقّقها صدق الخبر؟ ظاهر العبارة والعرف عدمه، خصوصاً مع عدم تعمّد الكذب، ويحتمل اشتراط صدقه مطلقاً.

وكذا الكلام في الإخبار، بل هو أولى بقبوله للصادق والكاذب؛ لأنّه في نفسه منقسم إليهما، إلّا أنّ العرف في هذا المقام ربما خصه بالخبر الصادق، فالحمل عليه أجود.

ص: 123


1- آل عمران (3): 21.
اسم المال يقع على العين والدين

الخامسة • إذا قال: «أوّل من يدخل داري فله كذا» فدخلها واحد، فله وإن لم يدخل غيره. ولو قال: «آخر من يدخل» كان لآخر داخل قبل موته؛ لأنّ إطلاق الصفة يقتضي وجودها في حال الحياة.

السادسة. إذا حلف «لا شربت الماء» أو «لا كلّمت الناس» تناولت اليمين كلّ واحد من أفراد ذلك الجنس.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا قال: أوّل من يدخل داري فله كذا فدخلها واحد» إلى آخره.

المراد بالأوّل الذي لم يسبقه غيره، سواء لحقه غيره أم لا، وبالآخر الذي لم يلحقه غيره. والحكم في الأوّل محمول على الداخل بعد اليمين قبل غيره. وأمّا الآخر فإنه وإن كان مطلقاً يتحقّق بما بعد موته ما دامت الدار باقية، إلّا أنّه محمول على آخر داخل قبل موته بقرينة العرف وإضافة الدار إليه، فإنّها تقتضي الملك ولا يتحقّق بعد الموت، فالجمع بين الآخر وكون دخوله لدار الحالف يقتضى وجود صفة الدخول حال الحياة، ليتحقّق دخوله داره.

وأيضاً قوله «فله كذا يقتضي ثبوته في ذمّته على تقدير الدخول، ولا يتحقّق ذلك إلّا في حال الحياة؛ لأنّ الميت لا يثبت في ذمّته شيء إلّا في مواضع نادرة ليس هذا منها.

قوله: «إذا حلف لا شربت الماء» إلى آخره.

«الماء» اسم جنس معرّف باللام يتناول القليل منه والكثير؛ لتناول الجنس له كما ذكر، سواء جعلناه عاماً أم لا. وأمّا «الناس» فإنّه جمع، ومقتضاه لغةً أن لا يحنث بكلام واحد، كما لو حلف لا يكلم ناساً أو رجالاً. لكن ذكر بعضهم أن لفظ الجمع إذا دخله لام التعريف كان للجنس وأفاد مفاد المفرد(1)، فإذا قال: «إن تزوّجت النساء» أو «اشتريت العبيد فعليّ كذا» لزمه ذلك بتزوّج امرأة واحدة وشراء عبد واحد والعرف (2) مطابق لذلك، وهذا بخلاف

ص: 124


1- القائل به أبو هاشم، على ما حكاه عنه في المعتمد في أصول الفقه، ج 1، ص 223.
2- في بعض النسخ «المعرف» بدل «العرف».

السابعة: • اسم المال يقع على العين والدين الحال والمؤجّل. فإذا حلف ليتصدّقن بماله، لم يبر إلّا بالجميع.

-------------------------------------------------------------------

ما لو تجرّد عن التعريف بأن قال: «إن تزوّجت نساء» أو «اشتريت عبيداً» فإنّه لا يحنث بدون ثلاثة.

واعلم أنّ المعتبر من الماء ما يطلق عليه اسمه، فيدخل فيه ماء البحر، ومن ثمّ جازت الطهارة.به لكن ربما أشكل بمعارضة العرف فإنّ إطلاق الشرب لا ينصرف إلى الماء المالح، فإن استقرّ العرف على ذلك كان مرجّحاً كما سبق(1)، وإلّا فالاعتبار بالحقيقة اللغويّة.

قوله: «اسم المال يقع على العين والدين» إلى آخره.

إطلاق «المال» يتناول العين منه إجماعاً، والدين عندنا وعند الأكثر؛ لشموله له لغةً وعرفاً، فيقال: مال فلان ديون على الناس واستوفى فلان ماله من فلان، وشبه ذلك كثير.

وكذلك الدين يشمل الحالّ منه والمؤجّل بتقرّب ما ذكرناه.

وخالف في ذلك بعض العامّة، فخص المال بالزكوي (2)، وآخرون منهم فخّصوه بالعين(3)، وثالث منهم خصّه بما عدا الدين المؤجّل(4).

وكما يشمل عندنا جميع ما ذكر يشمل ثياب البدن ودار السكني وعبد الخدمة، ولا يستثنى منه ما يستثني في وفاء الدين؛ لأنّ المعتبر هنا ما يتناوله الاسم.

وكذا يدخل فيه العبد الآبق والمال الضال والمغصوب والمسروق المنقطع خبرهما، استصحّاباً للبقاء، والعبد المدبّر والموصى به والمعلق عتقه على صفة وأُمّ الولد؛ لبقاء جميع ذلك على ملكه.

ص: 125


1- سبق في ص 82- 83.
2- انظر الحاوي الكبير، ج 15، ص 449؛ وحلية العلماء، ج 7، ص 291؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 318، المسألة 8143.
3- انظر الحاوي الكبير، ج 15، ص 450 وحلية العلماء، ج 7، ص 291.
4- الحاوي الكبير، ج 15، ص 450 حلية العلماء، ج 7، ص 291.
إذا حلف أن لا يتكلّم هل يحنث بقراءة القرآن؟

الثامنة: • يقع على القرآن اسم الكلام. وقال الشيخ (رحمه اللّه) لا يقع عرفاً. وهو يشكل بقوله تعالى: «حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه».

ولا يحنث بالكتابة والإشارة لو حلف «لا يتكلّم».

-------------------------------------------------------------------

وفي المكاتب وجهان ناشئان من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»(1)، ومن أنّه كالخارج عن ملكه، بدليل أنه لا يملك منافعه وأرش الجناية عليه، والأظهر الثاني. ويمكن الفرق بين المطلق والمشروط، فيدخل الثاني في المال دون الأوّل. وهو خيرة الدروس(2).

ولو كان يملك منفعة بوصيّة أو إجارة ففي دخولها في إطلاق المال وجهان، أظهرهما ذلك؛ ولهذا يصرف في الدين. أمّا حقّ الشفعة والاستطراق فلا، وأرش الجناية عمداً أو خطاً إذا عفى على مال من جملة أفراده.

قوله: «يقع على القرآن اسم الكلام» إلى آخره.

هنا مسألتان:

الأولى: إذا حلف أن لا يتكلّم وانعقدت يمينه فقرأ القرآن ففي حنثه به قولان:

أحدهما العدم، ذهب إليه الشيخ في الخلاف؛ لعدم بطلان الصلاة به مع بطلانها بالكلام(3)، ولأنّ اسم الكلام عند الإطلاق ينصرف عرفاً إلى كلام الآدميّين في محاوراتهم. ولا يصدق عرفاً على من قرأ القرآن أنه تكلّم، ولو كان كلاماً خارج الصلاة لكان كلاماً فيها قاطعاً لها، والإجماع على خلافه؛ ولأصالة براءة الذمّة.

وفيه نظر؛ لعدم الملازمة بين كونه كلاماً وعدم بطلان الصلاة به؛ لأنّ المبطل للصلاة كلام الآدميين لا مطلقاً؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين»(4)، وقد

ص: 126


1- سنن أبي داود، ج 4، ص 20، ح 3926؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 545، ح 21638.
2- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 137 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
3- الخلاف، ج 1، ص 185 - 186، المسألة 102.
4- المصنّف، الصنعاني، ج 2، ص 331 - 332، ح 3577؛ صحیح مسلم، ج 1، ص 381 - 382؛ ح 537/33؛ سنن النسائي، ج 3، ص 18، ح 1214؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 2، ص 353 - 354، ح 3349 بتفاوت فيها.

-------------------------------------------------------------------

قال اللّه تعالى: «حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللّه»(1)، ولأن الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتواضع عليها إذا صدرت عن قادر واحد.

وهذا مذهب الأكثر ومنهم المصنّف، وابن إدريس(2)، والعلّامة في المختلف(3)، وولده(4)، والشهيد (5) (رحمهم اللّه). وفي الإرشاد وافق الشيخ (رحمه اللّه) على عدم الحنث به(6). وتوقّف في القواعد(7).

ومثله القول في التسبيح والتهليل لمشاركته له في عدم إبطال الصلاة، وكونه غير الكلام المعهود في المحاورات، ومن صدق حد الكلام عليه، وقوله تعالى: «ءَايَتُكَ إلّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أيّام إلّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ»(8)، فأمره بالتسبيح وذكر ربّه مع قطع الكلام عنه، فكان الظاهر من الآية أن المأمور به ترك كلام الناس لا مطلق الكلام كذكر اللّه، وقوله : «أفضل الكلام أربع سبحان اللّه والحمد للّه، ولا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر»(9)، و «لا إله إلّا اللّه كلمة ثقيلة في الميزان خفيفة على اللسان»(10). وهذا أقوى.

الثانية: لا يحنث في الكلام بالكتابة والإشارة؛ لأنّهما لا يسميان كلاماً لغةً ولا عرفاً، بل يصحّ أن يقال: ما كلّمه وإنّما كاتبه وأشار إليه. ومثله القول في المراسلة، ولقوله

ص: 127


1- التوبة (9): 6.
2- السرائر، ج 3، ص 57.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 189، المسألة 24.
4- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 37.
5- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 135 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
6- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 89.
7- قواعد الأحكام، ج 3، ص 279.
8- آل عمران (3): 41.
9- المصنّف ابن أبي شيبة، ج 7، ص 143، الباب 159، ح 2 ؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1253، ح 3811 بتفاوتٍ.
10- لم نجده بهذا اللفظ في الجوامع الحديثية ولكن ورد بلفظ آخر راجع مسند أحمد، ج 2، ص 462، ح 7127؛ وسنن ابن ماجة، ج 21، ص 1251، ح 3806؛ والجامع الصحيح، ج 5، ص 512، ح 3467.

التاسعة: • الحُليّ يقع على الخاتم واللؤلؤ، فلو حلفت لا تلبس الحُليّ حنثت بلبس كلّ واحد منهما.

-------------------------------------------------------------------

تعالى: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا»(1)، «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ» (2) ولو كانت الإشارة كلاماً لامتنعت منها.

وذهب جماعة من العامّة إلى الحنث بذلك(3)؛ لقوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّه إلّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَآيِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا»(4) ؛. استثنى الرسالة من التكليم فيدخل الآخران بطريق أولى، ولاستثنائه في الآية السابقة(5) الرمز من الكلام وهو حقيقة في المتّصل.

ولا فرق على التقديرين بين إشارة الناطق والأخرس، وإنّما أقيمت إشارة الأخرس مقام كلام الناطق للضرورة.

قوله: «الحُليّ يقع على الخاتم واللؤلؤ» إلى آخره.

ذكر الخاتم واللؤلؤ في الحُليّ لا على وجه الحصر فيهما كما يظهر من العبارة، بل هما الفرد الخفيّ منه، وهو أعمّ منهما، وأظهر أفراده السوار والخلخال ونحو ذلك.

ونبه بخصوص اللؤلؤ على خلاف بعضهم حيث ذهب إلى أنّ اسم الحليّ لا يتناوله (6)، وبه قطع في الدروس واستدلّ لدخوله فيه بقوله تعالى: «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةٌ تَلْبَسُونَهَا»(7). وذكر في التحرير أنّ العقيق والسبج(8) تسمّى حلياً في السواد وجعل أيضاً من أفراده

ص: 128


1- مريم (19): 26.
2- مريم (19): 29.
3- الحاوي الكبير، ج 15، ص 446؛ حلية العلماء، ج 7، ص 284؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 327 - 328، المسألة 8159؛ روضة الطالبين ج 8، ص 56.
4- الشورى (42): 51.
5- آل عمران (3): 41.
6- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 444.
7- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 138 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ والآية في سورة النحل (16): 14.
8- السَبَج: هو الخرز الأسود، فارسي معرب. الصحاح، ج 1، ص 321، «سبج».

العاشرة: • التسرّي هو وطء الأمة. وفي اشتراط التخدير نظر.

-------------------------------------------------------------------

الدراهم والدنانير في المرسلة، لا مثل السيف والمنطقة المحلّيين(1). والوجه الرجوع فيه إلى العرف، وهو يختلف كثيراً.

وما حكم به المصنّف (رحمه اللّه) من الحنث بكلّ واحد من أفراده إنّما يتمّ لو كان حلقه على الحلي بفتح الحاء وسكون اللام ليكون مفرداً، أما جمعه وهو الحُليّ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء (2)، وفيه لغة أخرى بكسر الحاء. ووزنه على اللغتين فعول(3)، فإنّ «فعلاً» يجمع على «فعول» كفلس وفلوس وأصله حلوي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً وادعمنا على القاعدة، ثمّ كسرت اللام؛ لما في الانتقال من الضمة إلى الياء من العسر، ثمّ أجازوا مع ذلك كسر الحاء اتباعاً للام. فإذا حلف عليه لا يحنث بلبس فرد من أفراده، بل ولا اثنين، بل بالجمع كما لو حلف على كلّ جمع كقوله: «لا لبست ثياباً».

هذا إذا قال: «لا لبست حليّاً» بالتنكير، أمّا لو عرفه فقد تقدم أن بعضهم حمله على الجنس فيكون كالمفرد والعرف يرشد إليه(4). وكلامهم خال من تقييد الحليّ المحلوف عليه بكونه مفرداً أو جمعاً، ولكن القواعد الشرعيّة تدلّ على ما فصلناه. وقد تقدّم مثله في الإيلاء(5) لو قال لزوجاته: «لا وطنتكنّ» فإنّه لا يحنث بوطء واحدة ولا اثنتين بخلاف ما لو حلف على وطء كلّ واحدة.

وكذا القول في الحلف على المثنى، كما لو قال: «لا أكلت هذين الرغيفين» فإنّه يجوز له أكل واحد منهما وبعض الآخر، وإنّما يحنث بهما معاً.

قوله: «التسرّي هو وطء الأمة. وفي اشتراط التخدير نظر».

اختلف في معنى التسري، فذهب بعضهم إلى أنه يحصل بثلاثة أمور: ستر الجارية عن

ص: 129


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 313 - 314، الرقم 5858.
2- الصحاح، ج 4، ص 2318، «خلا».
3- الصحاح، ج 4، ص 2318، «خلا».
4- تقدّم في ص 124.
5- تقدّم في ج 8، ص 218 و 222.

الحادية عشرة : • إذا حلف لأقضينّ دين فلان إلى شهر، كان غاية.

ولو قال: «إلى حين» أو «زمان» قال الشيخ يحمل على المدة التي حمل عليها نذر الصيام.

-------------------------------------------------------------------

أعين الناس المعبّر عنه بالتخدير والوطء والإنزال(1).

وقيل: يكفى الوطء والستر (2). وقيل: يكفى الوطء؛ لأنّ اشتقاقه من السر وهو الوطء(3)، قال امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة القوم أنّني***كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي(4)

وقيل: من السرّ وهو الخفاء؛ لأنّه يخفيها بالتخدير، أو يخفي وطأها عن زوجته(5). وقيل فيه غير ذلك(6).

واختار الشيخ في المبسوط اعتبار الوطء والإنزال(7). وفي الدروس الاكتفاء بالوطء مطلقاً(8).

والأقوى الرجوع فيه إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الأزمان والأصقاع.

قوله: «إذا حلف لأقضين دين فلان إلى شهر كان غاية - إلى قوله - وإلّا كان مبهماً». هنا مسألتان:

الأولى: إذا قال: «لأقضينّ حقّك إلى شهر» أو «إلى رأس الشهر» فليكن القضاء قبل

ص: 130


1- حلية العلماء، ج 7، ص 290، وفيه: «التحصين» بدل «التخدير».
2- الخلاف، ج 6، ص 187، المسألة 106.
3- راجع حلية العلماء، ج 7، ص 289 ؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 238، المسألة 8007.
4- ديوان امرئ القيس، ص 140؛ وحكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 238، المسألة 8007.
5- الحاوي الكبير، ج 15، ص 409.
6- الحاوي الكبير، ج 15، ص 408 و 409.
7- المبسوط، ج 4، ص 642.
8- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 137 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

وفيه إشكال من حيث هو تعدّ عن موضع النقل.

وما عداه إن فهم المراد به وإلّا كان مبهماً.

-------------------------------------------------------------------

انقضائه لأنّ «إلى» للغاية وبيان الحد، وهي خارجة عن المغيّى، إما مطلقاً أو هنا بالقرينة أو لثبوت المفصل(1) المحسوس.

وربما قيل بجواز تأخيره إلى أن يهلّ كما لو قال: «لأقضينّك عند الهلال»؛ لأنّ «إلى» كما تكون للتحديد تكون بمعنى «مع»، كقوله تعالى: «مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه» (2) أي مع اللّه، فلا يحنث بالشكّ.

ويضعّف بأنّ المعنيين متضادان في الأحكام؛ لأنّ مقتضى الأوّل كون الشهر ظرفاً للأداء وآخره آخر الوقت المعيّن باليمين، ومقتضى الثاني كون الهلال وقتاً له دون ما قبله، ولازمه وجوب إحضار الحقّ وترصد الهلال ليدفعه عنده من غير تقديم ولا تأخير، حتّى لو قدّمه عليه فقد فوّت البرّ على نفسه، كما لو حلف على أكل الطعام غداً فأكله أو أتلفه قبله، وحيث كانا متضادين فلابدّ من الحمل على أحدهما، والأوّل أولى؛ لأنّه الأغلب في استعمال «إلى» وأوفق للعرف.

الثانية لو قال لأقضينه إلى حين أو زمان لم يختص ذلك بزمان مقدّر، بل يقع على القليل والكثير لغةً وعرفاً، فمتى قضاه برّ، وإنّما يحكم بالحنث إذا مات قبل أن يقضيه مع التمكّن.

وقال الشيخ: يحمل على نذر الصوم، وهو أنّ «الحين» ستة أشهر، و«الزمان» خمسة أشهر (3)؛ لأنّه عرف شرعي ناقل عن الوضع اللغوي، فيجب المصير إليه.

واستشكله المصنّف (رحمه اللّه) من حيث إنه مستعمل في الشرع لغير ما ذكر، كقوله

ص: 131


1- في «و» والحجريّتين: «الفصل» بدل «المفصل».
2- آل عمران (3): 52.
3- المبسوط، ج 4، ص 618.

-------------------------------------------------------------------

تعالى «فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ»(1)، «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ» (2)، «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتّى حِينِ» (3) فسّر فيهما بيوم القيامة(4)، وقال تعالى: «هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَننِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا»(5)، وفسّر بتسعة أشهر؛ لأنّها الغالب في مدّة الحمل (6). وقيل : هو أربعون سنة (7)؛ لأنّه إشارة إلى آدم وقد صوّر من حمإ مسنون وطين لازب ثمّ نفخ فيه الروح بعد أربعين سنة(8)، فهو مشترك، ولا يمكن حمله على جميع معانيه اتّفاقاً، فهو مبهم. وما ورد في النذر (9) مختصّ به على خلاف الأصل فلا يتعدّاه.

وما عداه إن فهم المراد منه بقصد اللافظ أو قرينة تدلّ على تعيين أحد معاني المشترك، وإلّا كان مبهماً يصلح للقليل والكثير، ولا يحصل الحنث إلّا بالموت؛ لأصالة براءة الذمّة ممّا عدا ذلك.

وكذا القول في «الزمان» و«الوقت» و«الدهر» و«المدة» وغيرها ممّا يدل على الزمان المبهم.

ص: 132


1- الروم (30): 17.
2- سورة ص (38): 88.
3- المؤمنون (23): 54.
4- انظر التبيان، ج 8، ص 536 والنكت والعيون، ج 5، ص 112؛ والكشاف، ج 4، ص 109؛ والجامع لأحكام القرآن، ج 15، ص 231؛ والدر المنثور، ج 7، ص 209، ذيل الآية 88 من سورة ص (38).
5- الإنسان (76): 1.
6- نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، ج 19، ص 120، ذيل الآية 1 من سورة الإنسان (76).
7- انظر التبيان، ج 10، ص 205 ومجمع البيان، ج 10، ص 406: وجامع البيان، ج 14، الجزء 29، ص 218، ذیل الآية 1 من سورة الإنسان (76).
8- ورد مضمون هذه العبارة في جامع البيان، ج 14، الجزء 29، ص 218 - 219، ذيل الآية 1 من سورة الإنسان (76).
9- الكافي، ج 4، ص 142، باب من جعل على نفسه صوماً معلوماً، ح 5 و 6 : تهذيب الأحكام، ج 4، ص 309 - 310، ح 933 و 934؛ وج 8 ص 314، ح 1168.
الحنث يتحقّق بالمخالفة اختياراً

الثانية عشرة: • الحنث يتحقّق بالمخالفة اختياراً، سواء كان بفعله أو فعل غيره، كما لو حلف «لا أدخل بلداً» فدخله بفعله، أو قعد في سفينة فسارت به، أو ركب دابّه أو حمله إنسان.

ولا يتحقّق الحنث بالإكراه، ولا مع النسيان، ولا مع عدم العلم.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «الحنث يتحقّق بالمخالفة اختياراً» إلى آخره.

إذا وجد الفعل أو القول المحلوف عليه على وجه الإكراه أو الجهل بالمحلوف عليه، بأن دخل الدار وهو لا يعرف أنّها الدار التي حلف لا يدخلها، أو حلف أن لا يسلّم على زيد ثمّ سلّم عليه في ظلمة وهو لا يدري أنه زيد، أو النسيان لليمين، لم يحنث فيها؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «رفع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»(1).

ولأنّ البعث والزجر المقصودين من اليمين إنّما يكونان مع اختيار الفعل ذاكراً لليمين. ضرورة أنّ كلّ حالف إنّما قصد بعث نفسه أو زجرها باليمين، وذلك إنّما يكون عند ذكرها وذكر المحلوف عليه حتّى يكون تركه أو فعله لأجل اليمين، وهذا لا يتصوّر إلّا مع القصد إليها والمعرفة بها، فإذا جهل اليمين في صورة النسيان أو المحلوف عليه في صورة الجهل لم يوجد المقصود من اليمين لأجلها؛ إذ لا يتصوّر قصد البعث أو الامتناع حال الجهل والنسيان. وكذا حالة الإكراه، بل هنا أولى؛ لأنّ الداعية حالة الإكراه ليست للفاعل، بل نشأت من غيره، فلم تدخل هذه الحالة في اليمين والبعث على الإقدام والمنع منه إنّما يقع في الأفعال الاختيارية؛ لامتناع بعث المرء نفسه على ما يعجز عنه كالصعود إلى السماء. وأيضاً فإنّه لو حلف مكرهاً لم تنعقد يمينه، فكذا المعنى (2) الذي يتعلّق به الحنث إذا وجد على وجه الإكراه يجب أن يلغو؛ لأنّه أحد سببي وجوب الكفّارة.

ولا فرق على تقدير الإكراه بين أن يفعل الحالف المحلوف على تركه بنفسه بأن يحمل عليه بالتهديد، وبغيره بأن يحمل إلى الدار التي حلف لا يدخلها مكرهاً.

ص: 133


1- تلخيص الحبير، ج 1، ص 281، ح 450 كنز العمال، ج 4، ص 233، ح 10307.
2- في بعض النسخ: «العين» بدل «المعنى».

-------------------------------------------------------------------

وكذا لا فرق مع الاختيار بين أن يتولّى الفعل بنفسه بأن يدخل الدار بفعله، أو بفعل غيره بأن يركب دابّه أو يقعد في سفينة فتدخل به وهو قادر على النزول عنها فلم ينزل.

ولو حمل بغير إذنه لكنه كان قادراً على الامتناع فلم يمتنع، ففي حنثه وجهان، أجودهما ذلك؛ لأنّ سكوته بمثابة الإذن في الدخول. ووجه العدم أنه لم يوجد منه الدخول، وإنّما استند إلى غيره وهو ممنوع.

ولو حمل بأمره فلا إشكال فى الحنث، وكان كما لو ركب دابّه ودخلها، ويصدق أن يقال حينئذٍ: «دخلها على ظهر فلان» كما يصدق أن يقال: «دخلها راكباً».

وخالف جماعة من العامّة في حكم المسألة وحكموا بالحنث في جميع الفروض؛ استناداً إلى وجود صورة المحلوف عليه(1)، والكفّارة لا تسقط بالأعذار عندهم؛ لأنّه قد يجب عليه أن يحنث نفسه ومع ذلك تلزمه الكفّارة، كما لو كان حلفه على أن لا يفعل الواجب أو يفعل المحرّم، فإنّ اليمين عندهم تنعقد على جميع ذلك وإن وجب الحنث، كما أنّه لو حلف على ترك المندوب انعقد واستحبّ الحنث.

إذا تقرّر ذلك وقلنا بعدم الحنث هل تنحل اليمين أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما : نعم؛ لوجود الفعل المحلوف عليه حقيقةً، فكان كما لو خالف عمداً، وإن افترقا الكفّارة وعدمها، فقد حصلت المخالفة وهي لا تتكرّر، فإذا خالف مقتضاها بعد ذلك لم يحنث. وقد حكموا في الإيلاء بأنه لو وطئ ساهياً أو جاهلاً بطل حكم الإيلاء مع أنّها يمين صريحة. وكذا لو كانت أمةً فاشتراها أو كان عبداً فاشترته وأعتقته.

ووجه العدم أنّ الإكراه والنسيان والجهل لم تدخل تحتها، فالواقع بعد ذلك هو الذي تعلقت به اليمين فإذا لم تتناوله ثمّ وجد ما يتناوله وجب الحنث. واستقرب الشهيد في قواعده الأوّل، ونسبه إلى ظاهر الأصحّاب(2).

ص: 134


1- انظر المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 289 - 290، المسألة 8081.
2- القواعد والفوائد، ص 392-393 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 15).

الأمر الرابع في اللواحق

إشارة:

وفيه مسائل:

الأيمان الصادقة كلّها مكروهة

الأولى: • الأيمان الصادقة كلّها مكروهة.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «الأيمان الصادقة كلّها مكروهة».

أطلق المصنّف وجماعة كراهة اليمين الصادقة؛ لقوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ»(1). وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية أبي أيوب الخزاز: «لا تحلفوا باللّه صادقين ولا كاذبين، فإنّه عزّوجلّ يقول: «وَلَا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةٌ لِأَيْمَانِكُمْ»»(2).

وليس على إطلاقه؛ لما ثبت أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حلف كثيراً، كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) - لما حكى عن سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة كلّها تأتي بفارس يقاتل في سبيل اللّه» الحديث : «وأيم اللّه والذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون» (3)، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فى زيد بن حارثة «وأيم اللّه إن كان لخليقاً بالأمارة»(4) وغير ذلك من الأيمان المرويّة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(5).

واستثنى بعضهم ما وقع منها في حاجة(6) لتوكيد كلام أو تعظيم أمر. فالأوّل كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

ص: 135


1- فقه القرآن الراوندي، ج 2، ص 229؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 269؛ والآية في سورة البقرة (2): 224.
2- الكافي، ج 7، ص 434، باب كراهية اليمين، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 362، ح 4284؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 282، ح 1033.
3- صحيح البخاري، ج 3، ص 1038، ح 2664 : صحيح مسلم، ج 3، ص 1275 - 1276، ح 1654/22 و 1654/25 : السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 76 - 77، ح 19909 بتفاوت فيها.
4- مسند أحمد، ج 2، ص 92، ح 4687: صحيح مسلم، ج 4، ص 1884، ج 2426/63: الجامع الصحيح، ج 5، ص 676- 677. ح 3816: السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 76، ح 19908.
5- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 46 - 48. ح 19808 - 19814.
6- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 269.

هل اليمين الغموس محرّم؟

• وتتأكد الكراهة في الغموس على اليسير من المال. نعم، لو قصد دفع المظلمة جاز، وربما وجبت ولو كذب. لكن إن كان يحسن التورية ورّى وجوباً. ومع اليمين لا إثم ولا كفّارة، مثل أن يحلف ليدفع ظالماً عن إنسان أو ماله أو عرضه.

-------------------------------------------------------------------

«فواللّه لا يملّ اللّه حتّى تملوا»(1)، والثاني كقوله : «واللّه لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً»(2)، وباقي ما ورد عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الأيمان (3) راجع إلى هذين.

وقسّمها الأكثر إلى الأحكام الخمسة، فقد تجب في مثل إنقاذ مؤمن من ظالم وإن كان كاذباً ويتأوّل، وفي الدعوى عند الحاكم إذا توجّهت عليه، وقد تحرم إذا كانت كاذبةً إلّا لضرورة(4). وقد تستحبّ لدفع ظالم عن ماله المجحف به. وقد تكره كما إذا كثرت، وعليه تحمل الآية(5)، وفي العرضة تنبيه عليه، وكالحلف على القليل من المال. وما عدا ذلك مباح.

قوله: «وتتأكّد الكراهة في الغموس على اليسير من المال» إلى آخره.

المعهود بين الفقهاء وأهل اللغة أن اليمين الغموس هي الحلف على الماضي كاذباً متعمداً، بأن يحلف أنّه ما فعل وقد كان فعل أو بالعكس، وأنّها محرمة، وأنّها سمّيت غموساً؛ لأنّها تغمس الحالف في الذنب أو النار(6).

ص: 136


1- مسند أحمد، ج 7، ص 77، ح 23724؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 24، ح 43: صحيح مسلم، ج 1، ص 542، ح 785/22؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1416. ح 4238.
2- مسند أحمد، ج 3، ص 296، ح 10150؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 354، ح 997؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 618، ح 901/1؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1402، ح 4190 و 4191؛ سنن النسائي، ج 3، ص 133، ح 1470.
3- راجع السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 46 - 48، ح 19808 - 19814.
4- في بعض النسخ: لا لضرورة وفي بعضها الآخر: «لغير ضرورة».
5- البقرة (2): 224.
6- راجع تهذيب اللغة، ج 6، ص 268؛ والنهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 386: ولسان العرب، ج 6، ص 156 - 157، «غمس».

-------------------------------------------------------------------

وهي من الكبائر، روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «الكبائر: الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس ونهب المسلم، والفرار من الزحف واليمين الغموس»(1). الحديث.

ولكن المصنّف (رحمه اللّه) هنا أطلقها على الحلف على الماضي مطلقاً، ومن ثمّ وصفها بالكراهة.

والمراد باليسير من المال ثلاثون درهماً فما دون والمستند رواية علي بن الحكم عن بعض أصحابنا، عن أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا ادّعي عليك مال ولم يكن له عليك وأراد أن يحلفك، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهماً فأعطه ولا تحلف، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه»(2). ومحلّ وجوبها وإن كذب إذا استلزمت تخليص مؤمن من ظالم.

ويفهم من قوله «ليدفع ظالماً عن إنسان أو ماله أو عرضه» أنّ الحلف للدفع عن الثلاثة يجب؛ لأنّه جعله مثالاً للواجب. ويشكل وجوب الدفع عن مال الغير بذلك دون مال نفسه، إلّا أن يقال بوجوبه فيهما. وقد ذكر المصنّف (رحمه اللّه) (3) وغيره(4)، أن الدفاع عن النفس واجب، وعن المال غير واجب مطلقاً. وفي الدروس صرّح في هذا الباب بأنّ الحلف لدفع الظالم عن مال نفسه المجحف به مستحبّ(5). ويمكن الفرق بين المال المضرّ فواته بمالكه وغيره في الأمرين.

والمراد بالتورية أن يقصد باللفظ غير ظاهره، إمّا في مفردة بأن يقصد بالمشترك معنى غير المطلوب منه الحلف عليه، بأن يقصد ب«ما» في قوله: «ما لفلان عندي وديعة»

ص: 137


1- مسند أحمد، ج 2، ص 411، ح 6845؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 191؛ صحيح البخاري، ج 6، ص 2457. ح 6298، وص 2511، ح 6476، وص 2535، ح 6522: الجامع الصحيح، ج 5، ص 236، ح 3020 و 3021؛ 5. سنن النسائي، ج 7، ص 93، ح 4017 بتفاوت فيها.
2- الكافي، ج 7، ص 435، باب كراهة اليمين، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 283، ح 1037.
3- راجع ج 2، ص 422، وعبارته هكذا وكذا كلّ من خشي على نفسه مطلقاً أو ماله إذا غلبت السلامة.
4- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 571.
5- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 30 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

الثانية: • اليمين بالبراءة من اللّه سبحانه أو من رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا تنعقد، ولا تجب بها كفّارة، ويأثم ولو كان صادقاً. وقيل: تجب بها كفّارة ظهار. ولم أجد به شاهداً. وفي توقيع العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى محمّد بن يحيى: «يطعم عشرة مساكين، ويستغفر اللّه تعالى».

-------------------------------------------------------------------

الموصولة لا النافية، أو «ماله عندي فراش ويعني الأرض أو لباس، ويعني الليل أو النساء. ونحو ذلك. أو في الإسناد بأن يقول: ما فعلت كذا، ويعني في غير الزمان والمكان الذي فعله فيه، ونحو ذلك.

ولو لم يحسن التورية حلف ولا شيء عليه، ولا يقبل اللّه تعالى تأويل الظالم بيمينه، ولا يخرج بيمينه عن الغموس والنيّة نيّة المستحلف المحقّ.

قوله: «اليمين بالبراءة من اللّه سبحانه أو من رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا تنعقد» إلى آخره.

الحلف بالبراءة من اللّه ورسوله وأئمّته (عَلَيهِم السَّلَامُ) محرّمة، سواء كان صادقاً أم كاذباً، ففى مرفوعة ابن أبي عمير قال: سمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رجلاً يقول: أنا برى من دين محمّد، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ويلك إذا برئت من دين محمّد فعلى دين من تكون؟!» قال: فما كلّمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى مات(1).

وروى بريدة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من قال: إنّي برئ من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يعد إلى الإسلام سالماً»(2).

وروی یونس بن ظبيان قال قال لي: «يا يونس لا تحلف بالبراءة منا؛ فإنّه من حلف بالبراءة منّا؛ صادقاً أو كاذباً فقد برئ منّا»(3).

ص: 138


1- الكافي، ج 7، ص 438، باب كراهية اليمين بالبراءة من اللّه، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 284، ح 1041.
2- مسند أحمد، ج 1، ص 488، ح 22501؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 224 - 225، ح 3258: السنن الكبرى، البيهقي، ج 10، ص 53، ح 19835 بتفاوت يسير.
3- الكافي، ج 7، ص 438، باب كراهية اليمين بالبراءة من اللّه، ح 2: الفقيه، ج 3، ص 375، ح 4320 تهذيب الأحكام، ج 8، ص 284، ح 1042.

• ولو قال: «هو يهودي أو نصراني أو مشرك إن كان كذا» لم تنعقد، وكان لغواً.

-------------------------------------------------------------------

والأصحّ أنه لا كفّارة عليه بذلك مطلقاً؛ لأصالة البراءة، وعدم دليل مخرج عن حكم الأصل.

والقول بوجوب كفّارة الظهار مع الحنث للشيخين(1) وسلّار(2) والتقيّ(3).

وذهب ابن حمزة إلى وجوب كفّارة النذر(4)، وهي عنده كبيرة مخيّرة. وقيل غير ذلك(5).

والكلّ رجوع إلى غير دليل صالح. نعم، طريق التوقيع المذكور صحيح، وحكم بمضمونه جماعة من المتأخّرين(6) منهم العلّامة في المختلف(7). ولا بأس به. وقد تقدم البحث في ذلك كلّه في الكفّارات(8).

قوله: «ولو قال: هو يهودي أو نصراني» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ الحلف لا ينعقد إلّا باللّه تعالى(9)، فلا كفّارة لليمين بغيره، سواء حرم الحلف به أم لا. وروى إسحاق بن عمار - في الموثّق - قال، قلت لأبي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ): رجل قال: هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا وكذا، فقال: «بئس ما قال وليس عليه شيء» (10).

والكلام في تحريم هذا اليمين كما سبق(11)، وفي رواية (12) بريدة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما ينبه عليه.

ص: 139


1- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 558 - 559؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 570.
2- المراسم، ص 184 - 185.
3- الكافي في الفقه، ص 229.
4- الوسيلة، ص 349.
5- المقنع، ص 409: المبسوط، ج 4، ص 577: المهذّب، ج 2، ص 414.
6- منهم جمال الدين الحلّي في المقتصر، ص 295 - 296.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 164، المسألة 1.
8- تقدّم في ج 8، ص 101.
9- تقدّم في ص 47.
10- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 278، ح 1012.
11- سبق أنفاً.
12- تقدّمت في ص 138.

لا يجب التكفير إلّا بعد الحنث

الثالثة: • لا يجب التكفير إلّا بعد الحنث ولو كفّر قبله لم يجزئه.

-------------------------------------------------------------------

وروى ثابت بن الضحاك أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من حلف على يمين بملّة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال»(1).

قوله: «لا يجب التكفير إلّا بعد الحنث. ولو كفّر قبله لم يجزئه».

إنّما لم تجز؛ لأنّه عبادة فلا يجوز إيقاعها قبل وقت وجوبها، ولأنّها لا تجب قبله إجماعاً وغير الواجب لا يجزئ عنه.

وخالف في ذلك بعض العامّة، فجوّز تقديمها على الحنث كتعجيل الزكاة قبل تمام الحول (2)؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك» (3)، وفي لفظ آخر: «فكفّر عن يمينك وانت الذي هو خير»(4). وفي بعض أخبارنا ما يوافقه(5). وفي الطريق ضعف.

والمراد بالحنث - بكسر الحاء - مخالفة مقتضى اليمين، وأصله الإثم والذنب، ومنه: بلغ الغلام الحنث، أي المعصية والطاعة قاله الجوهري(6)، وفي نهاية ابن الأثير: الحنث في اليمين نقضها والنكث فيها(7).

ص: 140


1- المصنّف، الصنعاني، ج 10، ص 463، ح 19715؛ مسند أحمد، ج 4، ص 617 - 618، ح 15950 - 15952 و 15954 - 15957؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 224، ح 3257 بتفاوت يسير.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 290 - 2910: حلية العلماء، ج 7، ص 305.
3- المصنّف، الصنعاني، ج 8، ص 495، ح 16033 و 16034 : مسند أحمد، ج 2، ص 415، ح 6868 : صحيح مسلم، ج 3، ص 1272، ح 1650/13 ؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 681، ح 2108 : الجعفريّات المطبوع مع قرب الإسناد، ص 276، ح 1140: دعائم الإسلام، ج 2، ص 101، ح 322 بتفاوت فيها.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 54 - 55، ح 20102 و 20104؛ سنن النسائي، ج 7، ص 12، ح 3788 و 3789.
5- انظر الفقيه، ج 3، ص 372، ح 4310؛ وتهذيب الأحكام، ج 8، ص 299، ح 1105 و 1106؛ والاستبصار، ج 4، ص 44. ح 152 و 153.
6- الصحاح، ج 1، ص 280، «حنث».
7- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 449، «حنث».

لو أعطى الكفّارة كافراً أو من تجب عليه نفقته

الرابعة. لو أعطى الكفّارة كافراً أو من تجب عليه نفقته، فإن كان عالماً لم يجزئه، وإن جهل فاجتهد ثمّ بان له لم يعد.

وكذا لو أعطى من يظن فقره فبان غنيّاً ؛ لأنّ الاطّلاع على الأحوال الباطنة يعسر.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لو أعطى الكفّارة كافراً أو من تجب عليه نفقته» إلى آخره.

لا كلام في عدم الإجزاء مع علم الدافع بعدم استحقّاق المدفوع إليه. وأمّا مع عدم علمه، فإن لم يجتهد في البحث عن حاله فكذلك؛ لاستناده إلى تقصيره.

وإن اجتهد بأن بحث عنه للمطلع على حاله غالباً فلم يظهر منه مانع الدفع أجزاً؛ لأنّ المعتبر شرعاً ظهور الفقر وغيره من الشرائط لا وجودها في نفس الأمر.

ولا فرق في ذلك بين أنواع الشرائط المعتبرة في المستحق، ولكن المصنّف خص الحكم ببعضها.

واستثنى في الدروس ما لو ظهر المدفوع إليه عبد الدافع، فإنّه لا يجزئ مطلقاً(1). وكان وجهه أنّ المال لم يخرج عن ملكه؛ لأنّ عبده لا يملك.

ويشكل بأنه إذا كان الحكم مبنيّاً على الظاهر فلا عبرة بعدم تملّك (2) المدفوع إليه؛ ولأنّ ك جار(3) في عبد غيره بناءً على أنّ العبد لا يملك. وأيضاً فإنّ الغني وغيره ممّن لا يستحقّ الكفّارة لا يملكها بالدفع إليه في نفس الأمر؛ لفقد الشرط، فهي باقية على ملك الدافع على كلّ حال، وإنّما أجزأت عنه مع الاجتهاد دفعاً للحرج. وقد تقدّم مثله في الزكاة(4).

هذا كلّه إذا لم تكن العين باقية وأمكن استردادها، وإلّا استردّت مطلقاً، ودفعت أو غيرها إلى المستحقّ.

ص: 141


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 149 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- في «ع»: «ملك» بدل «تملك».
3- في «م»: «جاز» بدل «جار».
4- تقدّم في ج 1، ص 430 - 431.

لا يجزئ في التكفير بالكسوة إلّا ما يسمّى ثوباً

الخامسة: • لا يجزئ فى التكفير بالكسوة إلّا ما يسمى ثوباً. ولو أعطاه قلنسوةً أو خفّاً لم يجزئه؛ لأنّه لا يسمّى كسوة. ويجزئ الغسيل من الثياب؛ لتناول الاسم.

-------------------------------------------------------------------

وهل يكفي في البحث عن حال المسكين سؤاله عن حاله حيث يجهل أمره، أم لا بدّ من البحث زيادةَ على ذلك؟ وجهان، من أنّ الظاهر من الاجتهاد بذل الجهد في البحث، وهو يقتضي أمراً زائداً عن تقليده، ومن قبول قوله شرعاً، فلا تقصير(1) في ترك البحث عنه زيادةً على ذلك.

ويشكل بأنه بدون ذلك لا يجوز الدفع إليه مطلقاً، فلا يقع مجزئاً وإن استمر الاشتباه. وإنّما الكلام على تقدير جواز الدفع ظاهراً وتبين خلافه، وأقلّ ذلك التعويل على قوله، إذ فوقه الاعتماد على إخبار شاهدين بفقره مع عدم دعواه ذلك ثمّ يظهر خلافه، وتلك حجة شرعية لا يعد المعتمد عليها مقصراً.

وقريب منه أو أعلى (2) الرجوع إلى إخبار جماعة مطّلعين على حاله، وذلك كلّه غير منافٍ لظهور غناه؛ لأنّ المال ممّا يخفى ولا شبهة في تحقّق الاجتهاد بهذين الأمرين(3)، وإنّما الكلام على تقدير الاعتماد على خبره.

قوله «لا يجزئ في التكفير بالكسوة إلّا ما يسمّى ثوباً» إلى آخره.

إذا اختار المكفّر الكسوة اعتبر منها مسمّاها، وأقله ثوب واحد من قميص أو سراويل أو عمامة أو جبّة أو قباء أو مقنعة أو إزار أو رداء؛ لأنّ الاسم يقع على جميع ذلك. ويختلف بحال الآخذ في الذكورية والأنوثية والكبر والصغر، فيكفي الصغير خرقة يصدق عليها بالنسبة إليه اسم الثوب من أحد الأصناف، وإن لم يكف الكبير عشر خرق مثلها، ولا يشترط أن يكون مخيطاً، بل يجوز إعطاء الكرباس.

ص: 142


1- في «م»: «فلا يقصّر» بدل «فلا تقصير».
2- في الطبعة الحجريّة زيادة «إذا علّق».
3- في بعض النسخ: «الأخيرين» بدل «الأمرين».

إذا مات وعليه كفّارة مرتبة ولم يوص

السادسة: • إذا مات وعليه كفّارة مرتّبة ولم يوص اقتصر على أقلّ رقبة تجزئ. وإن أوصى بقيمة تزيد عن ذلك ولم يجز الوارث، كانت قيمة المجزئ من الأصل، والزيادة من الثلث.

وإن كانت الكفّارة مخيّرة اقتصر على أقلّ الخصال قيمةً. ولو أوصى بما هو أعلى ولم يجز الورثة، فإن خرج من الثلث فلا كلام، وإلّا أُخرجت قيمة الخصلة الدنيا من الأصل وثلث الباقي، فإن قام بما أوصى، وإلّا بطلت الوصيّة بالزائد واقتصر على الدنيا.

-------------------------------------------------------------------

ويستحبّ أن يكون جديداً، خاماً كان أو مقصوراً. فإن كان مستعملاً نظر إن تخرّق أو ذهبت قوّته بمقاربة الانمحاق لم يجز؛ لأنّه معيب كالطعام المسوّس، وإن لم ينته إلى ذلك الحد جاز كالطعام العتيق. ولا يجزئ المرقع إن رقّع للتخرّق والبلى، وإن خيط في الابتداء مرقّعاً للزينة وغيره أجزاً.

وأمّا الجنس فيجزي المتخذ من الصوف والشعر إن اعتيد لبسه، والقطن والكتّان والقزّ والإبريسم. ولا فرق في كلّ جنس بين الجيد والرديء والمتوسط مع صدق الاسم.

ولا يجزئ القلنسوة، ولا الخفّ والنعل ونحوه ممّا تلبس في الرجل؛ لعدم صدق اسم الكسوة عليها، خلافاً لبعض العامّة(1). ومثله المنطقة والخاتم والتكة.

وقد تقدّم البحث في ذلك في باب الكفّارات (2)، وإنّما ذكره هنا لمناسبة كفّارة اليمين، فإنّ الكسوة مختصّة بها. ولو ذكر جميع هذه المسائل إلى آخر الباب في مسائل الكفّارات كما صنع غيره (3) كان أجود.

قوله: «إذا مات وعليه كفّارة مرتبة ولم يوص - إلى قوله - واقتصر على الدنيا».

إذا مات وعليه كفّارة، فإما أن يوصي بها أو لا، فإن لم يوص بها وجب إخراجها من تركته

ص: 143


1- الحاوي الكبير، ج 15، ص 320: الوجيز، ج 2، ص 226؛ روضة الطالبين، ج 8، ص 22.
2- تقدّم في ج 8، ص 170.
3- انظر قواعد الأحكام، ج 3، ص 305 - 306.

-------------------------------------------------------------------

مقدماً على الميراث كغيرها من الحقوق المالية من الدين والزكاة والحجّ وغير ذلك. ولكن يجب الاقتصار على أقلّ الخصال قيمة إذا كانت مخيّرةً، وأقلّ أفراد المرتبة الواجبة عليه إذا كانت مرتّبةً إن لم يتبرع الوارث بالزائد ولم يكن هناك دين ولا محجور عليه.

وإن أوصى بها، فإمّا أن يعين قدراً أو خصلة أو يطلق. فإن أطلق فالحكم كما لو لم يوص. وإن عيّن قدراً أو خصلةٌ، فإن كان بقدر الدنيا أو عينها اقتصر عليها. وإن عيّن قدراً يزيد عن أدنى الخصال في المخيّرة وأفراد الواجب في المرتبة، فإما أن يبلغ أعلاها أو ما دونها أو لا يبلغ. فإن لم يبلغ خصلةٌ أُخرى لغا الزائد وأخرجت الدنيا وعاد الزائد ميراثاً إن لم يتبرّع الوارث بالإكمال. وإن بلغ خصلة أخرى أو فرداً آخر، فإن أجاز الوارث أخرج الموصى به وإلّا اعتبر قدر الأدنى من الأصل والزائد من الثلث؛ لأنّه غير واجب. فإن وسع الثلث المجموعه أخرج، وإلّا اقتصر على ما يخرج. ثمّ إن لم يبلغ ذلك الخارج خصلة رجع ميراثاً كما مرّ، وإن بلغ خصلة أو فرداً وجب كما لو بلغ المجموع. وكذا القول إن بلغ الأعلى.

وإن أوصى بالأعلى ابتداءً، فإن أجاز الوارث أو وفى الثلث بالزائد عن قيمة الأدنى فلا كلام. وإن قصر، فإما أن يحصل بالمجموع من الأصل والخارج من الثلث خصلةٌ وسطى أو لا، فإن كان الثاني أخرجت الدنيا لا غير، وإن كان الأوّل ففي وجوب إخراج الوسطى أو جواز الاقتصار على الدنيا وجهان من أنّ الوسطى ليست واجبة بالأصل ولا بالوصيّة فلا تجب، وقد سقط اعتبار العليا بقصور المال وعدم الإجازة فتجب الدنيا الواجبة بالأصل، ومن أنّ الواجب صرف المجموع من حيث نفوذ الوصيّة به وهو بعض الموصى به، فإذا لم يمكن إنفاذ مجموع ما أوصى به يجب المقدور؛ إذ لا يسقط الميسور بالمعسور؛ لعموم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(1). والأقوى الأوّل.

والفرق بين الوصيّة بالعليا وبقدر يسعها - حيث جزم بإخراج الميسور في الثاني دون

ص: 144


1- مسند أحمد، ج 3، ص 307، ح 10229؛ صحیح البخاري، ج 1، ص 2658، ح 6858: صحيح مسلم، ج 2، ص 975، ح 1337/412؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 3، ح 2؛ سنن النسائي، ج 5، ص 112، ح 2615 بتفاوت.

السابعة: • إذا انعقدت يمين العبد ثمّ حنث وهو رق ففرضه الصوم في الكفّارات مخيّرها ومرتّبها.

ولو كفّر بغيره من عتق أو كسوة أو إطعام، فإن كان بغير إذن المولى لم يجزئه، وإن أذن أجزأه. وقيل: لا يجزئه؛ لأنّه لا يملك بالتمليك.

والأوّل أصحّ. وكذا لو أعتق عنه المولى بإذنه.

-------------------------------------------------------------------

الأوّل - أنّ الموصى به على تقدير العليا أمر معين، فإذا فات لم يكن ما دونه موصى به، وإنّما وجب الأدنى بالأصل، بخلاف الوصيّة بقدر يسع العليا؛ لأنّ الوصيّة هنا بذلك القدر وبكلّ جزء منه، فإذا فات بعضه - لعدم خروجه من الثلث - يبقى الباقي، وهو صالح عوضاً عن جميع الخصال، بخلاف المعين؛ لأنّ الفرد الأوسط ليس هو الموصى به الأعلى وجزءاً منه.

قوله: «إذا انعقدت يمين العبد ثمّ حنث وهو رق» إلى آخره.

إذا وجب على المملوك كفّارة مخيّرة أو مرتّبة ففرضه الصوم؛ لأنّ التكفير بالإطعام والكسوة والعتق فرع الملك، وهو لا يملك حقيقةً على الأشهر. فإن كانت مرتبةً فهو عاجز عن العتق فينتقل إلى الصوم لذلك. وإن كانت مخيّرةً فالتخيير إنّما يكون بين أمرين أو أُمور يتمكن المكلّف منها، وهنا ليس كذلك.

هذا إذا لم يأذن له المولى أو نهاه. وإن أذن له في التكفير بالعتق أو الإطعام أو الكسوة ففي إجزائه قولان(1)، منشؤهما أنّه كفّر بما لا يجب عليه فلا يسقط عنه الواجب، سواء قلنا بملكه أم أحلناه، خصوصاً العتق؛ لأنّه لا عتق إلّا في ملك.

نعم، لو ملّكه مولاه المال وقلنا بصحته اتجهت ومن أنّ المانع من الإجزاء كان عدم القدرة فإذا أذن المولى حصلت، وجرى مجرى ما لو كفّر المتبرّع عن المعسر. وقد تقدّم البحث في ذلك في الكتابة(2).

ص: 145


1- القول بالإجزاء للعلامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 266، المسألة 94 والقول بعدمه للشيخ في المبسوط، ج 4. ص 603.
2- تقدّم في ج 8، ص 476.

الثامنة: • لا تنعقد يمين العبد بغير إذن المولى، ولا تلزمه الكفّارة وإن حنث، أذن له المولى في الحنث أو لم يأذن.

أما إذا أذن له في اليمين فقد انعقدت فلو حنث بإذنه فكفر بالصوم لم يكن للمولى منعه. ولو حنث من غير إذنه كان له منعه ولو لم يكن الصوم مضراً. وفيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لا تنعقد يمين العبد بغير إذن المولى» إلى آخره.

الصور أربع:

الأولى: أن يحلف بإذنه ويحنث بإذنه، فلا خلاف في وجوب الكفّارة بالصوم، لكن هل له منعه منه إلى أن ينعتق أو يتضيّق بظنّ الوفاة؟ وجهان، أجودهما العدم.

الثانية: حلف بغيره وحنث بغيره، فلا كفّارة قطعاً ؛ لفقد شرط الصحة وهو الإذن.

الثالثة: حلف بغير إذن وحنث به فإن قلنا: يمينه بدون إذنه باطلة فلا كفّارة، وإن قلنا بكونها موقوفة ففي استلزام الإذن في الحنث الإجازة وجهان، من ظهور دلالته عليه و احتمال الأمرين فيستصحّب أصالة البراءة، وهو الأجود وعليهما يتفرّع الصوم، فعلى الأوّل له الصوم بغير إذنه؛ لأنّ الحنث يستعقب الكفّارة، فالإذن فيه إذن في التكفير، كما أنّ الإذن في الإحرام إذن في بقية أفعال الحجّ. وعلى الثاني يتوقّف لزومها على عنقه إن جعلناه كاشفاً عن لزومه حين النذر، وإن جعلناه سبباً فلا كفّارة.

الرابعة : حلف بإذن وحنث بغيره. ففي صيامه بغير إذنه إشكال، منشؤه من أن سبب الوجوب مأذون فيه والحنث من لوازمه وتوابعه، والإذن في الشيء إذن في لوازمه أو مستلزم للإذن في لازمه وتابعه، وأنّ الحنث موجب للصوم (1) عليه، وليس للسيد منعه من واجب عليه، كما ليس له منعه من الصلاة، ومن أنّ الإذن في اليمين إذن في سبب الامتناع فهو إذن في الامتناع ونهي عن الحنث، فكان كباقي أقسام الصوم التي للسيد المنع منها لحقه. ولأنّ لزوم الكفّارة لا يلازم اليمين، بل اليمين مانعة عن الحنث، فالإذن فيها لا يكون

ص: 146


1- في «م، و»: «للقدوم» بدل «للصوم».

التاسعة: • إذا حنث بعد الحرّية كفّر كالحر. ولو حنث ثمّ أُعتق فالاعتبار بحال الأداء، فإن كان موسراً كفّر بالعتق أو الكسوة أو الإطعام، ولا ينتقل إلى الصوم إلّا مع العجز.

هذا في المرتّبة، وفي المخيّرة يكفّر بأيّ خصالها شاء.

-------------------------------------------------------------------

إذناً في التكفير. وفصّل ثالث، فجوّز له منعه من الصوم المضرّ دون غيره(1).

قوله: «إذا حنث بعد الحرّية كفر كالحر» إلى آخره.

لا إشكال في تكفيره كالحرّ على تقدير حنثه بعد الحرّية، سواء قلنا إنّ الاعتبار بحالة الأداء أم حالة الوجوب؛ لوقوعهما معاً حالة الحرّية.

أمّا لو حنث رقيقاً ثمّ أُعتق ولما يكفر، فهل يعتبر وقت الوجوب أم وقت الأداء؟ قولان(2). الأظهر عند الأصحّاب الثاني ؛ نظراً إلى أنّ خصال الكفّارة عبادات فيراعى فيها حالة الأداء، كما في الوضوء والتيمم، فإنّ النظر في القدرة على الاستعمال والعجز عنه إلى حالة الأداء، وكما في الصلاة بالنظر إلى القيام والعجز عنه، حتّى لو عجز عن القيام عند الوجوب وقدر عند الأداء صلى صلاة القادرين، ولو انعكس الفرض انعكس به الحكم.

ومن اعتبر حالة الوجوب - نظراً إلى أنّ الكفّارة نوع تطهير يختلف حاله بالرق والحرية - فينظر إلى حالة الوجوب، كالحد؛ فإنّه لو زنى وهو رقيق ثمّ أُعتق أو بكر ثمّ صار محصناً يقام عليه حدّ الأرقاء والأبكار.

وعلى الوجهين يتفرّع حكم العبد لو حنث ثمّ أعتق، فإن اعتبرنا حالة الأداء اعتبر حينئذٍ يساره، فيلزمه العتق في المرتبة، أو إعساره فيصوم، وإن اعتبرنا حالة الوجوب ففرضه الصوم على التقديرين؛ لأنّه حينئذٍ معسر. والمذهب هو الأوّل.

ص: 147


1- انظر المبسوط، ج 4، ص 604.
2- القائل بالوجوب وقت الأداء الشيخ في المبسوط. ج 4. ص 604 – 605؛ والقول الثاني لبعض العامّة، راجع الحاوي الكبير، ج،15، ص 340؛ ونقله عن بعض العامّة الشيخ في المبسوط، ج 4، ص 604.

ص: 148

كتاب النذر

شروط الناذر

والنظر في الناذر، والصيغة، ومتعلّق النذر ولواحقه.

أمّا الناذر فهو البالغ العاقل المسلم.

• فلا يصحّ من الصبي، ولا من المجنون، ولا من الكافر؛ لتعذّر نيّة القربة في حقّه واشتراطها في النذر، لكن لو نذر فأسلم استحبّ له الوفاء.

-------------------------------------------------------------------

كتاب النذر

هو - بفتح الذال في الماضي، وبكسرها وضمها في المضارع - لغة : الوعد بخير أو شرّ(1). وشرعاً: التزام قربة لم يتعين أو مطلقاً.

والأصل فيه قبل الإجماع آيات منها قوله تعالى: «وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ» (2)، وأخبار، منها: قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه»(3).

قوله: «فلا يصحّ من الصبي، ولا من المجنون، ولا من الكافر» إلى آخره.

ضابط الناذر أن يكون مكلفاً له أهلية العبادة؛ لأنّه من ضروبها؛ لاشتراطها بالقربة.

ص: 149


1- انظر تهذيب اللغة، ج 11، ص 17، «نذر».
2- الحجّ (22): 29.
3- أحمد، ج 7، ص 55، ح 23555؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 184، باب لا نذر في معصية اللّه؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 232، ح 3289؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 687، ح 2126 بتفاوت يسير.

• ويشترط في نذر المرأة بالتطوّعات إذن الزوج.

وكذا يتوقّف نذر المملوك على إذن المالك. فلو بادر لم ينعقد وإن تحرّر؛ لأنّه وقع فاسداً. وإن أجاز المالك ففي صحته تردّد، أشبهه اللزوم.

-------------------------------------------------------------------

فلا يصحّ نذر الصبيّ وإن كان مميّزاً، ولا المجنون مطلقاً إلّا وقت إفاقة ذوي الأدوار إذا وثق بصحة تمييزه؛ لأنّهما مسلوبا العبارة، واعتبار العبادة من حيث الشرع، وإن قبلها الطفل للتمرين.

وكذا لا يصحّ نذر الكافر؛ لأنّه ليس من أهل التقرب. لكن يستحبّ له إذا أسلم الوفاء بما نذره حال كفره؛ لما روي أن عمر قال لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، فقال له النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أوف بنذرك»(1). ولأنّه لا يحسن أن يترك بسبب الإسلام ما عزم عليه في الكفر من خصال الخير. ويكفي في دليل السنّة مثل ذلك.

قوله: «ويشترط في نذر المرأة بالتطوعات إذن الزوج» إلى آخره.

اشتراط إذن الزوج والمولى في نذر الزوجة والمملوك هو المشهور بين المتأخّرين. وألحق به العلّامة في بعض كتبه (2) والشهيد في الدروس الولد، فأوقف نذره على إذن الأب كاليمين(3). ولا نصّ على ذلك كلّه هنا، وإنّما ورد في اليمين كما عرفته سابقاً.

ووجه الإلحاق مشابهته له فى الالتزام للّه تعالى وفي كثير من الأحكام، ولتسميته يميناً في رواية الوشّاء عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال، قلت له: إن لي جارية كنت حلفت منها بيمين فقلت للّه عليّ أن لا أبيعها أبداً، ولي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف المؤنة، فقال: «فِ للّه بقولك له»(4). وقوله «حلفت» - مع أنّ الصيغة صيغة نذر - وإن كان من كلام

ص: 150


1- صحيح البخاري، ج 2، ص 714 - 715، ح 1927 : صحیح مسلم، ج 3، ص 1277 : ح 1656/27 ؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 242، ح 3325 بتفاوت.
2- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 90.
3- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 119 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1149؛ الاستبصار، ج 4، ص 46، ح 157.

• ويشترط فيه القصد فلا يصحّ من المكره ولا السكران ولا الغضبان الذي لا قصد له.

-------------------------------------------------------------------

السائل إلّا أنّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) أقرّه عليه، فكان كتلفّظه به.

وفيه نظر؛ لأنّهما معنيان مختلفان، واتّفاقهما في بعض الأحكام لا يقتضي تساويهما في هذا الحكم. وإطلاق اليمين عليه في الرواية مجاز؛ لوجود خواصه فيه من عدم فهمه من إطلاق اللفظ، وجواز سلبه عنه، وغيرهما. ويجوز للإمام إقراره على المجاز، خصوصاً مع تصريحه في السؤال بكونه نذراً أيضاً حيث قال «فقلت: للّه عليّ» إلى آخره. وعموم الأدلّة الدالة على وجوب الوفاء بالنذر من الكتاب(1) والسنّة لا يتخصص في موضع النزاع بمثل هذه التمحّلات.

والمصنّف (رحمه اللّه) الحقّ نذر الزوجة والمملوك باليمين، ولم يذكر الولد مع مشاركته لهما في الحكم، خصوصاً للزوجة. وكذلك فعل العلّامة في القواعد والتحرير(2)، وكذلك الشهيد في اللمعة (3). وفي الإرشاد(4) والدروس(5) ألحقاه بهما، ولا وجه لإفراده عن الزوجة. أمّا المملوك فيمكن اختصاصه بذلك من حيث الحجر عليه، وانتفاء أهلية ذمّته لالتزام شيء بغير إذن المولى.

ثمّ على القول بتوقّف نذر الثلاثة أو بعضهم على الإذن فالكلام فيما لو بادر قبل الإذن هل يقع باطلاً أو يصحّ مع الإجازة كما سلف؟ وكذا لو زالت الولاية قبل إبطاله.

قوله: «ويشترط فيه القصد» إلى آخره.

لا فرق في الإكراه بين الرافع للقصد وغيره كما في نظائره؛ لأنّ المعتبر قصد الصيغة

ص: 151


1- الحجّ (22): 29.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 284: تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 346، الرقم 5902.
3- اللمعة الدمشقيّة، ص 116 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).
4- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 90.
5- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 119 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

صيغة النذر

إشارة:

• وأمّا الصيغة، فهي إما برّ، أو زجر، أو تبرّع.

فالبرّ قد يكون شكراً للنعمة، كقوله: «إن أعطيت مالاً أو ولداً أو قدم المسافر فلله عليّ كذا». وقد يكون دفعاً لبلية، كقوله: «إن برئ المريض أو تخطّاني المكروه فللّه علىّ كذا».

والزجر أن يقول : «إن فعلت كذا فلله عليّ كذا » أو « إن لم أفعل كذا فللّه علىّ كذا».

والتبرّع أن يقول: «لله على كذا».

ولا ريب في انعقاد النذر بالأوليين. وفي الثالثة خلاف، والانعقاد أصحّ.

-------------------------------------------------------------------

الخاصّة وإن بقي القصد إلى غيرها، وهو منتف في المكره عليها. وأما السكران والغضبان على وجه يرتفع قصده فأصل القصد منتف عنهما.

ويشترط أيضاً انتفاء الحجر عليه في المال إن كان المنذور عبادةً مالية. ولو كان بدنيّةً صح نذر السفيه والمفلّس. ولو التزم المفلس مالاً في الذمّة من غير تخصيصه بما وقع عليه الحجر صح أيضاً، ويؤدّيه بعد البراءة من حقوق الغرماء.

ولو عيّنه في ماله كان كما لو أعتق أو وهب في مراعاته بالفك. ومثله ما لو نذر عتق العبد المرهون. ويحتمل إلغاؤه كما لو نذر عتق عبد غير مملوك له.

قوله: «وأمّا الصيغة، فهي إما بر، أو زجر، أو تبرع - إلى قوله - والانعقاد أصحّ».

النذر ينقسم إلى نذر برّ وطاعة، وإلى نذر زجر ولجاج.

ونذر البر نوعان: نذر مجازاة، وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بليّة. ونذر تبرّع، أي التزام شيء ابتداء من غير أن يعلّقه على شيء.

وكلّ واحد من المزجور عنه والمجازي عليه إما أن يكون طاعةً، أو معصيةً، أو مباحاً. ثمّ إمّا أن يكون من فعله، أو فعل غيره، أو خارجاً عنهما؛ لكونه من فعل اللّه تعالى كشفاء المريض. ومتعلّقه إمّا فعل، أو ترك فهذه صور المسألة.

ص: 152

-------------------------------------------------------------------

والجزاء على الطاعة كقوله: «إن صلّيت فلله عليّ صوم يوم» مثلاً، أي إن وفّقني اللّه للصلاة صمت شكراً، والزجر عنها كذلك إلّا أنّه قصد به الزجر عنها. وعلى المعصية كقوله: «إن شربت الخمر فلله عليّ كذا» زجراً لنفسه عنه أو شكراً عليها، والمائز القصد كذلك، فالأوّل منهما منعقد دون الثاني.

وفي جانب النفي كقوله: «إن لم أصلّ فللّه عليّ كذا» و «إن لم أشرب الخمر فللّه عليّ كذا». فإن قصد في الأوّل الزجر وفي الثاني الشكر على توفيقه له انعقد، دون العكس.

وفي المباح يتصوّر الأمران نفياً وإثباتاً، كقوله: «إن أكلت أو لم آكل فللّه علي كذا» شكراً على حصوله، أو زجراً على كسر الشهوة.

ويتصوّر الأقسام كلّها في فعل الغير، كقوله: «إن صلى فلان أو قدم من سفره أو أعطاني». إلى غير ذلك من أقسامه.

وضابط المنعقد من ذلك كلّه ما كان طاعة وقصد بالجزاء الشكر، أو تركها وقصد الزجر. وبالعكس في المعصية. وفيما خرج عن فعله يتصوّر الشكر دون الزجر. وفي المباح الراجح ديناً يتصوّر الشكر، وفي المرجوح الزجر، وعكسه كالطاعة. وفي المتساوي الطرفين يتصوّر الأمران. ومثله: «إن رأيت فلاناً فلله عليّ كذا» فإن أراد إن رزقني اللّه رؤيته، فهو نذر برّ، وإن أراد كراهة رؤيته فهو نذر لجاج.

والنوع الثاني من نذر البر المبتدأ بغير شرط، كقوله: «لله عليّ أن أصوم» ونحو ذلك. وفي انعقاده قولان:

أحدهما : نعم، وهو اختيار الأكثر، بل ادعى عليه الشيخ الإجماع (1)؛ لعموم الأدلّة، كقوله تعالى: «إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا»(2)، فأطلق نذرها ولم يذكر عليه شرطاً.

ص: 153


1- الخلاف، ج 6، ص 191 - 192، المسألة 1.
2- آل عمران (3): 35.

اشتراط نيّة القربة في النذر

• ويشترط مع الصيغ نيّة القربة. فلو قصد منع نفسه بالنذر لا للّه لم ينعقد.

-------------------------------------------------------------------

وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من نذر أن يطيع اللّه فليطعه»(1)، وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية أبي الصبّاح الكناني «ليس من شيء هو للّه طاعة يجعله الرجل عليه إلّا ينبغي له أن يفي به»(2). الحديث. وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة بعمومها أو إطلاقها على ذلك(3).

والثاني: العدم، ذهب إليه المرتضى مدعياً عليه الإجماع(4)، ولما روي عن ثعلب أن النذر عند العرب وعد بشرط(5)، والشرع نزل بلسانهم.

وأجيب بمنع الإجماع، وقد عورض بمثله. وقول ثعلب معارض بما نقل عنهم أنّه وعد بغير شرط أيضاً(6).

قوله: «ويشترط مع الصيغ نيّة القربة. فلو قصد منع نفسه بالنذر لا للّه لم ينعقد».

لا خلاف بين أصحابنا في اشتراط نيّة القربة في النذر، وأخبارهم به كثيرة، منها صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا قال الرجل: علي المشي إلى بيت اللّه وهو محرم بحجّة، أو عليّ هدي كذا وكذا، فليس بشيء حتّى يقول: للّه عليّ المشي إلى بيته، أو يقول: للّه علىّ هدي كذا وكذا إن لم أفعل كذا وكذا»(7).

وصحيحة أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل قال: علي نذر قال: «ليس النذر بشيء حتّى يسمّى شيئاً للّه صياماً أو صدقة أو هدياً أو حجّاً»(8).

ص: 154


1- تقدّم تخريجه في ص 149، الهامش 3.
2- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 312، ح 1159.
3- الكافي، ج 7، ص 456، باب النذور، ح 9، وص 458، ح 18؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 306، ح 1136، وص 307، ح 1140، وص 314، ح 1165: الاستبصار، ج 4، ص 54، ح 188، وص 55، ح 191 و 193.
4- الانتصار، ص 362، المسألة 203.
5- حكاه عنه الشيخ في الخلاف، ج 7، ص 191 - 192، المسألة 1؛ وابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 393.
6- غاية المراد، ج 3، ص 311 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
7- الكافي، ج 7، ص 454، باب النذور، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303، ح 1124.
8- الكافي، ج 7، ص 455، باب النذور، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303، ح 1125.

• ولابدّ أن يكون الشرط في النذر سائغاً إن قصد الشكر، والجزاء طاعةً.

-------------------------------------------------------------------

وموثّقة إسحاق بن عمار قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّي جعلت على نفسي شكراً للّه ركعتين أُصليهما في السفر والحضر، أفأصلّيهما في السفر بالنهار؟ فقال: «نعم» ثم قال: «إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه» قلت: إنّي لم أجعلهما للّه عليّ، إنّما جعلت ذلك على نفسي أُصليهما شكراً للّه، ولم أوجبهما للّه على نفسي فأدعهما إذا شئت، قال: «نعم»(1).

ومقتضى هذه الأخبار أنّ المعتبر من نيّة القربة جعل الفعل للّه وإن لم يجعله غاية له. وربما اعتبر بعضهم جعل القربة غايةً، بأن يقول بعد الصيغة: «لله» أو «قربةً إلى اللّه» ونحو ذلك، كنظائره من العبادات والأصحّ الأوّل؛ لحصول الغرض على التقديرين، وعموم النصوص.

والمراد بنيّة القربة أن يقصد بقوله «للّه عليّ كذا معناه، بمعنى أنه لا يكفى قوله «اللّه» من دون أن يقصد به معناه، وإلّا فالقربة حاصلة من جعله اللّه، ولا يشترط معه أمر آخر كما قرّرناه. وكذا لا يكفي الاقتصار على نيّة القربة من غير أن يتلفظ بقوله «اللّه» كما دلّت عليه الأخبار السابقة واستفيد من أمثلة المصنّف.

قوله: «ولابدّ أن يكون الشرط في النذر سائغاً إن قصد الشكر، والجزاء طاعةً».

المراد بالسائغ الجائز بالمعنى الأعمّ؛ ليشمل المباح والواجب والمندوب، كقوله: «إن صلّيت الفرض» أو «صمت شهر رمضان» أو «حججت» أو «صليت النافلة» ونحو ذلك. ويرد عليه حينئذٍ ما لو كان الشرط مكروهاً أو مباحاً مرجوحاً في الدنيا، فإن جعل

الجزاء شكراً على فعله لا يصح. ولو أراد بالسائغ الجائز بالمعنى الأخص - وهو المباح - خرج منه ما إذا جعله مندوباً أو واجباً. ومع ذلك يخرج ما لو كان من فعل اللّه تعالى، كقوله: «إن رزقني اللّه ولداً» أو

ص: 155


1- الكافي، ج 7، ص 455، باب النذور، 5: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303 - 304، ح 1128.

متعلّق النذر وشرائطه

إشارة:

• ولا ينعقد النذر بالطلاق ولا بالعتاق.

• وأما متعلّق النذر فضابطه أن يكون طاعة مقدوراً للناذر. فهو إذن مختصّ بالعبادات، كالحج، والصوم والصلاة والهدي، والصدقة، والعتق.

-------------------------------------------------------------------

«عافاني من مرضي» ونحو ذلك؛ فإنّه لا يوصف بالسائغ.

والأولى جعل المعتبر منه كونه صالحاً لتعلّق الشكر به إن جعل الجزاء شكراً، وكونه مرجوحاً - سواء بلغ حدّ المنع أم لا - إن قصد الزجر، فيشمل حينئذٍ جميع أفراده. وأمّا الجزاء فيشترط كونه طاعة مطلقاً. وسيأتي(1).

قوله: «ولا ينعقد النذر بالطلاق ولا بالعتاق».

كقوله: «زوجتي طالق إن فعلت كذا» و «عبدي حرّ» ويسمّى نذر الغضب واللجاج. وهو غير منعقد عندنا، خلافاً لبعض العامّة(2).

قوله: «وأمّا متعلّق النذر فضابطه أن يكون طاعةً مقدوراً للناذر» إلى آخره.

متعلّق النذر هو الجزاء إن شرطنا في صحة النذر كونه مشروطاً، وإلّا فهو أعمّ منه مطلقاً؛ لأنّ متعلّق النذر المبتدأ بغير شرط لا يسمّى جزاء؛ ولذلك أعاد ذكره بعد أن شرط في الجزاء کونه طاعة والجزاء من جملة متعلّق النذر أو هو عينه.

والمراد بالطاعة ما يشتمل على القربة من العبادات المعهودة، فلو كان مباحاً أو مرجوحاً لم ينعقد؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة أبي الصباح الكناني: «ليس النذر بشيء حتّى يسمّي شيئاً للّه صياماً أو صدقة أو هدياً أو حجّاً»(3). هذا هو المشهور بين الأصحّاب.

وقيل: يجوز كونه مباحاً متساوي الطرفين ديناً ودنياً(4). واستقربه في الدروس؛ مستدلّاً

ص: 156


1- سيأتي عن قريب.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 466: بدائع الصنائع، ج 5، ص 132 - 133؛ روضة الطالبين، ج 2، ص 560 - 562.
3- تقدّم تخريجه في ص 154، الهامش 8.
4- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 91.

-------------------------------------------------------------------

برواية الحسن بن عليّ عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جارية حلف منها بيمين فقال: للّه عليّ أن لا أبيعها: قال: «فِ اللّه بنذرك»(1). والبيع مباح إذا لم يقترن بعوارض مرجّحة، وإطلاقه أعمّ من وجودها. ولا إشكال في انعقاده لو قصد به معنى راجحاً، كما لو قصد بنذر الأكل التقوي على العبادة أو على عمل دنيوي، أو بتركه منع النفس عن الشهوات، ونحو ذلك.

وربما أشكل على بعضهم تفريعاً على عدم انعقاد نذر المباح ما لو نذر الصدقة بمال مخصوص، فإنه يتعين اتّفاقاً، مع أنّ المستحبّ هو الصدقة المطلقة أمّا خصوصية المال فمباحة، فكما لا ينعقد لو خلصت (2) الإباحة فكذا إذا تضمّنها النذر.

ويقوّي الإشكال حكم كثير من الفقهاء بجواز فعل الصلاة المنذورة في مسجد معيّن فيما هو أزيد مزيّةٌ منه كالحرام والأقصى، مع أنّ الصلاة في المسجد سنة وطاعة، فإذا جازت مخالفتها لطلب الأفضل ورد مثله في الصدقة بالمال المعين.

وجوابه: أنّ الصدقة المطلقة وإن كانت راجحةً إلّا أنّ المنذور ليس هو المطلقة، وإنّما هو الصدقة (3) بالمال المعين، وهو أيضاً أمر راجح متشخّص(4) بالمال المخصوص، فالطاعة المنذورة إنّما تعلّقت بالصدقة بذلك المال لا مطلقاً، فكيف تجزئ المطلقة عنه؟ ولأن الطاعة المطلقة لا وجود لها إلّا في ضمن المعين من المال والزمان والمكان والفاعل وغيرها من المشخصات، فإذا تعلّق النذر بهذا المشخّص انحصرت الطاعة فيه كما ينحصر عند فعلها في متعلّقاتها، فلا يجزئ غيرها.

وبهذا يظهر ضعف القول بعدم تعين المكان المنذور للعبادة وإن كان غيره أرجح منه؛ لأنّ ذلك الراجح لم يتعلّق به النذر، كما أنّه لو تعلّق بعبادة مخصوصة لا يجزئ غيرها ممّا هو

ص: 157


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 120 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ح 10؛ وللرواية راجع تهذيب الأحكام ج 8، ص 310، ح 1149: والاستبصار، ج 4، ص 46. ح 157.
2- في بعض النسخ: حصلت» بدل «خلصت».
3- في بعض النسخ زيادة: «المخصوصة».
4- في الطبعة الحجريّة: «يتشخص» بدل «متشخص».

مسائل الحجّ

لو نذر الحجّ ماشياً

أمّا الحجّ فنقول: • لو نذره ماشياً لزم ويتعين من بلد النذر. وقيل: من الميقات.

-------------------------------------------------------------------

أفضل منها؛ ولأنّ فتح هذا الباب يؤدي إلى عدم تعيّن شيء بالنذر، حتّى صوم يوم معيّن والحجّ في سنة معيّنة، وغير ذلك، فإنّ الصوم والحجّ في أنفسهما طاعة وتخصيصهما بيوم أو سنة مخصوصين من قبيل(1) المباح، وذلك باطل اتّفاقاً.

والمراد ب«المقدور للناذر» مضافاً إلى كونه طاعة ما يمكنه فعله عادةً وإن لم يكن مقدوراً له بالفعل، ومن ثمّ يتوقع ناذر الحجّ ماشياً المكنة مع الإطلاق، ويقوم ناذر الصدقة بما يملك ماله ويتصدق به على التدريج، إلى غير ذلك من أفراد النذر المعجوز عنها حال النذر المحكوم فيها بتوقع القدرة، حيث لا تكون معيّنة بوقت أو معيّنة بوقت موسع بالنسبة إليه.

قوله: «لو نذره ماشياً لزم ويتعيّن من بلد النذر. وقيل: من الميقات».

لاخفاء في أنّ الحجّ والعمرة يلزمان بالنذر؛ لأنّهما من أكمل الطاعات وأشرف العبادات. وإذا نذر أن يحجّ أو يعتمر ماشياً فهل يلزمه المشي أم له أن يحج ويعتمر راكباً؟ فيه وجهان، مبنيان على أنّ الحجّ ماشياً أفضل مطلقاً أم الركوب أفضل ولو على بعض الوجوه. فعلى الأوّل يلزم نذر المشي؛ لأنّه الفرد الراجح. وبهذا قطع المصنّف (رحمه اللّه) مع أنّه اختار في الحجّ أنّ المشي أفضل لمن لم يضعفه المشي عن العبادة، وإلّا فالركوب أفضل(2).

ويمكن على هذا أن يقال أيضاً بتعين المنذور وإن كان مرجوحاً؛ لما قررناه سابقاً من أنّ المنذور هو الحجّ على الصفة المخصوصة (3): ولا ريب في كونه طاعة راجحة في الجملة وإن كان غيرها أرجح منها.

وقيل: لا يلزمه المشي إلّا مع رجحانه على الركوب (4)؛ لأنّه حينئذٍ يكون قد التزم في

ص: 158


1- في بعض النسخ: «قبل» بدل «قبيل».
2- راجع ج 2 ص 48.
3- سبق في ج 2، ص 57 وما بعدها.
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 291.

-------------------------------------------------------------------

العبادة الملتزمة(1) زيادة فضيلة، فصار كما إذا نذر الصوم متتابعاً، ومع عدم رجحانه إمّا مطلقاً أو على بعض الوجوه لا ينعقد النذر؛ لأنّه وصف مرجوح فلا يتعلّق به النذر. وقد تقدّم البحث فيه.

إذا تقرّر ذلك فيتفرّع على لزوم المشي مسائل:

أحدها في بداية المشي، فإن صرّح بالتزام المشي من دويرة أهله إلى الفراغ من الحجّ أو بتخصيصه بوجه آخر فلا بحث. وإن أطلق ففي وجوبه من دويرة أهله أو من الميقات قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - الأوّل(2)؛ لدلالة العرف عليه، فإنّ من قال «حججت ماشياً، أو حجّ فلان ماشياً» لا يفهم منه عرفاً إلّا مشيه في جميع الطريق والعرف محكّم في مثل ذلك. ولأنّ الحجّ هو القصد إلى مكة ومشاعرها إلى آخره، وهو أنسب بالمعنى اللغوي؛ لأصالة عدم النقل، ومع تسليمه فالنقل لمناسبة أولى منه بدونها، والقصد منه متحقّق من البلد.

والثاني: أنّه من الميقات (3)؛ لأنّ قوله «ماشياً» وقع حالاً من الحجّ، والعامل فيه «أحجّ» فكان وصفاً فيه، والحجّ اسم لمجموع المناسك المخصوصة؛ لأنّ ذلك هو المفهوم منه (4) شرعاً، فلا يجب الوصف إلّا حالة الحجّ والاشتغال بأفعاله؛ لأنّ ذلك هو مقتضى الوصف، كما إذا قال: «ضربت زيداً راكباً فإنّه لا يفهم منه إلّا ضربه حال الركوب، لا قبله ولا بعده.

ص: 159


1- في «ع»: «الملزمة» بدل «الملتزمة».
2- هو أيضاً مختار العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 353، الرقم 5917؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 233 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
3- لم نعثر على القائل به نعم حكاه العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 291 بقوله: «وقيل: من الميقات»؛ وحكاه أيضاً فخر المحقّقين عن قوم في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 66: ولمزيد الاطّلاع راجع غاية المراد، ج 3، ص 315 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3)؛ وكشف اللثام، ج 9، ص 98.
4- في بعض النسخ: «هو مفهومه» بدل «هو المفهوم منه».

-------------------------------------------------------------------

والأظهر هو الأوّل. وعليه، فهل المعتبر بلده أو بلد النذر؟ وجهان، من أن الالتزام وقع من بلد الناذر فكان ذلك كالاستطاعة من بلده، ومن أنّ المتبادر عرفاً من الحجّ ماشياً كونه من بلده.

وقيل: يعتبر أقرب البلدين إلى الميقات(1)، وهو حسن إن لم يدلّ العرف على خلافه. وموضع الإشكال ما إذا لم يقصد شيئاً بخصوصه.

وثانيها (2) في نهايته. وفيه قولان:

أحدهما - وهو المشهور - أنه طواف النساء؛ لأنّ به يحصل كمال التحلّل ؛ لأنّه في أعمال الحجّ ما بقيت عليه علقة الإحرام، ثمّ له الركوب وإن بقي عليه الرمي في أيّام منى؛ لأنّها خارجة من الحجّ خروج التسليم الثاني من الصلاة.

والثاني: إلى تمام الأفعال التي آخرها الرمي وإن وقع بعد التحلّل (3)؛ لأنّ الحجّ اسم المجموع المناسك وهي(4) من جملتها على القول بوجوبها؛ ولما تقدّم من أن المنذور الحجّ في حالة المشي، والمركب لا يتم إلّا بجميع أجزائه(5).

ويؤيّده صحيحة إسماعيل بن همام عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الذي عليه المشي في الحجّ إذا رمي الجمار زار البيت راكباً، وليس عليه شيء»(6). وظاهرها أنّ المراد رمي جميع الجمار، وهو لا يحصل إلّا بعد التحلل والعود إلى منى؛ لأنّ زيارة البيت لطواف الحجّ لا يكون إلّا بعد رمي جمرة العقبة خاصّة.

ص: 160


1- لم نعثر عليه، وحكاه أيضاً في كشف اللثام، ج 9، ص 98 بقوله: وقيل: من أقرب البلدين... .
2- أي الثاني من المسائل.
3- قوّاه الشارح بعيد ذلك وقال: «والثاني لا يخلو من قوّة»، وفي مدارك الأحكام، ج 7، ص 103: «انتهاؤه بآخر أفعاله وهو رمي الجمار».
4- في الطبعة الحجريّة: «وهو» بدل «وهي».
5- تقدّم في ج 2، ص 57 - 58.
6- الكافي، ج 4، ص 457، باب الحجّ ماشياً وانقطاع مشي الماشي، ح7.

• ولو حجّ راكباً مع القدرة أعاد.

-------------------------------------------------------------------

هذا إذا أريد بالجمار موضع الرمي، وإن أريد بها الحصى المرميّ بها فقد وقعت جمعاً معرفاً فيفيد العموم أيضاً، فلا يصدق إلّا بتمام الرمي، وتحمل حينئذٍ زيارة البيت على طواف الوداع ونحوه. ولو حمل على أنّ المراد بزيارة البيت طواف الحجّ - بناء على أنه المعروف منه شرعاً واصطلاحاً - كان دالاً على الاكتفاء بالتحلّل الأوّل في سقوط المشي. وهو - مع كونه خلاف الظاهر من رمي الجمار - مخالف للقولين معاً. نعم، هو قول لبعض الشافعية(1). والأوّل هو الأصحّ عندهم (2) أيضاً. والثاني لا يخلو من قوّة.

وثالثها: لو فاته الحجّ لزمه القضاء ماشياً. ثمّ من المعلوم أن من فاته الحجّ يحتاج إلى لقاء البيت ليتحلّل بأعمال العمرة، فهل يلزمه المشي في تلك الأعمّال؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنّ هذه الأعمّال لزمته بالإحرام ماشياً، ومبنى الحجّ على إتمام ما وقع الشروع فيه بصفاته.

والثاني: لا؛ لأنّه خرج بالفوات عن أن يكون حجة المنذور، ولذلك وجب القضاء، فإذا خرج عن أن يكون منذوراً وجب أن لا يلزم فيه المشي. وهذا أظهر.

ولو فسد الحجّ بعد الشروع فيه فهل يجب المشي في المضي في الفاسد؟ الوجهان.

قوله: «ولو حجّ راكباً مع القدرة أعاد».

إذا نذر الحجّ ماشياً وقلنا بانعقاده فحج راكباً مع قدرته على المشي، فقد أطلق المصنّف وجماعة (3) وجوب الإعادة. وهو شامل بإطلاقه لما لو كان معيّنا بسنة مخصوصة ومطلقاً. ووجهه أنّه قدقد التزم العبادة على صفة مخصوصة، ولم يأت بها على تلك الصفة مع القدرة، فما أتى به من الحجّ لم يقع عن نذره؛ لأنّ المنذور الحجّ ماشياً ولم يفعله.

ص: 161


1- في :«م»: «العامّة» بدل «الشافعية». انظر الوجيز، ج 2، ص 234.
2- مختصّر المزني ضمن الأمّ، ج 9، ص 313.
3- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 1، ص 409: وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 354، الرقم 5918: والشهيد في اللمعة الدمشقيّة، ص 77 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).

• ولو ركب بعضاً قضى الحجّ ومشى ما ركب. وقيل: إن كان النذر مطلقاً أعاد ماشياً، وإن كان معيّنا بسنة لزمه كفّارة خلف النذر. والأوّل مرويّ.

-------------------------------------------------------------------

وربما علّل بأن أصل الحجّ وقع عنه إلّا أنه بقي المشي واجباً عليه، ولا يمكن تداركه مفرداً فالزم بحجة أُخرى ليتدارك فيها المشي؛ إذ لا يشرع المشي عبادة برأسه.

وقيل: إن كان معيّنا وجب قضاؤه بالصفة والكفّارة، وإن أطلق وجب إعادته ماشياً(1). أمّا الأوّل فللإخلال بالمنذور في وقته، وهو عبادة تقضى بأصل الشرع، أي تتدارك حيث لا تقع الأولى على وجهها، فكذا مع وجوبها بالعارض؛ لاشتراكهما في معنى الوجوب، وتجب الكفّارة للإخلال. وأمّا الثاني؛ فلأنّه لم يأت بالمنذور على وصفه والوقت غير معين، فالتدارك ممكن، فكأنّه لم يفعله أصلاً. وهذا حسن.

ومال المصنّف في المعتبر إلى صحته مع التعيين وإن وجبت الكفّارة(2)، من حيث إنّ المنذور في قوة شيئين: المشي والحج، فإذا أتى بأحدهما خاصّة برئت ذمّته منه وبقي الآخر، والحجّ هنا مأتي به حقيقةً، وإنّما المتروك المشي وهو ليس جزء من الحجّ ولا شرطاً فيه، وإنّما هو واجب فيه خارج عنه، ولا طريق إلى قضائه مجرّداً؛ لأنّه لم يتعبد به كذلك، فقد تحقّقت المخالفة للنذر في الجملة فتلزم الكفّارة لأجلها. وهذا يتوجه مع نذره الحجّ والمشي من غير أن يتقيّد أحدهما بالآخر في قصده. وكيف كان فالأظهر التفصيل.

قوله: «ولو ركب بعضاً قضى الحجّ ومشى ما ركب» إلى آخره.

الكلام فيما لو ركب البعض كما لو ركب الجميع لاشتراكهما في الإخلال بالصفة ولكن تزيد هذه أنّ جماعة من الأصحّاب (3) منهم الشيخان(4)، ذهبوا إلى أنّه مع الإعادة لا يجب عليه

ص: 162


1- انظر مختلف الشيعة، ج 8، ص 213، المسألة 48.
2- المعتبر، ج 2، ص 764.
3- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 411؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 484: ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 423.
4- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 565 والشيخ الطوسي في النهاية، ص 565 - 566؛ والخلاف، ج 6، ص 193، المسألة 2.

• ولو عجز الناذر عن المشي حجّ راكباً. وهل يجب عليه سياق بدنة؟ قيل: نعم، وقيل: لا يجب بل يستحب، وهو الأشبه.

-------------------------------------------------------------------

المشي في الجميع بل في موضع الركوب ليجتمع مع الحجتين حجة ملفقة ماشياً. وذكروا أنّ الحكم مختصّ بالمطلقة، وحكموا في المعيّنة بالصحّة ووجوب الكفّارة كما ذكرناه سابقاً. وذكر المصنّف (رحمه اللّه) وغيره(1) أنّ التلفيق مروي.

والقول الذي حكاه أخيراً لابن إدريس (2) وعليه المتأخرون. وهو الأظهر. ولكن أطلق فى المعيّنة وجوب الكفّارة، فيحتمل أن يكون لفوات الصفة مع صحّة الحجّ كما حكيناه عن المعتبر(3)، ويحتمل كونه مع إعادته كما صرّح به جماعة(4).

ويؤيّد الأوّل - مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً - أن الإخلال بالمنذور عمداً يوجب الحنث وانحلال النذر كاليمين فلا يجب حينئذٍ القضاء؛ لفوات وقت المعين. وإلحاق المؤقت بالنذر على المؤقت بأصل الشرع قياس.

قوله: «ولو عجز الناذر عن المشي حجّ راكباً» إلى آخره.

إذا عجز ناذر المشي عنه فحج راكباً وقع حجه عن النذر. وهل يجب عليه جبر الفائت؟ فيه أقوال:

أحدها: عدم وجوبه، ذهب إليه المصنّف (رحمه اللّه) وابن الجنيد (5) وأكثر المتأخّرين؛ للأصل، وسقوط وجوب المشي بالعجز عنه فلا يجب بدله، كما لو نذر أن يصلّي قائماً فعجز

ص: 163


1- غاية المراد، ج 3، ص 316 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3) ولم نعثر على الرواية؛ وللاطلاع راجع جواهر الكلام. ج 17، ص 352 وما بعدها.
2- السرائر، ج 3، ص 61 - 62، ولكن لم يذكر لزوم كفّارة خلف النذر.
3- في الصفحة السالفة.
4- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 291؛ وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 354، الرقم 5917؛ وحكاه ولده عن كثير من الأصحّاب في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 67 - 68؛ والشهيد في غاية المراد، ج 3، ص 315 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 212، المسألة 48.

-------------------------------------------------------------------

فإنه يصلّي قاعداً بغير جبر. ولما روي أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر رجلاً نذر أن يمشي في حجّ أن يركب وقال: «إن اللّه غني عن تعذيب هذا نفسه»(1) ولم يأمره بسياق.

ولصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حيث سأله عن مثله فأجابه بذبح بقرة فقال: أشيء واجب؟ قال: «لا، من جعل اللّه شيئاً فبلغ جهده فليس عليه شيء»(2).

والثاني: أنّه يسوق بدنة وجوباً ذهب إليه الشيخ في النهاية والخلاف (3)؛ لما روي أنّ أُخت عقبة بن عامر نذرت أن تحجّ ماشية فسئل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) - وقيل: إنها لا تطيق ذلك (4) - فقال: «لتركب ولتهد بدنةً»(5).

وصحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «أيّما رجل نذر نذراً أن يمشي إلى بيت اللّه ثمّ عجز عن أن يمشي فليركب وليسق بدنة إذا عرف اللّه منه الجهد»(6).

والفرق بين الحجّ والصلاة أن الصلاة لا مدخل للجبر فيها بالمال، بخلاف الحجّ. وجماعة المتأخّرين حملوا الجبر المذكور على الاستحباب جمعاً بينه وبين الخبر السابق. وهو حسن.

والثالث: أنّه إن كان مطلقاً توقع المكنة، وإن كان معيّنا سقط الحجّ أصلاً؛ للعجز عن المنذور، فإنّه الحجّ ماشياً لا الحجّ مطلقاً، فيسقط لاستحالة التكليف بما لا يطاق. وهو

ص: 164


1- مسند أحمد، ج 4، ص 28، ح 12478؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1263 - 1264، ح 1642/9؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 235، ح 3301؛ الجامع الصحيح، ج 4، ص 111، ح 1537 بتفاوت.
2- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 313، ح 1163؛ الاستبصار، ج 4، ص 49 - 50، ح 170، وفيهما عن عنبسة بن مصعب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
3- النهاية، ص 205؛ الخلاف، ج 1، ص 193، المسألة 2، وفيه - بعد الحكم بعدم لزوم شيء -: «وقد روي أنّ عليه دماً».
4- سنن أبي داود، ج 3، ص 235، ح 3303.
5- مسند أحمد، ج 1، ص 418، ح 2278 ؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 183 - 184، باب في كفّارة النذر ؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 234، ح 3396، وص 235، ح 3303.
6- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 315، ح 1171؛ الاستبصار، ج 4، ص 49، ح 169.
لو نذر أن يحج راكباً فمشى

• ويحنث لو نذر أن يحجّ راكباً فمشى.

-------------------------------------------------------------------

اختيار ابن إدريس(1)، والعلّامة في حجّ القواعد (2). واختار في نذرها سقوط الوصف خاصّة(3). وهو أقوى؛ لما مرّ، ولصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل جعل عليه مشياً إلى بيت اللّه فلم يستطع، قال: «يحجّ راكباً»(4).

واعلم أنّ المصنّف وجماعة أطلقوا الحكم بالحجّ راكباً مع السياق وعدمه من غير فرق بين المعين والمطلق(5). ويظهر من الشهيد في الشرح أنّ مرادهم الإطلاق؛ لأنّه ذكر التفصيل قولاً لا بن إدريس(6)، وهو أنّ النذر إن كان معيّنا لسنة حجّ راكباً؛ لتعذّر الصفة ويبقى الكلام في الجبر وجوباً أو استحباباً أو عدمه، وإن كان مطلقاً توقع المكنة إلى أن يضيق وقته لظنّ استمرار العجز، فيكون الحكم كذلك، وبه صرّح العلّامة في كتبه(7). وهو حسن.

قوله: «ويحنث لو نذر أن يحج راكباً فمشى».

إذا نذر الحجّ راكباً، فإن جعلناه أفضل من المشي مطلقاً أو في حقّ الناذر فلا إشكال في انعقاده؛ لأنّه حينئذٍ عبادة راجحة وطاعة مقصودة، فإذا التزمها بالنذر لزمت كما لو نذره ماشياً على القول بأفضليّته.

وإن جعلنا المشي أفضل مطلقاً أو في حقّ الناذر ففي انعقاد نذر الركوب وجهان:

أحدهما:عدم الانعقاد؛ لأنّ الركوب حينئذٍ مرجوح فلا يكون طاعةً فلا ينعقد الوصف،

ص: 165


1- السرائر، ج 3، ص 61 - 62.
2- قواعد الأحكام، ج 1، ص 409.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 291.
4- الكافي، ج 7، ص 458، باب النذور، ح 20؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 304، ح 1131؛ الاستبصار، ج 4، ص 50، ح 173.
5- المقنعة، ص 565 : النهاية، ص 205 ؛ المهذّب، ج 2، ص 411 : إصباح الشيعة، ص 484 : الجامع للشرائع، ص 423.
6- انظر غاية المراد، ج 3، ص 315 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3) وفيه:... وينسب إلى ابن إدريس.
7- قواعد الأحكام، ج 3، ص 291؛ مختلف الشيعة، ج 8، ص 213، المسألة 48.
حکم ناذر المشي في السفينة

• ويقف ناذر المشي في السفينة؛ لأنّه أقرب إلى شبه الماشي. والوجه الاستحباب؛ لأنّ المشي يسقط هنا عادةً.

-------------------------------------------------------------------

وينعقد أصل الحجّ، ويتخير بين الحجّ راكباً وماشياً. وبهذا قطع في القواعد(1).

والثاني - وهو الذي قطع به المصنّف (رحمه اللّه) واستقربه في التحرير(2)، وجماعة (3) - الانعقاد؛ لأنّ المنذور ليس هو الركوب المرجوح خاصّةً بل الحجّ راكباً، ولا شبهة في أنّ الحجّ راكباً فرد من أفراد العبادة الراجحة، بل من أهتها، فلا مانع من انعقاده، والحجّ مجرّداً عن الركوب غير مقصود بالنذر فلا ينعقد مجرّداً.

وأيضاً فإنّ الركوب ليس مرجوحاً مطلقاً، بل بالإضافة إلى المشي على هذا القول، وإلّا فهو عبادة؛ لما فيه من تحمّل المؤونة والإنفاق في سبيل اللّه وإراحة البدن فيتوفّر على العبادة، وكذلك الخلق؛ إذ الأغلب فيمن يتعب السام وسوء الخلق، ومثل هذا أمر مطلوب للشارع وإن كان غيره أرجح منه؛ إذ لا يتوقّف انعقاد العبادة على أن يكون أعلى مراتب العبادات.

وأيضاً فإنّ الركوب قد بلغ من المزية إن قال بأفضليته جمع من العلماء، فلا أقلّ من أن يكون عبادة في الجملة، وهذا أقوى. وحينئذٍ فيتعين بالنذر ويلزم بمخالفته الكفّارة في المعين والإعادة في المطلق على نحو ما تقرّر في نذر المشي.

قوله: «ويقف ناذر المشي في السفينة» إلى آخره.

القول بوجوب الوقوف في مواضع العبور في نهر وسفينة ونحوهما للشيخ (رحمه اللّه)(4) وجماعة(5)، منهم المصنّف في باب الحجّ(6)، استناداً إلى رواية السكوني أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل

ص: 166


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 291.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 354، الرقم 5918.
3- منهم الصيمري في غاية المرام، ج 3، ص 503.
4- المبسوط، ج 1، ص 414؛ النهاية، ص 566.
5- منهم المفيد في المقنعة، ص 565: وابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 411؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 62 والكيذري في إصباح الشيعة، ص 484.
6- راجع ج 2 ص 59.

• ويسقط المشي عن ناذره بعد طواف النساء.

فروع:

لو نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام

• لو نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام، انصرف إلى بيت اللّه سبحانه بمكّة.

وكذا لو قال: «إلى بيت اللّه» واقتصر. وفيه قول بالبطلان إلّا أن ينوي الحرام.

-------------------------------------------------------------------

عن رجل نذر أن يمشي إلى البيت فمرّ بالمعبر، قال: «ليقم حتّى يجوزه» (1)؛ ولأن الواجب على تقدير المشي القيام مع حركة الرجلين فإذا انتفى الثاني لعدم الفائدة بقي الأوّل.

ويضعّف بضعف الرواية، وحمل المشي على المعهود وهو منتف في موضع العبور عادة، وكما سقط الأمر الثاني لعدم الفائدة فكذا الأوّل. فعدم الوجوب أصحّ. نعم، لا بأس بالاستحباب خروجاً من خلاف الجماعة، وتساهلاً في أدلّة السنن.

قوله: «ويسقط المشي عن ناذره بعد طواف النساء».

أي يسقط عن ناذر الحجّ ماشياً بعد طواف النساء؛ لأنّ به يتم التحلل من الحجّ. وقد تقدّم البحث فيه(2).

ولو كان النذر للعمرة وجب المشي إلى آخر أفعالها إجماعاً؛ إذ ليس لها إلّا تحلّل واحد وبه يتمّ أفعالها.

قوله: «لو نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام» إلى آخره.

أمّا انصرافه إلى مسجد مكة مع وصفه بالحرام فواضح؛ لأنّ بيوت اللّه تعالى وإن تعدّدت إلّا أنه لا يوصف بالحرام غيره. وأمّا إذا قال: «إلى بيت اللّه» وأطلق فالأشهر أنّه كذلك لأنّ إطلاقه عليه أغلب، بل هو المتبادر من قولهم: فلان زائر بيت اللّه وقاصد إلى بيت اللّه وشبه ذلك.

ص: 167


1- الكافي، ج 7، ص 455، باب النذور، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 374، ح 4319؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 304، ح 1129: الاستبصار، ج 4، ص 50، ح 171 بتفاوت.
2- تقدّم في ص 160.

• ولو قال: «أن أمشى إلى بيت اللّه لا حاجّاً ولا معتمراً» قيل: ينعقد بصدر الكلام وتلغو الضميمة. وقال الشيخ: يسقط النذر. وفيه إشكال ينشأ من كون قصد بيت اللّه طاعة.

-------------------------------------------------------------------

والقول بالبطلان للشيخ في الخلاف(1): لاشتراك جميع المساجد في كونها بيت اللّه ولم يعيّن أحدها فيبطل.

ويضعّف بمنع اشتراكها في ذلك عند الإطلاق. ولو سلّم يجب أن لا يبطل، بل يجب عليه إتيان أي مسجد شاء، كما لو نذر أن يأتي مسجداً.

وحيث ينعقد النذر يجب عليه مع الوصول إلى الميقات الحجّ أو العمرة، كما في كلّ داخل عدا ما استثني، وإن كان أحدهم لم يجب عليه أحدهما. ولا يجب عليه صلاة ركعتين في المسجد على الأقوى؛ لأنّ قصد المسجد في نفسه عبادة؛ لقوله (صلوات اللّه عليه): «من مشى إلى مسجد لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلّا سبحت إلى الأرضين السابعة»(2). وغيره من الأخبار(3).

قوله: «ولو قال: أن أمشى إلى بيت اللّه لا حاجاً ولا معتمراً» إلى آخره.

وجه الأوّل: أنّ قوله «أمشي إلى بيت اللّه» يقتضي كونه حاجّاً أو معتمراً، فقوله بعده «لا حاجّاً ولا معتمراً» يقع لغواً؛ لوجوب أحدهما من أوّل الكلام فلا يفيده الرجوع عنه بعد تمام النذر.

وقوّى الشيخ في المبسوط بطلان النذر (4)؛ لأنّ المشي إليه بغير أحد النسكين غير مشروع، بل ولا جائز، فلا ينعقد نذره، واللفظ لا يتمّ إلّا بآخره، فكأنه يفيده الآخر قد نذر ما ليس بطاعة.

ص: 168


1- الخلاف، ج 1، ص 194، المسألة 3.
2- الفقيه، ج 1، ص 223، ح 701؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 255، ح 706 بتفاوتٍ.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 5، ص 200 - 201، الباب 4 من أبواب أحكام المساجد.
4- لم نجده في المبسوط، وذكره في الخلاف، ج 6، ص 194، المسألة 4.

• ولو قال: «أن أمشي» واقتصر، فإن قصد موضعاً انصرف إلى قصده. وإن لم يقصد لم ينعقد نذره؛ لأنّ المشي ليس طاعة في نفسه.

-------------------------------------------------------------------

والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل ذلك بأنّ القصد إلى بيت اللّه في نفسه طاعة وإن لم ينضم إليه أحد النسكين، فيكون نذره منعقداً. ووجوب أحدهما أمر خارج عن النذر، وإنّما يجب بعد بلوغ الميقات، فلا ينافي تركهما صحة النذر، غايته أن يعصي بتركهما من حيث مجاوزته الميقات بغير إحرام لا من حيث النذر.

وفيه: أنّ المنذور هو لقاء البيت مقيّداً بكونه غير محرم بأحدهما، وذلك معصية محضة فلا ينعقد. وكون وجوب الإحرام طارئاً على النذر إنّما ينفع لو لم يقيد النذر بصفة محرّمة، أمّا معه فلا؛ لأنّه بدونها غير مقصود وبها غير مشروع، فالقول بعدم انعقاد النذر أقوى.

نعم، لو قصد بقوله « لا حاجاً ولا معتمراً» أنّ أحدهما غير منذور وإنّما المنذور المشي إلى بيت اللّه تعالى من غير أن يبقى(1) فعل أحدهما بغير النذر، اتجه ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه) وانعقد النذر، ووجب عليه أحدهما عند بلوغ الميقات لا من حيث النذر بل من تحريم مجاوزة الميقات بغير إحرام بأحدهما، مع وجوب مجاوزته للقاء البيت. وهذا كلّه في غير من يجوز له دخول الحرم غير محرم وإلّا فلا شبهة في انعقاد النذر؛ لعدم المعصية به حينئذٍ.

قوله: «ولو قال: أن أمشي واقتصر» إلى آخره.

إذا نذر أن يمشي مقتصراً عليه باللفظ، فإن نوى به المشي إلى محلّ معيّن تقيد به، واعتبر في انعقاد النذر حينئذٍ كونه طاعة، كالمشي إلى المسجد، وقضاء حاجة مسلم، وعيادة مريض ونحو ذلك. وإن أطلق اللفظ ولم يقيّده بالنيّة لم ينعقد؛ لأنّ المنذور حينئذٍ هو المشي المجرّد وهو في نفسه ليس بطاعة، وإنّما يصير عبادةً إذا كان وسيلةً ومقدّمةً إلى طاعة لا مطلقاً.

ومعنى قول المصنّف «انصرف إلى قصده» أنّه يتقيد به أعمّ من أن ينعقد (2) بواسطة النذر أم لا كما قرّرناه.

ص: 169


1- في الطبعة الحجريّة: «يبغي» بدل «يبقى».
2- في بعض النسخ: «يتقيّد» بدل «ينعقد».
لو نذر إن رزق ولداً يحجّ به أو يحج عنه ثمّ مات

• ولو نذر إن رزق ولداً يحجّ به أو يحجّ عنه ثمّ مات، حجّ بالولد أو عنه من صلب ماله.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو نذر إن رزق ولداً يحجّ به أو يحج عنه ثمّ مات» إلى آخره.

الأصل في هذه المسألة رواية مسمع بن عبدالملك - في الحسن - قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): كانت لي جارية حبلى فنذرت للّه عزّ وجلّ إن ولدت غلاماً أن أحجّه أو أحجّ عنه، فقال: «إنّ رجلاً نذر للّه عزّ وجلّ في ابن له إن هو أدرك أن يحجّه أو يحجّ عنه، فمات الأب وأدرك الغلام بعد فأتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك الغلام فسأله عن ذلك، فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يحج عنه ممّا ترك أبوه»(1)، ولأنّ ذلك طاعة مقدورة للناذر فينعقد نذرها.

ومقتضى هذه الصيغة أن يكون الناذر مخيّراً بين أن يحجّ بالولد وبين أن يستنيب من يحجّ عنه. فإن اختار الثاني نوى النائب الحجّ عن الولد؛ عملاً بمقتضى النذر. وإن أحجّ الولد نوى عن نفسه إن كان مميزاً، وإلّا أجزأ الولد إيقاع صورة الحجّ به كما لو صحبه في الحجّ تبرعاً، وقد تقرّر كيفية ذلك في بابه (2).

ولو أخر الأب الفعل إلى أن بلغ الولد فإن اختار الحجّ عنه لم يجزئه عن حجة الإسلام. وإن أحجّه أجزأه؛ لأنّ ذلك بمنزلة الاستطاعة بالبذل المنذور.

ولو مات الأب قبل أن يفعل أحد الأمرين، فإن كان موته قبل التمكّن من أحدهما سقط النذر، وإن كان بعده وجب قضاؤه من أصل تركته؛ لأنّه حقّ مالي تعلّق بتركته، وهو مدلول الرواية. ويتخيّر الوصيّ حينئذٍ بين الحجّ بالولد والحجّ عنه، كما كان ذلك للأب ولو اختلفت الأجرة كان كما لو مات وعليه كفّارة مخيّرة، فيخرج عنه أقلّ الأمرين إن لم يتبرع الوارث بالأزيد. وظاهر الرواية بقاء التخيير من غير تقييد بذلك، وليس منافياً لما سبق؛ لأنّه فرضها هنا فيما لو كان قد أدرك الولد وأمر بالحج عنه بما ترك أبوه، فجاز كونه الفرد المعتبر إخراجه أو انحصار الإرث في الابن ورضاه، أو غير ذلك.

ص: 170


1- الكافي، ج 7، ص 459، باب النذور، ح 25؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 307، ح 1143.
2- تقدّم في ج 2، ص 22 و 146.
لو نذر أن يحجّ ولم يكن له مال فحجّ عن غيره

• ولو نذر أن يحج ولم يكن له مال فحج عن غيره أجزاً عنهما على تردّد.

-------------------------------------------------------------------

ولو فرض اختيار الولد الحجّ عن نفسه بالمال صح أيضاً، وأجزأه على تقدير استطاعته عن فرضه؛ لأنّ متعلّق النذر حجّة بالمال عن نفسه، وذلك لا ينافي كونه حجة الإسلام.

ولو مات الولد قبل أن يفعل أحد الأمرين بقي الفرد الآخر وهو الحجّ عنه، سواء كان موته قبل تمكنه من الحجّ بنفسه أم لا؛ لأنّ النذر ليس منحصراً في حجه حتّى يعتبر تمكنه في وجوبه.

نعم، لو كان موته قبل تمكن الأب من أحد الأمرين احتمل السقوط؛ لفوات متعلّق النذر قبل التمكن منه؛ لأنّه أحد الأمرين والباقي منهما غير أحدهما الكلّي وهو خيرة الدروس(1).

ولو قيل بوجوب الحجّ عنه كان قوياً؛ لأنّ الحجّ عنه متعلّق النذر أيضاً، وهو ممكن. ويمنع (2) اشتراط القدرة على جميع الأفراد المخيّر بينها في وجوب أحدها، كما لو نذر الصدقة بدرهم، فإنّ متعلّقه أمر كلّي، وهو مخيّر في الصدقة بأي درهم اتّفق من ماله، ولو فرض ذهابه إلّا درهماً واحداً وجب الصدقة به.

قوله: «ولو نذر أن يحج ولم يكن له مال فحج عن غيره أجزاً عنهما على تردّد». القول بالإجزاء للشيخ (3) ؛ استناداً إلى صحيحة رفاعة، قال : سألت أبا عبداللّه عن رجل حجّ عن غيره، ولم يكن له مال، وعليه نذر أن يحج ماشياً، أ يجزئ عنه عن نذره؟ قال: «نعم»(4).

وذهب الأكثر إلى عدم الإجزاء؛ لأنهما سببان مختلفان فلا يجزئ أحدهما عن الآخر.

والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في الحكم من حيث صحّة الرواية، ومخالفتها للقواعد

ص: 171


1- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 233 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
2- في بعض النسخ: «ونمنع» بدل «ويمنع».
3- النهاية، ص 567.
4- الكافي، ج 4 ص 277 باب ما يجزئ من حجّة الإسلام و....؛ ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 406 - 407، ح 1415.

مسائل الصوم

لو نذر صوم أيّام معدودة

• لو نذر صوم أيّام معدودة كان مخيراً بين التتابع والتفريق إلّا مع شرط التتابع.

-------------------------------------------------------------------

الشرعيّة. وحملها في المختلف على ما إذا عجز عن أداء ما نذره واستمرّ عجزه(1).

وفيه نظر؛ لأنّه مع عجزه عن المنذور واستمرار العجز يسقط النذر.

وحملت أيضاً على ما لو نذر الحجّ مطلقاً عنه أو عن غيره، بمعنى أنّه قصد ذلك. وهذا أولى وإن كان ظاهر الرواية يأبى ذلك؛ لأنّه على تقدير قصده ذلك لا يتقيد إجزاء حجّ النيابة عن النذر بعدم قدرته على مال يحجّ به عن النذر الذي هو مفروض الرواية، إلّا أنّ الغرض بیان الواقع فلا ينافي غيره.

قوله: «لو نذر صوم أيّام معدودة» إلى آخره.

إذا نذر صوم أيّام معدودة كعشرة أيّام صح أن يصومها متتابعةً ومتفرّقةً لصدق صومها على التقديرين خلافاً لبعض العامّة حيث جعل الإطلاق منزلاً على التتابع (2). وإن قيد نذره بالتتابع فلا شبهة في لزومه؛ لأنّه وصف راجح في الصوم فيلزم نذره.

ويفهم من قوله «إلّا مع شرط التتابع» أنّه لو شرط التفريق في النذر لم يتعين وبقي مخيّراً لأنّه حكم بتخييره مطلقاً إلّا مع شرط التتابع، فيدخل في التخيير ما لو شرط التفريق. وهو أحد الوجهين في المسألة.

ووجهه أن التفريق ليس وصفاً مقصوداً للشارع، بل غايته أن يكون جائزاً، فلا ينعقد نذره، بخلاف التتابع، فإذا صام متتابعاً فقد أتى بما هو الأفضل، كما لو نذر الركوب في الحجّ فمشى على أحد القولين وأجودهما وجوب التفريق عملاً بمقتضى نذره، والكلام فيه كما قرّرناه في الحجّ ماشياً لمن نذر الركوب (3)؛ لأنّ المنذور حقيقة هو الصوم المتفرّق لا نفس

ص: 172


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 231، المسألة 62.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 490 المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 367، المسألة 8205.
3- راجع ص 165.

• والمبادرة بها أفضل، والتأخير جائز.

لا ينعقد نذر الصوم إلّا أن يكون طاعةً

• ولا ينعقد نذر الصوم إلّا أن يكون طاعةً. فلو نذر صوم العيدين أو أحدهما لم ينعقد. وكذا لو نذر صوم أيّام التشريق بمنى. وكذا لو نذرت صوم [أيّام] حيضها.

-------------------------------------------------------------------

التفريق، ولا شبهة في أنّه عبادة راجحة فينعقد نذره وإن كان غيره من الأفراد أفضل منه؛ إذ لا يشترط في انعقاد نذر عبادة أن يكون أعلى مراتبها، ولأنّ التفريق مرعي شرعاً على بعض الوجوه، فليس هو من الأمور الملغاة في نظر الشارع أصلاً. وعلى هذا فلو صام العشرة متتابعةً حسب له منها خمسة أيّام ولغا بعد كلّ يوم يوم.

قوله: «والمبادرة بها أفضل، والتأخير جائز».

لا إشكال في استحباب المبادرة؛ لما فيه من المسارعة إلى سبب المغفرة المأمور بها(1)، وللخروج من خلاف من جعل الأمر المطلق منزلاً على الفور. ولكن يجوز التأخير؛ لأنّ النذر المطلق وقته العمر، والفور غير واجب على الأصحّ، ويتضيّق عند ظنّ العجز عنه لو أخره حينئذٍ بالموت أو الضعف.

وذهب بعض الأصحّاب إلى وجوب المبادرة إليه (2). وهو شاذّ.

قوله: «ولا ينعقد نذر الصوم إلّا أن يكون طاعةً. فلو نذر صوم العيدين أو أحدهما لم ينعقد» إلى آخره.

هذا ممّا لا خلاف فيه عندنا وعند أكثر العامّة، وذهب بعضهم إلى انعقاد النذر ووجوب صوم يوم آخر مكانه(3). وربما قال بعضهم: إنه لو صامه خرج عن نذره(4). وفساده واضح.

وتحريم صوم أيّام التشريق لا يختصّ بالناسك على الأشهر؛ لعموم النصّ(5)، فيحرم على

ص: 173


1- آل عمران (3): 133: «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ».
2- النهاية، ص 564 - 565: السرائر، ج 3، ص 59: إصباح الشيعة، ص 484.
3- الحاوي الكبير، ج،15، ص 493 - 494؛ شرح فتح القدير، ج 2، ص 298 - 299.
4- الحاوي الكبير، ج،15، ص 494 شرح فتح القدير، ج 2، ص 298.
5- راجع وسائل الشيعة، ج 10، ص 516 - 518، الباب 2 من أبواب الصوم المحرم والمكروه.
لا ينعقد نذر الصوم إذا لم يكن ممكناً

• وكذا لا ينعقد إذا لم يكن ممكناً، كما لو نذر صوم يوم قدوم زيد، سواء قدم ليلاً أو نهاراً. أمّا ليلاً فلعدم الشرط، وأمّا نهاراً فلعدم التمكن من صيام اليوم المنذور فيه، وفيه وجه آخر.

-------------------------------------------------------------------

من كان بمنى مطلقاً. وعليه يدلّ إطلاق عبارة المصنّف والأكثر، وخصه العلّامة بالناسك(1). وعليه، فيجوز نذرها لغيره، كما يجوز نذرها لمن ليس بمنى؛ لانتفاء المانع.

ولا دليل على اختصاص الحكم بالناسك، إلّا أنّ أكثر الروايات الواردة في ذلك ضعيفة الأسناد، والصحيح منها - وهو رواية عبد الرحمن بن أبي نجران (2) - ليس دالاً على التحريم. فيقتصر به على موضع الوفاق وهو الناسك، وهذا اعتبار لا بأس به.

قوله: «وكذا لا ينعقد إذا لم يكن ممكناً، كما لو نذر صوم يوم قدوم زيد، سواء قدم ليلاً أو نهاراً» إلى آخره.

إذا نذر صوم يوم قدوم زيد بعينه ولم ينذره دائماً فالمشهور أنّه لا ينعقد نذره مطلقاً؛ لأنّه إن قدم ليلاً لم يكن قدومه في يوم حتّى ينظر هل يصام أم لا؟ بناءً على أنّ اليوم اسم للنهار خاصّة، كما هو المعروف لغةً (3) وعرفاً، فلم يوجد يوم قدومه وهو معنى قوله «لعدم الشرط». بمعنى أن شرط النذر أن يكون يوم قدومه محلاً للصوم ولم يحصل. ولا يخلو من تجوز.

والوجه ما ذكرناه من عدم وجود متعلّق النذر أصلاً فضلاً عن أن يكون غير مقدور وإن قدم نهاراً فقد مضى قبل قدومه جزء من النهار، فإن أوجبنا صوم بقية اليوم وجعلناه متعلّق النذر لزم انعقاد نذر صوم بعض يوم، والأصحّاب لا يقولون به، وإن قلنا بوجوب مجموع اليوم لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنّ الجزء الماضي منه لا يقدر الناذر على صومه عن النذر.

ولو فرض علمه ليلاً بقدومه نهاراً فبيت النيّة لم يكف أيضاً؛ لعدم حصول الشرط حينئذٍ،

ص: 174


1- قواعد الأحكام، ج 1، ص 384؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 301.
2- لم نعثر على رواية لابن أبي نجران في هذا الموضوع.
3- لسان العرب، ج 12، ص 649، «يوم».

-------------------------------------------------------------------

فلا وجه لوجوبه؛ ولأنّ العلم بقدومه إنّما يستند إلى أمارات قد تتخلّف، وقد يكذب الخبر، أو يحصل له مانع من القدوم، والعلم المذكور غير حقيقي وإنّما هو ظن راجح. ولا فرق على هذا بين أن يقدم والناذر صائم لذلك اليوم ندباً أو عن واجب آخر أو غير ناوٍ للصوم؛ لاشتراك الجميع في المقتضى.

والوجه الآخر الذي أشار إليه المصنّف (رحمه اللّه) أنه إن قدم قبل الزوال ولم يكن الناذر أحدث ما يفسد الصوم ينعقد نذره ويجب عليه صومه؛ لأنّ هذا القدر من النهار قابل للصوم ندباً بل واجباً على بعض الوجوه، فلا مانع من انعقاد نذره، كما لو نذر إكمال صوم اليوم المندوب خصوصاً قبل الزوال. وهذا قويّ(1). بل يحتمل انعقاده وإن قدم بعد الزوال ولما يحدث ما يفسد الصوم، بناءً على صحة الصوم المندوب حينئذٍ فينعقد نذره ولو كان صائماً ندباً زاد الاحتمال قوة؛ لأنّه حينئذٍ صوم حقيقي مندوب فيكون نذره طاعة.

ويمكن بناء الحكم على أن المتنقل إذا نوى الصوم نهاراً هل يكون صائماً من وقت النيّة أم من ابتداء النهار؟ فعلى الأوّل يتجه عدم صحة النذر؛ لأنّ المفهوم من صوم يوم قدومه صوم مجموع اليوم ولم يحصل. وعلى الثاني يصحّ لصدق الصوم في المجموع، واستتباع الباقي للماضي.

ويمكن رجوع الخلاف إلى أمر آخر، وهو أنّ الناذر إذا التزم عبادة وأطلق تسمية الملتزم على ما ينزّل نذره؟ فيه وجهان»

أحدهما: أنّه ينزّل على واجب من جنسه؛ لأنّ المنذور واجب فيجعل كالواجب ابتداءً من جهة الشرع؛ لقرب الواجب من الواجب.

والثاني: ينزّل على الجائز من جنسه؛ لأنّ لفظ الناذر اقتضى التزام الجائز لا الواجب، فلا معنى لالتزامه ما لم يتناوله لفظه ولعلّ هذا أظهر، وعليه يتفرع مسائل كثيرة، منها المسألة المذكورة.

ص: 175


1- في بعض النسخ: «أقوى» بدل «قوي».

• ولو قال: «لله عليّ أن أصوم يوم قدومه دائماً»، سقط وجوب اليوم الذي جاء فيه، ووجب صومه فيما بعد.

ولو اتّفق ذلك اليوم في رمضان صامه عن رمضان خاصّة، وسقط النذر فيه؛ لأنّه كالمستثنى، ولا يقضيه.

-------------------------------------------------------------------

فإن نزّلناه(1) على الواجب لم ينعقد نذر صوم يوم قدومه بعد الزوال قطعاً؛ لأنّ الواجب لا ينعقد حينئذٍ مطلقاً، وقبل الزوال يتجه الانعقاد؛ لأنّ الواجب قد ينعقد حينئذٍ فيما لو أصبح غير ناو للصوم ثمّ نوى القضاء عن رمضان قبل أن يتناول، فإنّ الأقوى صحة صومه حينئذٍ، فليكن في النذر كذلك. وإن قلنا بعدم صحة الصوم عن الواجب واشتراط تبييت النيّة ليلاً لم يصحّ النذر؛ لعدم صحة الواجب مثله في أثناء النهار.

وإن حملناه على ما يصحّ من جنسه صح النذر في الحالين؛ لأنّ الصوم المندوب ينعقد في أثناء النهار مطلقاً على ما تقدم تحقيقه في بابه(2). وعلى المشهور من عدم صحة تجديده بعد الزوال مطلقاً لا ينعقد النذر لو قدم بعده مطلقاً. وإنّما يبقى الكلام فيما لو قدم قبل الزوال فإن ألحقناه بما يصحّ وإن كان مندوباً صح، وإن ألحقناه بالواجب وقلنا بصحته صح أيضاً، وإلّا فلا.

وعلى تقدير الصحة لو علم ليلاً قدومه نهاراً عادةً جاز له نيّته ليلاً. وفي وجوبه نظر، من العلم العادي الذي يبنى عليه الحكم شرعاً، وجواز خلافه. بل يتجه حينئذٍ وجوب النيّة ليلاً وإن علم مجيئه بعد الزوال؛ لأنّ المنذور مجموع اليوم الذي يقدم فيه وهو يتحقّق بقدومه في جزء من النهار، ويمكن صرف مجموعه إلى النذر بسبب العلم السابق. وهو خيرة الدروس (3).

قوله: «ولو قال اللّه عليّ أن أصوم يوم قدومه دائماً» إلى آخره.

هذا الحكم متفرّع على عدم انعقاد صوم يوم قدومه، فلو كان قد نذر صوم يوم قدومه

ص: 176


1- في بعض النسخ: «نزلناها» بدل «نزلناه».
2- تقدّم في ج 1، ص 502 وما بعدها.
3- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 208؛ وراجع أيضاً، ج 2، ص 125 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9 و 10).
لو نذر صوم يوم معيّن فاتّفق في شهر رمضان

• ولو اتّفق ذلك يوم عيد أفطره إجماعاً. وفي وجوب قضائه خلاف والأشبه عدم الوجوب.

-------------------------------------------------------------------

دائماً، بمعنى صوم ما وافقه من أيّام الأسبوع دائماً، سقط وجوب صوم اليوم الذي جاء فيه؛ لما تقدّم من المانع، ووجب صوم مثل ذلك اليوم فيما بعد؛ لوجود المقتضي لوجوب صومه وهو النذر، وانتفاء المانع؛ لأنّه كان قد نشأ في الأوّل من مضي بعض اليوم الموجب لعدم انعقاد صوم الباقي، وهو منتفٍ فيما بعده؛ لأنّه إذا قدم - مثلاً - يوم الجمعة فالنذر في قوة التزام صوم يوم الجمعة دائماً، فإذا سقط اليوم الأوّل لعارض بقي الباقي، فيجب نيّة صومه ليلاً كغيره من الواجبات، ويوصف مجموعه بالوجوب ولو قلنا بانعقاد يوم قدومه صحّ الجميع.

قوله: «ولو اتّفق ذلك اليوم في رمضان صامه عن رمضان خاصّة» إلى آخره.

إذا نذر صوم،يوم معيّن كيوم قدوم زيد أو يوم الخميس فاتّفق في شهر رمضان فالمشهور سقوط النذر فيه، وصومه عن رمضان خاصّة من غير أن يجب عليه قضاؤه؛ لأنّ وجوب شهر رمضان سابق على النذر فلا ينعقد عليه النذر.

وهذا بناء على عدم صحة نذر الواجب وسيأتي البحث فيه، وتردّد المصنّف في حكمه، وهو خلاف ما جزم به هنا ولو قلنا بصحته كما هو أقوى القولين (1) - وجب صومه بالسببين والنيّة بحالها، إلّا أنّ الفائدة تظهر مع إفطاره عمداً في وجوب كفارتين لرمضان وخلف النذر.

ولو اتّفق هذا اليوم المنذور يوم عيد فلا خلاف في وجوب إفطاره؛ لتحريم صومه على كلّ حال، وفي وجوب قضائه قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - العدم؛ لأنّ وجوب قضائه فرع على صحة نذره، وصحته موقوفة على قبول الزمان للصوم ليكون طاعة، والعيد لا يصحّ صومه شرعاً فلا يدخل تحت النذر فهو متعيّن للإفطار كما أن رمضان متعيّن للصوم بغير النذر فلا يتناولهما النذر

ص: 177


1- راجع مختلف الشيعة، ج 8، ص 229، المسألة 59؛ والدروس الشرعيّة، ج 1، ص 208 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل. ج 9).

-------------------------------------------------------------------

والثاني: الوجوب، ذهب إليه الشيخ(1) وجماعة (2)؛ لصحيحة علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): رجل نذر أن يصوم يوم الجمعة دائماً، فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو يوم الجمعة أو أيّام التشريق أو سفراً أو مرضاً، هل عليه صوم ذلك اليوم، أو قضاؤه، أم كيف يصنع يا سيّدي؟ فكتب إليه: «قد وضع اللّه عنه الصيام في هذه الأيّام كلّها، ويصوم يوماً بدل يوم إن شاء اللّه تعالى»(3).

ولأنّ اليوم المعين من الأسبوع - كيوم الإثنين مثلاً - قد يتّفق فيه العيد وقد لا يتّفق فيتناوله النذر، بخلاف رمضان، فإنّ وقوعه فيه أمر معلوم؛ فلهذا وقع الاتّفاق على عدم تناوله له حيث لا نقول بصحة نذر الواجب.

وأجيب عن الرواية بحملها على الاستحباب (4)؛ لأنّه لو كان واجباً لم يعلقه بالمشيئة بلفظ «إن» ؛ لأنّ «إن» تختصّ بالمحتمل لا بالمتحقّق.

وفيه نظر؛ لأنّ من جملة المسئول عنه ما يجب قضاؤه قطعاً، وهو أيّام السفر والمرض، والمشيئة كثيراً ما تقع في كلامهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) للتبرّك، وهو اللائق بمقام الجواب عن الحكم الشرعي. نعم، في مضمون الرواية إشكال من حيث تشريكه في الحكم بين الجمعة وغيرها من المذكورات وغاية الصوم يوم الجمعة أن يكون مكروها، ومكروه العبادة ينعقد نذره؛ الرجحانه في الجملة، فإدخالها في الحكم لا يوافق الوجوب ولا الاستحباب على هذا التقدير، إلّا أن يقال بمشاركة المكروه للمحرم في ذلك.

واعلم أنه لو وقع في شهر رمضان من ذلك اليوم المعين أكثر من أربعة جاء في الخامس الوجهان الآتيان في العيد؛ لأنّ الخامس قد يتّفق في شهر رمضان وقد لا يتّفق، كما أن العيد قد يقع في ذلك اليوم وقد لا يقع، بخلاف الأربعة؛ فإنّه لا بدّ منها.

ص: 178


1- النهاية، ص 565: المبسوط، ج 1، ص 381.
2- منهم الصدوق في المقنع، ص 410 وابن زهرة في الوسيلة، ص 350.
3- الكافي، ج 7، ص 456 - 457، باب النذور، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 305 - 306، ح 1135.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 209، المسألة 46.
إذا وجب على ناذر صوم يوم معيّن صوم شهرين متتابعين

• فلو وجب على ناذر ذلك اليوم صوم شهرين متتابعين في كفّارة، قال الشيخ: صام فى الشهر الأوّل من الأيّام عن الكفّارة؛ تحصيلاً للتتابع، فإذا صام من الثاني شيئاً صام ما بقى من الأيّام عن النذر؛ لسقوط التتابع.

وقال بعض المتأخّرين يسقط التكليف بالصوم؛ لعدم إمكان التتابع، وينتقل الفرض إلى الإطعام وليس شيئاً.

والوجه صيام ذلك اليوم - وإن تكرّر - عن النذر، ثمّ لا يسقط به التتابع لا في الشهر الأوّل ولا الأخير؛ لأنّه عذر لا يمكن الاحتراز منه.

ويتساوى في ذلك تقدّم وجوب التكفير على النذر وتأخّره.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «فلو وجب على ناذر ذلك اليوم صوم شهرين متتابعين في كفّارة» إلى آخره.

إذا وجب على ناذر يوم معيّن كيوم الإثنين - لكونه يوم قدوم زيد أو غيره - صوم شهرين متتابعين في كفّارة على وجه التعيين كالمرتبة، ففي تقديم الكفّارة على النذر أو تقديمه عليها أقوال:

أحدها: تقديم الكفّارة فيما يجب تتابعه على النذر، وذلك في الشهر الأوّل واليوم الأوّل من الثاني بحيث يحصل له شهر ويوم متتابعاً، ويتخيّر فيما بعد ذلك من الشهر الثاني بين صوم اليوم المعين عن الكفّارة وبين صومه عن النذر. وهو قول الشيخ في المبسوط ؛ محتجاً بأنه يمكن قضاء المعين عن النذر ولا يمكن صوم الكفّارة بدون أن يصومه عنها؛ لفوات التتابع بتخلّل ذلك اليوم(1)، فيجمع بين الواجبين بصومه عن الكفّارة وقضائه عن النذر. هذا فيما يجب تتابعه، وأما في بقية الشهر الثاني فإنّه يمكن صومه عن كلّ واحد من الواجبين من غير إضرار بالآخر؛ لعدم اشتراط التتابع في الكفّارة حينئذٍ، فيتخيّر.

وثانيها: صومه عن النذر ولا تصحّ الكفّارة؛ لأنّ شرطها التتابع وهو غير ممكن؛ لوجوب صوم اليوم المعين عن النذر فينتقل حينئذٍ إلى غير الصوم من الخصال كالإطعام، إقامة

ص: 179


1- لم نجده في المبسوط، وحكاه عنه ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 68.
إذا نذر صوماً مطلقاً

• وإذا نذر صوماً مطلقاً فأقله يوم، وكذا لو نذر صدقة اقتصر على أقلّ ما يتناوله الاسم.

-------------------------------------------------------------------

لتعذّر شرط الصوم مقام تعذّره. وهو قول ابن إدريس(1).

وثالثها: ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) وأكثر المتأخّرين، وهو تقديم النذر من غير أن يقطع تتابع الكفّارة؛ لأنّه عذر لا يمكن الاحتراز منه، فكان كأيّام الحيض والمرض والسفر الضروري، سواء في ذلك الشهر الأوّل والثاني. وهذا هو الأقوى.

واعلم أنّ محلّ الخلاف ما إذا كانت الكفّارة معيّنة ككفّارة الظهار وقتل الخطأ، فلو كانت مخيّرة لم يجزئه الصوم وانتقل إلى الإطعام؛ لأنّه لا ضرورة إلى التفريق؛ لإمكان التكفير بالخصلة الأُخرى على تقدير قدرته عليها، وإلّا كانت كالمعيّنة. وأنّه لا فرق بين تقدم سبب الكفّارة على النذر وتأخره لاشتراكهما في المقتضي وهو تعيين اليوم للصوم المنذور. وإنّما يتّجه الفرق لو قلنا بتقديم الكفّارة وقضاء اليوم عن النذر فإنّه على تقدير تقدم النذر يكون قد أدخل على نفسه صوم الشهرين بعد وجوب صوم اليوم المعيّن بالنذر فيجمع بينهما بالقضاء، بخلاف ما إذا تقدمت الكفّارة؛ لأنّه حينئذٍ يكون كالمستثنى كما استثني الواقع في رمضان. ويحتمل هنا القضاء أيضاً؛ لأنّ الوقت غير متعيّن لصوم الكفّارة، بخلاف رمضان.

قوله: «وإذا نذر صوماً مطلقاً فأقله يوم» إلى آخره. إذا نذر حقيقةً من الحقائق كالصوم والصلاة والصدقة - وأطلق لزمه ما يصدق معه تلك الحقيقة وإن كان أقلّ ما يتحقّق به، وذلك صوم يوم في الصوم؛ لأنّه أقلّ ما يتحقّق به الصوم؛ إذ لا يشرع صوم بعض يوم قطعاً، وفي الصدقة به يلزم أقلّ ما يتناوله الاسم، وهو ما يتموّل عادةً كدائق(2).

وهو موضع،وفاق، وإنّما خالف فيه بعض العامّة فحكم في الصوم بالاجتزاء ببعض يوم

ص: 180


1- السرائر، ج 3، ص 68 - 69.
2- الدائق والدانق سدس الدرهم الصحاح، ج 4، ص 1477، «دنق».
لو نذر الصيام في بلد معيّن

• ولو نذر الصيام في بلد معيّن قال الشيخ صام أين شاء. وفيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

بناءً على صدق اسم الصوم على البعض على بعض الوجوه(1)، وأوجب في الصدقة خمسة دراهم أو نصف دينار؛ نظراً إلى أنه أقلّ ما يجب من الصدقة في الزكاة(2).

ومبنى الخلاف على أنّ المعتبر في المنذور أقلّ واجب من جنسه أو أقلّ جائز من جنسه، وقد تقدّم الكلام فيه(3). فعلى الأوّل يجب خمسة دراهم أو نصف دينار، وعلى الثاني يجزئ مسمّى الصدقة.

وهذا يتّجه على القول بعدم جواز إعطاء المستحق الواحد أقلّ ممّا يجب في النصاب. والحق أنّ ذلك على وجه الاستحباب، ومن أوجبه منهم أجابوا بأنّ الخلطاء قد يشتركون في نصاب فيجب على أحدهم شيء قليل، فيكفيه أن يتصدق بدائق وما دونه ممّا يتموّل(4).

ولك أن تقول: إذا حملنا المطلق على الواجب فالأقلّ من الصدقة غير مضبوط جنساً وقدراً، بل الأموال الزكاتية مختلفة،الجنس، وليس لواجبها قيمة مضبوطة، وصدقة الفطرة أيضاً واجبة وليس لها قيمة مضبوطة، فامتنع إجراء هذا القول في الصدقة، وتعيّن اتباع مفهوم اللفظ.

قوله: «ولو نذر الصيام في بلد معين، قال الشيخ: صام أين شاء. وفيه تردّد».

وجه ما اختاره الشيخ من عدم تعيين المكان(5) أن الصوم لا يحصل بكونه في مكان دون آخر صفة زائدة على كماله في نفسه، فلا وجه لترجيح إيقاعه في مكان دون آخر.

ومنشأ التردّد ممّا ذكر، ومن أنّ المنذور إنّما هو الصوم المقيّد بالمكان، فيجب الوفاء به؛ عملاً بعموم الأمر بالوفاء بالنذر(6)، ولا يتحقّق إلّا بذلك؛ ولأن الصوم المطلق غير منذور حتّى يقال بإجزاء الصوم حيث شاء، ولا القيد - أعني المكان المعين - حتّى يقال: إنّه لا مزيّة فيه،

ص: 181


1- راجع روضة الطالبین، ج 2، ص 571 و 572.
2- راجع روضة الطالبین، ج 2، ص 571 و 572.
3- تقدّم في ص 175.
4- راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 572.
5- لم نعثر على مختاره. وقال في المبسوط، ج 1، ص 382 ومن نذر أن يصوم بمكّة أو المدينة أو أحد المواضع المعيّنة شهراً وجب عليه أن يحضره.
6- الحجّ (22): 29؛ الإنسان (76): 7؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1151؛ الاستبصار، ج 4، ص 55، ح 190.
لو نذر أن يصوم زماناً أو نذر حيناً

• ومن نذر أن يصوم زماناً كان خمسة أشهر. ولو نذر حيناً كان ستة أشهر. ولو نوى غير ذلك عند النذر لزمه ما نوى.

-------------------------------------------------------------------

وإنّما هو من قبيل نذر المباح، بل هو الصوم المقيد بكونه في المكان المخصوص، ولا شكّ أنه عبادة راجحة، فلا مانع من انعقاده. وأيضاً فمطلق المكان لا يخلو عن المزية، فإنّ الصوم في بعض الأمكنة أشق من بعض فيكون أفضل؛ لأنّ أفضل الأعمّال أحمزها(1)، وبعضها أسهل فيكون قد قصد بتعيينه التخفيف على نفسه، وهو أمر مطلوب شرعاً وعقلاً، والعبادة المقيدة به صالحة للنذر، فيتعين؛ عملاً بالعموم (2).

وللعلّامة قول ثالث بتعيّن ذي المزيّة دون غيره؛ لأنّ المكان ذي المزية راجح فينعقد نذره(3)، وقد روى الصدوق أن صوم يوم بمكّة كصوم سنة في غيرها(4). وادعى ولده في الشرح أنّ الإجماع واقع على تعيّن ذي المزية، وإنّما الخلاف في غيره(5)، ولا يخلو هذه الدعوى من نظر، والأقوى تعينه مطلقاً.

قوله: «ومن نذر أن يصوم زماناً كان خمسة أشهر» إلى آخره.

الحين والزمان والوقت وأشباهها من الأوقات المبهمة الصالحة لغةً وعرفاً للقليل والكثير، فكان حقّ ناذر صومه أن يكتفي بصوم يوم، ولكن روى السكوني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال في رجل نذر أن يصوم زماناً، قال: «الزمان خمسة أشهر، والحين ستّة أشهر؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: «تُؤْتِي أُكُلَهَا كلّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا»»(6).

ص: 182


1- مضمون حديث نبوي. راجع غريب الحديث، الهروي، ج 2، ص 301 والنهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 440، «حمز»؛ ومختلف الشيعة، ج 4، ص 260، المسألة 214، وص 274، المسألة 225.
2- الحجّ (22): 29؛ الإنسان (76): 7؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1151؛ الاستبصار، ج 4، ص 55، ح 190.
3- مختلف الشيعة، ج 3، ص 427، المسألة 140.
4- الفقيه، ج 2، ص 227، ح 2261.
5- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 59.
6- الكافي، ج 4، ص 142، باب من جعل على نفسه صوماً معلوماً و...، ح 5: تهذيب الأحكام، ج 4، ص 309، ح 933؛ والآية في سورة إبراهيم (14): 25.

مسائل الصلاة

إذا نذر صلاة فأقل ما يجزئه ركعتان

• إذا نذر صلاة، فأقل ما يجزئه ركعتان وقيل ركعة، وهو حسن.

-------------------------------------------------------------------

وروى أبو الربيع الشامي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن رجل قال اللّه عليّ أن أصوم حيناً، وذلك في شكر، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قد أتي أبي في مثل ذلك فقال: صم ستّة أشهر، فإن اللّه تعالى يقول: «تُؤْتِي أُكُلَهَا كلّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا» يعني ستّة أشهر»(1).

وحال السكوني معلوم(2)، وفي طريق الثانية جهالة، إلّا أنّ الشيخ عمل بمضمونها (3)، وتبعه الأصحّاب حتّى لا يعلم فيه مخالف هذا كلّه إذا لم ينو شيئاً غير ذلك، وإلّا فالمعتبر ما نواه؛ لأنّ النذر واليمين يتقيّدان(4) بالنيّة، مضافاً إلى مطابقة اللغة لما عيّنه.

قوله: «إذا نذر صلاة، فأقل ما يجزئه ركعتان وقيل ركعة، وهو حسن».

القول بوجوب الركعتين فصاعداً للشيخ في المبسوط والخلاف(5) نظراً إلى أنّها أقلّ الصلوات المعهودة الغالبة والركعة نادرة؛ إذ لم تشرع إلّا فى الوتر، وقد روى ابن مسعود أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن البتيراء(6)، يعني الركعة الواحدة.

والقول بإجزاء الواحدة لابن إدريس(7)، واستحسنه المصنّف وجماعة(8)، للتعبد بها شرعاً.

ص: 183


1- الكافي، ج 4، ص 142، باب من جعل على نفسه صوماً معلوماً و...، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 4، ص 309 - 310، ح 934.
2- راجع خلاصة الأقوال، ص 316، الرقم 1238، وفيه: «كان عاميّاً».
3- النهاية، ص 167 و 565: المبسوط، ج 1، ص 382.
4- في بعض النسخ: ينعقدان» بدل «يتقيدان».
5- لم نجده في المبسوط، وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 219، المسألة 53: الخلاف، ج 6، ص 201، المسألة 17، وليس فيه: «فصاعداً».
6- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 93.
7- السرائر، ج 3، ص 69.
8- منهم العلّامة في إرشاد الأذهان، ج 2، ص 93؛ وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 356، الرقم 5925.

-------------------------------------------------------------------

وربما بني الخلاف على ما تقدّم من أنّ المعتبر هل هو أقلّ واجب أو أقلّ صحيح؟ (1) فعلى الأوّل الأوّل، وعلى الثاني الثاني.

ويتفرّع على ذلك أيضاً وجوب الصلاة قائماً أو يجوز ولو جالساً؛ لجوازه في النافلة دون الواجبة اختياراً، ووجوب السورة عند من أوجبها في الواجبة (2)، إلى غير ذلك من الجهات التي يفترق فيها الواجب والصحيح مطلقاً.

وكذا الكلام في صلاتها على الراحلة، وإلى غير القبلة راكباً أو ماشياً.

ولو صرّح في نذره أو نوى أحد هذه الوجوه المشروعة فلا إشكال في الانعقاد. وفي جواز العدول حينئذٍ إلى الأعلى الوجهان، والأجود اتباع القيد المنذور مطلقاً.

ويستفاد من قوله: «فأقلّ ما يجزئه ركعتان» أنه لو صلّى أزيد من ركعتين صحّ، وهو كذلك مع إتيانه بهيئة مشروعة في الواجب أو الندب على الوجهين، كالثلاث والأربع بتشهدين وتسليم.

وربما قيل: إنه لا يجزئ إلّا ركعتان؛ لأنّ المنذور نفل صار واجباً، ولم يتعبد في النوافل إلّا بالركعتين غير ما نصّ عليه. وهو ضعيف جداً؛ لمنع المقدّمتين.

ولو فصل بين الأزيد من الركعتين بالتسليم ففي شرعيّة ما بعد الركعتين بنيّة النذر (3) و جهان، من سقوط الفرض بالركعتين فلا وجه للوجوب، ومن جواز كون الواجب أمراً كلّيّاً. ودخول بعض أفراده في بعض لا يخرج الزائد عن أن يكون فرداً للكلي وإن جاز تركه، كما في الركعتين والأربع في مواضع التخيير. ومثله الكلام في التسبيحات المتعددة في الأخيرتين والركوع والسجود. وهذا يتجه مع قصد الزائد ابتداء.

ص: 184


1- تقدّم في ص 175.
2- كالمرتضى في الانتصار، ص 146، المسألة 43: والشيخ في الخلاف، ج 1، ص 335، المسألة 86: وابن البرّاج في المهذّب، ج 1، ص 97.
3- في بعض النسخ: «الندب» بدل «النذر».
لو نذر أن يفعل قربةً ولم يعيّنها

• وكذا لو نذر أن يفعل قربةً ولم يعينها كان مخيّراً، إن شاء صام، وإن شاء تصدّق بشيء، وإن شاء صلى ركعتين، وقيل: تجزئه ركعة.

لو نذر الصلاة في وقت مخصوص

ولو نذر الصلاة في مسجد معيّن أو مكان معيّن من المسجد لزم؛ لأنّه طاعة.

أما لو نذر الصلاة في مكان لا مزيّة فيه للطاعة على غيره، قيل: لا يلزم وتجب الصلاة، ويجزئ إيقاعها في كلّ مكان وفيه تردّد.

• ولو نذر الصلاة في وقت مخصوص لزم.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وكذا لو نذر أن يفعل قربةً ولم يعينها كان مخيّراً» إلى آخره.

القربة اسم لما يتقرّب به العبد إلى اللّه تعالى من أعمال البدن،والمال، فيبرّ ناذرها بالصلاة والصوم، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وإفشاء السلام، والتصدّق بمسماها ونحو ذلك.

والكلام في الصلاة المجزئة هنا ما يعتبر في المنذورة بخصوصها من كونها ركعتين أو الاجتزاء بركعة؛ لأنّ المجوّز للركعة هناك يجعلها منفردةً ممّا يتقرب إلى اللّه تعالى، ومن لا يجتزي بها لا يجعلها قربةً منفردةً.

وروى مسمع بن عبد الملك عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن رجل نذر ولم يسمّ شيئاً، قال: «إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صام يوماً، وإن شاء تصدّق برغيف»(1). وهو يؤيّد عدم الاجتزاء بالركعة.

قوله: «ولو نذر الصلاة في وقت مخصوص لزم».

أجمع العلماء على أنّ من نذر الصلاة في وقت مخصوص انعقد النذر وتعيّن الوقت، فلا يجزئ فعلها في غيره، سواء كان أدنى منه مزيّةً أم مساوياً أم أعلى.

واختلفوا فيما لو نذر الصلاة في مكان مخصوص هل يتعين مطلقاً كالوقت، أم لا يتعيّن إلّا مع المزية كالمسجد؟ فقيل بالأوّل (2) ؛ لما قررناه مراراً من أن المنذور هو الصلاة بقيد

ص: 185


1- الكافي، ج 7، ص 463، باب النوادر، ح 18؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 308 - 309، ح 1146.
2- نسبه نجم الدين الزهدري في إيضاح ترددات الشرائع، ج 2، ص 95؛ والصيمري في غاية المرام، ج 3، ص 508 إلى الشيخ في المبسوط، ولم نعثر عليه.

-------------------------------------------------------------------

المكان المخصوص(1)، ولا شبهة في أنّها على هذا الوجه عبادة راجحة وإن كان غيرها أعلى منها.

وقيل بالثاني ؛ لأنّ المنذور لا بد فيه من رجحان، ورجحان المكان هو المزية، فإذا انتفت لم يلزم التقيّد بالمكان، وانعقد نذر الصلاة مطلقاً.

وجوابه ما أشرنا إليه من أنّ المنذور ليس هو المكان خاصّة حتّى يرد أنّه لا رجحان فيه، بل الصلاة الواقعة في المكان (2)، ولا شبهة في رجحانها فينعقد نذرها، كالصلاة المنذورة في الوقت المعيّن مطلقاً.

وفرّق القائلون بتعين الوقت دون المكان بأن الشرع جعل الزمان سبباً للوجوب بخلاف المكان، فإنّه من ضرورة الفعل لا سببية فيه.

ويضعّف بأنّه لا يلزم من سببية بعض الأوقات بنص الشارع مزيّة في بعض الصلوات سببية الوقت الذي يعينه الناذر، فإنّ هذا الوقت المعين بالنذر ليس سبباً في وجوب المنذور قطعاً (3) وإنّما سببه النذر والزمان والمكان أمران عارضان مطلقهما من ضرورات الفعل ومعينهما بتعيين الناذر، فأيّ رابطة بين سببية الوقت للصلوات الواجبة بالأصل وبين الوقت الذي هو بتعيين الناذر؟

وأجيب بأن السببية في الوقت حاصلة وإن كان ذلك بالنذر؛ لأنا لا نعني بالسببيّة إلّا توجّه الخطاب إلى المكلّف عند حضور الوقت وهو حاصل هنا، ولا يتصوّر مثل ذلك في المكان إلّا تبعاً للزمان.

وفيه نظر؛ لأنّ الوقت المعين بالنذر إذا كان مطلقاً - كيوم الجمعة - فتوجه الخطاب إلى الناذر بالفعل عند دخول الجمعة ليس على وجه التعيين بل الأمر فيه كالنذر المطلق بالنسبة إلى العمر غايته أنّ هذا مختصّ بالجمع الواقعة في العمر، فيتوجه الخطاب فيه على

ص: 186


1- انظر ص 157.
2- انظر ص 157.
3- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «مطلقاً» بدل «قطعاً».

-------------------------------------------------------------------

حدّ توجهه على تقدير تعيين المكان من دون الزمان، بل هنا أقوى؛ لأنّ الخطاب متوجه إليه بسبب صيغة النذر في أن يؤدي الفعل في ذلك المكان ويسعى في تحصيله؛ لقدرته عليه في كلّ وقت بحسب ذاته وإن امتنع بحسب أمر عارض على بعض الوجوه، بخلاف الزمان، فإنّه لا قدرة له على تحصيله، وهما مشتركان في أصل تقييد العبادة المنذورة بهما، فيجب تحصيلها على الوجه الذي عينه؛ عملاً بعموم الأوامر الدالّة على الوفاء بالنذر(1) على وجهه ؛إذ العبادة الخارجة عن قيدهما غير منذورة، وإنّما المنذور العبادة في ضمن القيد.

إذا تقرّر ذلك، فإن قلنا بتعيّن ذي المزية خاصّة لم يصحّ له العدول إلى ما دونه ولا إلى مساویه قطعاً. وهل ينعقد بالنسبة إلى ما فوقه؟ فيه وجهان نعم؛ لأنّه مأمور بإيقاعها فيه والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، والحصولان متضادان؛ لتضاد الأكوان، والنهي في العبادة مفسد.

وقيل: لا، بل يجوز العدول إلى الأعلى؛ لأنّ نسبة ذي المزية إلى الأعلى كنسبة ما لا مزيّة فيه إليه، والتقدير : أنا قد جوّزنا العدول عمّا لا مزية فيه، فكذا هنا.

وأجيب عن الأوّل بأنه إن أراد بالأمر بإيقاعها فيه مطلقاً فهو عين المتنازع، وإن أراد في حالة ما لم يدلّ على مطلوبهم.

وعن الثاني بمنع اتحاد النسبتين؛ لأنّه في المتنازع منعقد في الجملة، وأما ما لا مزيّة فيه لا ينعقد عندهم أصلاً.

والحقّ أنّ النذر تعلّق بالصلاة مشخّصةً بالكون المخصوص مستجمعةً لشرائطه، فلا وجه للعدول عن مقتضاه.

ودعوى أن المكان على هذا الوجه كالمباح فلا ينعقد نذره قد بينا فساده، فإنّ المنذور

ص: 187


1- الحجّ (22) 29؛ الإنسان (76): 7؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1149 و 1151: الاستبصار، ج 4. ص 55، ح 190.

مسائل العتق

• إذا نذر عتق عبد مسلم لزم النذر. ولو نذر عتق كافر غير معيّن لم ينعقد. وفي المعين خلاف، والأشبه أنه لا يلزم.

-------------------------------------------------------------------

ليس هو المكان وإنّما هو العبادة مشخّصةً به، وهي بدونه غير منذورة ولا مقصودة أصلاً. فظهر ترجيح عدم إجزاء فعلها في غيره مطلقاً.

قوله : «إذا نذر عتق عبد مسلم لزم النذر» إلى اخره.

لا إشكال في صحة نذر عتق المسلم؛ لأنّه من الطاعات المأثورة والعبادات المهمة، والثواب عليه عتق كلّ عضو من المعتق بعضو من المعتق من النار، كما تقدّم(1).

وإنّما الكلام في نذر عتق الكافر، فقد اختلف الأصحّاب فيه على أقوال فذهب الأكثر ومنهم الشيخان في المقنعة (2) وكتابي الأخبار (3)، والمرتضى(4)، والأتباع(5)، وابن إدريس(6)، والمصنّف (رحمهم اللّه) - إلى المنع من عتقه مطلقاً، بنذر وغيره معيّنا وغير معين؛ لأنّه خبيث(7) وعتقه إنفاق له في سبيل اللّه، وقد نهى اللّه تعالى عن إنفاق الخبيث، والنهي للتحريم فيفسد؛ لأنّه عبادة فنذره كذلك؛ ولأن الكافر لا قربة في عتقه فلا ينعقد نذره؛ إذ لا عتق إلّا ما أريد به وجه اللّه.

والقول بصحة نذر عتق الكافر المعيّن للشيخ في النهاية (8)؛ محتجاً عليه برواية

ص: 188


1- تقدّم في ج 8، ص 303.
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 548.
3- الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام، ج 8، ص 219، ذيل الحديث 783؛ والاستبصار، ج 4، ص 2، ذيل الحديث 2.
4- الانتصار، ص 372، المسألة 216.
5- منهم الحلبي في الكافي في الفقه، ص 318؛ وسلّار في المراسم، ص 191؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 341.
6- السرائر، ج 3، ص 4.
7- البقرة (2): 267: «وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ» الآية.
8- النهاية، ص 544 و 565.

-------------------------------------------------------------------

الحسن بن صالح أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أعتق عبداً له نصرانياً فأسلم حين أعتقه(1)، بحملها على ما لو نذر عتقه، جمعاً بذلك بينها وبين رواية سيف بن عميرة أنه سأل الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): أيجوز للمسلم أن يعتق مملوكاً مشركاً؟ قال: «لا» (2) بحمل الأولى على النذر والثانية على عدمه. ولما كانت رواية الجواز دالّة على كافر معيّن خصه به مضافاً إلى أنّ عتق المعين يرجى به إسلامه بخلاف المطلق.

ولا يخفى عليك ضعف هذه الأدلّة، خصوصاً دليل النذر؛ إذ لا إشعار في الروايات بالنذر أصلاً ورأساً. والجمع بينها - مع أنّه لا حاجة إليه لضعف السند - ممكن بدون ذلك؛ إذ لا يلزم من المنع من عتق المشرك المنع من عتق الكافر مطلقاً. وآية إنفاق الخبيث (3) لا تدلّ على النهي عن عتق الكافر بوجه إمّا لاختصاصها بالصدقة الواجبة كما ذكره المفسّرون(4)، أو لأنّ عتقه إنفاق لماليّته لا لمعتقده الخبيث. وحينئذٍ فلا مانع من عتقه، فيصح نذره. وقد تقدّم البحث في ذلك محرّراً في كتاب العتق(5).

واعلم أنّ ظاهر عبارة المصنّف وغيره(6) يقتضي أنه لا خلاف في عدم صحة نذر غير المعين، وإنّما الخلاف في المعين. وكأن وجهه أنّ غير المعين لا يتصوّر القربة فيه، بل وصف المنذور المطلق بالكفر يشعر بعليّة الوصف في الحكم، وهو منافٍ للقربة؛ لأنّه بمنزلة صلته

ص: 189


1- الكافي، ج 6، ص 182، باب عتق ولد الزنى والذمي والمشرك...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 219 ح 783؛ الاستبصار، ج 4 ص 2، ح 2.
2- الفقيه، ج 3، ص 142 - 143، ح 3526؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 218، ح 782؛ الاستبصار، ج 4، ص 2، ح 1.
3- البقرة (2): 267.
4- تفسير القمي، ج 1، ص 100؛ تفسير العياشي، ج 1، ص 273؛ التبیان، ج 2، ص 344 مجمع البيان، ج 2، ص 380 - 381، ذيل الآية 267 من سورة البقرة (2).
5- تقدّم في ج 8، ص 321 وما بعدها.
6- قواعد الأحكام، ج 3، ص 294 - 295.

• ولو نذر عتق رقبة أجزأته الصغيرة والكبيرة، والصحيحة والمعيبة، إذا لم يكن العيب موجباً للعتق.

• ومن نذر أن لا يبيع مملوكاً لزمه النذر وإن اضطر إلى بيعه قيل: لم يجز. والوجه الجواز مع الضرورة.

-------------------------------------------------------------------

لكونه كافراً، ولا ريب في تحريمه، بخلاف المعين، فإنه قد يحصل من خصوصيّات بعض الأشخاص ما يوجب ظنّ صلاحه بالعتق كما اتّفق لمن أعتقه عليّ، فيتجه قصد القربة فيه.

مضافاً إلى أن الحامل على صحة نذر عتق الكافر المعيّن الرواية التي نزّلها الشيخ على النذر، فكأن تخصيص الخلاف به لذلك.

ولمانع أن يمنع من عدم إمكان فرض القربة في الكافر المطلق، ومن عدم إمكان إسلامه ومن خروجه من عموم أدلة جواز النذر(1) ووجوب الوفاء به (2) وصحّة العتق (3)؛ لقصور ما استدلّوا به على إخراجه من الحكم.

قوله: «ولو نذر عتق رقبة أجزأته الصغيرة والكبيرة» إلى آخره.

اسم الرقبة يتناول جميع ما ذكر، وكذلك يتناول الذكر والأنثى ويختصّ بتمام الشخص فلا يجزئ البعض؛ لعدم صدق اسم الرقبة على البعض لغةٌ ولا عرفاً.

وتقييد المعيب بما إذا لم يكن العيب موجباً للعتق كالمستغنى عنه؛ لأنّ العيب الموجب للعتق يحكم معه بالعتق قبل أن يعتق عن النذر، والبحث في النذر عن عتق الرقيق لا عتق الحرّ، وليس بين الحكم بكونه معيباً وبين انعتاقه أن يحكم فيه بعدم جواز عتقه عن النذر.

قوله: «ومن نذر أن لا يبيع مملوكاً لزمه النذر» إلى آخره.

ص: 190


1- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 317 - 321، الباب 17 من كتاب النذر والعهد.
2- الحجّ (22): 29؛ الإنسان (76): 7؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1149 و 1151: الاستبصار، ج 4، ص 55، ح 190.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 9 - 12 و 14، الباب 1 و 4 من كتاب العتق.

• ولو نذر عتق كلّ عبد قديم لزمه إعتاق من مضى عليه في ملكه ستة أشهر.

-------------------------------------------------------------------

القول بعدم جواز بيعه وإن اضطر إليه للشيخ في النهاية(1) وتبعه تلميذه القاضي (2)؛ استناداً إلى رواية الحسن بن علي - وهو الوشاء - عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: إنّ لي جارية ليس لها منّي مكان ولا ناحية، وهي تحتمل الثمن، إلّا أني كنت حلفت فيها بيمين، فقلت: للّه عليّ أن لا أبيعها أبداً، ولي إلى ثمنها حاجةً مع تخفيف المؤونة. فقال: «ف للّه بقولك»(3).

وفي الرواية - مع قطع النظر عن سندها - قصورها عن الدلالة، فإنّ الحاجة إلى ثمنها قد لا تبلغ حدّ الاضطرار إليه مع قرينة قوله: «لا مكان لها مع خفّة المؤونة» على ضعف الحاجة.

وكيف كان، فالاعتماد على ما اتّفق عليه من القاعدة المقرّرة في أنّ النذر واليمين لا ينعقدان مع كون خلافهما أرجح في الدين أو الدنيا، ولا مخصص لهذه القاعدة المتّفق عليها إلّا هذه الرواية. فالقول بالجواز هو الصحيح، وعليه سائر المتأخّرين (4).

قوله: «ولو نذر عتق كلّ عبد قديم لزمه إعتاق من مضى عليه في ملكه ستّة أشهر».

هذا الحكم مشهور بين الأصحّاب لا نعلم فيه مخالفاً، وربما كان إجماعاً. وهو مروي من طريق ضعيف عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5). وقد تقدم البحث فيه في كتاب العتق (6).

والحكم مختصّ بعتق المملوك، فلو نذر الصدقة بالمال القديم ونحو ذلك رجع فيه إلى العرف.

ص: 191


1- النهاية، ص 567.
2- المهذّب، ج 2، ص 412.
3- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1149؛ الاستبصار، ج 4، ص 46، ح 157، مع اختلاف يسير في المصدرين.
4- منهم العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 215، المسألة 49: وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 77؛ وابن فهد الحلّي في المقتصر، ص 325.
5- الكافي 6، ص 195، باب نوادر، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 155، ح 3567؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 231، ح 835.
6- تقدّم في ج 8، ص 339.

مسائل الصدقة

إذا نذر أن يتصدّق واقتصر

• إذا نذر أن يتصدق واقتصر لزمه ما يسمّى صدقةً وإن قلّ. ولو قيّده بقدر تعيّن.

• ولو قال: «بمال كثير» كان ثمانين درهماً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا نذر أن يتصدّق واقتصر لزمه ما يسمّى صدقةً» إلى آخره.

اسم الصدقة يتناول القليل والكثير من المال فيكتفي مع إطلاقها بما يعدّ صدقةٌ. ولا يجزئ الكلمة الطيبة، وتسميتها صدقةً في الأخبار(1) مجاز. وقد تقدّم الكلام فيه والتنبيه على من خالف (2). ولا إشكال في تعيين القدر لو عيّنه في النذر.

قوله: «ولو قال: «بمال كثير» كان ثمانين درهماً».

مستند الحكم رواية أبي بكر الحضر مي قال كنت عند أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فسأله رجل عن رجل مرض فنذر اللّه شكراً إن عافاه اللّه أن يتصدق من ماله بشيء كثير ولم يسم شيئاً، فما تقول؟ قال: «يتصدق بثمانين درهماً، فإنّه يجزئه، وذلك بيّن في كتاب اللّه؛ إذ يقول لنبيّه «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةِ» والكثير في كتاب اللّه ثمانون»(3). وروي عن الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بطريق مرسل أنه أفتى به المتوكل فى واقعة معللاً بالمواطن أيضاً(4).

والحكم مختصّ بالنذر، فلا يتعدّى إلى غيره من الإقرار والوصايا ونحوها، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده. وقد تقدم الكلام على ذلك أيضاً في البابين(5).

والمراد بالدراهم المحمول عليها الشرعيّة؛ لأنّ ذلك هو المراد عند إطلاق الشارع لها. ويحتمل الحمل على المعهود في المعاملة وقت النذر وردّها ابن إدريس إلى ما يتعامل به

ص: 192


1- الكافي، ج 4، ص 4 أبواب الصدقة، ح 11.
2- تقدّم في ص 180 - 181.
3- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 317، ح 1180؛ والآية في سورة البقرة (2): 25.
4- الكافي، ج 7، ص 463 - 464، باب النوادر، ح 21؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 309، ح 1147.
5- تقدّم في الوصايا في ج 5 ص 327، وفي الإقرار في ج 8 ص 548 - 549.

• ولو قال: «خطير» أو «جليل» فسّره بما أراد. ومع تعذّر التفسير بالموت يرجع إلى الوليّ.

-------------------------------------------------------------------

دراهم كانت أم دنانير(1). وهو شاذ. هذا كلّه مع الإطلاق، أما لو قصد نوعاً فلا إشكال في تعينه. والحكم مقصور على نذر الشيء الكثير كما هو مورد الرواية، وفي معناه، أو أولى منه نذر دراهم كثيرة، وفي الرواية المرسلة جعل مورد النذر المال كما فرضه المصنّف وجماعة (2).

وفي تعدّيه إلى غير ذلك، كما لو نذر أن يتصدق بثياب كثيرة أو دنانير كثيرة وجهان، من خروجه عن مورد النصّ المخالف للأصل، ومن أنّ الكثرة إذا ثبتت مقدرة بشيء ثبتت فيما ناسبه، خصوصاً على ما يشعر به التعليل، فإنّه يدلّ على إطلاق الكثير بذلك العدد على كلّ شيء. وبهذا حكم في المختلف (3) و الدروس(4).

ولا يخلو من نظر؛ لأنّ «الكثير» استعمل لغةً وعرفاً فى غير ذلك العدد، ودعوى أن ذلك تقدير شرعي وهو مقدّم عليهما في موضع المنع والمستند من غير الإجماع لا يخلو من قصور، وإن كانت الرواية الأولى قرينة الأمر.

قوله «ولو قال: خطير، أو جليل، فسره بما أراد» إلى آخره.

هذا الوصف وإن كان دالاً عرفاً على زيادة على المتموّل إلّا أنه قابل للتأويل بأن المال خطير في نفسه شرعاً؛ لترتب الكفر على مستحلّ القليل منه، وقطع اليد التي قيمتها خمسمائة دينار بربع دينار منه، وغير ذلك، فيرجع إليه في التفسير، كما تقدّم بحثه في الإقرار(5) لكن هنا له أن يفسّر بما أراده وإن لم يكن قصد شيئاً حالة النذر بخلاف الإقرار، فإن الواجب عليه تفسيره بما يوجب براءة ذمّته بحيث يكون موافقاً للواقع.

ص: 193


1- السرائر، ج 3، ص 61.
2- منهم المفيد في المقنعة، ص 564 - 565؛ والشيخ في النهاية، ص 565 وابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 411.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 210 - 211، المسألة 47.
4- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 124 - 125 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- تقدّم في ج 8، ص 548 - 549.
لو نذر الصدقة في موضع معيّن

• ولو نذر الصدقة في موضع معيّن وجب. ولو صرفها في غيره أعاد الصدقة بمثلها فيه.

-------------------------------------------------------------------

ولو مات قبل التعيين قام الولي - وهو الوارث - مقامه في التعيين، بمعنى أنّ له إحداث التعيين والصدقة بما أراد وإن لم يعلم مراد المورّث؛ لأنّ الواجب في ذمة المورّث أمر كلّي فيتأدى بما يختاره الوارث كما يتأدى بما يختاره المورّث، وكان كما لو نذر الصدقة بمال وأطلق. ولو كان الناذر قد أقرّ أنّه قصد شيئاً معيّنا فلا إشكال في لزومه في حقّه وحقّ الوارث.

قوله: «ولو نذر الصدقة في موضع معيّن وجب» إلى آخره.

إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما إذا اشتمل المكان على المزية وعدمه، والأمر فيه كذلك.

والفرق بين الصدقة والصلاة والصيام أنّ الغرض من الصدقة في المكان المعين الصدقة على أهله، فيكون تعيين المكان في قوّة تعيين المتصدّق عليه، فلا يصحّ العدول عنه وإن كان غيره أفضل منه كما لو نذر الصدقة على شخص معيّن ابتداء، فإنّه لا يجوز العدول عنه إلى غيره، بخلاف الصلاة والصيام، فإنّ العبادة أمر واحد في نفسها وإنّما تتفاضل بالزمان والمكان، فإذا نذرها في مكان لا مزية فيه، فكأنه قد نذرها بوصف مباح أو مرجوح، فلا ينعقد على ما تقرّر. وإن كان التحقيق يقتضي كون متعلّق النذر في الجميع أمراً راجحاً وهو الصلاة المخصوصة أو الصوم المخصوص أو الصدقة كذلك.

ولابدّ من مراعاة المكان في الصدقة زيادة على أهله، فلا تكفي الصدقة على أهله في غيره على الأصحّ؛ لأنّ المنذور هو الصدقة عليهم في المكان لا مطلقاً. ويجيء على القول الآخر - من عدم تعيّن المكان مع عدم المزية أو مطلقاً - احتمال عدم اعتباره هنا أيضاً إذا صرف المنذور على أهله بأن خرجوا من المكان فدفعه إليهم خارجه؛ نظراً إلى أنّ العبادة المقصودة هي الصدقة عليهم وقد حصل، وتعيين المكان مع عدم المزية كتعيين المكان للصلاة كذلك. وهو ضعيف بما أشرنا إليه.

ص: 194

لو نذر أن يتصدق بجميع ما يملكه

• ومن نذر أن يتصدق بجميع ما يملكه لزمه النذر، فإن خاف الضرر قوّم ماله، وتصدّق أوّلاً فأولاً، حتّى يعلم أنه قام بقدر ما لزم.

-------------------------------------------------------------------

ثمّ على تقدير صرفه في غيره عليهم أو على غيرهم لا يقع مجزياً، فيجب إعادته فيه بمثله. ثمّ إن كان معيّنا كفّر وإلّا فلا. ومحلّ الصدقة أهل ذلك المكان ومن حضره، وفي اعتبار فقرهم وجهان أجودهما العدم. ولا إشكال لو قصد التعميم أو التخصيص.

قوله: «ومن نذر أن يتصدق بجميع ما يملكه لزمه النذر» إلى آخره.

قد عرفت أن من شرط المنذور كونه طاعةً، فلو كان مرجوحاً لم ينعقد(1). ولازم هذا أن من نذر أن يتصدّق بجميع ماله يلزمه منه ما لا يضر بحاله في الدين ولا في الدنيا، وما أضرّ به أو كان ترك الصدقة به أولى لم ينعقد نذره.

ولكن قد حكم المصنّف والجماعة (2) بأنّ من نذر أن يتصدّق بجميع ما يملكه لزم نذره مطلقاً، فإن لم يخف ضرراً من الصدقة لزمه أن يتصدق به، وإن خاف الضرر قوم ماله، وجاز له التصرف فيه والانتفاع به ويضمن قيمته في ذمّته، ثمّ يتصدّق به على التدريج إلى أن يتمّ.

والمستند صحيحة محمّد بن يحيى قال: كنا عند أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) جماعة إذ دخل عليه رجل من موالي أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ جلس وبكى، ثمّ قال له: جعلت فداك إنّي كنت أعطيت اللّه عهداً إن عافاني اللّه من شيء كنت أخافه على نفسي أن أتصدق بجميع ما أملك، وأنّ اللّه عافاني منه، وقد حولت عيالي من منزلي إلى قبة في خراب الأنصار وقد حملت كلّ ما أملك فأنا بائع داري وجميع ما أملك وأتصدق به؟ فقال له أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انطلق وقوّم منزلك وجميع متاعك وما تملك بقيمة عادلة واعرف ذلك، ثمّ اعمد إلى صحيفة بيضاء فاكتب فيها جملة ما قومته، ثمّ انطلق إلى أوثق الناس في نفسك، وادفع إليه الصحيفة وأوصه ومره إن حدث بك حدث الموت أن يبيع منزلك وجميع ما تملك فيتصدق به عنك، ثمّ ارجع

ص: 195


1- راجع ص 156.
2- منهم الشيخ في النهاية، ص 566 - 567: وابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 412؛ والعلّامة في قواعد الأحكام ج 3، ص 294.

-------------------------------------------------------------------

إلى منزلك وقم في مالك على ما كنت فيه، فكل أنت وعيالك مثل ما كنت تأكل. ثمّ انظر إلى كلّ شيء تتصدق به فيما تستقبل من صدقة أو صلة قرابة أو من وجوه البر فاكتب ذلك كلّه وأحصه، فإذا كان رأس السنة فانطلق إلى الرجل الذي وصيت إليه فمره أن يخرج الصحيفة. ثمّ اكتب فيها جملة ما تصدقت به وأخرجت من صلة قرابة أو برّ في تلك السنة، ثمّ افعل ذلك في كلّ سنة حتّى تفي للّه بجميع ما نذرت فيه، ويبقى لك منزلك ومالك إن شاء اللّه تعالى». قال، فقال الرجل: فرجت عني يا ابن رسول اللّه جعلني اللّه فداك(1).

وهذا الخبر كما ترى ظاهر في حصول الضرر على الناذر بالصدقة بجميع ماله،ولم يحكم له (عَلَيهِ السَّلَامُ) ببطلان النذر في شيء منه، وإنّما دفع عنه الضرر بتقويمه على نفسه والصدقة به على التدريج، وهذا حكم خارج عن قاعدة النذر، إلّا أنه لا سبيل إلى ردّه في موضع النصّ؛ لصحة طريقه وتلقي الأصحّاب له بالقبول، فلا تجب الصدقة بما لا تضره الصدقة به عاجلاً، ولا يبطل النذر فيما تضرّه الصدقة بعينه إذا اندفع (2) الضرر بتقويمه والصدقة بالقيمة.

لكن يبقى الكلام فيما خرج عن النص، كما لو لم يكن نذر الصدقة بجميع ماله بل ببعضه، وكان الأولى خلافه والضرر يندفع بتقويمه، فهل يعمل به كما في الرواية أم يبطل النذر؟ وجهان، من مشاركته للمنصوص في المقتضي، وكون كلّ فرد من أفراد ماله على تقدير نذر الجميع منذور الصدقة، ولم ينظر إلى آحاده وإنّما نظر إلى المجموع ورجع فيه إلى التقويم. ومن خروجه عن الأصل فيقتصر فيه على مورده، ولا يلزم من الحكم في الجميع الحكم في الأبعاض؛ لأنّهما غيران وهذا أجود.

وأمّا ما قيل من الإشكال على انعقاد هذا النذر من حيث إن الصدقة بجميع المال مكروهة

ص: 196


1- الكافي، ج 7، ص 458 - 459، باب النذور، ح 23؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 307 - 308، ح 1144.
2- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «إذ لا يدفع» بدل «إذا اندفع».

-------------------------------------------------------------------

كما حقّق في بابه(1)، والمكروه لا ينعقد نذره، وقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «خير الصدقة ما أبقت غنى»(2).

وإنّ قوله: «إنّه يتصدّق بجميع ما يملكه» وقع الفعل فيه بصيغة المستقبل فيشمل المتجدّد، ويلزم منه كون لحوق الضرر وعدم التخلّص منه بالتقويم، بل التقويم ظاهر فيما يملكه حال النذر، والصيغة لا تدلّ عليه.

وإنّ العدول إلى التقويم لدفع الضرر، وهو ينافي انعقاد النذر، فيرجع الفرع على أصله بالإبطال.

فجوابه: أنّ المكروه هنا مكروه العبادة، والرجحان معها متحقّق، وإنّما غايتها نقصان ثوابها عن غير المكروه، فلا ينافي انعقاد نذره؛ لأنّه عبادة راجحة في الجملة.

وأمّا صيغة تملكه فهي كما تصلح للاستقبال تصلح للحال، فهي مشتركة بينهما، والمشترك لا يستعمل في معنييه حقيقةً، بل في أحدهما بالقرينة، وهي هنا موجودة على إرادة الحال، بل صريحة فيه بدليل التقويم الذي لا يمكن فرضه في المستقبل من المال.

وأمّا كون الضرر مانعاً من انعقاد النذر فحق حيث لا يمكن دفعه بوجه، وهنا أمكن دفعه بالتقويم، فيبقى رجحان الصدقة لا مانع منه، وقد ورد به النصّ الصحيح، فتعين القول به.

وإطلاق النصّ (3) يقتضي عدم وجوب تعجيل الصدقة بعين ما لا يضر، بل يكتفى بتدريجها على هذا التقدير مطلقاً.

وظاهر الفتاوى مبنية عليه، وفي بعضها تصريح به. ولو قيل بوجوب تعجيل ما لا يضرّه من غير تقويم كان حسناً؛ لأنّ فيه جمعاً بين ما أُطلق من النصّ هنا(4) وبين القواعد المقرّرة المتّفق عليها في غيره.

ص: 197


1- راجع قواعد الأحكام، ج 3، ص 404 وتذكرة الفقهاء، ج 20، ص 105 - 106، المسألة 53؛ وجامع المقاصد ج 9، ص 133.
2- مسند أحمد، ج 4، ص 455، ح 15149: المعجم الكبير، الطبراني، ج 12، ص 148 - 149، ح 12726.
3- تقدّم النصّ في ص 195، وهو صحيحة محمّد بن يحيى.
4- تقدّم النصّ في ص 195، وهو صحيحة محمّد بن يحيى.
لو نذر أن يخرج شيئاً من ماله في سبيل الخير

• ومن نذر أن يخرج شيئاً من ماله في سبيل الخير تصدق به على فقراء المؤمنين، أو في حجّ أو زيارة أو في شيء من مصالح المسلمين.

مسائل الهدي

إذا نذر أن يهدي

• إذا نذر أن يهدي بَدَنةٌ انصرف الإطلاق إلى الكعبة؛ لأنّه الاستعمال الظاهر فى عرف الشرع، ولو نوى منى لزم ولو نذر الهدي إلى غير الموضعين لم ينعقد؛ لأنّه ليس بطاعة.

ولو نذر أن يهدي واقتصر انصرف الإطلاق في المهدي إلى النعم، وله أن يهدي أقلّ ما يسمّى من النعم هدياً. وقيل: كان له أن يهدي ولو بيضة، وقيل: يلزمه ما يجزئ فى الأضحيّة والأوّل أشبه.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ومن نذر أن يخرج شيئاً من ماله في سبيل الخير تصدق به» إلى آخره.

«السبيل» لغةً: الطريق(1). والمراد به هنا ما كان وصلة إلى الخير والثواب، وطريقاً إليه من أنواع القرب، كالصدقة على الفقراء، ومعونة الحاج والزائر والغازي وطالب العلم، وعمارة مسجد أو مدرسة أو رباط أو طريق، أو نحو ذلك من وجوه القرب.

وحصر الشيخ (رحمه اللّه) سبيل الخير في الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين المصلحة والمكاتبين وجعل سبيل الثواب الفقراء والمساكين، ويبدأ بأقاربه، و «سبيل اللّه» الغزاة والحجّ والعمرة (2).

والأقوى اشتراك الثلاثة في تناول كلّ قربة، إلّا أن يقصد الناذر غير ذلك.

قوله: «إذا نذر أن يهدى بَدَنةٌ انصرف الإطلاق إلى الكعبة» إلى آخره.

إذا نذر أن يهدي، فإما أن يعيّن الهدي كقوله: «بدنة» أو «بقرة» أو نحو ذلك، أو يطلق.

ص: 198


1- الصحاح، ج 3، ص 1724، «سبل».
2- المبسوط، ج 3، ص 115.

-------------------------------------------------------------------

وعلى التقديرين إمّا أن يعين المكان المهدي فيه، أو يطلق. فهنا صور أربع:

الأولى: أن ينذر هدياً معيّنا كالبدنة ويعين مكانها، فإن كان المعين مكة ومنى تعيّن إجماعاً؛ لأنّهما محلّ الهدي شرعاً. وإن عيّن غيرهما ففي تعينه خلاف يأتي الكلام فيه(1).

الثانية: أن يعيّن الهدي ولا يعيّن المكان، فينصرف الإطلاق إلى مكة؛ لأنّها محله شرعاً قال تعالى: «ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ»(2)، وقال تعالى: «هَدْيَا بَلغَ الْكَعْبَةِ»(3). وروى الشيخ في الصحيح عن محمّد - ولعله ابن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قال: عليه بَدَنة ولم يسمّ، أين ينحر؟ قال: «إنّما المنحر بمنى يقسمونها بين المساكين»(4). وعمل الأصحّاب على الأوّل ما لم يسمّ «منى» ولو بالقصد فينصرف إليها وإلّا فلا. والرواية باشتراك محمّد لا تصلح معارضاً، وصحتها إضافية كما نبهنا عليه فيما سلف.

الثالثة: أن يطلق الهدي والمكان فيقول: «اللّه عليّ أن أهدي» فعلى ما يحمل فيه قولان: أحدهما - وهو الأشهر - أن يحمل على النعم؛ لأنّ الهدى شرعاً عبارة عن ذلك، فيحمل اللفظ على المعنى الشرعي كنذر الصلاة.

ثم على هذا القول هل يعتبر في الحيوان أن يكون في السن والصفات والسلامة من العيوب بحيث يجزئ في الأضحيّة، أم يكتفى بمطلق الحيوان بحيث يسمّى هدياً؟ قولان، اختار المصنّف (رحمه اللّه) الثاني؛ نظراً إلى صدق الاسم وأصالة البراءة من الزائد.

وذهب الشيخ (رحمه اللّه) في أحد قوليه إلى الأوّل؛ مستدلاً عليه في الخلاف بإجماع الفرقة(5). وقد يوجّه بأنّ الهدي شرعاً عبارة عن ذلك، فيحمل اللفظ عليه كما حمل على كونه من النعم.

ص: 199


1- يأتي في ص 204.
2- الحجّ (22): 33.
3- المائدة (5): 95.
4- الفقيه، ج 3، ص 372، ح 4309؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 314، ح 1167.
5- الخلاف، ج 1، ص 197، المسألة 8.

-------------------------------------------------------------------

ويفهم من اختيار المصنّف الاجتزاء بما يسمّى هدياً من النعم وجعله مقابلاً للقول باشتراط جمعه لشروط الأضحيّة أنّ المراد بالهدي هنا غير الهدي المعتبر في الحجّ، وإلّا لكان القولان واحداً؛ لأنّ المعتبر في الأضحيّة من الشرائط هو المعتبر في الهدي من السنّ والسلامة من العيوب وغيرها.

والمشهور في المسألة أن من قال بوجوب الهدي من النعم اعتبر فيه شروط الأضحيّة وجعله مقابلاً للقول الثاني لا غير.

والقول الثاني في المسألة هو الاجتزاء بكلّ منحة حتّى الدجاجة والبيضة والتمر وغيرها ممّا يتموّل؛ لأنّ اسم الهدي يقع على الجميع لغة(1) وشرعاً، يقال: أهدي بيضةً وتمرة، وقال تعالى: «يَحْكُمُ بِهِى ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيَا بَالِغَ الْكَعْبَة»ِ(2). وقد يحكمان بقيمة عصفور أو جرادة. وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديث الجمعة: «و من راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة»(3)، وهذا اختيار الشيخ في المبسوط(4) مع دعواه في الخلاف الإجماع على الأوّل(5).

ثمّ على القول الأوّل فمحله مكة كما مر. وعلى الثاني وجهان: أحدهما: أنه كذلك؛ نظراً إلى إطلاق اسم الهدي والثاني: جوازه في أي موضع شاء؛ للأصل، وكونه بمنزلة المنحة والهدية؛ ولهذا لم ينحصر في النعم، فيصحّ في غير مكّة.

الرابعة: أن يطلق الهدي ويعيّن المكان. والكلام في الهدي كما سبق.

وأمّا المكان، فإن جعله مكة أو منى فلا إشكال في انعقاده وتعيّنه، وإن عيّنه غيرهما فسيأتي الخلاف فيه.

ص: 200


1- لسان العرب، ج 15، ص 359، «هدی».
2- المائدة (5): 95.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 301، ح 841؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 582 ح 850/10؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 96، ح 351: الجامع الصحيح، ج 2، ص 372، ح 499، وفيها: «قرّب بيضة».
4- لم نجده في المبسوط، وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 225، المسألة 57.
5- الخلاف، ج 1، ص 197، المسألة 8.
لو نذر أن يهدي إلى بيت اللّه غير النعم

• ولو نذر أن يهدي إلى بيت اللّه سبحانه غير النعم، قيل: يبطل النذر، وقيل: يباع ذلك ويصرف في مصالح البيت.

أمّا لو نذر أن يهدي عبده أو جاريته أو دابته بيع ذلك وصرف ثمنه في مصالح البيت، أو المشهد الذي نذر له، وفي معونة الحاجّ أو الزائرين.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو نذر أن يهدي إلى بيت اللّه سبحانه غير النعم» إلى آخره.

القول بالبطلان لابن الجنيد(1) وابن أبي عقيل (2) وابن البرّاج (3)؛ لأنّه لم يتعبد بالإهداء إلّا في النعم، فيكون نذراً لغير المتعبّد به فيبطل.

ويؤيّده رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيها: «فإن قال الرجل: أنا أُهدي هذا له الطعام فليس بشيء، إنّما تهدى البدن»(4). لكن فيها - مع ضعف السند بعلي بن أبي حمزة(5) - حصره الإهداء في البدن، وهو خلاف الإجماع؛ لأنّ غيرها من النعم ممّا يهدى قطعاً.

وأمّا القول ببيعه وصرف ثمنه في مصالح البيت فنقله المصنّف عن بعضهم، ولم نعلم قائله. نعم، صرف ما يهدى إلى المشهد وينذر له إلى مصالحه ومعونة الزائرين حسن، وعليه عمل الأصحّاب. ويبدأ بمصالح المشهد أولاً وعمارته، ثمّ يصرف الفاضل إلى زوّاره لينفقوه في سفر الزيارة لا غير مع حاجتهم إليه.

وذهب الشيخ في المبسوط إلى صرف الهدي إلى بيت اللّه إلى مساكين الحرم(6)، كالهدي من النعم إذا لم يعين له في نذره مصرفاً غيرهم. ورجحه العلّامة في المختلف والتحرير(7).

ص: 201


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 226، المسألة 57.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 227، المسألة 57.
3- المهذّب، ج 2، ص 409.
4- الكافي، ج 7، ص 455، باب النذور، ج 3؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303، ح 1126.
5- خلاصة الأقوال، ص 362 - 363، الرقم 1426، وص 421، الرقم 1717.
6- لم نجده في المبسوط، وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 224، المسألة 57.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 227، المسألة 57؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 361، الرقم 5941، وفيه : ويحتمل.

-------------------------------------------------------------------

وولده(1)، والشهيد(2). وهو الأصحّ.

ويدلّ عليه صحيحة عليّ بن جعفر قال: سألته عن رجل جعل جاريته هدياً للكعبة كيف يصنع؟ قال: «إنّ أبي أتاه رجل جعل جاريته هدياً للكعبة، فقال: مر منادياً يقم على الحجر فينادي: إلّا من قصرت به نفقته أو قطع به أو نفد طعامه فليأت فلان بن فلان، وأمره أن يعطي أوّلاً فأوّلاً حتّى ينفد ثمن الجارية»(3). ولا خصوصيّة للجارية فيكون غيرها كذلك؛ لعدم الفارق، بل للإجماع على عدمه.

والمصنّف (رحمه اللّه) وجماعة خصّوا مورد الخلاف بما إذا نذر أن يهدي غير النعم وغير عبده وجاريته ودابّته(4)، بأن نذر أن يهدي ثوباً أو دراهم أو طعاماً أو نحو ذلك. وإلّا فالأوّل لا يبطل إجماعاً، والثاني - وهو الثلاثة المذكورة - يباع قطعاً ويصرف في مصالح البيت وفي معونة الحاج والزائرين إن(5) كان النذر لمشهد، وفي الفرق بينها وبين غيرها نظر.

ويؤيد صرفه إلى مصالح البيت رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن الرجل يقول: هو يهدي إلى الكعبة كذا وكذا، ما عليه إذا كان لا يقدر على ما يهديه؟ قال: «إن كان جعله نذراً ولا يملكه فلا شيء عليه، وإن كان ممّا يملكه غلام أو جارية أو شبهه باعه واشترى بثمنه طيباً فيطيب به الكعبة، وإن كان دابّة فليس عليه شيء»(6).

لكن في قوله «أو شبهه» ما يفيد زيادةً على الثلاثة. وفي إخراجه الدابّة من الحكم وحكمه

ص: 202


1- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 73.
2- غاية المراد، ج 3، ص 320 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
3- تهذيب الأحكام، ج 5، ص 440. ح 1529.
4- راجع قواعد الأحكام، ج 3، ص 293.
5- في بعض النسخ والطبعة الحجريّة: «وإن» بدل «إن».
6- الفقيه، ج 3، ص 374، ح 4318؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1150؛ الاستبصار، ج 4، ص 55 – 56، ح 194.
لو نذر نحر الهدي بمكّة أو بمنى، أو نذر بغير هذين

• ولو نذر نحر الهدي بمكّة وجب وهل يتعيّن التفرقة بها؟ قال الشيخ نعم؛ عملاً بالاحتياط وكذا بمنى.

ولو نذر نحره بغير هذين قال الشيخ لا ينعقد. ويقوى أنّه ينعقد؛ لأنّه قصد الصدقة على فقراء تلك البقعة، وهو طاعة.

-------------------------------------------------------------------

بعدم لزوم شيء على تقديرها مخالفة للجميع، وفي طريقها محمّد بن عبداللّه بن مهران وهو ضعيف جدّاً(1). وبها احتج بعضهم للقول المجهول(2)، لكنّها قاصرة عن الدلالة من حيث تخصيصها الحكم بما ذكر فيها ممّا لا ينطبق على أحد الأقوال.

قوله: «ولو نذر نحر الهدي بمكّة وجب» إلى آخره.

هنا مسألتان:

الأولى: لا خلاف في انعقاد نذر نحره بمكّة ومنى حيث يقصدهما؛ لأنّ النحر والذبح بهما عبادة، وهل يلزمه تفريق لحمه بهما؟ قال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط وأكثر المتأخّرين : نعم (3)؛ لأنّ إطلاق الهدي يقتضي ذلك، قال اللّه تعالى: هَدْيَا بَالغَ الْكَعْبَةِ»(4). ولأنّ المقصود من الذبح والنحر ذلك، فلو لم يلزمه التفريق لم يصحّ النذر؛ إذ لا فائدة ولا أدب في جعل الحرم مجزرة بدون الصدقة به.

وقيل: يجوز الاقتصار على ذبحه أو نحره، وهو خيرة المختلف (5)؛ لأنّ المنذور هو ذلك، والأصل براءة الذمّة من وجوب شيء آخر غير ما نذره ويمنع من كون الذبح أو النحر نفسه ليس بطاعة في ذلك المكان؛ ولهذا لا يجزئ من نذر الهدي أن يتصدق به حيّاً كالهدي الواجب بالأصل: لأنّ في ذبحه قربة وله نيّة برأسه.

ص: 203


1- رجال النجاشي، ص 350، الرقم 942؛ خلاصة الأقوال، ص 395، الرقم 1595.
2- راجع إيضاح الفوائد، ج 4، ص 74.
3- لم نجده في المبسوط، وحكاه عنه أيضاً العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 223، المسألة 56.
4- المائدة (5): 95.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 224، المسألة 56.
لو نذر أن يهدي بَدنَةٌ

• ولو نذر أن يهدي بَدَنةٌ، فإن نوى من الإبل،لزم، وكذا لو لم ينو؛ لأنّها عبارة عن الأُنثى من الإبل.

-------------------------------------------------------------------

الثانية: لو نذر النحر أو الذبح بغير مكة ومنى من الأرض ففي انعقاده قولان:

أحدهما - وهو قول الشيخ في المبسوط (1) - لا ينعقد؛ لعدم التعبد بذلك شرعاً؛ ولأنّ متعلّق النذر طاعة، ولا طاعة في غير البلدين.

وقوّى المصنّف والأكثر الانعقاد، وهو اختيار الشيخ في الخلاف (2)؛ لعموم الأمر بالوفاء بالنذر(3)، وخصوص صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل قال: عليه بدنة ينحرها بالكوفة فقال: «إذا سمّى مكاناً فلينحر فيه»(4). وهذا أقوى. وقد يستدلّ به على انعقاد نذر المباح؛ لأنّ الذبح في غير البلدين ليس طاعةً بمجرّده.

وهل يلزمه مع ذلك تفرقته في فقراء تلك البقعة؟ قال المصنّف (رحمه اللّه): نعم؛ محتجاً بأن المقصود من الذبح أو النحر ذلك. ويشكل بما مرّ؛ لأنّه ليس بمنذور ولا لازم له، فله التفرقة أين شاء. وهو خيرة المختلف(5). نعم، لو دلّ العرف على التفرقة فيه اتّجه المصير إليه.

ولو نذر الذبح أو النحر مطلقاً فالوجهان. فعلى الانعقاد يجزئه الفعل مطلقاً والتفرقة مطلقاً.

قوله: «ولو نذر أن يهدي بَدَنَةً» إلى آخره.

إذا نذر أن يهدي بدنةٌ فالبحث فيه من وجهين:

أحدهما: أنّ البدنة ما هي؟ فالذي عليه الأصحّاب أنّها الأنثى من الإبل؛ لأنّها في اللغة كذلك(6)، وليس في العرف ما يخالفه. وقال بعض العامّة : اسم البدنة يقع على

ص: 204


1- لم نجده فيه، وحكاه عنه أيضاً العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 223، المسألة 56.
2- الخلاف، ج 6، ص 196، المسألة 7.
3- الحجّ (22): 29؛ الإنسان (76): 7.
4- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 314، ح 1167.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 224، المسألة 56.
6- في المصادر اللغوية تقع البدنة على الجمل والناقة والبقرة. انظر الصحاح، ج 4، ص 2077؛ والنهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 108 ولسان العرب، ج 13، ص 48، «بدن».

• وكلّ من وجب عليه بَدَنة في نذر، فإن لم يجد لزمه بقرة، فإن لم يجد فسبع شياه.

-------------------------------------------------------------------

الإبل والبقر والغنم جميعاً(1)، فإن نوى شيئاً بعينه فذاك وإلّا تخيّر. ولهم قول آخر أنه يتخير بينها وبين بقرة أو سبع شياه (2)؛ لأنّ المعهود من الشرع إقامة كلّ منها مقام الآخر. والمذهب هو الأوّل. وكونهما بدلاً عنها مع التعذّر لنص آخر (3)لا يقتضي تساويها مطلقاً.

والثاني: هل يشترط فيها الصحة والكمال وغيرهما من شروط الأضحيّة، أم يكفي ما يطلق عليه اسمها لغةً؟ وجهان، قد سلف الكلام فيهما(4)، وبناؤهما على ما تقدّم(5) من أن مطلق النذر هل يحمل على أقلّ واجب من ذلك الجنس أو على أقلّ ما يتقرب به منه؟ ومثله ما لو نذر أن يهدي بقرة أو شاة.

قوله: «وكلّ من وجب عليه بَدنة فى نذر» إلى آخره.

المعتبر من البقرة والشاة ما صدق عليه اسمهما عرفاً. ولا يجزئ البدلان (6) مع التمكّن من البَدَنة عندنا، خلافاً لبعض العامّة، بدعوى أنّ اسم البَدَنة يقع على الإبل والبقر والغنم(7)، أو لأنّ المعهود من الشرع قيام كلّ منها مقام الآخر. وهما ممنوعان.

ولو عجز عن سبع من الغنم وقدر على بعضها فالظاهر وجوب الميسور؛ لأنّه بعض الواجب ولعموم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(8)، بخلاف ما لو قدر على بعض

ص: 205


1- روضة الطالبين، ج 2، ص 592.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 486؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 354، المسألة 8191؛ روضة الطالبين، ج 2، ص 592، وفي المصدرين الأولين فإن لم يجد من الإبل فبقرة، فإن لم يجد فسبع من الغنم. وفي روضة الطالبين: أنه إذا لم يجد الإبل في حالة التقييد يتخير بين البقرة والغنم.
3- الكافي، ج 4، ص 385، باب كفارات ما أصاب المحرم من الوحش، ح 2؛ الفقيه، ج 2، ص 365، ح 2726؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 237، ح 800، وص 481، ح 1711.
4- سبق في ص 199 - 200.
5- تقدّم في ص 175.
6- في «م»: «البقر» بدل «البدلان».
7- روضة الطالبين، ج 2، ص 592، حكاه عن بعض.
8- مسند أحمد، ج 3، ص 162، ح 9239؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 2658، ح 6858؛ صحیح مسلم، ج 2، ص 975. ح 1337/412؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 3، ح 2.

لواحق النذر

إشارة:

وأمّا اللواحق فمسائل:

كفّارة مخالفة النذر

الأولى: • يلزم بمخالفة النذر المنعقد كفّارة يمين، وقيل: كفّارة من أفطر في شهر رمضان. والأوّل أشهر.

• وإنّما تلزم الكفّارة إذا خالف عامداً مختاراً.

إذا نذر صوم سنة معيّنة

الثانية: • إذا نذر صوم سنة معيّنة وجب صومها أجمع، إلّا العيدين وأيّام التشريق إن كان بمنى. ولا تصام هذه الأيّام ولا تقضى. ولو كان بغير منى لزمه صيام أيّام التشريق.

-------------------------------------------------------------------

البَدَنة أو البقرة، فإنّ البدل مقدم على البعض؛ لثبوته شرعاً على تقدير العجز عن مجموع المبدل من غير التفات إلى القدرة على البعض.

قوله: «يلزم بمخالفة النذر المنعقد كفّارة يمين» إلى آخره.

قد تقدّم البحث في هذه المسألة مستوفي في باب الكفّارات(1).

قوله: «وإنّما تلزم الكفّارة إذا خالف عامداً مختاراً».

احترز بالعامد عن المخالف ناسياً، فإنّه لا كفّارة عليه. والجاهل عامد، فكان عليه أن يخرجه؛ لأنّه لا كفّارة عليه أيضاً. وبالمختار عن المكره على المخالفة، سواء الجئ إليها أم

خوف بما يتحقّق به الإكراه. وقد تقدم البحث في ذلك أيضاً (2).

قوله: «إذا نذر صوم سنة معيّنة وجب صومها أجمع إلى قوله - ولا كفّارة».

إذا نذر صوم سنة فله حالتان:

إحداهما أن يعين سنةً متوالية الأيّام، كقوله: «أصوم سنة كذا» أو «سنةٌ من أول شهر كذا إلى مثله» أو «من الغد» فصيامها يقع متتابعاً لحقّ الوقت. ويصوم رمضان عن فرضه إن لم نقل

ص: 206


1- تقدّم في ج 8، ص 94.
2- تقدّم في ص 151 وما بعدها، وراجع ج 7، ص 213.

فلو أفطر عامداً لغير عذر في شيء من أيّام السنة قضاه، وبنى إن لم يشترط التتابع وكفّر، ولو شرط استأنف.

وقال بعض الأصحّاب: إن تجاوز النصف جاز البناء ولو فرّق. وهو تحكّم.

ولو كان لعذر -كالمرض والحيض والنفاس - بنى على الحالين ولا كفّارة.

-------------------------------------------------------------------

بدخوله في النذر، وسيأتي الكلام فيه(1). ويفطر العيدين وأيّام التشريق إن كان بمنى. ولا يجب قضاؤها، بل هي غير داخلة في النذر؛ لأنّ رمضان واجب بغير النذر، والباقي غير قابل للصوم في نفسه.

وإذا أفطرت المرأة لعذر الحيض والنفاس ففي وجوب القضاء قولان(2):

أحدهما لا يجب كيوم العيد وزمان الحيض والنفاس، فيقع مستثنى شرعاً.

والثاني: يجب؛ لأنّ النذر محمول على الواجب شرعاً، وإذا وقع الحيض في الصوم الواجب شرعاً قضي فكذا الواجب بالنذر ويخالف العيد بأنه غير قابل للصوم في نفسه. وهذا أجود ومثله ما لو أفطر للمرض والسفر الضروري.

ولو أفطر في بعض الأيّام بغير عذر أثم وعليه القضاء بغير خلاف والكفّارة. ويبني على ما مضى من الصوم، سواء أفطر لعذر أم لغير عذر، ولا يجب الاستئناف هذا إذا لم يتعرّض للتتابع لفظاً. فأما إذا شرطه مع تعيين السنة ففي وجوب الاستئناف مع الإفطار لغير عذر قولان:

أحدهما - وهو الذي جزم به المصنّف (رحمه اللّه) - وجوبه؛ لأنّ ذكر التتابع يدلّ على كونه مقصوداً فلابدّ من تحصيله، وقد فات بتخلّل الإفطار فيجب تحصيله بالاستئناف وإتمام السنة بعد انقضاء المعين بقدر ما فات منها.

والثاني: لا يجب؛ لأنّ شرط التتابع مع تعيين السنة لغو؛ ولأنّ ما فعله قبل الإفطار وقع

ص: 207


1- يأتي في ص 210 وما بعدها.
2- القول بعدم الوجوب لم نعثر على قائله والقول بالوجوب للعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 288.

-------------------------------------------------------------------

صحيحاً في وقته، وإخلاله بالتتابع لا يؤثر فيما قد حكم بصحته، غايته وجوب القضاء والكفّارة.

والمذهب هو الأوّل. ولا فرق عليه بين وقوع الإفطار بعد تجاوز النصف وعدمه؛ لاشتراك الجميع في المقتضي، وهو الإخلال بالشرط.

والقول الذي نقله المصنّف (رحمه اللّه) بأنّ مجاوزة النصف مزيلة للاستئناف نقله الشيخ في المبسوط عن رواية أصحابنا(1)، ونقله في الدروس عن فتوى الشيخ (2) قياساً على الشهر الذي يكفي مجاوزة نصفه، ومن ثمّ نسبه المصنّف إلى التحكّم؛ لأنّ القياس عنده باطل، فيكون قولاً بغير دليل صالح.

وأجاب في الدروس عن التحكم بأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى أو من باب الحقيقة الشرعيّة المطردة، كما طرد الكثير في الإقرار (3).

وفيهما نظر بيّن؛ إذ لا ملازمة بين الاكتفاء بتجاوز النصف في الشهر والشهرين بالنصّ(4) الاكتفاء به في غيرهما؛ لأنّ ذلك حكم على خلاف الأصل، ولا أولوية في المتنازع ولا علو. وإنّما الاختلاف بمجرد الزيادة والنقصان فالقياس لازم وإثبات الحقيقة الشرعيّة بمجرد وروده في هذين الفردين - أعني الشهر والشهرين - وتعديته إلى غيرهما من الأعداد المنذورة مطلقاً ظاهر الفساد، وطرد الكثير في الإقرار في حيّز المنع والحقّ أن هذا الاعتذار(5) بمجرّد العناية.

الحالة الثانية: أن ينذر صوم سنة ويطلق. وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه(6).

ص: 208


1- لم نجده فيه، وحكاه عنه أيضاً فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 56: وللرواية راجع وسائل الشيعة، ج 10، ص 371 - 375، الباب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب.
2- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 125 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
3- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 125 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- انظر وسائل الشيعة، ج 10، ص 371 - 375 و 376 - 377، الباب 3 و 5 من أبواب بقيّة الصوم الواجب.
5- في الطبعة الحجريّة: «الاعتذار به» بدل «الاعتذار».
6- يأتي في ص 210.
لو نذر صوم الدهر

• ولو نذر صوم الدهر صح. ويسقط العيدان وأيّام التشريق بمنى. ويفطر في السفر. وكذا الحائض في أيّام حيضها. ولا يجب القضاء؛ إذ لا وقت له.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو نذر صوم الدهر صح» إلى آخره.

إذا نذر صوم الدهر انعقد نذره؛ لأنّ الصوم عبادة، وإن قيل بكراهته فمكروه العبادة لا ينافي النذر كنظائره؛ لبقاء أصل الرجحان ويستثنى من هذا النذر العيدان وأيّام التشريق بمنى؛ لما تقدّم من عدم قبولها للصوم، سواء استثناها أم أطلق؛ لاختصاص المنع بها فلا مانع من انعقاد غيرها، وصحة صوم بعض الدهر غير متوقف على صحة الباقي.

ويحتمل البطلان في الجميع مع الإطلاق؛ لأنّ الصيغة إنّما تناولت المجموع من حيث هو مجموع ولم يحصل.

وهو ممنوع، بل إنّما تناولت كلّ واحد واحد والمجموع تابع، فلا يضر تخلّفه لعارض. ولو صرّح بإدخالها في النذر فالوجهان، وأولى بالبطلان هنا لو قيل به ثم. والوجه الصحة فيما عداها.

ولو كان عليه قضاء رمضان فالقضاء أيضاً يقع مستثنى. وكذا لو كان عليه كفّارة - وإن لزمت بعد النذر - إن انحصرت في الصوم. وكذا لو تجدّد القضاء عن رمضان. ولا يجب التأخير به إلى تضيقه برمضان آخر على الأقوى. وفي استثناء رمضان مع الإطلاق وجهان مبنيان على انعقاد نذر الواجب وسيأتي(1). ولو نوى إدخاله في النذر فأولى بالصحة لو قيل بها تمّ. والأقوى دخوله مطلقاً في غير السفر، وفيه يجب إفطاره ويقضيه؛ لأنّه كالمستثنى بقوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أيّام أُخَرَ»(2).

ويجوز له السفر مع الضرورة إليه قطعاً، وبدونها على الأظهر. ولكن يجب الفدية عن كلّ يوم بمد كالعاجز عن صوم النذر مع احتمال العدم؛ لأنّه ليس بعاجز بحسب ذاته.

ثمّ إن أفطر هذا الناذر لعذر فلا فدية عليه، وإن كان متعدياً لزمته الكفّارة؛ لأنّه فوت صوم

ص: 209


1- يأتي في ص 214.
2- البقرة (2): 184.

• والسفر الضروري عذر لا ينقطع به التتابع وينقطع بالاختياري.

لو نذر صوم سنة غير معيّنة

• ولو نذر سنة غير معيّنة كان مخيّراً بين التوالي والتفرقة إن لم يشترط التتابع، وله أن يصوم اثنى عشر شهراً. والشهر إما عدة بين هلالين أو ثلاثون يوماً.

ولو صام شوإلّا وكان ناقصاً أتمه بيوم بدلاً عن العيد. وقيل: بيومين. وهو حسن.

-------------------------------------------------------------------

النذر بعد أوانه، ولو أفطر يوماً من الدهر فلا سبيل إلى القضاء؛ لاستغراق أيّام العمر بالأداء. ومما يتفرع هنا أنبه لو نوى في بعض الأيّام قضاء يوم من رمضان فهل له إفطاره قبل الزوال اختياراً؟ وجهان منشؤهما: أنّ هذا اليوم صار بالنيّة قضاء عن رمضان، فيلحقه حكمه الذي من جملته جواز إفطاره قبل الزوال، ومن وجوبه بالنذر، وإنّما استثني القضاء على تقدير،صحته، فإذا نوى تركه عاد الوجوب السابق؛ إذ لا يخرج الأمر عنهما. وعلى هذا يكون صحة صومه عن القضاء كاشفة عن استثنائه بالنذر لا بمجرد النييّة. وهذا أقوى.

وعليه، فلو أفطره حينئذٍ لزمه كفّارة النذر، ولو كان الإفطار بعد الزوال ففي وجوب وجوب كفّارة إفطار القضاء خاصّة؛ لتعينه له بالزوال، أو كفّارة النذر؛ لما بيناه من أن بطلان القضاء يوجب تعلق النذر، أو هما معاً؛ لصدق الإفطار في القضاء بعد الزوال وتبين تعلق النذر به حيث بطل أوجه، والأخير منها لا يخلو من قوة.

قوله: «والسفر الضروري عذر لا ينقطع به التتابع وينقطع بالاختياري».

هذا من تتمّة المسألة السابقة المتعلّقة بنذر السنة المعيّنة، وإن كان له مدخل يسير في نذر صوم الدهر، إلّا أن قطع التتابع لا يترتّب عليه فائدة.

والمراد بالسفر الضروري ما يخاف بتركه على نفس محترمة أو مال يضرّه فوته، والاختياري يقابله.

قوله: «ولو نذر سنة غير معيّنة - إلى قوله - قضى أيّام التشريق أيضاً».

هذه هي الحالة الثانية للمسألة السابقة وهي نذر صوم السنة، فإذا نذرها وأطلق نظر إن لم يشترط التتابع صام ثلاثمائة وستين يوماً أو اثني عشر شهراً بالهلال، وكلّ شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل، وإن انكسر ولم يصم جميعه فعليه إتمامه ثلاثين.

ص: 210

وكذا لو كان بمنى في أيّام التشريق فصام ذا الحجة قضى يوم العيد وأيّام التشريق، ولو كان ناقصاً قضى خمسة أيّام.

ولو صام سنةً واحدةً أتمها بشهر ويومين بدلاً عن شهر رمضان وعن العيدين، ولم ينقطع التتابع بذلك؛ لأنّه لا يمكنه الاحتراز منه، ولو كان بمنى قضى أيّام التشريق أيضاً.

-------------------------------------------------------------------

وشوّال ينكسر بسبب العيد فيكمله ثلاثين. فإن كان ناقصاً قال الشيخ (رحمه اللّه): كفاه يوم بدل العيد (1)؛ لصدق صوم الشهر مع إبدال ما فات منه. والأظهر ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من وجوب يومين؛ لأنّ الشهر إما عدة بين هلالين أو ثلاثون يوماً، والأوّل منتف هنا لكسره بيوم العيد فبقي الثاني.

وذو الحجة يكمله ثلاثين، فإن كان بمنى تدارك أربعة أيّام مطلقاً على الأوّل وبشرط عدم نقصانه، وإلّا فخمسة على الأصحّ.

ولا يجب أن يصوم متتابعاً. وإن صام سنةً على التوالى تدارك للنذر رمضان إن قلنا بعدم دخوله في النذر، والعيدين وأيّام التشريق إن لم ينقص شهر العيدين، وإلّا أضاف إليها يومين آخرين أو يوماً إن كان الناقص أحدهما. وكان على المصنّف التنبيه عليه تفريعاً على مذهبه من وجوب اليوم للناقص المنكسر.

وبقي في المسألة وجهان آخران :

أحدهما: أنّه إنّما يخرج عن النذر بصوم ثلاثمائة وستين يوماً مطلقاً؛ لأنّ السنة تنكسر لا محالة بسبب رمضان وأيّام الفطر، وإذا انكسرت وجب أن يعتبر العدد، كما أنّ الشهر إذا انكسر يعتبر العدد.

والثاني: أنه إذا صام من المحرّم إلى المحرم أو من شهر آخر إلى مثله خرج عن نذره؛ لأنّه يقال: إنّه صام سنةً، ولا يلزمه قضاء رمضان وأيّام الفطر الواجب.

ص: 211


1- لم نجده في كتب الشيخ، وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 228، المسألة 58.

-------------------------------------------------------------------

وإن شرط التتابع فقال: «اللّه عليّ أن أصوم سنةً متتابعاً» لزمه التتابع، ويصوم رمضان عن فرضه إن لم نقل بدخوله، ويفطر العيدين وأيّام التشريق.

وهل يلزمه تداركها للنذر؟ فيه وجهان

أحدهما: المنع؛ لأنّ السنة المتتابعة اسم لاثني عشر شهراً أو لثلاثمائة وستّين يوماً، وقد صام من هذه المدة ما يمكن صومه فلا يلزمه زيادة عليه كما لو عين السنّة.

والثاني - وهو الأظهر - أنه يلزمه التدارك على الاتصال بآخر المحسوب من السنة؛ لأنّه التزم صوم سنة ولم يصحح عمّا التزم سنةً. ويخالف ما إذا كانت السنة معيّنة؛ لأنّ المعين لا يبدل والمطلق يبدل، كما في نظائره من العقود كالعوض في البيع والإجارة.

ولو أفطر بغير عذر وجب الاستئناف هنا قولاً واحداً، بخلاف الحالة السابقة وهي السنة المعيّنة؛ فإنّ فيها ما مرّ من الخلاف(1).

والفرق أنّ جميع أجزائها معيّن فلا يزول تعينه بالإخلال ببعضه، بخلاف المطلقة؛ فإنّ المعتبر المكلف به إيقاع مجموع العدد متتابعاً على وجه يمكن، فإذا أخل بالوصف استدرك جميع المنذور متتابعاً، تحصيلاً للشرط الممكن.

ولو أفطرت المرأة لعذر الحيض والنفاس لم يجب الاستئناف، وكذا الإفطار لعذر المرض والسفر الضروري. ثمّ يقضي الأيّام كالمعيّن.

واعلم أن المصنّف (رحمه اللّه) لم ينقل الخلاف في الاكتفاء في تحقّق التتابع بتجاوز النصف في غير المعين كما ذكر في المعين مع اشتراكهما في المعنى المقتضي له تبعاً للشيخ فإنّه لم ينقله إلّا في السنة المعيّنة (2). ولكن في القواعد عكس فنقل القول بالاكتفاء بمجاوزة النصف في غير المعيّنة ولم يذكره في المعيّنة (3). وفي الدروس نسب القول المذكور إلى الشيخ

ص: 212


1- مرّ في ص 207-208.
2- لم نجده في كتب الشيخ. وحكاه عنه أيضاً فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 56.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 288.

• ولو نذر صوم شهر متتابعاً وجب أن يتوخى ما يصحّ ذلك فيه، وأقله أن يصحّ فيه تتابع خمسة عشر يوماً. ولو شرع في ذي الحجة لم يجز ؛ لأنّ التتابع ينقطع بالعيد.

-------------------------------------------------------------------

في نذر السنة مطلقاً أعمّ من المعيّنة والمطلقة، واعتذر له بما سبق (1). وهذا أنسب بحال القول وتوجيهه، وإن كان قد خصه في المبسوط بحالة التعيين.

قوله: «ولو نذر صوم شهر متتابعاً وجب أن يتوخى ما يصحّ ذلك فيه» إلى آخره.

لا إشكال في وجوب توخي ما يسلم فيه وصف النذر؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر يقتضي ذلك. وأمّا الاكتفاء في تتابع الشهر المنذور بمتابعة خمسة عشر يوماً فهو مذهب الأصحّاب.

ومستنده رواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال في رجل جعل على نفسه صوم شهر فصام خمسة عشر يوماً ثمّ عرض له أمر. فقال: «جائز له أن يقتضي ما بقي عليه، وإن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجز له حتّى يصوم شهراً تاماً»(2).

ورواية موسى بن بكر عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل جعل عليه صوم شهر فصام منه اللّه خمسة عشر يوماً ثمّ عرض له أمر قال: «إن كان صام خمسة عشر يوماً فله أن يقضي ما بقي عليه، وإن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجزئه حتّى يصوم شهراً تامّاً»(3).

وفي طريق الروايتين موسى بن بكر، وهو واقفى(4)، إلّا أن عمل الأصحّاب على مضمونهما.

ص: 213


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 125 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- تهذيب الأحكام، ج 4 ص 285. ح 864.
3- الكافي، ج 4، ص 139، باب من وجب عليه صوم شهرين...، ح 6: الفقيه، ج 2، ص 152، ح 2007؛ تهذيب الأحكام، ج 4، ص 285، ح 863.
4- رجال الطوسي، ص 343، الرقم 5108؛ خلاصة الأقوال، ص 406، الرقم 1639.
إذا نذر أن يصوم أوّل يوم من شهر رمضان

الثالثة: • إذا نذر أن يصوم أوّل يوم من شهر رمضان لم ينعقد نذره؛ لأنّ صيامه مستحقّ بغير النذر. وفيه تردّد.

نذر المعصية لا ينعقد

الرابعة: • نذر المعصية لا ينعقد، ولا تجب به كفّارة، كمن نذر أن يذبح آدميّاً، أباً كان أو أُمّاً أو ولداً أو نسيباً أو أجنبيّاً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا نذر أن يصوم أوّل يوم من شهر رمضان لم ينعقد نذره» إلى آخره.

اختلف الأصحّاب في صحة نذر الواجب، سواء في ذلك أول يوم من شهر رمضان وغيره، فذهب جماعة - منهم المرتضى(1)، والشيخ (2)، وأبو الصلاح (3)، وابن إدريس(4) - إلى المنع ؛ لأنّه متعيّن بأصل الشرع فإيجابه بالنذر تحصيل للحاصل ؛ ولأنّه على تقدير كونه يوماً من رمضان قد استحقّ صيامه بالأصل ولا يمكن أن يقع فيه غيره، والنذر غيره.

وذهب أكثر المتأخّرين إلى الصحة؛ لأنّ الواجب طاعة مقدورة للناذر فينعقد نذره؛ لأنّ ذلك متعلّق النذر. وإيجاب صومه بأصل الشرع لا ينافي تأكد الوجوب؛ لأنّ النذر يفيد زيادة الانبعاث حذراً من الكفّارة، وهو نوع من اللطف؛ ولعموم الأدلّة(5). وهذا هو الأقوى.

وعليه، فيجوز ترامي النذر، وتتعدد الكفّارة بتعدّده. ويتفرّع على ذلك دخول رمضان في نذر صوم السنة المعيّنة وصوم الدهر مع الإطلاق والتنصيص ؛ لأنّه صالح للنذر كباقي الشهور

قوله: «نذر المعصية لا ينعقد، ولا تجب به كفّارة» إلى آخره.

لا خلاف بين أصحابنا في عدم انعقاد نذر المعصية، ورواياتهم به متظافرة(6) وقد تقدّم

ص: 214


1- رسائل الشريف المرتضى، ج 1، ص 440 - 441، المسألة 22.
2- لم نجده في كتب الشيخ ما اختاره، وحكاه عنه العلّامة أيضاً في مختلف الشيعة، ج 8، ص 229، المسألة 59.
3- الكافي في الفقه، ص 185.
4- السرائر، ج 3، ص 68.
5- الحجّ (22): 29؛ الإنسان (76): 7؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 310، ح 1151؛ الاستبصار، ج 4، ص 55، ح 190.
6- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 317 - 321، الباب 17 من كتاب النذر والعهد.

وكذا لو نذر ليقتلنّ زيداً ظلماً، أو نذر أن يشرب خمراً، أو يرتكب محظوراً، أو يترك فرضاً، فكلّ ذلك لغو لا ينعقد.

• ولو نذر أن يطوف على أربع، فقد مرت في باب الحجّ والأقرب أنه لا ينعقد.

-------------------------------------------------------------------

بعضها(1). ومن ضروب المعصية نذر ذبح الولد وغيره.

ونبه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث ذهب إلى أن من نذر ذبح ولده فعليه شاة، وإن نذر ذبح غيره من آبائه وأجداده وأُمهاته فلا شيء عليه(2). وآخرين منهم إلى أنّ عليه كفّارة يمين(3)، وكذا في كلّ نذر معصية، ورووا عن ابن عبّاس أنّ عليه ذبح شاة(4).

وروى السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عَلَيهِم السَّلَامُ): «أنّه أتاه رجل فقال: إنّي نذرت أن أنحر ولدي عند مقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إن فعلت كذا وكذا، ففعلته، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): اذبح كبشاً سميناً وتصدق بلحمه على المساكين»(5).

وحمله الشيخ على الاستحباب (6)؛ لما ثبت من أن نذر المعصية لا ينعقد. وروى عبد الرحمن بن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل نذر أن ينحر ولده. فقال: «ذلك من خطوات الشيطان»(7).

قوله: «ولو نذر أن يطوف على أربع» إلى آخره.

لا خلاف في عدم صحة الطواف على أربع بدون النذر وأنّ المعتبر فيه المشي المعهود؛ للتأسي، وقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «خذوا عني مناسككم»(8). ولكن روى النوفلي عن السكوني، عن

ص: 215


1- تقدّم في ص 173 وما بعدها.
2- المبسوط السرخسي، ج 8، ص 148 و 151 : الحاوي الكبير، ج،15، ص 489؛ بداية المجتهد، ج 1، ص 446.
3- الحاوي الكبير، ج،15، ص 489؛ المبسوط السرخسي، ج 8، ص 149.
4- الحاوي الكبير، ج 15، ص 489 بداية المجتهد، ج 1، ص 446.
5- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 317، ح 1181؛ الاستبصار، ج 4، ص 47 - 48، ح 163.
6- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 318، ذيل الحديث 1182؛ الاستبصار، ج 4، ص 48، ذيل الحديث 164.
7- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 317 - 318، ح 1182؛ الاستبصار، ج 4، ص 48، ح 164 بتفاوت يسير.
8- السنن الكبرى البيهقي، ج 5، ص 204، ح 9524: الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 39.
إذا عجز الناذر عمّا نذره

الخامسة • إذا عجز الناذر عمّا نذره سقط فرضه. فلو نذر الحجّ فصدّ سقط النذر. وكذا لو نذر صوماً فعجز. لكن روي في هذا: «يتصدّق عن كلّ يوم بمدّ من طعام».

-------------------------------------------------------------------

الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في امرأة نذرت أن تطوف على أربع، قال: تطوف أسبوعاً ليديها وأسبوعاً لرجليها»(1). ومثله روى أبو الجهم عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).

وعمل بمضمونها الشيخ في النهاية (3). وخصّها بعضهم بموردها وهو المرأة، وأبطل النذر لو كان رجلاً(4). وأبطله ابن إدريس مطلقاً (5)؛ لأنّ تلك كيفية غير مشروعة فلا ينعقد نذرها. وهذا هو الأصحّ.

ولا يخفى ضعف طريق الرواية المانع من الالتفات إلى مضمونها في موردها وغيره، مضافاً إلى مخالفتها للأصل من وجوب ما لم ينذره الناذر ولم يقصده.

قوله: «إذا عجز الناذر عمّا نذره سقط فرضه» إلى آخره.

يتحقّق العجز عن المنذور بوجوده في جميع الوقت المعين، كما لو نذر أن يحج في هذه السنة فلم يتمكن منه فيها. أما لو كان مطلقاً، فإنّ العجز لا يتحقّق إلّا باليأس منه في جميع وقت العمر. وحيث يتحقّق العجز يسقط عنه فرض النذر أداء وقضاء على الأصحّ.

وقيل: يجب على العاجز عن الصوم المعين القضاء دون الكفّارة(6)، وقيل بالعكس. والمراد بها عن كلّ يوم مدان من طعام؛ لرواية إسحاق بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل

ص: 216


1- الكافي، ج 4، ص 430، باب نوادر الطواف، ح 18؛ الفقيه، ج 2، ص 521، ح 3122؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 135، ح 446.
2- الكافي، ج 4، ص 429، باب نوادر الطواف، ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 135 - 136، ح 447.
3- النهاية، ص 242.
4- كشف الرموز، ج 1، ص 381؛ منتهى المطلب، ج 10، ص 393.
5- السرائر، ج 1، ص 576.
6- النهاية، ص 565، وفيه ومتى وجب عليه صيام نذر فمرض أو سافر أو اتّفق أن يكون يوم العيدين... .

-------------------------------------------------------------------

يجعل عليه صياماً في نذر ولا يقوى. قال: يعطي من يصوم عنه كلّ يوم مدين»(1).

وبمضمونها أفتى الشيخ في النهاية (2)، والمصنّف في باب الكفّارات من هذا الكتاب (3) وهنا ذكر أنّه مُدّ ونسبه إلى الرواية، وهي رواية محمّد بن منصور عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «كان أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: على من عجز عن صوم نذر مكان كلّ يوم مدّ»(4). ومثله رواية الكليني عن عليّ بن إدريس، وزاد فيها: «من حنطة أو شعير»(5). ورواها الصدوق (رحمه اللّه)(6) ورجّح الشهيد (رحمه اللّه) العمل بمضمونها(7).

واقتصر المصنّف والعلّامة(8) على مجرّد الرواية، ولعلّه لعدم صحة الأخبار، فإن في طريق الثانية عليّ بن أحمد وموسى بن عمر، وهما مشتركان بين الثقة وغيره(9)، وفي سند الأخيرة جهالة وذلك يمنع من الحكم بالوجوب. ولا بأس بحمله على الاستحباب؛ للتساهل في أدلّته، مضافاً إلى أنّ العجز يوجب سقوط المنذور في نظائره، فاختصاص الصوم بالفدية

ص: 217


1- الكافي، ج 7، ص 457، باب النذور، ح 15؛ الفقيه، ج 3، ص 374، ح 4317؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 306، ح 1138.
2- النهاية، ص 571 3.
3- راجع ج 8، ص 110.
4- الكافي، ج 4، ص 143، باب كفّارة الصوم وفديته، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 4، ص 313، ح 946 مع الاختلاف في العبارة.
5- الكافي، ج 4 ص 143، باب كفّارة الصوم وفديته، ح 1.
6- الفقيه، ج 2، ص 154، ح 2014.
7- الدروس الشرعيّة، ج 1، ص 209 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 9).
8- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 96.
9- علي بن أحمد مشترك بين رجال ثلاثة: علي بن أحمد بن أشيم وهو مجهول. راجع خلاصة الأقوال، ص 363، الرقم 1430، وعلي بن أحمد البندنيجي، وهو ضعيف. راجع خلاصة الأقوال، ص 369، الرقم 1452، وعلي بن أحمد الطبري، وهو ثقة. راجع خلاصة الأقوال، ص 188، الرقم 566. وموسى بن عمر رجلان موسى بن عمر بن يزيد الصيقل مجهول راجع رجال النجاشي، ص 405 الرقم 1075. وموسى بن عمر بن بزيع وهو ثقة. راجع رجال النجاشي، ص 409 الرقم 1089.
العهد حكمه حكم اليمين

السادسة. العهد حكمه حكم اليمين وصورته أن يقول: «عاهدت اللّه أو «عليّ عهد اللّه، أنه متى كان كذا فعلى كذا».

فإن كان ما عاهد عليه واجباً أو مندوباً، أو ترك مكروه أو اجتناب محرم لزم، ولو كان بالعكس لم يلزم.

ولو عاهد على مباح لزم كاليمين. ولو كان فعله أولى أو تركه فليفعل الأولى، ولا كفّارة.

-------------------------------------------------------------------

لا يخلو من إشكال، مع ما في الفدية من اختلاف المقدار في الخبرين. وقد تقدم البحث في ذلك أيضاً في باب الكفّارات(1).

قوله: «العهد حكمه حكم اليمين» إلى آخره.

اختلفت عبارات الأصحّاب في العهد، فالمصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة (2) جعلا حكم العهد حكم اليمين، فينعقد فيما ينعقد فيه ويبطل فيما يبطل، والشيخ في النهاية (3) والشهيد في الدروس(4) جعلا حكمه حكم النذر.

وتظهر فائدة الخلاف في العهد على المباح المتساوي الطرفين ديناً ودنياً، فإن جعلناه کاليمين انعقد بغير إشكال، وإن جعلناه كالنذر فالمشهور عدم صحته؛ لأنّ شرطه أن يكون متعلّقه طاعة راجحة فلا ينعقد على المباح. وفيما إذا لم يعلق على شرط، فعلى إلحاقه باليمين ينعقد بغير إشكال، وعلى إلحاقه بالنذر يرد فيه الخلاف المتقدم. ومن قال بانعقاد النذر على المباح كما اختاره الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس(5) - وبانعقاد النذر المبتدا بغير شرط كما ذهب إليه جماعة (6) _ لا يفترق الأمران.

ص: 218


1- تقدّم في ج 8، ص 110.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 295.
3- النهاية، ص 563.
4- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 126 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 126 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
6- منهم الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 191، المسألة 1؛ وابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 58؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 346، الرقم 5903.

• وكفّارة المخالفة في العهد كفّارة يمين، وفي رواية كفّارة من أفطر يوماً من شهر رمضان. وهي الأشهر.

-------------------------------------------------------------------

ويدلّ على إلحاقه باليمين رواية علي بن جعفر عن أخيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل عاهد اللّه في غير معصية ما عليه إن لم يف بعهده؟ قال: «يعتق رقبة، أو يتصدق بصدقة، أو يصوم شهرين متتابعين»(1). فعلّق الكفّارة على العهد في غير معصية الشامل للمباح، ومع ذلك هو شامل للمكروه وما هو خلاف الأولى من المباح، إلّا أن ذلك خارج بالإجماع.

ويؤيّد إلحاقه بالنذر مساواته له فى الكفّارة الكبيرة المخيّرة كما دلّت عليه الرواية. وصيغته مناسبة لصيغة النذر، بل هي أخصّ منها.

ورواية أبي بصير عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «من جعل عليه عهد اللّه وميثاقه في أمر للّه طاعة فحنث فعليه عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً» (2) فجعل مورده الطاعة وهي مورد النذر، إلّا أنه لا ينافي تعلّقه بغيرها؛ لأنّ السؤال وقع عن العهد على الطاعة وهو لا يفيد الحصر. وفي طريق الروايتين ضعف.

وكيف كان، فالأقوى صحة تعلقه بالمباح كاليمين - وبغير شرط، سواء ألحقناه باليمين أم بالنذر.

قوله: «وكفّارة المخالفة في العهد كفّارة يمين» إلى آخره.

أراد بالرواية الدالة على أنّ كفّارته كفّارة رمضان ما ذكرناه من رواية علي بن جعفر وأبي بصير، وبهما أخذ الأكثر على ما في سندهما.

وأمّا وجوب كفّارة يمين فلا نص عليه بخصوصه، ولكن إن قلنا: إنّ كفّارة النذر كفّارة يمين فالعهد كذلك؛ لانحصاره فيهما حكماً كما سبق، وإن جعلنا كفّارة النذر كبيرة مطلقاً أو على التفصيل أشكل الأمر في العهد؛ لضعف روايته، ولا دليل على إلحاقه به مطلقاً.

ص: 219


1- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 309 - 310، ح 1148: الاستبصار، ج 4، ص 55، ح 189 بتفاوت يسير.
2- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 315، ح 1170؛ الاستبصار، ج 4، ص 54، ح 187.
هل ينعقد النذر والعهد بالضمير والاعتقاد؟

السابعة • النذر والعهد ينعقدان بالنطق. وهل ينعقدان بالضمير والاعتقاد؟ قال بعض الأصحّاب نعم والوجه أنهما لا ينعقدان إلّا بالنطق.

-------------------------------------------------------------------

وذهب المفيد إلى أنّ كفّارة العهد كفّارة ظهار(1)، ولم نقف على مستنده. وقد تقدم البحث في ذلك في باب الكفّارات(2).

قوله: «النذر والعهد ينعقدان بالنطق» إلى آخره.

القول بانعقادهما بالضمير من دون لفظ للشيخين (3) والقاضي(4)، وابن حمزة (5)؛ نظراً إلى أنّهما عبادة، والأصل في العبادة الاعتقاد،والضمير، ولعموم قوله : «إنما الأعمّال بالنيات»(6) و «إنّما» للحصر والباء للسببية، وذلك يدلّ على حصر العمل في النيّة فلا يتوقّف على غيرها، وإلّا لزم جعل ما ليس بسبب سبباً؛ ولأن الغرض من اللفظ إعلام الغير ما في الضمير، والاستدلال به على القصد، واللّه تعالى عالم بالسرائر؛ ولقوله تعالى: «وَإِن تُبْدُواْ مَا فى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه»(7).

وفي الكلّ نظر؛ لأنّ العبادة ليست منحصرة في الاعتقاديات، بل منها ما هو لفظي لا يجزئ عنه الاعتقاد، كالقراءة والأذكار ونحوهما ومنها ما هو بدني لا يجزئ عنه الاعتقاد أيضاً، كالركوع والسجود وأفعال الحجّ، ومنها ما هو مالي لا يجزئ عنه غيره، فكونهما عبادة

ص: 220


1- انظر المقنعة، ص 569، وفيه ما لا يخفى؛ لأنّه قال: من نكث عهد اللّه كان عليه من الكفّارة وهي كفّارة قتل الخطأ، وفي ص 570 - 571 قال: ومن قتل مؤمناً خطأ فعليه ديته وكفّارة من أفطر يوماً من شهر رمضان. ومعلوم أنّ كفّارة إفطار شهر رمضان تخييري وهو عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً. راجع المقنعة، ص 565.
2- تقدّم في ج 8، ص 94 - 95 و 98 وما بعدها.
3- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 562 ؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 562 و 563.
4- المهذّب، ج 2، ص 409.
5- الوسيلة، ص 350، ولكن صرّح به في النذر دون العهد.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 83، ح 218؛ وج 4، ص 186، ح 519.
7- البقرة (2): 284.

-------------------------------------------------------------------

لا يدلّ على الاكتفاء فيهما بالاعتقاد، وإن كان معتبراً فيهما من حيث النيّة، وذلك أمر آخر والخصم يسلّمه هنا.

وكون الأعمّال بالنيّات لا يدلّ على حصرها فيها أيضاً؛ لأنّ الأعمّال توجد بدونها. فلابدّ فيه من إضمار الأعمّال المعتبرة شرعاً، والتي يترتّب عليها أثرها وغايتها ونحو ذلك، وهو يدلّ على مغايرة النيّة للعمل وإن اعتبرت فيه.

وكون الباء للسببيّة لا يدلّ على أزيد من ذلك؛ لأنّه يدلّ على أنّ النيّة سبب في اعتبارها ولا يلزم انحصار السببيّة فيه؛ لأنّ السبب قد يكون ناقصاً وقد يكون تاماً، ومطلقه أعمّ من التام. والأمر في الأعمّال المعتبرة شرعاً كذلك، فإنّ النيّة لا يكفي اعتبارها من غير انضمام باقي ما يعتبر فيها من الأسباب والشروط، فالنيّة سبب ناقص لا تامّ.

ويمنع من كون الغرض من اللفظ والإعلام بما في الضمير مطلقاً، بل هو في العبادات تعبد بدني ملحوظ بالاعتبار كالنيّة، وذلك واضح في العبادات اللفظية المفتقرة إلى النيّة، فإنّ كلاً منهما لا يجزئ عن الآخر، وإن كان اللّه تعالى هو العالم بكلّ سريرة.

وأما الآية الدالّة على المحاسبة على ما تخفوه فلا دلالة لها على انعقادهما بالضمير مطلقاً، كما لا يخفى.

وذهب ابن الجنيد(1) من المتقدمين، وابن إدريس(2) والمصنّف والعلّامة في أكثر كتبه (3) وباقي المتأخّرين إلى اشتراط التلفظ بهما؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة منصور بن حازم: «ليس بشيء حتّى يقول: اللّه عليّ»(4) إلى آخره، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة أبي الصباح الكناني

ص: 221


1- الحاكي عنه هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 217، المسألة 51، ولكن بالنسبة إلى النذر فقط.
2- السرائر، ج 3، ص 58 و 64.
3- قواعد الأحكام، ج 3، ص 284 و 295؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 345، الرقم 5901، وص 363، الرقم 5948: إرشاد الأذهان، ج 2، ص 91 و 96.
4- الكافي، ج 7، ص 454، باب النذور، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303، ح 1124.

تمّ قسم الإيقاعات

-------------------------------------------------------------------

«ليس النذر بشيء حتّى يسمّي شيئاً للّه»(1) إلى آخره، وغيرهما من الأخبار الدالة على اعتبار القول (2)، ولأنّهما من قبيل الأسباب فلا يكفي فيهما القصد.

وتوقف في المختلف بين القولين(3). والثاني منهما أقوى، وإن كان دليل السبب لا يخلو من شيء لأنّ الأسباب لا تنحصر في الألفاظ.

** * *

تمّ قسم الإيقاعات وبتمامه تمَّ ما وفقه اللّه تعالى ويسّره من شرحه بحمد اللّه تعالى ومنّه.

واتّفق الفراغ من تسويده على يد مصنفه العبد المفتقر إلى عفو اللّه تعالى وكرمه زين الدين بن عليّ بن أحمد، ضحى يوم الجمعة غرة شهر رمضان المعظّم عام ثلاث وستيّن وتسعمائة، وفّق اللّه تعالى لإكماله بمحمّد وآله، وجعله خالصاً لوجهه العظيم، موجباً لثوابه الجسيم، إنه هو الجواد الكريم، والحمد للّه حقّ حمده، وصلواته على سيد رسله محمّد وآله.

ص: 222


1- الكافي، ج 7، ص 455، باب النذور، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 8، ص 303، ح 1125.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 294 - 295، الباب 1 من كتاب النذر والعهد، ح 3 - 9.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 217، المسألة 51.

القسم الرابع: في الأحكام

إشارة:

القسم الرابع: في الأحكام(1)

وهي اثنا عشر كتاباً:

1 - كتاب الصيد والذباحة

2 - كتاب الأطعمة والأشربة

3 - كتاب الغصب

4 - كتاب الشفعة

5 - كتاب إحياء الموات

6 - كتاب اللقطة

7 - كتاب الفرائض

8 - كتاب القضاء

9 - كتاب الشهادات

10 - كتاب الحدود والتعزيرات

11 - كتاب القصاص

12 - كتاب الديات

ص: 223


1- تقدّم أنّ المحقّق بنى كتابه على أقسام أربعة: 1. العبادات.2 العقود 3 الإيقاعات 4. الأحكام، وهو القسم الرابع والأخير من هذا الكتاب.

ص: 224

کتاب الصيد والذباحة

إشارة:

والنظر في الصيد يستدعي بيان أُمور ثلاثة:

-------------------------------------------------------------------

بسم اللّه الرحمن الرحيم

کتاب الصيد والذباحة

إنّما ترجم الكتاب بالصيد والذباحة؛ لأنّ الحيوان المأكول إنّما يصير مذكى بطريقين: أحدهما: الذبح أو النحر، وذلك في الحيوان المقدور عليه، والثاني : العقر(1) المزهق في أيّ موضع كان، وذلك في غير المقدور عليه. والأغلب من هذا القسم عقر الحيوان الوحشي بآلة الاصطياد، ويلحق به الحيوان المتردّي في البئر ونحوها. ومرجع العنوان إلى أن الكتاب معقود للتذكية وترجم عنها بقسميها. وإنّما لم يذكر النحر تغليباً للذبح عليه؛ إما لأنّه أكثر أفراداً، وإما لجواز إطلاق الذبح على النحر كما ادّعاه بعضهم(2).

وأكثر الفقهاء - ومنهم المصنّف في مختصّره (3) - ترجم الكتاب بالصيد والذبائح. وعليه، فيكون الصيد بمعنى المصيد لا نفس الحدث الذي هو التذكية المذكورة، بقرينة الذبائح؛ فإنّها جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة، فيكون الكتاب معقوداً لبيان الحيوان القابل للتذكية لا لنفس التذكية. وهذا أقعد وأنسب بالمقصود الذاتي من الكتاب.

ص: 225


1- في الطبعة الحجريّة: «القتل» بدل «العقر».
2- راجع الكتاب المطبوع مع اللباب، ج 3، ص 225؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 505.
3- المختصّر النافع، ص 355.

الأمر الأوّل فيما يؤكل صيده

إشارة:

[الأمر الأوّل] فيما يؤكل صيده وإن قتل

• ويختص من الحيوان بالكلب المعلم، دون غيره من جوارح السباع والطير.

الاصطياد بالحيوان

فلو اصطاد بغيره كالفهد والنمر، أو غيرهما من السباع لم يحلّ منه إلّا ما يدرك ذكاته

وكذا لو اصطاد بالبازي والعقاب والباشق وغير ذلك من جوارح الطير معلّماً كان أو غير معلّم.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أنّ الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنّة والإجماع، قال اللّه تعالى: «وَإِذَا حلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ»(1)، وقال: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ»(2).

وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه قال لعديّ بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم اللّه عليه فکلّ»(3).

وروى أبو عبيدة الحذاء - في الصحيح - قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يسرح كلبه المعلّم ويسمّي إذا سرحه، فقال: «يأكل ممّا أمسك عليه وإن أدركه وقد قتله»(4)، وإجماع الأمّة واقع على إباحته.

قوله - فيما يؤكل صيده - : ويختص من الحيوان بالكلب «المعلّم إلى آخره

الاصطياد يطلق على معنيين:

أحدهما: إثبات اليد على الحيوان الوحشي بالأصالة، المحلل المزيل لامتناعه بآلة الاصطياد اللغوي، وإن بقي بعد ذلك على الحياة وأمكن تذكيته بالذبح.

ص: 226


1- المائدة (5): 2.
2- المائدة (5): 4.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 509، ح 18882؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1529، ج 1929/1؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1070، ح 3208: الجامع الصحيح، ج 4، ص 68. ح 1470 بتفاوت يسير.
4- الكافي، ج 6، ص 203، باب صيد الكلب والفهد، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 26، ح 106 مع اختلاف يسير.

-------------------------------------------------------------------

والثاني: عقره المزهق لروحه بآلة الصيد على وجه يحلّ أكله.

فالصيد بالمعنى الأوّل جائز إجماعاً بكلّ آلة يتوصل بها من كلب وسبع وجارح وغيرها.

وإنّما الكلام في الاصطياد بالمعنى الثاني، والإجماع واقع أيضاً على تحقّقه بالكلب المعلم من جملة الحيوان، بمعنى أنّ ما أخذه وجرحه وأدركه صاحبه ميتاً أو في حركة المذبوح يحلّ أكله، ويقوم إرسال الصائد وجرح الكلب في أي موضع كان مقام الذبح في المقدور عليه.

واختلفوا في غيره من جوارح الطير والسباع، فالمشهور بين الأصحّاب - بل ادعى عليه المرتضى إجماعهم(1) - عدم وقوعه بها؛ لقوله تعالى: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ»(2). فإنّ الجوارح وإن كانت عامّة إلّا أنّ الحال في قوله «مكلّبين» الواقع من ضمير «علّمتم» خصّص الجوارح بالكلاب، فإنّ المكلب مؤدب الكلاب لأجل الصيد.

ويؤيّده رواية الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما علّمتم من الجوارح مكلّبين فهي الكلاب»(3). وصحيحة أبي عبيدة الحذاء قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تقول في البازي والصقر والعقاب؟ فقال: «إن أدركت ذكاته فكل منه، وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل»(4).

وحسنة الحلبي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن صيد الباز والكلب إذا صاد فقتل صيده وأكل منه آكل فضلهما أم لا؟ فقال: «أمّا ما قتله الطير فلا تأكله إلّا أن تذكيه، وأمّا ما قتله الكلب

ص: 227


1- الانتصار، ص 394، المسألة 227.
2- المائدة (5): 4.
3- الكافي، ج 6، ص 202، باب صيد الكلب والفهد، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 22، ح 88.
4- الكافي، ج 1، ص 208، باب صيد البزاة والصقور وغير ذلك، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 32، ح 128؛ الاستبصار، ج 4، ص 72، ح 264.

-------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت اسم اللّه عليه فكل وإن أكل منه»(1)، وغير ذلك من الأخبار(2).

وذهب الحسن بن أبي عقيل إلى حلّ صيد ما أشبه الكلب من الفهد والنمر وغيرهما (3)؛ العموم قوله تعالى: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ»(4).

وخصوص صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سأل زكريا بن آدم أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) - وصفوان حاضر - عمّا قتل الكلب والفهد فقال: قال جعفر بن محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الفهد والكلب سواء»(5).

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمّا قتل الكلب والفهد، قال: «قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): الكلب والفهد سواء، فإذا هو أخذه فأمسكه فمات وهو معه فكل، فإنّه أمسك عليك، وإذا أمسكه وأكل منه فلا تأكل، فإنّه أمسك على نفسه»(6).

وروى أبو بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إن أصبت كلباً معلماً أو فهداً بعد أن تسمّي فكل ممّا أمسك عليك، قتل أو لم يقتل أكل أو لم يأكل، وإن أدركت صيده فكان في يدك حيّاً،فذكّه، وإن عجل عليك فمات قبل أن تذكيه فكلّ»(7).

واختلف تأويل الشيخ (رحمه اللّه) لهذه الأخبار، فتارةً خصها بموردها، وجوّز صيد الفهد كالكلب، محتجاً بأنّ الفهد يسمّى كلباً في اللغة، وتارةً حملها على التقيّة، وثالثة على حال الضرورة(8).

ص: 228


1- الكافي، ج 6، ص 205، باب صيد الكلب والفهد، ح 15 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 25، ح 99؛ الاستبصار، ج 4، ص 68، ح 247.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 348 - 355، الباب 9 من كتاب الصيد والذبّائح.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 365، المسألة 63.
4- المائدة (5): 4.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 29، ح 115.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 28، ج 113.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 28، ج 112.
8- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 28 - 29، ذيل الحديث 113؛ ولمعنى الفهد راجع لسان العرب، ج 3، ص 339، «فهد».

-------------------------------------------------------------------

ولا يخفى ضعف هذه التنزيلات الثلاثة، مع أنّه قد روى أحمد بن محمّد بن عيسى - في الصحيح - عن علي بن مهزيار قال: كتبت إلى أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسأله عن البازي إذا أمسك صيده وقد سمّى عليه فقتل الصيد هل يحل أكله؟ فكتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بخطه وخاتمه: «إذا سمّيته أكلته». وقال علي بن مهزيار: قرأته(1).

وفي الصحيح عن أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الصقورة والبزاة من الجوارح هي؟ قال: «نعم» بمنزلة «الكلاب»(2).

وفي الصحيح عن زكريا بن آدم قال: سألت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن صيد البازي والصقر يقتل صيده والرجل ينظر إليه، قال: «كل وإن كان قد أكل منه شيئاً». قال: فرددت عليه ثلاث مرات كلّ ذلك يقول مثل هذا(3).

وأجاب الشيخ بحملها على التقية أو الضرورة(4) ولا يخفى بعد الثاني.

وأمّا الأوّل فيؤيّده رواية أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «كان أبي يفتي في زمن بني أُميّة أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال، وكان يتقيهم وأنا لا أتقيهم، وهو حرام ما قتل»(5).

وصحيحة الحلبي قال قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): كان أبي يفتي وكنا نحن نفتي ونخاف في صيد البزاة والصقور، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا يحلّ صيدها، إلّا أن تدرك ذكاته، فإنّه لفي كتاب اللّه إن اللّه تعالى قال: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ»، فسمّى الكلاب»(6).

ص: 229


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 31، ح 125؛ الاستبصار، ج 4، ص 71 - 72، ح 261.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 32، ح 126؛ الاستبصار، ج 4، ص 72، ح 262.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 32، ح 127؛ الاستبصار، ج 4، ص 72، ح 263.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 28 - 29، ذیل الحدیث 113.
5- الكافي، ج 1، ص 208، باب صيد البزاة والصقور...، ح 8؛ الفقيه، ج 3، ص 320، ح 4145 مع اختلاف؛ تهذيب : الأحكام، ج 9، ص 32، ح 129؛ الاستبصار، ج 4، ص 72، ح 265.
6- الكافي، ج 1، ص 207، باب صيد البزاة والصقور...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 32 – 33، ح 130،الاستبصار، ج 4، ص 72 – 73، ح 266 بتفاوت فيها : والآية في سورة المائدة (5): 4.
الاصطياد بالسيف والرمح والسهام وكلّ ما فيه نصل

• ويجوز الاصطياد بالسيف والرمح والسهام وكلّ ما فيه نصل ولو أصاب معترضاً فقتل حلّ.

ويؤكل ما قتله المعراض إذا خرق اللحم. وكذا السهم الذي لا نصل فيه إذا كان حادّاً فخرق اللحم.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أنّه لا فرق في الكلب بين السلوقي وغيره إجماعاً، ولا بين الأسود وغيره على أصحّ القولين؛ عملاً بالعموم(1). واستثنى ابن الجنيد الكلب الأسود وقال: لا يجوز الاصطياد به(2)، وهو مذهب أحمد (3) وبعض الشافعية (4): محتّجّاً بأن الرواية عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه لا يؤكل صيده، وقال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر بقتله»(5).

قوله: «ويجوز الاصطياد بالسيف والرمح والسهام» إلى آخره.

الآلات التي يصطاد بها ويحصل بها الحلّ قسمان: حيوان وجماد. وقد تقدّم الكلام في القسم الأوّل(6)، والكلام هنا في الثاني. وهو إما مشتمل على نصل كالسيف والرمح والسهم، أو خال عن النصل ولكنّه محدّد يصلح للخرق، أو مثقل يقتل بثقله كالحجر والبندق والخشبة غير المحدّدة.

والأوّل يحلّ مقتوله - سواء مات بجرحه أم لا كما لو أصاب معترضاً - عند أصحابنا؛ لصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الصيد يضربه الرجل بالسيف أو يطعنه برمح أو يرميه بسهم فيقتله وقد سمّى حين فعل ذلك، فقال: «كله لا بأس به»(7).

ص: 230


1- المائدة (5): 4.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 291، المسألة 13.
3- حكاه عنه ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 12 - 13، المسألة 7711.
4- راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 514، حكاه عن أبي بكر الفارسي.
5- الكافي، ج 6، ص 206، باب صيد الكلب والفهد، ح 20؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 80 ح 340.
6- تقدّم في ص 226 وما بعدها.
7- الكافي، ج 1، ص 210، باب الصيد بالسلاح، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 317، ح 4133 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 33، ح 133.

-------------------------------------------------------------------

وصحيحة الحلبي أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الصيد يرميه الرجل بسهم فيصيبه معترضاً فيقتله، وقد سمّى حين رماه ولم تصبه الحديدة فقال: «إن كان السهم الذي أصابه هو الذي قتله فإن رآه فليأكله»(1). وغيرهما من الأخبار الكثيرة (2).

والثاني يحلّ مقتوله بشرط أن يخرقه بأن يدخل فيه ولو يسيراً ويموت بذلك، فلو لم يخرق لم يحلّ. وروي عن عدي بن حاتم (رضي اللّه عنه) قال: سألت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن صيد المعراض. فقال: «إن قتل بحدّه فكل، وإن قتل بثقله فلا تأكل»(3). وروى أيضاً: «إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل، فإنّه وقيذ»(4).

وروى أبو عبيدة - في الصحيح - عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكلّ، وإن لم يخرق واعترض فلا تأكل»(5).

والثالث لا يحلّ مقتوله مطلقاً، سواء خدش أم لم يخدش، وسواء قطعت البندقة رأسه أم عضواً آخر منه وأعضاء الذبح أم لا: لمفهوم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إن قتل بثقله فلا تأكل». وقوله لعديّ بن حاتم: «ولا تأكل من البندق إلّا ما ذكّيت»(6). وفي حديث آخر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدوّاً، ولكنّها تكسر السن وتفقاً العين»(7).

وصحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمّا قتل البندق والحجر أيؤكل؟

ص: 231


1- الكافي، ج 1، ص 212 - 213، باب المعراض، ح 4: الفقيه، ج 3، ص 317، ح 4134، مع اختلاف يسير فيهما؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 33، ح 132.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 362 - 363، و 370 - 371، الباب 16 و 22 من أبواب الصيد.
3- تلخيص الحبير، ج 4، ص 135، ح 1940، وفيه: «بنصله» بدل «بثقله».
4- صحيح البخاري، ج 5، ص 2086، ح 5159، وص 2090، ح 5168؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1529 - 1530؛ ح 1929/3؛ الجامع الصحيح، ج 4، ص 69، ح 1471 بتفاوت.
5- الكافي، ج 6، ص 212، باب المعراض، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 35، ح 143.
6- مسند أحمد، ج 5، ص 513 - 514، ح 18902، وفيه: «لا تأكل من البندقيّة».
7- مسند أحمد، ج 6، ص 43، ح 20028؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1548، ح 1954/56؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 8 ص 17.
شرائط صيرورة الكلب معلّماً

• ويشترط في الكلب لإباحة ما يقتله أن يكون معلّماً. ويتحقّق ذلك بشروط ثلاثة: أن يسترسل إذا أرسله، وينزجر إذا زجره، وأن لا يأكل ما يمسكه. فإن أكل نادراً لم يقدح في إباحة ما يقتله. وكذا لو شرب دم الصيد واقتصر.

ولابدّ من تكرار الاصطياد به متصفاً بهذه الشرائط؛ ليتحقّق حصولها فيه، ولا يكفي اتّفاقها مرة.

-------------------------------------------------------------------

قال: «لا» (1). ومثله حسنة حريز(2)، وموثقة عبداللّه بن سنان(3)، ومحمّد بن مسلم عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).

واعلم أنه لا يشترط في حلّ الصيد موته بآلة واحدة، بل لو تعدّدت وكانت ممّا يحلّ بكلّ واحد منها فمات بالجميع حلّ أيضاً، كما لو رماه بسهمين أو بسهم ومعراض وخرق المعراض، أو أرسل عليه كلباً وسهماً ونحو ذلك، وسواء اتحد الرامي أم تعدّد. ولو اشتمل العدد على واحد غير محلّل واستند موته إلى الجميع لم يحلّ. وسيأتي التنبيه عليه(5).

قوله: «ويشترط في الكلب لإباحة ما يقتله أن يكون معلّماً» إلى آخره.

من شرائط الكلب الذي يحلّ صيده أن يكون معلماً؛ لقوله تعالى: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِح»(6) والتقدير وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح؛ لأنّه معطوف على قوله :تعالى: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»(7)، فعلّق حلّ صيدها على كونها معلّمةً.

وعن عدي بن حاتم (رضي اللّه عنه) قال، قلت: يا رسول اللّه، إني أُرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم اللّه تعالى، فقال: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل ما أمسك عليك»(8). الحديث.

ص: 232


1- الكافي، ج 1، ص 213، باب ما يقتل الحجر والبندق، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 36، ح 151.
2- الكافي، ج 6، ص 213، باب ما يقتل الحجر والبندق، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 36، ح 149.
3- الكافي، ج 6، ص 214، باب ما يقتل الحجر والبندق، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 36، ح 147.
4- الكافي، ج 6، ص 213، باب ما يقتل الحجر والبندق، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 36. ح 150.
5- يأتي في ص 243.
6- المائدة (5) : 4.
7- المائدة (5) : 4.
8- صحیح مسلم، ج 3، ص 1529، ح 1 - 1929/2؛ سنن النسائي، ج 7، ص 191. ح 4273 بتفاوت.

-------------------------------------------------------------------

واعتبروا في صيرورة الكلب معلماً ثلاثة أمور:

أحدها: أن يسترسل بإرسال صاحبه وإشارته. ومعناه: أنه إذا أغرى بالصيد هاج.

والثاني: أن ينزجر بزجره. هكذا أطلق أكثرهم، وقيده في الدروس بما إذا لم يكن بعد إرساله إلى الصيد (1)؛ لأنّه لا يكاد ينكف (2) حينئذٍ. وهو حسن.

والثالث: أن يمسك الصيد ولا يأكل منه. وفي هذا اعتبار وصفين: أحدهما: أن يحفظه ولا يخلّيه. والثاني: أن لا يأكل منه. وفي الخبر السابق: «فإن أكل فلا تأكل، فإنّما أمسكه على نفسه»(3). وفي حديث آخر : «وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنّما أمسك على صاحبه»(4).

وروى رفاعة بن موسى - في الصحيح - قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الكلب يقتل. فقال: «كله». فقلت: أكل منه فقال: «إذا أكل منه فلم يمسك عليك إنّما أمسك على نفسه»(5).

وذهب جماعة من الأصحّاب - منهم الصدوقان (6) - إلى أنّ عدم الأكل ليس بشرط؛ لما روي عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كل ما أمسك عليك» قال: «وإن أكل منه»(7).

وبه روايات كثيرة من طرق الأصحّاب، منها: صحيحة جميل بن درّاج قال: حدّثني حكم بن حكيم الصيرفي قال قلت لأبي عبداللّه : ما تقول في الكلب يصيد الصيد فيقتله؟ قال : «لا بأس، كل». قال، قلت : إنّهم يقولون إذا أكل منه فإنّما أمسك على نفسه فلا تأكله. قال : «أو ليس قد جامعوكم على أن قتله ذكاته؟» قال، قلت : بلی.

ص: 233


1- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 323 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- في بعض النسخ وفي إحدى الحجريتين: «يكفّ» وفي أخرى: «ينفكّ» بدل «ينكف».
3- سبق تخريجه في ص 228 الهامش 6.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 383، ح 2050.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 27، ح 111؛ الاستبصار، ج 4، ص 69، ح 252.
6- الهداية، ص 310؛ وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 368، المسألة 62.
7- السنن الكبرى البيهقي، ج 9، ص 398، ح 18884 بتفاوت.

-------------------------------------------------------------------

قال: «فما يقولون في الشاة ذبحها رجل، أذكاها؟» قال، قلت: نعم. قال: «فإنّ السبع جاء بعد ما ذكي فأكل بعضها أتوكل البقية؟ قلت: نعم. قال: «فإذا أجابوك إلى هذا فقل لهم: كيف تقولون إذا ذكى هذا وأكل منها لم تأكلوا منها، وإذا ذكى هذا وأكل أكلتم؟!»(1).

والشيخ جمع بين الأخبار بأن المعتاد للأكل لا يحلّ صيده دون من يأكل نادراً، أو بحمل الأخبار الدالّة على عدم حلّ ما يأكل منه على التقيّة(2)، كما يشعر به هذا الحديث الصحيح. وبين الحملين اختلاف في الفتوى. وهذا الخبر الصحيح لا يحتمل الحمل على الأكل نادراً بقرينة التعليل المذكور والعامّة مختلفون أيضاً فى هذا الشرط بسبب اختلاف الحديث النبويّ(3).

وفي حكم أكله منه ما إذا أراد الصائد أخذ الصيد منه فامتنع وصار يقاتل دونه، ذكر ذلك ابن الجنيد(4)، وغيره (5)؛ لأنّه في معنى الأكل من حيث إنّ غرضه ذلك، فلم يتمرن على التعليم من هذه الجهة.

وفرّق ابن الجنيد بين أكله منه قبل موت الصيد وبعده، وجعل الأوّل قادحاً في التعليم دون الثاني، ولعله جمع بين الأخبار.

إذا تقرّر ذلك، فالأمور المعتبرة في التعليم لا بد أن تتكرّر مرّةً بعد أُخرى ليغلب على الظنّ تأدب الكلب. ولم يقدّر أكثر الأصحّاب عدد المرّات؛ وذلك لأنّ المعتبر في التعليم العرف وهو مضطرب، وطباع الجوارح مختلفة، والرجوع في الباب إلى أهل الخبرة بطباع

ص: 234


1- الكافي، ج 6، ص 203 - 204، باب صيد الكلب والفهد، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 23، ح 91؛ الاستبصار، ج 4، ص 69 - 70، ح 253، وفيها بتفاوت يسير.
2- الاستبصار، ج 4، ص 69، ذيل الحديث 252.
3- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 7؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 9 - 10، المسألة 7705 - 7707؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 515.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 292، المسألة 14.
5- راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 517.
شروط المرسل
إشارة:

• ويشترط في المرسل شروط:

الأوّل: أن يكون مسلماً أو بحكمه

الأوّل: أن يكون مسلماً أو بحكمه كالصبي. فلو أرسله المجوسي أو الوثني لم يحلّ أكل ما يقتله. وإن أرسله اليهودي والنصراني فيه خلاف أظهره أنه لا يحلّ.

-------------------------------------------------------------------

الجوارح. واكتفى بعضهم بالتكرّر مرتين؛ لأنّ العادة تثبت بهما(1)، واعتبر آخرون ثلاث مرات (2). والأقوى الرجوع إلى العرف.

وحيث يتحقّق التعليم لو خالف في بعض الصفات مرّةً لم يقدح فيه. فإن عاد ثانياً بني على أنّ التعليم هل يكفي فيه المرّتان أم لا؟ فإن اكتفينا بهما زال بهما ولم يؤثر في حلّ ما سبق، كما لا يعطف الحلّ بالتعليم على تحريم ما سبق عليه، وإن اعتبرنا الثلاث فكذلك هنا. وكذا إن اعتبرنا العرف.

وحيث يقدح الأكل فالمعتبر منه أكل اللحم، فلا يضر شربه الدم؛ لأنّه غير مقصود للصائد. وفي أكل حشوته وجهان، من أنّها تؤكل كاللحم، ومن أنّها تلقى غالباً ولا تقصد كالدم.

قوله: «ويشترط في المرسل شروط الأوّل: أن يكون مسلماً أو بحكمه» إلى آخره.

إرسال الكلب والسهم نوع من التذكية فيشترط فيه شروطها. وسيأتي البحث فيها إن شاء اللّه تعالى(3). والمشهور أنّ من شروطها الإسلام، فكما لا يصحّ تذكية غير المسلم بالذبح والنحر فكذا إرساله الكلب والصبيّ المميز بحكم المسلم.

وتمثيله بالمجوسي والوثني تمثيل بمحل الوفاق من أقسام الكفار. وأمّا اليهودي والنصراني فإنّهما وإن كانا كافرين - فخرجا باشتراط الإسلام وما في حكمه - إلّا أنّ فيهما

ص: 235


1- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 7، حكاه عن أبي حنيفة؛ وحلية العلماء، ج 3، ص 426، حكاه عن أبي حنيفة 15، وأحمد؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 515، حكاه بقوله: «وقيل مرتين».
2- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 7، المسألة 7705؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 515، حكاه بقوله: «وقيل: يشترط تكرّره ثلاث مرات».
3- يأتي في ص 263.
الثاني: أن يرسله للاصطياد

الثاني: • أن يرسله للاصطياد. فلو استرسل من نفسه لم يحلّ مقتوله. نعم، لو زجره عقيب الاسترسال فوقف ثمّ أغراه صحّ؛ لأنّ الاسترسال انقطع بوقوفه وصار الإغراء إرسالاً مستأنفاً، ولا كذلك لو استرسل فأغراه.

-------------------------------------------------------------------

للأصحاب خلافاً، والمشهور عدم الحلّ. وسيأتي البحث فيه(1)، وأنّ في المجوسي أيضاً قولاً بالحلّ، إلّا أن يخصّ بنوع من التذكية كالذبح، كما يظهر من كلام الصدوق (2). وهذا هو الذي يقتضيه عبارة الكتاب هنا.

قوله: «أن يرسله للاصطياد» إلى آخره.

اشتمل هذا الشرط على أمرين:

أحدهما اعتبار إرسال الكلب. فلو استرسل بنفسه وقتل صيداً فهو حرام، سواء كان معلماً أم لا، واحتجوا له بأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قيد تجويز الأكل بالإرسال فقال: «إذا أرسلت كلبك المعلم فكل»(3)، حتّى لو أكل الكلب والحال هذه من الصيد لم يقدح ذلك في كونه معلماً؛ لأنّه ليس بصيد وإنّما يعتبر الإمساك إذا أرسله صاحبه.

ولو أنّ صاحب الكلب زجره لما استرسل فانزجر ووقف ثمّ أغراه فاسترسل وقتل الصيد حلّ لانقطاع حكم الاسترسال السابق بوقوفه، فكان الإرسال ثانياً كالمبتدإ الواقع بعد إرسال سابق انقضى.

ولو لم يزجره ومضى على وجهه لم يحلّ الصيد، سواء زاد في عدوه وحدته أم لم يزد.

ولو لم يزجره بل أغراه، فإن لم يزد عدوه لم يؤثر إغراؤه قطعاً، وإن زاد عدوه فوجهان:

أحدهما الحلّ لأنّه قد ظهر أثر الإغراء، فينقطع الاسترسال، ويصير كأنه خرج بإغراء صاحبه.

ص: 236


1- يأتي في ص 263 ومابعدها.
2- راجع المقنع، ص 417؛ والفقيه، ج 3، ص 330، ح 4183، وص 331، ح 4185.
3- تقدّم تخريجه في ص 226، الهامش 3.
الثالث: أن يسمّي عند إرساله

الثالث: • أن يسمّى عند إرساله. فلو ترك التسمية عمداً لم يحلّ ما يقتله. ولا يضر لو كان نسياناً.

ولو أرسل واحد وسمّى آخر لم يحلّ المصيد مع قتله له.

ولو سمّى فأرسل آخر كلبه ولم يسمّ، واشتركا في قتل الصيد لم يحلّ.

-------------------------------------------------------------------

وأصحّهما المنع؛ لأنّه قد اجتمع الاسترسال (1) المحرّم والإغراء المبيح، فقتله بالسببين فيغلّب التحريم.

ولو كان الإغراء وزيادة العدو بعد ما زجره فلم ينزجر فالوجهان. وأولى بعدم الحلّ هنا؛ لظهور تأنّيه(2) وترك مبالاته بإشارة الصائد.

ويتفرّع على الوجهين ما إذا أرسل كلباً معلماً فأغراه مجوسي فازداد عدوه، فإن قلنا لا ينقطع هناك حكم الاسترسال - كما هو الأصحّ - حلّ الصيد هنا، ولم يؤثر إغراء المجوسي، وإن أحلنا الاصطياد على الإغراء وقطعنا حكم الاسترسال لم يحلّ.

ولو انعكس بأن أرسل مجوسى كلباً فأغراه مسلم وازداد عدوه، فإن قطع الإغراء الذي يزاد به العدو حكم الأوّل حلّ الصيد، وإلّا فلا.

ولو أرسل كلبه فأغراه فضولي وازداد عدوه، ففي ملكه للصيد وإن كان غاصباً للكلب الوجهان، فإن قلنا إنّ الإغراء لا يقطع فالصيد لصاحب الكلب، وإلّا فللفضولي. ويحتمل اشتراكهما في الملك؛ لحصوله بفعلهما، وإن كان الأصحّ هو الأوّل.

الأمر الثاني: القصد بالإرسال إلى الصيد، فلو أرسله حيث لا صيد فاعترض صيداً فقتله لم يحلّ؛ لأنّ ذلك في قوة استرساله من قبل نفسه. وسيأتي ما يترتّب عليه من التفريع (3).

قوله: «أن يسمّى عند إرساله» إلى آخره.

لا خلاف في وجوب التسمية واشتراطها في حلّ ما يقتله الكلب والسهم عندنا وعند كلّ

ص: 237


1- في «و» وإحدى الحجريّتين: «الإرسال» بدل «الاسترسال».
2- في بعض النسخ «تأبّيه» بدل «تأنيه».
3- يأتي في ص 247.

-------------------------------------------------------------------

من أوجبها في الذبيحة. وقد اشتركا في الدلالة من قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُواْ ممّا لَمْ يُذْكَرِ اَسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقُ»(1). واختص هذا المحلّ بقوله تعالى: «فَكُلُواْ ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ» (2) وقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعديّ بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم اللّه تعالى فكلّ»(3). فجعل الشرط أموراً ثلاثة: إرسال الكلب، وكونه معلّماً، وتسمية اللّه تعالى.

وقد تقدّم في صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يسرّح كلبه المعلم ويسمّي إذا سرّحه قال: «يأكل ممّا أمسك عليه»(4). وفي صحيحة الحلبي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من أرسل كلبه ولم يسم فلا يأكله»(5).

ولا خلاف أيضاً في إجزائها إذا وقعت عند الإرسال؛ لانطباق جميع الأدلّة عليه، وتصريح قوله «ويسمّي إذا سرّحه» به؛ لأنّ «إذا» ظرف زمان وفيها معنى الشرط غالباً. وعليه اقتصر المصنّف (رحمه اللّه) حيث قال: «أن يسمّي عند إرساله».

واختلفوا في إجزائها إذا وقعت في الوقت الذي بين الإرسال وعضة الكلب أو إصابة السهم، فقيل: لا يجزئ ؛ لما أشرنا إليه من دلالة ظاهر الأخبار على كون التسمية حال الإرسال، خصوصاً في قوله «ويستي إذا سرحه»، ولأن الإرسال منزّل منزلة الذكاة؛ لأنّها تجزئ عنده إجماعاً، فلا تجزئ بعده كما لا تجزئ بعد الذكاة.

وأظهرهما الإجزاء، لقوله تعالى: «فَكُلُواْ ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ» (6).

ص: 238


1- الأنعام (6): 121.
2- المائدة (5): 4.
3- تقدّم تخريجه في ص 226، الهامش 3.
4- تقدّم تخريجها في ص 226، الهامش 4.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 27، ح 109.
6- المائدة (5): 4.

-------------------------------------------------------------------

أي على الصيد المضمر في قوله: «ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»، وهو يصدق بذكر اسم اللّه عليه في جميع الوقت المذكور. وكذا يتناوله عموم النصوص الباقية(1). وليس فيها ما يدلّ على انحصار الوقت في زمن الإرسال. وقوله «ويستي إذا سرّحه» وقع سؤالاً من السائل، وهو لا ينافي إجزاءها لو وقعت بعده.

ولا نسلّم أنّ الذكاة تحصل بالإرسال، بل بالعقر المزهق ولو حصلت بالإرسال لما افتقر الصيد إلى التذكية لو أدركه مستقر الحياة ولا إذا مات بسبب آخر وإنّما اجتزأ الشارع بالتسمية عند الإرسال رخصةً وتخفيفاً، ولكونه السبب الأعظم في التذكية، وعسر مراعاة حالة العقر. فلم تكن التسمية متعيّنةً حال الإرسال، بل ما قرب من وقت التذكية ينبغي أن يكون أولى بالإجزاء، وعلى تقدير مقارنتها لعض الكلب وإصابة السهم يكون قد اتصلت بالحالة التي نالت فيها الآلة الصيد كالاتصال بحالة إمرار السكين على الحلق.

ومحلّ الخلاف ما إذا تعمد تأخيرها عن الإرسال. أما لو نسي وذكر في الأثناء فلا شبهة في اعتبارها حينئذٍ.

إذا تقرّر ذلك، فلو ترك التسمية عمداً لم يحلّ للنهي عن أكله حينئذٍ المقتضي للتحريم. واستثني من ذلك ما لو نسي التسمية؛ لقول أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا أرسل كلبه ونسي أن يسمّي فهو بمنزلة من ذبح ونسي أن يسمّي، وكذلك إذا رمى بالسهم ونسي أن يسمّي»(2). وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا سميت فإن كنت ناسياً فكلّ منه»(3).

وسيأتي ما يدل على أن نسيان التسمية عند الذبح لا يقدح في الحلّ(4)، ومنه صحيحة

ص: 239


1- كالآية 121 من سورة الأنعام (6)؛ وحديث عدي بن حاتم المذكور في الصفحة السابقة.
2- الكافي، ج 6، ص 206، باب صيد الكلب والفهد، ح 18؛ الفقيه، ج 3، ص 316، ح 4128؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 25 - 26، ح 102.
3- الكافي، ج 6، ص 205، باب صيد الكلب والفهد، ح 13 مع اختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 24، ج 97: الاستبصار، ج 4، ص 68، ج 245.
4- يأتي في ص 284 – 285.

-------------------------------------------------------------------

محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يذبح ولا يسمّي. قال: «إذا كان ناسياً فلا بأس عليه»(1). والجاهل بوجوبها ولو بسبب الاعتقاد كالناسي، مع احتمال إلحاقه بالعامد مطلقاً؛ لأنّه في معناه.

ثم تمّم المصنّف (رحمه اللّه) حكم المسألة بأمرين:

الأوّل: يشترط كون السبب الجامع للشرائط التي من جملتها الإرسال والتسمية وقصد الصيد - ممّا يستند إليه الإزهاق وحده، فلو أرسل واحد كلبه ولم يسمّ وسمّى آخر لم يحلّ الصيد؛ لأنّ الاصطياد الذي يترتّب عليه حكمه شرعاً لم ينسب إلى واحد منهما، فلا يحكم بالحلّ بالنسبة إليه، وغيره مترتّب عليه؛ ولصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن القوم يخرجون جماعتهم إلى الصيد، فيكون الكلب لرجل منهم، ويرسل صاحب الكلب كلبه ويسمّي غيره، أيجزئ ذلك؟ قال: «لا يسمّي إلّا صاحبه الذي أرسله»(2). وأولى منه ما إذا أرسل واحد وقصد آخر وسمّى ثالث.

الثاني: لو سمّى وأرسل كلبه، فأرسل آخر كلبه ولم يسم، واشترك الكلبان في قتل الصيد لم يحلّ؛ لأنّه صيد بسببين: أحدهما محلّل والآخر محرّم، فغلب جانب التحريم. ومثله ما لو دخل مع كلبه كلب غريب لم يرسله مرسل، وكذا لو شك هل قتله الكلب الذي ستى وقت إرساله أو غيره؟ لأصالة عدم الحلّ إلى أن يثبت.

ويؤيّده رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن قوم أرسلوا كلابهم وهي معلَّمة كلّها وقد سمّوا عليها، فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحباً، فاشتركت جميعاً في الصيد. فقال: «لا يؤكل منه؛ لأنك لا تدري أخذه معلم أم لا؟»(3).

ص: 240


1- الكافي، ج 1، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة أو ترك التسمية.... ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 60، ح 252 مع اختلاف يسير.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 26، ح 103.
3- الكافي، ج 1، ص 206، باب صيد الكلب والفهد، ح 19 مع اختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 26، ح 105.
الرابع: أن لا يغيب الصيد وحياته مستقرّة

الرابع: • أن لا يغيب الصيد وحياته مستقرة. فلو وجد مقتولاً أو ميتاً بعد غيبته لم يحلّ؛ لاحتمال أن يكون القتل لا منه، سواء وجد الكلب واقفاً عليه أو بعيداً منه.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «أن لا يغيب الصيد وحياته مستقرة» إلى آخره.

من الشروط المعتبرة في حلّ الصيد بالكلب والسهم أن يحصل موته بسبب الجرح، فلو مات بصدمه أو افتراس سبع أو أعان ذلك الجرح غيره كما ذكرنا في نظائره - لم يحلّ.

ويتفرّع على ذلك ما لو غاب الصيد وحياته مستقرّة ثمّ وجده ميّتاً(1)، فإنّه لا يحلّ: لاحتمال أن يكون مات بسبب آخر، ولا أثر لكون الكلب مضمّخاً(2) بدمه، فربما جرحه الكلب وأصابته آفة أخرى. ولو انتهت به الجراحة إلى حالة حركة المذبوح حلّ وإن غاب. وكذا لو فرض علمه بأنه مات من جراحته، إلّا أن الفرض لما كان بعيداً أطلق التحريم وعلله بالاحتمال.

والمعتبر من العلم هنا الظنّ الغالب، كما لو وجد الضربة في مقتل (3) وليس هناك سبب آخر صالح للموت.

والمستند ما روي عن عديّ بن حاتم قال قلت: يا رسول اللّه، إنّا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد فيغيب عنه الليلتين والثلاث فيجده ميتاً، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا وجدت فيه أثر سهمك، ولم يكن فيه أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله فكلّ»(4)، فشرط العلم بأنّ سهمه قتله.

وعن ابن عباس (رضي اللّه عنه) أنه قال: كلّ ما أصميت، ودع ما أنميت(5). والمراد ب«ما أصميت» أي قتله سهمك وأنت تراه، وما أنميت» ما غاب عنك مقتله.

وروى حريز - في الصحيح - قال: سئل أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرميّة يجدها صاحبها من

ص: 241


1- في حاشية «و»: «أحد قولي الشافعي أنّه يحلّ مع الغيبة؛ لأصالة عدم سبب آخر، ولرواية عدي بن حاتم. عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كله إلّا أن تجده وقع في ماء» وعن أبي حنيفة: إن اتبعه عقيب الرمي فوجده ميّتاً حلّ، وإن أخر اتّباعه لم يحلّ. وعن مالك: إن وجده في يومه حلّ، وإن وجده بعد ذلك فلا. (منه رحمه اللّه)».
2- تضمّخ: تلطَّخ به. الصحاح، ج 1، ص 426، «ضمخ».
3- مقاتل الإنسان المواضع التي إذا أصيبت قتلته الصحاح، ج 3، ص 1797، «قتل».
4- تلخيص الحبير، ج 4، ص 136، ح 1947.
5- تلخيص الحبير، ج 4، ص 136، ح 1948 السنن الكبرى البيهقي، ج 9، ص 404، ح 18901.

• ويجوز الاصطياد بالشرك والحبالة والشباك، لكن لا يحلّ منه إلّا ما يدرك ذكاته، ولو كان فيه سلاح. وكذا السهم، إذا لم يكن فيه نصل ولا يخرق.

• وقيل: يحرم أن يرمي الصيد بما هو أكبر منه. وقيل: بل يكره. وهو أولى.

-------------------------------------------------------------------

الغد أتوكل؟ فقال: «إن كان يعلم أن رميته هي التي قتلته فليأكل، وذلك إذا كان قد سمّى»(1).

وروى زرارة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا رميت فوجدته وليس به أثر غير السهم وترى أنّه لم يقتله غير سهمك فكل، يغيب عنك أو لم يغب عنك»(2).

قوله: «ويجوز الاصطياد بالشرك والحبالة والشباك» إلى آخره.

المراد بالاصطياد بهذه الآلات إثبات اليد على الصيد، كما أشرنا إليه في أول الكتاب من أنه أحد معانيه شرعاً (3). وقوله «لكن لا يحلّ» إلى آخره إشارة إلى معناه الآخر المبحوث عنه هنا، وهو إزهاق روحه بالذبح وما في معناه.

والحاصل أن الاصطياد بالمعنى الأوّل يجوز بكلّ آلة يتوصل بها إليه من غير شرط شيء آخر، والاصطياد بمعنى إزهاق روح الحيوان مشروط بالشروط المذكورة كما تقدّم. وسيأتي البحث عمّا يتحقّق به الملك في الاصطياد بالمعنى الأوّل(4).

قوله: «وقيل: يحرم أن يرمي الصيد بما هو أكبر منه» إلى آخره.

القول بالتحريم للشيخ في النهاية(5)، وابن حمزة (6)؛ استناداً إلى مرفوعة محمّد بن يحيى قال، قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يرمي الصيد بشيء أكبر منه»(7).

ص: 242


1- الكافي، ج 6، ص 210، باب الصيد بالسلاح، ح 3 مع اختلاف يسير؛ الفقيه، ج 3، ص 316، ح 4130: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 34، ح 135.
2- الكافي، ج 1، ص 211، باب الصيد بالسلاح، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 34، ح 139.
3- راجع ص 226.
4- يأتي في ص 261 - 262.
5- النهاية، ص 580.
6- الوسيلة، ص 357.
7- الكافي، ج 6، ص 211، باب الصيد بالسلاح، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 35، ح 142.

الأمر الثاني في أحكام الاصطياد

لو أرسل المسلم والوثني آلتهما فقتلا الصيد

• ولو أرسل المسلم والوثني آلتهما فقتلاه لم يحلّ، سواء اتّفقت آلتهما مثل أن يرسلا كلبين أو سهمين، أو اختلفا كأن يرسل أحدهما كلباً والآخر سهماً، وسواء اتّفقت الإصابة في وقت واحد أو وقتين إذا كان أثر كلّ واحد من الآلتين قاتلاً.

ولو أثخنه المسلم فلم تعد حياته مستقرةً، ثمّ ذفّف عليه الآخر حل؛ لأنّ القاتل .المسلم ولو انعكس الفرض لم يحلّ. ولو اشتبه الحالان،حرم تغليباً للحرمة.

-------------------------------------------------------------------

والأصحّ الكراهة؛ لقصور الرواية عن إفادة التحريم سنداً ودلالة، وسهولة الخطب في دليل الكراهة.

وصرّح المانعان بتحريم الفعل والصيد معاً. وهو ضعف في ضعف؛ لأنّ غاية دلالة الحديث النهي عن الفعل، وهو لا يستلزم تحريم الصيد.

قوله: «ولو أرسل المسلم والوثني آلتهما فقتلاه لم يحلّ» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ من شرط قتل الصيد استناد موته إلى السبب المحلّل(1)، فلو مات بسببين مبيح ومحرّم حرم؛ تغليباً للتحريم. ومن أمثلته ما لو أرسل المسلم والوثني التهما فاستند قتله إليهما، فإنّه يحرم، سواء اتّفقت الآلتان في الجنس كالكلبين والسهمين، أم اختلفتا كما لو أرسل أحدهما كلباً والآخر سهماً، وسواء اقترنا في الإصابة أم ترتّباً؛ لأنّ المانع موته بهما كيف اتّفق. وذكر الوثني لتخصيص موضع الوفاق، وإلّا فمطلق الكافر وإن كان كتابياً عنده كذلك.

ولو كان القاتل آلة المسلم خاصّة وكلب الوثنى أعانه أو ردّه عليه ولم يعرض له حلّ؛ لاستناد موته إلى السبب المحلّل.

ولو أصاباه بالآلتين ولكن كانت آلة المسلم هي المثخنة أي صيّرته غير مستقر الحياة،

ص: 243


1- تقدّم في ص 241.

• ولو كان مع المسلم كلبان أرسل أحدهما واسترسل الآخر، فقتلا لم يحلّ.

• ولو رمى سهماً فأوصلته الريح إلى الصيد فقتله حلّ، وإن كان لولا الريح لم يصل. وكذا لو أصاب السهم الأرض ثمّ وثب فقتل.

-------------------------------------------------------------------

ثمّ ذفّف عليه الآخر - بالذال المعجمة، أي جهّز عليه(1) - حل؛ لاستناد موته إلى السبب المحلّل خاصّة، ولو كان الآخر معيّنا على التعجيل؛ لأنّ ذلك غير قادح في الحلّ، كما لو سقط برمي المسلم كذلك في ماء أو تردّى من جبل؛ لحصول الموت في الجميع من السبب المحلّل، وإنّما يمنع مع استناد الموت إليهما.

ولو انعكس الفرض بأن كانت آلة الكافر هي الموجبة للإزهاق وآلة المسلم مجهزة فأولى بالتحريم.

ولو اشتبه الحال حرم أيضاً؛ لأصالة عدم التذكية التي هي شرط في الحل والجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط.

ومن أنواع السببين اللذين أحدهما محلّل والآخر محرّم ما لو مات بسهم وبندقة أصاباه من رام واحد أو راميين أو أصاب الصيد طرف من النصل فجرحه وأثر فيه المعراض فمات بهما، ونحو ذلك.

قوله: «ولو كان مع المسلم كلبان أرسل أحدهما واسترسل الآخر فقتلا لم يحلّ».

هذا أيضاً من أمثلة موته بسببين: أحدهما محلّل والآخر محرّم، فإنّ كلب المسلم لا يحلّ مقتوله مطلقاً، بل من شرطه إرساله على الصيد والتسمية، وهو مفقود في أحدهما فيحرم. وهو واضح.

قوله: «ولو رمى سهماً فأوصلته الريح إلى الصيد فقتله حلّ» إلى آخره.

هاتان صورتان يحصل فيهما الموت بمشاركة غير السهم من الأسباب المحرّمة، لكن لا يقدح هنا في الحلّ.

ص: 244


1- لسان العرب، ج 9، ص 110، «ذفف».
الاعتبار في حلّ الصيد بالمرسل لا بالمعلّم

• والاعتبار في حلّ الصيد بالمرسل لا بالمعلّم. فإن كان المرسل مسلماً فقتل حلّ ولو كان المعلّم مجوسيّاً أو وثنيّاً. ولو كان المرسل غير مسلم لم يحلّ ولو كان المعلّم مسلماً.

-------------------------------------------------------------------

إحداهما: ما إذا أصاب السهم الصيد بإعانة الريح وكان يقصر عنه لولا الريح، فإنّه يحلّ؛ لأنّ الاحتراز من هبوب الريح لا يمكن ولا يتغيّر به حكم الإرسال.

والثانية: ما لو أصاب الأرض أو انصدم بحائط ثمّ از دلق منه وأصاب الصيد، فإنّه يحلّ أيضاً؛ لأنّ ما يتولّد من فعل الرامي منسوب إليه؛ إذ لا اختيار للسهم وكذا لو أصاب حجراً فنباً(1) عنه وأصاب الصيد؛ نظراً إلى ابتداء الرمي وحصول الإصابة.

هكذا أطلقه الأصحّاب. ولا يخلو الحكم فيهما من إشكال إن لم يكن إجماعيّاً. أمّا في الأوّل فلاستناده إلى السببين، وعدم إمكان الاحتراز عن الهواء ممنوع. وأما في الثاني فلأنّ ما جرى لم يكن على وفق قصده، وكيف كان فالمذهب الحلّ.

قوله: «والاعتبار في حلّ الصيد بالمرسل لا بالمعلّم» إلى آخره.

لمّا كان الحكم بالحلّ معلّقاً على قتل الكلب المعلّم وإرسال المسلم وتسميته وقصده، لم يفرّق بين كون المعلّم مسلماً أو كافراً؛ لتحقّق الشرط على التقديرين، والكلب آلة للتذكية كالسكّين، ولا يفرّق فيها بين كون صانعها مسلماً أو كافراً، ولا ينفع كون المعلّم مسلماً مع كون المرسل كافراً؛ لأنّ الشرط وإن وجد في الكلب فقد تخلّف في الصائد.

ويؤيّده صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن كلب المجوسي يأخذه الرجل المسلم فيسمي حين يرسله أ يأكل ممّا أمسك عليه؟ فقال: «نعم؛ لأنّه مكلّب وذكر اسم اللّه عليه»(2). وهذا مذهب الأكثر، بل ادّعى عليه في الخلاف إجماع الفرقة (3).

ص: 245


1- في «و»: «فنأى» وفي بعض النسخ: «فنشأ» بدل «فنباً».
2- الكافي، ج 1، ص 208 - 209، باب صيد كلب المجوسي وأهل الفرقة، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 315 - 316، ح 4126: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 30، ح 118؛ الاستبصار، ج 4، ص 70، ح 254.
3- الخلاف، ج 6، ص 19 المسألة 18.
لو أرسل كلبه على صيد وسمّى فقتل غيره

• ولو أرسل كلبه على صيد وسمّى فقتل غيره حلّ. وكذا لو أرسله على صيود كبار فتفرّقت عن صغار فقتلها حلّت إذا كانت ممتنعة. وكذا الحكم في الآلة.

-------------------------------------------------------------------

وقال في المبسوط : لا يحلّ مقتول ما علّمه المجوسي (1) ؛ محتجاً بقوله تعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه» (2)، وهذا لم يعلمه المسلم.

وبرواية عبد الرحمن بن سيابة قال: سألت أبا عبداللّه فقلت: كلب مجوسي أستعيره أفأصيد به؟ قال: «لا تأكل من صيده إلّا أن يكون علَّمه مسلم»(3).

وأجيب بأنّ الآية خرجت مخرج الغالب لا على وجه الاشتراط(4). والنهي في الخبر محمول على الكراهة جمعاً، مع أن الراوي - وهو عبد الرحمن – مجهول(5)، فلا يعارض الصحيح، ولا ضرورة معه إلى الحمل.

والشيخ في كتابي الأخبار جمع بينهما بحمل الأوّل على ما إذا علمه المسلم بعد أخذه. والثاني على ما إذا لم يعلمه(6). واستشهد للجمع برواية السكوني عن أبي عبداللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: كلب المجوسي لا تأكل صيده إلّا أن يأخذه المسلم فيعلمه ويرسله، وكذلك البازي»(7).

وهذا يدل على أنّ مذهبه في الكتابين كمذهبه في المبسوط.

قوله: «ولو أرسل كلبه على صيد وسمّى فقتل غيره حلّ - إلى قوله استرسال الكلب». من الأمور المعتبرة في حلّ الصيد قصده حين إرسال الكلب أو السهم، فلو رمى سهماً في الهواء أو في فضاء من الأرض لاختبار قوته أو عبثاً، أو رمى إلى هدف فاعترض صيداً

ص: 246


1- المبسوط، ج 4، ص 654- 655.
2- المائدة (5): 4.
3- الكافي، ج 1، ص 209، باب صيد كلب المجوسي وأهل الفرقة، ح 2 مع اختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 30، ح 119؛ الاستبصار، ج 4، ص 70، ح 255.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 297، المسألة 18.
5- راجع رجال الطوسي، ص 235، الرقم 3209؛ واختيار معرفة الرجال، ص 390، ح 734.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 30، ذيل الحديث 119؛ الاستبصار، ج 4 ص 70، ذيل الحديث 255.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 30، ح 120: الاستبصار، ج 4، ص 71، ح 256.

أمّا لو أرسله ولم يشاهد صيداً فاتّفق إصابة الصيد لم يحلّ ولو سمّى، سواء كانت الآلة كلباً أو سلاحاً؛ لأنّه لم يقصد الصيد، فجرى مجرى استرسال الكلب.

-------------------------------------------------------------------

فأصابه وقتله من غير قصد لم يحلّ وإن كان سمّى عند إرساله. وكذا لو أرسل كلبه كذلك. وكذا لو رمى بقصد حيوان محرّم كالخنزير فأصاب محلّلاً، أو رمي حيواناً ظنّه خنزيراً فبان ظبياً.

والمعتبر قصد جنس الصيد لا عينه، فلو أرسل كلبه أو سهمه على صيد معيّن فقتل غيره حلّ لتحقّق القصد إلى الصيد وكذا لو أرسل على سرب ظباء ولم يقصد واحداً بعينه، أو على صيود كبار فتفرّقت عن صغار فقتلت الصغار الممتنعة، ونحو ذلك.

وممّا يدلّ على عدم اعتبار قصد غير الصيد رواية عباد بن صهيب قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل سمّى ورمى صيداً فأخطأ وأصاب صيداً آخر، قال: «يأكل منه»(1).

وهل يعتبر مع قصد الصيد مشاهدته أو العلم به، أم لا يشترط ذلك، بل لو قصده راجياً وجوده فاتّفق صیده کفی؟ ظاهر قوله «أمّا لو أرسله ولم يشاهد صيداً فاتّفق إصابة الصيد

لم يحلّ الأوّل، فإنّه لم يفرّق في الإطلاق كلامه بين قاصد الصيد بذلك وغيره. ولكن تعليله بقوله «لأنّه لم يقصد الصيد» يقتضي أن إطلاقه الأوّل محمول على غير القاصد للصيد أصلاً، إلّا أن يحمل التعليل على أنه لم يقصد قصداً صحيحاً فيتم، إلّا أن قوله «فجرى مجرى استرسال الكلب» ينافي ذلك؛ لأنّ استرسال الكلب واقع بغير قصد أصلاً فضلاً عن عدم قصد الصيد.

والأقوى عدم اشتراط مشاهدة الصيد، والاكتفاء بالعلم به بل بظنّه ليتوجّه القصد إليه، بل يحتمل الاكتفاء بقصده إذا كان يتوقّعه وبنى الرمي والإرسال عليه، كما إذا رمى في ظلمة الليل وقال: ربما أصبت صيداً، فأصابه.

ص: 247


1- الكافي، ج 6، ص 215، باب الرجل يرمى الصيد فيخطيء ويصيب غيره، ح 1 مع اختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 38، ح 160.
الصيد الذي يحلّ بقتل الكلب أو آلاته

• والصيد الذي يحلّ بقتل الكلب له أو الآلة في غير موضع الذكاة، هو كلّ ما كان ممتنعاً، وحشيّاً كان أو إنسيّاً.

وكذلك ما يصول من البهائم، أو يتردّى في بئر وشبهها، ويتعذّر ذبحه أو نحره، فإنّه يكفي عقرها في استباحتها، ولا يختص العقر حينئذٍ بموضع من جسدها.

-------------------------------------------------------------------

وعلى هذا يتفرّع صيد الأعمّى، فإن أحس بالصيد في الجملة ولو ظنّاً فقصده بالرمي أو الإرسال فوافق حلّ.

ونبّه المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «سواء كانت الآلة كلباً أو سلاحاً» على خلاف بعض الشافعيّة حيث فرّق بين الأمرين، فحكم في السهم إذا قصد به صيداً فأصاب آخر بالحلّ، سواء عدل السهم عن الجهة التي قصدها إلى غيرها فأصاب أم لا؛ لأنّ السهم لا اختيار له، وما حصل فمن فعل الرامي، بخلاف الكلب إذا أُرسل إلى صيد فعدل عن الجهة التي أرسله فيها إلى جهة أخرى، فإنّه لا يحلّ(1)؛ لأنّه مضى في تلك الجهة باختياره، فهو كما لو استرسل (2) بنفسه.

والأظهر عندهم المساواة(3)؛ لأنّه أرسله على الصيد وقد أخذه، وتكليفه بأن لا يعدل من جهة إلى أخرى غير معتبر. وكذلك لو عدل الصيد عن تلك الجهة إلى غيرها فتبعه الكلب لم يضرّ.

وربما عكس بعضهم الحكم فجعل صيد الكلب لغير المعيّن أولى بالحلّ من السهم إذا أخطأ إلى غير المعيّن؛ لأنّ تسديد السهم على ظبية من السرب ممكن، وإغراء الكلب على ظبية منه غير ممكن.

قوله: «والصيد الذي يحلّ بقتل الكلب له أو الآلة» إلى آخره.

الحيوان المحلّل لحمه المحرّم ميتته إما أن يكون مقدوراً على ذبحه وما في معناه، أو

ص: 248


1- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 19؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 520 - 521.
2- في جميع النسخ: «أرسل» بدل «استرسل». والمثبت من الحجريتين.
3- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 19؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 520 - 521.

-------------------------------------------------------------------

غير مقدور بأن كان متنفّراً متوحشاً. فالمقدور عليه لا يحل إلّا بالذبح في الحلق أو اللبّة على ما يأتي تفصيله (1).

ولا فرق فيه بين ما هو إنسي في الأصل، وبين الوحشى إذا استأنس أو حصل الظفر به. والمتوحّش - كالصيد - جميع أجزائه مذبح ما دام على توحشه، حتّى إذا رمى إليه سهماً أو أرسل كلباً فأصاب شيئاً من بدنه ومات حلّ. وهو في الصيد الوحشي موضع وفاق بين المسلمين، وفي الإنسي إذا توحش كما إذا ندّ (2) بعير - موضع وفاق منا ومن أكثر العامّة. وخالف فيه مالك، فقال: لا يحل إلّا بقطع الحلقوم(3).

لنا ما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت: يا رسول اللّه، إنّ لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها. قال: «كل ما أمسكن عليك». قلت: ذكيّ وغير ذكيّ؟ قال: «ذكيّ وغير ذكيّ»(4).

وما روي أنّ بعيراً ند فرماه رجل بسهم فحبسه فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ لهذه أوابد كوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا»(5). والأوابد: المتوحّشة(6).

وروي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سئل عن بعير تردّى في بئر، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لو طعنت في خاصرته لحلّ لك»(7).

وعن جابر (رضي اللّه عنه) أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «كلّ إنسية توحشت فذكّها ذكاة الوحشية»(8).

ص: 249


1- يأتي في ص 281 و 283.
2- ندّ البعير: إذا شرد. لسان العرب، ج 3، ص 419، «ندد».
3- الكافي، القرطبي، ج 1، ص 434 بداية المجتهد، ج 1، ص 474.
4- مسند أحمد، ج 2، ص 381 - 382، ح 6686؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 110 - 111، ح 2857 بتفاوت.
5- مسند أحمد، ج 4، ص 501 - 502، ح 15379 و 15386 بتفاوت؛ صحيح البخاري، ج 2، ص 881، ح 2356 صحیح مسلم، ج 3، ص 1558، ح 1968/20.
6- الصحاح، ج 1، ص 439، «أبد».
7- انظر نص الرواية في المجموع شرح المهذّب، ج 9، ص 124، وفيه: لو طعنت خاصرته لحلت لك. نقلاً عن الغزالي في الوسيط.
8- الكامل في ضعفاء الرجال، ج 2، ص 447.

• ولو رمى فرخاً لم ينهض فقتله لم يحلّ. وكذا لو رمى طائراً وفرخاً لم ينهض فقتلهما حلّ الطائر دون الفرخ.

• ولو تقاطعت الكلاب الصيد قبل إدراكه لم يحرم.

-------------------------------------------------------------------

ومن طريق الأصحّاب صحيحة الحلبي قال قال أبو عبداللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ثور تعاصى فابتدره قوم بأسيافهم وسمّوا وأتوا عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: «هذه ذكاة وحيّة(1)، ولحمه حلال»(2).

وحسنة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل ضرب بسيفه جزوراً أو شاة في غير مذبحها وقد سمى حين ضرب: «أمّا إذا اضطرّ إليه واستصعب عليه ما يريد أن يذبح فلا بأس بذلك»(3). وغير ذلك من الأخبار الكثيرة(4).

قوله: «ولو رمى فرخاً لم ينهض فقتله لم يحلّ» إلى آخره.

لمّا كان المعتبر في حلّ المقتول بالرمي كونه ممتنعاً، سواء كان وحشيّاً أم إنسيّاً، لم يحل ما ليس بممتنع وإن كان أصله التوحش، كفرخه، ولو اجتمعا فلكلّ واحد حكم نفسه، وهو واضح بعد ما سلف من المقدّمات.

قوله: «ولو تقاطعت الكلاب الصيد قبل إدراكه لم يحرم».

لوجود شرط الحلّ، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّا قطع الكلاب له، وهو لا يصلح للمانعيّة؛ لأنّ فعلهم(5) ذلك تذكية وزيادة فلا يكون منافياً لها.

ولا فرق بين تقاطعهم إيّاه وحياته مستقرة وعدمه، بخلاف ما لو تقاطعه الصائدون، فإنّ حلّه مشروط بوقوع فعلهم بعد أن صار في حكم المذبوح.

ص: 250


1- وَحى العملَ: عَجَّله، والذبيحة : ذبحها ذبحاً وَحِيّا، أي سريعاً. المعجم الوسيط، ص 1019، «وحی».
2- الكافي، ج 1، ص 231، باب البعير والثور يمتنعان من الذبح، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 54، ح 225.
3- الكافي، ج 1، ص 231 - 232، باب الذبيحة تذبح من غير مذبحها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 53، ح 221.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 19 - 22، الباب 10 من أبواب الذبائح.
5- في الطبعة الحجريّة: «فعل «الكلاب» بدل «فعلهم».
لو رمى صيداً فتردّى من جبل أو وقع في الماء فمات

• ولو رمى صيداً فتردى من جبل أو وقع في الماء فمات، لم يحلّ؛ لاحتمال أن يكون موته من السقطة.

نعم، لو صيّر حياته غير مستقرّة حلّ؛ لأنّه يجري مجرى المذبوح

لو قطعت الآلة من الصيد شيئاً

• ولو قطعت الآلة منه شيئاً كان ما قطعته ميتةً، ويذكّى ما بقى إن كانت حياته مستقرةً. ولو قطعته بنصفين فلم يتحرّكا فهما حلال، ولو تحرّك أحدهما فالحلال

-------------------------------------------------------------------

والفرق أنّ ذكاته بالذبح معتبرة مع إمكانها بعد أخذ الكلب له لا بدونها، فإذا أدركه الصائدون أو بعضهم مستقرّ الحياة صار حله متوقفاً على الذبح فلا يحلّ بدونه، بخلاف تقاطع الكلاب له قبل إدراكه، فإن اعتبار ذبحه ساقط.

قوله: «ولو رمى صيداً فتردى من جبل أو وقع في الماء فمات، لم يحلّ» إلى آخره.

هذا من باب اجتماع السببين المختلفين في التحليل والتحريم، فيغلّب جانب التحريم.

ويؤيّده صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن رجل رمى صيداً وهو على جبل أو حائط فيخرق فيه السهم فيموت، فقال: «كل منه، وإن وقع في الماء من رميتك فمات فلا تأكل منه»(1).

هذا إذا علم استناد موته إليهما أو إلى غير الرمية أو شكّ في الحال. ولو علم استناد موته إلى الرمية عادةً حلّ؛ لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وإن أفاده الماء والتردي تعجيلاً.

وقيّد الصدوقان الحلّ بأن يموت ورأسه خارج من الماء (2). ولا بأس به؛ لأنّه أمارة على قتله بالسهم إن لم يظهر خلاف ذلك.

قوله: «ولو قطعت الآلة منه شيئاً كان ما قطعته ميتةً - إلى قوله - وكلاهما شاذّ».

إذا رمى الصيد بآلة كالسيف فقطع منه قطعة كعضو منه، فإن بقي الباقي مقدوراً عليه

ص: 251


1- الكافي، ج 6، ص 215، باب الرجل يرمي الصيد فيصيبه فيقع في ماء...، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 52، ح 216.
2- المقنع، ص 414 - 415: وحكاه عنهما العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 369، المسألة 65.

هو. وقيل: يؤكلان إن لم يكن فى المتحرّك حياة مستقرة. وهو أشبه.

وفي رواية: «يؤكل ما فيه الرأس». وفي أُخرى: «يؤكل الأكبر دون الأصغر». وكلاهما شاذ.

-------------------------------------------------------------------

وحياته مستقرّة فلا إشكال في تحريم ما قطع منه؛ لأنّه قطعة أبينت من حي قبل تذكيته؛ إذ الضربة القاطعة لم يحصل بها التذكية فكان كما لو قطع ذلك منه بغير اصطياد. وإن لم يبق حياة الباقي مستقرةً، فمقتضى قواعد الصيد حلّ الجميع؛ لأنّه مقتول به، فكان بجملته حلالاً كما لو قطع منه شيئاً.

ولو قطعه نصفين - أي قطعتين وإن كانتا مختلفتين في المقدار - فإن لم يتحرّكا فهما حلال أيضاً؛ لما ذكرناه من كونه صيداً وقد أزهق به. وكذا لو تحرّكا حركة المذبوح، سواء خرج منهما دم معتدل أم من أحدهما أم لا؛ لأنّ ذلك ليس من شرائط الصيد، وكذا لو تحرّك أحدهما حركة المذبوح دون الآخر؛ لما ذكرناه من العموم(1)، وسواء في ذلك النصف الذي فيه الرأس وغيره.

وإن تحرّك أحدهما حركة مستقرّ الحياة، وذلك لا يكون إلّا في النصف الذي فيه الرأس. فإن كان قد أثبته بالجراحة الأولى فقد صار مقدوراً عليه فيتعيّن الذبح، ولا يجزئ سائر الجراحات، وتحلّ تلك القطعة دون المبانة. وإن لم يثبته بها، ولا أدركه وذبحه، بل جرحه جرحاً آخر مذفّفاً (2)، حلّ الصيد دون تلك القطعة. وإن مات بهما ففي حلّها وجهان، أجودهما العدم. وإن مات بالجراحة الأولى بعد مضي زمان ولم يتمكن من الذبح حلّ باقي البدن، وفي القطعة السابقة الوجهان، وأولى بالحل هنا لو قيل به ثم، من حيث إن الجرح السابق كالذبح للجملة. فيتبعها العضو. والأصحّ التحريم؛ لأنّه أبين من حيّ، فأشبه ما إذا قطع إليه شاة ثمّ ذبحها.

ص: 252


1- الكافي، ج 6، ص 255 - 256، باب ما يقطع من أليات الضأن.... ح 6 و 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 77، ح 326.
2- في الحجريّتين: «مدنفاً» وفي بعض النسخ: «مدففاً» بدل «مذففاً»، ودفف على الجريح كذفف: أجهز عليه. لسان العرب، ج 9، ص 105، «دفف».

-------------------------------------------------------------------

هذا هو الذي تقتضيه قواعد أحكام الصيد مع قطع النظر عن الروايات الشاذّة(1).

وفي المسألة أقوال منتشرة مستندة إلى اعتبارات أو روايات شاذة مشتملة على ضعف وقطع وإرسال.

منها : أنه مع تحرّك أحد النصفين دون الآخر فالحلال هو المتحرّك خاصّة، وأنّ حلّهما معاً مشروط بحركتهما أو عدم حركتهما معاً مع خروج الدم. وهو قول الشيخ في النهاية (2).

ومنها: أنّ حلّهما مشروط بتساويهما، ومع تفاوتهما يؤكل ما فيه الرأس إذا كان أكبر، ولم يشترط الحركة ولا خروج الدم. وهو قول الشيخ في كتابي الفروع(3).

ومنها: اشتراط الحركة وخروج الدم في كلّ واحد من النصفين، ومتى انفرد أحدهما بالشرطين أكل وترك ما لا يجمعهما، فلو لم يتحرّك واحد منهما حرما. وهو قول القاضي (4).

ومنها: أنه مع تساويهما يشترط في حلّهما خروج الدم منهما، وإن لم يخرج دم، فإن كان أحد الشقّين أكبر ومعه الرأس حلّ ذلك الشق، فإن تحرّك أحدهما حلّ المتحرّك. وهو قول ابن حمزة(5).

وما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من حلّهما مطلقاً إن لم يكن في المتحرّك حياة مستقرة هو الأقوىّ. وهو راجع إلى بعض ما فصلناه سابقاً (6).

وصحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الصيد يضربه الرجل بالسيف أو يطعنه بالرمح أو يرميه بسهم فيقتله وقد سمّى حين فعل ذلك. قال: «كُل لا بأس به»(7) شاملة

ص: 253


1- الكافي، ج 6، ص 255، باب ما يقطع من أليات الضأن...، 4 و 5؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 77، ح 327 و 328.
2- النهاية، ص 581.
3- المبسوط، ج 4، ص 654؛ الخلاف، ج 6، ص 18، المسألة 17.
4- المهذّب، ج 2، ص 436.
5- الوسيلة، ص 357.
6- سبق في ص 251 - 252.
7- الكافي، ج 6، ص 210، باب الصيد بالسلاح، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 33، ح 133.

الأمر الثالث في اللواحق وفيه مسائل

الاصطياد بالآلة المغصوبة

الأولى: • الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام. ولا يحرم المصيد، ويملكه الصائد دون صاحب الآلة، وعليه أجرة مثلها، سواء كانت كلباً أو سلاحاً.

-------------------------------------------------------------------

بعمومها لما قطع وغيره من غير اعتبار ما اعتبروه.

والرواية التي اعتبر فيها الأكبر مطلقاً رواها النوفلي عن بعض أصحابه، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1). والرواية التي تضمنت أكل ما فيه الرأس مطلقاً رواها إسحاق بن عمار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2). ولا يخفى ضعفهما.

وقول المصنّف (رحمه اللّه) ولو قطعه بنصفين أراد به القسمين مطلقاً لا المتساويين؛ لأنّه لا يعتبر التساوي فيهما، وهو المراد في مثل هذا الموضع غالباً، و«الباء» زائدة تدخل في مثل هذا التركيب عرفاً للتنبيه على عدم إرادة التساوي في النصفين، وإن كان دخولها على هذا اللفظ جائزاً مطلقاً.

قوله: «الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام. ولا يحرم المصيد، ويملكه الصائد دون صاحب الآلة، وعليه أجرة مثلها، سواء كانت كلباً أو سلاحاً».

لا شبهة في تحريم الاصطياد بالآلة المغصوبة؛ لما فيه من التصرّف في مال الغير بغير إذنه الممتنع عقلاً وشرعاً. إنّما الكلام في ملك المصيد بها، ومذهب الأصحّاب أنّه للغاصب؛ لأنّ الصيد من قبيل المباحات التي تملك بالحيازة أو بها وبالنيّة، وكلاهما متحقّق من الغاصب وإن حرم استعمال الآلة.

ووافقنا العامّة على ذلك مع كون الآلة غير حيوان، واختلفوا فيما لو كانت حيواناً

ص: 254


1- الكافي، ج 6، ص 255، باب ما يقطع من أليات الضأن...، 5 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 77، ح 327.
2- الكافي، ج 6، ص 255، باب ما يقطع من أليات الضأن...، ح 4؛ تهذيب، ج 9، ص 77، ح 328.
إذا عضّ الكلب صيداً كان موضع العضّة نجساً

الثانية: • إذا عض الكلب صيداً كان موضع العضة نجساً يجب غسله ع--ل-ى الأصحّ.

-------------------------------------------------------------------

كالكلب، فالأكثر على أن الحكم كذلك؛ لأنّه بمنزلة الآلة التي لا قصد لها إلى التملّك. وذهب بعضهم إلى أنّ صيد الحيوان لمالكه، كما لو صاده العبد المغصوب أو اكتسبه(1). والفرق واضح؛ لأنّ العبد أهل للقصد إلى الملك في الجملة، بخلاف الحيوان.

ثمّ على تقدير الحكم بكون الصيد للغاصب فعليه الأُجرة لمالك الآلة؛ لتصرفه فيها بغير إذنه. واختلف القائلون بكون الصيد للمالك هل يضمن له الأجرة أم لا؟ من حيث إنّه قد تصرّف في ماله بغير إذنه، ومن انصراف منافعها إلى المالك.

وقول المصنّف سواء كانت كلباً أو سلاحاً راجع إلى ملك الصائد دون صاحب الآلة، تنبيها على خلاف المخالف كما بيّنّاه، لا إلى القريب و هو ضمان الأجرة؛ لأنّهما مستويان فيها نفياً وإثباتاً.

قوله: «إذا عض الكلب صيداً كان موضع العضة نجساً» إلى آخره.

أكثر الأصحّاب على أنّ معض الكلب من الصيد نجس؛ لأنّ الكلب نجس وقد لاقى الصيد برطوبة فتعدّت نجاسته إليه كغيره.

وذهب الشيخ في المبسوط والخلاف إلى أنه طاهر (2) ؛ عملاً بظاهر قوله تعالى: «فَكُلُواْ ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» (3). ولم يأمر بالغسل، وهو مذهب بعض العامّة(4)، ومنهم من ذهب إلى أنّه عفو لمكان الحاجة وعسر الاحتراز(5).

ص: 255


1- راجع حلية العلماء، ج 5، ص 229.
2- المبسوط، ج 4، ص 651 الخلاف، ج 6، ص 12، المسألة 8.
3- المائدة (5): 4.
4- وهو قول الشافعية في أحد الوجهين راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 51 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 11 - 12، المسألة 7709؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 517.
5- الحاوي الكبير، ج 15، ص 51 روضة الطالبين، ج 2، ص 517.
إذا أرسل كلبه أو سلاحه فجرحه وأدركه حيّاً

الثالثة: • إذا أرسل كلبه أو سلاحه فجرحه وأدركه حيّاً، فإن لم تكن حياته مستقرّةً فهو بحكم المذبوح، وفي الأخبار: «أدنى ما يُدرك ذكاته أن يجده يركض رجله، أو تطرف عينه، أو يتحرّك ذنبه».

وإن كانت مستقرة والزمان يتسع لذبحه لم يحل أكله حتّى يذكّى. وقيل: إن لم يكن معه ما يذبح به ترك الكلب [ حتّى ] يقتله، ثمّ يأكله إن شاء. أما إذا لم يتّسع الزمان لذبحه فهو حلال ولو كانت حياته مستقرة.

-------------------------------------------------------------------

والأصحّ المنع كما لو ولغ في إناء أو أصاب موضعاً آخر، والحاجة والعسر ممنوعان، والآية لا تدل على ذلك؛ لأنّ الإذن فى الأكل منه من حيث إنه صيد، وهو لا ينافي المنع من أكله لمانع آخر كالنجاسة؛ لأنّها ثابتة بدليل خارجي ومثله القول في سائر الأوامر الدالة على الإذن في أكل المال، كقوله تعالى: «فَكُلُواْ ممّا غَنِمْتُمْ حَلَلاً طَيِّبًا»(1)، «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ» (2) وغيرهما (3)، فإنّه لا ينافي المنع من الأكل من المأذون بعارض النجاسة وغيرها.

قوله: «إذا أرسل كلبه أو سلاحه فجرحه وأدركه حيّاً» إلى آخره.

إذا أرسل سلاحه - من سهم وسيف وغيرهما - أو كلبه المعلَّم إلى صيد فأصابه فعليه أن يسارع إليه بالمعتاد، فإن لم يدركه حيّاً حلّ. وإن أدركه حيّاً نظر إن لم يبق فيه حياة مستقرة بأن كان قد قطع حلقومه ومريئه أو أجافه(4)، وخرق أمعاءه فتركه حتّى مات - حلّ، كما لو ذبح شاة فاضطربت أو عدت. وإن بقيت فيه حياة مستقرة وجب المبادرة إلى ذبحه بالمعتاد، فإن أدرك ذكاته حلّ.

وإن تعذّر من غير تقصير الصائد حتّى مات فهو كما لو لم يدركه حياً. وإن لم يتعذّر وتركه

ص: 256


1- الأنفال (8): 69.
2- البقرة :(2): 187.
3- البقرة (2): 168 و 172؛ المائدة (5): 88؛ الأنعام (6): 118 و... .
4- أجافه: أصاب جوفه. لسان العرب، ج 9، ص 34، «جوف».

-------------------------------------------------------------------

حتّى مات فهو حرام، كما لو تردّى من شاهق ولم يذبحه حتّى مات. وكذا الحكم لو كان التعذّر بتقصير من جهته.

فمن قبيل الحالة الأُولى: أن يشتغل بأخذ الآلة وسلّ السكّين فمات قبل أن يمكنه الذبح. ومنه أن يمتنع بما فيه من بقيّة قوّة ويموت قبل القدرة عليه. ومنه أن لا يجد من الزمان ما يمكنه الذبح فيه.

ومن قبيل الحالة الثانية: أن لا يكون معه مدية يذبح بها، فإن ترك استصحّاب آلة الذبح تقصير منه. وكذا لو ضاعت فمات الصيد في مدة الطلب، أو نشبت(1) في الغمد (2)، فإنّ حقّه أن يستصحّب الآلة في غمد يوافقها(3). وكذا لو اشتغل بتحديد المدية؛ لأنّه قصّر بعدم تقديمه.

وما ذكرناه من التفصيل باستقرار الحياة وعدمه هو المشهور بين الأصحّاب، ذكره الشيخ(4)، وأتباعه (5) والمصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة(6).

والأخبار خالية من قيد الاستقرار، بل منها ما هو مطلق في أنه إذا أدرك ذكاته ذكّاه(7)، ومنها ما هو دالّ على الاكتفاء بكونه حيّاً(8)، وكلاهما لا يدلّ على الاستقرار، ومنها ما هو مصرّح بالاكتفاء في إدراك تذكيته بأن يجده تركض رجله أو تطرف عينه أو يتحرك ذنبه(9).

ص: 257


1- نشب الشيء في الشيء: علق فيه لسان العرب، ج 1، ص 757، «نشب».
2- الخمدُ: جَفْنُ السيف لسان العرب، ج 3، ص 326، «غمد».
3- كذا في الطبعة الحجريّة، وفي بعض النسخ: «يوانيها» بدل «يوافقها».
4- المبسوط، ج 4، ص 652.
5- انظر الوسيلة، ص 356؛ وإصباح الشيعة، ص 379.
6- قواعد الأحكام، ج 3، ص 314 و 315.
7- الكافي، ج 6، ص 202 - 203، باب صيد الكلب والفهد، ح 3 و 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 22، ح 89 وص 26، ح 106؛ الاستبصار، ج 4، ص 67، ح 241.
8- الكافي، ج 6، ص 214، باب الصيد بالحبالة، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 37، ح 154.
9- الكافي، ج 6، ص 208، باب صيد البزاة والصقور...، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 33، ح 131؛ الاستبصار، ج 4، ص 73، ح 267.

-------------------------------------------------------------------

حتى قال الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد ابن عمّ المصنّف : إن اعتبار استقرار الحياة ليس من المذهب(1). وعلى هذا ينبغي أن يكون العمل. وسيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى في الذباحة(2).

ثم على تقدير إدراكه حيّاً وإمكان تذكيته لا يحلّ حتّى يذكى، ولا يعذر بعدم وجود الآلة كما قرّرناه. لكن هنا قال الشيخ (رحمه اللّه) في النهاية : إنه يترك الكلب حتّى يقتله ثمّ ليأكل إن شاء(3).

واختاره جماعة منهم الصدوق(4)، وابن الجنيد(5) والعلّامة في المختلف (6)؛ استناداً إلى عموم قوله تعالى: «فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»(7).

وخصوص صحيحة جميل بن درّاج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الرجل يرسل الكلب على الصيد فيأخذه ولا يكون معه سكين فيذكيه بها أفيدعه حتّى يقتله ويأكل منه؟ قال: «لا بأس، قال اللّه تعالى: «فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»»(8).

وأجيب عن الآية بأنّها لا تدلّ على العموم، وإلّا لجاز مع وجود آلة الذبح، وعن الرواية بأنّها لا تدلّ على المطلوب؛ لأنّ الضمير المستكن في قوله «فيأخذه» راجع إلى الكلب لا إلى الصائد، والبارز راجع إلى الصيد والتقدير فيأخذ الكلب الصيد، وهذا لا يدلّ على

ص: 258


1- لم نعثر على قوله في الجامع للشرائع انظر ص 381؛ وحكاه عنه الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 342 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- يأتي في ص 299.
3- النهاية، ص 580 - 581.
4- المقنع، ص 414.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 286، المسألة 7.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 287، المسألة 7.
7- المائدة (5): 4.
8- الكافي، ج 6، ص 204، باب صيد الكلب والفهد، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 23 - 24، ح 93.

-------------------------------------------------------------------

إبطال،امتناعه، بل جاز أن يبقى امتناعه والكلب ممسك له، فإذا قتله حينئذٍ فقد قتل ما هو ممتنع فيحل بالقتل(1).

وفيه نظر؛ لأنّ تخصيص الآية بعدم الجواز مع وجود آلة الذبح بالإجماع، والأدلة لا تدل على تخصيصها في محلّ النزاع؛ لأنّ الاستدلال حينئذٍ بعمومها من جهة كون العام المخصوص حجّة في الباقي، فلا يبطل تخصيصها بالمتّفق عليه دلالتها على غيره.

والرواية ظاهرة في صيرورة الصيد غير ممتنع من جهات:

إحداها: قوله «ولا يكون معه سكين»، فإنّ مقتضاه أنّ المانع له من تذكيته عدم السكين لا عدم القدرة عليه لكونه ممتنعاً، فلو كان حينئذٍ ممتنعاً لما كان لقوله: «ولا يكون معه سكين» فائدة أصلاً.

والثانية: قوله فيذكيه بها ظاهر أيضاً في أنه لو كان معه سكين لذكاه بها، فدلّ على بطلان امتناعه.

والثالثة: قوله «أ فيدعه حتّى يقتله؟» ظاهر أيضاً في أنه قادر على أن لا يدعه حتّى يقتله، وأنّه إنّما يترك تذكيته ويدع الكلب ليقتله لعدم وجود السكين.

ثمّ عد إلى عبارة الكتاب، واعلم أن قوله «أمّا إذا لم يتّسع الزمان الذبحه فهو حلال» عديل لقوله «والزمان يتّسع لذبحه لم يحلّ»، وهما معاً قسمان لما إذا أدركه وحياته مستقرّة، ومقتضاه أنّ استقرار الحياة يجامع موته في وقت لا يسع الذكاة.

وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنه إن أراد بعدم اتساع الزمان لها عدم اتساعه لنفس فعل الذكاة كان منافياً لاستقرار الحياة؛ لأنّ الحياة المستقرة هي ما يمكن أن يعيش صاحبها اليوم واليومين فلا يدخل تحت،المقسم، فلا يصحّ التقسيم. وإن أراد عدم اتّساعه لها ولما يتوقّف عليه من تحصيل آلة الذبح أو المعاون وغير ذلك لم يتم حكمه بحلّه على

ص: 259


1- إيضاح الفوائد، ج 4 ص 122.

-------------------------------------------------------------------

تقدير تعذّر ذلك؛ لجواز أن يحتاج في تحصيل الآلة والمعاون إلى أكثر من يوم أو يومين فلا يحل بموته على هذا الوجه(1).

وجوابه جواز اختيار كلّ واحد من القسمين. أمّا الأوّل؛ فلأن استقرار الحياة هو إمكان أن يعيش اليوم واليومين، ومجرّد الإمكان لا ينافي نقيضه؛ لجواز أن يموت في الحال مع تحقّق الإمكان، فيصير حاصله كونه متصفاً بإمكان أن يعيش عادةً فاتّفق خلاف ذلك ومات قبل أن يتّسع الوقت لذبحه، خصوصاً ومناط الإمكان مجرّد الاحتمال وهو ممّا يمكن خلافه ظاهراً وفي نفس الأمر.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ المراد باتّساعه لما يتوقّف عليه من الآلة ما يعتبر تحصيله عادةً، كما أشرنا إليه سابقاً من سلّ السكّين (2) وأخذها من مكان قريب وانتظار المعاون القريب الذي لا ينافي المبادرة عادةً، فإنّ القدر المعتبر منها ما يعدّ في العرف طالباً للتذكية ومبادراً إليها. فإذا فرض موته قبل ذلك حلّ ولم يناف استقرار الحياة عادةً كما أشرنا إليه، ولا يرد عليه الإمهال لليوم واليومين كما ذكر.

واعلم أيضاً أنّ ما اختاره المصنّف من حلّه على تقدير كون حياته مستقرةً ولم يسع الزمان لتذكيته مذهب الأكثر، ومنهم الشيخ في المبسوط (3) والعلّامة(4) في غير المختلف و التحرير. وذهب في الخلاف(5) وابن إدريس(6) والعلّامة في الكتابين (7) إلى تحريمه ؛ استناداً إلى أنه مستقر الحياة فتعلقت إباحته بتذكيته كما لو اتسع الزمان والأوّل أظهر؛ لدلالة

ص: 260


1- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 120.
2- سبق في ص 257.
3- المبسوط، ج 4، ص 653.
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 315؛ إرشاد الأذهان، ج 2، ص 104؛ تلخيص المرام، ص 268.
5- الخلاف، ج 6، ص 14، المسألة 10.
6- السرائر، ج 3، ص 85.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 290، المسألة 10؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 607، الرقم 6029.
ثبوت الملك على الصيد يحصل بأمور

• وإذا صيّره الرامي غير ممتنع ملكه وإن لم يقبضه، فلو أخذه غيره لم يملكه الثاني، ووجب دفعه إلى الأوّل.

-------------------------------------------------------------------

النصوص على أن التذكية إنّما تعتبر على تقدير إدراكها لا مطلقاً، وهو هنا مفقود، ففي رواية محمّد بن مسلم وغير واحد عنهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أنّهما قالا في الكلب يرسله الرجل ويسمّي، قالا: «إن أخذته فأدركت ذكاته فذكّه، وإن أدركته وقد قتله وأكل منه فكل ما بقي»(1)، فلم تعتبر الذكاة إلّا على تقدير إدراكها.

هذا على تقدير الحكم بكونه في مثل هذه الحالة يُعدّ مستقر الحياة. وقد يقال: إنّه على هذا التقدير كان الحكم به ظاهراً، وقد كشف تعجيل إزهاقه عن عدم الاستقرار، ومع ذلك لا ينافي الحكم بكونه مستقر الحياة؛ عملاً بالظاهر الذي يجوز كذبه.

وكذلك حكموا بعدم حله على تقدير أن يجده ممتنعاً فجعل يعدو خلفه فوقف له وقد بقي من حياته زمن لا يتسع لذبحه.

والأقوى حلّه هنا أيضاً؛ لأنّه قبل القدرة عليه لم تكن تذكيته معتبرة؛ لكونه ممتنعاً، وبعد إدراكه لم يسع الزمان لها فكان كالأوّل، فيدخل في عموم حلّ الصيد المقتول بالآلة حيث لا يمكن تذكيته (2).

قوله: «وإذا صيّره الرامي غير ممتنع ملكه» إلى آخره.

قد عرفت في أوّل الكتاب أن الاصطياد يتحقّق بأمرين (3): أحدهما إزهاقه بالآلة، والثاني إثباته. وقد تكلّم على القسم الأوّل، وأشار إلى الثاني بما ذكره هنا. وفائدته ثبوت ملكه له بذلك، وهو يحصل بأمور:

منها: أن يضبط الصيد بيده قاصداً لتملّكه إن اعتبرنا في ملك المباحات مع حيازتها

ص: 261


1- الكافي، ج 6، ص 202 - 203، باب صيد الكلب والفهد، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 22، ح 89؛ الاستبصار، ج 4، ص 67، ح 241.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 23، ص 362 - 363، الباب 16 من أبواب الصيد.
3- راجع ص 226 وما بعدها.

-------------------------------------------------------------------

النيّة أو مطلقاً إن لم نعتبرها. وعلى هذا فلو أخذ صيداً لينظر إليه ملكه. ولو سعى خلف صيد فوقف للإعياء لم يملكه حتّى يأخذه.

ومنها: أن يجرحه جراحةً مذفّفةً، أو يرميه فيثخنه ويزمنه فيملكه. وكذا إن كان طائراً فكسر جناحه حتّى عجز عن الطيران والعدو جميعاً. ويكفي للتملك إبطال شدّة العدو وصيرورته بحيث يسهل اللحوق به ولو جرحه فعطش بعد الجراحة وثبت لم يملكه إن كان العطش لعدم الماء، وإن كان لعجزه عن الوصول إلى الماء بسبب الجرح ملكه؛ لأنّ سبب العجز الجراحة.

ومنها: وقوعه في الشبكة المنصوبة له، ولو طرده طارد حتّى وقع في الشبكة فهو لصاحبها لا للطارد.

ومنها: أن يرسل عليه كلباً فيثبته، أو سبعاً آخر فيعقره ويثبته بحيث يكون له يد على السبع.

ومنها: أن يلجئه إلى مضيق لا يقدر على الإفلات منه، بأن يدخله إلى بيت ونحوه.

وجميع هذه الوجوه ترجع إلى أمر واحد ويجعل سبباً لملك الصيد، وهو ما أشار إليه المصنّف من إبطال امتناعه وحصول الاستيلاء عليه.

وحيث يحصل ملكه بذلك لا يزول عنه باستيلاء غيره عليه بدون إذنه قطعاً، بل ينزل منزلة الغاصب يجب عليه ردّه إلى الأوّل، وذلك واضح.

ص: 262

الذباحة

إشارة:

وأمّا الذباحة

فالنظر فيها إما في الأركان، وإما في اللواحق.

أمّا الأركان فثلاثة الذابح والآلة، وكيفية الذبح

شروط الذابح
إشارة:

ژ أما الذابح فيشترط فيه: الإسلام أو حكمه، ولا يتولّاه الوثني، فلو ذبح كان المذبوح ميتةً.

ذبائح أهل الكتاب

وفي الكتابي روايتان أشهر هما المنع، فلا تؤكل ذباحة اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي.

وفي رواية ثالثة: «تؤكل ذباحة الذمّي إذا سمعت تسميته»، وهي مطّرحة.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وأما الذابح فيشترط فيه الإسلام أو حكمه» إلى آخره.

اتّفق الأصحّاب، بل المسلمون على تحريم ذبيحة غير أهل الكتاب من أصناف الكفّار، سواء في ذلك الوثني وعابد النار والمرتدّ وكافر المسلمين كالغلاة وغيرهم.

واختلف الأصحّاب في حكم ذبيحة الكتابيين، فذهب الأكثر - ومنهم الشيخان (1)، والمرتضى(2)، والأتباع (3)، وابن إدريس(4)، وجملة المتأخّرين - إلى تحريمها أيضاً، وذهب

ص: 263


1- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 579؛ والشيخ الطوسي في الخلاف، ج 1، ص 23 - 24، المسألة 23.
2- الانتصار، ص 403، المسألة 231.
3- منهم الحلبي في الكافي في الفقه، ص 277 وسلّار في المراسم، ص 209؛ والكيذري في إصباح الشيعة ص 381؛ والراوندي في فقه القرآن، ج 3، ص 250.
4- السرائر، ج 3، ص 87 و 105 - 106.

-------------------------------------------------------------------

جماعة - منهم ابن أبي عقيل(1)، وأبو علي بن الجنيد (2)، والصدوق أبو جعفر بن بابويه - إلى الحلّ، لكن شرط الصدوق سماع تسميتهم عليها، وساوى بينهم وبين المجوسي في ذلك(3). وابن أبي عقيل صرّح بتحريم ذبيحة المجوسي، وخص الحكم باليهود والنصارى، ولم يقيدهم بكونهم أهل ذمّة(4). وكذلك الآخران.

ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات في ذلك، وهي كثيرة من الطرفين فلنذكر أجودها، مضافاً إلى ظاهر الآيات والاعتبار.

فأما القائلون بالتحريم فاحتجّوا بوجوه:

الأوّل : قوله تعالى : «وَلَا تَأْكُلُواْ ممّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ»(5)، والكافر لا يعرف اللّه تعالى فلا يذكره على ذبيحته ولا يرى التسمية على الذبيحة فرضاً ولا سنّةٌ.

الثاني: الروايات.

فمنها: رواية سماعة عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن ذبيحة اليهودي والنصراني. فقال: «لا تقربها»(6).

ورواية محمّد بن سنان عن قتيبة الأعشى قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبائح اليهود والنصارى، فقال: «الذبيحة اسم ولا يؤمن على الاسم إلّا المسلم»(7).

ورواية محمّد بن سنان أيضاً عن إسماعيل بن جابر قال، قال لي أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 264


1- الحاكي عنهما هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 316، المسألة 28.
2- الحاكي عنهما هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 316، المسألة 28.
3- المقنع، ص 417 الهداية، ص 312 – 313.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 316، المسألة 28.
5- الأنعام (6): 121.
6- الكافي، ج 1، ص 239، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 5 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 63، ذيل الحديث 265؛ الاستبصار، ج 4، ص 81، ح 299 مع اختلاف يسير في المصادر.
7- الكافي، ج 6، ص 240، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 63، ح 267؛ الاستبصار، ج 4، ص 81، ح 300.

-------------------------------------------------------------------

«لا تأكل ذبائحهم، ولا تأكل في آنيتهم، يعني أهل الكتاب»(1).

وعن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً وأنا عنده فقال: الغنم ترسل وفيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فيذبح أنأكل ذبيحته؟ فقال له أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تدخل ثمنها مالك، ولا تأكلها، فإنّما هو الاسم فلا يؤمن عليها إلّا مسلم» فقال له الرجل: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَنتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ» (2)، فقال: «كان أبي يقول: إنّما هي الحبوب وأشباهها»(3).

وصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبائح نصارى العرب هل تؤكل؟ فقال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينهاهم عن أكل ذبائحهم وصيدهم، وقال: لا يذبح لك يهودي ولا نصراني أُضحيّتك»(4).

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يذبح أضحيتك يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، وإن كانت امرأة فلتذبح لنفسها»(5).

ورواية أبي بصير أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا تأكل من ذبيحة المجوسي، ولا تأكل ذبيحة نصارى تغلب، فإنّهم مشركوا العرب»(6).

ورواية زيد الشحام قال: سئل أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبيحة الذمي، قال: «لا تأكله إن سمّى وإن لم يسم»(7). وفي معناها أخبار كثيرة(8).

ص: 265


1- الكافي، ج 6، ص 240، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 63 - 64، ح 269: الاستبصار، ج 4، ص 81 ح 302.
2- المائدة (5): 5.
3- الكافي، ج 6، ص 240، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64، ح 270.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64، ح 271؛ الاستبصار، ج 4، ص 81 - 82، ح 304.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64 - 65، ح 273؛ الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 306.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 65. ح 275: الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 308.
7- الكافي، ج 1، ص 238، باب ذبائح أهل الكتاب ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 65، ح 276؛ الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 309.
8- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 52 - 66، الباب 27 من أبواب الذبائح.

-------------------------------------------------------------------

الثالث: أن الإخلاد إلى الكفّار في الذبح ركون إلى الظالم، فيندرج تحت النهي في قوله تعالى: «وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ»(1)؛ ولأنّه نوع استثمان والكافر ليس محلاً للأمانة. ولأنّ لها شرائط فلا يستند في حصولها إلى قوله. هذا غاية ما استدلّوا به.

وفي جميعه نظر:

أمّا الآية(2): فلأنّ النهى فيها توجه إلى أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه، سواء كان المذكّي مسلماً أو كافراً، ومقتضاه مع قوله: «فَكُلُواْ ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ» (3) أنّ ما سمّي عليه يباح أكله، سواء كان ذابحه مسلماً أم كافراً، فالمنع من حيث عدم التسمية لا من حيث الكفر. ومن أين لكم أنّ الكافر لا يسمّي على الذبيحة؟ فإنّ المراد من التسمية هنا ذكر اسم من أسماء اللّه تعالى كما علم وسيحقق. ثمّ لو كان العلم بتسميته شرطاً لزم مثله في المسلم ولا تقولون(4) به.

وأمّا قوله «إنّ الكافر لا يعرف اللّه ولا يذكره على ذبيحته» فمن العجيب، فإنّ الكافر الكتابي مقرّ باللّه تعالى، وما ينسب إليه من التثليث وأنّ عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه ونحو ذلك لا يخرجه عن أصل الإقرار باللّه تعالى. وهذه الإلحاقات وإن أوجبت الكفر لا تقتضي عدم ذكر اللّه، فإنّه يذكر اللّه في الجملة ويقول: «الحمد للّه» وذلك كاف في الذكر على الذبيحة كما هو مقتضى الآية. وفي فرق المسلمين من ينسب إلى اللّه تعالى أموراً منكرة ولا يخرجه ذلك عن أن يذكر اللّه كذلك.

على أنّ في دلالة الآية على النهي عن أكل ما لا يذكر اسم اللّه عليه مطلقاً بحثاً، فإنّ قوله: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» كما يحتمل كونه معطوفاً والتقدير وإنّ الأكل - الذي هو المصدر المدلول عليه بالفعل - لفسق، يحتمل كونه حالاً والواو للحال، والتقدير: لا تأكلوا ممّا

ص: 266


1- هود (11): 1.
2- الأنعام (6): 121.
3- الأنعام (6) : 118.
4- كذا في الطبعة الحجريّة، وفي جميع النسخ: «يقولون» بدل «لا تقولون».

-------------------------------------------------------------------

لم يذكر اسم اللّه عليه في حالة كونه فسقاً، وقد فسّره بقوله في الآية الأخرى: «أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ»(1) وبقرينة ما قبله، فلا يكون النهي عن أكله مطلقاً بل في هذه الحالة. وربما يترجّح الحال على العطف من حيث إنّ الجملة المعطوف عليها إنشائيّة، وقوله: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» خبريّة، وعطف الخبريّة على الإنشائيّة ممنوع عند علماء البيان ومحقّقي العربيّة. وحينئذٍ فلا دلالة للآية على اعتبار التسمية على الذبيحة مطلقاً، وإنّما يستدلّ عليه من السنة، مع أنّه سيأتي في الأخبار الصحيحة: «إذا سمعت تسميته فكل»(2)، وفي بعضها لم يشترط ذلك، وهذا كلّه يدلّ على أنّ المانع من جهة التسمية لا من جهة الكفر.

وأمّا الروايات فالقول فيها إجمالاً : إنّ الصحيح منها لا دلالة فيه على التحريم، وغير الصحيح لا عبرة به لو سلّمت دلالته.

أمّا الأولى فحال سماعة بالوقف معلوم (3)، وإن كان ثقةً فالرواية من الموثق وهو أجود ما في الباب دلالة.

والثانية والثالثة في طريقهما محمّد بن سنان والقدح فيه بالكذب وغيره عظيم(4).

والرابعة واضحة السند، لكن لا دلالة فيها على التحريم، بل تدلّ على الحلّ ؛ لأنّ قوله: «لا تدخل ثمنها مالك» يدلّ على جواز بيعها، وإلّا لما صدق الثمن في مقابلتها، ولو كانت ميتةً لما جاز بيعها ولا قبض ثمنها وعدم إدخال ثمنها في ماله يكفي فيه كونها مكروهة والنهي عن أكلها يكون حاله كذلك حذراً من التناقض.

والخامسة وإن كانت صحيحة لكن لا دلالة فيها على تحريم ذبائح أهل الكتاب مطلقاً، بل ربما دلّت على الحلّ، فإنّ نهيه عن ذبائح نصارى العرب لا مطلق النصارى، ولو كان التحريم عامّاً لما كان للتخصيص فائدة.

ص: 267


1- المائدة (5): 3.
2- يأتي في ص 270.
3- راجع خلاصة الأقوال، ص 356، الرقم 1410.
4- رجال النجاشي، ص 328، الرقم 888؛ الفهرست الشيخ الطوسي، ص 406، الرقم 620.

-------------------------------------------------------------------

ووجه تخصيصه نصارى العرب، أن تنصرهم وقع في الإسلام فلا يقبل منهم، كما ورد في روايات كثيرة، منها: رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب، فإنّهم ليسوا أهل الكتاب»(1). والكلام في هذه الرواية كالسابقة، بل هي أوضح دلالة.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن نصارى العرب أتوكل ذبائحهم؟ فقال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا ينهى عن ذبائحهم، وعن صيدهم، وعن مناكحتهم»(2).

ورواية أبي بصير قال قال لي أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تأكل ذبيحة نصارى تغلب، فإنّهم مشركوا العرب»(3).

وأوضح من الجميع دلالة رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كل ذبيحة المشرك إذا ذكر اسم اللّه عليها وأنت تسمع، ولا تأكل ذبيحة نصارى العرب»(4).

ومن قرينة الحلّ من الرواية الصحيحة قوله: «ولا يذبح لك يهودي ولا نصراني أضحيّتك»(5)، فإنّ النهي ورد عن ذبح الأضحيّة، ومفهومه أنّ غيرها ليس كذلك، والمفهوم وإن لم يكن حجّةٌ إلّا أن التخصيص بالأضحيّة لا نكتة فيه لو كانت ذبائحهم محرمة مطلقاً. والإنصاف أنّ هذا النهي ظاهر في الكراهة لذبح الأضحيّة أيضاً لا التحريم.

ومثلها القول في صحيحة أبي بصير، بل فيها زيادة أن الأضحيّة لا يتولّى ذبحها إلّا مالكها وإن كان امرأة (6). وهو مقرّر في بابها (7) أيضاً، حتّى لو لم يحسن الذباحة جعل يده في يد الذابح.

ص: 268


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 66. ح 279؛ الاستبصار، ج 4، ص 83، ح 312.
2- الكافي، ج 6، ص 239، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 4 : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 65 - 66، ح 278 : الاستبصار، ج 4، ص 83، ح 311.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 65، ح 275؛ الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 308.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 288؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 320.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64، ح 271؛ الاستبصار، ج 4، ص 81 - 82 ح 304.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64 - 65، ح 273؛ الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 306.
7- راجع ج 2، ص 210.

-------------------------------------------------------------------

وقريب منها رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبداللّه أن عليّاً كان يقول: «لا يذبح نسككم إلّا أهل ملّتكم»(1).

وأمّا رواية زيد الشحام (2) فدلالتها جيّدة لكن سندها رديء جدّاً، فإنّ فيه أبا جميلة المفضل بن صالح وحاله في الكذب وإقراره به على نفسه مشهور، وقال ابن الغضائري والنجاشي عنه: إنه ضعيف متهافت خطّابي(3)، وفي النسبة الأخيرة إخراج له عن الإسلام جملة.

وفيما ذكرناه من الأخبار والكلام عليه تنبيه على ما أغفلناه منها.

وأمّا الاستدلال بأنّ الإخلاد إلى الكفّار ركون إلى الظالم وقد نهينا عنه، ففيه: أنّ مثله وارد على الظالم من المسلمين، وكذلك القول في استثمانه، فإنّ الفاسق من المسلمين ليس محلّ الأمانة. وهذا يدلّ على أنّ النهي عن الركون إليهم لا من هذه الحيثية كما لا يخفى.

وباقي الروايات التي أضربنا عن ذكرها كلها مشتركة في ضعف السند وقصور الدلالة. وأمّا القائلون بالحل فاحتجّوا بوجوه:

الأوّل: قوله تعالى: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ»(4). وجه الدلالة أنّ الطعام إمّا أن يراد به ما يطعم مطلقاً فيتناول محل النزاع؛ لأنّ اللحم من جملة ما يطعم، وإمّا أن يراد به الذبائح كما قاله بعض المفسرين (5) - فيكون نصّاً. وأمّا حمله على الحبوب ففيه أنّ تحليلها

ص: 269


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 67، ح 284؛ الاستبصار، ج 4، ص 84، ح 316.
2- الكافي، ج 6، ص 238 باب ذبائح أهل الكتاب، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 65، ح 276؛ الاستبصار، ج 4، ص 82، ح 309.
3- رجال النجاشي، ص 128، الرقم 332 في ترجمة جابر بن يزيد ونقله عن ابن الغضائري العلّامة في خلاصة الأقوال، ص 94، الرقم 213 أيضاً في ترجمة جابر بن يزيد.
4- المائدة (5): 5.
5- راجع التبيان، ج 3، ص 444: ومجمع البيان، ج 3، ص 162، أصحابنا؛ والكشاف، ج 1، ص 607، ذيل تفسير الآية 5 من سورة المائدة (5).

-------------------------------------------------------------------

غير مختصّ بأهل الكتاب؛ إذ جميع أصناف الكفّار يحلّ أكل حبوبهم، فيكون تخصيص أهل الكتاب خالياً من الفائدة، وإنّما محلّ الشبهة منه موضع النزاع.

الثاني: الروايات.

فمنها الخبر المستفيض أو المتواتر بأكل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الذراع المسموم الذي أهدته اليهوديّة إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأكل منه هو وبعض أصحابه، فمات رفيقه وبقي يعاوده ألمه في كلّ أوان إلى أن مات منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

ومنها: صحيحة زرارة عن أخيه حمران قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني: لا تأكل ذبيحته حتّى تسمعه يذكر اسم اللّه، قلت: المجوسي؟ فقال: «نعم إذا سمعته يذكر اسم اللّه، أما سمعت قول اللّه: «وَلَا تَأْكُلُوا ممّا لَمْ يُذكر أسم اللّه عَلَيْهِ؟»(2).

وصحيحة جميل ومحمّد بن حمران أنهما سألا أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس. فقال: «كُل»، فقال بعضهم: إنّهم لا يسمّون. فقال: «إن حضر تموهم فلم يسمّوا فلا تأكلوا»، وقال: «إذا غاب فكل»(3).

وصحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم. فقال: «لا بأس به»(4).

وصحيحة حريز عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وزرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّهما قالا في ذبائح

ص: 270


1- قرب الإسناد، ص 326، ح 1228؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 32 - 34، باب ما أكرم النبيّ له من كلام الموتى؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 173 - 170، ح 4508 - 4513؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 8، ص 82 84، ح 16005 – 16012.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 287؛ الاستبصار، ج 4، ص 84، ح 319؛ والآية في سورة الأنعام (6): 121.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 289؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 321.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 290؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 322.

-------------------------------------------------------------------

أهل الكتاب: «فإذا شهدتموهم وقد سمّوا اسم اللّه تعالى فكلوا ذبائحهم، وإن لم تشهدهم فلا تأكل، وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنّهم سمّوا فكل»(1). وهذه الرواية دلّت على الحلّ في الجملة خلاف ما يقوله المحرم.

ورواية عبد الملك بن عمرو قال قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تقول في ذبائح النصارى؟ فقال : «لا بأس بها». قلت : فإنّهم يذكرون عليها المسيح. فقال : «إنّما أرادوا بالمسيح اللّه»(2).

ورواية أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبيحة اليهودي، فقال: «حلال». قلت: وإن سمّى المسيح؟ قال: «وإن سمّى، فإنّما يريد اللّه»(3).

ورواية أبي بكر الحضرمي عن الورد بن زيد قال، قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): حدّثني حديثاً وأمله عليّ حتّى أكتبه. فقال: «أين حفظكم يا أهل الكوفة؟» قال، قلت: حتّى لا يردّه عليّ أحد ما تقول في مجوسى قال: بسم اللّه ثمّ ذبح؟ فقال: «كل»، قلت: مسلم ذبح ولم يسمّ؟ قال: «لا تأكله إنّ اللّه تعالى يقول: «فَكُلُواْ ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ، وَلَا تَأْكُلُواْ ممّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ»»(4).

ورواية سعد بن إسماعيل قال: سألت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبائح اليهود والنصارى وطعامهم. فقال: «نعم»(5).

ورواية البزنطي عن يونس بن بهمن قال قلت لأبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): أهدى إلي قرابة لي

ص: 271


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 69، ح 294: الاستبصار، ج 4، ص 86، ح 326.
2- الفقيه، ج 3، ص 331، ح 4184؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 291؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 323.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 69، ح 292؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 324 بتفاوت يسير.
4- الفقيه، ج 3، ص 331، ح 4185؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 69، ح 293؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 325، وفيه عن أبي الورد بن زيد؛ والآيتان في سورة الأنعام (6): 118 و 121.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 70، ح 297؛ الاستبصار، ج 4، ص 86، ح 329.

-------------------------------------------------------------------

نصراني دجاجاً وفراخاً قد شواها وعملت لي فالوذجة فآكله؟ قال: لا بأس به(1). وغير ذلك من الأخبار الكثيرة (2).

الثالث: أصالة الإباحة إلى أن يثبت الحظر، ولم يظهر من أدلة المانع ما يفيده.

وأُجيب(3) عن الآية بحمل الطعام على الحبوب؛ لأنّه المتعارف، ولدلالة الحديث عليه. سلّمنا، لكن طعام الذين أوتوا الكتاب ليس للعموم، ونحن نقول بموجبه فيصدق في فرد من أفراده؛ ولأنّه يصدق عليه مع ذبح المسلم أنه طعام الذين أوتوا الكتاب، ولأن الحكم معلق على الطعام وليس الذبح جزءاً من مسماه. والأحاديث معارضة بأمثالها ومحمولة على الضرورة، بقرينة ما رواه زكريا بن آدم قال قال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنِّي أنهاك عن ذبيحة كلّ من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك إلّا في وقت الضرورة»(4)، أو على التقيّة، والأصل معارض بالاحتياط.

ولا يخفى على المنصف ضعف هذا الجواب. أما عن الآية وتخصيصها بالحبوب فلمخالفته اللغة والعرف ودعوى أنّ ذلك هو المتعارف ممنوعة. وقد تقدم الكلام فيه(5).

وأمّا دعوى أنّه ليس للعموم، ففيه، أن المحقّقين من الأصوليّين - ومنهم الإمام الرازي في المحصول(6) - على أنّ المفرد المضاف يفيد العموم، والأمر هنا كذلك. واستدلّ عليه بصحة الاستثناء الذي هو معيار العموم، ذكر ذلك في الكلام على أنّ الأمر للوجوب؛ لقوله

ص: 272


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 69 - 70، ح 296؛ الاستبصار، ج 4، ص 86 ح 328.
2- منها ما في الكافي، ج 6، ص 240 - 241، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 14: والفقيه، ج 3، ص 330، ح 4183؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 68 و 69، ح 288 و 294؛ والاستبصار، ج 4، ص 85 و 86، ح 320 و 326.
3- المجيب هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 318 - 319، المسألة 28؛ وراجع للحديث المشار إليه تفسير القمّي، ج 1، ص 171 ذيل تفسير الآية 5 من سورة المائدة (5).
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 70، ح 298؛ الاستبصار، ج 4، ص 86، ح 330.
5- تقدّم في ص 269 - 270.
6- راجع المحصول، ج 2، ص 57.

-------------------------------------------------------------------

تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»(1)، فإنّه يصحّ أن يقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلّا الأمر الفلاني. ووافقه عليه العلّامة في النهاية (2) الأصولية، وإن خالفه في المختلف (3). وكذا نقول في هذه الآية هنا يصحّ أن يقال: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»(4) إلّا الطعام الفلاني، فدلّ على أنه للعموم؛ لأنّ الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.

قوله: يصدق عليه مع ذبح المسلم أنه طعام الذين أوتوا الكتاب.

قلنا: وكذلك يصدق مع ذبح الكتابي أنّه طعام الذين أوتوا الكتاب، والشاهد من حيث العموم.

قوله : إنّ الحكم معلّق على الطعام وليس الذبح جزء من مسمّاه.

قلنا: وإن لم يكن جزء من مسماه لكن لو فرض ذبح الكتابي له وصيّره طعاماً تناوله العموم كما في السابق.

وأمّا حمل هذه الأخبار الكثيرة المطلقة للحلّ على حالة الضرورة فلا يخفى ما فيه.

ثمّ على تقدير عدم الحكم بحله يكون ميتةً فلا يحلّ تناوله إلّا عندما يحلّ تناول الميتة وهو عند خوف الهلاك، وأين هذا من هذه الإطلاقات؟ بل الضرورة أوسع دائرة من ذلك بكثير كما لا يخفى.

ثمّ على تقدير الضرورة لا يتقيّد(5) الحلّ بتسميته عليها ولا بسماعه مسمّياً ولا بشهادة مسلم على تسميته، فيكون ذلك كلّه في الأخبار الصحيحة لغواً.

وأمّا الاستشهاد على هذا الحمل بالخبر المذكور فأوّل ما فيه أنّ تخصيص تلك الأخبار الصحيحة الكثيرة بهذا الخبر الواحد بعيد. ثمّ إنّه تضمّن النهي عن ذبيحة كلّ من لم يكن

ص: 273


1- النور (24): 63.
2- نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 1، ص 408 - 410.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 318، المسألة 28.
4- المائدة (5): 5.
5- في بعض النسخ: «لا ينعقد» بدل «لا يتقيد».

-------------------------------------------------------------------

مؤمناً، وأنتم لا تقولون به، وهو مع ذلك ظاهر في الكراهة؛ لما سيأتي من دلالة الأخبار الصحيحة على حلّ ذبيحة المسلم(1) وإن لم يكن على ما هو عليه وأصحابه، وأن المراد بالضرورة مطلق الحاجة إليه التي ترتفع معها الكراهة لا حالة تباح معها الميتة، بقرينة الحال والجمع بين الأخبار.

ولو حمل النهي في جميع تلك الأخبار المانعة على الكراهة أمكن كما في هذا؛ إما لكونه طريقاً للجمع، وإما لما يظهر على تلك الأخبار من القرائن الدالة عليه، بل تصريح بعضها به، كرواية الحسين بن عبداللّه قال: اصطحب المعلى بن خنيس وابن أبي يعفور في سفر فأكل أحدهما ذبيحة اليهودي والنصراني وأبى أكلها الآخر، فاجتمعا عند أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبراه فقال: «أيكما الذي أبى؟» فقال: أنا، قال: «أحسنت» (2). فهذا ظاهر في الكراهة، وإلّا لبيّن (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمن أكل أنه محرم ونهاه عن العود. مع أن أخبار الحلّ أصحّ سنداً وأوضح دلالة على ما عرفت.

وأمّا حملها على التقية فلا يتم في جميعها؛ لأنّ أحداً من العامّة لا يشترط في حل ذبائحهم أن يسمعهم يذكرون اسم اللّه عليها. والأخبار الصحيحة التي دلّت على حلّها على هذا التقدير لا يمكن حملها على التقيّة.

وعلى كلّ حال فلا خروج عمّا عليه معظم الأصحّاب، بل كاد أن يعد هو المذهب، مضافاً إلى ما ينبغي رعايته من الاحتياط.

وبما ذكرناه من الأخبار ظهر دليل القائل (3) بالتفصيل، وهو الحل مع سماع تسميتهم والتحريم بدونه(4). وهو جامع أيضاً بين الأخبار، بحمل ما اشتمل على النهي على ما لم يسمّ عليه، والإباحة على ما علم تسميتهم عليه.

ص: 274


1- يأتي في ص 277.
2- الكافي، ج 1، ص 239، باب ذبائح أهل الكتاب، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 64، ح 272؛ الاستبصار، ج،4، ص 82، ح 305، وفيه: عن الحسن بن عبداللّه.
3- راجع ص 264.
4- المقنع، ص 417: الهداية، ص 12 - 313.

• وتذبح المسلمة والخصيّ والجنب والحائض وولد المسلم وإن كان طفلاً إذا أحسن.

-------------------------------------------------------------------

وهذا أيضاً راجع إلى حلّ ذبيحتهم؛ لأنّ الكلام في حلّها من حيث إن الذابح كتابي لا من حيث إنّه سمّى أو لم يسم فإنّ المسلم لو لم يسم لم تؤكل ذبيحته كما عرفت.

اللّهم إلّا أن يفرّق بأنّ الكتابي يعتبر سماع تسميته، والمسلم يعتبر فيه عدم العلم بعدم تسميته. وفيه سؤال ما الفرق؟ فقد صرّح في صحيحة جميل(1) بالحلّ ما لم يعلم عدم تسميتهم كالمسلم.

قوله: «و تذبح المسلمة والخصي والجنب والحائض» إلى آخره.

من أوصاف الذابح أن يكون قاصداً إليه، فالمجنون والصبيّ غير المميّز والسكران لا يحلّ ما يذبحونه؛ لأنّه بمنزلة ما لو كان في يد نائم سكين فانقلب وقطع حلقوم شاة. نعم، ربما اختلف صنف،الجنون، فإنّه فنون، فربما كان لبعضهم تمييز فلا مانع من حلّ ذبيحته.

ولا يشترط الذكورة والفحولة والطهارة ولا البصر؛ للأصل، فيصح من المرأة والخصيّ (2) والمجبوب والجنب والحائض والأعمّى.

وقد دلّ على ذلك كلّه أخبار كثيرة، منها: حسنة عمر بن أُذينة عن غير واحد رووه جميعاً عنهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «أنّ ذبيحة المرأة إذا أجادت الذبح وسمت فلا بأس بأكلها، وكذلك الصبيّ. وكذلك الأعمّى إذا سدّد»(3).

وفي صحيحة إبراهيم بن أبي البلاد قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبيحة الخصيّ، قال: «لا بأس»(4).

ص: 275


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 68، ح 289؛ الاستبصار، ج 4، ص 85، ح 321.
2- في بعض النسخ: «الخنثى» بدل «الخصيّ».
3- الكافي، ج 1، ص 238 باب ذبيحة الصبيّ والمرأة والأعمّى، ج 5، وليس فيه وكذلك الصبيّ الفقيه، ج 3، ص 334، ح 4194: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 73، ح 311.
4- الكافي، ج 1، ص 238، باب ذبيحة الصبيّ والمرأة والأعمّى، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 73، ح 312.
عدم اشتراط الإيمان في الذابح

• ولا يشترط الإيمان، وفيه قول بعيد،باشتراطه نعم، لا تصحّ ذباحة المعلن بالعداوة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كالخارجي وإن أظهر الإسلام.

-------------------------------------------------------------------

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كانت لعليّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جارية تذبح له إذا أراد»(1).

فرعان:

الأوّل: الأخرس إن كان له إشارة مفهمة حلّت ذبيحته، وإلّا فهو كغير القاصد.

الثاني: إذا أكره على الذبح فذبح، فإن بلغ الإكراه حداً يرفع القصد فلا إشكال في عدم حل ذبيحته، وإلّا فوجهان. ومثله ما لو أكرهه على رمي السهم. وينبغي أن يكون الملك للمكره إذا لم يبق للمكره قصد.

قوله: «ولا يشترط الإيمان، وفيه قول بعيد باشتراطه» إلى آخره.

اختلف الأصحّاب في اشتراط إيمان الذابح زيادة على الإسلام، فذهب الأكثر (2) إلى عدم اعتباره، والاكتفاء في الحلّ بإظهار الشهادتين على وجه يتحقّق معه الإسلام، بشرط أن لا يعتقد ما يخرجه عنه كالناصبي والغالي. وبالغ القاضي فمنع من ذبيحة غير أهل الحق. وقصر ابن إدريس الحلّ على المؤمن والمستضعف الذي لا منا ولا من مخالفينا (3). واستثنى أبو الصلاح من المخالف جاحد النص، فمنع من ذبيحته(4). وأجاز العلّامة ذباحة المخالف غير الناصبي مطلقاً، بشرط اعتقاده وجوب التسمية(5).

والأصحّ الأوّل: لعموم قوله تعالى: «وَمَا لَكُمْ إلّا تَأْكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ» (6)

ص: 276


1- الكافي، ج 1، ص 238، باب ذبيحة الصبيّ والمرأة والأعمّى، ح : الفقيه، ج 3، ص 334، ح 4196، وفيه: عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 439.
3- السرائر، ج 3، ص 106.
4- الكافي في الفقه، ص 277.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 320، المسألة 29.
6- الأنعام (6): 119.

-------------------------------------------------------------------

الشامل لمذبوح المخالف مطلقاً. وإطلاق ذكر اسم اللّه عليه يشمل ما لو اعتقد وجوبه وعدمه، ولقول الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): ذبيحة من دان بكلمة الإسلام وصام وصلّى لكم حلال إذا ذكر اسم اللّه عليه»(1) ؛ وللأصل.

ويدلّ على استثناء الناصب رواية أبي بصير قال: سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «ذبيحة الناصب لا تحلّ»(2).

وروايته أيضاً عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنه لم تحل ذبائح الحروريّة»(3).

وروايته أيضاً قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يشتري اللحم من السوق وعنده من يذبح ويبيع من إخوانه فيتعمّد الشراء من النصّاب فقال: «أي شيء تسألني أن أقول؟ ما يأكل إلّا مثل الميتة والدم ولحم الخنزير». قلت: سبحان اللّه مثل الميتة والدم ولحم الخنزير؟! فقال: «نعم وأعظم عند اللّه من ذلك». ثمّ قال: «إنّ هذا في قلبه على المؤمنين مرض»(4).

وفي طريق الأُولى زرعة وهو واقفي(5)، وفي طريق الثانية الحسين بن المختار وهو واقفي أيضاً(6)، وفي طريق الثالثة يونس بن يعقوب وهو فطحي (7) لكنّه ثقة(8). وتشترك الثلاثة في أبي بصير، وهو مشترك بين الثقة والضعيف، كما حقّقناه سابقاً(9).

مع أنّه قد روى الحلبي - في الصحيح - عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن ذبيحة المرجئ

ص: 277


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 71، ح 300؛ الاستبصار، ج 4، ص 88، ح 336.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 71، ح 301؛ الاستبصار، ج 4، ص 87، ح 332.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 71، ح 302؛ الاستبصار، ج 4، ص 87، ح 333.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 71 - 72، ح 300؛ الاستبصار، ج 4، ص 87، ح 334.
5- رجال النجاشي، ص 176، الرقم 466: الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 210، الرقم 313.
6- خلاصة الأقوال، ص 337، الرقم 1332.
7- الفقيه، ج 4، ص 523.
8- رجال النجاشي، ص 446، الرقم 1207 رجال الشيخ، ص 345 الرقم 5160.
9- سبق في ج 6. ص 491.
آلة الذبح
لا تصحّ التذكية إلّا بالحديد

• وأمّا الآلة، فلا تصحّ التذكية إلّا بالحديد. ولو لم يوجد وخيف فوت الذبيحة جاز بما يفري أعضاء الذبح، ولو كان ليطةٌ أو خشبة أو مروةً حادة أو زجاجة.

وهل تقع الذكاة بالظفر أو السنّ مع الضرورة؟ قيل: نعم؛ لأنّ المقصود يحصل، وقيل: لا؛ لمكان النهى ولو كان منفصلاً.

-------------------------------------------------------------------

والحروري. فقال: «كل وقرّ واستقرّ حتّى يكون ما يكون»(1). وروى حمران -في الحسن- عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سمعته يقول: «لا تأكل ذبيحة الناصب إلّا أن تسمعه يسمّي»(2). وهاتان الروايتان أوضح سنداً، وهما مناسبتان لروايات الكتابي وأولى بالحلّ، إلّا أن الأشهر استثناء الناصبي مطلقاً، والحروري من جملته؛ لنصبه العداوة لعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كغيره من فرق الخوارج.

وحجّة المانع من غير المؤمن رواية زكريا بن آدم السابقة (3)، وهي صحيحة السند، إلّا أنّ النهي فيها ظاهر في الكراهة، إمّا جمعاً، أو بقرينة الضرورة المستثناة فيها، فإنّه أعمّ من بلوغ الحد المسوّغ لأكل الميتة.

قوله: «وأمّا الآلة فلا تصحّ التذكية إلّا بالحديد» إلى آخره.

المعتبر عندنا في الآلة التي يذكى بها أن تكون من حديد، فلا يجزئ غيره مع القدرة عليه، وإن كان من المعادن المنطبعة كالنحاس والرصاص والذهب والفضّة وغيرها. ويجوز مع تعذّرها والاضطرار إلى التذكية ما فرى الأعضاء من المحددات ولو من خشب، أو ليطة - بفتح اللام - وهي القشر الظاهر من القصبة(4)، أو مروة وهي الحجر الحاد الذي يقدح النار(5)،

ص: 278


1- الكافي، ج 6، ص 236 - 237، باب آخر، ح 1؛ الفقیه، ج 3، ص 329، ح 4182، وفيه: سأل أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 72، ح 305؛ الاستبصار، ج 4، ص 88، ح 337.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 72، ح 304؛ الاستبصار، ج 4، ص 87 - 88، ح 335.
3- سبق تخريج روايته في ص 272. الهامش 4.
4- الصحاح، ج 2، ص 1158، «ليط».
5- الصحاح، ج 4، ص 2491، «مرا».

-------------------------------------------------------------------

أو غير ذلك، عدا السن والظفر إجماعاً، وفيهما قولان.

أمّا عدم إجزاء غير الحديد مع القدرة عليه فدلّ عليه أخبار كثيرة، منها حسنة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الذبيحة بالليطة وبالمروة. فقال: «لا ذكاة إلّا بحديدة»(1).

وحسنة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن ذبيحة العود والحجر والقصبة. فقال: «قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا يصلح إلّا بحديدة»(2).

وحسنة أبي بكر الحضرمي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يؤكل ما لم يذبح بحديدة»(3).

وأمّا إجزاء غير الحديد عند الضرورة فيدلّ عليه رواية عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول اللّه إنا نصيد الصيد فلا نجد سكّيناً إلّا الطرار وشقّة العصا، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أهرق الدم بما شئت واذكر اسم اللّه»(4).

وصحيحة زيد الشحام قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل لم يكن بحضرته سكّين أفيذبح بقصبة؟ فقال: «اذبح بالحجر وبالعظم وبالقصبة والعود إذا لم تصب الحديد، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(5) وغيره من الأخبار(6).

ص: 279


1- الكافي، ج 6، ص 227، باب ما تذكى به الذبيحة، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 51، ح 211؛ الاستبصار، ج 4، ص 79 - 80، ج 394.
2- الكافي، ج 1، ص 227، باب ما تذكى به الذبيحة، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 51، ح 212؛ الاستبصار، ج 4، ص 80، ح 395.
3- الكافي، ج 1، ص 227، باب ما تذكى به الذبيحة، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 51، ح 209؛ الاستبصار، ج 4، ص 79، ح 392 بتفاوت يسير.
4- سنن أبي داود، ج 3، ص 102 - 103، ح 2824: السنن الكبرى البيهقي، ج 9، ص 472 - 473، ح 19145 - 19147، بتفاوت.
5- الكافي، ج 1، ص 228، باب ما تذكى به الذبيحة، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 51، ح 213؛ الاستبصار، ج 4، ص 80، ح 396.
6- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 8 - 10، الباب 2 من أبواب الذبائح.
هل تصحّ التذكية بالسنّ والظفر عند الضرورة؟

-------------------------------------------------------------------

وأما السنّ والظفر ففي جواز التذكية بهما عند الضرورة قولان:

أحدهما: العدم، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف، وادّعي فيه إجماعنا(1)، واستدلّ عليه برواية رافع بن خديج قال قلت: يا رسول اللّه، إنا نلقى العدوّ غداً وليس معنا مدى، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك، أمّا السنّ فعظم، وأمّا الظفر فمدى الحبشة (2).

والثاني: الجواز، ذهب إليه ابن إدريس (3) وأكثر المتأخّرين؛ للأصل، وعدم ثبوت المانع، فإنّ خبره عامّي، والتصريح بجوازه بالعظم في صحيحة زيد الشحّام السابقة(4)، والسنّ عظم، والظفر في معناه، خصوصاً وقد علّل النهي في حديثه بأنّ السنّ عظم، فدلّ على عدم جوازها بالعظم مطلقاً، فيتعارض الخبران ويقدّم الصحيح منهما، أو يحمل الآخر على الكراهة.

وربما فرّق بين المتّصلين والمنفصلين من حيث إن المنفصلين كغيرهما من الآلات بخلاف المتّصلين، فإنّ القطع بهما يخرج عن مسمّى الذبح، بل هو أشبه بالأكل والتقطيع، والمقتضي للذكاة هو الذبح ويحمل النهي في الخبر على المتّصلين جمعاً.

والشهيد في الشرح استقرب المنع من التذكية بالسن والظفر مطلقاً؛ للحديث المتقدّم، وجوّزها بالعظم غيرهما (5)؛ لما فيه من الجمع بين الخبرين.

لكن يبقى فيه منافاة التعليل لذلك.

ص: 280


1- المبسوط، ج 4، ص 656؛ الخلاف، ج 1، ص 22 - 23، المسألة 22.
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 881، ح 2356؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1558، ح 1968/20؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1061، ح 3178؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 102، ح 2821 بتفاوت يسير.
3- السرائر، ج 3، ص 86.
4- سبق تخريج صحيحته في ص 279، الهامش 5.
5- غاية المراد، ج 3، ص 361 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
كيفيّة الذبح
الواجب قطع الأعضاء الأربعة

وأمّا الكيفية: • فالواجب قطع الأعضاء الأربعة المريء، وهو مجرى الطعام، والحلقوم، وهو مجرى النفس والودجان، وهما عرقان محيطان بالحلقوم.

ولا يجزئ قطع بعضها مع الإمكان، هذا في قول مشهور وفي الرواية: «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس».

-------------------------------------------------------------------

قوله: «فالواجب قطع الأعضاء الأربعة» إلى آخره.

لا خلاف في اعتبار قطع الحلقوم في حلّ الذبيحة، وعليه اقتصر ابن الجنيد(1)، ودلّت عليه صحيحة زيد الشحّام السابقة (2)؛ ولأنّ به يحصل التذفيف، ولا تبقى الحياة بعده.

والمشهور بين الأصحّاب اعتبار قطع الأعضاء الأربعة: الحلقوم، وهو مجرى النفس دخولاً وخروجاً، والمريء، وهو مجرى الطعام والشراب، ويجمع على مرؤ كسرير وسرر، والودجان، وهما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم كما ذكره المصنّف وجماعة (3).

وذكر بعضهم أنّهما يحيطان بالمريء، ويقال للحلقوم والمريء معهما الأوداج(4).

والمصنّف (رحمه اللّه) نسب هذا القول إلى الشهرة مؤذناً بعدم دليل صالح يدلّ عليه.

وقد يستدلّ له بحسنة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهنّ إذا لم يجد سكّيناً. قال: «إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك»(5). ولعلّ المصنّف نظر إلى عدم تصريح الرواية بالأوداج الأربعة.

ص: 281


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 369، المسألة 66.
2- سبقت مع تخريجها في ص 279، الهامش 5.
3- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 106؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 321؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 339 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 470.
5- الكافي، ج 6، ص 228، باب آخر منه في حال الاضطرار، ح 2 الفقيه، ج 3، ص 326، ح 4166؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 52، ح 214؛ الاستبصار، ج 4، ص 80 ح 297.

-------------------------------------------------------------------

وأيضاً فلا شبهة في أنّه مع فري الأوداج الأربعة تحلّ الذبيحة، ولكن ذلك لا ينافي الاكتفاء بما دونها، فإذا ثبت في الرواية الصحيحة الاكتفاء بقطع الحلقوم لم يكن منافياً له إلّا من حيث المفهوم، وليس بحجّة.

وأيضاً فإنّ فري الأوداج لا يقتضي قطعها رأساً الذي هو المعتبر على القول المشهور؛ لأنّ الفري التشقيق وإن لم ينقطع، قال الهروي في حديث ابن عباس: كلّ ما أفرى الأوداج أي شققها وأخرج ما فيها من الدم(1).

فقد ظهر أنّ اعتبار قطع (2) الأربعة لا دليل عليه إلّا الشهرة، فلو عمل بالروايتين (3) واعتبر الحسن لاكتفي بقطع الحلقوم وحده أو فري الأوداج بحيث يخرج منها الدم وإن لم يستوعبها، إلّا أنّه لا قائل بهذا الثاني من الأصحّاب. نعم، هو مذهب بعض العامّة (4).

وفي المختلف قال بعد نقل الخبرين: هذا أصحّ ما وصل إلينا في هذا الباب، ولا دلالة فيه على قطع ما زاد على الحلقوم والأوداج(5).

وأراد بذلك أنّ قطع المريء لا دليل عليه؛ إذ لو أراد بالأوداج ما يشمله لم يفتقر إلى إثبات أمر آخر؛ لأنّ ذلك غاية ما قيل.

وفيه ميل إلى قول آخر وهو اعتبار قطع الحلقوم والودجين، لكن قد عرفت أن الرواية لا تدلّ على اعتبار قطعها رأساً(6)، وأن الأوداج بصيغة الجمع تطلق على الأربعة كما نقلناه.

ص: 282


1- غريب الحديث الهروي، ج 2، ص 29 - 292؛ الفائق في غريب الحديث، ج 3، ص 27، «فري».
2- في بعض النسخ زيادة: «الأعضاء».
3- أي رواية زيد الشحام المذكورة في ص 279، ورواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة في ص 281.
4- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 87 و 88؛ والوجيز، ج 2، ص 212؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 45 - 46، المسألة :7759؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 470 و 475.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 370، المسألة 66، وأراد بالخبرين روايتي زيد الشحام وعبد الرحمن بن الحجاج المذكورتين في ص 279 و 281.
6- أي رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة في ص 281.

• ويكفي في المنحور طعنه في ثغرة النحر، وهي وهدة اللبة.

شروط التذكية:
إشارة:

ويشترط فيها شروط أربعة:

الأوّل: أن يستقبل بها القبلة مع الإمكان

الأوّل: • أن يستقبل بها القبلة مع الإمكان. فإن أخلّ عامداً كانت ميتةً، وإن كان ناسياً صحّ. وكذا لو لم يعلم جهة القبلة.

-------------------------------------------------------------------

فتخصيصها بالودجين والحلقوم ليس بجيد. وكيف قرّر فالوقوف مع القول المشهور هو الأحوط.

قوله: «ويكفي في المنحور طعنه في ثغرة النحر، وهي وهدة اللبّة».

بمعنى أنه يكفي إدخال السكين ونحوها في الوهدة من غير أن يقطع الحلقوم وغيره. ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث اعتبر قطع الحلقوم والمريء في الذبح والنحر، واجتزاً بكلّ منهما لمطلق الحيوان(1).

واللبة - بفتح اللام وتشديد الباء - أسفل العنق بين أصله وصدره(2). ووهدتها: الموضع المنخفض منها(3). وفي حسنة معاوية بن عمار قال، قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «النحر في اللبّة، والذبح في الحلقوم»(4).

قوله: «أن يستقبل بها القبلة مع الإمكان» إلى آخره.

أجمع الأصحّاب على اشتراط استقبال القبلة في الذبح والنحر، وأنه لو أخلّ به عامداً حرمت، ولو كان ناسياً لم تحرم؛ لحسنة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة، فقال: «كل لا بأس بذلك ما لم يتعمّد»(5). ومثلها حسنة الحلبي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(6).

ص: 283


1- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 89 - 90؛ والوجيز، ج 2، ص 212؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 45 - 46 المسألة 7759 وروضة الطالبين، ج 2، ص 475.
2- انظر الصحاح، ج 1، ص 217؛ ولسان العرب، ج 1، ص 733، «لبب».
3- لسان العرب، ج 3، ص 470 - 471، «وهد».
4- الكافي، ج 1، ص 228، باب صفة الذبح والنحر، ح 1 باختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 53، ح 217.
5- الكافي، ج 1، ص 233 - 234، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 4 باختلاف يسير : الفقيه، ج 3، ص 332، ح 4189؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 59، ح 250.
6- الكافي، ج 6، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 59 - 60، ح 251.
الثاني: التسمية

الثاني: • التسمية وهي أن يذكر اللّه سبحانه، فلو تركها عامداً لم تحلّ، ولو نسي لم تحرم.

-------------------------------------------------------------------

والجاهل هنا كالناسي؛ لحسنة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل ذبح ذبيحة فجهل أن يوجّهها إلى القبلة. قال: «كل منها»، وقال: «إذا أردت أن تذبح فاستقبل بذبيحتك القبلة»(1). ومن لا يعتقد وجوب الاستقبال في معنى الجاهل فلا تحرم ذبيحته.

والمعتبر الاستقبال بمذبح الذبيحة ومقاديم بدنها، كما يظهر من الخبر الأخير. ولا يشترط استقبال الذابح، وإن كان ظاهر العبارة يوهم ذلك، حيث إنّ ظاهر الاستقبال بها أن يستقبل هو معها أيضاً على حد قولك: ذهبت بزيد وانطلقت به، بمعنى ذهابهما وانطلاقهما معاً.

ووجه عدم اعتبار استقباله أن التعدية بالباء تفيد معنى التعدية بالهمزة كما في قوله تعالى: «ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ»(2)، أي أذهب نورهم. وفي الخبر الأوّل ما يرشد إلى الاكتفاء بتوجيهها إلى القبلة خاصّة.

وربما قيل بأنّ الواجب هنا الاستقبال بالمذبح والمنحر خاصّة. وليس ببعيد. ويستحبّ استقبال الذابح أيضاً.

هذا كلّه مع العلم بجهة القبلة. أما لو جهلها سقط اعتبارها؛ لتعذّرها، كما يسقط اعتبارها في المستعصي لذلك.

قوله: «التسمية وهي أن يذكر اللّه سبحانه» إلى آخره.

هذا الشرط أيضاً عند أصحابنا موضع وفاق، والآيات والأخبار ناطقة به، وقد تقدم كثير منها(3). فلو تركها عامداً حرمت؛ للنهي عند أصحابنا عن أكله في قوله: «وَلَا تَأْكُلُوا ممّا لَمْ يُذْكَرِ اَسْمُ اللّه عَلَيْهِ»(4). ويغتفر ذلك مع النسيان؛ لصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت

ص: 284


1- الكافي، ج 1، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 60، ح 253.
2- البقرة (1): 17.
3- تقدّم في ص 270 وما بعدها.
4- الأنعام (6): 121.

-------------------------------------------------------------------

أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يذبح ولا يسمّي، قال: «إن كان ناسياً فلا بأس عليه»(1).

وفي رواية أخرى عنه حسنة عن أبي عبداللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال سألته عن رجل ذبح ولم يسمّ، قال: «إن كان ناسياً فليسم حين يذكر ويقول بسم اللّه على أوّله وعلى آخره»(2).

والأقوى الاكتفاء بها وإن لم يعتقد وجوبها؛ لعموم النص(3)، خلافاً للمختلف(4)، ولولا ذلك لم يمكن القول بحل ذبيحة المخالف الذي لا يعتقد وجوب التسمية، والنصوص ناطقة بحلّها من غير تقييد، بل بشراء ما يوجد في أسواق المسلمين من اللحوم(5). والحكم فيها كذلك.

والمراد من التسمية أن يذكر اسم اللّه تعالى عند الذبح أو النحر كما يقتضيه الآية(6)، كقوله: «بسم اللّه» أو «الحمد للّه» أو يهلله أو يكبّره أو يسبّحه أو يستغفره؛ لصدق الذكر بذلك كلّه.

وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن رجل ذبح فسبح أو كبر أو هلل أو حمد اللّه، قال: «هذا كلّه من أسماء اللّه، ولا بأس به»(7).

ولو اقتصر على لفظ «اللّه» ففي الاجتزاء به قولان(8)، من صدق ذكر اسم اللّه عليه، ومن دعوى أنّ العرف يقتضي كون المراد ذكر اللّه بصفة كمال وثناء كإحدى التسبيحات الأربع. وكذا الخلاف لو قال: «اللّهم ارحمني» أو «اغفر لي». والأقوى هنا الإجزاء.

ص: 285


1- الكافي، ج 1، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 60، ح 252.
2- الكافي، ج 6، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 4؛ الفقيه، ج 3، ص 332، ح 4189 تهذيب الأحكام ج 9، ص 59، ح 250.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 29 - 30، الباب 15 من أبواب الذبائح.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 320، المسألة 29.
5- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 48 - 70، الباب 26 - 29 من أبواب الذبائح.
6- الأنعام (6): 121.
7- الكافي، ج 1، ص 234، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 5: الفقيه، ج 3، ص 333، ح 4190: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 59، ح 249.
8- القائل بالاجتزاء بذلك هو العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 607، الرقم 6208؛ وإرشاد الأذهان، ج 2، ص 108: والقائل بعدم الاجتزاء بذلك أيضاً العلّامة في أحد قوليه، راجع قواعد الأحكام، ج 3، ص 319، وفيه: «فإشكال».
الثالث: اختصاص الإبل بالنحر وما عداها بالذبح
إشارة:

الثالث: • اختصاص الإبل بالنحر، وما عداها بالذبح في الحلق تحت اللحيين. فإن نحر المذبوح أو ذبح المنحور فمات لم يحلّ، ولو أدركت ذكاته فذكّي حلّ. وفيه تردّد؛ إذ لا استقرار للحياة بعد الذبح أو النحر.

-------------------------------------------------------------------

ولو قال: «بسم اللّه ومحمّد» بالجرّ، لم يجز؛ لأنّه شرك. وكذا لو قال: «ومحمّد رسول اللّه». ولو رفع فيهما لم يضر؛ لصدق التسمية بالأوّل تامّةً، وعطف الشهادة للرسول زيادة خير غير منافية بخلاف ما لو قصد التشريك.

ولو قال: «بسم اللّه واسم محمّد» قاصداً «أذبح باسم اللّه» و «أتبرّك باسم محمّد» فلا بأس. وإن أطلق أو قصد التشريك لم يحلّ. ولو قال: «اللّهم صل على محمّد وآل محمّد» فالأقوى الإجزاء.

وهل يشترط التسمية بالعربيّة؟ يحتمله؛ لظاهر قوله «اسم اللّه»، وعدمه؛ ه؛ لأنّ المراد من «اللّه» هنا الذات المقدّسة، فيجزئ ذكر غيره من أسمائه، وهو متحقّق بأيّ لغة اتّفقت، وعلى ذلك يتخرّج ما لو قال: «بسم الرحمن» وغيره من أسمائه المختصّة أو الغالبة غير لفظ «اللّه».

قوله: «اختصاص الإبل(1) بالنحر» إلى آخره.

القول بحلّه على تقدير استدراك ما يعتبر من ذبحه أو نحره على تقدير فعل الآخر به قبله للشيخ في النهاية(2). ووجهه وجود المقتضي للحلّ، وهو التذكية المعتبرة، فيحكم به كما لو ذكي المجروح بغير ذلك.

والمصنّف تردّد في ذلك، من حيث إن شرط حلّ المذكّى وقوعها حال استقرار حياته، وهو مفقود هنا؛ لأنّ كلّ واحد من الذبح والنحر يرفع استقرار الحياة فلا يفيده التذكية حلّاً، كما لو ذبحه أو نحره وقد أشرف على الموت والتذكية إنّما توجب الحلّ حيث تقع بمحل قابل لها، وهو غير موجود في الفرض.

ص: 286


1- في حاشية «و»: «مذهب الأصحّاب تعيين النحر للايل والذبح لغيرها، وهو مذهب مالك، وذهب الشافعي إلى التخيير بين الأمرين في الجميع مع قطع الحلقوم والمريء فيها، وليس في الأخبار ما يفي بالتفصيل. (منه رحمه اللّه)».
2- النهاية، ص 583.
إبانة الرأس بالذبح عمداً هل هو محرّم أو مكروه؟

• وفي إبانة الرأس عامداً خلاف أظهره الكراهية. وكذا سلخ الذبيحة قبل بردها، أو قطع شيء منها.

-------------------------------------------------------------------

والتحقيق أن الحكم يرجع إلى تحقيق ما يعتبر في الحلّ من الحياة، فإن اعتبرنا استقرارها -كما هو المشهور - لم يحلّ هنا لفقد الشرط، وإن اكتفينا بالحركة بعد الذبح أو النحر وخروج الدم أو أحدهما لزمه الحكم بالحلّ إذا وجد الشرط. وسيأتي تحقيق أن المعتبر هو الثاني (1)، فيحلّ هنا.

قوله: «وفي إبانة الرأس عامداً خلاف أظهره الكراهية» إلى آخره.

هنا مسألتان:

الأولى إبانة الرأس بالذبح عمداً هل هو محرّم أو مكروه؟ فيه قولان:

أحدهما: التحريم، ذهب إليه الشيخ في النهاية (2) وابن الجنيد (3) وجماعة (4)؛ لصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «لا ينخع ولا يقطع الرقبة بعد ما يذبح»(5). وهو نهي والأصل فيه التحريم.

والثاني: الكراهة ذهب إليه الشيخ في الخلاف(6) وابن إدريس(7) والمصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة(8) في غير المختلف؛ لأصالة الإباحة، وحملوا الرواية على الكراهة.

ص: 287


1- يأتي في ص 290 - 291.
2- النهاية، ص 584.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 321، المسألة 30.
4- منهم المفيد في المقنعة، ص 580؛ وابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 440: وابن حمزة في الوسيلة، ص 360؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 322، المسألة 30؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 34 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- الكافي، ج 6، ص 233، باب ما ذبح لغير القبلة...، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 60، ح 252.
6- الخلاف، ج 1، ص 53، المسألة 13.
7- السرائر، ج 3، ص 107 - 108.
8- قواعد الأحكام، ج 3، ص 322، وفيه: «على رأي»؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 624، الرقم 6227؛ إرشاد الأذهان، ج 2، ص 109.

-------------------------------------------------------------------

ويضعّف بأن الأصل فيه التحريم. وإنّما يجب حمله على غير ظاهره حيث يمنع من حمله عليه،مانع كالجمع بينه وبين أثر (1) آخر يدلّ على الحل وهو مفقود هنا. فالقول بالتحريم أقوى.

ثمّ على تقديره هل تحرم الذبيحة أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: التحريم، ذهب إليه الشيخ في النهاية (2) وابن زهرة(3)، استناداً إلى أنّ الذبح المشروع هو قطع الأعضاء الأربعة فقط، فالزائد عليها يخرج عن كونه ذبحاً شرعياً فلا يكون مبيحاً، وجرى مجرى ما لو قطع عضواً من أعضائه فمات.

ويضعّف بأنّ قطع الأعضاء الأربعة قد حصل فحصل الحلّ به. ولا يلزم من تحريم الفعل الزائد تحريم الذبيحة؛ عملاً بالأصل وعموم قوله تعالى: «فَكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ»(4). وخصوص صحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن ذابح طير قطع رأسه أ يؤكل منه؟ قال: «نعم، ولكن لا يتعمّد»(5). وهذا هو الأقوى.

ولو أبان الرأس بغير تعمّد فلا إشكال في عدم التحريم، وقد روى محمّد بن مسلم - في الحسن - قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مسلم ذبح فسمّى فسبقت مديته فأبان الرأس. فقال: «إن خرج الدم فكل»(6).

وفي خبر آخر أنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن رجل يذبح فتسرع السكّين فتبين الرأس. فقال: «الذكاة

ص: 288


1- في بعض النسخ «أمر» بدل «أثر».
2- النهاية، ص 584.
3- غنية النزوع، ج 1، ص 398.
4- الأنعام (6): 118.
5- لم نعثر على صحيحة محمّد بن مسلم، بل رواها الحلبي بتفاوت يسير راجع الفقيه، ج 3، ص 328. ح 4175.
6- الكافي، ج 6، ص 230، باب الرجل يريد أن يذبح...، ح 2 مع اختلاف يسير؛ الفقيه، ج 3، ص 327، ح 4172: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 55-56، ح 230.

-------------------------------------------------------------------

الوحية لا بأس بأكله ما لم يتعمد ذلك»(1).

ويمكن أن يكون الشيخ استند في تحريم الذبيحة مع التعمد إلى هذا الخبر؛ لأنّ مفهومه أنّه مع التعمّد يحرم، إلّا أنّ المفهوم ضعيف، والراوي مسعدة بن صدقة وهو عامّي(2)، فلا يصلح دليلاً على التحريم.

سلخ الذبيحة قبل بردها أو قطع شيءٍ منها هل محرّم أو مكروه؟

الثانية: سلخ الذبيحة قبل بردها أو قطع شيء منها، فيه أيضاً قولان:

أحدهما: التحريم، ذهب إليه الشيخ في النهاية، بل ذهب إلى تحريم الأكل أيضاً (3)، وتبعه ابن البرّاج(4)، وابن حمزة(5)؛ استناداً إلى رواية محمّد بن يحيى رفعه قال، قال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الشاة إذا ذبحت وسلخت أو سلخ شيء منها قبل أن تموت فليس يحلّ أكلها»(6).

والأقوى الكراهة وهو قول الأكثر؛ للأصل، وضعف الرواية بالإرسال، فلا تصلح دليلاً على التحريم، بل الكراهة للتسامح في دليلها.

وذهب الشهيد (رحمه اللّه)(7) إلى تحريم الفعل دون الذبيحة. أمّا الأوّل فلما فيه من تعذيب الحيوان المنهيّ عنه(8). وأما الثانى فلقوله تعالى: «فَكُلُوا ممّا ذُكِرَ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ»(9).

وأجاب عن إرسال الحديث بأنّ المفهوم في اصطلاح أرباب صناعة الحديث أنّ

ص: 289


1- الكافي، ج 1، ص 230، باب الرجل يريد أن يذبح...، ح 3 بتفاوت يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56، ح 231. والمسؤول هو الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- رجال الطوسي، ص 146، الرقم 1609؛ خلاصة الأقوال، ص 410 الرقم 1661.
3- النهاية، ص 584.
4- المهذّب، ج 2، ص 440.
5- الوسيلة، ص 360.
6- الكافي، ج 1، ص 230، باب صفة الذبح والنحر، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56، ح 233.
7- غاية المراد، ج 3، ص 365؛ الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 343 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3 و 10).
8- راجع وسائل الشيعة، ج 11، ص 478 - 485، الباب 9 و 10 من أبواب أحكام الدواب.
9- الأنعام (6): 118.

• ولو انفلت الطير جاز أن يرميه بنشاب أو رمح أو سيف، فإن سقط وأدرك ذكاته ذبحه، وإلّا كان حلالاً.

الرابع: الحركة بعد الذبح

الرابع: • الحركة بعد الذبح كافية في الذكاة. وقال بعض لا بدّ مع ذلك من خروج الدم. وقيل: يجزئ أحدهما. وهو أشبه.

ولا يجزئ خروج الدم متثاقلاً، إذا انفرد عن الحركة الدالة على الحياة.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «رفعه» بمعنى «أسنده»(1)، فلا يكون مرسلاً.

وفيه: أنّه - مع تسليمه - لا يلزم من استناده على هذا الوجه خروجه عن الإرسال؛ لأنّ الواسطة مجهول الحال، وذلك كافٍ في الإرسال، كما إذا رواه عن رجل أو عن بعض أصحابنا، ونحو ذلك.

قوله: «ولو انفلت الطير جاز أن يرميه بنشّاب» إلى آخره.

إذا انفلت الطير صار من الحيوان الممتنع يعتبر في تذكيته ما يعتبر فيه؛ إذ لا يفرّق فيه بين الأهلى وغيره، كما لو توحش الأهلي. وقد دلّ على حكمه بخصوصه رواية حمران بن أعين عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وإن أفلتك شيء من الطير وأنت تريد ذبحه أو ندّ عليك فارمه بسهمك، فإذا سقط فذكّه بمنزلة الصيد»(2).

قوله: «الحركة بعد الذبح كافية في الذكاة» إلى آخره.

اختلف الأصحّاب فيما به تدرك الذكاة من الحركة وخروج الدم بعد الذبح أو النحر، فاعتبر المفيد (3) وابن الجنيد(4) في حلّها الأمرين معاً: الحركة وخروج الدم واكتفى الأكثر

ص: 290


1- غاية المراد، ج 3، ص 365 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
2- الكافي، ج 1، ص 229، باب صفة الذبح والنحر، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 55، ح 227؛ ونَدَّ البعيرُ : إذا شرد لسان العرب، ج 3، ص 419، «ندد».
3- المقنعة، ص 580.
4- الحاكي عنه هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 325، المسألة 34.

-------------------------------------------------------------------

ومنهم الشيخ(1) وابن إدريس (2) والمصنّف وأكثر المتأخّرين بأحد الأمرين، ومنهم من اعتبر الحركة وحدها(3).

ومنشأ الاختلاف الاكتفاء في بعض الروايات بالحركة(4)، وفي بعضها بخروج الدم(5). فالأولون جمعوا بينها بالجمع، والمتوسطون أعملوا كلّ واحد منفرداً؛ لعدم المنافاة والباقون نظروا إلى أنّ الروايات الدالة على اعتبار الحركة أوضح سنداً، فقد رواه الحلبي - في الصحيح - عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الذبيحة. فقال: «إذا تحرّك الذنب أو الطرف أو الأذن فهو ذكيّ»(6). وفي معناها كثير(7).

وروى الحسين بن مسلم عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث في آخره: «إن كان الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلاً فكلوا وأطعموا، وإن خرج خروجاً متناقلاً فلا تقربوه»(8)، وهذه تدلّ على الاكتفاء بخروج الدم، وبمضمونها عمل من اكتفى به حتّى الشهيد في الدروس مصرّحاً بالاستناد إليها (9)، مع أنّ راويها - وهو الحسين بن مسلم - مجهول الحال(10)، فيشكل العمل بها.

ص: 291


1- النهاية، ص 584 وسقط فيها بعض الكلام؛ والعبارة الكاملة في نكت النهاية، ج 3، ص 94؛ وراجع أيضاً مختلف الشيعة، ج 8، ص 325 المسألة 34.
2- السرائر، ج 3، ص 110.
3- كالصدوق في المقنع، ص 416.
4- راجع الهامش 7.
5- الكافي، ج 6، ص 228، باب آخر منه في حال الاضطرار، ج 3، وص 232، باب إدراك الذكاة، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 51. ح 213، وص 56 - 57، ح 236؛ الاستبصار، ج 4، ص 80، ح 296.
6- الكافي، ج 1، ص 233، باب إدراك الذكاة، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56، ح 235.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 22 - 24، الباب 11 من أبواب الذبائح.
8- الكافي، ج 6، ص 232 باب إدراك الذكاة، ح 2، وفيه : الحسن بن مسلم؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56 - 57، ح 236.
9- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 341 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
10- رجال الطوسي، ص 374، الرقم 5540.
مستحبّات الذبح

• ويستحب في ذبح الغنم أن تربط يداه ورجل واحدة، وتطلق الأخرى، ويمسك صوفه أو شعره حتّى يبرد.

وفي البقر تعقل يداه ورجلاه، ويطلق ذنبه.

وفي الإبل تربط أخفافه إلى آباطه وتطلق رجلاه.

و في الطير أن يرسل بعد الذباحة.

-------------------------------------------------------------------

نعم، يمكن الاستناد في الاكتفاء بخروج الدم إلى صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مسلم ذبح فسمّى فسبقته حديدته فأبان الرأس. فقال: «إن خرج الدم فكل»(1). لكنّها واردة في أمر خاص. ويمكن أن تجعل تلك شاهداً على العموم؛ إذ لا خصوصية لبعض الأفراد على بعض. وكيف كان، فالاكتفاء بالحركة وحدها قويّ.

قوله: «ويستحبّ في ذبح الغنم أن تربط يداه ورجل واحدة» إلى آخره.

مستند الحكم روايات منها حسنة حمران بن أعين عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا ذبحت فأرسل ولا تكتف والإرسال للطير خاصّة. وإن كان من الغنم أمسك صوفه أو شعره ولا تمسكن يداً ولا رجلاً، وأما البقر فاعقلها وأطلق الذنب، وأمّا البعير فشدّ أخفافه إلى آباطه وأطلق رجليه»(2).

والمراد بتشديد أخفافه إلى آباطه أن يجمع يديه ويربطهما فيما بين الخفّ والركبة، وبهذا صرّح في رواية أبي الصبّاح(3). وفي رواية أبي خديجة أنه يعقل يدها اليسرى خاصّة(4). وليس المراد في الأوّل أنّه يعقل خفيّ يديه معاً إلى آباطه؛ لأنّه لا يستطيع القيام حينئذٍ، والمستحبّ في الإبل أن تكون قائمةً.

ص: 292


1- تقدّم تخريجه في ص 288 الهامش 6.
2- الكافي، ج 6، ص 229، باب صفة الذبح والنحر، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 55، ح 227.
3- الكافي، ج 4، ص 497، باب الذبح ح 2 : الفقيه، ج 2، ص 503، ح 3085؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 221، ح 744.
4- الكافي، ج 4، ص 498، باب الذبح، ح 8؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 221، ح 745.
وقت ذبح الأضحيّة

• ووقت ذبح الأُضحيّة ما بين طلوع الشمس إلى غروبها.

-------------------------------------------------------------------

والمراد في الغنم بقوله: «ولا تمسك يداً ولا رجلاً» أنه يربط يديه وإحدى رجليه من غير أن يمسكها بيده.

قوله: «ووقت ذبح الأضحيّة ما بين طلوع الشمس إلى غروبها».

قد تقدّم في الحجّ أن وقت الأضحيّة لمن كان بمنى أربعة أيّام أولها يوم النحر، وفي الأمصار ثلاثة أيّام(1). والمراد هنا أنّ أوّل وقتها ما بين طلوع الشمس من يوم العيد إلى الغروب، يعني غروب آخر أيّام التشريق لا غروب يوم العيد، فإنّ ليالي أيّام التشريق من جملة وقتها وإن كان الذبح في الليل مكروهاً.

والأصحّ أن وقتها لا يدخل إلى أن يمضي بعد طلوع الشمس مقدار صلاة العيد والخطبتين ولو مخفّفة؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من ذبح قبل الصلاة فإنّما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نسكه، وأصاب سنّة المسلمين»(2).

وفي حديث آخر عنه : من صلى صلاتنا هذه، وذبح بعدها فقد أصاب النسك»(3).

وفيه إشارة إلى اعتبار مقدار صلاته وخطبته.

واعلم أن «الأضحيّة بضم الهمزة وكسرها، مع تخفيف الياء وتشديدها(4)، ويقال: ضحيّة بفتح الضاد وكسرها(5)، وأضحاة بفتح الهمزة وكسرها(6)، وهي ما يذبح من الغنم تقرّباً إلى اللّه تعالى من يوم عيد النحر إلى آخر أيّام التشريق، مأخوذة من الضحوة، سميت بأوّل زمان فعلها وهو الضحى(7). وهي من أكيد السنن، بل قيل بوجوبها(8).

ص: 293


1- تقدّم في ج 2، ص 226.
2- صحيح البخاري، ج 5، ص 2109، ح 5226: صحيح مسلم، ج 3، ص 1552، ح 1961/4 مع اختلاف يسير.
3- سنن أبي داود، ج 3، ص 96، ح 2800؛ سنن النسائي، ج 7، ص 237، ح 4402 مع اختلاف يسير.
4- الصحاح، ج 4، ص 2407؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 76؛ لسان العرب، ج 14، ص 476 - 477 «ضحا».
5- الصحاح، ج 4، ص 2407؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 76؛ لسان العرب، ج 14، ص 476 - 477 «ضحا».
6- الصحاح، ج 4، ص 2407؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 76؛ لسان العرب، ج 14، ص 476 - 477 «ضحا».
7- راجع لسان العرب، ج 14، ص 476 والمصباح المنير، ص 359، «ضحا».
8- قال به ابن الجنيد على ما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 4، ص 299، المسألة 250.
مكروهات الذباحة

• وتكره الذباحة ليلاً إلّا مع الضرورة، وبالنهار يوم الجمعة إلى الزوال، وأن تنخع الذبيحة، وأن يقلب السكين فيذبح إلى فوق، وقيل فيهما: يحرم. والأوّل أشبه، وأن يذبح حيوان وآخر ينظر إليه.

-------------------------------------------------------------------

والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى : «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ»(1)، أي صل صلاة العيد وانحر النسك. وروي أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما(2). والأملح قيل : الأبيض الخالص (3)، وقيل : الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل غير ذلك(4). وقد تقدم جملة من أحكامها في كتاب الحجّ(5).

قوله: «وتكره الذباحة ليلاً إلّا مع الضرورة» إلى آخره.

هنا مسائل من أحكام الذباحة:

الأولى: يكره إيقاعها ليلاً؛ لما روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن الذبح ليلاً(6). وروى أبان بن تغلب عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتّى يطلع الفجر، ويقول: إن اللّه جعل الليل سكناً لكلّ شيء». قلت: جعلت فداك فإن خفنا؟ قال: «إن كنت تخاف الموت فاذبح»(7).

الثانية: يكره إيقاعها أيضاً يوم الجمعة إلى الزوال؛ لرواية الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 294


1- الكوثر (108): 2.
2- مسند أحمد، ج 3، ص 533، ح 11549؛ وصحيح البخاري، ج 7، ص 2112 - 2114، ح 5234 و 5238 و 5244 و 5245: وصحيح مسلم، ج 3، ص 1556 و 1557، ح 1966/17 و 1966/18 بتفاوت.
3- المجموع شرح المهذّب، ج 8، ص 396.
4- راجع لسان العرب، ج 2، ص 602 و 603، «ملح».
5- تقدّم في ج 2، ص 226 وما بعدها.
6- نقله ابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 116، المسألة 7883.
7- الكافي، ج 6، ص 236، باب الأوقات التي يكره فيها الذبح، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 60. ح 254.

-------------------------------------------------------------------

قال: «كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يكره الذبح وإراقة الدماء يوم الجمعة قبل الصلاة إلّا عن الضرورة»(1).

الثالثة: أن ينخع الذبيحة، وهو أن يبلغ بالسكين النخاع مثلث النون - فيقطعه، أو يقطعه قبل موتها، وهو الخيط الأبيض وسط الفقار - بالفتح - ممتّداً من الرقبة إلى عجب الذنب - بفتح العين وسكون الجيم - وهو أصله (2).

ووجه الكراهة ورود النهي عنه، وقد تقدّم بعضه في إبانة الرأس؛ فإنّها تستلزم قطع النخاع.

وقيل: يحرم (3)؛ لأنّ الأصل في النهي التحريم، فلا وجه للعدول إلى الكراهة. وقد تقدّم أنّ خبر النهي صحيح، فالقول بالتحريم أقوى، وعلى تقديره لا تحرم الذبيحة على الأصحّ؛ للأصل. وإنّما يحرم الفعل مع تعمّده، فلو سبقت يده فقطعته فلا بأس، وقد تقدّم ما يدلّ عليه.

الرابعة: أن تقلّب السكّين والمراد به أن يدخلها تحت الحلقوم ويقطعه مع باقي الأعضاء إلى خارج الرواية حمران عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تقلب السكّين لتدخلها تحت الحلقوم وتقطعه إلى فوق»(4). وحرّمه الشيخ في النهاية(5)، وتبعه القاضي(6). لكن في طريق الرواية جهالة(7)، فالقول بالكراهة أجود.

ص: 295


1- الكافي، ج 1، ص 236، باب الأوقات التي يكره فيها الذبح، ح 1 مع اختلاف يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 60 - 61، ح 255.
2- راجع لسان العرب، ج 8، ص 348، «نخع».
3- قال به الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 342 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- الكافي، ج 1، ص 229، باب صفة الذبح والنحر، 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 55، ح 227.
5- النهاية، ص 584.
6- المهذّب، ج 2، ص 440.
7- في حاشية «خ، و»: «في الطريق أبو هاشم الجعدي وهو مجهول، وفي بعض نسخ التهذيب الجعفري وهو ثقة لكنّها مروية عن أبيه وحاله مجهول. (منه قدّس سرّه)». تهذيب الأحكام، ج 9، ص 55. ح 227، وفيه: «الجعفري».

-------------------------------------------------------------------

الخامسة: يكره أن يذبح الحيوان صبراً، وهو أن يذبحه وحيوان آخر ينظر إليه؛ لرواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان لا يذبح الشاة عند الشاة، ولا الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه»(1).

وحرمه الشيخ في النهاية (2)، وهو ضعيف جداً؛ لأنّ الخبر - مع ضعف طريقه بغياث (3)- لا دلالة فيه على التحريم بوجه، فإن عدم فعل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك أعمّ من كونه على وجه الوجوب أو الاستحباب إن لم يكن غير ذلك.

وقد بقي للذبح وظائف منصوصة ينبغي إلحاقها بما ذكر، وهي تحديد الشفرة، وسرعة القطع، وأن لا يري الشفرة للحيوان، وأن يستقبل الذابح القبلة، ولا يحركه، ولا يجرّه من مكان إلى آخر، بل يتركه إلى أن تفارقه الروح، وأن يساق إلى الذبح برفق، ويضجع برفق، ويعرض على الماء قبل الذبح، ويمرّ السكين بقوة وتحامل ذهاباً وعوداً، ويجد في الإسراع ليكون أرخى وأسهل.

وروى شداد بن أويس أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «إن اللّه كتب عليكم الإحسان في كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»(4).

وفي حديث آخر أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: «إذا ذبح أحدكم فليجهز»(5).

ص: 296


1- الكافي، ج 6، ص 229 - 230، باب صفة الذبح والنحر، ح 7، وفيه قال: «لا تذبح الشاة»؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56، ح 232.
2- النهاية، ص 584.
3- رجال الطوسي، ص 142 الرقم 1542؛ خلاصة الأقوال، ص 385، الرقم 1547، وفيهما: «بتري».
4- صحيح مسلم، ج 3، ص 1548، ح 1955/57؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 100، ح 2815؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1058، ح 3170؛ الجامع الصحيح، ج 4، ص 23، ح 1409 بتفاوت وورد أيضاً في المجموع شرح المهذّب ج 9، ص 80، وفيها: «أوس» بدل «أويس».
5- مسند أحمد، ج 2، ص 249، ح 5830؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1059، ح 3172؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 1، ص 471، ح 19139 و 19140 بتفاوت يسير.

لواحق الذباحة

إشارة:

وأما اللواحق فمسائل

ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح

الأولى: • ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح واللحوم يجوز شراؤه، ولا يلزم الفحص عن حاله.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح واللحوم يجوز شراؤه» إلى آخره.

لا فرق في ذلك بين ما يوجد بيد رجل معلوم الإسلام ومجهوله، ولا في المسلم بين كونه ممّن يستحلّ ذبيحة الكتابي وغيره، على أصح القولين (1)؛ عملاً بعموم النصوص (2) والفتاوى.

ومستند الحكم أخبار كثيرة، منها حسنة الفضلاء - فضيل بن يسار وزرارة ومحمّد بن مسلم - أنهم سألوا أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما يصنع القصّابون؟ قال: «كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه»(3).

ومثله ما يوجد بأيديهم من الجلود، ففي صحيحة أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أذكيّ أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال: «نعم أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلّي فيه وليس عليكم المسألة»(4).

وفي صحيحة أحمد بن أبي نصر أيضاً قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة ولا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة؟ أيصلّي فيها؟ قال: «نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ

ص: 297


1- وهو قول العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 323؛ والقول الآخر وهو أيضاً قوله في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 626، الرقم 6230، وفيه: على إشكال... أقربه عندي المنع في الموضعين.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 490 - 494، الباب 50 من أبواب النجاسات؛ وج 24، ص 70، الباب 29 من أبواب الذبائح.
3- الكافي، ج 1، ص 237، باب آخر، ح 2؛ الفقیه، ج 3، ص 332، ح 4188؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 72 - 73، ح 307.
4- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 371، ح 1545.
تذكية ما يتعذّر ذبحه أو نحره من الحيوان

الثانية: • كلّ ما يتعذّر ذبحه أو نحره من الحيوان إما لاستعصائه، أو لحصوله في موضع لا يتمكن المذكّي من الوصول إلى موضع الذكاة منه، وخيف فوته، جاز أن يعقر بالسيوف، أو غيرها ممّا يجرح، ويحلّ، وإن لم يصادف العقر موضع التذكية.

-------------------------------------------------------------------

أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك»(1).

واعتبر في التحرير كون المسلم ممّن لا يستحلّ ذبائح أهل الكتاب (2). وهو ضعيف جدّاً؛ لأنّ جميع المخالفين يستحلّون ذبائحهم، فيلزم على هذا أن لا يجوز أخذه من المخالف مطلقاً، وهذه الأخبار ناطقة بخلاف ذلك.

واعلم أنّه ليس في كلام الأصحّاب ما يعرف به سوق الإسلام من غيره، فكان الرجوع فيه إلى العرف وفي موثّقة إسحاق بن عمار عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «لا بأس بالصلاة الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام» قلت له: وإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس»(3).

وعلى هذا ينبغي أن يكون العمل، وهو غير منافٍ للعرف أيضاً، فيتميّز سوق الإسلام بأغلبيّة المسلمين فيه، سواء كان حاكمهم مسلماً وحكمهم نافذاً أم لا ؛ عملاً بالعموم وكما يجوز شراء اللحم والجلد من سوق الإسلام لا يلزم البحث عنه هل ذابحه مسلم أم لا؟ وأنه هل سمّى واستقبل بذبيحته القبلة أم لا؟ بل ولا يستحب، ولو قيل بالكراهة كان وجهاً؛ للنهي عنه في الخبر السابق الذي أقلّ مراتبه الكراهة. وفي الدروس اقتصر على نفي الاستحباب (4).

قوله: «كلّ ما يتعذّر ذبحه أو نحره من الحيوان» إلى آخره.

قد تقدّم البحث في ذلك(5). وكما يسقط اعتبار موضع الذبح أو النحر، يسقط الاستقبال به

ص: 298


1- الفقيه، ج 1، ص 257 - 258، ح 791، وفيه: سأل سليمان بن جعفر الجعفري العبد الصالح موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): تهذيب الأحكام، ج 2، ص 368، ح 1529.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 626، الرقم 6230، وفيه: على إشكال.
3- تهذيب الأحكام، ج 2، ص 368 - 369، ح 1532.
4- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 344 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
5- تقدّم في ص 248 - 249.
إذا قطعت رقبة الذبيحة وبقيت أعضاء الذباحة حيّة

الثالثة : • إذا قطعت رقبة الذبيحة وبقيت أعضاء الذباحة فإن كانت حياتها مستقرّةً ذبحت وحلّت بالذبح، وإلّا كانت ميتةً.

ومعنى المستقرة التي يمكن أن يعيش مثلها اليوم والأيّام. وكذا لو عقرها السبع.

ولو كانت الحياة غير مستقرة، وهي التي يقضى بموتها عاجلاً لم تحلّ بالذباحة؛ لأنّ حركتها كحركة المذبوح.

-------------------------------------------------------------------

مع تعدّره، ولو أمكن أحدهما وجب وسقط المتعذّر، وكما يجوز ذلك للخوف من فوته (1) يجوز للاضطرار إلى أكله والمراد بالضرورة هنا مطلق الحاجة إليه.

قوله: «إذا قطعت رقبة الذبيحة وبقيت أعضاء الذباحة» إلى آخره.

اعتبار استقرار حياة المذبوح قبل ذبحه في حلّه شيء ذكره الشيخ (2)، وتبعه عليه جماعة(3)، منهم المصنّف والعلّامة(4). ووجهه: أنّ ما لا يستقرّ حياته قد صار بمنزلة الميّت؛ ولأنّ استناد موته إلى الذبح ليس أولى من استناده إلى السبب الموجب لعدم استقرارها، بل السابق أولى، فصار كأنّ هلاكه بذلك السبب، فيكون ميتةً.

والموجود في النصوص الصحيحة وكلام القدماء(5) الاكتفاء بالحركة بعد الذبح في الحلّ وإن لم يكن فيه حياة مستقرّة. وفي ظاهر قوله تعالى: «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ»(6)، وجعله استثناء من النطيحة والمتردّية وما أكل السبع دلالة عليه.

ص: 299


1- في بعض النسخ: «موته» بدل «فوته».
2- الخلاف، ج 6، ص 54 المسألة 14.
3- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 108 - 109؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 381 - 382؛ والشهيد في اللمعة الدمشقيّة، ص 289 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 323.
5- منهم الصدوق في المقنع، ص 416؛ والمفيد في المقنعة، ص 580؛ وسلار في المراسم، ص 209.
6- المائدة (5): 3.

-------------------------------------------------------------------

ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسيرها: «إن أدركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد أدركت ذكاته فكله»، قال: «فإن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك أو جبل إن كنت أجدت الذبح فكل»(1).

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا تحرك الذنب أو الطرف أو الأذن فهو ذكيّ»(2).

وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبداللّه عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرّك الذنب فكل منه، فقد أدركت ذكاته»(3).

وفي رواية أبان بن تغلب عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا شككت في حياة شاة ورأيتها تطرف عينها أو يتحرّك ذنبها أو تمصع بذنبها فاذبحها، فإنّها لك»(4).

وإلى هذا مال الشهيد في الدروس، ونقل فيها عن الشيخ يحيى بن سعيد أن اعتبار استقرار الحياة ليس من المذهب قال ونعم ما قال(5).

واعلم أنّه على القول باعتبار استقرار الحياة وعدمه، فالمرجع فيه إلى قرائن الأحوال المفيدة للظنّ الغالب بأحدهما، فإن ظهر بها أحدهما عمل عليه، وإن اشتبه الحال رجع فيه إلى الحركة بعد الذبح أو خروج الدم المعتدل، على ما تقدم تقريره.

ص: 300


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 58، ح 241 بتفاوت يسير.
2- الكافي، ج 1، ص 233، باب إدراك الذكاة، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 56، ح 235.
3- الكافي، ج 6، ص 232، باب إدراك الذكاة، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 57، ح 237.
4- الكافي، ج 6، ص 232، باب إدراك الذكاة، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 57، ح 238.
5- الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 342 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10)؛ ولم نعثر للشيخ يحيى بن سعيد على كلام صريح يدل على ذلك. نعم، ما في الجامع للشرائع، ص 381 هكذا: وأدنى ما يلحق به الزكاة أن يجده يطرف عينه أو يتحرّك ذنبه أو يركض رجله... .
إذا نذر أضحيّة معيّنة زال ملكه عنها

الرابعة: • إذا نذر أضحيّة معيّنة زال ملكه عنها. ولو أتلفها كان عليه قيمتها.

ولو نذرها أضحيّة وهى سليمة فعابت نحرها على ما بها وأجزأته.

ولو ضلت أو عطبت أو ضاعت من غير تفريط لم يضمن

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا نذر أضحيّة معيّنة زال ملكه عنها» إلى آخره.

لما كانت الأضحيّة من الطاعات المتقرّب بها كان نذرها منعقداً؛ لوجود المقتضي له. ولازمه أنّه مع تعيينه إيَّاها في حيوان مخصوص يزول ملكه عنه؛ لتعينها للذبح والتفرّقة على الوجه المطلوب منها شرعاً المنافي لبقاء الملك. فلا ينفذ تصرفه فيها ببيع ولا هبة، ولا إبدالها بمثلها ولا بخير منها.

وقد روي أن رجلاً قال للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا رسول اللّه إني أوجبت على نفسي بدنةٌ وهي تطلب منّي بنوق. فقال: «انحرها ولا تبعها ولو طلبت بمائة بعير»(1). وعن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من عيّن أضحيّة فلا يستبدل بها»(2).

وذهب بعض إلى عدم زوال ملكه عنها حتّى يذبح ويتصدق باللحم، وله بيعها وإبدالها(3)، كما لو قال: «للّه عليّ أن أعتق هذا العبد» فإنّه لا يزول ملكه عنه إلّا بإعتاقه.

وقد أشرنا إلى الفرق بين الأمرين في هذا ونظائره فيما سلف، فإنّ نذر الأضحيّة يقتضي صيرورتها حقّاً لمن يستحقّ لحمها، كما لو نذر أن يكون ذلك الحيوان صدقة، بخلاف ما لو نذر أن يعتق أو أن يتصدّق، فإنّ المستحق عليه هو إيقاع العتق على ماله أو الصدقة به فالمنذور ليس هو المال بل الصيغة الواقعة عليه، فلا يخرج عن ملكه بدونها. وعلى هذا فلا يجوز له إتلافها بغير الذبح في وقته.

فإن تلفت بغير تفريط أو ضلّت أو عطبت لم يضمن. وإن تعيبت بعيب يمنع من ابتداء

ص: 301


1- تلخيص الحبير، ج 4، ص 144، ح 1975: الحاوي الكبير، ج 15، ص 102.
2- الخلاف، ج 6، ص 56. المسألة 16 بتفاوت يسير الحاوي الكبير، ج 15، ص 102؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 145، ذيل الحديث 1980.
3- المبسوط، السرخسي، ج 12، ص 17؛ الحاوي الكبير، ج 15، ص 101 - 102؛ روضة الطالبين، ج 2، ص 479.
لو نذر أضحيّة فذبحها يوم النحر غيره

الخامسة • لو نذر أضحيّة فذبحها يوم النحر غيره ولم ينو عن صاحبها لم تجز عنه. ولو نوى عنه أجزأته وإن لم يأمره.

-------------------------------------------------------------------

الأضحيّة بغير تفريط لم يلزمه لما حدث شيء، كما لا يلزمه لو تلفت، ولا تنفكّ هي بذلك عن حكم التضحية، بل يجزئه كذلك، خلافاً لبعض العامّة(1).

وقد روي عن أبي سعيد الخدري (رضي اللّه عنه) أنّه قال: اشتريت كبشاً لأُضحّي به فعدا الذئب فأخذ منه الألية، فسألت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن ذلك فقال: «ضحّ به»(2).

وإن كان لتفريط كان عليه قيمتها مع التلف يومه وأرشها مع العيب. وكذا لو كان المتلف أجنبياً.

وحيث تجب القيمة أو الأرش عليه أو على أجنبي يأخذها المضحّي ويشتري بها مثلها فصاعداً، حتّى لو وجد به أزيد من واحدة وجب. فإن لم يجد بها مثلها اشترى ما دونه. ويخالف ذلك ما إذا نذر إعتاق عبد بعينه فقتل، فإنه يأخذ قيمته ولا يشتري بها عبداً آخر ويعتقه؛ لأنّ ملكه هناك لم يزل عنه، ومستحق العتق قد هلك بالقتل، ومستحقوا الأضحيّة باقون.

وإن لم يجد بالقيمة أو الأرش ما يصلح للأُضحيّة، فإن أمكن أن يشتري به شقصاً من أضحيّة لزمه شراؤه والذبح مع الشريك، ولا يجزئ إخراج القيمة، كما لا يجزئ إخراجها عن الأصل بدلاً عن التضحيّة. فإن تعذّر ذلك اشترى به لحماً وفرّقه على وجهها؛ لأنّه أقرب إلى التضحية من تفرقة الدراهم. ولا يجزئ اللحم مع إمكان الشركة في الحي؛ لأنّ إراقة الدم من جملة الحقّ المطلوب للّه تعالى فيها. ولو تعذّر جميع ذلك تصدق بالعوض.

قوله: «لو نذر أضحيّة فذبحها يوم النحر غيره» إلى آخره.

ص: 302


1- في حاشية «و»: «هو مالك وأبو حنيفة. (منه رحمه اللّه)». راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 109 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 104، المسألة 7867؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 484.
2- مسند أحمد، ج 3، ص 418، ح 10881؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1051، ح 3146: السنن الكبرى، البيهقي، ج 9، ص 486، ح 19193 بتفاوت يسير.

-------------------------------------------------------------------

إذا نذر الأضحيّة المعيّنة تعينت للذبح والتفرقة على وجهها. فإن ضلّت فوجدها غيره وذبحها، أو ذبحها من غير ضلال، فإن نوى عن صاحبها أجزأت عنه؛ لما ذكرنا من تعينها فوقع الذبح موقعه فيأخذ صاحبها لحمها ويفرّقه. وإن لم ينوه عنه فقد أطلق المصنّف وغيره(1) أنّه لا يجزئ. وهو مبني على أنّ التعيين السابق لا يغني عن النيّة عند الذبح، فلا يقع موقعها. وعلى هذا فيلزم الذابح القيمة كما سلف.

وعلى تقدير وقوعها موقعها هل يجب على الذابح أرش ما نقص بالذبح؟

الأشهر العدم؛ لأنّه لم يفوت عليه شيئاً مقصوداً، بل خفّف عنه مؤونة.

وربما قيل بثبوته؛ لأنّ إراقة الدم من المالك مقصودة وقد فوّتها عليه.

و فصّل بعضهم فقال: إن ذبحها وفى الوقت سعة فعليه الأرش؛ لأنّه لم يتعين ذبحه حينئذٍ، وإن ضاق ولم يبق إلّا ما يسع الذبح فذبحها فلا أرش عليه، لتعين الوقت (2).

وعلى تقدير ثبوت الأرش ففيه أوجه:

أحدها: أنه للمضحّي؛ لأنّه ليس من عين الأضحيّة حتّى يستحقّه المساكين.

وثانيها: أنه للمساكين خاصّة؛ لأنّه بدل بعض الأضحيّة، وليس للمضحي من الأضحيّة إلّا الأكل.

والثالث: أن يسلك به مسلك الضحايا، وعلى هذا فيشتري به شاةً، فإن لم يتيسّر عاد ما سبق من شراء جزء (3) أو لحم أو تفرقة نفسه.

هذا كلّه إذا ذبحه الأجنبي واللحم باقي بحاله، فأما إذا أكله أو فرقه في مصارفه وتعذّر استرداده فهو كالإتلاف؛ لأنّ تعيين المصروف إليه إلى المضحي، فعليه الضمان، ويشتري المالك بعوضه، أضحيّة أخرى كما مرّ. ويحتمل وقوع التفرقة عن المالك كالذبح.

ص: 303


1- كالشيخ في الخلاف، ج 6، ص 60، المسألة :21؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 334.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 112 - 113؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 482 و 483.
3- في بعض النسخ: «شراء آخر» بدل «شراء جزء».

السادسة: • إذا نذر الأضحيّة وصارت واجبةً لم يسقط استحباب الأكل منها.

ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّاً

السابعة : • ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّاً، ولو وثب فأخذه قبل موته حلّ. ولو أدركه بنظره فيه خلاف. أشبهه أنّه لا يحلّ.

-------------------------------------------------------------------

وعلى تقدير الضمان ففي كيفيته أوجه:

أحدها: أن يضمن قيمة اللحم بناء على عدم ثبوت الأرش عليه بالذبح.

والثاني: أن يضمن أرش الذبح وقيمة اللحم.

والثالث: أن يضمن قيمتها عند الذبح كما في صورة الإتلاف

والرابع: أن يضمن الأكثر من قيمتها وقيمة اللحم؛ لأنّه فرّق اللحم متعدّياً بعد ما ذبح متعدّياً. وهذا يطرد في كلّ من ذبح حيوان غيره وأكل لحمه، إلّا أن الاحتمال الأوّل منفيّ؛ لأنّ الذبح غير مستحق.

قوله: «إذا نذر الأضحيّة وصارت واجبة لم يسقط استحباب الأكل منها».

نذر الأضحيّة يصيّر ما كان مندوباً واجباً. فإن قلنا باستحباب الأكل منها قبل النذر فهو باق؛ لأنّها بالنذر لم تخرج عن كونها أضحيّة، وإنّما خرجت عن حكم استحبابها إلى الوجوب، فتبقى أحكام الأضحيّة فيها. وإن قلنا باستحباب الصدقة بجميعها كما ذهب إليه الشيخ(1) - فجواز الأكل منها أيضاً باق؛ لأنّ جواز الأكل منها من أحكامها عنده وإن لم يكن على وجه الاستحباب.

وخالف في ذلك بعض العامّة فمنع من الأكل من المنذورة (2)، قياساً على إخراج الزكاة الواجبة والكفّارات والهدي الواجب عندهم، ولا يخفى ضعفه.

واعلم أنّ هذه المسائل الثلاث كان ذكرها في كتاب النذر أقعد، أو في كتاب الحجّ مع مسائل الأضحيّة، فإنّ أصلها مذكور ثمّ ؛ لئلا تتشتت مسائل الباب.

قوله: «ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّاً» إلى آخره.

ص: 304


1- المبسوط، ج 1، ص 529.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 119؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 489.

-------------------------------------------------------------------

مذهب الأصحّاب (1) أنّ السمك لا تحل ميتته قطعاً واتّفقوا على عدم حلّ ما مات في الماء، واختلفوا فيما يحصل به ذكاته، فالمشهور بينهم أنّها إخراجه من الماء حيّاً، سواء كان المخرج مسلماً أم كافراً واستدلوا عليه بظاهر قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ»(2). والصيد إنّما يصدق بالأخذ للحيّ.

ولحسنة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّما صيد الحيتان أخذه»(3)، و«إنّما» للحصر، فالمعتبر إصابتها باليد أو الآلة وإخراجها بأخذها من الماء حيّةً وموتها خارجه.

وصحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عمّا يوجد من السمك طافياً على الماء أو يلقيه البحر ميتاً. فقال: «لا تأكله»(4).

وقيل: المعتبر خروجه من الماء حياً، سواء أخرجه مخرج أم لا.

واختاره المصنّف (رحمه اللّه) في نكت النهاية(5)، لرواية سلمة بن أبي حفص عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ عليّا (عَلَيهِ السَّلَامُ)ً كان يقول: «إذا أدركتها وهي تضطرب وتضرب بذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها»(6).

ورواية زرارة قال، قلت: السمكة تثب من الماء فتقع على الشط فتضطرب حتّى تموت، فقال: «كُلها»(7).

ص: 305


1- في حاشية «و، خ»: «مذهب العامّة أنّه يحلّ مطلقاً: عملاً بإطلاق قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : الحل ميتته. (منه رحمه اللّه)». الحاوي الكبير، ج 15، ص 59 و 64: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 41، المسألة 7755، وص 85 المسألة 7828؛ روضة الطالبين، ج 2، ص 508 و 542.
2- المائدة (5): 96.
3- الكافي، ج 6، ص 217، باب صيد السمك، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 10، ح 34: الاستبصار، ج 4، ص 63، ح 223.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 6، ح 18؛ الاستبصار، ج 4، ص 60، ح 209.
5- نكت النهاية، ج 3، ص 80.
6- الكافي، ج 1، ص 217، باب صيد السمك، ح 7 بتفاوت: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 7 - 8، ح 24.
7- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 7، ح 22؛ الاستبصار، ج 4، ص 61، ح 212 بتفاوتٍ.

• ولو أخرجه مجوسي أو مشرك فمات في يده حلّ. ولا يحل أكل ما يوجد في يده حتّى يعلم أنه مات بعد إخراجه من الماء.

-------------------------------------------------------------------

ولأنّ صيد المجوس مع مشاهدة المسلم له قد أخرج حيّاً ومات خارج الماء موجب لحلّه، وصيد المجوسي لا عبرة به، فيكون العبرة بنظر المسلم له كذلك.

وقد دلّ عليه صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن صيد الحيتان وإن لم يسمّ. فقال: «لا بأس» وسألته عن صيد المجوس للسمك أكله، فقال: «ما كنت آكله حتّى أنظر إليه»(1).

وجوابه ضعف الروايتين. ولا يلزم من حلّ صيد الكافر له مع مشاهدة المسلم له حلّ ما لا يدخل تحت اليد مطلقاً، وإنّما مقتضى ذلك اشتراط دخوله تحت يد الآدمي، سواء كان مسلماً أم كافراً.

ويدلّ عليه أيضاً صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجدّ فماتت أيصلح أكلها؟ فقال: «إن أخذتها قبل أن تموت ثمّ ماتت فكلها، وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها»(2).

قوله: «ولو أخرجه مجوسي أو مشرك فمات في يده حلّ» إلى آخره.

هذا هو المشهور بين الأصحّاب، وعليه العمل. وقد تقدّم من الأخبار الصحيحة ما يدلّ عليه.

وظاهر المفيد تحريم ما أخرجه الكافر مطلقاً(3). وقال ابن زهرة: الاحتياط تحريم ما أخرجه الكافر(4). وقضية كلام الشيخ في الاستبصار الحلّ إذا أخذه منه المسلم حيّاً(5)؛ لرواية

ص: 306


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 9، ح 31؛ الاستبصار، ج 4، ص 62، ح 219 بتفاوت.
2- الكافي، ج 6، ص 218، باب صيد السمك، ح 11 بتفاوت يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 7، ح 23؛ الاستبصار، ج 4، ص 61، ح 213.
3- المقنعة، ص 577.
4- غنية النزوع، ج 1، ص 397.
5- الاستبصار، ج 4. ص 64، ذيل الحديث 228.

• ولو أخذ وأُعيد في الماء فمات لم يحل وإن كان ناشباً في الآلة؛ لأنّه مات فيما فيه حياته.

• وهل يحل أكل السمك حيّاً؟ قيل: لا. والوجه الجواز؛ لأنّه مذكّى.

-------------------------------------------------------------------

عيسى بن عبداللّه عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صيد المجوس: «لا بأس إذا أعطوكه حيّاً، والسمك أيضاً، وإلّا فلا تجز شهادتهم إلّا أن تشهده»(1).

والمذهب هو الأوّل، والرواية محمولة على اعتبار مشاهدة المسلم قد أخرجوه حيّاً ومات خارجاً، كما يدلّ عليه آخر الرواية وصريح غيرها من الأخبار الكثيرة، كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مجوسي يصيد السمك أ يؤكل منه؟ فقال: «ما كنت لأكله حتّى أنظر إليه»(2)، يعني تراه يخرج من الماء حيّاً، وفي حسنة الحلبي: «لا بأس إليه، بصيدهم - يعني المجوس - إنّما صيد الحيتان أخذه»(3).

قوله: «ولو أخذ وأُعيد في الماء فمات لم يحلّ» إلى آخره.

هذا التعليل موجود في الأخبار، ففي رواية عبد الرحمن بن سيابة قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن السمك يصاد، ثمّ يجعل في شيء، ثمّ يعاد في الماء فيموت فيه، فقال: «لا تأكله لأنّه مات في الذي فيه حياته»(4).

قوله: «وهل يحل أكل السمك حياً؟ قيل : لا. والوجه الجواز؛ لأنّه مذكّى».

القول بتحريم أكله حيّاً للشيخ فى المبسوط ؛ استناداً إلى أن ذكاته إخراجه من الماء حياً

ص: 307


1- الكافي، ج 6، ص 217، باب صيد السمك، ح 8 بتفاوت يسير؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 10، ح 33؛ الاستبصار، ج 4، ص 64، ح 229.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 9، ح 32؛ الاستبصار، ج 4، ص 62، ح 220.
3- الكافي، ج 1، ص 217، باب صيد السمك، ح 9 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 10، ح 34؛ الاستبصار، ج 4، ص 63. ح 223.
4- الكافي، ج 1، ص 216 - 217، باب صيد السمك، ح 3: الفقيه، ج 3، ص 323، ح 4157؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 11. ح 40.

• ولو نصب شبكة فمات بعض ما حصل فيها واشتبه الحي بالميت قيل: حلّ الجميع حتّى يعلم الميت بعينه، وقيل: يحرم الجميع تغليباً للحرمة، والأوّل حسن

-------------------------------------------------------------------

وموته خارجه(1)، فقبل موته لم تحصل الذكاة؛ ولهذا لو عاد إلى الماء ومات فيه حرم، ولو كان قد تمّت ذكاته لما حرم بعدها.

وذهب المصنّف والأكثر إلى الحلّ: لما تقدّم من أنّ صيده أخذه(2)، فيدخل في عموم: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ»(3). ويمنع من كون ذكاته تحصل بالأمرين معاً، بل بالأوّل خاصّة بشرط عدم عوده إلى الماء وموته فيه وهو حاصل، ولعموم صحيحة سليمان بن خالد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: الحيتان والجراد ذكيّ»(4).

قوله: «ولو نصب شبكة فمات بعض ما حصل فيها» إلى آخره.

القول بالحلّ مع الاشتباه للشيخ في النهاية (5) والقاضي(6)، واستحسنه المصنّف (رحمه اللّه) الدلالة الأخبار الصحيحة عليه، كصحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل نصب شبكة في الماء، ثمّ رجع إلى بيته وتركها فرجع فوجد فيها سمكاً ميّتاً، فقال: «ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيها»(7).

وصحيحة الحلبي قال: سألته عن الحظيرة من القصب تجعل في الماء للحيتان فيدخل فيها الحيتان فيموت بعضها فيها، فقال: «لا بأس به؛ إنّ تلك الحظيرة إنّما جعلت ليصطاد بها»(8).

ص: 308


1- المبسوط، ج 4، ص 672.
2- تقدّم في ص 304 - 305.
3- المائدة (5): 96.
4- الكافي، ج 1، ص 217، باب صيد السمك، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 10، ح 37.
5- النهاية، ص 578.
6- المهذّب، ج 2، ص 438.
7- الكافي، ج 1، ص 217 - 218، باب صيد السمك، ح 10؛ الفقيه، ج 3، ص 323 - 324، ح 4159؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 11 - 12، ح 42: الاستبصار، ج 4، ص 61. ح 215 بتفاوتٍ.
8- الكافي، ج 6، ص 217، باب صيد السمك، ح 9 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 12، ح 43: الاستبصار، ج 4، ص 61 - 62، ح 216 بتفاوت.
ذكاة الجراد أخذه

الثامنة: • ذكاة الجراد أخذه، ولا يشترط في آخذه الإسلام. ولو مات قبل أخذه لم يحلّ. وكذا لو وقع في أجمة نار فأحرقتها وفيها جراد لم يحلّ وإن قصده المحرق.

-------------------------------------------------------------------

ومقتضى هذين الخبرين حلّ الميت وإن تميّز، وأن المعتبر في حله قصد الاصطياد وإليه ذهب الحسن بن أبي عقيل(1).

وذهب ابن إدريس(2) والعلّامة (3) وأكثر المتأخّرين إلى تحريم الجميع؛ لأنّ ما مات في الماء حرام كما تقدّم(4)، والمجموع محصور، وقد اشتبه الحلال بالحرام، فيكون الجميع حراماً. ولو لم يشتبه فأولى بتحريم الميّت.

ويؤيّده رواية عبد المؤمن الأنصاري قال: أمرت رجلاً يسأل لي أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل صاد سمكاً وهنّ أحياء ثمّ أخرجهنّ بعد ما مات بعضهن، فقال: «ما مات فلا تأكله، فإنّه مات فيما فيه حياته»(5).

وأجابوا عن الخبرين بعدم دلالتهما على موته في الماء صريحاً، فلعله مات خارج الماء، أو على الشك في موته في الماء، فإنّ الأصل بقاء الحياة إلى أن فارقته، والأصل الإباحة (6).

قوله: «ذكاة الجراد أخذه، ولا يشترط في آخذه الإسلام» إلى آخره.

الكلام في الجراد كالكلام في السمك في اعتبار أخذه في تذكيته، وإن لم يكن الآخذ مسلماً إذا شاهده المسلم قد أخذه حيّاً، وفي عدم الاكتفاء بمشاهدته موته قبل أخذه، سواء مات كذلك بالإحراق أم من قبل نفسه، وسواء قصد قتله كذلك وعدمه، وفي أكله حياً وبما فيه. وقول ابن زهرة هنا كقوله في السمك(7).

ص: 309


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 285، المسألة 6.
2- السرائر، ج 3، ص 90.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 285، المسألة 6.
4- تقدّم في ص 304 - 305.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 12، ح 44: الاستبصار، ج 4، ص 62، ح 217، وفيه: عن عبد الرحمن.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 286، المسألة 6: غاية المراد، ج 3، ص 367 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
7- غنية النزوع، ج 1، ص 397.

• ولا يحل الدبى حتّى يستقلّ بالطيران. فلو أخذ قبل استقلاله لم يؤكل.

ذكاة الجنين ذكاة أُمّه

التاسعة: • ذكاة الجنين ذكاة أُمّه إن تمت خلقته. وقيل: ولم تلجه الروح. ولو ولجته لم يكن بد من تذكيته وفيه إشكال ولو لم يتم خلقته لم يحل أصلاً.

ومع الشرطين يحلّ بذكاة أمه. وقيل: لو خرج حيّاً ولم يتّسع الزمان لتذكيته، حل أكله، والأوّل أشبه.

-------------------------------------------------------------------

وأحكامه موجودة كذلك في أخبار، منها صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الجراد نصيبه ميتاً في الماء أو في الصحراء أيؤكل؟ قال: «لا تأكله»(1).

وسأل عمّار بن موسى أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الجراد إذا كان في قراح فيحترق ذلك القراح فيحرق الجراد وينضج بتلك النار هل يؤكل؟ قال: «لا»(2).

قوله: «ولا يحلّ الدبى حتّى يستقلّ بالطيران. فلو أخذ قبل استقلاله لم يؤكل».

الدبى - بفتح الدال مقصوراً - ما لا يستقل بالطيران من الجراد(3)، وبعد استقلاله به لا يطلق عليه اسم الدبى وإن أوهمته العبارة، فلو أطلق تحريمه من غير بيان الغاية صحّ.

وقد دلّ على تحريمه صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الدبي من الجراد أيؤكل؟ قال: «لا حتّى يستقلّ بالطيران»(4).

قوله: «ذكاة الجنين ذكاة أُمه إن تمت خلقته» إلى آخره.

هذا لفظ الحديث النبويّ(5) والإمامي(6). والمشهور فيه رفع «ذكاة» فيهما، بجعل الأوّل

ص: 310


1- الكافي، ج 1، ص 222، باب الجراد، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 62، ح 264.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 62 - 63، ح 265.
3- الصحاح، ج 4، ص 2333؛ لسان العرب، ج 14، ص 248، «دبي».
4- الكافي، ج 1، ص 222، باب الجراد، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 62. ح 264.
5- مسند أحمد، ج 3، ص 429، ح 10950؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 84، باب في ذكاة الجنين ذكاة أُمه؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 103 - 104، ح 2828؛ الجامع الصحيح، ج 4، ص 72، ح 1476. وفي المصادر: «ذكاة الجنين ذكاة أُمه».
6- الكافي، ج 1، ص 234 - 235، باب الأجنّة التي تخرج من بطون الذبائح، ح 1 و 4: الفقيه، ج 3، ص 328، ح 4177 و 4178؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 58، ح 243 و 244. وفي المصادر: «ذكاته ذكاة أمّه».

-------------------------------------------------------------------

مبتدأ والثاني خبراً. والتقدير: ذكاة الجنين منحصرة في ذكاة أُمّه، فلا يفتقر إلى تذكية تخصه، بناءً على أن المبتدأ منحصر في خبره. ولا يقدح في ذلك اختلاف الذكاتين كيفية، من حيث إنّ ذكاة الأُمّ فري الأعضاء المخصوصة وذكاة الجنين حاصلة بمجرد ذكاة الأُمّ وتابعة لها فلا يكون نفسها؛ لأنّ المراد من الذكاة مطلقاً ما به يحصل حل المذكى. والمراد أن حلّ الجنين يحصل بحلّ الأُمّ وينحصر فيه.

وروي بنصب «ذكاة» الثانية على نزع الخافض. والتقدير: في ذكاة أُمه، أي ذكاته داخلة في ذكاتها، فحذف حرف الجرّ وانتصب على المفعوليّة.

وعلى التقديرين: يراد منه الاكتفاء في حله بذكاة أُمّه بشرط أن تتم خلقته، ومن تمامها الشعر والوبر.

ولا فرق بين أن تلجه الروح وعدمه على الأصحّ؛ لإطلاق النصوص، كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد سئل أنّا نذبح الناقة والبقرة والشاة وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: «كلوه إن شئتم فإنّ ذكاة الجنين ذكاة أمّه»(1).

وروى محمّد بن مسلم - في الصحيح - قال: سألت أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) عن قول اللّه عزّ وجلّ: «أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ»، فقال: «الجنين في بطن أُمّه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أُمّه. فذلك الذي عنى اللّه تعالى»(2).

وروى الحلبي - في الصحيح - قال، قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا ذبحت الذبيحة فوجدت في بطنها ولداً تاماً فكل وإن لم يكن تاّماً فلا تأكل»(3).

وفي الصحيح عن ابن سنان - وهو عبداللّه - عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله(4).

ص: 311


1- مسند أحمد، ج 3، ص 416، ح 10867؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 103، ح 2827 بتفاوت.
2- الكافي، ج 1، ص 234، باب الأجنّة التي تخرج من بطون الذبائح، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 328، ح 4178: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 58، ح 244: والآية في سورة المائدة (5): 1.
3- الكافي، ج 6، ص 234، باب الأجنّة التي تخرج من بطون الذبائح، 2: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 58، ح 242.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 58، ح 243.

-------------------------------------------------------------------

وشرط جماعة منهم الشيخ(1) وأتباعه (2) وابن إدريس (3) مع تمامه أن لا تلجه الروح، وإلّا لم يحلّ بذكاة أُمّه. وإطلاق الأخبار حجّة عليهم. ولا دليل لهم على ذلك إلّا اشتراط تذكية الحيّ مطلقاً. وكلّيته ممنوعة.

نعم لو خرج من بطنها مستقر الحياة اعتبر تذكيته. ولو لم يسع الزمان لتذكيته فهو في حكم غير مستقرّ الحياة على الأقوى؛ عملاً بالعموم. ولا تجب المبادرة إلى شق الجوف زيادة على المعتاد على الأقوى. ويتّجه على القول باشتراط عدم حياته في حلّه اشتراط المبادرة. وعلى تقديره لو لم يبادر فوجده ميتاً حلّ؛ لأصالة عدم ولوج الروح، وإن كان الفرض بعيداً.

ص: 312


1- النهاية، ص 584 – 585.
2- منهم القاضي في المهذّب، ج 2، ص 440 - 441؛ وسلّار في المراسم، ص 210؛ وابن حمزة في الوس ص 361.
3- السرائر، ج 3، ص 110.

خاتمة كتاب الصيد والذباحة

إشارة:

خاتمة تشتمل على أقسام

الأوّل في مسائل من أحكام الذباحة

وهي ثلاث:

الأوّل في مسائل من أحكام الذباحة
وجوب متابعة الذبح حتّى يستوفي الأعضاء الأربعة

الأولى: • يجب متابعة الذبح حتّى يستوفي الأعضاء الأربعة. فلو قطع بعض الأعضاء وأرسله فانتهى إلى حركة المذبوح، ثمّ استأنف قطع الباقي حرم؛ لأنّه لم تبق فيه حياة مستقرّة.

ويمكن أن يقال: يحلّ؛ لأنّ إزهاق روحه بالذبح لا غير. وهو أولى.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «يجب متابعة الذبح حتّى يستوفي الأعضاء الأربعة» إلى آخره.

إذا قطع بعض أعضاء الذبيحة بشروطه ثمّ تراخى عنه، ثمّ قطع الباقى بشروطه أيضاً، فإما أن يكون القطع الثاني واقعاً مع استقرار الحياة أو لا. فإن كان الأوّل فلا ريب في الحلّ، وكان الاستناد فيه إلى الثاني، وإن لم يصادف قطع الأربعة التي هي شرط الحل؛ لأنّ اشتراط قطعها في الحلّ إنّما هو على تقدير وجودها، وإلّا فلو فرض انقطاع بعضها لعارض قبل الذبح وبقاء الحيوان مستقر الحياة كما يتّفق ذلك في غير الحلقوم والمريء لم يعتبر في حلّه غير قطع الموجود قطعاً، وإلّا لزم أن يكون حيواناً محلّلاً مستقر الحياة لا يقبل التذكية، وهو باطل اتّفاقاً.

وإن كان الثاني ففي حلّه وجهان:

أحدهما - وهو الذي رجّحه المصنّف (رحمه اللّه) فيه - الحلّ؛ لوجود المقتضي له، وهو إزهاقه بالذبح المستند إلى قطع الأعضاء الأربعة، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّا عدم المتابعة ولم يرد من الشارع ما يدلّ على اشتراطه في الحلّ.

ص: 313

الثانية: • لو أخذ الذابح في الذبح فانتزع آخر حشوته معاً كان ميتةً. وكذا كلّ فعل لا تستقرّ معه الحياة.

الثالثة: • إذا تيقّن بقاء الحياة بعد الذبح فهو حلال. وإن تيقن الموت قبله فهو حرام وإن اشتبه الحال ولم يعلم حركة المذبوح ولا خروج الدم المعتدل فالوجه تغليب الحرمة.

-------------------------------------------------------------------

والثاني: التحريم؛ لأنّه بالقطع الأوّل صيّره في حكم الميتة، وهو غير كافٍ في الحل؛ لعدم استيفاء الأعضاء المعتبرة فيه، والثاني أيضاً غير كافٍ؛ لأنّه قطع بعد أن أبقاء الأوّل بحكم الميّت.

وجوابه أنّ هنا قسماً ثالثاً، وهو استناد الإباحة إلى القطعين، وهما مستقلان بالمطلوب؛ ولأنّ هذا الترديد لو أثر لقدح مع(1) تتالي الذبح بحيث قطع بعض الأعضاء بعد بعض على التوالي، فيأتي بعد قطع الأوّل قبل قطع الثاني ما ذكر. فالقول بالحلّ متّجه.

وهذا كلّه مبني على اشتراط استقرار الحياة في المذبوح. أما لو اكتفينا بعده بالحركة أو خروج الدم سقط هذا البحث، واعتبر في الحلّ أحدهما أو كلاهما.

قوله: «لو أخذ الذابح في الذبح فانتزع آخر حشوته معاً كان ميتةً» إلى آخره.

وذلك لأنّ استناد الموت إلى الذبح ليس أولى من استناده إلى السبب الآخر الذي لا يستقر معه الحياة؛ لأنّ الفرض حصولهما معاً، وأحد السببين محلّل والآخر محرّم فيستصحّب التحريم. هذا إذا اعتبرنا استقرار الحياة، وإلّا كفى في حله الحركة بعد الذبح أو ما يقوم مقامها، وإن تعدد سبب الإزهاق.

قوله: «إذا تيقن بقاء الحياة بعد الذبح فهو حلال» إلى آخره.

لا إشكال في اشتراط حياة المذبوح حالة الذبح، سواء اعتبرنا استقرارها أم اكتفينا بها في الجملة. وكذا يعتبر تأخرها بعده ولو قليلاً بحيث يتحرّك بعده. فإن علم وجود الشرط أو

ص: 314


1- في بعض النسخ: «في» بدل «مع».
الثاني: فيما تقع عليه الذكاة
إشارة:

• وهي تقع على كلّ حيوان مأكول، بمعنى أنه يكون طاهراً بعد الذبح.

ولا تقع على حيوان نجس العين كالكلب والخنزير، بمعنى أنه يكون باقياً على نجاسته بعد الذبح.

وما خرج عن القسمين فهو أربعة أقسام:

-------------------------------------------------------------------

عدمه فلا إشكال في الحكم. وإن اشتبه الحال بأن كان هناك مانع من العلم بالحركة كظلمة ونحوها، ففي الحكم بحله استصحّاباً لبقاء الحياة، أو بحرمته استصحّاباً للتحريم، فإنه كان ثابتاً حال الحياة، وجهان منشؤهما تعارض الأصلين.

ورجّح المصنّف (رحمه اللّه) جانب التحريم؛ لأنّه الغالب حيث يتعارضان. وهو أجود؛ لدلالة النصوص الصحيحة على أن إدراك الذكاة تحصل بحركة المذبوح بعده(1)، والشكّ في الشرط يوجب الشك في المشروط.

ومثل هذا يأتي في الحكم باستقرار الحياة قبل الذبح حيث نعتبرها، فإنّه مع العلم ببقائها يحكم بالحلّ وبعدمها بعدمه، ومع الشك يتعارض أصالة بقائها وبقاء التحريم، والأقوى حينئذٍ اعتبار الحركة بعد الذبح. وقد أشرنا إليه سابقاً (2).

قوله: «وهي تقع على كلّ حيوان مأكول» إلى آخره.

التذكية تقع على الحيوان المأكول وغيره (3)، وقد فسّرها المصنّف بكون الحيوان يصير بها طاهراً بعد الذبح وحلّ أكله مستفاد من محلّ آخر. وهذا التفسير لا يأتي على جميع أنواع التذكية؛ لأنّها غير مختصّة بالذبح، بل قد يكون به وقد يكون بالسهم والكلب وما في

ص: 315


1- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 22 - 245، الباب 11 و 12 من أبواب الذبائح.
2- سبق في ص 299 - 300.
3- في حاشية «و»: «عند الشافعية التذكية لا تقع إلّا على المأكول، وما عداه ذبحه كموته. لكنّهم وسعوا دائرة المأكول. (منه قدس سره)». راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 508.
ما لا تقع عليها الذكاة كالمسوخ والحشرات والآدمي

الأوّل: • المسوخ، ولا تقع عليها الذكاة، كالفيل والدب والقرد. وقال المرتضى: تقع.

-------------------------------------------------------------------

معناهما، وقد يكون بإخراج السمك من الماء وبقبض الجراد وبذبح الحامل بالنسبة إلى ذكاة الجنين. وفي هذه المذكّيات ما هو طاهر، سواء ذكي بما ذكر أم لا، كالجراد والسمك، ومنها ما لا تطهر ميتته إلّا بالذكاة، وهو ما يتوقّف على الذبح وما في معناه من الإزهاق بالسهم ونحوه. فما كان طاهراً على تقدير الذكاة وعدمها ففائدة ذكاته حلّ أكله وما لا يطهر بدونها ففائدتها مع كونه مأكولاً طهارته وحلّ أكله، وما لا يحلّ أكله ففائدة ذكاته طهارته خاصّة.

وكان على المصنّف أن يستوفى هذه الأقسام، دون أن يقتصر على بعض أفرادها - وهو الذبح - مع إطلاقه أوّلاً وقوع الذكاة على كلّ مأكول ثمّ تفسيره بهذا المعنى الخاصّ.

واعلم أن الحيوان منه ما تقع عليه الذكاة إجماعاً، وهو ما يؤكل لحمه، ومنه ما لا تقع عليه إجماعاً، وهو الآدمي مطلقاً ونجس العين كالكلب والخنزير، بمعنى أن الآدمي لا يطهر ميته بالذبح وإن جاز ذبحه كالكافر، ونجس العين لا يطهر بالذكاة بل يبقى على نجاسته، ومنه ما في وقوعها عليه خلاف، وهو ما عدا ذلك. وسيأتي تفصيله.

قوله: «المسوخ ولا تقع عليها الذكاة» إلى آخره.

قد تقدّم في الطهارة الخلاف في نجاسة المسوخ(1)، فمن قال بنجاستها كالشيخين (2) وسلّار (3) قال بعدم وقوع الذكاة عليها كما لا يقع على الكلب والخنزير، وهو قول ضعيف.

ومن قال بطهارتها كأكثر الأصحّاب اختلفوا فذهب المرتضى(4)، وجماعة(5) إلى وقوعها عليها للأصل، ولأن المقتضي لوقوعها على المأكول مقتض لوقوعها على هذه، فإنّه في

ص: 316


1- تقدّم في ج 1، ص 23 و 126.
2- الشيخ المفيد في المقنعة، ص 578؛ والشيخ الطوسي في الخلاف، ج 1، ص 73، المسألة 2؛ والمبسوط، ج 2، ص 109.
3- المراسم، ص 55.
4- لم نعثر على قول المرتضى، وحكاه عنه فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 130.
5- منهم فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 130 - 131؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 338 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

الثاني: • الحشرات، كالفأر وابن عرس والضبّ. وفي وقوع الذكاة عليها تردّد، أشبهه أنّه لا يقع.

-------------------------------------------------------------------

المأكول لفائدة الانتفاع بلحمه وجلده وهذه ينتفع بجلدها، ولما سيأتي من ورود روايات بحلّ الأرنب والقنفذ والوطواط(1)، وهي مسوخ على ما دلّت عليه الرواية (2)، وليس ذلك في لحمها عندنا فيكون في جلدها.

ولا يخفى عليك ضعف هذه الأدلّة، ومن ثمّ ذهب المصنّف إلى عدم وقوع الذكاة عليها؛ لأنّ الذكاة حكم شرعى يترتّب عليه طهارة ما حكم بكونه ميتة، وهذا أمر يتوقّف على دليل صالح مخرج عن حكم الأدلة الدالة على نجاسة الميتة وأجزائها التي تحلّها الحياة والجلد منها. وهو مفقود؛ لظهور فساد الأصل هنا، ومنع مشاركتها للمأكول في المقتضي، وتلك الروايات إنّما دلّت على حلّها وأنتم لا تقولون به.

وحينئذٍ فالقول بعدم وقوع الذكاة عليها أظهر. وجملة المسوخ وردت في روايات أجمعها رواية محمّد بن الحسن الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الفيل مسخ كان ملكاً زنّاء، والذئب مسخ كان أعرابيّاً ديوثاً. والأرنب مسخ كانت امرأةٌ تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل حيث نزلت المائدة على عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يؤمنوا فتاهوا، فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البرّ، والفأرة هي الفويسقة، والعقرب كان نمّاماً، والدبّ والوزغ والزنبور كان لحاماً يسرق في الميزان» (3).

قالوا: وهذه المسوخ كلّها هلكت وهذه الحيوانات على صورها.

قوله «الحشرات كالفأر وابن عرس والضبّ» إلى آخره.

البحث في الحشرات كالبحث في المسوخ فإنّه لا دليل صالحاً لوقوعها عليها. والأصل

ص: 317


1- يأتي في ص 368.
2- الكافي، ج 6، ص 246، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح :14 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 39 - 0 4، ح 166 : علل الشرائع، ج 2، ص 200 الباب 239، علل المسوخ وأصنافها.
3- الكافي، ج 6، ص 246. باب جامع في الدواب...، 14: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 39 - 40، ح 166.

الثالث: • الآدمي لا تقع عليه الذكاة؛ لحرمته، ويكون ميتةً ولو ذكي.

وقوع الذكاة على السباع

الرابع • السباع كالأسد والنمر والفهد والثعلب، ففي وقوع الذكاة عليها تردد. والوقوع أشبه.

-------------------------------------------------------------------

المدّعى ثُمّ، وصلاحية جلدها للانتفاع قائم هنا وأضعف وبعضها كالفأرة والضبّ - يدخل في المسوخ وعدم وقوعها عليها أظهر بتقريب ما سبق. والمراد بالحشرات ما يسكن باطن الأرض من الدوابّ، واحدها حشرة بالتحريك(1).

قوله: «الآدمي لا تقع عليه الذكاة؛ لحرمته، ويكون ميتةً ولو ذكّي».

لا فرق في الآدمي بين من يحلّ ذبحه وعدمه، ولا بين المسلم والكافر، والحكم فيه موضع وفاق. وما تقدّم من التعليل بأنّ الذكاة حكم شرعي يتوقّف على ثبوته من قبل الشارع آتٍ هنا وهو أولى من التعليل بحرمة الآدمي، فإن الحكم بطهارة ميتته (2) بالذبح لا ينافي الحرمة إن لم يكن مناسباً لها.

قوله: «السباع كالأسد والنمر والفهد والثعلب ففي وقوع الذكاة عليها تردّد. والوقوع أشبه».

المشهور بين الأصحّاب وقوع الذكاة على السباع، بمعنى إفادتها جواز الانتفاع بجلدها، لطهارته. ذهب إلى ذلك الشيخ (3) وأتباعه(4)، وابن إدريس(5)، وجملة المتأخّرين(6).

والمستند رواية سماعة قال: سألته عن تحريم السباع وجلودها، فقال: «أمّا اللحوم

ص: 318


1- انظر الصحاح، ج 2، ص 630؛ ولسان العرب، ج 4، ص 191، «حشر».
2- في بعض النسخ: «ميته» بدل «ميتته».
3- النهاية، ص 586 - 587.
4- منهم ابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 442: وابن حمزة في الوسيلة، ص 362.
5- السرائر، ج 3، ص 114.
6- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 319 - 320؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 131 - 132؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 337 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
طهارة جلود السباع وما يقع عليه الذكاة بمجرّد الذكاة

• وتظهر بمجرد الذكاة. وقيل: لا تستعمل مع الذكاة حتّى تدبغ.

-------------------------------------------------------------------

فدعها، وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تصلوا فيها»(1). وقوله أيضاً: سألته عن جلود السباع ينتفع بها، فقال: «إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده»(2). وللأصل، ومشاركتها للمأكول في المقتضي كما تقدّم.

ولا يخفى عليك ضعف هذه الأدلّة، فإنّ الروايتين - مع كون راويهما سماعة - موقوفتان، وكون الظاهر أنّ المسؤول عنه الإمام غير كافٍ في جواز العمل بمقتضاهما. نعم، قال الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح : إنّه لا نعلم القائل بعدم وقوع الذكاة عليها(3). فإن تم الإجماع على ذلك على وجه يفيد الحجيّة كان الاستدلال به أولى، وإلّا فإثبات طهارة الميتة بمثل هذه الأدلة بعيد.

وأمّا الاستدلال بأنّ الأصحّاب مفتون بجواز استعمال جلود السباع، بل جلود ما عدا الكلب والخنزير بعد الذكاة - فلولا وقوعها عليها لما صح ذلك، كما احتجّ به الشهيد في الشرح فاستدلال بموضع النزاع عليه، فإن كان ذلك من مجرّد الفتوى فلا يخفى ما فيه، وإن كان من ظهور الإجماع عليه فمثله آتٍ في جلود المسوخ والحشرات، ولا يقولون به. وعلى تقدير الفرق بظهور المخالف فيهما دونه يظهر أن مجرّد الفتوى لا يكفي في الحكم؛ لوجودها في الجميع على مدعاكم. وأيضاً فالإجماع إنّما يكون حجة مع العلم بدخول قول الإمام في جملة القائلين، وهو مفقود قطعاً في هذا ونظائره، كما أسلفناه غير مرّة(4).

قوله: «وتطهر بمجرّد الذكاة. وقيل: لا تستعمل مع الذكاة حتّى تدبغ». إذا قلنا بوقوع الذكاة على السباع أو غيرها من غير المأكول فالأقوى أنّ طهارة جلدها لا تتوقف على الدباغ؛ لأنّ الحيوان طاهر في الأصل، والذكاة أخرجته عن الميتة فلم يفتقر

ص: 319


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 79، ح 338 بتفاوت.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 79، ح 339 بتفاوت يسير.
3- غاية المراد، ج 3، ص 357 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
4- سبق في ج 5، ص 443 - 444.

-------------------------------------------------------------------

إلى الدبغ ولأنّه إما أن يطهر بالتذكية أو لا، فإن لم يطهر حرم استعماله مطلقاً؛ لأنّ الدباغ لا يطهر عند الأصحّاب، وإن طهر لم يتوقّف على الدباغ. ورواية سماعة السابقة (1) الدالة على جواز استعمال جلودها عامّة للمدبوغ منها وغيره، ولأنّ من صورة النزاع السنجاب والصلاة جائزة فيه بدون الدباغ لرواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلّله بأنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) دابّة لا تأكل اللحم(2).

وقال الشيخان (3) والمرتضى(4)، والقاضي(5)، وابن إدريس بافتقاره(6) إلى الدبغ.

واحتجّ الشيخ عليه بالإجماع على الجواز بعد الدبغ وبعدم الدليل عليه قبله(7)، وبرواية أبي مخلّد السراج قال: كنت عند أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ دخل معتّب فقال: بالباب رجلان، فقال: «أدخلهما» فقال أحدهما: إنّي سرّاج أبيع جلود النمر. فقال: «أمدبوغة هي؟» قال: نعم (قال: «لیس به بأس»)(8).

وجوابه: أنّ الدليل عليه قبله ما استدللت به على وقوع الذكاة عليها، فإنّها مفيدة للطهارة، والأصل عدم اعتبار أمر آخر معها. والخبر - مع ضعف سنده - لا دلالة فيه على

ص: 320


1- سبق تخريج روايته في ص 318 - 319، الهامش 1.
2- الكافي، ج 3، ص 397 - 398، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 2، ص 203 - 204، ح 797.
3- لم نعثر على قول الشيخ المفيد في مقنعته، ونسبه إليه الشهيد في غاية المراد، ج 3، ص 359 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3)؛ والشيخ الطوسي في النهاية، ص 586 - 587؛ والمبسوط، ج 1، ص 34 و 125؛ والخلاف، ج 1، ص 63 - 64، المسألة 11.
4- الانتصار، ص 92 المسألة 5.
5- المهذّب، ج 1، ص 30 - 31؛ وج 2، ص 442.
6- السرائر، ج 3، ص 114.
7- الخلاف، ج 1، ص 65، ذيل المسألة 11.
8- الكافي، ج 5، ص 227 باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ، ح 9 تهذيب الأحكام، ج 7، ص 135. ح 595، وما بين القوسين أثبتناه من نسخة «و» والمصدر.
الثالث في مسائل من أحكام الصيد
ما يثبت في آلة الصائد يملكه ناصبها

وهي عشرة:

الأولى: • ما يثبت في آلة الصائد كالحبالة والشبكة يملكه ناصبها. وكذا كلّ ما يعتاد الاصطياد به. ولا يخرج عن ملكه بانفلاته بعد إثباته.

نعم، لا يملكه بتوحله في أرضه، ولا بتعشيشه في داره، ولا بوثوب السمكة إلى سفينته.

ولو اتخذ موحلة للصيد فنشب بحيث لا يمكنه التخلّص لم يملكه بذلك؛ لأنّها لیست آله معتادةً. وفيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

اعتباره في الطهارة أصلاً. وما ذكرناه من الروايات الدالة على عدم اشتراط الدبغ يصلح إلزاماً للشيخ؛ لأنّه عامل بها وإن لم تكن عندنا ناهضة.

قوله: «ما يثبت في آلة الصائد كالحبالة والشبكة يملكه ناصبها» إلى آخره.

إذا أثبت الصائد الصيد في آلته وصيّره غير ممتنع ملكه، كما تقدّم(1). ولا إشكال في ذلك إذا كانت الآلة معتادة لذلك، كالشبكة والحبالة بكسر الحاء مخفّفة.

ولو لم تكن معتادةً لذلك، كما لو توحل في أرضه فصار غير ممتنع أو عشّش في داره كذلك أو وثب إلى سفينته، فإن لم يقصد بذلك اصطياده فلا إشكال في عدم ملكه له؛ لأنّ ذلك ليس آلةً معتادة، ولا قصد صيده، والأصل بقاء إباحته إلى أن يوجد سبب مملّك.

وإن قصد به التملك، بأن اتّخذ الموحلة لذلك، أو قصد ببناء الدار أو بالسفينة إثبات الصيد. ففي ملكه له إذا ثبت فيها وجهان، منشؤهما: ثبوت يده عليه مع القصد إلى تملكه. وهذه الأمور وإن لم تكن آلة معتادة إلّا أنها تصلح للآلية؛ لأنّها قد أوصلته إليه، فإذا انضم إليها قصد التملك تحقّق الملك؛ لأنّ المعتبر في تملك المباحات وضع اليد عليها مع نيّته وهو متحقّق هنا. والآلة

ص: 321


1- تقدّم في ص 261 - 262.

• ولو أغلق عليه باباً ولا مخرج له أو في مضيق لا يتعذّر قبضه ملكه.

وفيه أيضاً إشكال، ولعلّ الأشبه أنّه لا يملك هنا، إلّا مع القبض باليد أو الآلة.

-------------------------------------------------------------------

المعتادة لم تقتض الملك من حيث كونها معتادةً، بل من إزالة المنعة وهو موجود في المتنازع.

ووجه العدم أنّها ليست آلة معتادة، بل ليست آلةً للصيد إلّا مجازاً، ومن ثمّ لا يتبادر الذهن إليها عند الإطلاق، والشارع إنّما يحمل الحكم على الحقيقة الشرعيّة أو العرفيّة، وهما مفقودان.

ويضعّف بأنّ المعلوم اعتبار وضع اليد على الصيد مع النيّة، كما في نظائره من المباحات، ولا دليل على اعتبار أمر آخر، بل كلّ ما كان وسيلة إلى الاستيلاء عليه فهو مقتض للملك. فالقول بملكه أقوى.

وحيث يثبت الملك بوجه من الوجوه لا يزول بانفلاته من يده؛ لأصالة بقاء الملك. ولا يلزم من تعذّر الوصول إلى المال المملوك أو تعسّره خروجه عن ملكه. ولا فرق(1) بين أن يلتحق بالوحوش في الصحراء أو يبعد عن البنيان وبين أن يدور في البلد وحوله، كما لا يخرج العبد بإباقه والبهيمة الأهلية بانفلاتها.

قوله: «ولو أغلق عليه باباً ولا مخرج له، أو في مضيق لا يتعذّر قبضه ملكه».

البحث في هذه كالسابقة، من حيث ظهور الاستيلاء، ومن عدم كون ذلك آلة معتادة للاصطياد. وأولى بعدم الملك هنا لو قيل به ثم؛ لأنّه لم يقبضه بالفعل.

والأقوى عدم الفرق؛ لزوال الامتناع في الموضعين والإغلاق المذكور والإلجاء إلى المضيق بمنزلة القبض في اليد (2) حيث قد أبطل امتناعه. وبقاء قدرته على التخلّص بتقدير فتح الباب وتنجيته عن المضيق في معنى قدرته على التخلّص وهو في الشبكة على تقدير فتحها عنه. فالأولوية هنا ممنوعة.

ص: 322


1- في حاشية «و»: «نبه بعدم الفرق على خلاف مالك حيث فرّق بين الأمرين وحكم بأن ما تباعد عن البلد يزول ملكه عنه بخلاف القريب (منه رحمه اللّه)».
2- في بعض النسخ: «باليد» بدل «في اليد».
لو أطلق الصيد من يده هل يخرج عن ملکه؟

• ولو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه. فإن نوى إطلاقه وقطع نيّته عن ملكه هل يملكه غيره باصطياده؟ الأشبه لا؛ لأنّه لا يخرج عن ملكه بنيّة الإخراج. وقيل: يخرج كما لو وقع منه شيء حقير فأهمله فإنه يكون كالمبيح له. ولعلّ بين الحالين فرقاً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه» إلى آخره.

إذا أطلق الصيد من يده، فإن لم ينو قطع ملكه عنه فلا إشكال في بقاء ملكه عليه؛ عملاً بالاستصحّاب. وإن قطع نيّته عن ملكه ففي خروجه عنه وجهان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) والأكثر - عدمه؛ لأنّ الملك وزواله يتوقّف على أسباب شرعيّة، فلا يحصل بمجرّد الإرادة والإعراض عن الملك لم يثبت شرعاً أنه من الأسباب الناقلة عنه.

والقول بخروجه بذلك عن ملكه للشيخ في المبسوط (1)؛ واحتجّوا(2) عليه بأنّ الأصل في الصيد انفكاك الملك عنه، وإنّما حصل ملكه باليد وقد زالت؛ ولأنّه قد أزال ملكه باختياره عمّا ملكه فيزول؛ لأنّ القدرة على الشيء قدرة على ضدّه.

والأصحّ الأوّل، والأصل قد انقطع بالتملك. ولا يلزم من كون اليد سبباً في الملك كون زوالها سبباً في عدمه؛ لأنّ المرجع في الأسباب إلى نصب (3) الشارع، وقد ثبت جعله اليد سبباً في الملك دون العكس. واستلزام القدرة على الملك القدرة على ضدّه لو سلّم إنّما يتمّ بفعل سبب يوجبهما لا مطلقاً، كما أنّه لا قدرة له على التملك بدون السبب الشرعي.

ويتفرّع على زوال ملكه عنه ملك من يصيده ثانياً له، وليس للأوّل انتزاعه منه. وعلى

ص: 323


1- راجع المبسوط، ج 4، ص 669، حيث صرّح فيه بعدم زوال ملكه نعم نسب ذلك إليه فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 4 ص 122 – 123.
2- في بعض النسخ: «احتج» بدل «احتجّوا».
3- في بعض النسخ «نص» بدل «نصب».

-------------------------------------------------------------------

القول بعدمه هل يكون نيّة رفع ملكه عنه أو تصريحه بإباحته موجباً لإباحة أخذ غيره له؟ وجهان:

أحدهما العدم لبقاء الملك المانع من تصرف الغير فيه.

وأصحّهما إباحته لغيره؛ لوجود المقتضي له، وهو إذن المالك فيه، وهو كافٍ في إباحة ما يأذن في التصرّف فيه من أمواله، فلا ضمان على من أكله.

ولكن يجوز للمالك الرجوع فيه ما دامت عينه موجودةً، كنثار العرس، وكما لو وقع منه شيء حقير ككسرة خبز فأهمله، فإنه يكون مبيحاً له؛ لأنّ القرائن الظاهرة كافية في الإباحة ويوضحه ما يؤثر عن الصالحين من التقاط السنابل لذلك.

وأمّا الاستدلال بهذا على خروج الصيد عن ملكه مطلقاً فليس بجيّد؛ لأنّ إهمال الحقير إنّما يفيد الإباحة، كما يقتضيه كلام المصنّف وغيره(1)، فكيف يجعل دليلاً على زوال الملك؟ بل ولو سلّم زوال الملك في هذا الشيء الحقير لا يلزم مثله في الصيد المتضمن للمالية المعتد بها غالباً، وتحصيله مقصود للكثير والحقير، بخلاف ما يلقى من الحقير، فلا يلزم من زوال الملك عنه زواله عن الخطير.

وإلى هذا أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله «ولعلّ بين الحالين فرقاً» على أنّه لا ضرورة إلى التزام ذلك كما بيّناه، فإن إهمال هذا الحقير غايته كونه كالإباحة كما ذكره لا خروجه عن الملك، وإنّما قال: «يكون كالمبيح له» ولم يجعله إباحة؛ لأنّه لم يوجد منه لفظ يدلّ على إباحته، وإنّما استفيدت من القرائن الظاهرة، وهذا يقوّي عدم زوال الملك، بل غايته إفادة الإباحة فكيف يستدل به على زوال الملك عن الصيد؟!

وبعضهم فرّق بين الأمرين بوجه آخر، وهو أنه يمكن الحكم بزوال الملك في الصيد وإن لم يحكم به في المال الحقير؛ وذلك لأنّ ملك الصيد كان بسبب اليد وقد أزالها قصداً، بخلاف

ص: 324


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 315؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 329 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).

الثانية • إذا أمكن الصيد التحامل طائراً أو عادياً، بحيث لا يقدر عليه إلّا بالإتباع المتضمن للإسراع لم يملكه الأوّل وكان لمن أمسكه.

إذا رمى الأوّل صيداً فأثبته وقتله الثاني

الثالثة: • إذا رمى الأوّل صيداً فأثبته وصيّره في حكم المذبوح، ثمّ قتله الثاني فهو للأوّل، ولا شيء على الثاني، إلّا أن يفسد لحمه أو شيئاً منه.

ولو رماه الأوّل فلم يثبته ولا صيّره في حكم المذبوح، ثمّ قتله الثاني فهو له دون الأوّل. وليس على الأوّل ضمان شيء ممّا جناه.

ولو أثبته الأوّل ولم يصيّره في حكم المذبوح فقتله الثاني فهو متلف. فإن كان أصاب محلّ الذكاة فذكاه على الوجه فهو للأوّل، وعلى الثاني الأرش. وإن أصابه

-------------------------------------------------------------------

المال الحقير كالخبز اليسير؛ لأنّ ملك نوعه مستقر بالسبب المملك لا بمجرد اليد، فلا يزول بالإعراض(1).

وهذا الفرق ضعيف؛ لأنّ اليد سبب للملك كما أنّ شراء الخبز وزراعة الحنطة سبب له شرعاً، فإذا تحقّق السبب لا يرتفع المسبب برفع السبب كاليد، كما لا يزول بترك الشراء وبترك (2) الزراعة، بل يحتاج زواله إلى سبب ناقل له شرعاً، وهو مفقود في الموضعين.

قوله: «إذا أمكن الصيد التحامل طائراً أو عادياً» إلى آخره.

المعتبر في تملك الصيد الممتنع أن يصيّره تحت يده، أو يثخنه ويبطل امتناعه ويصيّره على وجه يسهل أخذه واللحوق به عادةً. فلو ضربه فأضعف قوته التي كان عليها، لكن بقي مع ذلك قادراً على الامتناع بالطيران أو العدو، بحيث لا ينال إلّا بالإسراع الموجب للمشقة، لم يكن ذلك مفيداً للملك، بل يكون لمن أمسكه.

قوله: «إذا رمى الأوّل صيداً فأثبته وصيّره - إلى قوله - وإلّا كان له الأرش».

قد تبيّن من قبل أن الصيد يملك بالجراحة المذفّفة وبالإزمان والإثبات أيضاً واحتجّ

ص: 325


1- انظر إيضاح الفوائد، ج 4 ص 123.
2- في بعض النسخ: «أو ترك» بدل وبترك».

في غير المذبح فعليه قيمته إن لم تكن لميته،قيمة، وإلّا كان له الأرش.

-------------------------------------------------------------------

بكون الإزمان مملكاً بما روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مر مع أصحابه بظبي حاقف، فهم أصحابه بأخذه، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «دعوه حتّى يجيء صاحبه»(1). والحاقف هو المثخن العاجز عن الامتناع (2). سمّى فاعل ذلك صاحباً له ومنعهم من أخذه.

إذا تقرّر ذلك، فإذا اشترك اثنان وازدحما على صيد فله أحوال:

منها: أن يصيباء دفعة. وسيأتي البحث فيه(3).

ومنها : أن يتعاقبا. فالأوّل إما أن يكون مذفّفاً، أو مزمناً، أو لا.

فإن لم يكن مذفّفاً ولا مزمناً بل بقي على امتناعه، وكان الثاني مذقفاً أو مزمناً فهو للثاني. ولا شيء على الأوّل بجراحته؛ لأنّه كان مباحاً حينئذٍ.

وإن كان جرح الأوّل مذفّفاً فالصيد حلال، وملكه الأوّل. وعلى الثاني أرش جراحته إن حدث بها نقصان في الجلد أو اللحم؛ لأنّه جنى على ملك الغير.

وإن كان جرح الأوّل مزمناً خاصّة صار الصيد ملكاً له بالأزمان. وينظر في الثاني إن ذفّف على وجه الذكاة فهو حلال، وعليه للأوّل ما بين قيمته مذبوحاً ومزمناً.

وإنّما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة، فأما إذا كان الحيوان لو لم يذبح لهلك لم يكد (4) يظهر بين القيمتين تفاوت إلّا على تقدير إحداث نقص على جلده أو لحمه بضربة (5) الثاني.

وإن ذفّف عليه الثاني بغير التذكية فهو ميتة؛ لأنّ الصيد المقدور عليه لا يحل إلّا بالذبح فكان كما لو رمى صيداً فأزمنه ثمّ رماه ثانياً وذفّف لا بالذبح وحينئذٍ فيلزم الثاني تمام

ص: 326


1- مسند أحمد، ج 4، ص 485، ح 15317؛ سنن النسائي، ج 5، ص 189 - 190، ح 2814 بتفاوت فيهما؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 137، ح 1951.
2- راجع المصباح المنير، ص 143، «حقف».
3- يأتي في ص 341.
4- في بعض النسخ: «لم يكن» بدل «لم يكد».
5- في بعض النسخ: «الضربه» بدل «بضربة».
إذا رمى الأوّل الصيد وجرحه الثاني ولم يقتله

• وإن جرحه الثاني ولم يقتله، فإن أدرك ذكاته فهو حلال للأول. وإن لم يدرك ذكاته فهو ميتة؛ لأنّه تلف من فعلين أحدهما مباح والآخر محظور، كما لو قتله كلب مسلم ومجوسي.

وما الذي يجب على الجارح؟ فالذي يظهر أنّ الأوّل إن لم يقدر على ذكاته فعلى الثاني قيمته بتمامها معيباً بالعيب الأوّل. وإن قدر فأهمل فعلى الثاني نصف قيمته معيباً.

-------------------------------------------------------------------

قيمته على تلك الحالة التي أثبت عليها إن لم يكن لميته قيمة؛ لأنّه يكون قد فوت ماليته على مالكه. وإن كان لميته قيمة، بأن كان المقصود منه ما لا تحلّه الحياة من أجزائه كالريش والعظم، ضمن الثاني أرشه خاصّة، وهو تفاوت ما بين قيمته ميّتاً ومزمناً بجرح الأوّل.

هذا كلّه إذا كان موته بسبب جرح الثاني خاصّة، أما لو كان بالجرحين فسيأتي حكمه.

قوله: «وإن جرحه الثاني ولم يقتله» إلى آخره.

هذا كلّه عديل قوله سابقاً «فقتله الثاني»(1)، والمراد أنّ الأوّل إذا كان قد أثبته ولم يصيّره في حكم المذبوح فقد ملكه بذلك. فإذا جرحه الثاني ولم يقتله، فإن أدرك هو أو المالك ذكاته فهو حلال للأوّل، وكان على الثانى الأرش كما تقدم. وإن لم يدرك ذكاته فهو ميتة؛ لأنّه مات بفعلين أحدهما موجب للحلّ وهو جرح الأوّل؛ لأنّه كان قبله ممتنعاً فلو مات به وحده قبل إمكان ذبحه لحلّ، والثاني محرّم له وهو جرح الثاني؛ لأنّه صادفه غير ممتنع فغلب جانب التحريم، كما لو قتله كلب مسلم قد سمّى وكلب مجوسي أو كلب آخر لم يسم عليه.

ثمّ ينظر إن مات قبل أن يدركه الأوّل أو قبل أن يتمكن من ذبحه مزمناً ضمن الثاني تمام قيمته؛ لأنّه صار حراماً وميتةً بفعله. ويخالف ما إذا جرح شاة نفسه وجرحها آخر فتلفت بهما، حيث لا يجب على الثاني إلّا نصف القيمة؛ لأنّ كلّ واحد من الجرحين هناك محرّم والإفساد حصل بهما جميعاً، وهنا فعل الأوّل اكتساب وإصلاح وذكاة، فلا يوزّع عليه شيء.

ص: 327


1- سبق في ص 325 في المتن.

-------------------------------------------------------------------

نعم، ينقص عن الأوّل مقدار ما ينقص عنه بالجرح الأوّل، فلو كان الصيد يساوي غير مزمن عشرة ومزمناً تسعة وجب على الثاني تسعة.

هذا إذا لم يكن قيمته مذبوحاً أنقص من قيمته مزمناً، وإلّا وزّع النقص بالذبح عليهما؛ لأنّ فعل الأوّل وإن لم يكن إفساداً إلّا أنه مؤثر في الذبح وحصول الزهوق، فينبغي أن يعتبر في الإفساد؛ لأنّه شريك في الذبح حتّى يقال: إذا كان غير مزمن يساوي عشرة ومزمناً تسعة ومذبوحاً ثمانية تلزمه الثمانية، والدرهم الآخر أثر في فواته الفعلان جميعاً، فينبغي أن يوزّع عليهما حتّى يهدر نصفه، ويجب نصفه مع الثمانية.

ويحتمل ضمان الثاني للجميع كما أطلقه المصنّف؛ نظراً إلى أن المفسد يقطع أثر فعل الأوّل من كلّ وجه والأظهر الأوّل.

وإن أدركه وتمكن من ذبحه لكن أهمل وتركه حتّى مات ففيه وجهان:

أحدهما أنّه لا يجب على الثانى إلّا أرش جراحته؛ لأنّ الأوّل صار مقصراً حين تمكن من الذبح ولم يذبح.

وأصحّهما : أنّ الضمان على الثاني لا يقصر عن أرش الجراحة؛ لأنّ غايته أنه امتنع من تدارك ما يعرّض للفساد بجناية الجاني مع إمكان التدارك، وذلك لا يسقط الضمان، كما لو جرح جارح شاته فلم يذبحها مع التمكن منه، فإنّه لا يسقط الضمان عن الجاني.

وعلى هذا ففي مقدار ضمان الثاني وجهان:

أحدهما: أنّه يضمن كمال قيمته مزمناً أيضاً كما لو ذفّف عليه ابتداء، بخلاف ما إذا جرح عبده أو شاته وجرحه غيره لما أشرنا إليه من الفرق سابقاً.

وأظهر هما: أنّه لا يضمن كمال القيمة، بل هو كما لو جرح عبده وجرحه غيره؛ لأنّ الموت حصل بفعلهما، وكل واحد من الفعلين إفساد له. أما الثاني فظاهر وأمّا الأوّل؛ فلأنّ ترك الذبح بعد التمكن يجعل الجرح وسرايته إفساداً، ولذلك لو لم يوجد الجرح الثاني وترك الأوّل الذبح كان الصيد ميتةً. فعلى هذا تجيء الأوجه المذكورة فيما يأتي

ص: 328

• ولعلّ فقه هذه المسألة ينكشف باعتبار فرض نفرضه، وهي:

دابّة قيمتها عشرة جني عليها فصارت تساوي تسعة، ثمّ جنى آخر فصارت إلى ثمانية، ثمّ سرت الجنايتان.

ففيها احتمالات خمسة - لا يخلو أحدها من خلل- :

وهو إما إلزام الثاني كمال قيمته معيباً؛ لأنّ جناية الأوّل غير مضمونة بتقدير أن يكون مباحاً. وهو ضعيف؛ لأنّه مع إهمال التذكية جرى مجرى المشارك بجنايته.

ضمان دابّة أزمنها الأوّل ثمّ جرحها الثاني فهلكت بالجرحين

وإمّا التسوية في الضمان وهو حيف على الثاني.

أو إلزام الأوّل بخمسة ونصف والثاني بخمسة، وهو حيف أيضاً.

أو إلزام الأوّل بخمسة والثاني بأربعة ونصف، وهو تضييع على المالك.

أو إلزام كلّ واحد منهما بنسبة قيمته يوم جنى عليه وضم القيمتين وبسط العشرة عليهما. فيكون على الأوّل عشرة أسهم من تسعة عشر من عشرة. وهو أيضاً إلزام الثانى بزيادة لا وجه لها.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولعلّ فقه هذه المسألة ينكشف باعتبار فرض نفرضه» إلى آخره.

إذا أزمن الأوّل الصيد وجرحه الثاني ومات بالجرحين مع قدرة الأوّل على تذكيته، ففي ما يجب على الثاني إشكال، بناه المصنّف (رحمه اللّه) على فرض مسألة اشتدّت عناية الفقهاء بالبحث عنها، وتشعبت آراؤهم في حكمها، وممّا يتحرّر فيها يظهر رجحان ما يضمنه الثاني في مسألة الصيد.

وصورة المسألة دابّة قيمتها عشرة دنانير - مثلاً - جنى عليها جان - المالك أو غيره - جناية أرشها دينار ثمّ جرحها آخر جراحةً أرشها دينار أيضاً، وسرت الجراحتان إلى الهلاك، ففي كيفية الضمان وكميته لهما أو للثاني أوجه:

أحدها - وهو الذي صدّر به المصنّف - أنّه يجب على الثاني كمال قيمته معيباً. وهذا

ص: 329

والأقرب أن يقال: يلزم الأوّل خمسةً ونصف والثاني أربعة ونصف؛ لأنّ الأرش يدخل في قيمة النفس، فيدخل نصف أرش جناية الأوّل في ضمان النصف، ويبقى عليه نصف الأرش مضافاً إلى ضمان نصف القيمة. وهذا أيضاً لا يخلو من ضعف.

ولو كانت إحدى الجنايتين من المالك سقط ما قابل جنايته وكان له مطالبة الآخر بنصيب جنايته.

-------------------------------------------------------------------

الوجه لا يأتي في المسألة المفروضة إلّا على تقدير كون الجناية الأولى غير مضمونة، كمسألة الصيد، فلو أسقط هذا الوجه من البين كما فعل غيره(1)، أو ذكره كما ذكرناه نحن في صدر المسألة وجعلنا الأوجه المتعدّدة على تقدير اشتراكهما في الضمان كان أجود.

ووجه هذا الاحتمال قد عرفته فيما قرّرناه سابقاً (2). وخلاصته أن جناية الأوّل غير مضمونة بتقدير أن يكون الجرح مباحاً كمسألة الصيد، فلا يضمن سرايتها، بخلاف جناية الثاني، فإنّها وقعت على مملوك للغير فكانت محرّمة، فاستند الضمان إليها خاصّة.

ويضعّف بأنّ الأوّل مع إهماله التذكية جرى مجرى المشارك بجنايته؛ لما قررناه م--ن أنّ كلّ واحد من الفعلين بسبب إهمال التذكية مع القدرة عليها إفساد، فيكون الهلاك مستنداً إليهما، فلابدّ من الحكم بتوزيع القيمة عليهما ثمّ إسقاط ما يخص المالك إن فرض. ولا فرق في ذلك بين قدرته على التذكية وإهمالها وعدمه؛ لتحقّق الإفساد بجرحه على التقديرين.

وثانيها (3) - وهو أوّل الأوجه المحتملة في المسألة المفروضة على ترتيب المصنّف -

ص: 330


1- كالشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 333 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
2- سبق في ص 326.
3- في حاشية «و»: «هذا الوجه الثاني اختيار القفال (منه رحمه اللّه)». راجع حلية العلماء، ج 3، ص 434، ولكن لم يختره، بل حكاه عن المزني.

-------------------------------------------------------------------

التسوية بينهما في الضمان بمعنى أنه يجب على كلّ واحد خمسة دنانير. وهذا يوجه بطريقين:

أحدهما: أنّه يجب على كلّ واحد منهما أرش جراحته وهو دنانير؛ لأنّه نقصان تولّد من جنايته، وما بقي - وهو ثمانية - تلف بسراية الجراحتين فيشتركان فيه.

والثاني: أنّ على كلّ واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته؛ لأنّ الجناية إذا صارت نفساً دخل أرشها في بدل النفس، وكلّ واحد منهما لم يضمن إلّا نصف النفس، فلا يدخل فيه إلّا نصف الأرش، ولا يدخل النصف الآخر فيما ضمنه الآخر. ولذلك لو قطع يدي رجل فسرى دخل أرش اليد في بدل النفس، ولو قطعها ثمّ قتله غيره لم يدخل أرش اليد في بدل نفس ضمنها الآخر. ثمّ يرجع الأوّل على الثاني بنصف أرش جنايته؛ لأنّه جنى على النصف الذي ضمنه الأوّل وقومناه عليه قبل جنايته. ومن غرم شيئاً بكمال قيمته له أن يرجع على من جنى عليه بما ينقصه. إلّا ترى أن من غصب ثوباً وجنى عليه آخر فخرقه، ثمّ تلف الثوب وضمن المالك الغاصب تمام القيمة، فإنّه يرجع على الجاني بأرش التخريق. وإذا رجع عليه كذلك استقر على كلّ واحد منهما خمسة. وعلى هذا فالمالك مخيّر في نصف دينار بين أن يأخذه من الأوّل أو الثاني، فإن أخذه من الأوّل رجع به على الثاني، وإن أخذه من الثاني استقر عليه، وحصل التسوية بينهما على التقديرين.

ويضعّف هذا الوجه بوجهيه، من حيث إن فيه حيفاً على الثاني؛ لأنّه جنى على ما هو أقلّ قيمة، وضمن كالجاني على الأزيد قيمة مع اقتضائه عدم دخول الأرش في النفس وهو خلاف القول المنصور ؛ لأنّ بدل النفس مشتمل عليه، فلو لم يدخل فيه لزم تثنية التغريم.

ويمكن الفرق بين أرش الحرّ والمملوك؛ لأنّ الجرح ينقص قيمة الحيوان المملوك، فإذا أخذ بعدها عوض النفس أخذها بعد ذلك النقص، بخلاف الحرّ، فإنّ جرحه أو قطع عضوه

ص: 331

-------------------------------------------------------------------

لا ينقص ديته المقدرة فيلزم محذور تثنية الغرامة. وهذا متّجه.

وبقي في هذا الوجه التسوية بين الجانيين(1) في الغرامة مع اختلاف قيمة مجنّيهما. وقد اعتذر السيد عميد الدين؛ حيث نصر هذا الوجه بأنّ الثاني أنقصه أكثر ممّا أنقصه الأوّل؛ إذ الأوّل أنقصه العشر والثاني أنقصه التسع، فهذا يقابل زيادة القيمة (2).

واعترضه شيخنا الشهيد (رحمه اللّه) بأنّ هذا التفاوت لا يطابق تفاوت ما بين الأمرين: لأنّ التفاوت بين التسع والعشر جزء من تسعين جزءاً من عشرة، والتفاوت بين العشرة والتسعة العشر، وهو تسعة أجزاء من تسعين، وظاهر ما بينهما من التفاوت (3).

وثالثها: إلزام الأوّل بخمسة ونصف، والثاني بخمسة؛ لأنّ جناية كلّ واحد منهما نقّصت ديناراً، ثمّ سرت الجنايتان إلى الهلاك، والأرش يسقط إذا صارت الجناية نفساً، فيسقط نصف الأرش عن كلّ واحد منهما؛ لأنّ الموجود منه نصف القتل، ويبقى النصف. فعلى الأوّل خمسة من حيث هو شريك، ونصف دينار وهو نصف أرش جنايته؛ لأنّه حصل منه نصف القتل، فلا يندرج تحته إلّا نصف الأرش. وعلى الثاني خمسة، نصف دينار وهو نصف أرش جراحته، وأربعة ونصف هى نصف قيمة العبد عند جنايته.

ويضعّف بأنّ فيه حيفاً أيضاً عليهما وزيادة في الواجب عن المتلف، وبما تقدّم من أنّ الأرش لا يعتبر عند سراية الجناية أصلاً، سواء كان الجرح مع شريك أم لا.

واعتذر عن الأوّل بأنّ الجنايات قد تنجر إلى إيجاب الزيادة، كما إذا قطع يدي عبد وجاء آخر فقتله(4).

ص: 332


1- في بعض النسخ: «الجانبين» بدل «الجانيين».
2- لم نعثر على قوله في كنز الفوائد، وحكاه عنه الشهيد الأوّل، راجع غاية المراد، ج 3، ص 353 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3). والمحتمل أن الشهيد (رحمه اللّه) استفاد منه في مجلس درسه بقرينة نقله عن مجلس درسه في بعض مواضع غاية المراد.
3- غاية المراد، ج 3، ص 354 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
4- المجموع شرح المهذّب، ج 9، ص 135.

-------------------------------------------------------------------

وأجيب عنه بأنّ قاطع اليدين لا شركة له في القتل والقتل قاطع أثر القطع وواقع موقع الاندمال، وهنا بخلافه(1).

وقد يقرّر هذا الوجه بطريق آخر يسلم من محذور الزيادة في القيمة، بأن يجعل ما ذكر في الوجه من إثبات العشرة والنصف أصلاً للقسمة حتّى لا يؤدي إلى الزيادة، فتبسط الأجزاء أحاداً فيكون أحد وعشرين جزءاً، وتقسّط العشرة عليه ليبقى التفاوت مرعيّاً بينهما مع السلامة من الزيادة، فيجب على الأوّل أحد عشر جزءاً من أحد وعشرين جزءاً من عشرة. وعلى الثاني عشرة أجزاء من أحد وعشرين جزءاً من عشرة.

فإذا أردت معرفة مقدار ما على كلّ واحد منهما من العشرة ضربت مجموع ما يلزم كلاً منهما - وهو عشرة ونصف - في القيمة - وهو عشرة - تبلغ مائة وخمسة، وهذه الأعداد كلّ عشرة ونصف منها دينار. فتصيب الأوّل منها خمسة وخمسون، هي خمسة دنانير وسبع وثلثا سبع. والثاني نصيبه منها خمسون هي مضروب خمسة في عشرة، فإذا أخذت من كلّ عشرة ونصف واحداً كان المجتمع أربعة دنانير وخمسة أسباع دينار وثلث سبع دينار. فالمجموع عشرة.

ويبقي في هذا الوجه إفراد أرش الجناية عن بدل النفس وقد عرفت ما فيه. وهذا الوجه في قوة وجهين بهذا المعنى الذي اعتبرناه.

ورابعها: إلزام الأوّل بخمسة والثاني بأربعة ونصف؛ لأنّ الجراحتين سرتا وصارتا قتلاً، فعلى كلّ واحد نصف القيمة، إلّا أن القيمة يوم الجناية الأولى عشرة، ويوم الجناية الثانية تسعة، فيغرم كلّ واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته وفيه دخول الأرش في بدل النفس. ولكنّه يضعف بأنّ فيه تضييع نصف على المالك؛ إذ(2) كانت قيمة المقتول عشرة وقد مات

ص: 333


1- المجموع شرح المهذّب، ج 9، ص 135.
2- في بعض النسخ: «إذا» بدل «إذ».

-------------------------------------------------------------------

بجنايتهما، فلا وجه لسقوط شيء من قيمته.

وخامسها : إلزام كلّ منهما بنسبة قيمته يوم جنى عليه وضم القيمتين وبسط العشرة عليهما. فتجمع القيمتين تكون تسعة عشرة؛ لأنّ قيمته يوم جناية الأوّل عليه عشرة ويوم جناية الثاني تسعة، فتبسط القيمة عليهما. فيكون على الأوّل عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءاً من عشرة. وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءاً من عشرة.

ويقال بعبارة أخرى نصف القيمة يوم الجناية الأولى خمسة ويوم الجناية الثانية أربعة ونصف، يجمع بينهما ويقسّم العشرة على تسعة ونصف خمسة منها على الأوّل وأربعة ونصف على الثاني.

فإذا أردت الإيضاح ومعرفة ما على كلّ واحد من العشرة ضربتها في تسعة عشر تبلغ مائة وتسعين. فعلى الأوّل منها مائة، وعلى الثاني تسعون. ثمّ هذا العدد كلّ تسعة عشر منه بواحد فيكون المائة خمسة دنانير وخمسة أجزاء من تسعة عشر جزءاً من دينار، وهو ما على الأوّل والتسعون أربعة دنانير وأربعة عشر جزءاً من تسعة عشر جزءاً من دينار. فإذا أضفت إلى هذه الأربعة عشر جزءاً ما على الأوّل من الأجزاء - وهي خمسة - صارت تسعة عشر وهي دينار كامل، إذا أُضيف إلى ما على الأوّل من الدنانير - وهي خمسة - وما على الثاني - وهو أربعة - صار المجموع عشرة كاملة.

وفي هذا الوجه يدخل الأرش في بدل النفس ويحصل كمال القيمة عليهما من غير زيادة ولا نقصان وإلزامهما (1) بنسبة القيمة يوم جنايتهما، وهو عدل؛ ولهذا اختاره الأكثر كالشيخ (2) وجماعة (3).

ص: 334


1- في بعض النسخ «والتزامهما» بدل «وإلزامهما».
2- المبسوط، ج 4، ص 662.
3- منهم يحيى بن سعيد الحلي في الجامع للشرائع، ص 385؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 616، الرقم 6215 والشهيد في غاية المراد، ج 3، ص 351 و 355 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).

-------------------------------------------------------------------

ويضعّف بأنّها تتضمّن زيادةً على الثاني لا وجه لها؛ لأنّه إنّما شارك في جنايته على ما قيمته تسعة، فلا يتّجه أن يلزمه زيادة عن أربعة ونصف، وقد ألزم بزيادة أربعة أجزاء ونصف جزء زيادة على نصف التسعة. وكذلك الأوّل لزمه خمسة دنانير وخمسة أجزاء، وكان ينبغي أن يكون عليه خمسة فقط؛ اعتباراً بنصف قيمته يوم جنى عليه. فالحيف واقع عليهما معاً، وإن كان المصنّف (رحمه اللّه) قد خصه بالثاني. واعتذر عن هذا بأن المطلوب حفظ قيمة المجنيّ عليه، فلو ألزمناهما بنصف القيمتين ضاع عليه نصف، فقسط عليهما على نسبة المالين.

وسادسها: إلزام الأوّل بخمسة ونصف، والثاني بأربعة ونصف. وهذا هو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) محتجاً عليه بأنّ الأرش يدخل في قيمة النفس، فيدخل نصف أرش جناية الأوّل في ضمان النصف، ويبقى عليه نصف الأرش مضافاً إلى ضمان نصف القيمة.

ووجه أيضاً بأنّ الأوّل لو انفرد بالجرح وسرى لألزم العشرة، فلا ينقطع عنه إلّا ما لزم الثاني، والثاني جنى على ما قيمته تسعة، فلا يغرم(1) إلّا نصف التسعة، فما سواه يبقى على الأوّل، وعلى هذا لا يكون الزيادة أرشاً.

وبعض العلماء اختار هذه الطريقة لكن جعل الزائد أرشاً، وقال:

يعتبر الأرش في حقّ الأوّل دون الثاني، فيجب عليه ما نقص بجنايته وهو دينار، ويلزم نصف القيمة بعد ذلك وهو أربعة ونصف، ولا يعتبر الأرش في حقّ الثاني. وفرّق بينهما بأن جناية الأوّل وحدها نقصت الدينار، ثمّ جناية الثاني وسراية جناية الأوّل تعاونتا على تفويت الباقي (2).

وهذا الوجه أسلم من غيره، وإن كان لا يخلو أيضاً من إشكال.

ص: 335


1- في بعض النسخ: «فلا يلزم» بدل «فلا يغرم».
2- العزيز شرح الوجيز، ج 12، ص 49.

-------------------------------------------------------------------

وقد أوردوا عليه بالطريقة الأولى ما تكرّر في غيره من دخول الأرش مطلقاً في بدل النفس.

وعلى الطريقة الثانية بأنّ الأوّل إنّما يكون سبباً للتفويت لو انفرد، أما إذا شاركه غيره فقد خرج فعله عن أن يكون مفوّتاً للكلّ.

وعلى الثالثة باشتمالها على حكمين متنافيين وهما عدم دخول أرش الأوّل في جنايته، ودخول أرش الثاني في جنايته. والفرق الذي أبدوه لا يفيد؛ لأنّ انفراد الأوّل بالدينار لا يقتضي عدم الدخول بمجرده. ولو سلّم اقتضاؤه كان اللازم منه في الثاني أن لا يدخل من أرشه بمقدار ما يخصه من الجناية.

وجواب الأوّل ما تقرّر من أن جناية الحيوان يراعى فيها جانب المالية، ويتّجه فيها عدم دخول الأرش، وإن كان الراجح في الحرّ الدخول، وقد أشرنا إلى الفرق فيما سبق.

والثاني بأنّ مشاركة غيره له في الجملة لا تقتضي عدم زيادته عليه فكيف وقد اختصّ بنقص دينار وحده؟! وإنّما شاركه الثاني بعد ذلك، فلا تضر زيادته عليه وإن لم يكن مفوّتاً للكلّ.

ومثله الجواب عمّا يقال: إنّه إنّما شارك في جنايته على ما قيمته عشرة فكيف يلزم بزيادة عن خمسة؟! فإنّ التسوية بينهما إنّما يتجه إذا اشتركا في مبدإ الجناية، أمّا إذا انفرد الأوّل بزيادة لم يقدح ذلك في تفاوتهما ووجوب أزيد من النصف عليه؛ لأنّه شارك في تسعة واختصّ بواحد، وهو واضح.

إذا تقرّرت هذه المقدّمات فلنرجع إلى ما يجب على الجاني الثاني على الصيد الذي قد أثبته الأوّل، ونقول: إن ما حكم به في هذه الأوجه على الأوّل يسقط، ويلزم الثاني للأوّل ما يقابل جنايته، كما لو كانت إحدى الجنايتين من المالك على عبده سبده والأُخرى من غيره.

ص: 336

الرابعة: • إذا كان الصيد يمتنع بأمرين، كالدرّاج والقبج، يمتنع بجناحه وعدوه، فكسر الرامى جناحه، ثمّ كسر آخر رجله، قيل: هو لهما، وقيل للأخير لأنّ بفعله تحقّق الإثبات والأخير قويّ.

لو رمى الصيد اثنان فعقراه ثمّ وجد ميتاً

الخامسة: • لو رمى الصيد اثنان فعقراه ثمّ وجد ميّتاً، فإن صادف مذبحه فذبحه فهو حلال. وكذا إن أدركاه، أو أحدهما فذكّاه. فإن لم تدرك ذكاته ووجد ميتاً لم يحلّ؛ لاحتمال أن يكون الأوّل أثبته ولم يصيّره في حكم المذبوح فقتله الآخر وهو غير ممتنع.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا كان الصيد يمتنع بأمرين» إلى آخره.

القول باشتراكهما فيه للشيخ في المبسوط (1)؛ محتجّاً بأن سبب الملك حصل بفعلهما؛ لأنّ العلّة هي المجموع من حيث هو مجموع.

ووجه ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من أنّه للثاني خاصّة أن الإزمان حصل عقيب فعله، والإصابة حصلت والمرمي إليه صيد مباح بعد، فيبطل أثر الجراحة الأولى، ويصير صاحبها كالمعين للثاني، والإعانة لا تقتضي الشركة، ولذلك لو أرسل كلباً إلى صيد فصرف إنسان الصيد إلى الكلب أو ضيق عليه الطريق حتّى أدركه الكلب يكون الصيد للمرسل من غير أن يشركه المعيّن.

قوله: «لو رمى الصيد اثنان فعقراه ثمّ وجد ميتاً» إلى آخره.

قد عرفت أنّ الصيد الممتنع إنّما يحلّ مع موته بالعقر الواقع حال امتناعه أو بتذكيته بالذبح. فإذا رمى اثنان صيداً فمات بجرحهما، فإما أن يكونا دفعةً أو على التعاقب. فإن كانا دفعةً حلّ مطلقاً؛ لأنّ كلّاً منهما أصابه حال امتناعه فيكفي في تذكيته، سواء استند موته إليهما أم إلى أحدهما معيّنا أو مشتبهاً.

وإن كانا متعاقبين، فإن كان الثاني هو الذي أثبته فهو حلال أيضاً مطلقاً؛ لأنّ موته حصل

ص: 337


1- المبسوط، ج 4، ص 665.
ما يقتله الكلب بالعقر أو بغيره

السادسة. ما يقتله الكلب بالعقر يؤكل ولا يؤكل ما يقتله بصدمه أو غمّه أو إتعابه.

لو رأى صيداً فظنّه خنزيراً فقتله

السابعة • لو رأى صيداً فظنّه خنزيراً أو كلباً أو غيره ممّا لا يؤكل فقتله لم يحلّ. وكذا لو رمى سهماً إلى فوق فأصاب صيداً. وكذا لو مر بحجر ثمّ عاد فرماه ظانّاً بقاءه فبان صيداً. وكذا لو أرسل كلباً ليلاً فقتل؛ لأنّه لم يقصد الإرسال فجرى مجرى الاسترسال.

-------------------------------------------------------------------

بالجرح الواقع حال امتناعه. وإن كان الأوّل أثبته لم يحل إلّا بالذبح؛ لصيرورته غير ممتنع. فإن مات بالثاني أو بهما كان ميتةً. وإن اشتبه الحال لم يحلّ إلّا أن يصادف أحدهما مذبحه ويقطع أعضاء الذبح أو يدرك ذكاته؛ لأنّ المفروض كون موته مستنداً إلى الجرحين أو أحدهما، ومن الممكن أن يكون الأوّل قد أثبته ولم يصيّره في حكم المذبوح، فلا يحلّ حينئذٍ إلّا بالذبح ولم يحصل، ويكون استناد موته إلى الجرح الثاني وهو غير ممتنع فيحرم. هذا حكمه مع الاشتراك في قتله بالنسبة إلى الحلّ وعدمه، أما بالنسبة إلى ملكه فسيأتي الكلام فيه(1).

قوله: «ما يقتله الكلب بالعقر يؤكل» إلى آخره.

قد عرفت في صدر الكتاب أن الاصطياد يقع على العقر المزهق للوحشي، فلابدّ في الحكم بحلّ من موته بعقر الكلب إذا كانت الآلة كلباً، فلو مات بغيره من الأسباب وإن كانت مستندةً إلى الكلب -كصدمه والبروك عليه وإتعابه- لم يحلّ. وكذا لو اشتبه سبب موته؛ لاحتمال كونه بسبب غير محلّل، ومن ثمّ حكم بتحريمه على تقدير أن يغيب عن عين المرسل ما لم يعلم استناد موته إلى العقر المحلّل استصحّاباً لحكم التحريم إلى أن يثبت الناقل عن حكم الأصل.

قوله: «لو رمى (2) صيداً فظنّه خنزيراً أو كلباً» إلى آخره.

ص: 338


1- يأتي في ص 341.
2- في المتن: «رأى» بدل «رمى».
الطير إذا صيد مقصوصاً لم يملكه الصائد

الثامنة: • الطير إذا صيد مقصوصاً لم يملكه الصائد. وكذا مع كلّ أثر يدلّ على الملك. وإن كان مالكاً جناحه فهو لصائده، إلّا أن يكون له مالك. وعلى هذا لو انتقلت الطيور من برج إلى آخر لم يملكها الثاني.

-------------------------------------------------------------------

من جملة شرائط حلّ الصيد قصده حال الرمي أو الإرسال. والمراد قصد جنس الصيد المحلل، فلا يكفي قصد مطلق الحيوان، كما لا يعتبر قصد حيوان مخصوص. فلو أرسل سهماً في الفضاء لاختبار قوته أو رمى إلى هدف فاعترض صيداً فأصابه فقتله لم يحلّ.

وكذا لو قصد ما ظنّه خنزيراً أو غيره من الحيوان غير المحلّل فأصاب محلّلاً.

وكذا لو أرسل كلباً كذلك أو حيث لا صيد فاعترض صيداً فقتله أو نحو ذلك. وقد تقدّم البحث في ذلك(1).

وخالف فيه بعض العامّة، فحكم بحل الصيد في ذلك كلّه؛ لحصول قتل الصيد بفعله الذي قصده، وإنّما فقد ما اعتقده (2)؛ ولعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كلّ ما ردّ عليك قوسك»(3).

قوله: «الطير إذا صيد مقصوصاً لم يملكه الصائد» إلى آخره.

في حكم المقصوص أن يكون مقرّطاً أو مخضوباً أو موسوماً؛ لدلالة هذه الآثار على أنه كان مملوكاً وربما أفلت، فيستصحّب حكم الملك. ولا ينظر إلى احتمال فعل ذلك به عبثاً من غير قصد التملك؛ لأنّ الأثر يدلّ على اليد واليد يحكم لها بالملك ولو لم يعلم سببه، بل وإن احتمل عدم صحة السبب. وكذا لا ينظر إلى احتمال أنه اصطاده محرم وفعل ذلك به ثمّ أرسله، فإنّه تقدير بعيد.

ولو اصطاد سمكة في بطنها درّة مثقوبة فكذلك، ويكون المأخوذ والحال هذه لقطة. وإن كانت غير مثقوبة فهي له مع السمكة.

ص: 339


1- تقدّم في ص 246 – 247.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 52 وروضة الطالبين، ج 2، ص 520.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 157، ح 16976 و 16977؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 110 - 111، ح 28556 و 2857؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1071، ح 3211 بتفاوت يسير.

-------------------------------------------------------------------

ولو كان الطير مالكاً جناحه ولا أثر لليد عليه فهو لصائده؛ لأصالة حلّه فيستصحّب كما استصحّب اليد، إلّا أن يعلم له مالكاً فيكون له، ولا يخرج عن ملكه بالامتناع بالطيران وغيره.

ومن هذا الباب ما لو انتقلت الطيور من برج إلى آخر أو بعضها، فإنّها تبقى على ملك الأوّل، ويجب على الثاني ردّه. ولو حصل منه بيض أو فرخ فهو تبع للأنثى دون الذكر، فيكون لمالك الأنثى.

ولو كان الحمام المتحوّل مباحاً، ففي دخوله في ملك صاحب البرج ما تقدم من الخلاف فيما إذا عشش في داره طائر، وأولى بالملك هنا؛ لأنّ البرج يقصد لذلك. ولو شك صاحب البرج في أنّ الحمام الداخل من المباحات أو ملك الغير فهو أولى به؛ الأصالة الإباحة.

ولو تحقّق أنّه اختلط بملكه ملك الغير وعسر التمييز، فإن كان الحمام غير محصور فله أن يأكل واحدةً واحدةً إلى أن يبقى قدر الداخل كما إذا اختلطت ثمرة الغير بثمره. وإن لم يكن محصوراً -كما هو الغالب - وجب اجتناب الجميع إلى أن يصالح ذلك الغير أو يقاسمه. وعلى هذا قال بعض الفضلاء: ينبغي للمتّقي أن يجتنب طير البروج؛ لأنّها لا تنفك عن الاختلاط بمملوك الغير(1).

ولو اختلط حمام مملوك بحمام مباح، فإن كان الجميع محصوراً لم يجز الاصطياد منه. وإن كان غير محصور كما لو اختلط المملوك بحمام ناحية، جاز الاصطياد في الناحية.

ومن هذا الباب ما لو انثالت حنطة إنسان على غيره أو انصب مائع في مائع، وجهلا (2) المقدار، فالحكم كما ذكر في اختلاط الحمام والطريق إلى التخلّص بالصلح.

ولو ملك الإنسان ماء بالاستقاء ونحوه، ثمّ صبّه في نهر لم يزل ملكه عنه، ولكن لا يمنع الناس من الاستقاء؛ لأنّه غير محصور.

ص: 340


1- روضة الطالبين، ج 2، ص 527.
2- في بعض النسخ «وجهل» بدل «وجهلا».

التاسعة: • ما يقطع من السمك بعد إخراجه من الماء ذكي، سواء ماتت أو وقعت في الماء مستقرة الحياة؛ لأنّه مقطوع بعد تذكيتها.

إذا أصابا صيداً دفعة

العاشرة • إذا أصابا صيداً،دفعةً، فإن أثبتاه فهو لهما. ولو كان أحدهما جارحاً والآخر مثبتاً فهو للمثبت ولا ضمان على الجارح؛ لأنّ جنايته لم تصادف ملكاً لغيره. ولو جهل المثبت منهما فالصيد بينهما. ولو قيل: يستخرج بالقرعة كان حسناً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ما يقطع من السمك بعد إخراجه من الماء ذكيّ» إلى آخره.

قد تقدم أنّ ذكاة السمك إخراجه من الماء حيّاً (1)، ولا يشترط موته خارجاً، ومن ثمّ أجازوا أكله حيّاً. وحينئذٍ فإذا قطع منه بعد إخراجه قطعةً كانت حلالاً؛ لكونها مقطوعة بعد تذكيته، سواء مات بقية السمكة خارج الماء أم عاد إليه مستقر الحياة؛ لاشتراكهما في المقتضي وهو كون القطع بعد التذكية، وعود الباقي إلى الماء والحكم بتحريمه بعد ذلك أمر طار على الحكم بحله لا يؤثر في حلّ ما سبق الحكم به.

قوله: «إذا أصابا صيداً،دفعةً، فإن أثبتاه فهو لهما» إلى آخره.

هذه من جملة الأحوال الحاصلة للمشتركين في رمي الصيد، وكان حقّها أن تذكر مع المسألة الثالثة؛ لأنّها قسم من أقسامها. وخلاصة القول فيها: إنه إذا وقع الجرحان من اثنين نظر، إن تساويا في سبب الملك فالصيد بينهما، وذلك بأن يكون كلّ واحد منهما مذفّفاً أو مزمناً لو انفرد. وكذا لو كان أحدهما مزمناً لو انفرد، بأن كسر الجناح، والآخر مذفّفاً لو انفرد؛ لأنّ كلّ واحد من المعنيين يثبت الملك. ولا فرق بين أن يتفاوت الجراحتان صغراً وكبراً أو يتساويا، ولا بين أن يكونا في غير المذبح أو فيه، أو أحدهما فيه والآخر خارجه.

وإن كان أحد الجرحين مذفّفاً أو مزمناً لو انفرد والآخر غير مؤثر، فالصيد لمن جرحه مذقفاً أو مزمناً، ولا ضمان على الثاني ؛ لأنّه لم يجرح ملك الغير.

وإن احتمل أن يكون هذا الإزمان بهما وأن يكون بأحدهما فالصيد بينهما ظاهراً؛ لاتّحاد

ص: 341


1- تقدّم في ص 304.

-------------------------------------------------------------------

نسبتهما إليه، واستحالة الترجيح من غير مرجّح ولكن ينبغي أن يستحلّ أحدهما من الآخر تورّعا عن مظنّة الشبهة. ويحتمل القرعة؛ لأنّا لا نعلم أن أحدهما أثبته دون الآخر، والاشتراك يوجب تمليك من ليس بمقطوع الملك، والقرعة لكلّ أمر مشكل(1)، وهذا أولى.

ولو علمنا أنّ أحدهما المذفّف وشككنا في الآخر هل له أثر الإزمان والتذفيف أم لا؟ فالوجهان وأولى بالقرعة هنا؛ لأنّ ملك المذفّف معلوم دون غيره. وقد تقدّم الحكم في التحليل وعدمه على هذه التقديرات (2).

وبقي من أحوال المسألة ما لو ترتّب الجرحان وحصل الإزمان بمجموعهما، فهو بينهما. وقيل: هو للثاني (3). وقد تقدّم توجيه القولين فيما لو كان الصيد ممتنعاً بأمرين فأبطل أحدهما أحدهما والآخرُ الآخرَ (4).

ص: 342


1- الفقيه، ج 3، ص 92، ح 3392؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 240، ح 593، وفيهما: «كل مجهول ففيه القرعة».
2- تقدّم في ص 326.
3- القائل هو الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 2، ص 330 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 10).
4- تقدّم في ص 337.

کتاب الأطعمة والأشربة

القاعدة الكلّية في معرفة ما يحلّ أكله وما يحرم

-------------------------------------------------------------------

کتاب الأطعمة والأشربة

الكلام في الأطعمة ومعرفة أحكامها من المهمّات، فإنّ اللّه تعالى أجرى العادة بالحاجة إليها، قال تعالى: «وَمَا جَعَلْتَهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ»(1).

وفي تناول الحرام الوعيد الشديد، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أيّ لحم نبت من حرام فالنار أولى به»(2).

ثمّ للإنسان حالتان: حالة رفاهية واختيار وحالة اضطرار، وبحسبهما أودع مسائل الكتاب، واختلف الحال في الحلّ والحرمة.

والأصل في معرفة ما يحل أكله وما يحرم أن يرجع إلى الشرع، فما أباحه فهو مباح، وما حظره فهو محظور.

وسيأتي تفصيل ما أباحه بخصوصه، أو حرّمه بخصوصه.

وما لم يكن له في الشرع ذكر كان المرجع فيه إلى عادة العرب، فما استطابه فهو حلال، وما استخبثه فهو حرام؛ لقوله تعالى: «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائثَ» (3).

ص: 343


1- الأنبياء (21): 8.
2- المستدرك على الصحيحين، ج 5، ص 175 - 176، ح 7244 - 7247 بتفاوت : مجمع الزوائد الهيثمي، ج 10، ص 291؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 149، ح 1987.
3- الأعراف (7): 157.

-------------------------------------------------------------------

وقوله: «يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»(1). ونحوهما من الآيات(2).

فإن لم يكن له في الشرع ولا في عرفهم ذكر، فإن علم اشتماله على مضرة في الجسد كان حراماً، وإلّا كان مباحاً على أصح القولين للأصوليين والفقهاء (3)؛ لأنّ الأعيان مخلوقة لمنافع العباد.

ولقوله تعالى: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً»(4)، الآية.

وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(5).

وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة عبداللّه بن سنان: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(6).

ومن قال من الأصوليّين بأنّ الأصل في الأشياء الحظر أو التوقف، لزمه التحريم فيما اشتبه من أمره.

ثمّ الطيب يطلق على الحلال، قال تعالى: «كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ»(7)، أي من الحلال.

وعلى الطاهر، قال تعالى: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا»(8)، أي طاهراً.

وعلى ما لا أذى فيه كالزمان الذي لا حرّ فيه ولا برد، يقال: هذا زمان طيّب.

ص: 344


1- المائدة (5): 4.
2- البقرة (2): 172 ؛ طه (20) 81: المؤمنون (23): 51.
3- انظر الذريعة إلى أُصول الشريعة، ج 2، ص 808 - 809؛ والعدة في أصول الفقه، ج 2، ص 742؛ والمبسوط، الشيخ الطوسي، ج 4، ص 674.
4- الأنعام (6): 145.
5- الفقيه، ج 1، ص 317، ح 937.
6- الكافي، ج 5، ص 313، باب النوادر، ح 39.
7- طه (20): 81.
8- النساء (4): 43.

-------------------------------------------------------------------

وما تستطيبه النفس ولا تنفر منه كقوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»(1) ؛ إذ ليس المراد منها هنا الحلال؛ لعدم الفائدة في الجواب على تقديره؛ لأنّهم سألوه أن يبين لهم الحلال فلا يقول في الجواب: الحلال، ولا الطاهر؛ لأنّه إنّما يعرف من الشرع توقيفاً، ولا ما لا أذى فيه؛ لأنّ المأكول لا يوصف به، فتعين أن يكون المراد ردّهم إلى ما يستطيبونه ولا يستخبثونه، فردّهم إلى عادتهم وما هو مقرّر في طباعهم، ولأن ذلك هو المتبادر من معنى الطيب عرفاً. وسيأتي في الأخبار ما ينبّه عليه.

والمراد بالعرف - الذي يرجع إليه في الاستطابة - عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار، دون أهل البوادي وذوي الاضطرار من جفاة العرب؛ فإنّهم يستطيبون ما دبّ و درج كما سئل بعضهم عمّا يأكلون فقال: كلّ ما دبّ ودرج إلّا أمّ حبين (2)، فقال بعضهم: لتهناً أم حبين العافية؛ لكونها أمنت أن تؤكل.

هذا خلاصة ما قرّره الشيخ في المبسوط (3) وغيره(4)، إلّا أنه فصّل أوّلاً المحلل إلى الحيوان وغيره، وقسّم الحيوان إلى حيّ وغيره، وجعل ما كان من الحيوان حيّاً فهو حرام حيث لا يرد به شرع: محتجّاً بأنّ ذبح الحيوان محظور، وما كان من الحيوان غير حيّ أو من غيره فهو على أصل الإباحة.

وفي استثناء الحيوان الحي من ذلك نظر؛ لعموم الأدلة. والاستناد إلى تحريم ذبحه بدون الشرع في حيّز المنع.

فهذا هو الأصل الذي يرجع إليه في باب الأطعمة(5). وبقي الكلام فيما نص الشارع على تحریمه، فلنشرع في الكلام عليه.

ص: 345


1- المائدة (5): 4.
2- أُمُّ :حبين دويبة على خلقة الحرباء عريضة الصدر عظيمة البطن. لسان العرب، ج 13، ص 105، «حبن».
3- المبسوط، ج 4، ص 674 - 675.
4- السرائر، ج 3، ص 118.
5- في الطبعة الحجريّة زيادة: «والأشربة».

والنظر فيه يستدعي بيان أقسام ستة:

القسم الأوّل فى حيوان البحر

إشارة:

ولا يؤكل منه إلّا ما كان سمكاً له فلس، سواء بقي عليه كالشبّوط والبياح، أو لم يبقَ كالكنعت.

حكم ما ليس له فلس في الأصل

أمّا ما ليس له فلس في الأصل كالجرّيّ، ففيه روايتان أشهرهما التحريم، وكذا الزمار والمارماهي والزهو، لكنّ أشهر الروايتين هنا الكراهية.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «الأوّل في حيوان البحر ولا يؤكل منه إلّا ما كان سمكاً له فلس» إلى آخره.

حيوان البحر إما أن يكون له فلس كالأنواع الخاصّة من السمك، ولا خلاف بين المسلمين في كونه حلالاً، وما ليس على صورة السمك من أنواع الحيوان، ولا خلاف بين أصحابنا في تحريمه(1).

وبقي من حيوان البحر ما كان من السمك وليس له فلس كالجرّيّ، والمارماهي والزمّار. وقد اختلف الأصحّاب في حلّه بسبب اختلاف الروايات فيه، فذهب الأكثر - ومنهم الشيخ في أكثر كتبه (2) - إلى تحريمه مطلقاً؛ لصحيحة محمّد بن مسلم قال: أقرأني أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) شيئاً في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإذن فيه: «أنهاكم عن الجرّيث، والمارماهي، والطافي، والطحال»، قال، قلت: رحمك اللّه إنّا نؤتى بالسمك ليس له قشر، فقال: «كُل ما له قشر من السمك، وما كان ليس له قشر فلا تأكله»(3).

وصحيحة حمّاد بن عثمان قال قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): جعلت فداك الحيتان ما يؤكل

ص: 346


1- في حاشية «و، خ»: «وافقنا أبو حنيفة على تحريم غير السمك من حيوان البحر، وقال مالك وأحمد يحلّ الجميع، وهو أصح وجهي الشافعية؛ لعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الحلّ ميتته». والوجه الثاني للشافعيّة: أنّ ما يؤكل نظيره في البر - كالنعم - يؤكل نظيره في البحر، وما لا يؤكل نظيره كالكلب والخنزير لا يؤكل، وما ليس له نظير يحلّ أيضاً؛ للعموم. (منه رحمه اللّه)». راجع بداية المجتهد، ج 1، ص 470.
2- المبسوط، ج 4، ص 671 الخلاف، ج 1، ص 29، المسألة 31.
3- الكافي، ج 1، ص 219، باب صيد السمك، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 2، ح 1.

-------------------------------------------------------------------

منها؟ فقال: «ما كان له قشر»، فقلت: جعلت فداك ما تقول في الكنعت؟ قال: «لا بأس بأكله»، قال قلت: فإنّه ليس لها قشر، قال: بلى ولكنّها حوت سيئة الخلق تحتك بكلّ شيء، فإذا نظرت في أصل أذنها وجدت لها قشراً»(1).

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يركب بغلة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالكوفة، ثمّ يمر بسوق الحيتان فيقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا ما لم يكن له قشر»(2). وغير ذلك من الأخبار(3).

وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى إباحة ما عدا الجرّيّ (4)؛ لصحيحة الحلبي قال قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يكره شيء من الحيتان إلّا الجرّيّ»(5). وفي معناها غيرها(6).

قال الشيخ في الكتابين:

والوجه في هذه الأخبار أنه لا يكره كراهة الحظر إلّا هذا الجريّ، وإن كان يكره كراهة الندب والاستحباب

وهذا صريح في اختيار كراهة ما عدا الجرّى من السمك مطلقاً.

ويؤيّده أيضاً صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الجريث، فقال: «وما الجريث؟» فنعته له، فقال: «لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ»(7) الآية، ثمّ قال: «لم يحرم اللّه شيئاً من الحيوان في القرآن إلّا الخنزير بعينه، ويكره كلّ شيء من البحر ليس له قشر مثل قشر الورق، وليس بحرام إنّما هو مكروه»(8).

ص: 347


1- الكافي، ج 6، ص 219، باب صيد السمك، ح 2؛ الفقيه، ج 3، ص 341، ح 4210؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 3، ح 4.
2- الكافي، ج 6، ص 220، باب صيد السمك، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 3، ح 3 و 5.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 25، ص 127 وما بعدها، الباب 8 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 5 ذيل الحديث 14؛ الاستبصار، ج 4، ص 59، ذيل الحديث 206.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 5. ح 13؛ الاستبصار، ج 4، ص 59، ح 205.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 5، ح 14؛ الاستبصار، ج 4، ص 59، ح 206.
7- الأنعام (6): 145.
8- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 5 - 6، ح 15؛ الاستبصار، ج 4، ص 59 - 60، ح 207.

-------------------------------------------------------------------

وصحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الجرّي، والمارماهي، والزمّير، وما ليس له قشر من السمك، حرام هو؟ فقال لي: «يا محمّد اقرأ هذه الآية التي في الأنعام: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا»(1)، قال: فقرأتها حتّى فرغت منها. فقال: «إنّما الحرام ما حرم اللّه ورسوله فى كتابه، ولكنّهم قد كانوا يعافون أشياء فنحن تعافها»(2).

وممّا ذكرناه يظهر ما ذكره المصنّف من أنّ في الجرّيّ روايتين.

والمراد الجنس بالتحريم والتحليل، وأن أشهرهما بين الأصحّاب التحريم.

وإنّما نسب القول بالتحريم إلى الشهرة خاصّة؛ لما قد عرفت من أن روايات الحلّ صحيحات الأسناد كثيرة. وقد كان يمكن الجمع بينها وبين ما دلّ على التحريم بالحمل على الكراهة، لكن الأشهر بينهم التحريم.

وكذلك ظهر اختلاف الرواية في المارماهي والزمّار(3).

وأمّا الزهو فقد دخل في عموم الروايات الدالة على الحلّ.

ومما ورد فيه بخلاف ذلك رواية محمّد بن سليمان بن جعفر قال: حدثني إسحاق صاحب الحيتان قال: خرجنا بسمك نتلقى به أبا الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد خرجنا من المدينة وقدم هو من سبالة، فقال: ويحك يا فلان لعلّ معك سمكاً؟ قلت : نعم جعلت فداك، فقال: «انزلوا»، فقال: «ويحك لعلّه زهو؟» قلت نعم قال: «اركبوا لا حاجة لنا فيه»، قال: «والزهو سمك ليس له قشر»(4).

وهذه الرواية مع قطع النظر عن سندها لا تدلّ على التحريم بل غايتها الكراهة.

ص: 348


1- الأنعام (6): 145.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 6، ح 16؛ الاستبصار، ج 4، ص 60، ح 208.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 130 وما بعدها، الباب 9 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
4- الكافي، ج 6، ص 221، باب آخر من صيد السمك، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 3 - 4، ح 6.

-------------------------------------------------------------------

لكنّ قوله فيها: إنّه «سمك ليس له قشر» إن كان من كلام الإمام أو ثبت فيتناوله النهي في الأخبار السابقة(1).

والمصنّف (رحمه اللّه) اختار في هذه الثلاثة الكراهة. وهو مذهب الشيخ في النهاية (2) وتلميذه القاضي(3). وهو حسن؛ لأنّه طريق الجمع بين الأخبار.

والمانعون حملوا أخبار الحلّ على التقيّة(4). وليس بجيّد.

وقد أغرب الشيخ في النهاية في حكم المارماهي ففي باب المكاسب جعله من المكاسب المحظورة، كالجري وغيره من السمك الذي لا يحلّ أكله(5). وفي باب الأطعمة جعله مكروهاً كما نقلناه هنا عنه.

وفي باب الحدود قال:

ويعزّر أكل الجرّيّ والمارماهي، وغير ذلك من المحرّمات، فإن عاد أدب ثانية، فإن استحلّ شيئاً من ذلك وجب عليه القتل(6).

وأعجب ما فيه - مع اختلاف الفتوى - حكمه بقتل مستحل المارماهي، فإن كلّ من خالفنا من العلماء مجمعون على حلّه، وأصحابنا مختلفون فيه كما عرفت، حتّى هو من جملة القائلين بحلّه في النهاية والتهذيب والاستبصار(7).

ومستحلّ المحرّم إنّما يقتل إذا استحل ما أجمع المسلمون على تحريمه، بل لا يكفي

ص: 349


1- سبقت آنفاً.
2- النهاية، ص 576.
3- المهذّب، ج 2، ص 438 - 439.
4- مختلف الشيعة، ج 8، ص 305 المسألة 22؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 32: المهذّب البارع، ج 4، ص 190.
5- النهاية، ص 364 - 365.
6- النهاية، ص 713.
7- النهاية، ص 576؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 5، ذيل الحديث 14: الاستبصار، ج 4، ص 59، ذيل الحديث 206.

• ويؤكل الربيثا، والطمر، والطبراني، والإبلامي.

-------------------------------------------------------------------

ذلك حتّى يكون قد علم تحريمه من دين الإسلام ضرورةً، كالخمر والميتة، وأين هذا ممّا أكثر المسلمين على حله حتّى الشيخ (رحمه اللّه)؟!

واعلم أنّ الجرّيّ بكسر الجيم والراء المهملة المشدّدة المكسورة. ويقال: الجرّيث، بزيادة الثاء المثلّثة.

والزمّار: بكسر الزاي المعجمة والميم المشدّدة والراء المهملة أخيراً، ويقال: الزمّير، كما وقع في الرواية (1).

والمارماهي - بفتح الراء المهملة - كلمة أعجمية معناها: حيّة السمك.

والزهو: بالزاي المعجمة المفتوحة.

والشبّوط: بفتح الشين، وتشديد الباء مضمومة.

والبياح: بكسر الباء الموحدة مخفّفاً، وربما فتحت الباء وشدّدت (الياء)(2).

والكنعت ويقال: الكنعد بالدال المهملة.

قوله: «ويؤكل الربيثا والطمر، والطبراني، والإبلامي».

الربيثا : بالراء المهملة المفتوحة والباء الموحدة المكسورة، والياء المثنّاة من تحت الساكنة، والثاء المثلّثة المفتوحة، والألف المقصورة.

والطمر بكسر الطاء المهملة والميم الساكنة، والراء المهملة.

والطبراني بالطاء المهملة المفتوحة، والباء الموحدة المفتوحة، والراء المهملة والنون بعد الألف.

والإبلامي: بكسر الهمزة والباء الموحدة الساكنة.

ص: 350


1- الكافي، ج 1، ص 219، باب آخر منه، ح 1، وص 221، باب آخر منه، ح 12: الفقيه، ج 3، ص 325، ح 4164: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 2، ح 1، وص 6، ح 16؛ الاستبصار، ج 4، ص 60، ح 208.
2- ما بين القوسين سقط من بعض النسخ.
ما لا يؤكل من حيوان البحر

• ولا تؤكل السلحفاة، ولا الضفادع ولا السرطان، ولا شيء من حيوان البحر، ککلبه و خنزیر.

-------------------------------------------------------------------

ويدل على حلّ هذه بخصوصها صحيحة محمّد بن إسماعيل قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): اختلف الناس عليّ في الربيثا فما تأمرني به؟ فكتب: «لا بأس بها»(1).

وعن محمّد الطبري قال: كتبت إلى أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسأله عن سمك يقال له الإبلامي وسمك يقال له الطبراني، وسمك يقال له الطمر، وأصحابي ينهون عن أكله، فكتب: «كلّه، لا بأس به»(2).

قوله: «ولا تؤكل السلحفاة، ولا الضفادع، ولا السرطان» إلى آخره.

قد تقدّم ما يدلّ على تحريم هذه الأشياء (3)؛ لأنّها من جملة حيوان البحر، والمحلل منه منحصر في السمك على ما تقرّر.

ولا فرق في حيوان البحر بين خنزيره وشاته، فلو أدرجها كان أولى؛ لأنّها الفرد الأخفى فإنّ من العامّة من حكم بتحريم كلبه وخنزيره دون شاته ونحوها ممّا هو على صفة المحلّل(4)، ومنهم من حكم بحل الجميع(5).

ويدلّ على تحريم الثلاثة الأوّل - مع كونها مستخبئة - صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يحلّ أكل الجرّيّ ولا السلحفاة ولا السرطان»، قال: وسألته عن اللحم الذي يكون في أصداف البحر والفرات أيؤكل؟ قال: ذلك لحكم الضفادع لا يحلّ أكله»(6).

والسلحفاة: بضمّ السين وفتح اللام وسكون الحاء المهملة.

ص: 351


1- الفقيه، ج 3، ص 340، ح 4207؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 81 - 82، ح 347؛ الاستبصار، ج 4، ص 91، ح 346.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 13، ح 47.
3- تقدّم في ص 346.
4- حكاه النووي عن بعض العامّة في روضة الطالبين، ج 2، ص 542.
5- حكاه النووي عن بعض العامّة في روضة الطالبين، ج 2، ص 542.
6- الكافي، ج 1، ص 221. باب آخر منه، ح 11: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 12 - 13، ح 46.
ما يوجد في جوف سمكة أخرى

• ولو وجد في جوف سمكة أُخرى حلّت إن كانت من جنس ما يحلّ، وإلّا فهي حرام. وبهذا،روايتان طريق إحداهما السكوني، والأخرى مرسلة.

ومن المتأخّرين من منع؛ استناداً إلى عدم اليقين بخروجها من الماء حيّةً. وربما كانت الرواية أرجح؛ استصحّاباً لحال الحياة.

-------------------------------------------------------------------

والضفادع : جمع ضفدع بكسر أوله وفتحه وضمه، مع كسر ثالثة وفتحه في الأوّل، وكسره في الثاني وفتحه في الثالث.

والسرطان: بفتح أوله وثانيه، ويسمّى عقرب الماء (1).

قوله: «ولو وجد في جوف سمكة أخرى حلّت إن كانت من جنس ما يحلّ» إلى آخره.

القول بالحلّ للشيخ في النهاية (2) والمفيد (3) وآخرين (4): استناداً إلى رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن سمكة شقّ بطنها فوجد فيها سمكة، قال: كلهما جميعاً»(5).

ومرسلة أبان عن بعض أصحابه، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت: رجل أصاب سمكة في جوفها سمكة، قال: يؤكلان جميعاً»(6).

والمانع من حلّها ابن إدريس، ما لم تخرج من بطنها حيّة (7)؛ لأنّ شرط حل السمك أخذه من الماء حياً، والجهل بالشرط يقتضي الجهل بالمشروط. ووافقه العلّامة في المختلف و التحرير(8)، وولده فخر الدين إيضاح الفوائد، ج 4، ص 144. (9).

ص: 352


1- حياة الحيوان، ج 1، ص 553.
2- النهاية، ص 576.
3- المقنعة، ص 577 - 576.
4- منهم يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 380؛ والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 20 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
5- الكافي، ج 6، ص 218، باب صيد السمك، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 8، ح 25.
6- الكافي، ج 1، ص 218، باب صيد السمك، ح 14؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 8، ح 25.
7- السرائر، ج 3، ص 100.
8- مختلف الشيعة، ج 8، ص 306، المسألة 23؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 637، الرقم 6251.
9-

• ولو وجدت في جوف حية أكلت إن لم تكن تسلخت، ولو تسلّخت لم تحلّ.

والوجه أنّها لا تحلّ إلّا أن تقذفها والسمكة تضطرب. ولو اعتبر مع ذلك أخذها حيّةً ليتحقّق الذكاة كان حسناً.

-------------------------------------------------------------------

وفي القواعد رجّح مذهب الشيخ(1). وكذلك المصنّف في النافع (2)، ومال إليه هنا بعض الميل. وأشار إلى جواب دليل ابن إدريس بأن الأصل بقاء الحياة إلى بعد إخراجها؛ إذ لا شك في حلول الحياة في السمكة وقتاً ما، فيستصحّب إلى أن يعلم المزيل، وتكون الروايتان شاهداً وإن لم تصلحا لإثبات الحكم. وهو حسن؛ حيث لا تدل القرائن على تقدّم موتها، بأن يخرجها من بطنها عاجلاً فيجدها قد تغيرت بالسلخ ونحوه.

قوله: «ولو وجدت في جوف حيّة أكلت إن لم تكن تسلّخت» إلى آخره.

القول بحلها ما لم تنسلخ مطلقاً للشيخ في النهاية (3)؛ استناداً إلى رواية أيوب بن أعين. عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال، قلت له: جعلت فداك ما تقول في حيّة ابتلعت سمكةً ثمّ طرحتها وهي حيّة تضطرب آكلها؟ قال: «إن كان فلوسها قد تسلّخت فلا تأكلها، وإن لم تكن تسلخت فكلها»(4).

والشيخ (رحمه اللّه) لم يعتبر إدراكها حيةً تضطرب(5). والرواية لا تدل على مذهبه.

وفي المختلف عمل بموجب الرواية(6)، وهو يقتضي الاجتزاء بإدراكها حية؛ مع أنّه لا يقول بذلك في ذكاة السمك(7).

ص: 353


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 324.
2- المختصّر النافع، ص 361.
3- النهاية، ص 576.
4- الكافي، ج 1، ص 218 - 219، باب صيد السمك، ح 16؛ الفقيه، ج 3، ص 326، ح 4163؛ تهذيب الأحكام ج 9، ص 8، ح 27.
5- النهاية، ص 576.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 306، المسألة 23.
7- مختلف الشيعة، ج 8، ص 306، المسألة 23.

• ولا يؤكل الطافي، وهو ما يموت في الماء، سواء مات بسبب كضرب العلق أو حرارة الماء، أو بغير سبب. وكذا ما يموت في شبكة الصائد في الماء أو في حظيرته.

لو اختلط الميّت بالحي بحيث لا يتميّز

• ولو اختلط الميت بالحي بحيث لا يتميّز، قيل: حلّ الجميع. واجتنابه أشبه.

-------------------------------------------------------------------

والوجه ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) وابن إدريس(1)، وجملة المتأخّرين(2)، وهو اشتراط أخذه لها حيّةً؛ لأنّ ذلك هو ذكاة السمك على ما تقدّم(3).

قوله: «ولا يؤكل الطافي، وهو ما يموت في الماء» إلى آخره.

نبّه بقوله «سواء مات» إلى آخره على خلاف بعض العامّة حيث فرّق بين الأمرين، فوافقنا على تحريمه مع موته لسبب خارج، وحكم بحلّه إذا مات من قبل نفسه(4). وأكثر الجمهور على حلّه مطلقاً.

وقد تقدم ما يدل على تحريمه، والخلاف فيما يموت في الشبكة والحظيرة(5).

قوله: «ولو اختلط الميت بالحى بحيث لا يتميز» إلى آخره.

القول بحله مع الاشتباه للشيخ في النهاية(6)، واستحسنه المصنّف (رحمه اللّه) فيما سبق؛ لدلالة الأخبار الصحيحة عليه(7).

والأشهر تحريم الجميع إذا كان محصوراً؛ لوجوب اجتناب الميت، ولا يتم إلّا باجتناب الجميع كغيره من الأطعمة المشتبهة بالمحرم. وقد تقدم البحث في ذلك(8).

ص: 354


1- السرائر، ج 3، ص 100.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 325؛ إيضاح الفوائد، ج 4، ص 145؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 34.
3- تقدّم في ص 304.
4- بدائع الصنائع، ج 5، ص 53 الحاوي الكبير، ج 15، ص 64 - 65.
5- تقدّم في ص 308.
6- النهاية، ص 578.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 83 وما بعدها، الباب 35 من أبواب الذبائح.
8- تقدّم في ص 308.
حكم الجلّال من السمك

• ولا يؤكل الجلّال من السمك حتّى يستبراً، بأن يجعل في الماء يوماً وليلةٌ، ويطعم علفاً طاهراً.

بيض السمك المحلّل حلال

• وبيض السمك المحلّل حلال، وبيض المحرّم حرام. ومع الاشتباه يؤكل ما كان خشناً، لا ما كان أملس.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولا يؤكل الجلّال من السمك حتّى يستبرأ» إلى آخره.

جلّال السمك ما يغتذي بعذرة الإنسان كغيره من الحيوان، وسيأتي الكلام فيه(1).

واعتبار استبرائها يوماً وليلة مذهب الشيخ (2) والأكثر؛ استناداً إلى رواية يونس عن الرضاء(عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).

واكتفى الصدوق بيوم إلى الليل (4)؛ لرواية القاسم بن محمّد الجوهري(5). والأوّل طريق اليقين.

ويعتبر في العلف كونه طاهراً بالفعل. وربما اكتفي بالطاهر بالأصالة خاصّة. وهو ضعيف: لأنّ إطلاق الطاهر يقتضي ما ذكرناه.

قوله: «وبيض السمك المحلّل حلال، وبيض المحرم حرام» إلى آخره.

هذا الحكم مشهور بين الأصحّاب، غير أن كثيراً منهم لم يقيّدوا التفصيل بحالة الاشتباه، بل أطلقوا القول بأنّ بيض السمك مطلقاً يؤكل منه الخشن دون الأملس والمنماع.

ص: 355


1- يأتي في ص 359.
2- هكذا نسبه إليه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 299، المسألة 19؛ وقال في النهاية، ص 576 : يوماً إلى الليلة.
3- الكافي، ج 6، ص 252، باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 9 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 13، ح 48.
4- المقنع، ص 421: الفقيه، ج 3، ص 338 - 339، ح 4203، وفيهما ذكره بلفظ: «روي»؛ وحكاه العلّامة عن مقنع الصدوق في مختلف الشيعة، ج 8، ص 299، المسألة 19.
5- الفقيه، ج 3، ص 338 - 339، ح 4203.

القسم الثاني في البهائم

حلّيّة الأنعام الثلاثة وكراهية لحوم الحمولة الثلاثة

• ويؤكل من الإنسية الإبل والبقر والغنم وتكره الخيل والبغال والحُمُر الأهلية، على تفاوت بينها في الكراهية.

-------------------------------------------------------------------

وأنكره ابن إدريس رأساً، وقال:

لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا خلاف في أن جميع ما في بطن السمك طاهر، ولو كان ذلك صحيحاً لما حلّت الصحناة(1).

ووافقه في المختلف مستدلاً بعموم قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ» (2). وقال: ولم يبلغنا في الأحاديث المعوّل عليها ما ينافي العموم(3).

قوله: «ويؤكل من الإنسيّة الإبل والبقر والغنم» إلى آخره.

لا خلاف بين المسلمين في تحليل الأنعام الثلاثة، والكتاب(4) والسنّة(5) ناطقان به.

والمشهور بين ر بين أصحابنا تحليل الحمولة الثلاثة: الخيل والبغال والحمير (6) للأصل، وقوله تعالى: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ»(7) الآية.

وخصوص حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّهما سألاه عن أكل لحوم الحُمر الأهليّة فقال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أكلها يوم خيبر، وإنّما نهى عن أكلها؛ لأنّها كانت

ص: 356


1- السرائر، ج 3، ص 113، وفيه: «الضجباة» بدل «الصحناة» وهو خطأ.
2- المائدة.(5): 96.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 339، المسألة 41.
4- النحل (16): ؛ المؤمنون :(23): 21؛ غافر (40): 79.
5- علل الشرائع، ج 2، ص 283، الباب 355، ح 1؛ عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ج 2، ص 104، الباب 33، ح 1؛ تحف العقول، ص 246.
6- في حاشية «و، خ»: «وافقنا مالك على حلّ الثلاثة، وذهب أبو حنيفة إلى تحريمها، والشافعي وأحمد إلى حل الخيل خاصّة. (منه رحمه اللّه)». راجع حلية العلماء، ج 3، ص 405 وبداية المجتهد، ج 2، ص 553 وما بعدها ؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 66 - 67 و 70، المسألة 7783 - 7795.
7- الأنعام (6): 145.

-------------------------------------------------------------------

حمولة الناس وإنّما الحرام ما حرّم اللّه عزّ وجلّ في القرآن»(1).

وفي رواية أخرى لمحمّد بن مسلم عنه قال: سألته عن لحوم الخيل والحمير والبغال، فقال: «حلال ولكن الناس يعافونها»(2).

ووجه كراهتها ورود روايات كثيرة بالنهي عنها(3)، وحمل على الكراهة جمعاً، فمنها صحيحة ابن مسكان قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن لحوم الحمير، فقال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أكلها يوم خيبر»، قال: وسألته عن أكل الخيل والبغال فقال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنها، فلا تأكلها إلّا أن تضطر إليها»(4).

وفي معناها غيرها، إلّا أنّ هذه أوضح الجميع سنداً، وهي أصح سنداً من روايات الحلّ. إلّا أنها ظاهرة فى الكراهة من جهة قوله: «إلّا أن تضطر إليها»، فإنّه علّق الحلّ على مطلق الضرورة، ومطلقها أعمّ من أن يبلغ حدّاً يحلّل المحرّم.

وأيضاً فقوله «نهى عن أكلها يوم خيبر» غير منافٍ لما ذكر في رواية الحلّ ؛ لأنّه اعترف فيها بنهيه عنها ذلك اليوم، ولكنّه نهى كراهة؛ إبقاء لظهورها.

ويؤيّده صحيحة محمّد بن مسلم - أيضاً - عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أنّه سئل عن سباع الطير والوحش حتّى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل، فقال: «ليس الحرام إلّا ما حرّم اللّه في كتابه، وقد نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أكل لحوم الحمير، وإنّما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه، وليست الحمر بحرام». ثمّ قال: «اقرأ هذه الآية: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ

ص: 357


1- الكافي، ج 6، ص 245 - 246، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 41، ح 171؛ الاستبصار، ج 4، ص 73، ح 268.
2- الفقيه، ج 3، ص 335، ح 4200؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 41، ح 174؛ الاستبصار، ج 4، ص 74، ح 271.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 117 - 124، الباب 4 و 5 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
4- الكافي، ج 6، ص 246، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح 13؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 40، ح 168؛ الاستبصار، ج 4، ص 74، ح 272.

-------------------------------------------------------------------

إِلَى مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ»(1)»(2). وهذا تصريح بالإباحة.

وذهب أبو الصلاح إلى تحريم البغل(3)؛ استناداً إلى النهي عنه في تلك الأخبار. وقد عرفت جوابه. وكان ينبغي له أن يحرم الباقي أو الحمر بطريق أولى؛ لورودهما معه في النهي. إذا تقرّر ذلك، فقد اشتركت الثلاثة في الكراهة كما ذكروا، واتّفقوا على أنها متفاوتة فيها، ثمّ اختلفوا في أيّها أشدّ. والمصنّف (رحمه اللّه) اقتصر على إثبات التفاوت بينها في الكراهة، ولم يبيّن أيّها أقوى من الآخر.

والمشهور أن أكدها البغل، ثمّ الحمار، وأضعفها الخيل وعلّل بأن البغل متولّد من مكروهين مختلفين وبأنه قد قيل بتحريمه فكان أقوى ممّا اتّفق على كراهته.

وقيل: إنّ الحمار آكد كراهة من البغال (4)؛ لأنّه متولّد من مكروهين قويّى الكراهة، بخلاف البغل، فإنّه متولّد من ضعيف وقويّ، ولأنّ النهى عنه في الأخبار أكثر، وللاتّفاق على أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عنه في الجملة(5)، ومن ثمّ ذهب جماعة من الجمهور إلى تحريمه، بخلاف البغل(6)، فإنّ من حرمه منهم لم يستند فيه إلى نهي عنه خاص، بل إلى أنه متولّد من محلّل و محرم، فغلب جانب التحريم(7)، وهذا أقوى.

ص: 358


1- الأنعام (6) : 145.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 42، ح 176؛ الاستبصار، ج 4، ص 074 ح 275.
3- الكافي في الفقه، ص 276 – 277.
4- في حاشية «خ، و»: «القول بتأكد كراهة الحمار لابن البرّاج، وابن إدريس مال إليه. (منه رحمه اللّه)». المهذّب، ج 2، ص 429: السرائر، ج 3، ص 98.
5- الكافي، ج 6، ص 245 - 246، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح 10 و 13؛ الفقيه، ج 3، ص 335 ح 4200: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 40، ح 168، وص 41، ح 171؛ الاستبصار، ج 4، ص 272، ح 272.
6- الحاوي الكبير، ج 15، ص 141 و 142؛ بدائع الصنائع، ج 5، ص 55 - 57: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 11، ص 66-67.
7- الحاوي الكبير، ج 15، ص 141 و 142؛ بدائع الصنائع، ج 5، ص 55 - 57: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 11، ص 66-67.

• وقد يعرض التحريم للمحلل من وجوه:

الحيوان الجلّال محرّم

أحدها: الجلل، وهو أن يغتذي عذرة الإنسان لا غير، فيحرم حتّى يستبراً. وقيل: يكره. والتحريم أظهر.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وقد يعرض التحريم للمحلل من وجوه» إلى آخره.

البحث في الجلل يقع في موضعين

الأوّل: فيما به يحصل الجلل.

فالمشهور أنّه يحصل بأن يغتذي الحيوان عذرة الإنسان لا غير. والنصوص والفتاوى المعتبرة خالية من تقدير المدة التي فيها يتحقّق ذلك(1).

وربما قدّره بعضهم(2) بأن ينمو ذلك في بدنه ويصير جزءاً منه. و بعض بيوم وليلة كالرضاع(3).

وآخرون بأن يظهر النتن في لحمه وجلده. وهذا قريب.

والمعتبر على هذا رائحة النجاسة التي اغتذاها، لا مطلق الرائحة الكريهة.

وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : إنّ الجلالة هي التي تكون أكثر علفها العذرة (4). فلم يعتبر تمحّض العذرة.

قال المصنّف (رحمه اللّه) وهذا التفسير صواب إن قلنا بكراهة الجلال، وليس بصواب إن قلنا بالتحريم(5).

وألحق أبو الصلاح بالعذرة غيرها من النجاسات لمشاركتها لها في المعنى المحرّم (6).

ص: 359


1- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 164 - 166، الباب 27 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
2- كالسيوري في التنقيح الرائع، ج 4، ص 36.
3- حكاه المحقّق الكركي عن بعض المحقّقين في حاشية شرائع الإسلام، ج 2، ص 420 - 421 (ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره، ج 11) واستقرّ به فقال: وهو قريب كما في الرضاع المحرّم.
4- الخلاف، ج 6، ص 85، المسألة 16: المبسوط، ج 4، ص 679.
5- نكت النهاية، ج 3، ص 75.
6- الكافي في الفقه، ص 278.

-------------------------------------------------------------------

والأشهر هو الأوّل.

الثاني في حكم الجلّال.

وأكثر الأصحّاب على أنّه محرّم (1)؛ لما روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن أكل الجلالة، وعن شرب ألبانها حتّى تحبس(2).

ورواية هشام عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): الناقة الجلّالة لا يؤكل لحمها. ولا يشرب لبنها»(3). الحديث. وغيرها من الأخبار الدالة على النهي عنه (4)؛ والأصل فيه التحريم.

وذهب الشيخ في المبسوط وابن الجنيد(5) إلى الكراهة، بل قال في المبسوط : إنّه مذهبنا(6)، مشعراً بالاتّفاق عليه.

ووجهه إما حمل النهي على الكراهة والتنزيه؛ لأنّه بعض معانيه، وإمّا لاستضعاف طريقه، فإنّ الأوّل عامّي، والثاني غايته أن يكون من الحسن، والباقي ضعيف السند.

والأشهر هو الأوّل.

ولو قيل بالتفصيل كما قال المصنّف(7) (رحمه اللّه) - بأنه إن كان الغذاء بها محضاً فالتحريم، وإن كان غالباً فالكراهة، كان وجهاً.

ص: 360


1- في حاشية «و، خ»: «مذهب الشافعي التحريم، ومذهب مالك وأبي حنيفة الكراهة، وعن أحمد روايتان. (منه قدّس سرّه)».
2- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1064، ح 3189؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 351، ح 3785: الجامع الصحيح، ج 4. ص 270، ح 1824؛ سنن النسائي، ج 7، ص 254، ح 4454 و 4455: المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 335، ح 2295 و 2296 بتفاوتٍ: وأورد نصّه فخر الدين في إيضاح الفوائد، ج 4، ص 149.
3- لم نعثر على هذه الرواية عن هشام والرواية عن مسمع. راجع الكافي، ج 6، ص 253، باب لحوم الجلّالات وبيضهنّ...، ح 12؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 45، ح 189؛ والاستبصار، ج 4، ص 77، ح 282.
4- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 164 - 166، الباب 27 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
5- الحاكي عنه هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 300، مسألة 19.
6- المبسوط، ج 4، ص 679.
7- نكت النهاية، ج 3، ص 75.
استبراء الحيوان الجلّال

• وفي الاستبراء اختلاف والمشهور استبراء الناقة بأربعين يوماً، والبقرة بعشرين وقيل تستوي البقرة والناقة في الأربعين، والأوّل أظهر. والشاة بعشرة وقيل بسبعة، والأوّل أظهر.

وكيفيّته أن يربط ويعلف علفاً طاهراً هذه المدة.

-------------------------------------------------------------------

ثمّ على تقدير التحريم فليس بنجس العين كالكلب والخنزير، بل هو كغيره من المحرّمات بالأصل كالسباع.

وفي وقوع الذكاة عليه كالمحرم بالأصل أم لا وجهان، من إطلاق الحكم بتحريمه، وتوقّف التذكية على توقيف شرعي، ومن أنّه لا يقصر عن المحرّم بالأصل.

وتظهر الفائدة في طهارته بالتذكية وجواز استعمال جلده في غير الصلاة.

قوله: «وفي الاستبراء اختلاف والمشهور استبراء الناقة بأربعين يوماً» إلى آخره.

لمّا كان تحريم الجلّال عارضاً بسبب عروض العلف النجس لم يكن تحريمه مستقرّاً. بل إلى غاية، وهي أن يقطع عنه ذلك العلف، ويطعم علفاً طاهراً إلى مدّة يزول معها حكم السابق. فما لا تقدير لمدّته شرعاً يعتبر في حلّه زوال اسم الجلل عنه عرفاً؛ وذلك بأن يطيب لحمه، ويزول نتنه على ذلك الوجه. وما ورد على تقديره حكم معتبر من نصّ أو إجماع اعتمد عليه.

وقد اختلف الأصحّاب في مقادير من المدّة التي يزول بها الجلل في بعض الحيوانات؛ بسبب اختلاف الرواية، واتّفقوا على بعضها.

فممّا اتّفقوا عليه استبراء الناقة بأربعين يوماً. وهو موجود في روايات (1) لا تخلو من ضعف. ومما اختلفوا فيه البقرة، فقيل: تستبرأ بأربعين كالناقة. وهو قول الشيخ في المبسوط (2).

ص: 361


1- الكافي، ج 6، ص 251 - 253، باب لحوم الجلالات وبيضهن...، ح 3 و 6 و 9 و 11 و 12؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 45 و 46. ح 189 و 190 و 192؛ الاستبصار، ج 4، ص 77، ح 282 و 283 و 285.
2- المبسوط، ج 4، ص 679.

-------------------------------------------------------------------

وهو في رواية مسمع عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

وقيل: بعشرين يوماً. وهو مذهب الشيخ في النهاية والخلاف(2)، واختاره المصنّف والأكثر وهو في رواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حكم بذلك(3).

وقيل: بثلاثين يوماً. وهو مذهب الصدوق في المقنع والفقيه(4).

ومنه الشاة، فالمشهور أن استبراءها بعشرة. ذهب إليه الشيخ في النهاية(5)، واختاره المصنّف والأكثر وهو في رواية السكوني.

وقيل: بسبعة. ذهب إليه الشيخ في المبسوط(6) وجماعة (7)، وادعوا أنّ به رواية(8).

وقيل بخمسة. وهو في رواية مسمع.

وحيث كانت الطريق ضعيفة فينبغي الوقوف من ذلك على محلّ الوفاق، وهو مراعاة أكثر التقديرات؛ حيث لا قائل بما زاد عليها.

وقول المصنّف (رحمه اللّه) في كيفية الاستبراء إنها تربط وتعلف، المراد منه مراعاتها على وجه يوثق بعدم أكلها للنجس، سواء ربطت أم لا، وقيد الربط موجود في بعض الأخبار(9)، وتبعه عليه المصنّف.

ص: 362


1- راجع تخريها في ص 360 الهامش 3.
2- النهاية، ص 574؛ الخلاف، ج 6، ص 86، المسألة 16.
3- الكافي، ج 1، ص 251، باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 46، ح 192؛ الاستبصار، ج 4، ص 77، ح 285.
4- المقنع، ص 421 الفقيه، ج 3، ص 338، ذيل الحديث 4202.
5- النهاية ص 574.
6- المبسوط، ج 4، ص 679.
7- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 277.
8- كما في غنية النزوع، ج 1، ص 398.
9- الفقيه، ج 3، ص 338 - 339، ح 4202.

الثاني: • أن يشرب لبن خنزيرة، فإن لم يشتد كره، ويستحب استبراؤه بسبعة أيّام، وإن اشتد حرم لحمه ولحم نسله.

إذا وطئ الإنسان حيواناً مأكولاً حرم لحمه ولحم نسله

الثالث: • إذا وطئ الإنسان حيواناً مأكولاً حرم لحمه ولحم نسله. ولو اشتبه بغيره قسم فريقين، وأقرع عليه مرّةً بعد أُخرى حتّى تبقى واحدة.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أنّ الموجود فى هذه الروايات أنّها تغذّى هذه المدة من غير تقييد بالعلف الطاهر. وإنّما تظهر فائدته لو اعتبرنا الجلل بأكل مطلق النجاسة؛ ليكون الاستبراء بضدّه، أمّا إذا اعتبرناه بالعذرة لا غير فينبغي - حيث لا نصّ على التعيين - أن يعتبر فيه علفها بغيرها ممّا لا يحصل به الجلل لیزول به معناه.

وفي القواعد استشكل في اعتبار العلف الطاهر بالأصالة أو بالفعل(1). وفي الكلّ رجوع إلى غير المرجع، إلّا أنه لا معدل عن المشهور.

قوله: «أن يشرب لبن خنزيرة» إلى آخره.

مستند هذا الحكم أخبار كثيرة (2) لا تخلو من ضعف في السند، إلّا أنه لا راد لها.

والمراد باشتداده أن ينبت عليه لحمه، ويشتدّ عظمه وقوّته.

والمراد باستبرائه أن يعلف بغيره في المدة المذكورة. ولو كان في محلّ الرضاع أُرضع من حيوان محلّل كذلك. وهكذا ورد مفصلاً في رواية السكوني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).

قوله: «إذا وطئ الإنسان حيواناً مأكولاً حرم لحمه ولحم نسله» إلى آخره.

إطلاق الإنسان يشمل الكبير والصغير، والمنزل وغيره. وكذلك الحيوان يشمل الذكر والأُنثى، ذا الأربع وغيره.

ص: 363


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 325. بدون كلمة: «بالفعل».
2- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 161 وما بعدها، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
3- الكافي، ج 6، ص 250، باب الحمل والجدي يرضعان من لبن الخنزيرة، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 44 - 45. ح 186 : الاستبصار، ج 4، ص 76. ح 280.

-------------------------------------------------------------------

لكنّ الرواية وردت بنكاح البهيمة(1)، وهي لغة اسم لذات الأربع من حيوان البحر والبرّ(2). فینبغي أن يكون العمل عليه؛ تمسّكاً بالأصل في موضع الشكّ.

ويحتمل العموم؛ لوجود السبب المحرم؛ وعدم الخصوصيّة للمحلّ. وهو الذي يشعر به إطلاق كلام المصنّف وغيره(3).

ولا فرق في ذلك بين العالم بالحكم والجاهل.

وبقي في المسألة بحث آخر، وأحكام مترتبة على هذا الفعل، يأتي الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى في باب الحدود(4).

ثمّ إن علم الموطوء بعينه اجتنب وسرى إلى نسله. وإن اشتبه فالمروي أنّه يقسّم ما وقع فيه الاشتباه نصفين، ثمّ يقرع بينهما، فمن أخرجته القرعة بأنها فيه قسم نصفين، وأقرع بينهما كذلك إلى أن تبقى واحدة فتذبح وتحرق، وحلّ الباقي(5).

وبمضمون الرواية عمل الأصحّاب، مع أنّها لا تخلو من ضعف وإرسال؛ لأنّ راويها محمّد بن عيسى عن الرجل، ومحمّد بن عيسى مشترك بين الأشعري الثقة(6) واليقطيني وهو ضعيف(7)، فإن كان المراد بالرجل الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)- كما هو الغالب - فهي - مع ضعفها باشتراك الراوي بين الثقة وغيره - مرسلة؛ لأنّ كلا الرجلين لم يدرك الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإن أريد به غيره، أو كان مبهماً كما هو مقتضى لفظه - فهي مع ذلك مقطوعة.

ولو لم يعمل بها، فمقتضى القواعد الشرعيّة أن المشتبه فيه إن كان محصوراً حرم الجميع

ص: 364


1- الكافي، ج 1، ص 259، باب أنه لا يحلُّ لحم البهيمة التي تنكح. ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 47، ح 196.
2- لسان العرب، ج 12، ص 92، «بهم».
3- السرائر، ج 3، ص 98.
4- يأتي في ج 12، ص 246 وما بعدها.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 43، ح 182.
6- رجال النجاشي، ص 338، الرقم 905.
7- الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 402، الرقم 612.
لو شرب شيء من الحيوان خمراً

• ولو شرب شيء من هذه الحيوانات خمراً لم يحرم لحمه، بل يغسل ويؤكل، ولا يؤكل ما في جوفه.

ولو شرب بولاً لم يحرم، ويغسل ما في بطنه ويؤكل.

-------------------------------------------------------------------

وإن كان غير محصور جاز أكله إلى أن تبقى واحدة، كما مر في نظائره.

وعلى تقدير العمل بالرواية المذكورة كما هو المشهور - فيعتبر في القسم كونه نصفين كما ذكر فيها، وإن كان كلام المصنّف: «فريقين» أعمّ منه.

ثم إن كان العدد زوجاً فالتنصيف حقيقة ممكن، وإن كان فرداً اغتفر زيادة الواحدة في أحد النصفين وكذا بعد الانتهاء إلى عدد فرد كثلاثة.

قوله: «ولو شرب شيء من هذه الحيوانات خمراً لم يحرم لحمه» إلى آخره.

مستند الأوّل رواية أبي جميلة عن زيد الشحام، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال في شاة شربت خمراً حتّى سكرت ثمّ ذبحت على تلك الحال، قال: «لا يؤكل ما في بطنها»(1).

ومستند الثاني رواية موسى بن أكيل، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في شاة شربت بولاً ثمّ ذبحت فقال: «يغسل ما في جوفها ثمّ لا بأس به»(2).

والروايتان ضعيفتان والثانية مرسلة. وليس فى الأولى غسل اللحم، لكنّهما متأدّيتان بالنظر؛ من حيث إنّ الخمر لطيف صالح للغذاء والنفوذ في البدن، فإذا ذبحت بعد شربه قبل أن يستحيل نجس اللحم لنفوذه فيه، بخلاف البول، فإنّه لمّا لم يصلح للتغذية لم ينفذ في اللحم، فلا يقدح في طهارته. نعم، بوصوله إلى الأمعاء ينجسها فيغسل.

وفي الحكمين معاً نظر، ومن ثمّ حكم ابن إدريس بكراهة اللحم في الأولى خاصّة(3).

ص: 365


1- الكافي، ج 1، ص 251، باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 43، ح 181.
2- الكافي، ج 1، ص 251. باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 5؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 47، ح 194؛ الاستبصار، ج 4، ص 78، ح 287.
3- السرائر، ج 3، ص 97.

• ويحرم الكلب والسنّور، أهليّاً كان أو وحشيّاً.

• ويكره أن يذبح بيده ما ربّاه من النعم.

-------------------------------------------------------------------

وهذا كلّه إذا كان ذبحها عقيب الشرب بغير فصل أو قريباً منه، أما لو تراخي بحيث يستحيل المشروب لم يحرم، ونجاسة البواطن حيث لا يتميّز فيها عين النجاسة منتفية.

قوله: «ويحرم الكلب والسنّور، أهليّاً كان أو وحشيّاً».

أكثر أهل الإسلام على تحريم أكل الكلب والأصل فيه ما روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن أكل كلّ ذي ناب من السباع ومخلب من الطير (1)؛ ولأنّه نجس العين؛ لوجوب الغسل من ولوغه، فلا يحلّ أكله، كما لا يحل أكل غيره من النجاسات وخالف مالك في الأمرين معاً(2).

والرواية دلّت على تحريم الهرّ أيضاً، إنسياً كان أم وحشيّاً؛ لأنّه ذو ناب يتقوى به. وفي بعض الأخبار أنّه سبع (3).

وخالف فيه مالك(4) أيضاً وبعض الشافعية وآخرون منهم فرّقوا بين الإنسية والوحشيّة. فأحلّوا الوحشيّة دون الإنسيّة(5)، قياساً على حلّ الحمار الوحشي دون الإنسي. وهما ممنوعان.

قوله: «ويكره أن يذبح بيده ما ربّاه من النعم».

مستند الكراهة النهي عنه في رواية محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال في جملة

ص: 366


1- الكافي، ج 6، ص 245، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ج 3، وص 247، باب آخر منه وفيه ما يعرف به...، ح 1 ؛ الفقيه، ج 3، ص 322، ح 4150؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 16 - 17، ح 65، وص 38، ح 162.
2- راجع بداية المجتهد، ج 1، ص 490: وحكاه عنه الماوردي في الحاوي الكبير، ج 15، ص 135 بقوله: وحلّل لحوم الكلاب.
3- الكافي، ج 3، ص 9 باب الوضوء من سؤر الدواب والسباع والطير، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 227، ح 655: الاستبصار، ج 1، ص 18 - 19، ح 39.
4- لقول مالك راجع بداية المجتهد، ج 1، ص 489.
5- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 140: والمجموع شرح المهذّب، ج 9، ص 8؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 539.
ما يؤكل من الوحشية، وما يحرم منها

• ويؤكل من الوحشية البقر والكباش الجبلية، والحمر والغزلان واليحامير.

ويحرم منها ما كان سبعاً. وهو ما كان له ظفر أو ناب يفرس به، قويّاً كان كالأسد والنمر والفهد والذئب أو ضعيفاً كالثعلب والضبع وابن آوى.

-------------------------------------------------------------------

حديث: «لا تربيّنّ شيئاً ثمّ تذبحه»(1).

وهذه المسألة كانت بباب الذباحة أولى، فإنّ المكروه من ذلك هو الفعل لا الحيوان، فلا مدخل له بالأطعمة.

قوله « ويؤكل من الوحشيّة البقر، والكباش الجبليّة» إلى آخره.

لا خلاف بين المسلمين في حلّ الخمسة المذكورة، وإنّما الكلام في غيرها.

ومستند تحريم السباع مطلقاً ما تقدّم من النهي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن أكل كلّ ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير(2).

والمراد من ذي الناب الذي يعدو به على الحيوان ويقوى به وهو شامل للضعيف منه والقويّ. فيدخل فيه الكلب والأسد والنمر والفهد والدبّ والقرد والفيل والذئب والثعلب والضبع وابن آوى؛ لأنّها عادية بأنيابها.

وخالف في الجميع مالك، وكره السباع كلّها من غير تحريم(3). ووافقنا أبو حنيفة على تحريم جميع ذلك(4).

وفرّق الشافعية بين ضعيف الناب منها - كالثعلب والضبع(5) وابن آوى - وقوتها، فحرّم الثاني دون الأول(6).

ص: 367


1- الكافي، ج 4، ص 554، باب النوادر، ح 20 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 83، ح 352 مع اختلاف يسير.
2- تقدّم في ص 366.
3- بداية المجتهد، ج 1، ص 489.
4- بدائع الصنائع، ج 5، ص 58.
5- في حاشية «و»: «الضبع - بضمّ الباء - أكثر من إسكانها. (منه رحمه اللّه)».
6- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 137 - 139، وفيه: أما ابن آوى ففي إباحة أكله وجهان؛ وروضة الطالبين، ج 2، ص 538 - 539، وفيه: يحرم ابن آوى... على الأصحّ عند الأكثرين.

• ويحرم الأرنب والضب والحشار كلّها، كالحيّة والفأرة والعقرب والجرذان والخنافس والصراصر وبنات وردان والبراغيث والقمّل.

وكذا يحرم اليربوع، والقنفذ، والوبر، والخزّ، والفنك، والسمّور، والسنجاب والعضاء، واللحكة، وهي دويبة تغوص في الرمل تشبّه بها أصابع العذارى.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ويحرم الأرنب والضب والحشار كلّها» إلى آخره.

تحريم هذه الأشياء كلّها عندنا موضع وفاق؛ ولأنّ الحشار(1) بأجمعها مستخبثة، ومنها ما نص على تحريمه بخصوصه (2)، ومنها ما هي ذات سموم وأبر، فتحرم لما فيها من الضرر.

ووافقنا على تحريمها أجمع أبو حنيفة (3). وأباح الشافعية الضبّ (4)؛ والأرنب بالنصّ(5)، واليربوع باستطابة العرب له على القاعدة السابقة في أوّل الكتاب (6) ولهم في السمّور والسنجاب والفنك وجهان أظهرهما عندهم الحلّ(7)؛ إلحاقاً لها بالثعلب في الاستطابة.

مع أنّه روي عندنا - في الصحيح - عن زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «ما حرم اللّه في القرآن من دابّة إلّا الخنزير ولكنّه النكرة»(8). وبنحو هذا أخذ مالك(9).

ص: 368


1- في حاشية «و»: «الحشار صغار دواب الأرض والخنافس جمع خنفساء بضم أوله مع فتح ثالثه أشهر من ضمّه وبالمدّ، وحكي ضمّ ثالثه مع القصر. (منه رحمه اللّه)».
2- راجع الكافي، ج 6، ص 245 و 246، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح 5 و 14؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 39 - 40، ح 163 و 166.
3- راجع بدائع الصنائع، ج 5، ص 58.
4- في حاشية «و»: «الضبّ حيوان للذكر ذكران وللأنثى فرجان، واليربوع حيوان قصير اليدين جدّاً، طويل الرجلين لونه كلون الغزال والسمّور - بفتح السين وضم الميم المشدّدة - حيوان يشبه السنور. (منه رحمه اللّه)».
5- الحاوي الكبير، ج 15، ص 138 - 139؛ روضة الطالبين، ج 2، ص 538.
6- سبقت في ص 343.
7- الوجيز، ج 2، ص 215، وفيه السمّور والسنجاب روضة الطالبين، ج 2، ص 539.
8- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 43، ح 179.
9- حكاه عنه الماوردي في الحاوي الكبير، ج 15، ص 135.

القسم الثالث في الطير

أصناف الطير المحرّم:
إشارة:

القسم الثالث • الطير والحرام منه أصناف:

الأوّل: ما كان ذا مخلاب قويّ
إشارة:

الأوّل: ما كان ذا مخلاب قوي يعدو به على الطير، كالبازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق أو ضعيف كالنسر والرخمة والبغاث.

-------------------------------------------------------------------

وروى حمّاد بن عثمان - في الصحيح - عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عزوف (1) النفس، وكان يكره الشيء ولا يحرمه، فأتي بالأرنب فكرهها ولم يحرّمها»(2).

وروى أبو بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال كان يكره أن يؤكل من الدوابّ لحم الأرنب والضبّ والخيل والبغال وليس بحرام كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير (3).

وقد قدّمنا في معنى هذه أخبار أخر صحيحة، ولكن عمل الأصحّاب على التحريم.

و الشيخ (رحمه اللّه) حمل التحريم المنفي في هذه الأخبار على التحريم المخصوص(4)، وهو ما اقتضاه ظاهر القرآن(5)، دون مطلق التحريم، ولا يخفى بعد هذا التنزيل.

قوله: «الطير والحرام منه أصناف» إلى آخره.

قد تقدم ما يدلّ على تحريم ما كان له مخلاب - بكسر الميم، وهو الظفر (6) - من الطير(7). كتحريم ذي الناب، وهو عندنا موضع وفاق. ومالك على أصله في حلّه(8).

ص: 369


1- في حاشية «و»: «عزفت نفسي عن الشيء أي زهدت فيه وانصرفت عنه. (منه رحمه اللّه)».
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 43، ح 180.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 42 - 43. ح 177.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 42. ذيل الحديث 176.
5- الأنعام (6) : 145.
6- لسان العرب، ج 1، ص 363، «خلب».
7- تقدّم في ص 366.
8- أحكام القرآن الجصاص، ج 3، ص 28؛ بداية المجتهد، ج 1، ص 490.
حكم الغراب

• وفى الغراب روايتان. وقيل: يحرم الأبقع والكبير الذي يسكن الجبال، ويحلّ الزاغ، وهو غراب الزرع، والغداف وهو أصغر منه يميل إلى الغبرة ما هو.

-------------------------------------------------------------------

والبغات - بتثليث الموحدة وبالمعجمة والمثلثة - طائر أبيض، ويقال: أغبر، دُوَيْنَ الرَخْمَة، بطىء الطيران(1).

وقيل: هو ما عظم من الطير، وليس له مخلاب معقف(2). وقال الفراء: بغاث الطير: شرارها وما لا يصيد(3).

قوله: «وفي الغراب روايتان. وقيل: يحرم الأبقع والكبير الذي يسكن الجبال» إلى آخره.

اختلف الأصحّاب في حلّ الغراب بأنواعه بسبب اختلاف الروايات فيه، فذهب الشيخ في الخلاف إلى تحريم الجميع؛ محتجاً بالأخبار وإجماع الفرقة(4). وتبعه عليه جماعة (5) منهم العلّامة في المختلف(6)، وولده فخر الدين في الشرح(7). وكرهه مطلقاً الشيخ في النهاية وكتابي الحديث(8)، والقاضي (9) والمصنّف في النافع (10).

وفصّل آخرون - منهم الشيخ في المبسوط على الظاهر منه (11) وابن إدريس (12) والعلّامة

ص: 370


1- حياة الحيوان، ج 1، ص 194؛ لسان العرب، ج 2، ص 118، «بغث».
2- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 22 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- حكاه عنه الجوهري في الصحاح، ج 1، ص 274، «بغث».
4- الخلاف، ج 6، ص 85، المسألة،15، وستأتي الأخبار في ص 371.
5- إصباح الشيعة، ص 387؛ الجامع للشرائع، ص 379؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 40.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 308، المسألة 24.
7- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 147.
8- النهاية، ص 577 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 18 - 19، ذيل الحديث 72 و 73؛ الاستبصار، ج 4، ص 66، ذيل الحديث 283.
9- المهذّب، ج 2، ص 429.
10- المختصّر النافع، ص 362.
11- المبسوط، ج 4، ص 678.
12- السرائر، ج 3، ص 103.

-------------------------------------------------------------------

في أحد قوليه(1) - فحرموا الأسود الكبير والأبقع، وأحلّوا الزاغ والغُداف وهو الأغبر الرمادي.

حجّة المحلّلين: رواية زرارة عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أنّه قال: «إن أكل الغراب ليس بحرام، إنّما الحرام ما حرّم اللّه في كتابه، ولكن الأنفس تتنزّه عن كثير من ذلك تقزّزاً»(2).

وفي طريق الرواية أبان، وهو مشترك بين جماعة، منهم أبان بن عثمان، والأظهر أنّه هو، وكان ناووسيّاً(3)، إلّا أنّ العصابة أجمعت على تصحّيح ما يصحّ عنه(4)، وهذا ممّا صحّ سنده عنه.

حجّة المحرّمين مطلقاً صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الغراب الأبقع والأسود أيحلّ أكله؟ فقال: «لا يحلّ شيء من الغربان زاغ ولا غيره»(5). وهو نصّ في الباب، وصحته متّفق عليها.

وأجاب عنه الشيخ في كتابي الحديث بأنّ المراد: أنه لا يحل حلالاً طلقاً، وإنّما يحلّ مع ضرب من الكراهية(6). وحاول بذلك الجمع بين الخبرين.

واعترض باستلزامه الإضمار المخالف للأصل(7). ولا ضرورة إلى الجمع؛ لأنّ هذا أصحّ سنداً فيكون مرجّحاً.

مع أنّا نمنع صحّة الأوّل والإجماع المذكور أو نحمل الخبر الأوّل على نفي التحريم المستند إلى كتاب اللّه كما يظهر، فلا ينافي تحريمه بالسنة.

ص: 371


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 634 الرقم 6239.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 42 - 43، ح 177؛ الاستبصار، ج 4، ص 66، ح 237.
3- اختيار معرفة الرجال، ص 352، ح 660.
4- اختيار معرفة الرجال، ص 375، ح 705.
5- الكافي، ج 6. ص 245، باب جامع في الدواب...، ح 8 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 18 - 19، ح 73؛ الاستبصار، ج 4، ص 65 - 66، ح 236.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 18، ذيل الحديث 73 الاستبصار، ج 4، ص 66، ذيل الحديث 238.
7- غاية المراد، ج 3، ص 37 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
الثاني: ما كان صفيفه أكثر من دفيفه

الثاني: • ما كان صفيفه أكثر من دفيفه فإنّه يحرم. ولو تساويا أو كان الدفيف أكثر لم يحرم.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا المفصّلون فليس لهم عليه رواية بخصوصها، وإن كان في المبسوط قد ادّعى ذلك(1).

ولا يتّجه أن يكون فيه جمعاً بين الأخبار؛ لأنّ كلّاً من الخبرين مصرّح بالتعميم على وجه يدفع الآخر.

نعم، يمكن الاحتجاج له بأنّ الغرابين الأولين من الخبائث؛ لأنهما يأكلان الجيف، والأخيرين من الطيّبات؛ لأنهما يأكلان الحبّ. وبهذا احتجّ من فصّل من العامّة (2).

وابن إدريس استدلّ على تحريم الأوّلين بأنّهما من سباع الطير(3)، بخلاف الأخيرين؛ لعدم الدليل على تحريمهما، فإنّ الأخبار ليست على هذا الوجه حجّة عنده.

قوله: «ما كان صفيفه أكثر من دفيفه فإنّه يحرم» إلى آخره.

المستند قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): كلّ ما دفّ، ودع ما صفّ»(4).

يقال: دفّ الطائر فى طيرانه إذا حرّك جناحيه كأنه يضرب بهما دفّه.

وصف إذا لم يتحرك كما تفعل الجوارح(5).

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد سأله ما يؤكل من الطير؟ قال: «كلّ ما دفّ، ولا تأكل ما صفّ»(6). وفي معناه كثير(7).

ص: 372


1- المبسوط، ج 4، ص 678.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 145 - 146.
3- السرائر، ج 3، ص 103، ولكنه صرّح بتحريم ثلاثة وحلية الزاغ.
4- غريب الحديث الخطابي، ج 3، ص 212 - 213؛ غريب الحديث، ابن الجوزي، ج 1، ص 342؛ تلخي الحبير، ج 4، ص 154، ح 2001.
5- المصباح المنير، ص 104؛ لسان العرب، ج 9، ص 104، «دفف».
6- الكافي، ج 6، ص 247 - 248، باب آخر منه وفيه ما يعرف به ما يؤكل من الطيور وما لا يؤكل، ح : الفقيه، ج 3، ص 328، ح 4149: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 16، ح 63.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 152 - 153، الباب 19 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
الثالث: ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصيّة

الثالث: • ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية فهو حرام. وما له أحدها فهو حلال، ما لم ينص على تحريمه.

-------------------------------------------------------------------

ولمّا كان كلّ واحد من الصفيف والدفيف ممّا لا يستدام غالباً اعتبر منه الأغلب. وإطلاق النص والفتوى باعتبار الطير بالأمرين يقتضي كونهما ضابطاً في الحلّ مستقلاً، يعمل به من غير نظر إلى كونه مجهولاً، بخلاف ما سيأتي من العلامات الثلاثة؛ فإنّه اعتبرها في المجهول.

قوله: «ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية فهو حرام. وما له أحدها فهو حلال، ما لم ينصّ على تحريمه».

نبّه بقوله «ما لم ينص على تحريمه» على أن هذه العلامات إنّما تعتبر في الطائر المجهول، أمّا ما نصّ على تحريمه فلا عبرة فيه بوجود هذه.

والظاهر أنّ الأمر لا يتخلّف، ولا يعرف طير محرم له أحد هذه، ولا محلّل خالٍ عنها. لكنّ المصنّف تبع في ذلك مورد النص، ففي رواية ابن أبي يعفور قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّي أكون في الآجام فيختلف علي الطير فما أكل منه؟ قال: «كُلّ ما دفّ، ولا تأكل ما صفّ» قلت: إنّى أوتى به مذبوحاً، قال: «كل ما كانت له قانصة»(1).

وروى سماعة عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كلّ من طير البرّ ما كان له حوصلة، ومن طير الماء ماكانت له قانصة كقانصة الحمام لا معدة كمعدة الإنسان وكلّ ما صفّ وهو ذو مخلب فهو حرام، والصفيف كما يطير البازي والصقر والحدأة وما أشبه ذلك، وكلّ ما دفّ فهو حلال، والقانصة والحوصلة يمتحن بهما من الطير ما لا يعرف طيرانه وكلّ طير مجهول»(2).

وقد ظهر من هذه الأخبار أنّه لا يعتبر فى الحلّ اجتماع هذه العلامات، بل يكفى أحدها وقد وقع مصرّحاً في رواية ابن بكير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كل من الطير ما كانت له قانصة، أو صيصية، أو حوصلة»(3).

ص: 373


1- الكافي، ج 6، ص 248، باب آخر منه وفيه ما يعرف به...، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 16، ح 64.
2- الكافي، ج 6، ص 247، باب آخر منه، وفيه ما يعرف به...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 16 - 17، ح 65، وفيهما : عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).
3- الكافي، ج 1، ص 248، باب آخر منه، وفيه ما يعرف به...، ج 15 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 17، ج 67.
الرابع: ما يتناوله التحريم عيناً، كالخشّاف والطاوس.
إشارة:

الرابع: • ما يتناوله التحريم عيناً، كالخشّاف والطاوس.

• ويكره الهدهد.

-------------------------------------------------------------------

والحوصلة - بتشديد اللام وتخفيفها - ما يجتمع فيها الحبّ؛ مكان المعدة لغيره(1).

والصيصيّة - بكسر أوله بغير همز - الإصبع الزائدة في باطن رجل الطائر (2) بمنزلة الإبهام من بني آدم؛ لأنّها شوكته ويقال للشوكة صيصية أيضاً.

قوله: «ما يتناوله التحريم عيناً، كالخشاف والطاوس».

الخشّاف - ويقال: الخفّاش - هو الطائر الذي يطير ليلاً، ولا يبصر نهاراً(3). وهو الوطواط أيضاً، وقد تقدّم أنّه مسخ(4).

وكذلك روي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ الطاوس مسخ كان رجلاً جميلاً فكابر امرأة رجل مؤمن فوقع بها، ثمّ راسلته بعد ذلك، فمسخهما اللّه طاوسين أنتى وذكراً، فلا تأكل لحمه ولا بيضه»(5).

قوله: «ويكره الهدهد».

للنهي عنه في الأخبار المحمول على الكراهة، ففي صحيحة عليّ بن جعفر قال: سألت أخي موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الهدهد وقتله وذبحه، فقال: «لا يؤذي ولا يذبح، فنعم الطير هو»(6).

وروى سليمان الجعفري عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن قتل الهدهد والصُرد والصوّام والنحلة»(7).

ص: 374


1- لسان العرب، ج 11، ص 154، «حصل».
2- راجع الصحاح، ج 2، ص 1044؛ ولسان العرب، ج 7، ص 52: والقاموس المحيط، ج 2، ص 319، «صيص».
3- الصحاح، ج 2، ص 1005، «خشف».
4- تقدّم في ص 317.
5- الكافي، ج 6، ص 247، باب جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها، ح 16؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 18، ح 70.
6- الكافي، ج 6، ص 224، باب الهدهد والصرد، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 19، ح 75.
7- الكافي، ج 6، ص 224، باب الهدهد والصرد، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 19، ح 76.
حكم الخُطاف

• وفي الخُطَّاف روايتان، والكراهية أشبه.

-------------------------------------------------------------------

وروي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: «أن في كلّ جناح هدهد مكتوباً بالسريانيّة: آل محمّد خير البريّة»(1).

قوله: «وفي الخطاف روايتان، والكراهية أشبه».

قد اختلفت الرواية في حلّ الخُطَّاف(2) وحرمته، وبواسطته اختلف فتوى الأصحّاب، فذهب الشيخ في النهاية إلى تحريمه (3)، وتلميذه القاضي(4)، وابن إدريس حتّى ادّعى عليه الإجماع(5).

ومستند الشيخ رواية الحسن بن داود الرقّي قال: بينا نحن قعود عند أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ مرّ رجل بيده خطّاف مذبوح، فوثب إليه أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى أخذه من يده، ثمّ دحى به، ثمّ قال: «أعالمكم أمركم بهذا أم فقيهكم؟ لقد أخبرني أبي، عن جدّي، أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نهى عن قتل الستّة: النحلة، والنملة، والضفدع، والصرد، والهدهد، والخطّاف»(6). والنهي عن قتله يدلّ على تحريمه؛ لأنّه لو كان حلالاً لجاز قتله لأجل أكله.

ويضعّف بمنع سند الرواية أولاً، فإنّ الحسن بن داود مجهول، وفي طريقها جهالة بغيره أيضاً(7). وفي الكافي رفعها إلى داود الرقي أو غيره(8)، وهو يدل على اضطراب وتردّد في حالها.

ص: 375


1- الكافي، ج 6، ص 224، باب الهدهد والصرد، ح 1.
2- في حاشية «و»: «الخطّاف - بضمّ الخاء وتشديد الطاء المعروف السنونو [وهو ضربٌ من الطيور القواطع ]. (منه رحمه اللّه)». راجع المعجم الوسيط، ص 245، «خطف».
3- النهاية، ص 577.
4- المهذّب، ج 2، ص 428 - 429.
5- السرائر، ج 3، ص 104.
6- الكافي، ج 1، ص 223، باب الخطاف، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 20، ح 78؛ الاستبصار، ج 4، ص 66، ح 239.
7- في حاشية «و»: «في طريقها إبراهيم بن إسحاق وعلي بن محمّد، والأوّل مجهول والثاني مشترك. (منه رحمه اللّه)».
8- راجع الكافي، ج 1، ص 223، باب الخطّاف، ح 1.

-------------------------------------------------------------------

ومنع دلالتها ثانياً، فإنّ النهي أعمّ من تحريم الأكل، بل الظاهر منه الكراهة؛ بقرينة ما ذكره معه، فإنّ منه ما هو مكروه غير محرّم اتّفاقاً واستعمال المشترك في معنييه، أو اللفظ في حقيقته ومجازه على خلاف الأصل، ومن ثمّ ذهب المصنّف والمتأخّرون إلى الكراهة دون التحريم؛ لأصالة عدمه؛ وعدم دليل صالح عليه.

ويؤيّده موثقة عمار بن موسى عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل يصيب خطافاً في الصحراء، أو يصيده أ يأكله؟ فقال: «هو ممّا يؤكل»، وعن الوبر يؤكل؟ قال: «لا، هو حرام»(1).

وحسنة جميل بن دراج عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن قتل الخطّاف وإيذائهن في الحرم؟ فقال: «لا تقتلهنّ، فإنّي كنت مع علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فرآني أوذيهنّ فقال: يا بني لا تقتلهنّ ولا تؤذهنّ؛ فإنّهنّ لا يؤذين شيئاً» (2). فحكمه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنّهنّ لا يؤذين شيئاً دال على طهارة ذرقهنّ؛ وإلّا لحصل الأذى منهنّ؛ لعموم البلوى بهنّ، وعدم الانفكاك عن ذرقهنّ، خصوصاً في المساجد، وطهارة ذرقهنّ تدلّ على إباحة أكلهنّ.

وفي رواية أخرى لعمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «خرء الخطّاف لا بأس به، هو ممّا يحلّ أكله، ولكن كره أكله؛ لأنّه استجار بك وأولى في منزلك، وكل طير يستجير بك فأجره»(3).

والحقّ أنّ الأخبار من الجانبين قاصرة عن إفادة الحكم، إمّا في السند أو في الدلالة ولكن يدلّ على الحلّ أنّ الخطّاف يدفّ في طيرانه، وقد تقدم في صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): كلّ ما دفٌ، ولا تأكل ما صفّ»(4)، ويبقى باقي الروايات شاهداً، مضافاً إلى الأصل، فالقول بحلّه على كراهية أقوى.

والشيخ (رحمه اللّه) أوّل خبر عمّار الدال على حلّه بقوله: «هو ممّا يؤكل» بإرادة التعجّب من ذلك، دون أن يكون أراد الخبر عن إباحته، وجعله جارياً مجرى قول أحدنا

ص: 376


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 21. ح 84: الاستبصار، ج 4، ص 66، ح 240.
2- الكافي، ج 1، ص 224، باب الخطاف، ح 3.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 80، ح 345، وليس فيه «خرء».
4- تقدّم تخريجها في ص 372، الهامش 6.
المكروه من الطير

• ويكره الفاختة والقبرة، والحبارى. وأغلظ منه كراهية الصرد، والصوام، والشقراق، وإن لم يحرم.

-------------------------------------------------------------------

لغيره إذا رآه يأكل شيئاً تعافه الأنفس هذا شيء يؤكل (1).

وهذا تأويل بعيد لا حاجة إليه؛ لأنّ خبره ليس أولى بالعمل من هذا سنداً ودلالة كما قرّرناه. قوله: «ويكره الفاختة والقُبّرة، والحبارى» إلى آخره.

أمّا كراهة الفاختة فقد روي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّها طائر مشؤوم يقول: فقدتكم فقدتكم»(2).

وأمّا القبرة - بتشديد الباء بغير نون وإثباتها لحن - فقد روى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا تأكلوا القبّرة، ولا تسبوها، ولا تعطوها الصبيان يلعبون بها؛ فإنّها كثيرة التسبيح للّه تعالى، وتسبيحها: لعن اللّه مبغضي آل محمّد»(3). وفي معناها غيرها(4).

وأمّا الحُبارى - بضم الحاء المهملة وفتح الراء - فما وقفت على ما يقتضي كراهتها. وفي التحرير أن به رواية شاذّة(5).

وفي صحيحة عبداللّه بن سنان قال: سأل أبي أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنا أسمع، ما تقول في الحبارى؟ قال: «إن كانت لها قانصة فكل»(6). وهو يشعر بتوقّف في أمرها.

وفي صحيحة كردين المسمعي قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الحباري، قال: «لوددت أنّ عندى منه فأكل منه حتّى امتلئ»(7).

ص: 377


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 21، ذيل الحديث 84؛ الاستبصار، ج 4، ص 67، ذيل الحديث 240.
2- الكافي، ج 6، ص 551 - 552، باب الفاختة والصلصل، ح 3.
3- الكافي، ج 1، ص 225، باب القبرة، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 19، ح 77.
4- الكافي، ج 6، ص 225، باب القبرة، ح 3.
5- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 635 الرقم 6241 وللرواية راجع الكافي، ج 6، ص 313، باب الحومالطير، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 17، ح 69.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 15، ح 59.
7- الفقيه، ج 3، ص 322، ح 4152؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 17 - 18، ح 69.
ما لا بأس به من الطيور

• ولا بأس بالحمام كلّه، كالقماري، والدباسي، والورشان.

• وكذا لا بأس بالحجل، والدرّاج، والقبج، والقطا، والطيهوج، والدجاج، والكَرَوان، والكُركى، والصَعو.

-------------------------------------------------------------------

وعن نشيط بن صالح قال: سمعت أبا الحسن الأوّل (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «لا أرى بأكل الحبارى بأساً، وإنّه جيّد للبواسير ووجع الظهر، وهو ممّا يعين على كثرة الجماع»(1). وكأن نفي البأس يشعر بالكراهة.

فأمّا الصرد والصوّام -كلاهما بضم الصاد - فقد روى سليمان الجعفري عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن قتل الهدهد والصرد والصوّام والنحلة»(2).

ولذلك كانت كراهتها أشدّ من كراهة الفاختة والحبارى؛ إذ ليس في الأوّلين نهي صريح كالآخرين والنهى وإن كان ظاهره التحريم إلّا أن المراد به هنا الكراهة بدليل خارج.

وأمّا الشِقراق - بكسر الشين والقاف وتشديد الراء، وبكسر الشين مع سكون القاف كقرطاس، وبفتح الشين أيضاً - فروى عمّار بن موسى عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن الشِقراق فقال: «كره قتله لحال الحيات» قال: «وكان النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوماً يمشي، فإذا شقراق قد انقض، فاستخرج من خفّه حيّةً»(3).

قوله: «ولا بأس بالحمام كلّه، كالقماري، والدباسي، والورشان».

قد تقدّم في الحجّ أن الحمام جنس يقع على كلّ ذات طوق من الطيور، أو ما عبّ أي شرب الماء بلا مصّ(4)، فيدخل فيه القمري وهو الأزرق والدبسي وهو الأحمر، والورشان وهو الأبيض، والسمام والفواخت وغيرها. ولا خلاف في حلّها بين أهل الإسلام.

قوله: «وكذا لا بأس بالحجل، والدرّاج، والفنج» إلى آخره.

ص: 378


1- الكافي، ج 1، ص 313، باب لحوم الطير، ح 6.
2- تقدّم تخريجها في ص 374، الهامش 6.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 21، ح 85.
4- تقدّم في ج 2، ص 342.
يعتبر في طير الماء ما يعتبر في الطير المجهول

• ويعتبر في طير الماء ما يعتبر في الطير المجهول، من غلبة الدفيف أو مساواته للصفيف، أو حصول أحد الأُمور الثلاثة: القانصة، أو الحوصلة، أو الصيصيّة. فيؤكل مع هذه العلامات وإن كان يأكل السمك.

-------------------------------------------------------------------

هذه المعدودات مع اشتمالها على الصفات الموجبة للحلّ فيما تقدّم - من الدفيف وغيره - ورد بحلّها نصوص(1)، فلهذا خصّها بالذكر.

والدرّاج بضم الدال. والقبج بسكون الباء، قال في الصحاح هو الحجل، فارسي معرّب(2). فكأنّه نوع منه.

والطيهوج من طيور الماء، له ساق طويل.

والدجاج بفتح أوله أفصح من كسره وضمه.

والكروان بالتحريك المفتوح.

والكركي بضم الكاف.

والصعو بفتح الصاد وسكون العين المهملتين.

قوله: «ويعتبر في طير الماء ما يعتبر في الطير المجهول» إلى آخره.

قد تقدّم في إطلاق النصوص باعتبار الطير بما ذكر ما يشمل طير الماء وغيره(3). ويدلّ عليه بخصوصه رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كل من طير الماء ما كانت له قانصة ولا مخلب له»، قال: وسألته عن طير الماء فقال مثل ذلك(4).

وفي موثقة سماعة عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كلّ من طير البرّ ما كان له حوصلة، ومن طير الماء ما كانت له قانصة كقانصة الحمام لا معدة كمعدة الإنسان»(5).

وفي صحيحة نجية بن الحارث قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن طير الماء ما يأكل

ص: 379


1- تقدّم في ص 372، وأيضاً راجع الكافي، ج 6، ص 313، باب لحوم الطير، ح 3 و 5.
2- الصحاح، ج 1، ص 337)، «قَبَجَ».
3- تقدّم في ص 372 وما بعدها.
4- الكافي، ج 1، ص 248، باب آخر منه، وفيه ما يعرف به...، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 17، ح 66.
5- تقدّم تخريجها في ص 373، الهامش 2.
حكم الطير الجلّال

•. ولو اعتلف أحد هذه عذرة الإنسان محضاً لحقه حكم الجلل ولم يحلّ حتّى يستبراً. فتستبرأ البطّة وما أشبهها بخمسة أيّام، والدجاجة وما أشبهها بثلاثة أيّام، وما خرج عن ذلك يستبراً بما يزول عنه حكم الجلل؛ إذ ليس فيه شيء موظّف.

-------------------------------------------------------------------

السمك منه يحلّ؟ قال: «لا بأس به كله»(1).

والمراد بطير الماء نحو البطّ، والإوزّ، والكركي، واللقلق، والطيهوج وغيرها.

قال بعض العلماء: هو أكثر من مائتي نوع (2)، ولا نجد لأكثرها اسماً عند العرب؛ لأنّها لا تكون ببلادهم.

ونبّه المصنّف بتخصيصه على خلاف بعض العامّة؛ حيث ذهب إلى حلّه كلّه كحيوانه (3).

قوله: «ولو اعتلف أحد هذه عذرة الإنسان محضاً لحقه حكم الجلل ولم يحلّ حتّى يستبرأ» إلى آخره.

قد تقدّم الكلام في الجلل وما به يتحقّق(4)، وأن المعتبر من استبرائه ما يزول به اسمه ويذهب نتنه من العلف الطاهر في غير المنصوص على مقداره. وممّا نصّ عليه في الروايات السابقة البطة والدجاجة، ففي رواية مسمع عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «البطّة الجلّالة لا يؤكل لحمها حتّى تربط خمسة أيّام، والدجاجة ثلاثة أيّام»(5).

وفي رواية السكوني عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): الدجاجة الجلّالة لا يؤكل لحمها حتّى تغتذي ثلاثة أيّام، والبطّة الجلّالة خمسة أيّام»(6). وليس فيهما ذكر الشبه لهما، مع ما قد عرفت من حال الروايات.

ص: 380


1- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 322، ح 4151؛ وفي الفقيه، ج 3، ص 322، ح 4151 عن محمّد بن الحارث.
2- حياة الحيوان، ج 1، ص 668 - 669، وفيه: «مائة نوع».
3- راجع روضة الطالبين، ج 2، ص 540 - 541.
4- تقدّم في ص 359.
5- الكافي، ج 6، ص 253، باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 12؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 45. ح 189.
6- الكافي، ج 6، ص 251، باب لحوم الجلالات وبيضهنّ...، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 46، ح 192.

• وتحرم الزنابير والذباب والبقّ.

بيض ما يؤكل من الطير حلال

• وبيض ما يؤكل حلال. وكذا بيض ما يحرم حرام. ومع الاشتباه يؤكل ما اختلف طرفاه، لا ما اتّفق.

-------------------------------------------------------------------

واكتفى الصدوق في المقنع للبطة بثلاثة أيّام(1)، ورواه عن القاسم بن محمّد الجوهري(2).

واعتبر أبو الصلاح (3) وابن زهرة في الدجاجة خمسة أيّام، وجعلا الثلاثة رواية (4).

وحكى في المبسوط فيها سبعة أيّام ويوماً إلى الليل(5). وحكاه الصدوق في المقنع رواية (6).

والمستند في الجميع واه، وينبغي اعتبار أكثر الأمرين من هذه المقدرات وما به يزول الجلل والنتن؛ ليخرج من حقّ الأدلّة. ولو لا اشتهار العمل بالتقدير في الجملة بين الأصحّاب لما أمكن الرجوع إليه في شيء منها لما ذكرنا.

قوله: «وتحرم الزنابير والذباب والبقّ».

لأنها من الخبائث المحرّمة عموماً بنص القرآن (7).

قوله: «وبيض ما يؤكل حلال. وكذا بيض ما يحرم حرام» إلى آخره.

هكذا ورد اعتبار البيض في عدة أخبار، منها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)قال: «إذا دخلت أجمةً فوجدت بيضاً فلا تأكل منه إلّا ما اختلف طرفاه»(8).

وحسنة زرارة قال قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): البيض في الآجام، فقال: «ما استوى طرفاه فلا تأكل وما اختلف طرفاه فكل»(9).

ص: 381


1- المقنع، ص 421؛ وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 299، المسألة 19.
2- الفقيه، ج 3، ص 338 - 339، ح 4203.
3- الكافي في الفقه، ص 277 – 278.
4- غنية النزوع، ج 1، ص 398.
5- المبسوط، ج 4، ص 679. ولم نجد فيه يوماً إلى الليل.
6- المقنع، ص 421: وحكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 299، المسألة 19.
7- الأعراف (7): 157.
8- الكافي، ج 6، ص 248، باب ما يعرف به البيض، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 15، ح 57.
9- الكافي، ج 6، ص 249، باب ما يعرف به البيض، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 16. ح 63.
المجثّمة والمصبورة حرام

• والمجثّمة حرام، وهي التي تجعل غرضاً وترمى بالنشاب حتّى تموت. والمصبورة، وهي التي تجرح وتحبس حتّى تموت.

القسم الرابع في الجامدات المحرّمة

إشارة:

• ولا حصر للمحلل منها، فلنضبط المحرم، وقد سلف منه شطر في كتاب المكاسب.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «والمجثّمة حرام» إلى آخره.

تحريم هاتين راجع إلى تحريم الميتة؛ لأنهما من جملة أفرادها؛ لأنّ المراد منها ما يموت بغير التذكية، سواء استند موته إلى الجرح أم لا.

وأصل الصبر في هذا الباب أن لا يعجل قتل الحيوان، بل يحبس مجروحاً أو غير مجروح حتّى يموت. وخصت المصبورة بزيادة الجرح؛ ليكون سبباً للموت كالذبح، ثمّ يصبر بتركها كذلك إلى أن تموت. ومنه الحديث: «نهى عن قتل شيء من الدوابّ صبراً»(1).

قال أبو عبيد: هو أن يحبس من ذوات الأرواح شيء حياً ثمّ يرمى حتّى يقتل (2). ومنه يقال للرجل يقدّم ويضرب عنقه: قتل صبراً، أي محبوساً ممسكاً على القتل، وكلّ من حبسته ليقتل فهو قتل صبر.

قوله - في الجامدات -: «ولا حصر للمحلل منها، فلنضبط المحرم» إلى آخره.

نبّه بعدم حصرها على الفرق بين المحلل من الحيوان ومن الجامدات، فإنّه من الجامدات غير محصور، ولا ضابط له يرجع إليه، بخلاف المحرم منها، فإنّه منحصر في الأنواع الخمسة وما عداها محلّل مطلقاً.

وأمّا الحيوان فالمحلّل منه منضبط في الجملة ولو بضوابط كليّة، كقوله في الطير: «كُلّ ما دفّ» وكان له أحد الثلاثة. وفي حيوان الماء: «كل ما له فلس من السمك». ومن حيوان البرّ

ص: 382


1- مسند أحمد، ج 4، ص 262، ح 14014؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1550، ح 1959/60؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1064، ح 3188.
2- غريب الحديث، الهروي، ج 1، ص 155.

ونذكر هنا خمسة أنواع:

الأوّل: الميتات المحرّمة
إشارة:

وهي محرمة إجماعاً، نعم، قد يحلّ منها ما لا تحلّه الحياة، فلا يصدق عليه الموت وهو الصوف والشعر والوبر، والريش.

وهل يعتبر فيها الجز؟ الوجه أنّها إن جزت فهي طاهرة، وإن استلّت غسل منها موضع الاتّصال. وقيل: لا يحلّ منها ما يقلع والأوّل أشبه.

والقرن والظلف والسنّ والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى والإنفحة.

-------------------------------------------------------------------

ما ليس له ناب، ولا من الحشار، ولا منصوص على تحريمه.بخصوصه. وهو يؤول إلى كونه ما عدد من المحلل سابقاً؛ إذ لا يعلم من الحيوان غالباً غيره.

والتحقيق أنّ هذا كلّه لا يفيد الحصر، بل هو الغالب؛ ولهذا أسلفنا في أوّل الباب(1) أنّ ما يوجد من الأشياء التي لا نصّ للشارع فيها سواء كانت حيواناً أم غيره - يحكم فيها بالحلّ حيث تكون مستطابة؛ لآية «أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»(2)، إلّا أن الحيوان مضبوط في الجملة زيادة على غيره.

والمراد بالجامدات ما عدا الحيوان الحي، وإن كان أصله الحيوان، كالميتة ومحرّمات الذبيحة، أو نامياً كالنبات أو مائعاً كالخمر، كما يستفاد من الأنواع.

قوله: «الميتات وهى محرّمة إجماعاً. نعم، قد يحلّ منها ما لا تحله الحياة» إلى آخره.

لا خلاف في تحريم الميتة، وهي المصدّر بتحريمها في الآية الكريمة (3). والمراد منها الحيوان بعد خروج روحه بغير التذكية المعتبرة شرعاً، وأجزاؤه التي تحلّها الحياة.

وعلى هذا لا يفتقر إلى استثناء الجراد والسمك؛ لأنّ ميتته بغير التذكية محرّمة. وإطلاق

ص: 383


1- سبق في ص 343 وما بعدها.
2- المائدة (5): 4 و 5.
3- المائدة (5): 3.

-------------------------------------------------------------------

النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليهما الميتة(1) باعتبار التذكية المشهورة، وهي الذبح ومن لا يعتبر فيهما تذكية من العامّة (2) نظر إلى هذا الإطلاق.

أجزاء الميتة التي لا تحلّها الحياة

وأما أجزاء الميتة التي لا تحلّها الحياة فهي طاهرة يحلّ استعمالها. وهي عشرة متّفق عليها، وحادي عشر مختلف فيه. وهي الصوف والشعر والوبر، والريش، بشرط الجزّ وغسل موضع الاتصال والعظم والظلف، والسنّ، والقرن، والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى الصلب، والإنفحة - بكسر الهمزة وفتح الفاء - وهي كرش الجدي قبل أن يأكل(3)، أو اللبن المنعقد في كرشه(4)، على اختلاف تفسير أهل اللغة له.

فعلى الثاني هو ممّا لا تحلّه الحياة، فيناسب ذكره مع الباقي.

وعلى الأوّل هو مستثنى من الميتة.

وعلى التقديرين فاللبن المذكور طاهر وإن جاور الميتة؛ للنص عليه في أخبار كثيرة، منها صحيحة زرارة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الإنفحة تخرج من الجدي الميّت، قال: «لا بأس به». وفيها: قلت: والصوف والشعر وعظام الفيل والبيض تخرج من الدجاجة؟ فقال: «كلّ هذا لا بأس به»(5).

والبيض فيها وإن كان مطلقاً إلّا أنّه مقيّد في غيرها بما إذا اكتسى القشر الغليظ (6).

ص: 384


1- مسند أحمد، ج 2، ص 230، ح 5690؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1101 - 1102، ح 3314: السنن الكبرى، البيهقي، ج 1، ص 384، ح 1197.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 15، ص 59 والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 42، المسألة 7756: وروضة الطالبين، ج 2، ص 508.
3- الصحاح، ج 1، ص 413 لسان العرب، ج 2، ص 624، «نفح».
4- حكاه الزبيدي في تاج العروس، ج 4، ص 238، «نفح» عن ابن درستويه من كتاب شرح الفصيح.
5- الفقيه، ج 3، ص 342، ح 4215؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 76، ح 324؛ الاستبصار، ج 4، ص 89، ح 339.
6- الكافي، ج 6، ص 258، باب ما ينتفع به من الميتة...، ح،5، وفيه: «اكتسب الجلد»؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 76، ح 322.

• وفي اللبن روايتان إحداهما الحلّ، وهي أصحهما طريقاً. والأشبه التحريم؛ لنجاسته بملاقاة الميت.

-------------------------------------------------------------------

والقول بأنه يعتبر في الحكم بطهارة الشعر وأخويه الجز للشيخ في النهاية(1). والأصحّ ما اختاره المصنّف والأكثر من عدم اشتراطه مع طهارة موضع الاتّصال؛ لكونه ممّا لا تحلّه الحياة، وإن كان له نموّ ومشابهة للحيّ، وعملاً بعموم النصّ(2).

قوله: «وفي اللبن روايتان إحداهما الحلّ» إلى آخره.

هذا هو الحادي عشر ممّا لا تحلّه الحياة من الميتة المختلف في طهارته، فذهب الشيخ (3) وأكثر المتقدمين وجماعة من المتأخّرين(4) - منهم الشهيد (5)- إلى أنه طاهر للنصّ على طهارته في الروايات الصحيحة(6)، فيكون مستثنىً من ملاقاة المائع للنجس كما استثني الإنفحة منها صحيحة(7)، زرارة السابقة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفيها: قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال: «لا بأس به»(8).

وذهب ابن إدريس(9) والمصنّف والعلّامة(10) وأكثر المتأخّرين (11) إلى نجاسته؛ لملاقاته الميت، ولرواية وهب بن وهب عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن شاة ماتت

ص: 385


1- النهاية، ص 585.
2- الكافي، ج 6، ص 258، باب ما ينتفع به من الميتة...، ح 3 و 4: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 75 76، ح 320 و 321 و 324، وص 78، ح 332: الاستبصار، ج 4، ص 89 - 90، ح 338 و 339 و 343.
3- النهاية، ص 585.
4- الجامع للشرائع، ص 390 کشف الرموز، ج 2، ص 369.
5- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 26 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
6- منها ما رواه في الكافي، ج 6، ص 258، باب ما ينتفع به من الميتة، ح 4.
7- سبق تخريجها في ص 384 الهامش 5.
8-
9- السرائر، ج 3، ص 112.
10- مختلف الشيعة، ج 8، ص 334، المسألة 37.
11- إيضاح الفوائد، ج 4 ص 151؛ التنقيح الرائع، ج 4، ص 44 - 45.
إذا اختلط الذكيّ بالميتة

• وإذا اختلط الذكيّ بالميتة وجب الامتناع منه حتّى يعلم الذكي بعينه. وهل يباع ممّن يستحل الميتة؟ قيل: نعم. وربما كان حسناً إن قصد بيع الذكيّ حسب.

-------------------------------------------------------------------

فحلب منها لبن، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ذلك الحرام محضاً»(1).

والدليل الأوّل لا يخلو من مصادرة. والرواية ضعيفة السند جدّاً، فإن وهب الراوي ضعيف، قال النجاشي: إنّه : كذّاب له أحاديث مع الرشيد في الكذب (2)؛ فلذلك قال المصنّف: «إن رواية الحلّ أصحهما طريقاً».

ولا يخلو مع ذلك من تجوز؛ لأنّ رواية النجاسة لا تشارك رواية الحلّ في أصل الصحة حتى تفضّل عليها فيها.

قوله: «وإذا اختلط الذكيّ بالميتة وجب الامتناع منه حتّى يعلم الذكيّ بعينه» إلى آخره.

لا إشكال في وجوب الامتناع منه لوجوب اجتناب الميت ولا يتمّ إلّا باجتناب الجميع لأنّ الفرض كونه محصوراً؛ ولعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال»(3).

والقول ببيعه على مستحلّ الميتة للشيخ في النهاية(4)، وتبعه ابن حمزة(5) والعلّامة في المختلف(6)، ومال إليه المصنّف (رحمه اللّه) مع قصده لبيع الذكيّ.

والمستند صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : سمعته يقول: «إذا اختلط الذكيّ بالميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة»(7).

وحسنة الحلبي أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر، فكان يدرك المذكّى

ص: 386


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 77 - 76، ح 325؛ الاستبصار، ج 4، ص 89، ح 340.
2- رجال النجاشي، ص 430 الرقم 1155.
3- السنن الكبرى البيهقي، ج 7، ص 275، ح 13969؛ الدرر المنتثرة، ص 239، ح 376.
4- النهاية، ص 586.
5- الوسيلة، ص 362.
6- مختلف الشيعة، ج 8، ص 337، المسألة 39.
7- الكافي، ج 6، ص 260، باب اختلاط الميتة بالذكيّ، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 48، ح 199.

-------------------------------------------------------------------

منها فيعزله ويعزل الميتة، ثمّ إنّ الميّت والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه؛ فإنّه لا بأس به»(1).

ومنع ابن إدريس من بيعه والانتفاع به مطلقاً؛ لمخالفة الرواية لأصول المذهب في جواز بيع الميتة ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرم ثمنه»(2).

والمصنّف (رحمه اللّه) وجه الرواية بما إذا قصد به بيع المذكى حسب، فلا يكون منافياً لأصول المذهب.

ويشكل بأنه مع عدم التمييز يكون المبيع مجهولاً، فلا يمكن إقباضه، فلا يصحّ بيعه منفرداً.

وأجاب في المختلف بأنه ليس بيعاً حقيقياً، بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه، فكان سائغاً، وإنّما أطلق عليه اسم البيع المشابهته له في الصورة، من حيث إنّه بذل مال في مقابلة عوض(3).

ويشكل بأنّ مستحلّ الميتة أعمّ ممّن يباح ماله؛ إذ لو كان ذمّيّاً كان ماله محترماً. فلا يصحّ إطلاق القول ببيعه كذلك على مستحلّ الميتة.

والأولى إما العمل بمضمون الرواية لصحتها، أو اطراحها لمخالفتها للأصل.

ومال الشهيد في الدروس إلى عرضه على النار واختباره بالانبساط والانقباض(4)، كما سيأتي في اللحم المطروح المشتبه(5).

ص: 387


1- الكافي، ج 1، ص 260، باب اختلاط الميتة بالذكيّ، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 47 - 48، ح 198.
2- السرائر، ج 3، ص 113؛ وللرواية راجع سنن الدارقطني، ج 2، ص 574، ح 20/2778؛ ومسند أحمد، ج 1، ص 483، ح 2673؛ وسنن أبي داود، ج 3، ص 280، ح 3488؛ والسنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 22، ح 11051.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 337، المسألة 39.
4- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 25 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
5- يأتي في ص 420 - 421.
كلّ ما أبين من الحي فهو ميتة

• وكُلّ ما أُبين من حي فهو ميتة يحرم أكله واستعماله. وكذا ما يقطع من أليات الغنم، فإنّه لا يؤكل، ولا يجوز الاستصباح به بخلاف الدهن النجس بوقوع النجاسة.

-------------------------------------------------------------------

ويضعّف - مع تسليم الأصل - ببطلان القياس مع وجود الفارق، وهو أنّ اللحم المطروح يحتمل كونه بأجمعه مذكّى وكونه غير مذكى فكونه ميتةً غير معلوم بخلاف المتنازع؛ فإنّه مشتمل على الميتة قطعاً، فلا يلزم من الحكم في المشتبه تحريمه كونه كذلك في المعلوم التحريم.

قوله: «وكُلّ ما أُبين من حي فهو ميتة يحرم أكله واستعماله» إلى آخره.

كما يحرم أكل لحم الميتة يحرم الانتفاع بها واستعمالها بوجوه الانتفاع؛ لعموم قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ»(1)، فإنّ التحريم المضاف إلى الأعيان غير مراد قطعاً؛ لأنّ متعلّقه أفعال المكلّفين، فيكون المراد تحريم جميع وجوه الانتفاع؛ لأنّه أقرب المجازات إلى الحقيقة حيث لا تكون مرادة، بخلاف ما لو جعل المراد تحريم أكلها خاصّة أو بيعها أو غير ذلك من الأمور الجزئية.

وقيل: إن متعلّق التحريم في ذلك هو الأكل(2)؛ لأنّه المتبادر ولأنّه أعظم المقاصد منها، كما أنّ المراد بقوله تعالى: «حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» (3) تحريم وطئهنّ.

وقيل: إنّ الآية مجملة في الدلالة لذلك، فلا تكون دليلاً في العموم.

وما يُبان من الحيّ في حكم الميتة، ومنه أليات الغنم.

وقد دلّ عليها بخصوصها رواية أحمد بن أبي نصر عن الكاهلي قال : سأل رجل أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنا عنده عن قطع أليات الغنم، فقال: «لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك».

ص: 388


1- المائدة (5): 3.
2- الطبرسى في مجمع البيان، ج 3، ص 157؛ ذيل الآية، قال: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» أي حرّم عليكم أكل الميتة.
3- النساء (4): 23.
الثاني: المحرّمات من الذبيحة

الثاني: • المحرّمات من الذبيحة خمس : الطحال، والقضيب، والفرث، والدم، والأُنثيان.

وفي المثانة والمرارة والمشيمة تردّد أشبهه التحريم؛ لما فيها من الاستخباث أما الفرج، والنخاع، والعلباء، والغدد، وذات الأشاجع، وخرزة الدماغ والحدق، فمن الأصحّاب من حرمها، والوجه الكراهية.

-------------------------------------------------------------------

ثمّ قال: «إنّ في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به»(1). وفي معناها غيرها(2).

والاستصباح به من أنواع الاستعمال فيحرم وخروج الدهن النجس بنجاسة عرضية عن ذلك بنص خاصّ (3) دلّ على جواز الاستصباح به لا يوجب تعديته إلى الميتة؛ لوجود الفارق، والاقتصار فيما خالف الأصل على مورده.

قوله: «المحرّمات من الذبيحة خمس» إلى آخره.

لا خلاف في تحريم الدم من هذه المذكورات. وفي معناها الطحال؛ لأنّه مجمع الدم الفاسد. وإنّما الكلام في غيره من هذه المعدودات، فالشيخ في النهاية حكم بتحريم جميع ما ذكر(4) إلّا المثانة، فإنّه لم يتعرّض لها. ووافقه ابن إدريس وزاد المثانة(5). وتبع الشيخ على ذلك جماعة (6).

ومستند التحريم رواية ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:

ص: 389


1- الكافي، ج 6، ص 254 - 255، باب ما يقطع من أليات الضأن...،ح 1: الفقيه، ج 3، ص 329، ح 4179؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 78، ح 330.
2- الكافي، ج 6، ص 255، باب ما يقطع من أليات الضأن...، ح 2 و 3.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 17، ص 99 وما بعدها الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.
4- النهاية ص 585.
5- السرائر، ج 3، ص 111.
6- المهذّب، ج 2، ص 441، ولم يذكر الدم والمثانة الوسيلة، ص 361؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 329؛ الجامع للشرائع، ص 389، ولم يذكر ذات الأشاجع الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 26 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).

-------------------------------------------------------------------

«لا تؤكل من الشاة عشرة أشياء: الفرث والدم والطحال، والنخاع، والعلباء، والغدد، والقضيب، والأنثيان، والحياء، والمرارة»(1).

ورواية إسماعيل بن مرار عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «لا يؤكل ممّا يكون في الإبل والبقر والغنم وغير ذلك ممّا لحمه حلال الفرج بما فيه ظاهره وباطنه، والقضيب، والبيضتان، والمشيمة وهو موضع الولد، والطحال؛ لأنّه دم، والغدد مع العروق، والنخاع الذي يكون في الصلب، والمرارة، والحدقة، والخرزة التي تكون في الدماغ، والدم»(2). وفي معناهما روايات أخر(3)، وكلّها ضعيفة السند.

و تحريم ما ذكر مجتمع من جملتها؛ فلذلك لم يحكم المصنّف بمضمونها؛ لقصورها عن إفادة التحريم، فيرجع إلى الأدلة العامّة. وقد علمنا منها تحريم الدم(4)، والخبائث(5) وتحليل الطيّبات(6)، فما كان من هذه خبيثاً يحرم لذلك، وهو الخمسة التي صدر بها المصنّف جازماً بها.

وفي معناها الثلاثة التي نقل فيها الخلاف واختار تحريمها، وهي المثانة والمرارة والمشيمة، وعلّل تحريمها بالاستخباث إشارة إلى ما ذكرناه من عدم دليل صالح على تحريمها بالخصوص بل ما دلّ على تحريم الخبائث والباقية لا يظهر كونها من الخبائث، فتحريمها ليس بجيد. نعم، ينبغي الحكم بالكراهة؛ لما ذكر من الروايات فإنّها كافية في إثبات الكراهة، للتسامح في دليلها.

ص: 390


1- الكافي، ج 6، ص 254، باب ما يؤكل من الشاة وغيرها، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 74. ح 316.
2- الكافي، ج 1، ص 254، باب ما يؤكل من الشاة وغيرها، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 74 - 75، ح 317 بتفاوت يسير.
3- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 171 - 177، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
4- المائدة (5): 3.
5- الأعراف (7): 157.
6- المائدة (5): 4.

• وتكره الكلى، وأُذنا القلب، والعروق.

-------------------------------------------------------------------

ووافقه العلّامة في المختلف والتحرير(1)، وزاد في المحرّم الفرج.

وفي القواعد (2) وافق الشيخ على تحريم الجميع من غير نقل خلاف فيها.

والأقوى ما اختاره المصنّف من الاقتصار على تحريم المستخبث منها.

والمراد بذات الأشاجع أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكفّ. والمراد منها في الحيوان ما جاوز الظلف من الأعصاب ونحوها.

وبخرزة الدماغ المخ الكائن في وسط الدماغ، يخالف لونها لونه، وهي بقدر الحمّصة، تميل إلى الغبرة.

والنخاع - مثلث النون - الخيط الأبيض في وسط فقار الظهر (3) ينظم خرزة، وهو الوتين. ومفهوم الباقي ظاهر.

قوله: «وتكره الكُلى، وأذنا القلب والعروق».

علّل في بعض الأخبار كراهة الكلى بأنها مجمع البول(4)، وفي مرفوعة أبي يحيى الواسطي، أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) نهى القصابين عن بيع سبعة أشياء، وعد منها آذان الفؤاد(5).

وقد تقدّم النهي عن أكل العروق في جملة ما ذكر في خبر إسماعيل بن مرار(6).

ولا وجه لإفراد هذين من المذكورات سابقاً؛ لأنّها مذكورة معها في الأخبار، فحمل النهي فيها على الكراهة دون غيرها لا وجه له. وضعف السند يمنع تحريم الجميع عدا ما استثني.

ص: 391


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 333، المسألة 36؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 639 - 640، الرقم 6255.
2- قواعد الأحكام، ج 3، ص 329.
3- الصحاح، ج 3، ص 1288 لسان العرب، ج 8، ص 348، «نخع».
4- الكافي، ج 6، ص 254، باب ما لا يؤكل من الشاة وغيرها، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 75، ح 318.
5- الكافي، ج 1، ص 253، باب ما لا يؤكل من الشاة وغيرها، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 74، ح 315.
6- تقدّم تخريج خبره في ص 390، الهامش 2.

• ولو شوي الطحال مع اللحم ولم يكن مثقوباً لم يحرم اللحم. وكذا لو كان اللحم فوقه، أما لو كان مثقوباً وكان اللحم تحته حرم.

الثالث: الأعيان النجسة محرّمة
إشارة:

الثالث: • الأعيان النجسة كالعذرات النجسة، وكذا كلّ طعام مزج بالخمر أو النبيّذ المسكر أو الفقّاع وإن قلّ، أو وقعت فيه نجاسة وهو مائع كالبول،

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو شوي الطحال مع اللحم ولم يكن مثقوباً لم يحرم اللحم» إلى آخره.

هذا التفصيل مشهور بين الأصحّاب، ذكره الشيخ (1) وغيره(2).

و مستنده رواية عمار بن موسى عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سئل عن الطحال يحلّ أكله؟ قال: «لا تأكله فهو دم»، قلت: فإن كان الطحال في سفود مع لحم وتحته خبز - وهو الجوذاب - يؤكل ما تحته؟ قال: «نعم، يؤكل اللحم والجوذاب ويرمى بالطحال؛ لأنّ الطحال في حجاب لا يسيل منه، فإن كان الطحال مشقوقاً أو مثقوباً فلا تأكل ممّا يسيل عليه الطحال»(3).

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند إلّا أنّه لا بأس بالعمل بمضمونها؛ لموافقتها الظاهر من أن الطحال يسيل دمه من الحرارة ويشرب منه ما تحته.

قوله: «الأعيان النجسة كالعذرات النجسة» إلى آخره.

لا خلاف في تحريم أكل النجس، سواء كانت نجاسته أصليّة كالعذرة النجسة، أم بالعرض كالطعام الممتزج بشيء من النجاسات كالخمر وغيره من المسكرات والفقّاع في حكمها عندنا وإن لم يسكر.

ولا فرق في تحريمه بذلك بين القليل منه والكثير؛ لاشتراك الجميع في المقتضي وهو النجاسة.

والضمير في قوله «وهو مائع» يعود إلى الطعام. والمراد أنّ الطعام المائع إذا وقعت فيه نجاسة - من أيّ النجاسات كان - حرام أكله؛ لتنجّسه أجمع بها وإن كثر، بخلاف ما إذا كان الطعام

ص: 392


1- النهاية، ص 585.
2- السرائر، ج 3، ص 112؛ الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 26 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- الكافي، ج 6، ص 262، باب اختلاط الحلال بغيره في الشيء، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 80 - 81، ح 345.
نجاسة ما باشره الكفّار

• أو باشره الكفّار وإن كانوا أهل ذمّة، على الأصحّ.

-------------------------------------------------------------------

جامداً، فإنه لا ينجس منه إلّا ما خالطته النجاسة فتكشط ويرمى ما حولها ولا ينجس الباقي.

وقوله «كالبول» مثال للنجاسة الواقعة. ولا فرق فيها بين المائع كالبول وغيره، وإن كانت العبارة قد توهم خلاف ذلك.

قوله: «أو باشره الكفّار وإن كانوا أهل ذمّة على الأصحّ».

نجاسة الكافر مطلقاً - حربيّاً كان أم أهل ذمّة - هو المشهور بين الأصحّاب، بل ادّعى عليه جماعة (1) - منهم المرتضى (2)، وابن إدريس (3) - الإجماع.

وحجّتهم مع ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»(4). واليهود والنصارى والمجوس مشركون أيضاً.

أمّا المجوس فظاهر؛ لقولهم بإلهين اثنين: النور والظلمة.

وأمّا اليهود والنصارى فلقولهم: إنّ العزير والمسيح ابن اللّه(5)، وقد قال تعالى عقيب حكايته عنهم: «سُبْحَانَهُ عمّا يُشْرِكُونَ» (6).

وحمل الآية على أنّهم ذوو نجس - من حيث اعتقادهم الفاسد، أو من حيث إنّهم لا يجتنبون النجاسات من البول والغائط والخمر والخنزير - خلاف الظاهر ؛ لأنّ الأصل عدم الإضمار، وورود الروايات بنجاستهم عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)(7). وسيأتي ذكر بعضها(8).

ص: 393


1- منهم ابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 44؛ والعلّامة في منتهى المطلب، ج 3، ص 222.
2- الانتصار، ص 88- 89، المسألة 3.
3- السرائر، ج 1، ص 73 و 75: وج 3، ص 124.
4- التوبة (9): 28.
5- راجع سورة التوبة (9): 30.
6- التوبة (9): 31.
7- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 206 - 207، الباب 52 من أبواب الأطعمة المحرّمة، وص 210 - 212، الباب 54 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
8- يأتي في ص 412 وما بعدها.

-------------------------------------------------------------------

وفيه نظر؛ لأنّ النجس كما يطلق على النجاسة المعروفة شرعاً يطلق على المستقذر.

قال الهروي في تفسير الآية: يقال لكلّ مستقذر نجس، فإذا ذكرت الرجس قلت: رِجس نِجس بكسر النون وسكون الجيم(1).

والمستقذر أعمّ من النجس بهذا المعنى، ففي الحديث: «اتقوا هذه القاذورة التي نهى اللّه عنها» (2) وأراد بها فعل القبيح مطلقاً.

وتطلق على الدنيا مطلقاً، وعلى اللفظ السيء. والقاذورة من الرجال الذي لا يبالي ما قال وما صنع. والقاذورة الذي يتقدر الشيء فلا يأكله.

ولمّا رُجم ماعز بن مالك، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «اجتنبوا هذه القاذورة يعني الزنى. ذكر خلاصة ذلك في الغريبين(3).

والمقصود أن النجس يطلق في القرآن وغيره على المتنازع وغيره، كما أن الرجس يطلق على غير النجس كما قال تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ»(4)، مع أن غير الخمر من هذه المعدودات غير نجس، والنجس يؤكد به الرجس.

وهذا وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنّ القائل بطهارتهم - للروايات الآتية (5) - يحمل الآية على ذلك؛ مراعاة للجمع.

والمقصود أنّ هذه الآية ليست صريحةً في النجاسة، بل محتملة لها، وحملها على إضمار «ذو» من هذا القبيل؛ لأنّ به يحصل الجمع بين الأدلة.

ص: 394


1- الغريبين، ج 1، ص 1811، «نجس».
2- الغريبين في القرآن والحديث، ج 5، ص 1515، «قذر»؛ وراجع أيضاً المصنّف، الصنعاني، ج 7، ص 323 ح 13342؛ والمستدرك على الصحيحين، ج 5، ص 347، ح 7689، وص 547، ح 8219؛ والسنن الكبرى البيهقي، ج 8، ص 572، ح 17601.
3- الغريبين في القرآن والحديث، ج 5، ص 1515، «قدر».
4- المائدة (5): 90.
5- يأتي في ص 413 وما بعدها.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا الأخبار فسيأتي أنها مختلفة(1)، ومن ثمّ ذهب ابن الجنيد وابن أبي عقيل إلى عدم نجاسة أسآرهم(2).

فقال ابن الجنيد في كتابه الأحمدي:

ولو تجنّب من أكل ما صنعه من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذا ما صنع في أواني مستحلّي الميتة ومؤاكلتهم، ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم كان أحوط.

وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية حيث قال:

يكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار على طعامه فيأكل معه، فإذا دعاه فليأمره بغسل يديه ثمّ يأكل معه إن شاء(3).

والمتأخّرون عنه فهموا منه ذلك، ومن ثمّ أنكروه عليه.

وقال ابن إدريس: قول شيخنا في نهايته رواية شاذة أوردها شيخنا في نهايته إيراداً لا اعتقاداً(4). ثمّ استدل ابن إدريس بأنهم أنجاس فينفعل ما يباشرونه برطوبة من الأطعمة(5).

وحجّة القائلين بالطهارة عموم قوله تعالى: «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ» (6). وقد تقدّم وجه عمومه(7)، وظاهر أن الطعام ممّا يباشر بالأيدي غالباً. مع أصالة الطهارة، وعدم دلالة الآية السابقة (8) على النجاسة الموجبة للتعدّي صريحاً؛ لاحتمالها غيرها.

ص: 395


1- يأتي في ص 412.
2- لم نعثر على من حكاه عنهما قبل الشهيد، وحكاه أيضاً عن ظاهر ابن الجنيد حسن بن زين الدين العاملي في معالم الدين، ج 1، ص 356؛ والسيد العاملي في مدارك الأحكام، ج 2، ص 295.
3- النهاية، ص 589 - 590.
4- السرائر، ج 3، ص 123؛ وللرواية راجع الفقيه، ج 3، ص 348. ح 4225؛ وتهذيب الأحكام، ج 9، ص 88، ح 373.
5- السرائر، ج 3، ص 124.
6- المائدة (5) : 5.
7- تقدّم في ص 269.
8- التوبة (9): 28.
الرابع: أكل الطين حرام، إلّا تربة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الرابع: • الطين، فلا يحلّ شيء منه عدا تربة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإنه يجوز للاستشفاء، ولا يتجاوز قدر الحمّصة. وفي الأرمني رواية بالجواز. وهي حسنة؛ لما فيها من المنفعة المضطرّ إليها.

-------------------------------------------------------------------

وما اشتهر من أكل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأصحابه طعام المشركين، خصوصاً في غزواتهم واستيلائهم على بلادهم كخيبر وتبوك والشام وغيرها(1)، واشتراطه عليهم ضيافة من مرّ بهم من المسلمين، وغير ذلك ممّا هو متواتر لا يسع إنكاره.

والإجماع الذي ادعوه ممنوع. وكيف يتحقّق في موضع النزاع وقد نبه المصنّف على تحقّق الخلاف بقوله «على الأصحّ»؟! وكون المخالف معلوم النسب، فلا يقدح فيه، قد بيّنّا ما فيه مراراً.

نعم القول بالنجاسة للأكثر.

وأمّا الروايات الواردة في ذلك من الجانبين بطريق الأصحّاب فسيأتي ذكرها (2) حيث بعيد المصنّف هذه المسألة مرّةً أُخرى.

قوله : «الطين، فلا يحلّ شيء منه عدا تربة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإنه يجوز للاستشفاء، ولا يتجاوز قدر الحمّصة » إلى آخره.

أكل الطين - والمراد به ما يشمل التراب والمدر - حرام ؛ لما فيه من الإضرار الظاهر بالبدن. وفي بعض الأخبار أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «من أكل الطين فقد أعان على نفسه»(3).

وفي الصحيح عن إبراهيم بن مهزم عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من انهمك في الطين فقد شرك في دم نفسه»(4).

ص: 396


1- راجع المغازي، الواقدي، ج 1، ص 480؛ وج 2، ص 677 - 678 و 1006؛ والسنن الكبرى، البيهقي، ج 9، ص 101 - 104. ح 17994 و 17998 - 17999 و 18002 و 4 1800 و 18007 - 18008.
2- يأتي في ص 412 ومابعدها.
3- الكافي، ج 6، ص 266، باب أكل الطين، ح 8 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 89، ح 376.
4- الكافي، ج 6، ص 265، باب أكل الطين، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 90، ح 382.

-------------------------------------------------------------------

وروى هشام بن سالم عن أبي عبداللّه قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم من الطين، فحرّم أكل الطين على ذريّته»(1).

وقد استثنى الأصحّاب من ذلك تربة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهي تراب ما جاور قبره الشريف عرفاً، أو ما حوله إلى سبعين ذراعاً، وروي إلى أربعة فراسخ(2).

وطريق الجمع ترتبها في الفضل. وأفضلها ما أخذ بالدعاء المرسوم، وختمها تحت القبّة المقدّسة بقراءة سورة القدر. وروي أنّها «شفاء من كلّ داء، وأمن من كلّ خوف»(3).

واحترز المصنّف (رحمه اللّه) بقوله للاستشفاء بها عن أكلها لمجرد التبرّك، فإنّه غير جائز على الأصحّ.

وإنّما يجوز تناولها للاستشفاء من المرض الحاصل وليكن قدر الحمّصة المعهودة فما دون. وينبغي الدعاء عند تناولها بالمرسوم(4).

وموضع التحريم في تناول الطين ما إذا لم تدع إليه حاجة، فإنّ في بعض الطين خواصّ ومنافع لا تحصل في غيره، فإذا اضطر إليه لتلك المنفعة بإخبار طبيب عارف يحصل الظنّ بصدقه، جاز تناول ما تدعو إليه الحاجة؛ لعموم قوله تعالى: «فَمَنِ أَضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»(5).

وقد وردت الرواية بجواز تناول الأرمني(6)، وهو طين مخصوص يجلب من إرمينيّة يترتّب عليه منافع خصوصاً في زمن الوباء والإسهال وغيره ممّا هو مذكور في كتب الطبّ. ومثله الطين المختوم.

ص: 397


1- الكافي، ج 6. ص 265، باب أكل الطين، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 89، ح 380.
2- كامل الزيارات، ص 472، ح 721.
3- الكافي، ج 6، ص 266، باب أكل الطين، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 89، ح 377.
4- كامل الزيارات، ص 476، ح 725، وص 477. ح 726-727.
5- البقرة (2): 173.
6- طب الأئمّة، ص 65 مكارم الأخلاق، ج 1، ص 362، ح 1182.
الخامس: السموم القاتلة محرّمة

الخامس: • السموم القاتلة قليلها وكثيرها.

أمّا ما لا يقتل القليل منها، كالأفيون أو السقمونيا في تناول القيراط والقيراطين إلى ربع الدينار في جملة حوائج المسهل فهذا لا بأس به لغلبة السلامة.

ولا يجوز التخطي إلى موضع المخاطرة منه كالمثقال من السقمونيا، والكثير من شحم الحنظل أو الشوكران، فإنّه لا يجوز؛ لما يتضمن من ثقل المزاج وإفساده.

-------------------------------------------------------------------

وربما قيل بالمنع؛ لعموم ما دلّ على تحريم الطين (1)؛ وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما جعل شفاؤكم فيما حرّم عليكم»(2) ؛ وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا شفاء في محرّم»(3).

وجوابه: أنّ النهي عامّ مخصوص بما ذكر، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا ضرر ولا ضرار»(4). والخبران نقول بموجبهما؛ لأنا نمنع من تحريمه حال الضرورة، والمراد ما دام محرّماً وموضع الخلاف ما إذا لم يخف الهلاك، وإلّا جاز بغير إشكال.

قوله: «السموم القاتلة قليلها وكثيرها» إلى آخره.

مناط تحريم هذه الأشياء الإضرار بالبدن أو المزاج، فما كان من السموم مضرّاً فتناول قليله وكثيره محرّم مطلقاً، سواء بلغ الضرر حدّ التلف أم لا، بل يكفي فيه سوء المزاج على وجه يظهر ضرره

وإن كان ممّا يضر كثيره دون قليله يقيّد تحريمه بالقدر الذي يحصل به الضرر، وذلك كالأفيون والسقمونيا والحنظل ونحوها. والمرجع في القدر المضرّ إلى ما يعلم بالتجربة أو یخبر به عارف يفيد قوله الظنّ.

ص: 398


1- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 220 - 225، الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
2- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 8، ح 19679 و 19680؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 74. ح 1792.
3- في طب الأئمّة، ص 32 هكذا: «إنّ اللّه لم يجعل في شيء ممّا حرمه دواء ولا شفاء»؛ وورد الحديث بعينه في عوالي اللآلي، ج 2، ص 149، ح 417.
4- الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4: الفقيه، ج 3، ص 76، ح 3371؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 164، ح 727.

القسم الخامس في المائعات المحرّمة

الأوّل: الخمر وكلّ مسكر والفقّاع
إشارة:

والمحرم منها خمسة:

الأوّل: • الخمر، وكل مسكر كالنبيّذ، والبتع، والفضيخ، والنقيع والمزر.

-------------------------------------------------------------------

وبالجملة فمرجعه إلى الظنّ به ولا يتقدر بما ذكره المصنّف من القيراط والقيراطين؛ لأنّ الطبيب قد يصلحه على وجه لا يضر منه ما هو أزيد من ذلك، حتّى لو فرض شخص لا يضره السمّ لم يحرم عليه تناوله مطلقاً.

قوله: «الخمر وكلّ مسكر» إلى آخره.

تحريم الخمر موضع وفاق بين المسلمين حتّى [أنّه](1) يقتل مستحلّه؛ لثبوت تحريمه في دين الإسلام ضرورةً.

ويلحق به في التحريم كلّ ما أسكر ؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كلّ شراب أسكر فهو حرام»(2)، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «کل مسکر خمر، وكل خمر حرام»(3).

وروى عليّ بن يقطين - في الصحيح - عن أبي الحسن الماضي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرّمها العاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(4).

وروى عبد الرحمن بن الحجاج - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قال

ص: 399


1- ما بين المعقوفين أثبتناء من الطبعة الحجريّة.
2- مسند أحمد، ج 7، ص 56، ح 23562؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 95، ح 239؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1585، ح 2001؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 328، ح 3682 ؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1123، ح 3386؛ سنن النسائي، ج 8، ص 312. ح 5602 - 5605.
3- مسند أحمد، ج 2، ص 109، ح 4815؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1124، ح 3390.
4- الكافي، ج 6، ص 412، باب أنّ الخمر إنّما حرمت لفعلها، فما فعل فعل الخمر فهو خمر، ج 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 112. ح 486.

• والفقّاع، قليله وكثيره.

-------------------------------------------------------------------

رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبتع من العسل،والمزر من الشعير، والنبيّذ من التمر»(1).

فأطلق على هذه الأشياء اسم الخمر، إما مجازاً لمشاركتها له في الفعل، أو حقيقةً حيث إنّه إنّما سمّي خمراً لمخامرته العقل بالسكر، والمعنى موجود في هذه الأشياء.

والمعتبر في التحريم إسكار كثيره، فيحرم قليله حسماً لمادة الفساد، كما حرم الخلوة بالأجنبيّة لإفضائها إليه.

قوله: «والفقّاع قليله وكثيره».

معطوف على الخمر، أو على كلّ مسكر. والمراد أنه محرم وإن لم يكن مسكراً؛ لورود النصوص بتحريمه من غير تقييد، وفيها: «أنّه خمر مجهول»(2)، و«أنّه الخمر بعينها»(3)، و«أنّ حده حد شارب الخمر»(4).

وتحريمه عند الأصحّاب موضع وفاق. وأخبارهم به مستفيضة.

والحكم معلّق على ما يطلق عليه اسم الفقّاع عرفاً، مع الجهل بأصله، أو وجود خاصّيته، وهي وجود النشيش وهو المعبّر عنه في بعض الأخبار بالغليان(5).

ولو أطلق الفقّاع على شراب يُعلم حلّه قطعاً، كالأقسماء الذي طال مكثه ولم يبلغ هذا الحدّ، لم يحرم قطعاً.

ص: 400


1- الكافي، ج 6، ص 392، باب ما يتخذ منه الخمر، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 101، ح 442.
2- الكافي، ج 1، ص 423، باب الفقّاع، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 125 - 126، ح 544: الاستبصار، ج 4، ص 96، ح 373.
3- الكافي، ج 1، ص 423، باب الفقّاع، ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 125، ح 542: الاستبصار، ج 4، ص 96، ح 371، وفيهما: «هي الخمرة».
4- الكافي، ج 1، ص 424، باب الفقّاع، ح 15؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 124، ح 534 مع تفاوت يسير؛ الاستبصار، ج 4، ص 95. ح 396.
5- الكافي، ج 6، ص 419، باب العصير، ح 1 و 3 و 4؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 119 - 120، ح 513 - 515.
يحرم العصير إذا غلى

• ويحرم العصير إذا غلى، سواء غلى من قبل نفسه أو بالنار. ولا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه، أو ينقلب خلاً.

-------------------------------------------------------------------

وفي صحيحة علي بن يقطين عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن شراب الفقّاع الذي يعمل في السوق ويباع ولا أدري كيف عمل ولا متى عمل أيحل أن أشربه؟ قال: «لا أُحبّه»(1). وهذه الرواية تشعر بكراهة المجهول.

وروى ابن أبي عمير - في الصحيح عن مرازم قال : كان يعمل لأبي الحسن الفقّاع في منزله، قال محمّد بن يحيى قال ابن أبي عمير: ولم يعمل فقاع يغلي(2).

والمراد بغليانه ما ذكرناه من النشيش الموجب للانقلاب، كما هو المراد من غليان العصير، وسيأتي.

قوله: «ويحرم العصير إذا غلى» إلى آخره.

لا خلاف بين الأصحّاب في تحريم عصير العنب إذا غلى، بأن صار أسفله أعلاه. وأخبارهم ناطقة به، ففي صحيحة عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه»(3).

وحسنة حماد بن عثمان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا يحرم العصير حتّى يغلي»(4).

وروى حماد بن عثمان عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن شرب العصير، فقال: «تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه»، قلت: جعلت فداك أي شيء الغليان؟ قال: «القلب»(5).

وفي موثّقة ذريح قال: سمعت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «إذا نش العصير أو على حرم»(6).

ص: 401


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 126 - 127، ح 547.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 126، ح 545.
3- الكافي، ج 6، ص 419، باب العصير...، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 120، ح 516.
4- الكافي، ج 6، ص 419، باب العصير...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 119، ح 513.
5- الكافي، ج 6، ص 419، باب العصير...، ح 3: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 120، ح 514.
6- الكافي، ج 6، ص 419، باب العصير...، ح 4: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 120، ح 515.

-------------------------------------------------------------------

ومن هذه يستفاد عدم الفرق بين الغليان بالنار وغيرها، وأنّ المراد منه أن يصير أسفله أعلاه.

وأكثر المتأخّرين على نجاسته أيضاً، لكن قيدوها بالاشتداد من الغليان. والمراد به أن يصير له قواماً وإن قلّ، بأن يذهب شيء من مائه. والنصوص خالية عن الدلالة على النجاسة وعن القيد.

وأغرب الشهيد في الذكرى فجعل الاشتداد - الذي هو سبب النجاسة - مسبباً عن مجرّد الغليان، فجعل التحريم والنجاسة متلازمين(1).

وفيه - مع عدم الدليل عليه، حتّى باعترافه فيها وفي البيان (2) - أنه خلاف المفهوم من الاشتداد. ولعلّ ذلك يقرب مع الغليان بالنار ؛ لاستلزامه ارتفاع شيء من بخاره الموجب لنقصان مائيته، أما مع انقلابه بنفسه أو بالشمس فلا يتحقّق ذلك أصلاً، خصوصاً في الأوّل وإن طال الزمان.

وفصّل ابن حمزة فحكم بنجاسته مع غليانه بنفسه، وبتحريمه خاصّة إن غلى بالنار(3). وهو تحكّم، وإن كان أقرب إلى الأصل من المشهور.

وبالجملة فهذا الحكم - وهو نجاسته - من المشاهير بغير أصل. وإلحاقه بالمسكرات أو بالفقّاع من حيث التحريم لا يوجب إلحاقه بها مطلقاً.

ولا فرق مع عدم ذهاب ثلثيه في تحريمه بين أن يصير دبساً وعدمه؛ لإطلاق النصوص باشتراط ذهاب الثلثين(4).

ص: 402


1- ذكرى الشيعة، ج 1، ص 4 - 75 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 5).
2- البيان، ص 86 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 12).
3- الوسيلة، ص 365.
4- الكافي، ج 6، ص 419 - 420، باب العصير...، ح 1 و 2، وص 426، باب صفة الشراب الحلال، ح 4، وص 427، باب في الأشربة أيضاً، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 120، ح 518، وص 121، ح 522.

-------------------------------------------------------------------

وفي صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا زاد الطلاء على الثلث فهو حرام»(1)، مع أن هذا فرض بعيد؛ لأنّه لا يصير دبساً حتّى يذهب أربعة أخماسه غالباً بالوجدان، فضلاً عن الثلاثين. ويحتمل الاكتفاء بصيرورته دبساً على تقدير إمكانه؛ لانتقاله عن اسم العصير، كما يطهر بصيرورته خلّاً كذلك.

ولا فرق في ذهاب ثلثيه بين وقوعه بالغليان والشمس والهواء. فلو وضع المعمول به قبل ذهاب ثلثيه كالملين - في الشمس فتجفّف بها أو بالهواء وذهب ثلثاه حلّ. وكذا يطهر بذلك لو قيل بنجاسته. ولا يقدح فيه نجاسة الأجسام الموضوعة فيه قبل ذهاب الثلثين، كما يطهر ما فيه من الأجسام بعد انقلابه من الخمرية إلى الخلّية عندنا.

والحكم مختصّ بعصير العنب، فلا يتعدى إلى غيره كعصير التمر - ما لم يسكر؛ للأصل، ولا إلى عصير الزبيب على الأصحّ (2)؛ لخروجه عن اسمه، وذهاب ثلثيه وزيادة بالشمس.

وحرّمه بعض علمائنا (3)؛ استناداً إلى مفهوم رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث سأله عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه، ثمّ يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث، ثمّ يوضع فيشرب منه السنة؟ قال: «لا بأس به»(4).

وهذه الرواية - مع أنّ في طريقها سهل بن زياد - لا تدلّ على تحريمه قبل ذهاب ثلثيه بوجه، وإنّما نفى (عَلَيهِ السَّلَامُ) البأس عن هذا العمل الموصوف، وإبقاء الشراب عنده ليشرب منه. و تخصيص السؤال بالثلثين لا يدلّ على تحريمه بدونه ولا بالمفهوم الذي ادّعوه. وإنّما تظهر فائدة التقييد به ليذهب مائيّته؛ فيصلح للمكث عند المدة المذكورة كما يبقى الدبس.

ص: 403


1- الكافي، ج 6، ص 420، باب الطلاء، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 120 - 121، ح 519.
2- الأصحّ هو قول الشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 28 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11)، وأمّا القول الصحيح فقد حكاه الشهيد فيه أيضاً عن بعض مشايخه وبعض الفضلاء المتقدّمين.
3- راجع الوسيلة، ص 364.
4- الكافي، ج 6، ص 421، باب الطلاء، ح 10؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 121، ح 522.

• وما مزج بها أو بأحدها، وما وقعت فيه من المائعات.

-------------------------------------------------------------------

ولو سلّم دلالتها بالمفهوم فهو ضعيف لا يصلح لإثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصل. وروى أبو بصير - في الصحيح (1) - قال: كان أبو عبداللّه تعجبه الزبيبة (2). وهذا ظاهر في الحلّ ؛ لأنّ طعام الزبيبة لا يذهب منه ثلثا ماء الزبيب كما لا يخفى.

قوله: «وما مزج بها أو بأحدها، وما وقعت فيه من المائعات».

الضمير يرجع إلى جميع ما ذكر من الأمور المحكوم بنجاستها. فالحكم فيه بعد ثبوت نجاستها واضح؛ لأنّ ما يمتزج بالنجاسة المائعة أو يقع فيه من المائعات يتنجس كغير المذكورات من النجاسات.

والموجب لتخصيصها بالذكر ورود الحكم بذلك بخصوصه في رواية زكريّا بن آدم عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيها قلت فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم، قال، فقال: «فسد»، قلت: أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم، فإنّهم يستحلّون شربه؟ قال: «نعم»، قلت : والفقّاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ قال : «أكره أن آكله إذا قطر في شيء من طعامی»(3).

وهذه الرواية تشعر بكراهة الفقّاع دون أن يكون محرّماً أو نجساً، لكنها محمولة على غيرها ممّا سبق؛ لأنّ الكراهة بعض أسماء الحرام.

ومثلها في الدلالة على كراهته صحيحة محمّد بن إسماعيل قال: سألت أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن شرب الفقّاع فكرهه كراهة شديدة (4). والكلام في تنزيلها كالسابقة، فإن المحرّم ممّا يكره.

ص: 404


1- في حاشية «و»: «هذه الرواية رواها الكليني في كتابه بطريق صحيح (منه رحمه اللّه)».
2- الكافي، ج 6، ص 316 - 317، باب الطبيخ، ح 7.
3- الكافي، ج 6، ص 422، باب المسكر يقطر منه في الطعام، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 119، ح 512.
4- الكافي، ج 6، ص 424، باب الفقّاع، ح 11؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 124، ح 538: الاستبصار، ج 4، ص 95، ح 367.
الثاني: الدم المسفوح نجس
إشارة:

الثاني: • الدم المسفوح،نجس، فلا يحلّ تناوله وما ليس بمسفوح كدم الضفادع والقراد وإن لم يكن نجساً فهو حرام؛ لاستخباثه.

وما لا يدفعه الحيوان المذبوح ويستخلف في اللحم طاهر، ليس بنجس ولا حرام.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «الدم المسفوح،نجس، فلا يحلّ تناوله إلى آخره.

الدم المسفوح هو الذي يخرج بقوة عند قطع عرق الحيوان أو ذبحه، من سفحت الماء إذا صببته، أي المصبوب.

واحترز به عمّا يخرج من الحيوان بتثاقل كدم السمك، فلا يكون نجساً، ولكنه يحرم؛ لعموم قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ»(1)، ولأنّه من الخبائث المحرّمة بالآية (2).

والأولى الاستدلال على تحريمه بالخباثة خاصّة؛ لأنّ مطلق الدم مقيد بالآية الأخرى وهي قوله: «إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا» (3) فقيد الدم المحرم بكونه مسفوحاً، فيجب حمل المطلق على المقيّد؛ لاتّحاد السبب.

وقد استثني من ذلك ما يتخلّف في الحيوان المذبوح في تضاعيف اللحم، فإنه يكون طاهراً أيضاً؛ لأنّه ليس بمسفوح وظاهرهم الاتّفاق على حلّه (4).

وفي إلحاق ما يتخلّف في القلب والكبد به وجهان من مساواته له في المعنى، وعدم كونه مسفوحاً، ومن الاقتصار بالرخصة المخالفة للأصل على موردها.

ولو قيل بتحريمه في كلّ ما لا نص فيه ولا اتّفاق - وإن كان طاهراً - كان وجهاً؛ لعموم تحريم الدم وكونه من الخبائث.

وخرج بما يدفعه الحيوان ما يتخلّف في بطنه من الدم الذي يجري من المذبح مع النفس

ص: 405


1- المائدة (5): 3.
2- الأعراف (7): 157.
3- الأنعام (6): 145.
4- في «م، و» زيادة: «ويؤيّده قوله تعالى: «أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا»».
لو وقع قليل من دم في قدرٍ

• ولو وقع قليل من دم كالأوقية فما دون - في قدر وهي تغلي على النار، قيل: حلّ مرقها إذا ذهب الدم بالغليان ومن الأصحّاب من منع الرواية، وهو حسن

أمّا ما هو جامد كاللحم والتوابل، فلا بأس به إذا غسل.

-------------------------------------------------------------------

إلى الباطن، فإنه نجس حرام قطعاً؛ لأنّه من جملة الدم المسفوح، وممّا يدفعه الحيوان، وإنّما تخلف في الباطن لعارض.

قوله «ولو وقع قليل من دم كالأوقية فما دون في قدر» إلى آخره.

القول بحل المرق المذكور للشيخ في النهاية(1)، وقبله المفيد (2)، إلّا أنه لم يقيّد الدم بالقليل.

ومستند الشيخ صحيحة سعيد الأعرج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقيّة من دم أيؤكل؟ قال: «نعم، فإنّ النار تأكل الدم»(3).

ورواية زكريا بن آدم قال: سألت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم ومرق كثير؟ قال: «يهراق المرق، أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلاب واللحم اغسله وكله»، قلت: فإن قطر فيه الدم، قال: «الدم تأكله النار إن شاء اللّه»(4).

وذهب ابن إدريس والمتأخّرون إلى بقاء المرق على نجاسته (5)؛ لأنّه مائع قليل لاقته نجاسة، والغليان ليس من المطهرات.

وأجابوا عن الرواية الأولى بجهالة سندها، فإنّ سعيد الأعرج مجهول الحال(6). وفي طريق الثانية محمّد بن موسى، وهو ضعيف(7).

ص: 406


1- النهاية، ص 588.
2- المقنعة، ص 582.
3- الكافي، ج 6، ص 235، باب الدم يقع في القدر، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 342. ح 4214.
4- الكافي، ج 6، ص 422، باب المسكر يقطر منه في الطعام، ح 1.
5- السرائر، ج 3، ص 120.
6- كما في مختلف الشيعة، ج 8، ص 347، المسألة 45.
7- رجال النجاشي، ص 338، الرقم 904.
الثالث: كلّ ما حصل فيه شيء من النجاسات
إشارة:

الثالث: كلّ ما حصل فيه شيء من النجاسات، كالدم أو البول أو العذرة، فإن كان مائعاً حرم وإن كثر، ولا طريق إلى تطهيره. وإن كان له حالة جمود، فوقعت النجاسة فيه جامداً، كالديس الجامد، والسمن والعسل، أُلقيت النجاسة وكشط ما يكتنفها والباقي حلّ.

-------------------------------------------------------------------

وما ذكروه على الثانية حق، أما الأولى فلا؛ لأنّ سعيد الأعرج قد نص النجاشي على توثيقه، ونقله أيضاً عن ابن نوح وابن عقدة(1).

والعلّامة مع قوله في المختلف إنّه لا يعرف حاله ذكره في الخلاصة، ووثقه (2) كما ذكره النجاشي حرفاً بحرف.

نعم الأولى أن يقال: إن هذه الرواية مخالفة للأصل، شاذة في حكمها، فتطرح لذلك وإن كانت صحيحة.

وفي المختلف حمل الدم على ما ليس بنجس كدم السمك وشبهه(3). وهو خلاف ظاهرها، حيث فرّق بين المسكر والدم، وعلّل بأنّ الدم تأكله النار، ولو كان طاهراً لعلل بطهارته.

ولو قيل بأن الدم الطاهر يحرم أكله، فتعليله بأكل النار ليذهب التحريم وإن لم يكن نجساً. ففيه: أنّ استهلاكه في المرق إن كفى في حلّه لم يتوقّف على النار، وإلّا لم تؤثّر النار في حلّه.

قوله: «كلّ ما حصل فيه شيء من النجاسات» إلى آخره.

لا إشكال في نجاسة المائعات كالدبس والخلّ والزيت وغيرها - إذا حصل فيها شيء من النجاسات وإن كثر. والأظهر بين الأصحّاب أنّه لا سبيل إلى طهارتها ما دامت باقية على حقيقتها؛ لأنّ المعتبر في تطهير النجس أن يصيب الماء المطهر كلّ جزء من أجزاء النجس

ص: 407


1- رجال النجاشي، ص 181، الرقم 477.
2- خلاصة الأقوال، ص 158، الرقم 458.
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 346، المسألة 15.
الاستصباح بالدهن المتنجّس

• ولو كان المائع دهناً جاز الاستصباح به تحت السماء، ولا يجوز تحت الأظلة. وهل ذلك لنجاسة دخانه؟ الأقرب لا، بل هو تعبّد.

-------------------------------------------------------------------

وما دام المائع متميّزاً باقياً على حقيقته - أو بعضه - لا يكون الماء مستوعباً لذلك المتميّز.

وللعلّامة قول بطهرها مع تخلّل أجزائها حتّى الدهن(1). وهو بعيد، إلّا بتقدير زوال الإضافة بأن يصير ماءً مطلقاً، ومعه تنتفي فائدة تطهيرها غالباً.

ولو كانت جامدة ولو في بعض الأحوال -كالدبس، والسمن والعسل -لم ينجس بوقوع النجاسة فيها سوى ما اتصل بها، فيكشط ما يكتنفها ويحلّ الباقي. وبه روايات كثيرة(2)، منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألقها وما يليها وكل ما بقي، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به، والزيت مثل ذلك»(3). وفيها دلالة على عدم طهره بالماء؛ وإلّا لما أطلق النهي عن أكله.

وفي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه عن الفأرة والدابّة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه، فقال: «إن كان سمناً أو عسلاً أو زيتاً، فإنه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فارفعه حتّى تسرج به، وإن كان ثرداً فاطرح الذي كان عليه، ولا تترك طعامك من أجل دابّة ماتت عليه»(4). ويظهر من هذه أنّ المراد بالجمود ما يعهد عرفاً من هذه الأشياء في زمن الشتاء، ولا حد له سوى العرف.

قوله: «ولو كان المائع دهناً جاز الاستصباح به تحت السماء - إلى قوله - على تردد». البحث هنا يقع في موضعين:

الأوّل: في جواز الاستصباح بالدهن النجس بالعرض. وهو موضع وفاق. وقد تقدم

ص: 408


1- تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 87-88، المسألة 25.
2- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 194 - 196. الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
3- الكافي، ج 6، ص 261، باب الفأرة تموت في الطعام والشراب، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 85 – 86، ح 360.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 86، ح 361.

ودواخن الأعيان النجسة عندنا طاهرة. وكذا كلّ ما أحالته النار فصيّرته رماداً أو دخاناً على تردّد.

-------------------------------------------------------------------

ما يدلّ عليه(1). ولكن هل يختص بكونه تحت السماء، أم يجوز تحت الظلال؟ المشهور بين الأصحّاب هو الأوّل، بل ادّعى عليه ابن إدريس الإجماع(2).

ولا نعلم لهم دليلاً على ذلك أصلاً، والموجود من الروايات مع كثرتها كلّها مطلق في جواز الاستصباح وهو يشمل تحت الظلال وغيره. وقد تقدّم منها صحيحة زرارة والحلبي(3).

ومنها صحيحة معاوية بن وهب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه سأل عن زيت مات فيها جرذ، فقال: «يستصبح به»(4).

ومنها: صحيحة سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الفارة تموت في الزيت. فقال: «لا تأكله ولكن أسرج به»(5). وغيرها من الأخبار (6) الشاملة بإطلاقها لما تحت الظلال بل هو الغالب المتبادر من إطلاق الإذن.

ومن ثمّ ذهب الشيخ في المبسوط إلى جواز الاستصباح به تحت الظلال على كراهة(7). وكذلك أطلق ابن الجنيد جواز الاستصباح به(8).

وفي المختلف قوّى الجواز مطلقاً أيضاً، إلّا أن يعلم أو يظنّ بقاء شيء من عين الدهن فيحرم تحت الظلال(9).

ص: 409


1- تقدّم تخريجه في ص 389، الهامش 3.
2- السرائر، ج 3، ص 122.
3- تقدّم تخريج صحيحتيهما في ص 408، الهامش 3 و 4.
4- الكافي، ج 6، ص 261، باب الفأرة تموت في الطعام والشراب، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 85، ح 359.
5- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 86، ح 362.
6- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 194 وما بعدها، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
7- المبسوط، ج 4، ص 680.
8- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 348، المسألة 47.
9- مختلف الشيعة، ج 8، ص 349، المسألة 47.
يجوز بيع الأدهان النجسة

• ويجوز بيع الأدهان النجسة، ويحلّ ثمنها، لكن يجب إعلام المشتري بنجاستها. وكذا ما يموت فيه حيوان له نفس سائلة.

-------------------------------------------------------------------

وفي صحة الاستثناء نظر؛ لأنّه مع العلم ببقاء شيء من عين الدهن لاصقاً بالمحلّ فغايته تنجيسه، وذلك لا يقتضي التحريم؛ لأنّ تنجيس الإنسان محله من الظلال وغيرها غير محرم. فالقول بجوازه تحت الظلال مطلقاً هو الأصحّ.

الثاني: على تقدير تحريمه تحت الظلال فهل هو لنجاسة دخانه؟ الأظهر بين الأصحّاب العدم، وهو الذي اختاره المصنّف؛ لتحقّق الاستحالة المقتضية للطهارة، فإنّ الدخان حقيقة أخرى مخالفة لحقيقة الدهن وصفاته.

وكذا القول في كلّ دخان بالنسبة إلى أصله. وعلى هذا فتحريم الاستصباح به تحت الظلال تعبّد شرعي لا نعلم وجهه.

وقيل: إن الدخان نجس، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (1)؛ لأنّه لا بد أن يتصاعد من أجزاء الدهن قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار، فإذا لقي الظلال تأثر بنجاسته.

وهو ضعيف؛ لمنع تصاعد أجزاء الدهن من دون الاستحالة أوّلاً. وبتقدير تسليمه لا يلزم منه تحريم تنجيس الظلال كما أسلفناه.

والمصنّف بعد حكمه بعدم نجاسته تردّد فيه. ووجه التردّد قد ظهر من توجيه القولين كما ظهر منه قوّة ما اختاره أوّلاً، وقوّة الجواز تحت الظلال. والقول بالتعبّد - على تقدير النجاسة - مشروط بوجود دليل يقتضيه ولا يظهر علّته، أما مع عدمه، بل ظهور الدليل في خلافه فلا.

قوله: «ويجوز بيع الأدهان النجسة، ويحلّ ثمنها إلى آخره. المراد بها الأدهان النجسة بالعرض كما هو المفروض، أمّا النجسة بالذات كالأليات الميتة يقطعها من حي أو من ميت، فلا يجوز بيعها ولا الانتفاع بها مطلقاً إجماعاً لإطلاق النهي عنه

ص: 410


1- راجع المبسوط، ج 4، ص 680، وعبارته على خلاف ذلك ولمزيد الاطّلاع راج-ع مختلف الشيعة، ج 8، ص 349 المسألة 47؛ وإيضاح الفوائد، ج 4، ص 156 - 157.

• أما ما لا نفس له كالذباب والخنافس - فلا ينجس بموته، ولا ينجس ما يقع فيه.

-------------------------------------------------------------------

وإنّما جاز بيع الدهن المتنجّس لبقاء منفعته بالاستصباح، ولكن يجب إعلام المشتري بحاله؛ حذراً من تصرفه فيه بانياً على طهارته؛ عملاً بظاهر حاله، وبالأصل من طهارته. وكما يجوز الانتفاع به للاستصباح يجوز لدهن الجرب وعمل الصابون.

ومفهوم تخصيص الدهن بذلك عدم جواز بيع غيره من المائعات المنجسة - كالدبس - مع الإعلام بحاله والمشهور أنه كذلك؛ لعدم ظهور منفعة مقصودة فيه، ولعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إنّ اللّه إذا حرم شيئاً حرّم ثمنه»(1) خرج من ذلك الدهن النجس فيبقى الباقي.

ولا فرق في بيعه مع الإعلام بحاله بين كون المشتري ممّن يستحلّ النجس وعدمه؛ لبقاء المنفعة المحلّلة في الدهن على التقديرين.

ولو لم يعلمه بالحال ففي صحّة البيع وثبوت الخيار للمشتري على تقدير العلم أو فساده وجهان، من أنّ البيع مشروط بالإعلام فلا يصحّ بدونه، ومن الشك في كونه شرطاً، وغايته أن ينجبر بالخيار.

ولو كان المشتري مستحلاً لذلك فالوجه الصحة، ولا منافاة بينها وبين وجوب الإعلام والنهي عن بيعه بدونه. ولو سلم لا يستلزم الفساد في المعاملات.

ثمّ على تقدير الصحّة فهو كبيع المعيب من دون الإعلام بالعيب في ثبوت الأرش والردّ على التفصيل.

قوله: «أما ما لا نفس له كالذباب والخنافس - فلا ينجس بموته» إلى آخره.

قد شرط في نجاسة الميت أن يكون له نفس سائلة وإلّا لم ينجس، ويلزم منه أن لا ينجس ما يقع فيه.

ويدلّ عليه قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد

ص: 411


1- تقدّم تخريجه في ص 387، الهامش 2.

• والكفّار،أنجاس ينجس المائع بمباشرتهم له، سواء كانوا أهل حرب أو أهل ذمّة، على أشهر الروايتين.

حكم أواني الكفّار التي استعملوها في المائعات

وكذا لا يجوز استعمال أوانيهم التي استعملوها في المائعات. وروي: إذا أراد مؤاكلة المجوسي أمره بغسل يده، وهي شاذّة.

-------------------------------------------------------------------

جناحيه داء وفي الآخر دواء»(1). وهو ظاهر في عدم تنجيسه وإلّا لنبّه عليه.

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام، فقال: «لا بأس كُل»(2).

قوله: «والكفّار أنجاس ينجس المائع بمباشرتهم له - إلى قوله - وهي شاذّة».

قد اختلفت الرواية في نجاسة الكفّار وطهارتهم (3)، مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة المتعارضة(4). فأشهر الروايتين بين الأصحّاب وعليها إطباقهم - بعد الشيخ وابن الجنيد - النجاسة، وأنّ الطعام ينجس بمباشرتهم.

فمما استدلّوا به عليه من الروايات صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، وأرقد معه على فراش واحد وأُصافحه، فقال.«لا» (5).

ورواية هارون بن خارجة قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنِّي أُخالط المجوس فآكل من طعامهم، قال: «لا» (6).

ويدل على عدم جواز استعمال أوانيهم التي باشروها صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت

ص: 412


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 365. ح 3844؛ وبمعناه ورد في مسند أحمد، ج 2، ص 458، ح 7101؛ وسنن الدارمي، ج 2، ص 98 - 99، باب الذباب يقع في الطعام وصحيح البخاري، ج 5، ص 2180، ح 5445؛ وسنن ابن ماجة، ج 2، ص 1159، ح 3505 والسنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 382، ح 1190.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 86، ح 363.
3- الكافي، ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 8 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 87 ح 367.
4- تقدّم ص 393 وما بعدها.
5- الكافي، ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 7 : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 87، ح 366.
6- الكافي، ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 8 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 87 ح 367.

-------------------------------------------------------------------

أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آنية أهل الذمّة والمجوس، فقال: «لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر»(1).

ومما ورد بخلاف ذلك صحيحة العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مؤاكلة اليهود والنصارى، فقال: «لا بأس إذا كان من طعامك»، وسألته عن مؤاكلة المجوسي، فقال: «إذا توضأ فلا بأس»(2). وهذه هي الرواية التي أشار إليها المصنّف ونسبها إلى الشذوذ.

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: «لا تأكله»، ثمّ سكت هنيئةً، ثمّ قال: «لا تأكله»، ثمّ سكت هنيئةً، ثمّ قال: «لا تأكله، ولا تتركه تقول إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير»(3).

وفي هذه الرواية - مع صحّة سندها - تصريح بكون النهي محمولاً على الكراهة والتنزيه دون التحريم، وهو يصلح لحمل النهي في غيرها كذلك جمعاً.

وفيها أيضاً تعليل النهي بسبب مباشرتهم للنجاسات من الخمر ولحم الخنزير، فلو كانت أبدانهم نجسة بالذات لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضية التي قد تتّفق وقد لا تتّفق.

ورواية زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت: إنّي رجل من أهل الكتاب، وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانية، وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟ فقال لي: «يأكلون لحم الخنزير؟ قلت: لا، ولكنّهم يشربون الخمر فقال لي: «كُل معهم واشرب»(4).

وحسنة الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)- وأنا عنده - عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: «أما أنا فلا أدعوه ولا أؤاكله، وإنّي لأكره أن

ص: 413


1- الكافي، ج 6. ص 264، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 88، ح 372.
2- الفقيه، ج 3، ص 348، ح 4225؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 88، ح 373.
3- الكافي، ج 6، ص 264، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 87، ح 368.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 87، ح 369.

ولو وقعت ميتة لها نفس في قدر نجس ما فيها. وأريق المائع وغسل الجامد وأكل.

-------------------------------------------------------------------

أحرم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم»(1). وهذه الرواية أيضاً ظاهرة في حمل النهي على التنزيه والكراهة دون التحريم.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قال: سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: «لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة ولحم الخنزير»(2). وهذه الرواية كالسابقة في دلالتها ظاهراً على أن المانع هو النجاسة العرضيّة.

وفي معنى هذه الأخبار غيرها. وقد تقدّم في باب ذبائح أهل الكتاب (3) ما يوافقها، مضافاً إلى ظاهر الآية(4) المتقدّمة عن قريب.

ولا يخفى أنّ دلالتها على الطهارة أوضح من دلالة الروايات الدالة على النجاسة، بل هي دالة على الكراهة، خصوصاً صحيحة علي بن جعفر، فإنه نهى عن مصافحته والنوم معه على فراش واحد ولا خلاف في جوازهما، بل غايتهما الكراهة لذلك.

والكلام في صحيحة محمّد بن مسلم في دلالتها على أنّ المانع النجاسة العرضيّة كما سلف في نظائرها. غير أنّ الأشهر بين الأصحّاب القول بالنجاسة. والمصنّف (رحمه اللّه) جعله فيما سبق أصحّ(5)، وهنا أشهر الروايتين.

قوله: «ولو وقعت ميتة لها نفس في قدر نجس ما فيها» إلى آخره.

أما نجاسة المائع فواضح؛ لأنّه ماء قليل أو مضاف لاقى نجاسة فينجس. وإنّما يتعيّن إراقته على تقدير صيرورته مضافاً؛ لأنّه لا يقبل التطهير كما مرّ(6). فلو كان باقياً على الماء

ص: 414


1- الكافي، ج 6، ص 263، باب طعام أهل الذمّة ومؤاكلتهم وآنيتهم، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 88، ح 370.
2- الفقيه، ج 3، ص 348، ح 4226؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 88، ح 371.
3- تقدّم في ص 269 - 270.
4- المائدة (5): 67.
5- سبق في ص 393.
6- مرّ في ج 1، ص 21.

• ولو عجن بالماء النجس عجين لم يطهر بالنار إذا خبز على الأشهر.

الرابع: هل يحرم أبوال ما يؤكل لحمه أم لا؟

الرابع: • الأعيان النجسة، كالبول ممّا لا يؤكل لحمه، نجساً كان الحيوان كالكلب والخنزير، أو طاهراً كالأسد والنمر.

-------------------------------------------------------------------

المطلق تخيّر بين إراقته وتطهيره بالماء الكثير، كما تقدّم في بابه(1).

وأمّا غسل الجامد من الحبوب واللحم فلقبوله التطهير، كما لو عرض له نجاسة غير ذلك. ويشهد له بخصوصه رواية السكوني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سئل عن قدر طبخت وإذن في القدر فأرة، قال: يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل»(2).

قوله: «ولو عجن بالماء النجس عجين لم يطهر بالنار إذا خبز على الأشهر».

إذا عجن بالماء النجس عجين (3) توقف تطهيره على ما ثبت شرعاً أنّه مطهّر، ولم يثبت كون النار مطهّرة لما جففته من دون أن يستحيل، والخبز لم يحصل منه إلّا التجفيف، فلا يطهر. وهذا هو الأشهر، بل المذهب.

وإنّما خالف في ذلك الشيخ في النهاية في باب الطهارة، فحكم بطهره بالخبز(4)، مع أنّه في الأطعمة منها حكم بعدم طهره(5). ومستنده على الطهارة رواية (6) - مع ضعف سندها - لا دلالة فيها على ذلك، فالقول بالطهارة ساقط رأساً.

قوله: «الأعيان النجسة، كالبول ممّا لا يؤكل لحمه - إلى قوله لاستخباثها».

لا خلاف في نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ممّا له نفس، سواء كان نجس العين أم لا، فيحرم بوله للنجاسة.

ص: 415


1- تقدّم في ج 1، ص 11 - 12.
2- الكافي، ج 6، ص 261، باب الفأرة تموت في الطعام والشراب، ح3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 86 - 87، ح 365.
3- كلمة «عجين» لم ترد في «م، ع، ح، و».
4- النهاية، ص 8.
5- النهاية ص 590.
6- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 413 - 414، ح 1303؛ الاستبصار، ج 1، ص 29، ح 74.

وهل يحرم ممّا يؤكل؟ قيل: نعم، إلّا أبوال الإبل فإنّه يجوز الاستشفاء بها. وقيل: يحلّ الجميع لمكان طهارته والأشبه التحريم؛ لاستخبائها.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا الحيوان المحلّل ففي تحريم بوله قولان:

أحدهما - وبه قال المرتضى(1) وابن الجنيد (2) وابن إدريس (3) والمصنّف في النافع(4) - الحلّ. للأصل، وكونه طاهراً، وعدم دليل يدلّ على تحريمه، فيتناوله قوله تعالى: «قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ»(5) الآية.

والثاني - وهو الذي اختاره المصنّف هنا والعلّامة(6) وجماعة (7) - التحريم - عدا بول الإبل -للاستخباث فيتناوله: «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائثَ»(8).

ولا يلزم من طهارته حله؛ لأنّ المحلل أخص من الطاهر، ولا يلزم من ثبوت الأعمّ ثبوت الأخص. وللقائل بالحلّ أن يمنع من الاستخباث وإنّما استثني بول الابل؛ لما ثبت من أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر قوماً اعتلوا بالمدينة أن يشربوا أبوال الإبل فشفوا(9)، فيجوز الاستشفاء بها.

وعلى هذا فيجب الاقتصار بحلّها على موضع الحاجة.

وقيل: يحلّ مطلقاً(10).

وعلى الأوّل يجوز مطلقاً.

ص: 416


1- الانتصار، ص 424 المسألة 242.
2- الحاكي عنه هو العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 353، المسألة 53.
3- السرائر، ج 3، ص 125.
4- المختصّر النافع، ص 365.
5- الأنعام (6): 145.
6- قواعد الأحكام، ج 3، ص 330.
7- الوسيلة، ص 364؛ الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 29 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11): المقتصر، ص 339.
8- الأعراف (7): 157.
9- الكافي، ج 7، ص 245، باب حد المحارب، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 10، ص 134 - 135، ح 533.
10- قال به السيد المرتضى في الانتصار، ص 424، المسألة 242.
الخامس: اللبن تابع للحيوان في الحلّ والحرمة

الخامس: • ألبان الحيوان المحزم كلبن اللبوة والذئبة والهرة. ويكره ما كان لحمه مكروهاً، كلبن الأتن، مائعه وجامده، وليس بمحرّم.

القسم السادس في اللواحق

إشارة:

وفيه مسائل:

لا يجوز استعمال شعر الخنزير اختياراً

المسألة الأولى: • لا يجوز استعمال شعر الخنزير اختياراً، فإن اضطر استعمل ما لا دسم فيه، وغسل يده.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ألبان الحيوان المحرّم كلبن اللبوة والذئبة والهرّة» إلى آخره.

اللبن تابع للحيوان في الحل والحرمة والكراهة. وقد روى العيص بن القاسم - في الصحيح - عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: تغدّيت معه فقال: «هذا شيراز الأُتُن اتّخذناه لمريض النا، فإن أحببت أن تأكل منه فكل»(1).

وعنه أيضاً قال: سألته عن شرب ألبان الأتن، فقال: «اشر بها»(2).

قوله: «لا يجوز استعمال شعر الخنزير اختياراً» إلى آخره.

قد تقدم في باب الطهارة (3) الخلاف في أنّ شعر الخنزير وغيره من أجزائه التي لا تحلّها الحياة نجسة على أصح القولين، وإنّ المرتضى حكم بطهارتها (4)؛ فعلى قوله لا إشكال في جواز استعمال شعره لغير ضرورة.

وعلى القول بنجاستها فالمشهور عدم جواز استعماله من غير ضرورة؛ لإطلاق تحريم الخنزير الشامل لجميع أجزائه، وللأكل منه، وغيره من ضروب الانتفاع؛ لأنّ التحريم المنسوب إلى الأعيان يراد منه أقرب المجازات إلى الحقيقة، وهو تحريم ضروب الانتفاع،

ص: 417


1- الكافي، ج 1، ص 338، باب ألبان الأتن، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 101، ح 438.
2- الكافي، ج 1، ص 339، باب ألبان الأتن، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 101، ح 439.
3- تقدّم في ج 1، ص 124.
4- المسائل الناصريات ص 100. المسألة 19.

-------------------------------------------------------------------

حتى ادعى ابن إدريس تواتر الأخبار بتحريم استعماله(1). وهو عجيب؛ لأنا لم نقف منها على شيء.

وذهب جماعة - منهم العلّامة في المختلف (2) - إلى جواز استعماله مطلقاً؛ لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل، فيكون سائغاً؛ للأصل، ونجاسته لا تدلّ على تحريم الانتفاع به كغيره من الآلات المنجّسة.

وقد روى برد الإسكاف عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال قلت له: إنّي رجل خزّاز لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به قال: «خُذ منه وبرة فاجعلها في فخارة، ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمه، ثمّ اعمل به»(3).

وبهذا تمسك القائل بالجواز مع الضرورة، إذا زال دسمه بما ذكر. وقرينة الضرورة قوله: «إنّه لا يستقيم عملنا إلّا به».

ويدلّ على عدم تقييده بحال الضرورة رواية برد أيضاً قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): جعلت فداك إنا نعمل بشعر الخنزير فربما نسي الرجل فصلّى وفي يده شيء منه، قال: «لا ينبغي له أن يصلّي وفي يده شيء منه»(4)، وقال: «خذوه فاغسلوه، فما كان له دسم فلا تعملوا به، وما لم يكن له دسم فاعملوا به، واغسلوا أيديكم منه»(5). ولم يقيّد الإذن بحال الضرورة.

وعن سليمان الإسكاف قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن شعر الخنزير يخرز به، قال: «لا بأس به، ولكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي»(6).

ص: 418


1- السرائر، ج 3، ص 114.
2- مختلف الشيعة، ج 8، ص 340، المسألة 42.
3- الفقيه، ج 3، ص 348 - 0349 ح 4227؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 84 - 85، ح 355.
4- راجع النهاية، ص 587 والمهذّب، ج 2، ص 443؛ وإرشاد الأذهان، ج 2، ص 113؛ والدروس الشرعيّة، ج 3، ص 27 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
5- الفقيه، ج 3، ص 349، ح 4228؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 85، ح 356.
6- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 85، ح 357.
الاستقاء بجلود الميتة

• ويجوز الاستقاء بجلود الميتة وإن كان نجساً. ولا يصلّى من مائها. وترك الاستقاء أفضل.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ويجوز الاستقاء بجلود الميتة وإن كان نجساً إلى آخره.

هكذا أطلق الشيخ في النهاية الجواز(1)، وقبله الصدوق (2)، وتبعه جماعة (3) على ذلك. ومستندهم أصالة الجواز مع كون النجاسة غير مانعة من أصل الاستعمال.

وذهب ابن البرّاج(4)، والعلّامة(5) وجماعة(6) إلى التحريم مطلقاً؛ لعموم تحريم الميتة(7)، المتناول لاستعمال أجزائها، كما قرّرناه سابقاً، وعموم الأخبار الدالة على النهي عن الانتفاع بجلود الميتة مطلقاً(8)، وهذا أولى.

وفي المختلف جمع بين القول بجواز استعمال شعر الخنزير اختياراً وإن كان نجساً، وعدم جواز استعمال جلد الميتة مطلقاً(9)؛ محتجاً على كلّ واحد منهما بنحو ما ذكرناه.

ولا يخلو ذلك من إشكال. وإن فرّق بين الأمرين بورود الرواية بجواز استعمال الشعر كما نقلناه - منعنا صحتها، فإنّ الاسكافيّين الراويين مجهولان، فلا اعتماد إلّا على أصالة الجواز - كما صدر به دليله - واشتماله على المنفعة وكون النجاسة غير مانعة (10)،

ص: 419


1- النهاية، ص 587.
2- حكاه عن المقنع العلّامة في مختلف الشيعة، ج 8، ص 342 المسألة 43: ولكن في المقنع، ص 419 هكذا : وإيّاك أن تجعل جلد الخنزير دلواً تستقي به الماء.
3- الوسيلة، ص 367؛ المختصّر النافع، ص 366؛ كشف الرموز، ج 2، ص 374؛ إرشاد الأذهان، ج 2، ص 113؛ قواعد الأحكام، ج 3، ص 333.
4- المهذّب، ج 2، ص 442.
5- مختلف الشيعة، ج 8، ص 341 - 342، المسألة 43.
6- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 3، ص 114: وابن فهد الحلّي في المهذّب البارع، ج 3، ص 231.
7- هذا العموم مستفاد من الآية 3 من سورة المائدة (5).
8- راجع وسائل الشيعة، ج 24، ص 184 - 186، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
9- مختلف الشيعة، ج 8، ص 340 - 342، المسألة 42 و 43.
10- مختلف الشيعة، ج 8، ص 340، المسألة 42.
إذا وجد لحم ولا يدرى أذكيّ هو أم ميّت؟

الثانية: • إذا وجد لحم ولا يدرى أذكيّ هو أم ميّت؟ قيل: يطرح في النار، فإن انقبض فهو ذكيّ، وإن انبسط فهو ميت.

-------------------------------------------------------------------

وهذه أُمور مشتركة بين الأمرين.

نعم، يمكن الفرق بينهما بأن النهي في الآية(1) موردة الميتة مطلقاً الشامل للانتفاع بجلدها، بخلاف الخنزير، فإنّ مورده اللحم فلا يتعدّى إلى غيره؛ للأصل. وهذا حسن.

قوله: «إذا وجد لحم ولا يدرى أذكيّ هو أم ميت؟» إلى آخره.

هذا القول هو المشهور بين الأصحّاب، خصوصاً المتقدمين. قال الشهيد (رحمه اللّه) في الشرح: لم أجد أحداً خالف فيه إلّا المحقّق في الشرائع والفاضل (2)، فإنّهما أورداها بلفظ قيل المشعر بالضعف (3). مع أنّ المصنّف وافقهم في النافع(4).

وفي المختلف لم يذكرها في مسائل الخلاف ؛ ولعلّه لذلك.

واستدلّ بعضهم(5) عليه بالإجماع.

قال الشهيد (رحمه اللّه): وهو غير بعيد (6). ويؤيّده موافقة ابن إدريس عليه(7)، فإنّه لا يعتمد على أخبار الآحاد فلو لا فهمه الإجماع لما ذهب إليه.

والأصل فيه رواية محمّد بن يعقوب بإسناده إلى إسماعيل بن عمر، عن شعيب، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل دخل قريةً فأصاب فيها لحماً لم يدر أذكيّ هو أم ميّت؟ قال: «فاطرحه على النار، فكل ما انقبض فهو ذكي، وكلّ ما انبسط فهو ميّت»(8).

ص: 420


1- الآية 3 من سورة المائدة (5).
2- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 113.
3- غاية المراد، ج 3، ص 382 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
4- المختصّر النافع، ص 365.
5- كابن زهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 401.
6- غاية المراد، ج 3، ص 382 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).
7- السرائر، ج 3، ص 96.
8- الكافي، ج 1، ص 261، باب آخر منه، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 48، ح 200.
لا يجوز أكل مال الغير إلّا في موارد

الثالثة: • لا يجوز أن يأكل الإنسان من مال غيره إلّا بإذنه. وقد رخّص - مع عدم الإذن - في التناول من بيوت من تضمنته الآية إذا لم يعلم منه الكراهية، ولا يحمل منه.

وكذا ما يمرّ به الإنسان من النخل، وكذا الزرع والشجر على تردّد.

-------------------------------------------------------------------

ومع هذا الاشتهار فطريقها لا يخلو من ضعف؛ لأنّ إسماعيل بن عمر واقفي(1)، وشعيباً مطلق، وهو مشترك بين الثقة والممدوح والمهمل(2). فلتوقف المصنّف عن موافقتهم في الحكم وجه وجيه.

وظاهر الرواية أنّه لا يحكم بحل اللحم وعدمه باختبار بعضه، بل لا بدّ من اختبار كلّ قطعة منه على حدة، ويلزم كلّ واحدة حكمها، بدليل قوله: «فكلّ ما انقبض فهو حلال، وكلّ ما انبسط فهو حرام».

ومن هنا مال الشهيد في الدروس إلى تعديتها إلى اللحم المشتبه منه الذكي بغيره، فيتميّز بالنار كذلك(3). وقد تقدم الكلام فيه(4).

قوله: «لا يجوز أن يأكل الإنسان من مال غيره إلّا بإذنه» إلى آخره.

الأصل تحريم التصرف في مال الغير بغير إذنه بالأكل وغيره، ولقوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ»(5). وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه»(6).

وقوله : «المسلم أخو المسلم، لا يحل له ماله إلّا عن طيب نفس منه»(7).

ولا يفرّق في ذلك بين فرق المسلمين وإن كانوا أهل بدعة؛ عملاً بالعموم.

ص: 421


1- رجال النجاشي، ص 28، الرقم 55.
2- راجع منتهى المقال، ج 3، ص 442 - 444، الرقم 1428 - 1432.
3- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 25 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
4- تقدّم في ص 354.
5- البقرة (2): 188.
6- مسند أحمد، ج 4، ص 546 – 547، ح 15589 : صحيح مسلم، ج 4، ص 1986، ح 2564 بتفاوت يسير.
7- سنن الدارقطني، ج 2، ص 603. ح 87/2845 بتفاوت يسير.

-------------------------------------------------------------------

وقد استثنى من هذا العموم أمران:

الأوّل: الأكل من بيوت من تضمنته الآية، وهي قوله تعالى: «وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَاّتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتا»(1). يعني مجتمعين و منفردين.

والمراد بالآباء هنا ما يشمل الأجداد بقرينة الجمع؛ ولأن الجد أدخل في القرب من العمّ والخال.

ويحتمل عدم دخول الأجداد؛ لأنهم ليسوا آباء حقيقةً، بدليل صحة السلب والإطلاق منزّل عليها. والجمع جاء باعتبار جمع المأذونين في الأكل؛ قضيّة للمطابقة.

وكذا القول في الأمهات بالنسبة إلى الجدّات.

ولا فرق في الإخوة والأخوات بين كونهم للأبوين أو لأحدهما. وكذا الأعمّام والأخوال.

والمراد ب«ما ملكتم مفاتحه» بيت العبد ؛ لأنّ ماله ملك السيّد، أو من له عليه ولاية.

وقيل: الولد؛ لأنّه لم يذكر بالصريح، وملكه لمفاتحه مبالغة في أولوية الأب، كما في قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أنت ومالك لأبيك»(2).

وقيل: ما يجده الإنسان في داره ولم يعلم به. وفي بعض الروايات عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّه الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله ويأكل بغير إذنه»(3).

ص: 422


1- النور (24): 61.
2- الكافي، ج 5، ص 135 - 136، باب الرجل يأخذ من مال ولده، والولد يأخذ من مال أبيه، ح 5 و 6؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 343، ح 961 و 962؛ الاستبصار، ج 3، ص 48، ح 157 و 158.
3- الكافي، ج 1، ص 277، باب أكل الرجل في منزل أخيه بغير إذنه، ح : تهذيب الأحكام، ج 1، ص 96، ح 416.

-------------------------------------------------------------------

والمرجع في الصديق إلى العرف. وفي صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن هذه الآية: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا»(1) الآية، قلت: ما يعني بقوله: «أَوْ صَدِيقِكُمْ؟» قال: «هو واللّه الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه»(2).

واشترط بعضهم تقييد الجواز بما يخشى فساده(3). وآخرون بالدخول إلى البيت بإذن المذكورين(4). وآخرون بعدم الكراهة(5).

والأصحّ عدم اشتراط الأوّلين. أما الثالث فحسن بمعنى أنه لو نهاه أو علم أو غلب على ظنّه الكراهة حرم عليه الأكل ولا يتعدّى إلى غير البيوت من أموالهم، وقوفاً فيما خالف الأصل على مورد الإذن.

الثاني: الأكل ممّا يمرّ به الإنسان من ثمر النخل، أو غيره من الشجر، أو المباطخ والزرع وقد اختلف الأصحّاب فيه بسبب اختلاف الرواية.

وبالجواز قال الأكثر، بل ادّعى عليه في الخلاف الإجماع(6). وبه روايتان مرسلتان (7) لا تقاوم ما دلّ عليه الدليل عموماً من تناول مال الغير بغير إذنه، والمنع لا يحتاج إلى رواية تخصه، وما ورد فيه (8) فهو مؤكّد، مع أنّه من الصحيح.

ومن قال بالجواز قيّده بأن لا يقصد ولا يفسد ولا يحمل معه شيئاً، ولا يعلم أو يظنّ الكراهة. وقد تقدّم البحث في ذلك وتحقيق الدليل من الجانبين في كتاب التجارة(9).

ص: 423


1- النور (24): 61.
2- الكافي، ج 6، ص 277، باب أكل الرجل في منزل أخيه بغير إذنه، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 95، ح 414.
3- المقنع، ص 371.
4- السرائر، ج 3، ص 124 : التنقيح الرائع، ج 4، ص 60.
5- المختصّر النافع، ص 366؛ الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 31 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
6- الخلاف، ج 1، ص 98، المسألة 28.
7- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 89، ح 380، وص 93، ح 393.
8- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 92، ج 392؛ الاستبصار، ج 3، ص 90، ح 307.
9- تقدّم في ج 3، ص 290 وما بعدها.
يحلّ الخمر إذا انقلبت خلّاً

الرابعة • من تناول خمراً أو شيئاً نجساً فبصاقه طاهر ما لم يكن متلوّثاً بالنجاسة. وكذا لو اكتحل بدواء نجس فدمعه طاهر ما لم يتلوّث بالنجاسة. ولو جهل تلوّثه فهو على أصل الطهارة.

الخامسة: • الذمّي إذا باع خمراً أو خنزيراً ثمّ أسلم ولم يقبض الثمن فله قبضه.

السادسة • يحلّ الخمر إذا انقلبت خلّاً، سواء كان بعلاج أو من قبل نفسها، وسواء كان ما يعالج به عيناً باقيةً أو مستهلكة، وإن كان يكره العلاج. ولا كراهية فيما ينقلب من نفسه.

-------------------------------------------------------------------

والمصنّف (رحمه اللّه) جزم بالجواز من غير نقل خلاف ثُمَّ، وتردّد هنا. وتردّده (رحمه اللّه) يمكن أن يكون في جواز الجميع، وأن يكون مختصّاً بالزرع والشجر، دون النخل. والأظهر الأوّل.

قوله: «من تناول خمراً أو شيئاً نجساً فبصاقه طاهر» إلى آخره.

إنّما حكم بطهره؛ لأنّ البواطن لا تنجس بدون التغيّر، وعلى تقدير تغيّرها تطهر بزواله، فإذا ظهر البصاق غير متغير كان طاهراً لذلك، وكذا الدمع. ومع الجهل بلوثه يحكم بطهره؛ لأنّ البصاق والدمع طاهران بالأصل فيستصحّب إلى أن يعلم الناقل عنه.

ويؤيّده رواية أبي الديلم قال، قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): رجل يشرب الخمر فبزق، فأصاب ثوبي من بزاقه، فقال: «ليس بشيء»(1).

قوله: «الذمّي إذا باع خمراً أو خنزيراً» إلى آخره.

لثبوته في ذمّة المشتري قبل الإسلام فيستصحّب ولا يقدح كون أصله محرماً على المسلم؛ لأنّه قد استقرّ على وجه محلّل في وقت يقرّ عليه، كما لو كان قد قبضه ثمّ أسلم.

قوله: «يحلّ الخمر إذا انقلبت خلا» إلى آخره.

المشهور بين الأصحّاب جواز علاج الخمر بما يحمضها ويقلبها إلى الخلية من الأجسام

ص: 424


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 115، ح 498.
لو أُلقي في الخمر خلّ، أو أُلقي في الخلّ خمر

• ولو لو أُلقى فى الخمر خلّ حتّى يستهلكه لم يحلّ ولم يطهر. وكذا لو ألقي في الخلّ خمر فاستهلكه الخلّ. وقيل: يحلّ إذا ترك حتّى تصير الخمر خلاً ولا وجه له.

-------------------------------------------------------------------

الطاهرة، سواء كان ما عولج به عيناً قائمةً أم لا.

ويدلّ عليه رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الخمر يصنع فيها الشيء حتّى تحمض، قال: «إذا كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس»(1).

وعموم حسنة زرارة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلّاً، قال: «لا بأس»(2).

وإنّما كره العلاج؛ لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية أبي بصير وقد سأله عن الخمر يجعل خلّاً فقال: «لا إلّا ما جاء من قبل نفسه»(3). وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية أخرى: «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها»(4).

وربما قيل باشتراط ذهاب عين المعالج به قبل أن يصير خلّاً؛ لأنّه ينجس بوضعه ولا يطهر بانقلابها خلّاً؛ لأنّ المطهر للخمر هو الانقلاب، وهو غير متحقّق في ذلك الجسم الموضوع فيها. ولا يرد مثله في الآنية؛ لأنّها ممّا لا تنفك عنها الخمر، فلو لم تظهر معها لما أمكن الحكم بطهرها وإن انقلبت بنفسها. وهو متجه إلّا أنّ الأشهر الأوّل.

واعلم أنه ليس في الأخبار المعتبرة ما يدل على جواز علاجها بالأجسام والحكم بطهرها كذلك وإنّما هو عموم أو مفهوم كما أشرنا إليه، مع قطع النظر عن الإسناد إليه.

قوله: «ولو ألقى فى الخمر خل حتّى يستهلكه لم يحلّ ولم يطهر» إلى آخره.

القول للشيخ(5) وابن الجنيد (6) الرواية عبد العزيز بن المهتدي قال : كتبت إلى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 425


1- الكافي، ج 6، ص 428، باب الخمر تجعل خلا، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 119، ح 511.
2- الكافي، ج 6، ص 428، باب الخمر تجعل خلا، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 117، ح 504.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 118، ح 510: الاستبصار، ج 4، ص 93 - 94، ح 360.
4- الكافي، ج 6، ص 428، باب الخمر تجعل خلاً، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 117، ح 506؛ الاستبصار، ج 4، ص 94، ح 361.
5- النهاية، ص 592-593.
6- حكاه عنه في مختلف الشيعة، ج 8، ص 364، المسألة 61.

-------------------------------------------------------------------

جعلت فداك، العصير يصير خمراً، فيصب عليه الخلّ وشيء يغيره حتّى يصير خلّاً، قال: «لا بأس به»(1).

وتأوّل الشيخ رواية أبي بصير السابقة (2) من قوله: «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها» بأنّ معناه:

إذا جعل فيه ما يغلب عليه فيظنّ أنّه خلّ، ولا يكون كذلك مثل القليل من الخمر يطرح عليه كثير من الخلّ، فإنّه يصير بطعم الخلّ، ومع هذا فلا يجوز استعماله حتّى يعزل عن تلك الخمر، ويترك مفرداً إلى أن يصير خلاً، فإذا صار خلّاً حل حينئذٍ ذلك الخلّ(3).

وأنكر ذلك ابن إدريس والمصنّف (رحمه اللّه) حيث قال:

لا وجه له؛ للإجماع على أن الخل يصير بمخالطة الخمر له نجساً، ولا دلالة على طهارته بعد ذلك؛ لأنّه إنّما يطهر الخمر بالانقلاب إلى الخلّ، فأما الخلّ فهو باق على حقيقته، وليس له حالة ينقلب إليها ليطهر بها(4).

وقال في المختلف:

إن كلام الشيخ ليس بعيداً من الصواب؛ لأنّ انقلاب الخمر إلى الخلّ يدلّ على تماميّة استعداد انقلاب ذلك الخمر إلى الخلّ، والمزاج واحد، بل استعداد الملقى في الخلّ بصيرورته خلاً أتم، ولكن لا يعلم؛ لامتزاجه بغيره، فإذا انقلب الأصل المأخوذ منه علم انقلابه أيضاً، ونجاسة الخلّ تابعة للخمرية وقد زالت فتزول النجاسة عنه، كما مرّ في الخمر إذا انقلب.

-قال: -وقد نبّه شيخنا أبو علي بن الجنيد عليه فقال: فأما إذا أخذ إنسان خمراً ثمّ صبّ

ص: 426


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 118، ح 509؛ الاستبصار، ج 4، ص 93، ح 359.
2- سبق تخريج روايته في ص 425 الهامش 4.
3- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 118 - 119، ذيل الحديث 510.
4- السرائر، ج 3، ص 133.
حكم استعمال أواني الخمر

السابعة • أواني الخمر من الخشب والقرع والخزف غير المغضور لا يجوز استعماله؛ لاستبعاد تخلّصه. والأقرب الجواز بعد إزالة عين النجاسة وغسلها ثلاثاً.

-------------------------------------------------------------------

عليه خلاً، فإنّه يحرم عليه شربه والاصطباغ به في الوقت ما لم يمض عليه وقت تنتقل في مثله العين من التحليل إلى التحريم، أو من التحريم إلى التحليل(1).

واعلم أنّ الروايات الواردة في الباب كلّها ضعيفة والقول بطهر الخلّ إذا مضى زمان يعلم انقلاب الخمر فيه إلى الخلية متجه، إذا جوّزنا العلاج وحكمنا بطهارته مع بقاء عين المعالج بها؛ لأنّ الخل لا يقصر عن تلك الأعيان المعالج بها حيث حكم بطهرها مع طهره إلّا أنّ إثبات الحكم من النص لا يخلو من إشكال، واستفادته من إطلاق جواز علاجه أعمّ من بقاء عين المعالج.

قوله: «أوانى الخمر من الخشب» إلى آخره.

القول بالمنع من استعمال الأواني المذكورة مطلقاً للشيخ في النهاية (2)؛ لرواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن كلّ مسكر وكل مسكر حرام»، :قلت: فالظروف التي يصنع فيها؟ قال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن الدبّاء والمزفّت والحنتم والنقير»، قلت: وما ذلك؟ قال: «الدبّاء: القرع، والمزفّت الدنان، والحنتم الجرار الزرق، والنقير: خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتّى يصير لها أجواف ينبذون فيها»(3).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن الدباء والمزفّت وزدتم أنتم الحنتم» يعني الغضار - ثمّ قال: وسألته عن الجرار الخضر والرصاص، قال: «لا بأس بها»(4).

ولأنّ في الخمر حدةٌ ونفوذاً في الأجسام الملاقية لها، فإذا لم تكن الآنية مغضورة دخلت أجزاؤها بها واستقرت في باطنها، فلا ينفذ الماء إليها على وجه التطهير.

ص: 427


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 364. المسألة 61.
2- النهاية، ص 592.
3- الكافي، ج 6، ص 418 - 419، باب الظروف، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 115، ح 499.
4- الكافي، ج 6، ص 418، باب الظروف. ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 115. ح 500.

-------------------------------------------------------------------

وجوابه - مع قطع النظر عن سند الأولى - حمل النهي على الكراهة، وإلّا فالماء ينفذ فيما ينفذ فيه الخمر، ويخرق الآنية وإن لم يكن فيها خمر، ولأنّ ذلك لو منع لمنع في غيره من النجاسات المائعة، فإنّها تدخل في باطن الإناء المذكور بالوجدان، ولا خلاف في طهرها.

نعم، قد ينقدح أن الماء لا يدخل إلى باطنه إلّا بالترشح فلا يكفي في التطهير.

ويندفع بأنه يدخل كذلك في الأواني والثياب والحشايا(1) مع الحكم بطهرها في غير الخمر إجماعاً، فليكن فيه كذلك.

وإطلاق النصوص بطهارة هذه الأشياء يشمل موضع النزاع، ويوجب الاكتفاء بنفوذ الماء على هذا الوجه. فكان القول بطهارة الإناء المذكور من الخمر إذا غسل ونفذ الماء فيه إلى ما نفذت الخمر فيه أقوى.

ويؤيّده رواية عمار عن أبي عبداللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: سألته عن الذي يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو ماء وكامخ أو زيتون؟ قال: «إذا غسل فلا بأس»(2).

وإطلاق النصّ والفتوى يقتضي ثبوت الطهارة بالماء القليل والكثير. وتحقّقها بهما فيما لا يتشرب واضح. أما فيه فبالكثير إذا نقع حتّى نفذ في باطنه على حد ما نفذت فيه الخمر. واعتبار المصنّف وغيره (3) في طهارته ثلاث مرّات أو سبع صريح في طهره بالقليل أيضاً؛ لأنّ الكثير لا يعتبر فيه التعدّد.

إذا تقرّر ذلك فما الذي يعتبر من العدد على تقدير تطهيره في القليل؟ اختلف فيه كلام الشيخ، فاعتبر تارةً ثلاثاً(4)، وهو الذي اختاره المصنّف هنا، وأُخرى سبعاً(5).

ص: 428


1- الحشايا: جمع الحشيّة بالتشديد الفراش. راجع النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 393، «حشا».
2- الكافي، ج 1، ص 427، باب الأواني يكون فيها الخمر ثمّ يجعل فيها الخل أو يشرب بها، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 115 - 116، ح 501.
3- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 3، ص 332؛ والمبسوط، ج 1، ص 34.
4- النهاية، ص 592.
5- المبسوط، ج 1، ص 34.

-------------------------------------------------------------------

ومستند القولين رواية عمّار السابقة(1)، وفيها: وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال: «تغسله ثلاث مرّات»، وسئل يجزئه أن يصبّ فيه الماء؟ قال: «لا يجزئه حتّى يدلك بيده، ويغسله ثلاث مرّات». وهي حجّة الأوّل.

وفي رواية أخرى عن عمار عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الإناء يشرب فيه النبيّذ قال: «يغسل سبع مرّات»(2).

ومن عمل بالأولى حمل هذه على الاستحباب؛ جمعاً. ولا ريب أنه أولى؛ إذ يلزم من العمل بالسبع اطراح رواية الثلاث.

ويمكن على هذا حمل الروايتين على الاستحباب؛ لإطلاق الرواية عن عمّار بالغسل في أوّلها الصادق بمسماه. وكذا إطلاق غيره من النصوص الصحيحة (3).

وهذا هو الذي اختاره العلّامة(4) وجماعة(5) وفيه قوة. مع أنّ رواية عمار - مع ضعف سندها، وقصورها عن إفادة الوجوب، واختلافها في التقدير - يظهر عليها قرائن الاستحباب من اعتباره مع الثلاث ذلك الإناء بيده وعدم اعتباره في غيرها، والدلك غير،واجب، بل المعتبر زوال العين كيف اتّفق.

وأيضاً في رواية السبع قال: «وكذلك الكلب» أي يغسل منه سبعاً، وهم لا يقولون به، فهو قرينة الاستحباب.

وأمّا القول بحمل المطلق على المقيد - فيسقط دلالة الإطلاق، ثمّ المقيد بالثلاث والسبع يحصل الجمع بينهما بوجوب الثلاث، واستحباب السبع - فإنّما يتم مع اعتبار الرواية

ص: 429


1- سبقت في ص 428.
2- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 116، ح 502.
3- قرب الإسناد، ص 272 - 273، ح 1082 و 1084.
4- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 240: تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 642، الرقم 6258؛ مختلف الشيعة، ج 1، ص 340، المسألة 261.
5- منهم المحقّق في المعتبر، ج 1، ص 462.
لا يحرم شيء من الربوبات والأشربة

الثامنة: • لا يحرم شيء من الربوبات والأشربة وإن شمّ منه رائحة المسكر، كربّ الرمّان والتفّاح؛ لأنّه لا يسكر كثيره.

یكره أكل ما باشره الجنب والحائض

التاسعة: • يكره أكل ما باشره الجنب والحائض إذا كانا غير مأمونين. وكذا يكره أكل ما يعالجه من لا يتوقّى النجاسات.

-------------------------------------------------------------------

وضعفها يمنع ذلك. فالرجوع إلى إطلاق الأوامر المعتمدة بالغسل من غير تحديد الصادق بالمرّة أقوى، وإن كان اعتبار العدد المذكور أفضل وأحوط.

قوله: «لا يحرم شيء من الربوبات والأشربة» إلى آخره.

لمّا كان الأصل في هذه الأشياء الحلّ، والتحريم يتوقّف على دليل يدلّ عليه، ولم يقم دليل على تحريم هذه الربوبات فلا وجه للعدول عمّا دلّ عليه الأصل من حلها، وإن أشبهت المسكر في الرائحة وغيرها، ما لم تشاركه في خاصية الإسكار فتصير من أفراده، لكن ذلك يتخلّف عنها مطلقاً؛ إذ لم ينقل فيها فعل ذلك مطلقاً.

ويؤيّده رواية جعفر بن أحمد المكفوف قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن الأوّل (عَلَيهِ السَّلَامُ)- أسأله عن السكنجبين والجلاب وربّ التوت وربّ التفّاح وربّ الرمان، فكتب : «حلال»(1).

وفي رواية أُخرى مثل الأولى وزاد ربّ السفرجل، وبعده: إذا كان الذي يبيعها غ-ي-ر عارف وهي تباع في أسواقنا، فكتب: «جائز لا بأس بها»(2).

قوله: «يكره أكل ما باشره الجنب والحائض إذا كانا غير مأمونين» إلى آخره.

المراد بكونهما غير مأمونين في التحفّظ من النجاسة. وكذا القول في كلّ من لا يتحفّظ منها إذا لم تعلم عليه يقيناً. ولا يحكم بنجاسة ما باشره - وإن غلب على الظن نجاسته - على أصح القولين(3).

ص: 430


1- الكافي، ج 6، ص 426 - 427، باب في الأشربة أيضاً، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 127، ح 551.
2- الكافي، ج 6، ص 427، باب في الأشربة أيضاً، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 127 - 128، ح 552.
3- المقنعة، ص 584، وفيه : أكل ما يعالجه من لا يتوقى النجاسات؛ النهاية، ص 589: السرائر، ج 1، ص 62: الوسيلة، ص 76: قواعد الأحكام، ج 1، ص 185، وفيه: الحائض المتهمة فقط : المقنع، ص 17، وفيه: ولا تتوضاً بسؤر الحائض ولا تشرب منه.

• وأن يسقي الدواب شيئاً من المسكرات.

• ويكره الإسلاف في العصير.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «وأن يسقى الدواب شيئاً من المسكرات.

لرواية أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن البهيمة - البقرة وغيرها - تسقى أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أيكره ذلك؟ قال: «نعم»(1).

ورواية غياث عن أبي عبداللّه : «أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كره أن يسقى الدواب الخمر»(2).

ولا يحرم ؛ لعدم تكليفها، فلا يتعلّق النهي بها، ولا بصاحبها حيث لم يشربها، خلافاً للقاضي (3).

ولا يلحق بها الأطفال وإن شاركوا في عدم التكليف بل يحرم سقيهم المسكر. وقد روي: «أنّ من سقى مولوداً مسكراً سقاه اللّه من الحميم»(4).

قوله: «ويكره الإسلاف في العصير».

هكذا أطلق الشيخ (رحمه اللّه) في النهاية. وعلّله:

بأنه لا يؤمن أن يطلبه صاحبه ويكون قد تغيّر إلى حال الخمر، بل ينبغي أن يبيعه يداً بيد. وإن كان لو فعل ذلك لم يكن محظوراً(5).

وناقشه ابن إدريس في ذلك وقال:

السلف لا يكون إلّا في الذمّة، ولا يكون في العين، وإذا كان في الذمّة لزمه تسليم ما في ذمّته من العصير من أي موضع كان، سواء تغيّر ما عنده إلى حال الخمر أم لم يتغيّر، فلا وجه حينئذٍ للكراهة(6).

ص: 431


1- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 114 - 115، ح 497.
2- الكافي، ج 6، ص 430، باب النوادر، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 114، ح 496.
3- المهذّب، ج 1، ص 433.
4- الكافي، ج 6، ص 397، باب شارب الخمر، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 103، ح 449.
5- النهاية، ص 591.
6- السرائر، ج 3، ص 131.

• وأن يستأمن على طبخه من يستحل شربه قبل أن يذهب ثلثاه إذا كان مسلماً. وقيل : لا يجوز مطلقاً. والأوّل أشبه.

-------------------------------------------------------------------

وأجيب بإمكان أن يريد بالسلف بيع عين مشخصة يسلّمها إليه في وقت معين، وأُطلق عليه اسم السلف مجازاً، كما ورد السلف في مسوك الغنم مع المشاهدة، أو يحمل على الحقيقة، ويتعذّر عليه تحصيل العصير عند الأجل، لانقلابه كذلك(1).

ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلّف، وقوة كلام ابن إدريس.

قوله: «وأن يستأمن على طبخه من يستحل شربه قبل أن يذهب ثلثاه» إلى آخره.

القول بعدم الجواز للشيخ في النهاية (2)، وتبعه ابن إدريس (3) والعلّامة(4)، وولده الفخر(5)؛ لرواية معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج فيقول : قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال: «خمر لا تشربه»، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف، يخبرنا أن عنده بختجاً على الثلث، وقد ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، يشرب منه؟ فقال: «نعم»(6).

والمراد بقوله على الثلث أنّه قد بقي منه الثلث، وذهب ثلثاه بالغليان.

والمصنّف (رحمه اللّه) اختار الكراهة؛ لأنّ ذا اليد قوله مقبول في طهارة ما تحت يده و نجاسته، فليكن هنا كذلك.

ويمكن الطعن في الرواية بضعف السند، فإنّ في طريقها يونس بن يعقوب، وقد قال

ص: 432


1- مختلف الشيعة، ج 8، ص 361، المسألة 58.
2- النهاية، ص 591.
3- السرائر، ج 3، ص 129.
4- قواعد الأحكام، ج 3، ص 332.
5- إيضاح الفوائد، ج 4، ص 158 - 159.
6- الكافي، ج 6، ص 421، باب الطلاء، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 122، ح 526.

• ويكره الاستشفاء بمياه الجبال الحارّة.

النظر في حال الاضطرار

يجوز للمضطرّ أكل المحرّمات

ومن اللواحق النظر في حال الاضطرار

• وكلّ ما قلنا بالمنع من تناوله، فالبحث فيه مع الاختيار. ومع الضرورة يسوغ التناول؛ لقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»، وقوله تعالى «فَمَنِ اضْطُرَ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمِ»، وقوله تعالى: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلّا مَا أَضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ».

فليكن النظر في المضطر، وكيفية الاستباحة.

-------------------------------------------------------------------

الصدوق ابن بابويه(1) والكشي(2): إنّه فطحي(3)، وإن كان الشيخ قد وثّقه (4)؛ إذ لا منافاة بين الأمرين، فيصلح حينئذٍ دليلاً للكراهة لا التحريم.

قوله «ويكره الاستشفاء بمياه الجبال الحارة».

المستند رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن الاستشفاء بالحميات، وهي العيون الحارّة التي تكون في الجبال التي توجد فيها رائحة الكبريت فإنّها تخرج من فوح جهنّم»(5).

قوله: «وكلّ ما قلنا بالمنع من تناوله، فالبحث فيه مع الاختيار» إلى آخره.

لا خلاف في أنّ المضطرّ إذا لم يجد الحلال يباح له أكل المحرّمات من الميتة والدم

ص: 433


1- الحاكي عنه هو العلّامة في خلاصة الأقوال، ص 297، الرقم 1104.
2- اختيار معرفة الرجال، ص 385، ح 720.
3- في حاشية «و»: «قال النجاشي: إنه رجع من الفطحيّة، وقول النجاشي مقبول. (منه رحمه اللّه)». رجال النجاشي، ص 446، الرقم 1207.
4- رجال الطوسي، ص 345، الرقم 5160، وص 368، الرقم 5477.
5- الكافي، ج 6، ص 389، باب المياه المنهي عنها، ح 1 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 101، ح 441.
تفسير المضطرّ

• أما المضطر فهو الذي يخاف التلف لو لم يتناول. وكذا لو خاف المرض بالترك. وكذا لو خشي الضعف المؤدّي إلى التخلّف عن الرفقة مع ظهور أمارة العطب، أو ضعف الركوب المؤدّي إلى خوف التلف. فحينئذٍ يحلّ له تناول ما يزيل تلك الضرورة.

-------------------------------------------------------------------

ولحم الخنزير وما في معناها، على ما قال تعالى: «فَمَنِ أَضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»(1) وغيرها من الآيات(2).

والمراد بالمخمصة في قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» (3) المجاعة. وقوله تعالى: «غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثمٍ»(4) ؛ أي غير منحرف إليه، وهو كقوله تعالى: «غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ». وسيأتي تفسير هما(5).

قوله: «أمّا المضطر فهو الذي يخاف التلف لو لم يتناول» إلى آخره.

ما ذكره من تفسير الاضطرار هو المشهور بين الأصحّاب؛ لتحقّق معنى الاضطرار على جميع هذه الأحوال.

وقال الشيخ في النهاية :

لا يجوز أن يأكل الميتة إلّا إذا خاف تلف النفس، فإن خاف ذلك أكل ما يمسك الرمق، ولا يتملأ منه(6).

ووافقه تلميذه القاضي وابن إدريس والعلّامة في المختلف (7). والأصحّ الأوّل.

وفي معنى ما ذكر من يخاف طول المرض أو عسر برثه؛ لأنّ ذلك كلّه اضطرار، ومنعه على تقديره حرج منفيّ(8).

ص: 434


1- البقرة (2): 173.
2- الأنعام (6) : 119 و 145: النحل (16): 115.
3- المائدة (5): 3.
4- المائدة (5): 3.
5- يأتي في ص 435.
6- النهاية، ص 586.
7- المهذّب، ج 2، ص 442: السرائر، ج 3، ص 113؛ مختلف الشيعة، ج 8، ص 338، المسألة 40.
8- الحجّ (22) 78: الفتح (48): 17.

• ولا يختص ذلك نوعاً من المحرّمات إلّا ما سنذكره.

لا يترخّص الباغي ولا العادي

• ولا يترخّص الباغي، وهو الخارج على الإمام، وقيل: الذي يبغي الميتة، ولا العادي، وهو قاطع الطريق، وقيل: الذي يعدو شبعه.

-------------------------------------------------------------------

ولا يشترط تيقّن وقوع ذلك، بل يكفي غلبة الظن كنظائره. ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت، فإنّ التناول حينئذٍ لا ينفع ولا يدفع، بل لو انتهى إلى تلك الحالة لم يحلّ له التناول؛ لأنّه غير مفيد، والغرض من إباحة المحرّم حفظ النفس.

قوله: «ولا يختص ذلك نوعاً من المحرّمات إلّا ما سنذكره».

إذا بلغ المضطر حدّاً يجوز له تناول المحرم لم يختص شيئاً منها دون شيء؛ لعموم قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ»(1) بعد تفصيل ما حرّم عليه، وكذا غيره من الآيات (2). لكن بعض المحرّمات يقدم على بعض بنص خارج. وسيأتي تحقيقه عن قريب(3).

قوله: «ولا يترخص الباغي، وهو الخارج على الإمام» إلى آخره.

قد عرفت استثناء الباغي والعادي من الرخصة بالآية. وقد اختلف في المراد منهما، فذهب المصنّف وجماعة(4)، إلى أن الباغي هو الخارج على الإمام، والعادي قاطع الطريق؛ الرواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله عزّ وجلّ: «فَمَنِ أَضْطُرُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ»(5) قال: «الباغي الذي يخرج على الإمام، والعادي الذي يقطع الطريق، لا تحل له الميتة»(6).

والرواية مرسلة، وفي طريقها سهل بن زياد، إلّا أن تفسيرها للباغي مناسب لمعناه المشهور شرعاً، ولعله حقيقة شرعية فيه. وإنّما الكلام في الآخر.

ص: 435


1- البقرة (2): 173.
2- المائدة (5) : 3: الأنعام (6): 119 و 145.
3- يأتي في ص 441 - 442 و 445.
4- الجامع للشرائع، ص 390؛ إرشاد الأذهان، ج 2، ص 114.
5- البقرة (2): 173.
6- الكافي، ج 6، ص 265، باب ذكر الباغي والعادي، ح 1.
كيفية الاستباحة للمضطرّ

• وأما كيفية الاستباحة فالمأذون فيه حفظ الرمق، والتجاوز حرام؛ لأنّ القصد حفظ النفس.

وهل يجب التناول للحفظ؟ قيل: نعم، وهو الحق. فلو أراد التنزّه والحال حالة خوف التلف لم يجز.

-------------------------------------------------------------------

وفي رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «العادي السارق»(1). ومثله روى عبد العظيم الحسني عن الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).

والقول بأنّ الباغي من يبغي الميتة، والعادي من يعدو شبعه لبعض المفسرين(3)، وهو حسن أيضاً؛ لأنّ باغي الميتة مع الاختيار عاص كغيره ممّن فسر به الباغي، ومن تجاوز شبعه غير مرخص أيضاً؛ لأنّه لا ضرورة له إليه، بل لا ضرورة إلى إخراجه من الرخصة.

وفي الروايتين السابقتين (4): «الباغي الذي يبغي الصيد بطراً ولهواً، لا ليعود به على عياله». وقيل فيهما غير ذلك(5).

قوله: «وأما كيفية الاستباحة فالمأذون فيه حفظ الرمق» إلى آخره.

لا خلاف في أن المضطر يستبيح سد الرمق، وهو بقية الحياة، بمعنى أنه يأكل ما يحفظه من الهلاك، وليس له أن يزيد على الشبع إجماعاً. وهل يجوز له أن يزيد عن سد الرمق إلى الشبع؟ ظاهر المصنّف والأكثر العدم؛ لأنّ الضرورة اندفعت بسد الرمق، وقد يجد بعده من الحلال ما يغنيه عن الحرام. وهو حسن حيث لا يحتاج إلى الزائد، بأن كان في بادية وخاف أن لا يتقوى على قطعها لو لم يشبع، أو يحتاج إلى المشي أو العدو، فيجوز ما تندفع به الحاجة.

ص: 436


1- الكافي، ج 3، ص 438، باب صلاة الملاحين والمكاريين وأصحاب الصيد والرجل يخرج إلى ضيعته، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 3، ص 217 - 218، ح 539.
2- الفقيه، ج 3، ص 343 - 344، ح 4216؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 83 - 84، ح 354.
3- التفسير الكبير، ج 3، ص 14 - 15: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج 2، ص 231؛ کنز العرفان، ج 2، ص 322 - 323، ذيل الآية 173 من سورة البقرة (2).
4- وهما روايتا حمّاد و عبد العظيم الحسني.
5- راجع الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 231 - 232، ذيل الآية 173 من سورة البقرة (2).
لو اضطرّ إلى طعام الغير وليس له الثمن

• ولو اضطر إلى طعام الغير وليس له الثمن وجب على صاحبه بذله؛ لأنّ في الامتناع إعانة على قتل المسلم.

وهل له المطالبة بالثمن؟ قيل : لا ؛ لأنّ بذله واجب، فلا يلزم له العوض.

وإن كان الثمن موجوداً، وطلب ثمن مثله وجب دفع الثمن.

ولا يجب على صاحب الطعام بذله لو امتنع من بذل العوض؛ لأنّ الضرورة المبيحة لاقتساره مجاناً زالت بالتمكن من البذل.

-------------------------------------------------------------------

وكذا يجوز له التزود منه إذا كان لا يرجو الوصول إلى الحلال. فلو كان يرجوه لم يجز.

إذا تقرّر ذلك، فهل يجب التناول على الوجه المأذون فيه، أو هو باقٍ على أصل الرخصة، فله التنزّه عنه؟ قولان، أصحّهما الأوّل ؛ لأنّ تركه يوجب إعانته على نفسه، وقد نهى عنه تعالى بقوله : «وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1) كما يجب دفع الهلاك بأكل الطعام الحلال.

ووجه الثاني: أن الصبر عنه لكونه محرماً - ضرب من الورع، فيكون كالصبر على القتل لمن يراد منه إظهار كلمة الكفر.

وهو ضعيف؛ لأنّ المأكول على هذا الوجه ليس محرّماً، فلا ورع في تركه. والفرق بين الأمرين واضح، فإنّ في الاستسلام للقتل ممّن أكره على كلمة الكفر إعزاز الإسلام وإيذاناً بشرفه، وإنّه ممّا يتنافس في حفظه بالنفس، بخلاف تناول المحرّم.

قوله: «ولو اضطر إلى طعام الغير وليس له الثمن» إلى آخره.

إذا وجد المضطر طعاماً حلالاً لغيره، فذاك الغير إما أن يكون حاضراً أو غائباً. فإن كان حاضراً نظر، إن كان مضطراً إليه فهو أولى به وليس للأوّل أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته، إلّا أن يكون غير المالك نبيّاً فيجب على المالك بذله له.

فإن آثر المالك المضطرّ غيره على نفسه في صورة لا يجب عليه دفعه، ففي جوازه

ص: 437


1- البقرة (2): 195.

-------------------------------------------------------------------

وجهان أصحهما ذلك مع تساويهما في الإسلام والاحترام؛ لعموم قوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(1)، ولأنّ المقصود حفظ النفس المحترمة، وهو حاصل بأحدهما، فلا ترجيح.

ويحتمل عدم الجواز؛ لقدرته على حفظ نفسه بعدم بذل ماله، فلا يجوز له بذله؛ لما فيه من إلقائها في التهلكة بيده ويمكن حينئذٍ منع كون ذلك إلقاء في التهلكة، كثبات المجاهد المثله مع ظهور أمارة العطب، فإنّ المقتول على هذا الوجه (2) ليس بهالك بل فائز. ولو كان المضطر ذمّيّاً أو بهيمة لم يجز إيثاره وإن كان محترماً.

وإن لم يكن المالك مضطراً إليه فعليه إطعام المضطر، مسلماً كان أم ذمّيّاً أم مستأمناً. وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأظهر.

وللمضطرّ أن يأخذه ويقاتله عليه، فإن قتل المالك المضطرّ عن طعامه فعليه القصاص.

ولو منعه من الطعام فمات جوعاً ففي ضمانه له وجهان، من أنه لم يحدث فيه فعلاً مهلكاً، ومن أنّ الضرورة أثبتت له في ماله حقاً، فكأنه منع منه طعامه.

وفي مقدار ما يجب على المالك بذله من سد الرمق، أو القدر المشبع وجهان، مبنيّان على القدر الذي يحلّ من الميتة.

وهل يجب على المضطرّ الأخذ قهراً والقتال أو الثابت مجرد الجواز؟ وجهان، مبنيان على الخلاف في أنّه هل يجب عليه الأكل من الميتة أم لا؟ وأولى بأن لا يجب هنا لو قيل به ثَمّ؛ لأنّ عقل المالك ودينه يبعثانه على الإطعام، وهو واجب عليه، فجاز أن يجعل الأمر موكولاً إليه.

والأصحّ الوجوب مع إظهاره الامتناع؛ لوجود العلة الموجبة في الميتة.

ص: 438


1- الحشر (59): 9.
2- في الحجريّتين زيادة: «المشروع».

-------------------------------------------------------------------

ثمّ إن كان المضطر قادراً على دفع ثمنه لم يجب على المالك بذله مجاناً قطعاً؛ لأنّ ضرورة الجائع تندفع ببذله الثمن القادر عليه.

وإن كان عاجزاً عنه ففي وجوب بذله مجاناً وجهان:

أحدهما: العدم لعصمة مال الغير كعصمة نفسه، فيجمع بين الحقين بالعوض وقت القدرة.

والثاني: عدم جواز أخذ العوض؛ لوجوب بذله، فلا يتعقّبه العوض؛ لأنّه لا عوض على فعل الواجب، كما أنه إذا خلص مشرفاً على الهلاك لا يجب له عليه أُجرة المثل.

وجوابه منع الكلّيّة، كما يجب بذل الطعام في الغلاء على المحتكر، ويجبر عليه، مع جواز أخذه العوض إجماعاً. والمعلوم وجوبه نفس بذل المال أعمّ من كونه مجاناً أو بعوض.

وفرّقوا بينه وبين تخليص المشرف على الهلاك بأنّه هناك يلزمه التخليص وإن لم يكن للمشرف على الهلاك مال، ولا يجوز التأخير إلى تقدير الأجرة وتقريرها، بخلاف ما هنا. ولا يخلو هذا الفرق من قصور.

وربما سوّى بعضهم بين الأمرين حيث يحتمل الحال موافقته على أجرة يبذلها أو يقبلها. ولا يلزمه تخليصه حتّى يقبل الأجرة كالمضطرّ، كما أنه لو لم يحتمل الحال مساومة المضطر عليه بذله ولا يلزمه العوض بخلاف ما إذا احتمل وإن لم يكن هناك مال مقدور عليه(1).

إذا تقرّر ذلك، فإذا بذل المالك الطعام مجاناً فعليه قبوله، ويأكل إلى أن يشبع مع سعة المبذول.

وإن بذله بالعوض، نظر إن لم يقدر العوض فعلى المضطر قيمة ما أكل في ذلك الزمان والمكان أو مثله إن كان مثليّاً، وله أن يشبع أيضاً. وإن قدر العوض، فإن لم يُفرد له ما يأكله فكذلك. وإن أفرده، فإن كان المقدّر ثمن المثل فالبيع صحيح، وله أن يأخذ ما فضل عن الأكل.

وإن كان أكثر فسيأتي البحث فيه (2).

ص: 439


1- حكاه النووي عن القاضي أبي الطيب في روضة الطالبين، ج 2، ص 553.
2- سيأتي عن قريبٍ.

• وإن طلب زيادةً عن الثمن، قال الشيخ: لا تجب الزيادة. ولو قيل: تجب كان حسناً؛ لارتفاع الضرورة بالتمكن. ولو امتنع صاحب الطعام والحال هذه جاز له قتاله؛ دفعاً لضرورة العطب.

ولو واطأه فاشتراه بأزيد من الثمن كراهية لإراقة الدماء، قال الشيخ: لا يلزمه إلّا ثمن المثل؛ لأنّ الزيادة لم يبذلها اختياراً.

وفيه إشكال؛ لأنّ الضرورة المبيحة للإكراه ترتفع بإمكان الاختيار.

-------------------------------------------------------------------

وإن أطعمه المالك ولم يصرّح بالإباحة، ففيه وجهان أصحهما أنّه لا عوض عليه، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام سيما في حقّ المضطرّ.

ولو اختلفا فقال المُطعم: «أطعمتك بعوض»، وقال المضطر بلا عوض» ففي تصديق المطعم؛ لأنّه أعرف بكيفيّة ما بذله، أو المضطرّ؛ لأصالة براءة ذمّته، وجهان.

ولو افتقر المضطرّ إلى وجور الطعام في فمه، فوجره المالك وهو مغمى عليه بنيّة العوض، ففي استحقّاقه العوض وجهان. وأولى بالاستحقّاق هنا؛ لأنّه خلّصه من الهلاك، فكان كالعفو عن القصاص إلى الدية؛ ولما فيه من التحريض على تدارك المضطرّين.

ووجه العدم: أنّ المضطر لم يطلب ولا تناول، فكان المالك متبرّعاً. والأقوى الأوّل.

وكما يجب بذل المال لإبقاء الآدمي، يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة وإن كانت ملكاً للغير، ولا يجب البذل للحربي والكلب العقور ولو كان للإنسان كلب غير عقور جائع وشاة فعليه إطعام الشاة.

ولو كان صاحب الطعام غائباً أكل منه وجوباً، وغرّم قيمة ما أكل إن كان قيميّاً، ومثله إن كان مثليّاً، سواء قدر على العوض أم لا، لأنّ الذمم تقوم مقام الأعيان.

قوله: «وإن طلب زيادة عن الثمن قال الشيخ: لا تجب الزيادة» إلى آخره.

قال الشيخ في المبسوط :

إذا امتنع صاحب الطعام من بذله إلّا بأزيد من ثمن مثله، فإن كان المضطرّ قادراً على قتاله قاتله فإن قتل المضطرّ كان مظلوماً مضموناً، وإن قُتل المالك كان هدراً، وإن

ص: 440

لو وجد ميتةً وطعام الغير

• ولو وجد ميتة وطعام الغير، فإن بذل له الغير طعامه بغير عوض أو عوض هو قادر عليه لم تحلّ الميتة.

ولو كان صاحب الطعام غائباً أو حاضراً ولم يبذل، وقوي صاحبه على دفعه

-------------------------------------------------------------------

لم يكن قادراً على قتاله، أو قدر فتركه حذراً من إراقة الدماء، فإن قدر على أن يحتال عليه ويشتريه منه بعقد فاسد حتّى لا يلزمه إلّا ثمن مثل فعله، فإن لم يقدر إلّا على العقد الصحيح، فاشتراه بأكثر من ثمن مثله، قال قوم: يلزمه الثمن؛ لأنّه باختياره بذل، وقال :آخرون: لا تلزمه الزيادة على ثمن المثل؛ لأنّه مضطر إلى بذلها، فكان كالمكره عليها وهو الأقوى عندنا(1).

والمصنّف (رحمه اللّه) رجّح وجوب الزائد مع قدرته عليه؛ محتجّاً بارتفاع الضرورة مع التمكّن من بذل العوض الزائد، فلم يجب على المالك بذله؛ لأنّ غريمه غير مضطرّ.

ويفهم من تعليله الوجوب بارتفاع الضرورة أنه لو لم يكن قادراً على بذلها لم يجب كما ذكره الشيخ، وإن كان قد أطلق الحكم.

ومن الأصحّاب (2) من حمل كلام الشيخ على أنّ مراده مع عدم القدرة على الثمن في العاجل والآجل، وحينئذٍ فلا يتحقّق خلاف معنوي.

وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنّ الشيخ (رحمه اللّه) لم يعلّل عدم الوجوب بما يقتضي العجز بل ظاهر قوله: «لأنه مضطر إلى بذلها» أنّه دفعها أو ما هو أعمّ منه، فلا يناسب تقييده بالعجز. وكيف كان فالتفصيل بالقدرة وعدمها أقوى.

قوله: «ولو وجد ميتةً وطعام الغير - إلى قوله - وفيه تردّد».

إذا وجد المضطر ميتةً وطعام الغير، فلا يخلو إما أن يكون ذلك الغير حاضراً أو غائباً. وعلى تقدير حضوره إما أن يبذل طعامه تبرّعاً، أو بعوض مثله فما دون أو بأزيد، أو يمنع

ص: 441


1- المبسوط، ج 4، ص 683 - 684.
2- في حاشية «و»: «هو الشهيد في شرح الإرشاد منه (رحمه اللّه). غاية المراد، ج 3، ص 385 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 3).

عن طعامه أكل الميتة. وإن كان صاحب الطعام ضعيفاً لا يمنع أكل الطعام وضمنه ولم تحل الميتة. وفيه تردّد.

-------------------------------------------------------------------

من ذلك كله. وعلى تقديره إما أن يمكن المضطر مقاتلته وقهره عليه أم لا.

وإن كان غائباً ففيه أوجه:

أحدها - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - أنه يأكل الميتة ويدع طعام الغير؛ لأنّ الميتة محرّمة لحق اللّه تعالى، وحقوق اللّه مبنية على المساهلة، ولأن إباحة الميتة للمضطرّ منصوص عليها، وجواز الأكل من مال الغير بغير إذنه يؤخذ من الاجتهاد، ولأن الميتة يتعلّق بها حقّ واحد للّه تعالى ومال الغير يتعلّق به الحقان واشتغال ذمّته.

والثاني: أنه يأكل الطعام؛ لأنّه قادر على طعام حلال العين، فأشبه ما إذا كان المالك حاضراً وبذله. والتصرف في مال الغير ينجبر بثبوت عوضه في الذمّة.

والثالث أنّه يتخيّر؛ لتعارض المعنيين.

والمصنّف (رحمه اللّه) بعد أن حكم بتقديم الميتة على تقدير غيبته - مضافاً إلى التفصيل على تقدير الحضور - تردّد في الحكم. وقد ظهر وجه تردّده.

وإن كان صاحب الطعام حاضراً نظر، إن بذله بلا عوض وجب على المضطرّ قبوله. ولو باعه بثمن المثل فما دون وجب عليه الشراء إن كان الثمن معه، أو رضي المالك بكونه في ذمّته. وكذا لو باع بما يتغابن الناس بمثله.

وإن كان بذله بزيادة كثيرة ففي تقديمه على الميتة مع القدرة عليه أوجه أحدها أنّه لا يلزمه لكن يستحبّ.

وإذا لم يلزمه الشراء فهو كما لو لم يبذله المالك أصلاً، وإذا لم يبذله لم يقاتله عليه المضطر إن كان يخاف من المقاتلة على نفسه، أو كان يخاف أن يهلك المالك (1) في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة.

ص: 442


1- في «ع» والطبعة الحجريّة: «المال» بدل «المالك».
إذا لم يجد المضطرّ إلّا الآدمي ميناً أو حيّاً

• وإذا لم يجد المضطر إلّا الآدمي ميتاً حلّ له إمساك الرمق من لحمه. ولو كان حياً محقون الدم لم يحلّ. ولو كان مباح الدم حلّ له منه ما يحلّ من الميتة.

-------------------------------------------------------------------

وإن كان لا يخاف؛ لضعف المالك وسهولة دفعه، فهو على الخلاف فيما إذا كان غائباً. والمصنّف (رحمه اللّه) رجّح أن يشتريه بالثمن الغالي مع قدرته عليه ولا يأكل الميتة ؛ لأنّه حينئذٍ غير مضطرّ إليها. ثمّ يجيء في أن الواجب عليه المسمّى، أو ثمن المثل ما تقدّم.

وإن امتنع من بذله أصلاً، فإن كان قوياً لا يمكن قهره عليه، فلا شبهة في إباحة الميتة؛ إذ لا قدرة على غيرها. وإن كان ضعيفاً يمكن قهره، قاتله وأخذه منه قهراً.

والفرق بينه وبين الغائب أنّ الغائب غير مخاطب بدفعه إلى المضطرّ، وماله بات على أصل حرمته، بخلاف الحاضر، فإنّه مأمور شرعاً بدفعه، فإذا امتنع جاز أخذه قهراً؛ موافقةً لأمر الشارع، ولم يكن بسبب ذلك مضطراً إلى الميتة.

قوله: «وإذا لم يجد المضطر إلّا الآدمى ميتاً حلّ له إمساك الرمق من لحمه» إلى آخره.

المحرّمات التي يضطر الإنسان إلى تناولها قسمان أحدهما ما سوى المسكر، ويباح جميعه بالضرورة ما لم يكن فيه إهلاك معصوم الدم.

وهنا مسألتان:

الأولى لو لم يجد إلّا آدمياً ميتاً جاز له الأكل منه؛ لأنّ الميّت وإن كان محترماً إلّا أنّ حرمة الحي أعظم، والمحافظة عليها أولى؛ ولهذا لو كان في السفينة ميت وخاف أهلها الغرق كان لهم طرحه في البحر ولا يجوز طرح الحي.

واستثنى بعضهم ما إذا كان الميت نبيّاً(1). وآخرون أنه مع الجواز يقتصر على أكله نيّاً (2)؛ لأنّ الضرورة تندفع به، وفي طبخه وشبهه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه مع اندفاع

ص: 443


1- روضة الطالبين، ج 2، ص 551.
2- الحاوي الكبير، ج 15، ص 175.

-------------------------------------------------------------------

الضرورة بدونه، بخلاف الميتة، فإنه يجوز للمضطر أكلها نيّة ومطبوخة.

ولو كان المضطر ذمّيّاً والميت مسلماً فهل له أكله؟ وجهان، من اشتراكهما في الاحترام و عصمة الدم فيقدّم الحيّ كالمسلم، ومن رجحان عصمة المسلم حيث إنّها ذاتيّة وعصمة الذمّي عرضيّة؛ لالتزامه أحكام الذمّة.

ولو وجد المضطرّ ميتةً ولحم آدمي أكل الميتة دون الآدمي، وإليه أشار المصنّف (رحمه اللّه) بقوله ولو لم يجد إلّا الآدمي ميتاً سواء في الميتة الخنزير وغيره.

وكذا المحرم لو وجد الصيد ولحم الآدمي قدم الصيد وإن قيل بتقديم الميتة على الصيد في حقّه(1).

الثانية: أن يجد المضطر آدمياً حياً، فإن كان معصوم الدم لم يجز أكله وإن كان كافراً كالذمّى والمعاهد.

وكذا لا يجوز للسيد أكل عبده، ولا للوالد أكل ولده. وإن لم يكن معصوماً - كالحربي والمرتدّ - جاز له قتله وأكله، وإن كان قتله متوقفاً على إذن الإمام؛ لأنّ ذلك مخصوص بحالة الاختيار.

وفي معناهما الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة مستحلّاً وغيرهم ممّن يباح قتله.

ولو كان له على غيره قصاص ووجده في حالة الاضطرار فله قتله قصاصاً وأكله.

وأمّا المرأة الحربيّة وصبيان أهل الحرب ففى جواز قتلهم وأكلهم وجهان أصحّهما ذلك؛ لأنّهم ليسوا معصومين، وليس المنع من قتلهم في غير حالة الضرورة لحرمة روحهم، ولهذا لا يتعلّق به كفّارة ولا دية، بخلاف الذمي والمعاهد.

ووجه المنع تحريم قتلهم في حالة الاختيار. وقد عرفت جوابه.

ص: 444


1- الحاوي الكبير، ج 15، ص 17.
لو لم يجد المضطرّ ما يلزم رمقه سوى نفسه

• ولو لم يجد المضطر ما يلزم رمقه سوى نفسه، قيل: يأكل من المواضع اللحمة كالفخذ وليس شيئاً؛ إذ فيه دفع الضرر بالضرر. ولا كذلك جواز قطع الآكلة؛ لأنّ الجواز هناك إنّما هو لقطع السراية الحاصلة، وهنا إحداث سراية.

لو اضطرّ إلى شرب خمر وبول

• ولو اضطر إلى خمر وبول، تناول البول.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو لم يجد المضطرّ ما يلزم رمقه سوى نفسه» إلى آخره.

إذا لم يجد المضطرّ سوى نفسه، بأن يقطع فلذة (1) من فخذه ونحوه من المواضع اللحِمَة، فإن كان الخوف منه كالخوف على النفس ترك الأكل أو أشدّ حرم القطع قطعاً. وإن كان أرجى للسلامة ففيه وجهان:

أحدهما الجواز؛ لأنّه إتلاف بعض لاستبقاء الكلّ، فأشبه قطع اليد بسبب الآكلة.

والثاني المنع؛ لأنّه قطع فلذة من معصوم قد يتولّد منه الهلاك، فلا يدفع الضرر بالضرر. ويفرّق بينه وبين قطع الآكلة بأنّ الجواز في قطعها لدفع السراية الحاصلة، وهنا إحداث سراية.

وفيه نظر؛ لأنّ حدوث السراية على هذا التقدير غير معلوم والفرض كون المضطرّ خائف الهلاك، فسراية جوعه على نفسه كسراية الآكلة.

ولا يجوز أن يقطع من غيره لحفظ نفسه حيث يكون معصوماً اتّفاقاً؛ إذ ليس فيه إتلاف البعض لابقاء الكلّ.

وكذا ليس للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطر، إلّا أن يكون المضطرّ نبيّاً.

قوله: «ولو اضطرّ إلى خمر وبول، تناول البول».

لأنّ تحريم البول أخفٌ، كما لو وجد بولاً وماء نجساً، فإنّه يشرب الماء؛ لأنّ نجاسته عرضية طارئة، بخلاف البول. ولا فرق بين بول نفسه وغيره، وموضع البحث ما إذا كان البول نجساً، وإلّا قدّم مطلقاً وإن قيل بتحريمه لاستخباثه؛ لأنّ المختلف فيه أخفّ من المتّفق عليه.

ص: 445


1- القِلْذَةُ: القطعة من الكبد واللحم والمال لسان العرب، ج 3، ص 502، «فلذة».
لو لم يجد للشرب شيئاً إلّا الخمر

• ولو لم يجد إلّا الخمر، قال الشيخ في المبسوط: لا يجوز دفع الضرورة بها، وفي النهاية: يجوز. وهو الأشبه.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو لم يجد إلّا الخمر» إلى آخره.

وجه ما اختاره الشيخ من عدم الجواز(1) عموم الأدلة الدالة على تحريم الخمر (2) مع عدم المعارض، فإنّ الآيات التي دلّت على إباحة المضطر محصلها تحليل الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فإنّها هي التي ذكر تحريمها في صدر الآية(3)، ثمّ سوّغها للمضطر، فلا يتعدى إلى الخمر؛ لتوقف إباحتها على الدليل.

والأقوى ما اختاره في النهاية من الجواز(4)، وهو مذهب المصنّف والأكثر؛ لأنّ حفظ النفس من التلف واجب وتركه محرم، وهو أغلظ تحريماً من الخمر وغيره، فإذا تعارض التحريمان وجب ترجيح الأخف وترك الأقوى.

ولأنّ تحريم الميتة ولحم الخنزير أفحش وأغلظ من تحريم الخمر، فإباحتهما للمضطرّ توجب إباحة الخمر بطريق أولى.

ويؤيّده رواية محمّد بن عبداللّه عن بعض أصحابه قال قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): لِمَ حرّم اللّه الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال: «إنّ اللّه تعالى لم يحرم ذلك على عباده، وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم، ولا لزهد فيما أحل لهم، ولكنّه خلق الخلق وعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطر فأحله له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك»(5). الحديث.

ص: 446


1- المبسوط، ج 4، ص 685.
2- البقرة (2): 219؛ المائدة (5): 9؛ وراجع وسائل الشيعة، ج 25، ص 296 - 306، الباب 9 من أبواب الأشربة المحرّمة.
3- المائدة (5): 3.
4- النهاية، ص 591 – 592.
5- الكافي، ج 6، ص 242، باب علل تحريم...، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 345 - 346، ح 4218، وفيه: محمّد بن عذافر عن أبيه، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): تهذيب الأحكام، ج 1، ص 128. ح 553.
لا يجوز التداوي بالخمر وسائر المسكرات

• ولا يجوز التداوي بها ولا بشيء من الأنبذة، ولا بشيء من الأدوية معها شيء من المسكر، أكلاً ولا شرباً. ويجوز عند الضرورة أن يتداوى به للعين.

-------------------------------------------------------------------

وهو نصّ في المطلوب، لكنّه مرسل، وفي سنده جهالة؛ فلذا جعلناه شاهداً لا دليلاً.

قوله: «ولا يجوز التداوي بها ولا بشيء من الأنبذة» إلى آخره.

هذا هو المشهور بين الأصحّاب، بل ادعى عليه في الخلاف الإجماع(1).

واستدلّوا عليه بصحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن دواء عجن بالخمر، قال: «لا واللّه ما أُحبّ أن أنظر إليه فكيف أتداوى به؟! إنه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير»(2).

وحسنة عمر بن أُذينة قال: كتبت إلى الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسأله عن رجل ينعت له الدواء من ريح البواسير فيشر به بقدر سكرّجة من نبيذ صلب ليس يريد به اللذة إنّما يريد به الدواء، فقال: «لا ولا جرعة»، وقال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواء ولا شفاء»(3).

ورواية أبي بصير قال: دخلت أُمّ خالد العبديّة على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنا عنده فقالت: جعلت فداك إنّه يعتريني قراقر في بطني، وقد وصفت لي أطباء العراق النبيّذ بالسويق، وقد عرفت كراهتك له، فأحببت أن أسألك عن ذلك؟ فقال لها: «وما يمنعك من شربه؟» قالت: قد قلّدتك ديني، فألقى اللّه عزّ وجلّ حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمّد أمرني ونهاني، فقال: «يا أبا محمّد، إلّا تسمع هذه المسائل؟ لا فلا تذوقي منه قطرةً، وإنّما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا» - وأوماً بيده إلى حنجرته - يقولها ثلاثاً «أفهمت؟» قالت: نعم(4). وغير ذلك من الأخبار الكثيرة(5).

ص: 447


1- الخلاف، ج 1، ص 97، المسألة 27.
2- الكافي، ج 6، ص 414، باب من اضطر إلى الخمر للدواء، أو للعطش، أو للتقيّة، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 113. ح 490.
3- الكافي، ج 6، ص 413، باب من اضطر إلى الخمر للدواء، أو للعطش، أو للتنقية، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 113، ح 488.
4- الكافي، ج 1، ص 413، باب من اضطر إلى الخمر للدواء، أو للعطش، أو للتقيّة، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 112 - 113، ح 487.
5- راجع وسائل الشيعة، ج 25، ص 343 - 348، الباب 20 من أبواب الأشربة المحرّمة.

-------------------------------------------------------------------

وأطلق ابن البرّاج جواز التداوي به إذا لم يكن له عنه مندوحة، وجعل الأحوط تركه(1).

وكذا أطلق في الدروس جوازه للعلاج، كالترياق (2).

والأقوى الجواز مع خوف التلف بدونه، وتحريمه بدون ذلك.

أمّا الأوّل فلما ذكرناه من جوازه للمضطرّ بدون المرض.

وأمّا مع عدمه فلهذه النصوص الكثيرة، وهو اختيار العلّامة في المختلف(3). وتحمل هذه الروايات على تناول الدواء لطلب العافية، جمعاً بين الأدلّة.

وأمّا التداوي بها للعين فقد اختلفت الرواية فيه، فروى هارون بن حمزة الغنوي - في الحسن - عن أبي عبداللّه ً(عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل اشتكى عينه فنعت له كحل يعجن بالخمر، فقال: «هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطراً فليكتحل به»(4). وبهذه أخذ المصنّف والأكثر.

ومنع ابن إدريس منه مطلقاً (5)؛ لإطلاق النصّ، والإجماع بتحريمه الشامل لموضع النزاع، ولما روي من «أنّ اللّه تعالى ما جعل في حرام شفاء»(6). وروى مروك، عن رجل، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «من اكتحل بميل من مسكر كحله اللّه بميل من نار»(7).

والأصحّ الأوّل ؛ لما ذكر من الرواية الصريحة فيه.

ص: 448


1- المهذّب، ج 2، ص 433.
2- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 36 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- مختلف الشيعة، ج 8، ص 357، المسألة 56.
4- تهذيب الأحكام، ج 9، ص 114، ح 493.
5- السرائر، ج 3، ص 126.
6- الكافي، ج 6، ص 414، باب من اضطر إلى الخمر للدواء أو للعطش أو للتقيّة، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 113 - 114، ح 491.
7- الكافي، ج 1، ص 414، باب من اضطر إلى الخمر للدواء أو للعطش أو للتقيّة، ح : تهذيب الأحكام، ج 9، ص 114. ح 492.

خاتمة في الآداب

سنن الأكل:
غسل اليدين قبل الأكل وبعد الفراغ

• يستحبّ غسل اليدين قبل الطعام وبعده، ومسح اليد بالمنديل، والتسمية عند الشروع، والحمد عند الفراغ، وأن يسمّي على كلّ لون على انفراده ولو قال «بسم اللّه على أوله وآخره» أجزاً.

ويستحب الأكل باليمين مع الاختيار، وأن يبدأ صاحب الطعام، وأن يكون آخر من يمتنع، وأن يبدأ في غسل اليد بمن على يمينه، ثمّ يدور عليهم إلى الأخير، وأن يجمع غسالة الأيدي في إناء واحد، وأن يستلقي الأكل بعد الأكل ويجعل رجله اليمنى على رجله اليسرى.

-------------------------------------------------------------------

وهذه الرواية - مع ضعف سندها بالإرسال - مطلقة فلا تنافي المقيّد من الجواز عند الضرورة والنصّ والإجماع على تحريمه مختصّان بتناوله بالشرب ونحوه.

قوله: «يستحبّ غسل اليدين قبل الطعام وبعده، ومسح اليد بالمنديل» إلى آخره.

اشتملت هذه الخاتمة على جملة من آداب الأكل مستفادة من الأخبار، وجملتها اثنا عشر:

الأوّل: غسل اليدين قبل الأكل.

روي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «غسل اليدين قبل الطعام ينفي الفقر»(1).

وعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من سرّه أن يكثر خير بيته فليتوضأ قبل حضور طعامه»(2).

والمراد بالوضوء هنا غسل اليدين.

وإطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق بين كون الطعام جامداً ومائعاً، ولا بين كونه

ص: 449


1- مستدرك الوسائل، ج 16، ص 269، الباب 42 من أبواب آداب المائدة، ح 11.
2- الكافي، ج 9، ص 290، باب الوضوء قبل الطعام وبعده، ح 4.
مسح اليدين بالمنديل بعد الغسل الثاني

-------------------------------------------------------------------

يباشر باليد أو بآلة كالملعقة، وإن كان الحكم مع المباشرة آكد، بل هو الأصل في الشرعيّة؛ لأنّ الأكل من صاحب الشرع وخلفائه كان كذلك.

الثاني: غسلهما بعد الفراغ.

روي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «أوّله ينفي الفقر، وآخره ينفي الهمّ»(1).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «غسل اليدين قبل الطعام وبعده زيادة في العمر، وإماطة للغمر عن الثياب، ويجلو البصر »(2). والغمر - بفتح الغين المعجمة وفتح الميم - أثر الطعام في اليد(3).

وروى أبو حمزة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: يا أبا حمزة الوضوء قبل الطعام وبعده يذهبان الفقر»، قلت: بأبي أنت وأمي يذهبان، قال: «يذيبان»(4).

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش في سعة، وعوفي من بلوى في جسده»(5).

الثالث: مسح اليدين بالمنديل بعد الغسل الثاني دون الأوّل.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا غسلت يدك للطعام فلا تمسح يدك بالمنديل؛ فإنّه لا تزال البركة في الطعام ما دامت النداوة في اليد»(6).

وعن مرازم قال: رأيت أبا الحسن إذا توضأ قبل الطعام لم يمسح بالمنديل، وإذا توضاً بعد الطعام مسح بالمنديل(7).

ص: 450


1- الكافي، ج،6، ص 290، باب الوضوء قبل الطعام وبعده، ح 5.
2- الكافي، ج 6، ص 290، باب الوضوء قبل الطعام وبعده، ح 3.
3- لسان العرب، ج 5، ص 32، «غَمَر».
4- الكافي، ج 6، ص 290، باب الوضوء قبل الطعام وبعده ح، وفيه يذهبان به تهذيب الأحكام، ج 9، ص 98، ح 424.
5- الكافي، ج 6، ص 290، باب الوضوء قبل الطعام وبعده، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 358، ح 4268؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 97 - 98، ح 423.
6- الكافي، ج 6، ص 291 باب التمندل ومسح الوجه بعد الوضوء، ح 1.
7- الكافي، ج 1، ص 291، باب التمندل ومسح الوجه بعد الوضوء، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 98، ح 426.

-------------------------------------------------------------------

ولعلّ إطلاق المصنّف المسح عائد إلى الغسل المتصل به في العبارة، وهو الواقع بعده.

وإنّما يستحبّ مسحهما بالمنديل من أثر ماء الغسل، لا من أثر الطعام، فإنّ ذلك مكروه، وإنّما السنّة في لعق الأصابع.

روى زيد الشحام عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّه كزه أن يمسح الرجل يده بالمنديل وفيها شيء من الطعام، تعظيماً للطعام، حتّى يمصها أو يكون إلى جانبه صبي يمصها»(1).

ويستحب مسح الوجه باليدين بعد الغسل قبل مسحهما بالمنديل. قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مسح الوجه بعد الوضوء يذهب بالكلف ويزيد في الرزق»(2).

وعن المفضّل قال: دخلت على أبي عبداللّه فشكوت إليه الرمد، فقال: «إذا غسلت يدك بعد الطعام فامسح حاجبيك، وقل ثلاث مرّات: الحمد للّه المحسن المجمل المنعم المفضل» قال: ففعلت فما رمدت عيني بعد ذلك(3).

التسمية عند الشروع

الرابع: التسمية عند الشروع.

فعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إذا وضعت المائدة حفّتها أربعة آلاف ملك، فإذا قال العبد: بسم اللّه قالت الملائكة: بارك اللّه عليكم في طعامكم، ثمّ يقولون للشيطان: اخرج يا فاسق لا سلطان لك عليهم، فإذا فرغوا فقالوا: الحمد للّه، قالت الملائكة: قوم أنعم اللّه عليهم فأدوا شكر ربهم، فإذا لم يسمّوا، قالت الملائكة للشيطان: ادن يا فاسق فكل معهم، فإذا رفعت المائدة ولم يذكروا اسم اللّه عليها، قالت الملائكة قوم أنعم اللّه عليهم فنسوا ربهم»(4).

ص: 451


1- الكافي، ج 6، ص 291، باب التمندل ومسح الوجه بعد الوضوء، ح 3.
2- الكافي، ج 1، ص 291 - 292، باب التمندل ومسح الوجه بعد الوضوء، ح 4.
3- الكافي، ج 6، ص 292، باب التمندل ومسح الوجه بعد الوضوء، ح 5.
4- الكافي، ج 6، ص 292، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح1: الفقيه، ج 3، ص 355، ح 4253؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 98 - 99، ح 427.

-------------------------------------------------------------------

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من أكل طعاماً فليذكر اسم اللّه عليه، فإذا نسي ثمّ ذكر اللّه بعد تقيّأ الشيطان ما أكل، واستقل الرجل الطعام»(1).

وعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): من ذكر اسم اللّه عند طعام أو شراب في أوّله، وحمد اللّه في آخره لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام أبداً»(2).

وعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا وضع الغداء والعشاء فقل: بسم اللّه؛ فإنّ الشيطان يقول لأصحابه: اخرجوا فليس ها هنا عشاء ولا مبيت وإن نسي أن يسمّي قال لأصحابه: تعالوا فإنّ لكم ها هنا عشاء ومبيتاً»(3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ الرجل إذا أراد أن يطعم طعاماً فأهوى بيده وقال بسم اللّه والحمد للّه ربّ العالمين، غفر اللّه عزّ وجلّ له قبل أن تصير اللقمة إلى فيه»(4).

ولو نسي التسمية فليقل عند الذكر: «بسم اللّه على أوله وآخره».

ورخّص في تسمية واحد من المجتمعين على المائدة عن الباقين، رواه عبد الرحمن بن الحجّاج - في الصحيح - عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5).

حمد اللّه تعالى عند الفراغ

الخامس: حمد اللّه تعالى عند الفراغ.

وقد تقدّم في الأخبار السابقة ما يدلّ عليه.

وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما من رجل يجمع عياله ويضع مائدته، فيسمون في أول طعامهم ويحمدون في آخره، فترفع المائدة حتّى يغفر لهم»(6).

ص: 452


1- الكافي، ج 6، ص 293، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 5.
2- الكافي، ج 6، ص 294، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 14.
3- الكافي، ج 1، ص 293، باب التسمية والتمحيد والدعاء على الطعام، ح 4.
4- الكافي، ج 6، ص 293، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 7.
5- الكافي، ج 1، ص 293 - 294، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 99، ح 429.
6- الكافي، ج 6، ص 296، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 25.

-------------------------------------------------------------------

ويستحب تكرار الحمد في الأثناء لا الصمت، قال زرارة: أكلت مع أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)طعاماً فما أُحصي كم مرة قال: «الحمد للّه الذي جعلني أشتهيه»(1).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): اذكروا اللّه على الطعام ولا تلغطوا فإنّه نعمة من نعم اللّه، ورزق من رزقه يجب عليكم فيه شكره وذكره وحمده»(2).

ويستحب أن يقول إذا فرغ: «الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأيّدنا وآوانا وأنعم علينا وأفضل، الحمد للّه الذي يطعم ولا يطعم»(3).

التسمية على كلّ لون عند الشروع في الأكل منه

السادس: أن يسمّي اللّه تعالى على كلّ لون عند الشروع في الأكل منه، إذا تعدّدت الألوان على المائدة.

قال داود بن فرقد لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): كيف أُسمّي على الطعام؟ فقال: «إذا اختلفت الآنية قسم على كلّ إناء»، قلت: فإن نسيت أن أستي؟ قال، تقول: «بسم اللّه على أوله وآخره»(4).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «ضمنت لمن سمّى على طعام أن لا يشتكي منه، فقال ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، لقد أكلت البارحة طعاماً فسمّيت عليه و آذاني، قال: «لعلك أكلت ألواناً فسمّيت على بعضها ولم تسمّ على بعض» [قال: نعم قال: «من ها هنا أتيت] يا لكع»(5).

وكذا يستحبّ إعادتها لو قطع الأكل بالكلام ثمّ عاد إليه.

ولو قال في الألوان المتعدّدة: «بسم اللّه على أوله وآخره» أجزاً، وإن كان تكرارها بحسبها أفضل.

ص: 453


1- الكافي، ج 6، ص 295 باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 17.
2- الكافي، ج 6، ص 296، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 23.
3- المحاسن، ج 2، ص 216، ح 1646.
4- الكافي، ج 1، ص 295، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 20؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 99، ح 431.
5- الكافي، ج 1، ص 295، باب التسمية والتحميد والدعاء على الطعام، ح 18؛ الفقيه، ج 3، ص 355، ح 4256، وما بين المعقوفين لم يرد فيهما.

-------------------------------------------------------------------

السابع: أن يأكل بيده اليمنى مع الاختيار.

لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تأكل باليسرى وأنت تستطيع»(1).

ولو كان له مانع من الأكل باليمنى -كوجع ونحوه - فلا بأس باليسار.

الثامن: أن يبدأ صاحب الطعام بالأكل إذا كان معه غيره.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا أكل مع القوم كان أوّل من يضع مع القوم يده، وآخر من يرفعها؛ ليأكل القوم»(2).

التاسع: أن يكون آخر من يترك الأكل لما ذكر في الخبر.

العاشر: أن يبدأ صاحب الطعام بغسل يده، ثمّ يبدأ بعده بمن على يمينه، ثمّ يدور عليهم إلى الآخر. هذا في الغَسل الأوّل. أما في الثاني فيبدأ بمن على يساره كذلك، ويكون آخر من يغسل يده.

وعلّل تقديم غسل يده أوّلاً برفع الاحتشام عن الجماعة، وتأخيره آخراً بأنّه أولى بالصبر على الغمر هكذا روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).

وفي خبر آخر عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فإذا فرغ من الطعام بدأ بمن على يمين الباب، حراً كان أو عبداً»(4).

الحادي عشر: أن تجمع غُسالة الأيدي في إناء واحد.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اغسلوا أيديكم في إناء واحد تحسن أخلاقكم»(5).

الثاني عشر: أن يستلقي الأكل بعد الأكل ويجعل رجله اليمنى على اليسرى.

ص: 454


1- الكافي، ج 1، ص 272، الأكل باليسار، ح 2، وفيه: «باليسار»؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 93، ح 403.
2- الكافي، ج 6، ص 285، باب الأكل مع الضيف، ح 2.
3- الكافي، ج 1، ص 290 - 291، باب صفة الوضوء قبل الطعام، ح 1.
4- علّل الشرائع، ج 1، ص 338، الباب 216، ح 1.
5- الكافي، ج 1، ص 291، باب صفة الوضوء قبل الطعام، ح 2.
مكروهات الأكل وهى أربعة

• ويكره الأكل متكناً، والتملّي من المأكل، وربما كان الإفراط حراماً؛ لما يتضمّن من الإضرار.

ويكره الأكل على الشبع والأكل باليسار.

-------------------------------------------------------------------

روى البزنطي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا أكلت فاستلق على قفاك وضع رجلك اليمنى على اليسرى»(1).

قوله: «ويكره الأكل متّكئاً، والتملّي من المأكل» إلى آخره.

لما ذكر شيئاً من سنن الأكل أتبعه بذكر شيء من مكروهاته، وهي أربعة:

الأوّل: الأكل متّكناً على أحد جانبيه. وكذا يكره مستلقياً، بل يجلس متورّكاً على الأيسر.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما أكل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) متّكئاً منذ بعثه اللّه تعالى حتّى قبض، كان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد، تواضعاً اللّه عزّ وجلّ»(2).

وفي خبر آخر عنه : «لا تأكل متكئاً ولا منبطحاً»(3).

وفي رواية أخرى عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): إذا جلس أحدكم على الطعام فليجلس جلسة العبد، ولا يضعن أحدكم إحدى رجليه على الأخرى ويتربع، فإنّها جلسة يبغضها اللّه ويمقت صاحبها»(4).

وروى الفضيل بن يسار عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه أكل متكناً على يده وأنّه قال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم ينه عنه»(5).

وهو محمول إمّا على استثناء الاتكاء على هذا الوجه، أو على بيان جوازه، وأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم ينه عنه نهي تحريم أو نحو ذلك.

ص: 455


1- الكافي، ج 6، ص 299 باب نوادر، ح 21؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 100، ح 435.
2- الكافي، ج 1، ص 270، باب الأكل متّكئاً، ح 1.
3- الكافي، ج 1، ص 271، باب الأكل متّكناً، ح 4.
4- الكافي، ج 1، ص 272، باب الأكل متّكناً، ح 10.
5- الكافي، ج 6، ص 271، باب الأكل متّكناً، ح 5.

-------------------------------------------------------------------

الثاني: التملّي من المأكل.

قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما ملأ ابن آدم وعاء أشرّ من بطنه، فإذا كان ولابدّ فثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك»(1).

وقال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما من شيء أبغض إلى اللّه عزّ وجلّ من بطن مملوء»(2).

وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن البطن ليطغى من أكله، وأقرب ما يكون العبد من اللّه إذا خفّ بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى اللّه إذا امتلأ بطنه»(3).

وربما كان الإفراط في الأكل حراماً؛ لما يتضمن من الضرر الناشئ عن ذلك. قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «المعدة بيت الداء»(4).

وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): كلّ داء من التخمة ما عدا الحمّى، فإنّها تَرِدُ وروداً»(5).

والوجدان على ذلك أعدل شاهد.

الثالث: الأكل على الشبع ؛ لما تقدم. وقال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا شبع البطن طغى»(6).

وعن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الأكل على الشبع يورث البرص»(7).

والفرق بين الشبع والتملّي أن الشبع هو البلوغ في الأكل إلى حد لا يشتهيه، سواء امتلأ بطنه منه أم لا(8).

ص: 456


1- مشكاة الأنوار الطبرسي، ج 2، ص 323، ح 1905؛ مسند أحمد، ج 5، ص 117، ح 16735، مع اختلاف يسير؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1111، ح 3349: الجامع الصحيح، ج 4، ص 590، ح 2380.
2- الكافي، ج 6، ص 270، باب كراهية كثرة الأكل، ح 11.
3- الكافي، ج 6، ص 269، باب كراهية كثرة الأكل، ح 4.
4- مجمع البيان، ج 4 ص 413، ذيل الآية 32 من سورة الأعراف (7)؛ الدعوات الراوندي، ص 77، ح 186 : عوالي اللآلي، ج 2، ص 30، ح 72.
5- الكافي، ج 6، ص 269، باب كراهية كثرة الأكل، ح 8.
6- المحاسن، ج 2، ص 231، ح 1705، وفيه: عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ).
7- الكافي، ج 6. ص 269، باب كراهية كثرة الأكل، ح 7.
8- انظر لسان العرب، ج 8، ص 71، «شَبَعَ».
حرمة الأكل على مائدة يشرب عليها شيء من المسكرات

• ويحرم الأكل على مائدة يشرب عليها شيء من المسكرات أو الفقّاع.

-------------------------------------------------------------------

والتملّي ملء البطن منه وإن بقيت شهوته للطعام(1)، كما يتّفق ذلك لبعض الناس، فبينهما عموم وخصوص من وجه.

الرابع: الأكل باليسار، وكذا الشرب وغيرهما من الأعمّال مع الاختيار.

روى جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنّه كره للرجل أن يأكل بشماله، أو يشرب أو يتناول بها»(2).

وروى أبو بصير عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «لا تأكل باليسرى وأنت تستطيع»(3).

وإنّما ذكر كراهة الأكل باليسار مع سبق ذكره استحباب الأكل باليمين؛ بناءً على أنّه لا يلزم من نفي الاستحباب في الأكل باليسار إثبات الكراهة؛ لأنّه أعم، فجاز أن يكون مباحاً، فنبه على كونه مكروهاً؛ للنهي عنه بخصوصه على وجه لم يبلغ حد المنع من النقيض.

قوله: «ويحرم الأكل على مائدة يشرب عليها شيء من المسكرات أو الفقّاع».

يدلّ على تحريم الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة هارون بن الجهم: «إنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر»(4).

وفي رواية أخرى: «ملعون من جلس طائعاً على مائدة يشرب عليها الخمر»(5).

وروى جرّاح المدائني عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يأكل على مائدة يشرب عليها الخمر»(6).

ص: 457


1- انظر لسان العرب، ج 1، ص 158 - 159، «مَلاً».
2- الكافي، ج 1، ص 272، باب الأكل باليسار، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 353، ح 4244 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 93، ح 402.
3- تقدّم تخريجه في ص 454، الهامش 1.
4- الكافي، ج 6، ص 268، باب كراهية الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 9، ص 97، ح 422.
5- الكافي، ج 6، ص 268، باب كراهية الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر، ذيل الحديث 1.
6- الكافي، ج 1، ص 268، باب كراهية الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 9، ص 97، ح 421.

-------------------------------------------------------------------

والرواية الأولى تضمّنت تحريم الجلوس عليها، سواء أكل أم لا. والأخيرة دلّت على تحريم الأكل منها، سواء كان جالساً أم لا. والاعتماد على الأُولى؛ لصحتها

وعدّاه العلّامة إلى الاجتماع على اللّهو والفساد (1).

وقال ابن إدريس: لا يجوز الأكل من طعام يعصى اللّه به أو عليه (2).

ولم نقف على مأخذه، والقياس باطل، وطريق الحكم مختلف.

وعلّل بأنّ القيام يستلزم النهي عن المنكر؛ من حيث إنه إعراض عن فاعله وإهانة له. فيجب لذلك، ويحرم تركه بالمقام عليها(3).

وفيه نظر؛ لأنّ النهي عن المنكر إنّما يجب بشرائط من جملتها تجويز التأثير، ومقتضى الروايات تحريم الجلوس والأكل حينئذٍ وإن لم ينه عن المنكر ولم يجوز تأثيره.

وأيضاً فالنهي عن المنكر لا يتقيد بالقيام بل بحسب مراتبه المعلومة على التدريج، وإذا لم يكن المقام من مراتبه لا يجب فعله.

وأمّا إلحاق الفقّاع بالخمر فإنّه وإن لم يرد عليه نص بخصوصه لكن قد ورد: «أنّه بمنزلة الخمر»(4)، و«أنّه خمر مجهول»(5)، و«أنه خمر استصغره الناس»(6)، فجاز إلحاقه به في هذا الحكم.

ص: 458


1- قواعد الأحكام، ج 3، ص 337.
2- السرائر، ج 3، ص 136.
3- كنز الفوائد، ج 3، ص 340 بتفاوت يسير.
4- الكافي، ج 6، ص 422 - 424، باب الفقّاع، ح 2 - 4 و 7 و 13 و 15؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 124 و 125، ح 534 - 535 و 542 و 543.
5- الكافي، ج 3، ص 407، باب الرجل يصلّي في الثوب وهو غير طاهر...، ح 15؛ وج 6، ص 422 - 423، باب الفقّاع، ح 7 و 8؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 124 - 125، ح 539 و 541: الاستبصار، ج 4، ص 95، ح 307.
6- الكافي، ج 1، ص 423، باب الفقّاع، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 9، ص 125، ح 540؛ الاستبصار، ج 4، ص 95، ح 369، وفيها: «هي خميرة استصغرها الناس».

كتاب الغصب

إشارة:

والنظر في السبب والحكم، واللواحق

-------------------------------------------------------------------

كتاب الغصب

تعريف الغصب

أصل الغصب أخذ الشيء ظلماً (1)، وقيل: أخذه ظلماً جهاراً (2).

والأصل في تحريمه - قبل الإجماع آيات منها قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ»(3) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل.

وأخبار منها: قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في خطبة يوم النحر : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وشهركم هذا»(4).

وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من غصب شبراً من أرض طوقه اللّه من سبع أرضين يوم القيامة»(5).

ص: 459


1- الصحاح، ج 1، ص 194 ؛ لسان العرب، ج 1، ص 648، «غَصَبَ».
2- قال في جواهر الكلام، ج 37، ص 7: نعم في الإسعاد لبعض الشافعية زيادة «جهاراً».
3- البقرة (2): 188.
4- الكافي، ج 7، ص 273، باب القتل، ح 12؛ الفقيه، ج 4، ص 12 - 093 ح 5154.
5- مسند أحمد، ج 1، ص 307، ح 1636؛ صحيح البخاري، ج 2، ص 866 ح 2320 - 2322؛ صحیح مسلم، 307، ج 3، ص 1230 - 1231، ح 1610 - 1611: الجامع الصحيح، ج 4، ص 28، ح 1418: السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 162 - 163، ح 11531 - 11536، وفي المصادر: «من ظلم» أو «من أخذ» أو «من سرق» أو «من اقتطع ولم نعثر على «من غصب».

النظر الأوّل في السبب

تعریف الغصب

• فالغصب هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدواناً.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «فالغصب هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدواناً».

هذا تعريفه بحسب مفهومه شرعاً، وهو قريب من معناه اللغوي.

والمراد بالاستقلال الاستبداد به بغير مشارك. وأصله الأقلّال؛ لأنّ باب الاستفعال يغلب فيه طلب الفعل، وهو غير مراد هنا.

واحترز به عمّا لو أزعج المالك عن ماله ولم يستول عليه، فإنّه لا يضمن، كما سيأتي(1). وكذا لو مد بمقود الدابّة المركوبة لمالكها مع قوته على دفعه.

وخرج بالمال إثبات اليد على ما ليس بمال، كالحرّ، فلا يتحقّق فيه الغصب ولا يضمن.

ويشمل المال العين والمنفعة المجرّدة عنها، كما لو آجر داره ثمّ استولى عليها، فإنّه يكون غاصباً للمنفعة.

ويخرج منه منفعة البضع فإنّها وإن دخلت في المنفعة لكن لا تدخل في المال الذي ينقسم إليه العين والمنفعة فالداخل هنا في المال هي منفعة المال خاصّة لا مطلق المنفعة كما أنّ المراد بالعين عين خاصّة، وهي عين المال لا مطلق العين. وأضاف المال إلى الغير ليخرج به مال نفسه، فإنّه لو أثبت يده على ماله عدواناً - كالمرهون المشروط كونه في يد المرتهن - فليس بغاصب.

والتقييد بالعدوان يخرج به إثبات المرتهن والوليّ والوكيل والمستأجر وشبههم أيديهم على مال المرتهن (2) والموكل والمولّى عليه والمؤجر.

هذا، وينتقض في عكسه بما لو سكن مع المالك، إمّا قهراً أو بغير إذنه، وإن قدر المالك

ص: 460


1- يأتي في ص 463.
2- في بعض النسخ: «الراهن» بدل «المرتهن».

-------------------------------------------------------------------

على دفعه فلم يفعل، فإنّه غير مستقل بإثبات يده؛ لمشاركة المالك له في اليد، بل ربما كان المستقل بها في الثاني هو المالك.

وما قيل من أنّ الساكن على هذا التقدير مستقل بالنصف(1) ضعيف؛ لأنّه لم يستبد به، وإنّما هو مشارك.

بل ينتقض على هذا بما لو اشترك اثنان في غصب مال بحيث يعجز كلّ واحد عن الاستقلال به منفرداً؛ فإنه لا استقلال لكلّ واحد بالمال، وإنّما هو مركب منهما، مع أنّ كلّ واحد منهما محكوم بكونه غاصباً، ومن ثمّ يتخير المالك في تضمين من شاء منهما.

ولو أذن غير المالك لغيره في سكنى داره والساكن جاهل بالحال فليس بغاصب؛ لأنّه غير متعدّ.

والآذن وإن كان متعدّياً بالإذن إلّا أنه غير مستقل بإثبات اليد، مع أنّه الغاصب شرعاً، والضمان راجع إليه، إلّا أن يجعل مثل هذا الإذن استقلالاً بإثبات اليد حيث لا مدافع له عنها. وهو بعيد.

وينتقض أيضاً بما لو استقل بإثبات اليد على حرّ صغير أو مجنون فتلف بسبب كلدغ حيّة، أو وقوع حائط عند الشيخ (2)، كما سيأتي(3).

ويمكن السلامة من هذا بأنّ المصنّف لا يراه، ومن ثمّ اقتصر على مجرد حكايته عن الشيخ. وقد تضمن منفعة البضع على بعض الوجوه، كما لو تعمدت الرضاع المحرم، أو رجع الشاهدان بالطلاق عنه، إلّا أنّ مثل هذا يمكن إخراجه عن الغصب، والضمان أعمّ منه.

وينتقض التقييد ب«مال الغير» بما لو استولى المالك على ماله المرهون عدواناً، فإنّه يضمنه مع التلف بالمثل، أو القيمة ويكون رهناً، وحقّ المرتهن لا يسمّى مالاً وإن نزل منزلته.

ص: 461


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 98 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- المبسوط، ج 5، ص 21.
3- يأتي في ص 470.

-------------------------------------------------------------------

وبما لو استقل باليد على حقّ الغير في نحو المدرسة والرباط والمسجد والتحجير، فإنّه في جميع ذلك،غاصب، مع أنّه لم يستول على ماله.

وبما لو غصب الوقف العامّ فإنّه ليس ملكاً للغير، أو الخاص على القول بانتقال ملكه إلى اللّه تعالى، إلّا أن يراد من الغير ما يشمل اللّه تعالى. وهو بعيد.

وينتقض أيضاً بما سيأتي من الصور التي يضمن فيها المال بالنسبية من دون أن يستقل يده عليه(1)، كما لو فتح قفص الطائر أو حلّ قيد الدابّة، ونحو ذلك من الصور الكثيرة الموجبة للضمان.

وبقيد «العدوان» بمن ترتبت يده على يد الغاصب جاهلاً، فقد سمّوه غاصباً، وجوّزوا الرجوع عليه، وإن كان جاز له الرجوع على من غرّه.

وبمن سكن دار غيره غلطاً، أو لبس ثوبه خطاً، فإنّه يضمن، إلّا أن يجعل الضمان المذكور في باب الغصب أعمّ من ضمان الغصب، وذكره فيه على وجه الاستطراد.

ويؤيّده ما تقدّم من تحريم الغصب بالنصّ والإجماع (2)، مع عدم ثبوت التحريم في هذه المواضع وإن أوجبت الضمان.

واعلم أنّه بواسطة ما ذكرناه وأشباهه اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الغصب، وما عرّفه به المصنّف اصطلاح الأكثر، وهو المناسب لتحريم الغصب.

ومن تعريفاته: «أنّه الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ» وهو أعمّ من الأوّل، وسالم من كثير ممّا يرد عليه، ومتناول لهذه الأسباب الأخيرة الموجبة للضمان مع عدم العدوان، فإنّ عدم الحقّ أعمّ من العدوان؛ لأنّ المستولى على مال الغير جهلاً أو غلطاً غير عادٍ وإن كان ذلك بغير حق، كما لا يخفى. وما ادعي من تساوي العبارتين في المفهوم ظاهر الفساد.

وعذر الأوّل: أن الثابت في هذه المواضع حكم الغصب لا حقيقته التي لا تتم إلّا بالتحريم. وتبقى فيه مشاركته له في الاستيلاء على حقّ الغير ممّا ليس بمال.

ص: 462


1- يأتي في ص 481.
2- تقدّم في ص 459.
من شرائط تحقّق الغصب استقلال الغاصب بإثبات اليد

• ولا يكفي رفع يد المالك ما لم يثبت الغاصب يده. فلو منع غيره من إمساك دابّته المرسلة فتلفت لم يضمن.

وكذا لو منعه من القعود على بساطه أو منعه من بيع متاعه فنقصت قيمته السوقيّة، أو تلفت عينه. أما لو قعد على بساط غيره، أو ركب دابّته ضمن.

-------------------------------------------------------------------

فكان الأجود على هذا عبارة ثالثة له وهي «الاستيلاء على حقّ الغير بغير حقّ».

ف«الاستيلاء» يتناول مشارك المالك في الانتفاع بماله وإن لم يكن مستقلّاً. وكذا المشارك لغيره في الغصب من غير أن يكون أحدهما مستقلاً. و«الحقّ» يشمل المال من عين ومنفعة وغيره، كما ذكر من الأمثلة وغيرها. وب«غير حق» يشمل باقي الضمان الذين لم يتحقّق منهم العدوان.

والأظهر في الاستعمال إطلاق الغصب على ما يشمل المقتضي للإثم وغيره، وإن كان الأغلب الأوّل.

قوله: «ولا يكفي رفع يد المالك ما لم يثبت الغاصب يده» إلى آخره.

هذا متفرّع على كون الغصب هو الاستقلال بإثبات اليد، فإذا تعدى على الغير من دون أن يستقلّ بيده على ماله لا يعد غاصباً وإن كان آثماً.

ومنه ما لو منع غيره من إمساك دابته المرسلة فاتّفق تلفها، أو منعه من القعود على بساطه وغيره من أمتعته فتلف وعدم الضمان فيهما هو المشهور. وهو يتمّ مع عدم كون المنع سبباً في التلف، بل اتّفق معه.

أمّا لو كان سبباً والتلف متوقع معه فالوجه الضمان؛ لتحقّق السببية. وهو اختيار جماعة من المتأخّرين(1). ومثله ما لو منعه من بيع متاعه فتلف بحيث لو لا المنع لما حصل التلف، فإنّه حينئذٍ سبب فيه.

أمّا لو نقصت قيمته السوقية مع بقاء عينه وصفته على حالها فعدم الضمان متّجه.

ص: 463


1- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 178 - 179، المسألة 1016. وقد استشكل في عدم الضمان؛ ومنهم المحقّق الكركي في حاشية شرائع الإسلام، ج 2، ص 425 - 426 (ضمن: حياة المحقّق الكركي وآثاره، ج 11).
يتحقّق غصب العقار كما يتحقّق غصب المنقول

• ويصح غصب العقار، ويضمنه الغاصب. ويتحقّق غصبه بإثبات اليد عليه مستقلاً من دون إذن المالك. وكذا لو أسكن غيره.

-------------------------------------------------------------------

وفي الدروس قال: إنه لا يضمن حينئذٍ قطعاً(1)، مع أنّه في بعض فتاواه قوى الضمان في الجميع.

ولا إشكال في تحقّق الغصب مع الجلوس على البساط وركوب الدابّة، سواء قصده أم لا. وسواء كان المالك حاجزاً (2) وأزعجه أم لا؛ لتحقّق الاستيلاء عليه على وجه العدوان حيث نعتبره، أو مطلقاً حيث نكتفي به في الضمان.

وربما قيل (3) باشتراط نقل المنقول في ضمانه، فلا يكفي مجرد ركوب الدابّة من غير أن ينتقل به، والجلوس على البساط كذلك؛ نظراً إلى أنّ ذلك هو القبض في المبيع وغيره كأمثاله من المنقولات.

وجوابه: منع عدم تحقّق القبض مطلقاً بذلك، فإنّ القبض له حكمان: أحدهما: دخوله في ضمانه، وهو حاصل بالركوب والجلوس من غير نقل.

والثاني: تمكّنه من التصرف، وهذا يشترط في الركوب ونحوه إذن المالك فيه، ولا فرق في هذا بين أن ينقله وعدمه، فلا وجه لإخراج التصرف بغير النقل من البين على هذا التقدير. قوله: «ويصح غصب العقار، ويضمنه الغاصب» إلى آخره.

كما يتحقّق غصب المنقول اتّفاقاً كذا يتحقّق غصب العقار عندنا وعند أكثر العلماء؛ لأنّ المعتبر منه الاستقلال بإثبات اليد والاستيلاء وتحقّقهما ممكن في العقار كغيره، ومن ثمّ أمكن قبضه في البيع وغيره ممّا يعتبر فيه القبض، وهو لا يتحقّق بدون الاستقلال بإثبات اليد عليه، فليكن هنا كذلك.

ص: 464


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 97 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- في «م»: «حاضراً» بدل «حاجزاً».
3- في حاشية «و»: «هذا القول منسوب إلى الشيخ يحيى بن سعيد، وهو قول جماعة من العامّة. (منه رحمه اللّه)». الجامع للشرائع، ص 350؛ روضة الطالبين، ج 4، ص 98.
لو سكن الدار مع مالكها قهراً

• فلو سكن الدار مع مالكها قهراً لم يضمن الأصل. وقال الشيخ: يضمن النصف. وفيه تردّد؛ منشؤه عدم الاستقلال من دون المالك.

-------------------------------------------------------------------

ولا فرق على تقديره بين أن يزعج المالك فيخرجه من الدار ويدخلها على هيئة من يقصد السكني، وبين أن يستولي عليها ويتسلّم مفاتيحها وإن لم يدخلها أصلاً؛ لأنّ قبضها يحصل بذلك.

ومثله ما لو أسكنها غيره جاهلاً، فإنّ يد الساكن مسبّبة عن يده، فكان في معنى سكناه بنفسه.

وما ذكره المصنّف من تحقّق غصب العقار بإثبات اليد عليه مستقلاً أولى من قول غيره –كالعلّامة (1)- : إنّه يتحقّق بالدخول وإزعاج المالك؛ فإنّهما معاً ليسا شرطاً في تحقّقه، وإن أمكن حصوله بهما على بعض الوجوه، بأن كان المالك في الدار اتّفاقاً فأخرجه الغاصب ودخلها مستقلاً، إلّا أن الوجه فيه الاستقلال لا من حيث الإزعاج ولا من حيث الدخول كما بيناه إلّا ترى أنه لو كان المالك غائباً يتحقّق الغصب ولا إزعاج، ولو استولى مع المالك صار غاصباً في الجملة ولا إزعاج، فالاعتبار باليد والاستيلاء.

والمراد بقوله «يصح غصب العقار» أنّه يقع ويتصوّر ونبه به على خلاف بعض العامّة حيث ذهب إلى أنّه لا يثبت فيه الغصب (2).

لنا أنه يثبت عليه اليد فيدخله الغصب كالمنقول وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من غصب شبراً من أرض طوقه اللّه من سبع أرضين يوم القيامة»(3).

قوله: «فلو سكن الدار مع مالكها قهراً لم يضمن الأصل» إلى آخره.

لما كان الغصب عند المصنّف إنّما يتحقّق بالاستقلال بإثبات اليد على المال لم يتحقّق

ص: 465


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 222.
2- الحاوي الكبير، ج 7، ص 135: بدائع الصنائع، ج 7، ص 216؛ وابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 378 - 379. المسألة 3934.
3- تقدّم تخريجه في ص 459 الهامش 5.

ولو كان الساكن ضعيفاً عن مقاومة المالك لم يضمن. ولو كان المالك غائباً ضمن.

-------------------------------------------------------------------

عنده الغصب بسكنى الدار مع مالكها قهراً؛ لعدم استقلاله بشيء معين، بل كلّ محلّ منها، فيد المالك باقية عليه في الجملة.

وقال الشيخ - وتبعه الأكثر : إنّه يضمن النصف؛ لاجتماع يدهما واستيلائهما عليه ولا يشترط الاستقلال(1). وهذا أقوى.

وربما قيل بأنّه على هذا التقدير مستقل بالنصف أيضاً على وجه الإشاعة. ولا يخلو من بعد.

نعم، لو كان الداخل ضعيفاً والمالك قوياً لا يعد مثله مستولياً عليه لم يكن غاصباً لشيء من الدار، ولا عبرة بقصد ما لا يتمكن من تحقيقه. ولكن يضمن أجرة ما سكن ولو بالإشاعة؛ لتصرّفه في مال الغير بغير إذنه، وإن لم يجامعه الغصب.

وموضع البحث ما إذا لم يسكن بيتاً معيّنا و[لا](2) يمنع المالك عنه، وإلّا فلا إشكال في تحقّق غصبه له دون باقي الدار. هذا كلّه إذا كان المالك حاضراً في العقار.

أمّا لو لم يكن فيه، ودخل على قصد الاستيلاء فهو غاصب، وإن كان الداخل ضعيفاً وصاحب الدار قويّاً؛ لأنّ الاستيلاء حاصل في الحال، وأثر قوّة المالك سهولة إزالته والانتزاع من يده وليس بمتحقّق في الحال، فكان كما لو غصب قلنسوة ملك؛ فإنّه يكون غاصباً، وإن سهل على المالك انتزاعها وتأديبه.

ولبعض العامّة وجه أنه لا يكون غاصباً؛ لأنّ مثله في العرف يعد هزلاً لا استيلاء(3).

ولو كان دخوله لا على قصد الاستيلاء، بل لينظر هل تصلح له، أو ليتخذ مثلها لم يكن

ص: 466


1- المبسوط، ج 2، ص 489.
2- ما بين المعقوفين أثبتناه من الطبعة الحجريّة.
3- راجع روضة الطالبين، ج 4. ص 98-99.

• وكذا لو مد بمقود دابّة فقادها ضمن ولا يضمن لو كان صاحبها راكباً.لها.

• وغصب الأمة الحامل غصب لولدها؛ لثبوت يده عليهما. وكذا يضمن حمل الأمّة المبتاعة بالبيع الفاسد.

------------------------------------------------------------------

غاصباً، وإن كان آثماً بدخوله من حيث تصرفه في مال الغير بغير إذنه. لكن لو انهدمت في تلك الحال هل يضمنها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو أخذ منقولاً من يد مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه، أو مثله فتلف في الحال فإنّه يضمنه.

وأصحهما : لا، بخلاف المنقول.

وفرّق بينهما بأنّ اليد على المنقول حقيقة فلا يحتاج في إثبات حكمها إلى قرينة، وعلى العقار حكميّة فلابدّ في تحقّقها من قرينة قصد الاستيلاء.

قوله: «وكذا لو مد بمقود دابّة فقادها ضمن» إلى آخره.

إذا مدّ بمقود دابّة وقادها، فإن لم يكن مالكها راكباً عليها ضمن؛ لتحقّق الاستقلال باليد عليها. وكذا لو ساقها قُدَّامه بغير قود، وإن كان مالكها حاضراً عندها غير مثبت يده عليها بالركوب ونحوه.

ولو كان المالك راكباً، فإن كان قوياً يقدر على منع القائد والسائق لم يضمن؛ لعدم استقلاله بها واستمرار يد المالك عليها.

وإن كان ضعيفاً - ولو من حيث جماحها بحيث يبقى عاجزاً عن تثبيتها - ضمن القائد والسائق لتحقّق الاستقلال.

والمصنّف (رحمه اللّه) لم يقيد في الراكب بكونه قادراً، وكأنه نظر إلى الغالب، وإلّا فلابدّ من القيد كما صنع غيره(1). ولو تلفت الدابّة بسبب فعل الغاصب ضمنها مطلقاً.

قوله: «وغصب الأمة الحامل غصب لولدها» إلى آخره.

أما ضمان حمل المغصوبة فواضح؛ لأنّه مستول عليهما معاً فيضمن كلّاً منهما. فإن

ص: 467


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 223.
لو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب

• ولو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخير المالك في إلزام أيهم شاء أو إلزام الجميع بدلاً واحداً.

-------------------------------------------------------------------

أسقطت الحمل وبقيت الأمة لزمه تفاوت ما بين قيمتها حاملاً وحائلاً. وإن تلفت بعد الوضع الزم بالأكثر من قيمة الولد وقيمتها حاملاً إن اعتبرنا الأكثر، وإلّا فقيمة يوم التلف.

وأمّا ضمان حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد فإنّما يتمّ مع دخوله معها في البيع، إما تبعاً كما يقوله الشيخ(1)، أو مع الشرط.

أمّا لو لم يكن داخلاً لم يتجه ضمانه؛ لأنّه مقبوض بإذن المالك، وليس مبيعاً فاسداً حتّى يضمن بفاسده كما يضمن بصحيحه.

ومثله القول في المقبوض بالسوم بالنسبة إلى الحمل، فإن كان السوم لهما ضمنهما على القول بضمان الأمّ، وإن كان لها خاصّة اختصّ بها.

وقد اختلف كلام العلّامة في المسألة، ففي التحرير جزم بضمان الأمة والحمل معاً (2) كما ذكره المصنّف، وفي القواعد جزم بعدم ضمان الحمل (3)، وهو الأصحّ. ولا إشكال مع دخوله في البيع.

قوله: «ولو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخير المالك في إلزام أيهم شاء، أو إلزام الجميع بدلاً واحداً».

قد عرفت أنّ الغصب يطلق غالباً على الاستقلال بمال الغير عدواناً، وقد يطلق على الاستيلاء عليه بغير حقّ وإن لم يكن متعدّياً.

فعلى الأوّل - وهو الذي اختاره المصنّف (رحمه اللّه) - يريد هنا بتعاقب الأيدي الغاصبة على المغصوب كلّ يد ترتّبت على يد الغاصب مع العلم فاليد المترتبة عليه جهلاً بالحال لا تعد غصباً وإن شاركه في أصل الضمان.

ص: 468


1- المبسوط، ج 2، ص 97.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 522، الرقم 6137.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 223.

-------------------------------------------------------------------

وعلى الثاني يدخل فيها العالم والجاهل؛ لأنّ الغصب على تقديره يتحقّق مع الجهل؛ إذ لا يشترط فيه ترتب الإثم.

والحكم فيهما واحد من حيث تخيّر المالك في إلزام أيّهم شاء ببدل المغصوب عيناً وقيمةٌ، وفى إلزام الجميع بدلاً واحداً على التساوي والاختلاف، وإلزام أكثر من واحد وترك الباقي: لاشتراك الجميع في المقتضي للضمان وهو إثبات يده على مال الغير بغير إذنه، والجهل على تقديره ليس مسقطاً للضمان.

وإنّما يفترقان في استقرار الضمان؛ وذلك لأنّ الثاني إن علم بالغصب فهو كالغاصب من الغاصب، يطالب بكلّ ما يطالب به الغاصب.

وإذا تلف المغصوب في يده فاستقرار ضمانه عليه، حتّى لو غُرّم لم يرجع على الأوّل، ولو غُرّم الأوّل رجع عليه. هذا إذا لم يختلف قيمته في يدهما، أو كانت في يد الثاني أكثر أما إذا كانت في يد الأوّل أكثر فلا يطالب بالزيادة إلّا الأوّل، ويستقر ضمانها عليه. هذا إذا كان التفاوت بسبب نقص في العين، أو قلنا بضمان الغاصب أعلى القيم. ولو اعتبرنا قيمته يوم التلف فاستقرارها على الثاني مطلقاً.

وإن جهل الثاني الغصب فإن كانت يده يد ضمان كالعارية المضمونة والمقبوض بالبيع الفاسد - استقرّ الضمان على الثاني، وإن كانت يده يد أمانة كالوديعة والقراض والرهن والوكالة - استقرّ على الغاصب. ولو كانت يد الثاني بطريق الشراء فسيأتي تفصيل حكمه إن شاء اللّه تعالى(1).

هذا حكم المغصوب على تقدير التلف.

أمّا على تقدير الإتلاف فالقرار على المُتلف مطلقاً؛ لأنّ الإتلاف أقوى من إثبات اليد،العادية، إلّا إذا كان مغروراً كما إذا قدّمه إليه ضيافة فأكله، فإنّ ضمانه على الغاصب؛ لأنّه غره حيث قدم الطعام إليه وأوهمه أنّه لا تبعة فيه.

ص: 469


1- يأتي في ص 527.
الحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيراً

• والحر لا يضمن بالغصب ولو كان صغيراً. ولو أصابه حرق أو غرق أو موت في يد الغاصب من غير تسبّبه لم يضمنه.

وقال في كتاب الجراح يضمنه الغاصب إذا كان صغيراً وتلف بسبب، كلدغ الحيّة والعقرب، ووقوع الحائط.

ولو استخدم الحرّ لزمه الأُجرة.

-------------------------------------------------------------------

ويحتمل استقراره على الآكل؛ لأنّه المُتلف وإليه عادت منفعته، وعلى الأصحّ لو غُرّم الأكل رجع على الغاصب، وإن غَرّم الغاصب لا يرجع على الأكل.

ولو قدّم الغاصب الطعام إلى مالكه وأكله جاهلاً بالحال رجع به على الغاصب أيضاً؛ للغرور. وعلى الاحتمال يبرأ الغاصب وأولى بالاستقرار على المُتلف هنا.

نعم، لو أكله المالك بغير أمر الغاصب، بأن دخل داره وأكله على اعتقاد أنه طعام الغاصب فكان طعامه المغصوب، برئ الغاصب؛ لأنّه لم يغره.

ويشكل الأمر لو كان أكل المالك له سائغاً، بأن كان في بيت من أذن له بالأكل منه شرعاً.

والوجه استواؤهما في البراءة منه؛ لانتفاء الغرور على التقديرين الذي هو مناط الرجوع. قوله: «والحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيراً» إلى آخره.

المضمون بالغصب قسمان:

أحدهما ما ليس بمال وهو الحرّ، فيضمن بالجناية على نفسه وطرفه مباشرةً وتسبيباً.

والقول في هذا القسم محله الجنايات.

وكذا يضمن باستيفاء،منفعته بأن استخدمه. ولا يضمن بالفوات؛ لأنّ الحرّ ليس مالاً فلا يدخل تحت اليد، فلا يضمن نفسه بالهلاك إذا لم يكن من قبل الغاصب، سواء مات من قبل اللّه تعالى، أم بسبب من خارج كالحرق والغرق؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.

واستثنى الشيخ (رحمه اللّه) في أحد قوليه ما إذا كان المغصوب صغيراً ومات بسبب لا من قبل الغاصب كلدغ الحيّة، فإنّه يضمنه (1)؛ لأنّه قرّبه من سبب الإتلاف بحيث لا يمكنه

ص: 470


1- المبسوط، ج 5، ص 21.

• ولو حبس صانعاً لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به؛ لأنّ منافعه في قبضته.

لو استأجر لعمل فاعتقله ولم يستعمله

• ولو استأجره لعمل فاعتقله ولم يستعمله، فيه تردّد. والأقرب أنّ الأجرة لا تستقرّ ؛ لمثل ما قلناه.

ولا كذلك لو استأجر دابّة فحسبها بقدر الانتفاع.

-------------------------------------------------------------------

الاحتراز منه؛ لأنّ الفرض كونه صغيراً لا يقدر على الاحتراز، فكان كحافر البئر فيقع فيها الغير، ولأنّه أحوط وأنسب بمؤاخذة الغاصب. وقوّاه في المختلف(1).

والأشهر عدم الضمان؛ لأنّ الحرّ لا يضمن باليد بلا سبب، وظاهر انتفاء السبب من قبله وانتفاء المباشرة، والضمان معلّل بهما، وانتفاء العلّة المساوية يوجب انتفاء المعلول ولأصالة البراءة.

والقولان للشيخ في المبسوط، الأوّل في كتاب الجراح(2)، والثاني في الغصب (3).

وألحق في الدروس المجنون بالصبيّ(4). وهو حسن.

وينبغي أن يراد به من يعجز عن التحرز عن ذلك السبب عادةً، بأن كان غير مميّز أو مميّزاً عاجزاً عن ذلك.

قوله: «ولو حبس صانعاً لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به؛ لأنّ منافعه في قبضته».

أي في قبضة الصانع نفسه؛ لأنّه حرّ، بخلاف العبد، فإنّ منافعه في قبضة سيّده، فكان غصبه كغصب منافعه.

قوله: «ولو استأجره لعمل فاعتقله ولم يستعمله» إلى آخره.

لا إشكال في ضمان منافع الدابّة إذا غصبها؛ لأنّها مال يدخل تحت اليد ويضمن منافعه بالفوات والتفويت.

ص: 471


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 100، المسألة 97.
2- المبسوط، ج 5، ص 21.
3- المبسوط، ج 2، ص 527.
4- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 98 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).

-------------------------------------------------------------------

فلو كان قد استأجرها لعمل معيّن فحبسها مدةً يمكنه فيها استيفاء المنفعة، سقط حقّه من المنفعة واستقرت عليه الأُجرة.

وإنّما الكلام في الأجير الحرّ إذا استأجره لعمل كذلك، فاعتقله مدة يمكنه فيها فعله ولم يستعمله، هل يستقر عليه الأجرة أم لا؟ تردّد المصنّف في ذلك. ومنشؤه من أن منافع الحر لا تضمن إلّا بالتفويت؛ لعدم دخول الحرّ تحت اليد؛ إذ ليس مالاً، ولم يحصل التفويت، ولأصالة بقاء العمل في ذمّته.

ومن وجوب الأجرة بنفس العقد على المنفعة التي كان مالكها سبباً في ضياعها باعتقاله له فيستقر في ذمّته، كما لو قدرها بزمان وحبسه حتّى انقضى ذلك الزمان، فإنّه لا إشكال في استقرار الأجرة، فليكن هنا كذلك.

والمصنّف قرّب عدم الاستقرار ؛ لما تقدّم، والفرق بين العمل المطلق وبين المقدر بالزمان، فإنّ المطلق لا يختص بهذه المدة التي حبسه فيها وإن أمكن استيفاؤه منها، وإنّما هو ثابت في الذمّة، وزمانه أمر كلّي غير مشخّص بوقت، والأصل بقاؤه في الذمّة إلى أن يستوفي، ومنافع تلك المدّة غير داخلة تحت يد الغاصب ولا مملوكة له حتّى يقال: إنّه تسلّمها؛ لعدم دخول منفعة الحرّ تحت اليد بخلاف الزمان المعين؛ فإن منفعته تفوت بفواته متسلّماً له. وهذا قوي.

وبنى بعضهم الحكم على أن إجارة الحرّ نفسه هل هي تمليك للمنافع، أو التزام عمل في الذمّة؟ يحتمل الأوّل؛ لأنّ له أن يتصرف فيها بالإجارة وغيرها؛ ولهذا لو استعمله آخر ضمن أُجرة المثل للمستأجر.

ويحتمل الثاني ؛ لأنّ العمل بالتزامه له في الذمّة صار كالدين. فعلى الأوّل تستقر الأجرة دون الثاني(1).

ص: 472


1- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 168.
لا تضمن الخمر إذا غصبت من مسلم

• ولا تضمن الخمر إذا غصبت من مسلم ولو غصبها الكافر. وتضمن إذا غصبت من الذمّي مستتراً ولو غصبها المسلم. وكذا الخنزير.

وتضمن الخمر بالقيمة عند المستحلّ، لا بالمثل، ولو كان المتلف ذمّيّاً على ذمّي. وفي هذا تردّد.

-------------------------------------------------------------------

ويضعّف بأنّ المنافع معدومة، وليست تابعةً لعين مملوكة، فلا تدخل تحت يد المستأجر بدون الاستيفاء.

قوله: «ولا تضمن الخمر إذا غصبت من مسلم ولو غصبها الكافر» إلى آخره.

الأصل في الخمر عدم المالية، فلا تضمن إذا غصبت من مسلم أو كافر، مسلماً كان الغاصب أم كافراً، إلّا إذا كان الكافر ذمّيّاً مستتراً بها، أو كان المسلم يتخذها للتخليل، فتكون محترمة في الموضعين، ويضمنها الغاصب لهما(1).

فإن كان المغصوب منه مسلماً وجب ردّها عليه مع بقاء عينها ولو تخللت ردّها خلّاً(2)؛ لأنّها مملوكة على هذا الوجه، فلا يزول ملكها بانتقالها إلى الصفة المحللة، بل يتأكّد. وإن تلفت عينها عند الغاصب فإن كان بعد التخليل لزمه مثل الخلّ، وإن كان قبله أثم وسقط عنه الضمان في المشهور؛ لأنّ حقّ الإمساك للتخليل لا يوجب الضمان.

وقال ابن الجنيد يحكم له بقيمتها خلاً؛ لأنّ له حقّ اليد فكان عليه الضمان بإتلاف حقّه، ولا يصلح الضمان بالمثل فيضمن بالقيمة، ويجب الخل؛ لأنّه أقرب إلى العين.

ولا يخلو هذا من تدافع؛ لأنّ جعلها حينئذٍ قيميّةً يقتضي إيجاب القيمة كيف كان، فلا وجه للانتقال إلى الخلّ وإن كان أقرب ولا يفتقر إلى ردّ قيمتها إلى المستحل؛ لأنّ خمر التخليل لها قيمة عند المسلمين أيضاً.

وإن كان المغصوب منه ذمّيّاً مستتراً بها، وكان الغاصب مسلماً لزمه القيمة قولاً واحداً؛ لتعذّر إلزامه بالمثل شرعاً.

ص: 473


1- في بعض النسخ: «لها» بدل «لهما».
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 96، المسألة 86.
أسباب أخر يجب معها الضمان:
الأوّل: مباشرة الإتلاف

الأوّل: • مباشرة،الإتلاف، سواء كان المتلف عيناً، كقتل الحيوان المملوك، وتحريق الثوب، أو منفعةً، كسكنى الدار وركوب الدابّة، وإن لم يكن هناك غصب.

الثاني: التسبيب
إشارة:

الثاني: التسبيب، وهو كلّ فعل يحصل التلف بسببه، كحفر البئر في غير الملك، وكطرح المعاثر في المسالك.

-------------------------------------------------------------------

وإن كان المُتلف كافراً ففي إلزامه بالمثل أو القيمة وجهان، من أنّه مال مملوك لهم وهو مثلي فيضمن بمثله؛ إذ لا مانع منه هنا، ومن أنّه يمتنع في شرع الإسلام الحكم بثبوت الخمر في ذمّة أحد، وإن كنا لا نتعرضهم إذا لم يتظاهروا بها، فامتنع الحكم بالمثل لذلك، فوجب الانتقال إلى القيمة، كما لو تعذّر المثل في المثلي. والقولان لابن البرّاج(1).

والأجود ثبوت القيمة إن ترافعوا إلينا، ولا يلزم منه التظاهر بها؛ لأنّ المانع التظاهر بشربها والمعاملة عليها، لا مطلق البحث عنها بحيث يعطّل حقّها اللازم على حسب إقرارهم عليها. وإنّما امتنع الحكم عليهم بالمثل؛ لما تقدّم من منافاته لشرع الإسلام، وإن كان ذلك لا يخلو من نظر.

قوله: «مباشرة الإتلاف، سواء كان المتلف عيناً، كقتل الحيوان المملوك، وتحريق الثوب أو منفعة كسكنى الدار وركوب الدابّة» إلى آخره.

أشار بذلك إلى أنّ الغصب وإن كان موجباً للضمان فالموجب له غير منحصر فيه، بل الإتلاف أيضاً موجب بل هو أقوى، فإنه بمجرّده يوجب اشتغال الذمّة بالضمان، والغصب بمجرّده لا يوجبه، بل يوجب دخول المغصوب في ضمانه حتّى إذا تلف اشتغلت الذمّة بالضمان.

ثم الإتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالسبب فصارت الأسباب التي جرت العادة

ص: 474


1- تجد القول الأوّل - أي المثلي - في المهذّب، ج 1، ص 444، والقول الثاني - أي القيمي - في ص 450.

-------------------------------------------------------------------

بالبحث عنها في باب الغصب ثلاثة: التفويت بالمباشرة، والتفويت بالسبب، وإثبات اليد العادية، وهو الغصب وعلى هذا اقتصر جماعة(1).

وبقيت أسباب أخر أشار إليها المصنّف في آخر البحث (2). ولم يحصل الحصر بذلك أيضاً ؛ لتخلّف أسباب أُخر.

واعلم أنّ ما له مدخل في هلاك الشيء إما أن يكون بحيث يضاف الهلاك إليه في العادة إضافة حقيقية، أو لا يكون كذلك.

وما لا يكون كذلك إما أن يكون من شأنه أن يقصد به ما يضاف إليه الهلاك، أو لا يكون كذلك. فالذي يضاف إليه الهلاك يسمّى علة، والإتيان به مباشرة، وما لا يضاف إليه الهلاك ولكن يكون من شأنه أن يقصد بتحصيله ما يضاف إليه يسمّى سبباً، والإتيان به تسبيباً.

والمصنّف (رحمه اللّه) فسّر السبب هنا بأنّه كلّ فعل يحصل التلف بسببه. وهذا التعريف لا يخلو من دور؛ لأخذه السبب في تعريفه، وكأنه أراد بقوله «بسببه» أي بواسطته أو معه أو عنده، كما عبّر عنه غيره(3). ومع ذلك يشمل المباشرة؛ لأنّ التلف يحصل بواسطتها أو عندها. وعرّفها بعضهم بأنها إيجاد علّة التلف (4).

وأراد بعلة التلف أنّه يضاف إليه التلف في العرف إضافةً حقيقية. وإنّما قيد «بالحقيقية»؛ لأنّ الهلاك قد يضاف إلى السبب فيقال: هلك مال فلان بسعاية فلان، لكنه مجاز بدليل صحة السلب.

وقد عرف المصنّف السبب في الديات بتعريف أجود ممّا هنا فقال: إنّه «ما لولاه لما حصل التلف»(5)، لكنّ علّة التلف غيره، كحفر البئر، فإنّ التلف عنده بسبب العثار.

ص: 475


1- راجع إرشاد الأذهان، ج 1، ص 444 - 445؛ والدروس الشرعيّة، ج 3، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- راجع ص 484 (المتن).
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 221.
4- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
5- راجع ج 12، ص 518.
إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان

• لكن إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً فدفع غيره فيها إنساناً، فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أيضاً أنّ تمثيله السبب ب«حفر البئر في غير الملك» تخصيص للسبب الموجب للضمان، فإنّ حفره وإن كان في ملك الحافر يكون سبباً في الهلاك لكنّه غير مضمون، فالسبب المعرف سبب خاص وهو الموجب للضمان، وإن كان التعريف صادقاً على ما هو أعمّ.

قوله: «لكن إذا اجتمع السبب والمباشر» إلى آخره.

قد تقرّر أنّ كلّ واحد من المباشرة والسبب موجب للضمان برأسه من غير اعتبار الآخر. فإن انفرد الموجب فاستناد الضمان إليه واضح. وإن تعدّد فقد يكون من جنس واحد، وقد يكون من جنسين.

فالأوّل: بأن يجتمع سببان فصاعداً، بأن يحفر واحد بئراً في محلّ عدواناً، ويضع آخر حجراً عنده فيعثر به إنسان فيقع في البئر. فإن اتّفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان؛ لعدم الترجيح. وإن تعاقبا فالضمان على المتقدّم في التأثير؛ لاشتغاله بالضمان أولاً فكان أولى وهو سبب السبب فيجب وجود المسبّب عنده.

والثاني: بأن يجتمع المباشر والسبب فيقدّم المباشر؛ لأنّه أقوى، ولأن التلف يستند إليه حقيقة كما بيّناه، بخلاف السبب.

واستثني من ذلك ما إذا ضعف المباشر، وله صور كثيرة تأتي جملة منها(1)، وقد تقدم منها مسألة غرور المالك بتقديم طعامه إليه جهلاً(2)، فإنّ الضمان يستقر على الآمر ؛ لأنّ الغاصب وإن كان قد سلّط مالكه عليه وصيّره بيده إلّا أنّه باعتقاده أنّه ملك الغير، وأنّه مسلّط على إتلافه بغير عوض ليس تسليمه له تامّاً يتصرّف فيه تصرّف الملاك؛ فلذلك ضعفت مباشرته بالغرور.

ص: 476


1- يأتي في ص 479 و 481.
2- تقدم في ص 469 - 470.

• ولا يضمن المُكره المال وإن باشر الإتلاف والضمان على من أكرهه؛ لأنّ المباشرة ضعفت مع الإكراه، فكان ذو السبب هنا أقوى.

لو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال غيره أو أجّج ناراً فيه

• ولو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال غيره، أو أجج ناراً فيه فأحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً، مع علمه أو غلبة ظنّه أن ذلك موجب للتعدي إلى الإضرار.

-------------------------------------------------------------------

ومن قبيل اجتماع السبب والمباشر مع تقديم المباشر ما إذا سعى شخص إلى ظالم بآخر فأخذ ماله فالضمان يختص بالظالم؛ لأنّه المباشر للأخذ، وعلى الساعي الوزر.

وكذا لو اجتمع الأمر بالقتل مع مباشرته، لكن هنا يحبس الآمر به حتّى يموت، كما سيأتي(1) إن شاء اللّه تعالى.

قوله: «ولا يضمن المُكره المال وإن باشر الإتلاف» إلى آخره.

هذا أيضاً من المواضع التي يقدّم فيها السبب على المباشر؛ لضعف المباشر بالإكراه. ويتحقّق الإكراه الرافع للضمان عن المكره بما يتحقّق به الإكراه المفسد للعقد. وقد تقدّم تحقيقه في الطلاق (2).

وربما قيل هنا باشتراط زيادة خوف ضرر لا يمكنه تحمّله. والأشهر الأوّل.

واحترز ب«المال» عن الإكراه على النفس، فإنّ الإكراه على إتلافها لا يوجب سقوط الضمان عن المكره. ولكن يبقى فيه الإكراه على الجرح، فإنّه يتحقّق كالمال. وسيأتي البحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى(3).

قوله: «ولو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال غيره» إلى آخره.

إذا أرسل في ملكه ماءً أو أجج ناراً لمصلحته، فإن لم يتجاوز قدر حاجته، ولا علم ولا ظنّ التعدّي إلى غيره، فاتّفق التعدي والإفساد على الجار فلا ضمان على المباشر اتّفاقاً؛

ص: 477


1- يأتي في ج 12، ص 282.
2- تقدم في ج 7، ص 212 وما بعدها.
3- يأتي في ج 12، ص 287.

-------------------------------------------------------------------

لعدم التفريط، وأنّ «الناس مسلّطون على أموالهم»(1)، وسببيّته في الإتلاف ضعيفة بالإذن له من قبل الشارع في فعل ذلك في ملكه، فلا يتعقبه الضمان.

وإن تجاوز قدر الحاجة وعلم أو ظنّ التعدي فاتّفق فلا شبهة في الضمان؛ لتحقّق التفريط المقتضي له مع وجود السببية الموجبة للضمان.

وإن اتّفق أحد الأمرين خاصّة، إما التجاوز عن قدر الحاجة مع عدم ظنّ التعدّي، أو عدم

التجاوز عنه مع علم التعدي أو ظنّه، ففي الضمان قولان:

أحدهما - وهو الذي جزم به المصنّف (رحمه اللّه) هنا، والعلّامة في القواعد(2) والإرشاد(3) -عدم الضمان؛ لأنّه فعل مأذون فيه شرعاً، فلا يتعقب الضمان. ولا يعد مثل ذلك تفريطاً ؛ حيث لم يظنّ التعدي في الأوّل، ولا تجاوز حاجته في الثاني، ولأصالة البراءة من الضمان.

والثاني: الاكتفاء في الضمان بأحد الأمرين: تجاوز الحاجة، أو ظنّ التعدي، وهو اختيار العلّامة في التحرير(4)، والشهيد في الدروس (5)؛ لتحقّق السببية الموجبة له.

ويرجّح هذا القول في بعض أفراده، وهو ما لو علم التعدي فتركه اختياراً، وإن كان فعله بقدر حاجته؛ لأنّ ترك قطعه مع علم التعدي إلى الغير وقدرته على قطعه تعدٍّ محض.

نعم، مع عدم العلم ولا الظنّ قد يشكل الضمان على تقدير تجاوز الحاجة؛ لأنّ فعله مأذون فيه على التقديرين، ولا تفريط حينئذٍ.

وفى معنى ظنّه ما إذا قضت العادة بسريانه، بأن كان الهواء شديداً يحملها إلى ملك الغير، أو الماء كثيراً، وإن اتّفق عدم شعوره بذلك؛ لبلادة أو غيرها.

ص: 478


1- عوالي اللآلي، ج 1، ص 222، ح 99، وص 457، ح 198: وج 2، ص 138، ح 383؛ الخلاف، ج 3، ص 176 - 177، المسألة 290 مختلف الشيعة، ج 5، ص 248، المسألة 217.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 223.
3- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 445.
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 525، الرقم 6144.
5- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 99 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).

ويتفرّع على السبب فروع :

لو ألقى صبيّاً في مسبعة أو حيواناً يضعف عن الفرار

الأوّل: • لو ألقى صبياً في مسبعة أو حيواناً يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع.

-------------------------------------------------------------------

ولو اتّفق جفاف شجر جاره بالنار بسبب المجاورة فالحكم كما لو سرت إليها، إلّا أن يكون أغصان الشجر في هواء أرض موقد النار، فلا ضمان إذا كان عطفها غير ممكن، وإلّا اتجه الضمان؛ لأنّه ليس له إتلافها مطلقاً، كما قرر في موضعه(1).

وفي التذكرة أطلق عدم ضمانها متى كانت في هواء موقد النار، وضمانها إن لم يكن كذلك، من غير تقييد بعلم التعدي أو تجاوز الحاجة؛ محتجاً بأن ذلك لا يكون إلّا من نار كثيرة(2). ولا يخفى ما فيه.

قوله: «لو ألقى صبياً في مسبعة» إلى آخره.

هذا أيضاً من قبيل قوة السبب على المباشر، فإنّ إلقاء الصبيّ الذي يضعف عن التحرّز من السبع في المسبعة - والحيوان كالشاة - سبب تام في هلاكه؛ لأنّه فعل ما لولاه لما حصل التلف [مع] (3) كونه بعلة أخرى، والسبع لا يحال عليه الضمان، فالمباشرة ضعيفة، فلا معارض للسبب. هذا إذا لم نقل بقول الشيخ: إن موت الصبيّ المغصوب بسبب يوجب ضمان الغاصب مطلقاً(4)، وإلّا ضمن هنا بطريق أولى.

واحترز بالصبيّ عن الكبير الذي يمكنه التحرز عادةً فإنّه لا يضمنه بإلقائه لو اتّفق إتلاف السبع له؛ لأنّ ذلك لا يعد سبباً في حقّه، وإنّما وقع بالاتّفاق، كما لو وضع الصبيّ في غير المسبعة فافترسه السبع اتّفاقاً، فإنّه لا يضمنه على المشهور، خلافاً للشيخ(5)، وبه احترز

بقوله «مسبعة».

ص: 479


1- راجع ج 4. ص 135 وما بعدها.
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 175 المسألة 1014.
3- مابين المعقوفين أثبتناه من الطبعة الحجريّة.
4- المبسوط، ج 5، ص 21.
5- المبسوط، ج 5، ص 21.
لو غصب شاةٌ فمات ولدها جوعاً

الثاني: • لو غصب شاة فمات ولدها جوعاً ففي الضمان تردّد. وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتّفق تلفها. وكذا التردّد لو غصب دابّه، فتبعها الولد.

لو فك القيد عن الدابّة فشردت

الثالث: • لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت، أو عن العبد المجنون فأبق ضمن؛

-------------------------------------------------------------------

قوله: «لو غصب شاة فمات ولدها جوعاً ففي الضمان تردّد» إلى آخره.

منشأ التردّد في هذه الثلاثة من عدم الاستقلال بإثبات اليد على الولد والماشية، فلا يتحقّق الغصب، فينتفي الضمان، ومن أنه سبب في الإتلاف؛ إذ لولاه لم يحصل التلف، والضمان ليس بمنحصر في الغصب كما مرّ(1)، فإنّ مباشرة الإتلاف وسببيته من جملة مقتضياته وإن لم يكن غصباً.

والحقّ أن منشأ التردّد إنّما يكون من الشك في السببية هنا؛ إذ لو سلّمت لم يبق إشكال في الضمان. ومنشأ الشك فيها مبني على تعريف السبب، فعلى ما ذكره المصنّف من تعريفه إذا مات الولد جوعاً بحيث لو لا غصب الأمّ لما مات عادةً فالسببية متحقّقة فيه، لكن اتّفاق تلف الماشية بعد حبس المالك عن حراستها قد يكون بسبب حبسه وقد لا يكون، فإن فرض فهو سبب أيضاً.

وإن فسّر السبب بإيجاد ما يحصل التلف عنده لعلة أخرى، إذا كان السبب ممّا يقصد لتوقع تلك العلة - كما عرفه جماعة (2) - فيتوقّف ثبوت سببيته على قصد الغاصب للشاة والحابس للمالك إلى إتلاف الولد والماشية.

والأصحّ الضمان مع استناد التلف إلى فعل الغاصب، بمعنى أنه لو لا الغصب والحبس لما تلف عادةً، فإنّ الواقع في العبارة أعمّ منه؛ لتحقّق السببية حينئذٍ، والقصد غير معتبر في تحقّقها وترتب أثرها كما اقتضاء التعريف الذي اخترناه.

قوله: «لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت إلى قوله أو بعد مكث».

هذه المواضع الثلاثة من قبيل ما يترجح فيها السبب على المباشرة؛ لضعفها. فإذا فكّ قيد

ص: 480


1- مرّ في ص 474.
2- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 221.
لو فتح باباً على مال فسرق

لأنه فعل يقصد به الإتلاف. وكذا لو فتح قفصاً عن طائر فطار مبادراً أو بعد مكث.

• ولا كذا لو فتح باباً على مال فسرق، أو أزال قيداً عن عبد عاقل فأبق؛ لأنّ التلف بالمباشرة لا بالسبب. وكذا لو دلّ السرّاق.

-------------------------------------------------------------------

الدابّة فشرودها متوقع، والمباشر - وهو الدابّة - ضعيف بعدم العقل.

ومثله فك القيد عن العبد المجنون ومن لا يميّز وفتح القفص عن الطائر فطار، سواء أهاجه أم لا، وسواء طار عقيب الفتح أم بعد حين؛ لأنّ طيرانه بالفتح ممّا يتوقع مع ضعف المباشر.

ونبّه بقوله «فطار مبادراً أو بعد مكث على خلاف بعض الشافعيّة، حيث فرّق بين الأمرين فحكم بالضمان في الأوّل دون الثاني فارقاً بأنه إذا طار عقيب الفتح أشعر ذلك بأنّه نفره، وإذا تأخر ثمّ طار كان ذلك أمارة ظاهرة على أنّه طار باختياره(1).

ولهم قول ثالث بعد الضمان في الحالتين (2)؛ لأنّ للحيوان قصداً واختياراً؛ ولهذا يقصد ما ينفعه ويتوقى المهالك، وغاية الموجود من الفاتح السبب إلى تضييعه، فيقدم عليه مباشرة الطائر واختياره.

وفي حكم خروج الطائر بعد فتح القفص وُتُوب الهرّة إليه وقتله؛ لاشتراك الأمرين في السببيّة، مع ضعف المباشر ؛ لعدم صلاحيته للضمان.

ولو اتّفق القفص معلقاً فاضطرب بخروج الطائر وسقط فانكسر أو عاب ضمنه الفاتح. وكذا لو أفسد الطائر شيئاً بخروجه بأن كسر قارورة ونحوها؛ لأنّ فعل الطائر منسوب إليه.

قوله: «ولا كذا لو فتح باباً على مال فسرق» إلى آخره.

هذه المواضع الثلاثة ممّا اجتمع فيه المباشرة والتسبيب، لكن كان المباشر قويّاً بحيث يمكن استناد الضمان إليه، فيقدم على السبب.

أمّا الأوّل: فلأن السارق آدمي له ذمّة قابلة للضمان، فيرجح على السبب.

ص: 481


1- راجع الحاوي الكبير، ج 7، ص 208؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 95.
2- راجع الحاوي الكبير، ج 7، ص 208؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 95.
لو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه

• ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلّا الوكاء. وكذا لو سال منه ما ألان الأرض تحته فاندفع ما فيه ضمن؛ لأنّ فعله سبب مستقل بالإتلاف.

أمّا لو فتح رأس الظرف فقلبته الريح أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردّد. ولعلّ الأشبه أنّه لا يضمن؛ لأنّ الريح والشمس كالمباشر، فيبطل حكم السبب.

-------------------------------------------------------------------

وأما الثاني؛ فلأنّ للعبد العاقل اختياراً صحيحاً فذها به محال عليه؛ إذ لا يتوقّع منه القرار، بخلاف المجنون.

هذا إذا لم يكن آبقاً، وإلّا ففي ضمانه وجهان، من أنّه بعقله محال عليه الفعل، ومن أنّ إطلاقه - وقد اعتمد المالك ضبطه - إتلاف عليه، فكان كحل المجنون والبهيمة.

وأمّا دلالة السرّاق فقوة المباشر على السبب ظاهرة. والحكم فيها بتقديم المباشر هو ظاهر الأصحّاب ما عدا العلّامة في إرشاد الأذهان، فقد حكم فيه بضمان الدالّ (1)؛ نظراً إلى تحقّق السببيّة، وهو نادر؛ لأنّ مجرّد السبب لا يكفي في إثبات الضمان ما لم يخل عن المعارض.

وفي غيره من كتبه وافق الجماعة على القطع بتقديم المباشر (2) إلّا في التحرير، فإنّه استشكل(3). ولا إشكال في ضمانه لو كان مستأمناً على المال، فإنّه يضمن من حيث التفريط فيه، وإن تخيّر المالك في الرجوع عليه وعلى المباشر.

قوله: «ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن» إلى آخره.

إذا فتح باب ظرف فضاع ما فيه نظر، إن كان مطروحاً على الأرض فاندفع ما فيه بالفتح ضمن لا محالة؛ لمباشرته الإتلاف.

ص: 482


1- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 444.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 223؛ تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 171، المسألة 1008.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 525 الرقم 6143.

-------------------------------------------------------------------

وإن كان منتصباً لا يضيع ما فيه بالفتح لو بقي كذلك لكنّه سقط، فإن كان سقوطه بفعله ضمن أيضاً كالأوّل؛ لأنّه فتح رأسه وأسقطه.

وكذا لو سقط بما يستند إلى فعله، كما لو فتح رأسه فأخذ ما فيه في التقاطر شيئاً فشيئاً حتّى ابتلّ أسفله وسقط؛ لأنّ السقوط بالميلان الناشئ من الابتلال، الناشئ من التقاطر، الناشئ من الفتح، وهو ممّا شأنه أن يحصل بالفتح.

وإن سقط بأمر عارض، من زلزلة أو هبوب ريح أو وقوع طائر، ففي ضمانه وجهان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف - عدم الضمان؛ لأنّ الهلاك لم يحصل بفعله، ولا فعله ممّا يقصد به تحصيل ذلك العارض، وإنّما الريح كالمباشر، فيبطل حكم السبب.

والثاني: الضمان؛ لأنّه لو لا الفتح لما ضاع ما فيه بالسقوط، والمباشر ضعيف.

ولو فرض مجيء إنسان فأسقطه، فلا شبهة في كون الضمان عليه لا على الفاتح.

ولو أنّه لمّا فتح رأسه أخذ ما فيه في الخروج؛ ثمّ جاء آخر فنكسه ففي كون ضمان الخارج بعد التنكيس عليهما كالجارحين أو على الثاني وحده وجهان، أصحهما الثاني.

هذا كلّه إذا كان مائعاً.

أمّا إذا كان جامداً فأشرقت الشمس وأذابته فضاع، أو ذاب بمرور الزمان وتأثير حرارة الهواء فيه ففي ضمان الفاتح الوجهان، من أنّ الضياع حصل بعارض الشروق، فأشبه هبوب الريح، ومن أن الشمس تذيب ولا تخرج فيكون الخروج بفعله.

وأولى بالضمان هنا لو قيل به في الريح؛ لأنّ الشمس ممّا يعلم شروقها، فيكون الفاتح معرّضاً ما فيه للشمس، وذلك تضييع، بخلاف هبوب الريح، فإنه ليس ممّا ينتظر. والوجه الضمان في الجميع.

ويجري الوجهان فيما إذا أزال أوراق الكرم وجرّد عناقيدها للشمس حتّى أفسدتها.

ولو فرض في الجامد مجيء آخر فقرب منه ناراً حتّى ذاب وضاع فوجهان:

أحدهما أنّه لا ضمان على أحدهما، أما الأوّل؛ فلأن مجرد الفتح لا يقتضي الضمان.

ص: 483

من أسباب الضمان القبض بالعقد الفاسد والقبض بالسوم

• ومن الأسباب: القبض بالعقد الفاسد، والقبض بالسوم، فإنّ القابض يضمن. وكذا استيفاء المنفعة بالإجارة الفاسدة سبب لضمان أُجرة المثل.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا الثاني؛ فلأنّه لم يتصرّف في الظرف ولا في المظروف.

وأظهرهما وجوب الضمان على الثاني؛ لأنّ تقريب النار منه تصرف فيه بالتضييع والإتلاف.

والوجهان جاريان فيما إذا كان رأس الزق مفتوحاً فجاء إنسان فقرّب منه النار.

والأصحّ هنا ضمان المقرب أيضاً.

ولو حلّ رباط سفينة فغرقت بالحلّ، ضمن كمسألة الظرف. وإن غرقت بسبب حادث من هبوب الريح أو غيره فالوجهان.

قوله: «ومن الأسباب القبض بالعقد الفاسد» إلى آخره.

هذه الثلاثة من جملة الأسباب الموجبة للضمان بغير الغصب. والحكم في الأوّل منها موضع وفاق؛ لعموم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1)، ولأنّ كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

والمراد بالعقد هنا عقد البيع ونحوه من العقود اللازمة الموجبة لانتقال الضمان إلى القابض لا مطلق العقد، فإنّ منه ما لا يضمن بصحيحه - كالقراض والوكالة والوديعة - فلا يضمن بفاسده.

وأمّا المقبوض بالسوم - وهو أن يقبضه ليشتريه - فالمشهور أنه مضمون على القابض أيضاً؛ لعموم الخبر السابق.

وقيل: لا يضمن؛ لأنّه مقبوض بإذن المالك فيكون أمانةٌ كغيره من الأمانات المقبوضة بإذنه من الوديعة وغيرها، ولأصالة براءة الذمّة، وعموم الخبر ممنوع

ص: 484


1- مسند أحمد، ج 5، ص 638، ح 19620؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 264، باب في العادية مؤادة؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 296، ح 3561؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 802، ح 2400: الجامع الصحيح، ج 3، ص 566، ح 1266: المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 354. ح 2349؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 6، ص 158، ح 11519.

-------------------------------------------------------------------

وهذا متّجه. وهو خيرة ابن إدريس(1) والعلّامة في المختلف (2).

وأمّا استيفاء المنفعة بالإجارة الفاسدة فضمانها بأجرة مثلها من باب المباشرة للإتلاف لا من باب الأسباب، وإدخالها في السبب تجوّز. ومن حكم إتلاف مال الغير - مع عدم تسليط المالك عليه - أن يلزمه العوض، إما العين إن كان، أو قيمة المثل أو أجرته، عيناً كان أم منفعةً.

ص: 485


1- السرائر، ج 2، ص 86.
2- مختلف الشيعة، ج 5، ص 342، المسألة 316.

النظر الثاني في الحكم

يجب ردّ المغصوب ما دام باقياً

• يجب رد المغصوب ما دام باقياً ولو تعسّر، كالخشبة تستدخل في البناء، أو اللوح في السفينة. ولا يلزم المالك أخذ القيمة.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «يجب ردّ المغصوب ما دام باقياً ولو تعسّر» إلى آخره.

إذا غصب خشبةً وأدرجها في بنائه أو بنى عليها لم يملكها الغاصب، بل عليه إخراجه من البناء وردّه إلى المالك، خلافاً لأبي حنيفة حيث حكم بملكه ويغرم قيمته(1).

لنا: قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي»(2).

وأن بناء العدوان لا يزيل ملك المالك، كما لو غصب أرضاً وبني عليها باعتراف الخصم. وأنّ القدرة على المثل تمنع من العدول إلى القيمة؛ لأنّ المثل أقرب إلى المغصوب، فأولى أن تمنع القدرة على العين العدول إلى القيمة.

ثم إذا أخرجها وردّها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص.

ولو بلغت حد الفساد على تقدير الإخراج بحيث لا يبقى لها قيمة فالواجب تمام قيمتها.

وهل يجبر على إخراجها حينئذٍ؟ نظر، من فوات المالية، وبقاء حقّ المالك في العين. وظاهرهم عدم الوجوب، وأنّها تنزّل منزلة المعدومة.

ولو قيل بوجوب إعطائها المالك لو طلبها كان حسناً، وإن جمع بين القيمة والعين.

ولو أدرج لوحاً مغصوباً في سفينة نظر، إن لم يخف من النزع هلاك نفس محترمة ولا مال

ص: 486


1- انظر اللباب، ج 2، ص 192؛ والمبسوط، السرخسي، ج 11، ص 93؛ وبدائع الصنائع، ج 7، ص 220.
2- تقدّم تخريجه في ص 484، الهامش 1.
لو مزج المغصوب بغيره مزجاً يشق تمييزه

• وكذا لو مزجه مزجاً يشق تمييزه كمزج الحنطة بالشعير، أو الدخن بالذرّة، وكلّف تمييزه وإعادته.

-------------------------------------------------------------------

-بأن كانت على وجه الأرض، أو قريبة من الشط، أو أدرج في أعلاها ولم يخش من نزعه الغرق، أو لم يكن فيها نفس ولا مال، ولا خيف هلاك السفينة بنفسها - نزع ورد أيضاً. وخلاف أبي حنيفة في السابق آتٍ هنا(1).

وإن كانت في لجة البحر وخيف من النزع هلاك حيوان محترم - سواء كان آدمياً وغيره، وسواء كان الآدمي هو الغاصب أم غيره، وسواء كان الحيوان للغاصب أم لغيره - لم ينزع حتّى يصل إلى الشطّ؛ لاحترام روح الحيوان.

وإن خيف من النزع هلاك مال غير الحيوان أو نفس السفينة أو غيرهما، فهو إما للغاصب، أو من وضعه فيها وهو يعلم أنّ فيها لوحاً مغصوباً أو مال غيرهما، فإن كان لغيرهما لم ينزع أيضاً. وإن كان لهما فوجهان:

أحدهما - وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف، وصرّح به الأكثر - أنّه ينزع أيضاً، كما يهدم البناء لردّ الخشبة ولا يبالي بما صنع؛ لأنّ دفع المغصوب إلى المالك واجب على الفور ولا يتم إلّا بهذا وعدوان الغاصب لا يناسبه التخفيف، وهو الذي أدخل الضرر على نفسه.

والثاني: أنّه لا ينزع؛ لأنّ السفينة لا تدوم في البحر، فيسهل الصبر إلى انتهائها إلى الشطّ، فتؤخذ القيمة للحيلولة، إلى أن يتيسّر الفصل، فيرد اللوح مع أرش النقص إن نقص، ويستردّ القيمة؛ جمعاً بين الحقّين.

وعلى الأوّل لو اختلطت السفينة التي أدرج فيها اللوح بسفن كثيرة للغاصب، ولم يوقف على اللوح إلّا بفصل الكلّ، ففي جوازه وجهان أجودهما ذلك؛ لتوقّف الواجب عليه.

قوله: «وكذا لو مزجه مزجاً يشق تمييزه» إلى آخره.

لا فرق مع خلطه على وجه يمكن تمييزه ولو بمشقّة بالغة بين خلطه بالجنس، كالحنطة

ص: 487


1- المبسوط السرخسي، ج 11، ص 93؛ شرح فتح القدير، ج 8، ص 265.
لو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة

• ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة، فإن أمكن نزعها الزم ذلك، وضمن ما يحدث من نقص.

ولو خشي تلفها بانتزاعها لضعفها ضمن القيمة.

وكذا لو خاط بها جرح حيوان له حرمة، لم تنزع إلّا مع الأمن عليه تلفاً وشيناً، وضمنها.

-------------------------------------------------------------------

البيضاء والحمراء، أو بغير الجنس، كالحنطة والشعير، وأحدهما بالعدس والدخن وغيرهما.

ولو خلط الزيت بالماء وأمكن تمييزه لزمه أيضاً مع أرش النقص إن كان. وسيأتي حكمه مع عدم الإمكان(1).

قوله: «ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة» إلى آخره.

الخيط المغصوب إن خيط به ثوب ونحوه - فالحكم كما في البناء على الخشبة - فللمالك طلب نزعه وإن أفضى إلى التلف ويضمن الغاصب النقص إن اتّفق.

وإن لم يبق له قيمة ضمن جميع القيمة، ولا يخرج بذلك عن ملك المالك كما سبق (2)، فيجمع بين العين والقيمة.

وإن خيط به جرح حيوان، فهو إما محترم أو غيره، والمحترم إما آدمي أو غيره.

فالآدمي متى خيف من نزعه هلاكه أو غيره من المحذور المجوّز للعدول إلى القيمة من المرض والشين (3) لم ينزع، وعلى الغاصب قيمته.

ثمّ إن خاط جرح نفسه فالضمان مستقر عليه. وإن خاط به جرح غيره بإذنه وهو عالم بالغصب قيل: كان قرار الضمان عليه. والأجود قراره على المباشر. وإن كان جاهلاً فلا إشكال في قراره بل وجوبه ابتداء - على المباشر.

ص: 488


1- يأتي في ص 519.
2- سبق في ص 486.
3- الشَّيْنُ: خلاف الزين والمشاين المعايب والمقابح الصحاح، ج 4، ص 2147، «شين».
لو حدث في المغصوب عيب

• ولو حدث في المغصوب عيب - مثل تسويس التمر أو تخريق الثوب - ردّه مع الأرش.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا غير الآدمي فعلى ضربين:

أحدهما غير المأكول. والحكم فيه كالآدمي ؛ لأنّه لا ينتفع به مع ذبحه.

الثاني: المأكول. فإن كان لغير الغاصب لم ينزع؛ لحرمة روحه. وإن كان للغاصب فوجهان أحدهما أنّه يذبح ويرد الخيط؛ لإمكان الجمع بين الحقين، وهو جائز الذبح.

وأظهرهما - وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف - المنع كما في غير المأكول؛ لأنّ للحيوان حرمة في نفسه؛ ولهذا يؤمر بالإنفاق عليه، ويمنع من إتلافه. فإذا لم يقصد بالذبح الأكل منع منه، وقد روي أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «نهى عن ذبح الحيوان إلّا لمأكله»(1).

وإذا مات الحيوان الذي خيط به جرحه، فإن كان غير الآدمي نزع منه الخيط.

وفي الآدمي وجهان، أصحهما العدم؛ لما فيه من المثلة والآدمي محترم حياً وميتاً؛ ولذلك قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ»(2). ووجه جواز نزعه أن المنع منه لحرمة الروح وقد زال.

وأمّا غير المحترم - وهو ما يصحّ إتلافه بغير التذكية كالخنزير والكلب العقور - فلا يبالي

بهلاكه وينزع منه الخيط مطلقاً.

قوله: «ولو حدث في المغصوب عيب - إلى قوله كان حسناً».

النقصان الحاصل في المغصوب نوعان:

أحدهما ما لا سراية له، فعلى الغاصب أرشه وردّ الباقي من غير أن يملكه الغاصب،

ص: 489


1- تلخيص الحبير، ج 3، ص 55، ح 1272: الحاوي الكبير، ج 7، ص 202؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 425 المسألة 3984.
2- الموطأ، ج 1، ص 158، كتاب الجنائز، ح 42؛ مسند أحمد، ج 7، ص 152، ح 24218، وص 242، ح 24828: سنن أبي داود، ج 3، ص 212 - 213، ح 3207؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 516، ح 1616 و 1617؛ سنن الدارقطني، ج 3، ص 110 - 111، ح 312/3365 - 314/3367؛ تلخيص الحبير، ج 3، ص 54، ح 1271.

ولو كان العيب غير مستقر كعفن الحنطة - قال الشيخ: يضمن قيمة المغصوب. ولو قيل: تردّ العين مع أرش العيب الحاصل، ثمّ كلما ازداد دفع أرش الزيادة كان حسناً.

-------------------------------------------------------------------

سواء في ذلك ما إذا كان الأرش بقدر القيمة وعدمه، وما يفوت معظم منافعه وأقلّ، وما يزيل العيب اسمه الأوّل وعدمه.

ونبّه المصنّف بإطلاق الحكم والأمثلة على خلاف بعض العامّة، حيث حكم فيما إذا أزال العيب أكثر منافعه كما لو خرق الثوب المغصوب خرقاً، أو شقّه طولاً، أو كسر بعض قوائم الدابّة - بأنه ليس للمالك أن يغرمه شيئاً إلّا أن يدفع إليه المغصوب (1).

وعلى المختار لو أراد المالك ترك الناقص عند الغاصب وتغريمه بدله لم يكن له ذلك بدون رضاه؛ لأنّه عين ماله.

والنوع الثاني: ماله سراية لا يزال يزداد إلى الهلاك، كما لو بلّ الحنطة وتمكّن فيها العفن الساري، أو اتخذ من الحنطة المغصوبة هريسة، ففي حكمه قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره الشيخ (2) - أنّه يجعل كالهالك، ويضمن بدله من مثل أو قيمة؛ لأنّه بإشرافه على التلف كأنّه هالك.

ويضعّف بأنه ليس بتألف حقيقةً، وإن كان قد يؤول إليه. وحينئذٍ فيجب ردّه إلى مالكه وضمان ما نقص بالجناية إلى يوم دفع الأرش، ثمّ كلّما نقص شيئاً ضمنه؛ لأنّه مستند إلى جنايته.

هذا إذا لم يمكن المالك،إصلاحه، وإلّا سقط أرش ما زاد عن ذلك؛ لاستناد الفائت إلى تقصير المالك، كما لو جرحه فترك علاج الجرح مع قدرته عليه، فإنّه لا يكون مضموناً.

وفي المسألة وجه آخر، وهو الاقتصار على دفع أرش النقص الموجود إلى حين دفعه (3)؛

ص: 490


1- الحاوي الكبير، ج 7، ص 138 - 139.
2- المبسوط، ج 2، ص 501.
3- وهو اختيار العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 99، المسألة 93.

• ولو كان بحاله ردّه، ولا يضمن تفاوت القيمة السوقيّة.

لو تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله

• فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليّاً، وهو ما يتساوى قيمة أجزائه.

-------------------------------------------------------------------

لأنّه تمام الحقّ، ولا يجب غيره حينئذٍ، فلا يجب شيء آخر بعد ذلك.

ويضعّف بأنّ وجوب الحاصل لا يقتضي كونه تمام الحقّ، مع وجود سبب الضمان الموجب للسراية.

قوله: «ولو كان بحاله ردّه، ولا يضمن تفاوت القيمة السوقية».

إذا كانت عين المغصوب باقيةٌ بحالها فلا إشكال في وجوب ردّها، وعدم ضمان شيء. وإن تغيّرت، فإما أن يكون بالزيادة أو النقصان في العين، أو في القيمة. وعلى الثاني إما أن يعود إلى أصله، أو لا يعود. فنقصان العين وزيادته يأتي الكلام فيهما(1). ونقصان القيمة وحدها -كما لو غصب ما قيمته عشرة، وردّه بحاله، وقد عادت قيمته إلى درهم - فإنّه غير مضمون عند أكثر أهل العلم؛ لأنّ الفائت رغبات الناس لا شيء من المغصوب، فإنّ عينه موجودة، فالواجب ردّها وقد أتى به وخالف في ذلك شذوذ من العامّة (2).

قوله: «فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله» إلى آخره.

إذا تلف المغصوب ضمنه الغاصب لا محالة. ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون مثليّاً أو قيميّاً. فإن كان مثليّاً ضمنه بمثله؛ لأنّه أقرب إلى التالف والمتقوّم يضمن بالقيمة.

وقد اختلف عبارات الفقهاء في ضبط المثلي، والمشهور بين الأصحّاب ما ذكره المصنّف من أنّ المثلي ما يتساوى قيمة أجزائه، أي أجزاء النوع الواحد منه، كالحبوب والأدهان، فإنّ المقدار من النوع الواحد منه يساوي مثله في القيمة، ونصفه يساوي نصف قيمته، وهكذا.

ص: 491


1- يأتي في ص 512-513.
2- في حاشية «و»: «هو أبو ثور ووافقه بعض الشافعية. (منه رحمه اللّه)». وحكاه الماوردي عن أبي ثور في الحاوي الكبير، ج 7، ص 158: والقفال في حلية العلماء، ج 5، ص 211؛ وابن قدامة في المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 400، المسألة 3959؛ والنووي في روضة الطالبين، ج 4، ص 121.

-------------------------------------------------------------------

واعترض بأنّه إن أريد بالأجزاء كلّ ما تركب عنه الشيء، فيلزم أن لا تكون الحبوب مثليّة؛ لأنّها تتركب من القشور والألباب، والقشر مع اللبّ مختلفان في القيمة. وكذا التمر والزبيب؛ لما فيهما من النوى والعجم.

وإن أُريد بالأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة فيلزم أن لا تكون الدراهم والدنانير مثليّة؛ لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن، وفي الاستدارة والاعوجاج، وفي وضوح السكة وخفائها، وذلك ممّا يؤثر في القيمة(1).

وعرّفه في الدروس بأنه المتساوي الأجزاء والمنفعة المتقارب الصفات (2). وهو سالم عن أكثر ما ورد على الأوّل. ونقض التعريفان بالثوب؛ فإنّه قيمي مع صدقهما عليه(3).

وعرّفه في شرح الإرشاد بأنه ما يتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعيّة(4). ومرجعه إلى ما يكون اسم الكثير والقليل منه واحداً، كالماء والدبس والحنطة. وينتقض بالأرض.

وضبطه بعضهم بالمقدّر بالكيل أو الوزن(5). ونقض بالمعجونات(6). وزاد آخرون عليه اشتراط جواز السلم فيه (7)؛ ليسلم من النقض. وزاد ثالث اشتراط بيع بعضها ببعض (8)؛ لتشابه الأصلين في قضيّة التقابل.

واعترض على العبارات الثلاث بأنّ القماقم والمغارف والملاعق المتّخذة من الصفر موزونة، ويجوز السلم فيها؛ وبيع بعضها ببعض، وليست مثليّة(9).

ص: 492


1- نسبه في مفتاح الكرامة، ج 6، ص 241 إلى المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان، ج 10، ص 522.
2- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 104 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- جامع المقاصد، ج 1، ص 243.
4- غاية المراد، ج 2، ص 245 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
5- روضة الطالبين، ج 4، ص 108.
6- روضة الطالبين، ج 4، ص 108.
7- روضة الطالبين، ج 4، ص 108.
8- حكاه في روضة الطالبين، ج 4، ص 108 عن القفال.
9- جامع المقاصد، ج 1، ص 244.

• فإن تعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض، لا يوم الإعواز.

-------------------------------------------------------------------

وفيه نظر؛ لمنع جواز السلّم فيها؛ لاختلافها وعسر ضبطها.

وأقرب التعريفات إلى السلامة تعريف الدروس.

لو غصب مثليّاً وتلف في يده وتعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض

قوله: «فإن تعذّر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض، لا يوم الإعواز».

إذا غصب مثليّاً وتلف في يده، والمثل موجود فلم يسلّمه حتّى فقد أخذت منه القيمة.

والمراد من الفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حوله ممّا ينقل منه إليه عادةً، كما بين في انقطاع المسلم فيه(1).

وفي القيمة المعتبرة حينئذٍ أوجه أظهرها عند الأصحّاب اعتبار قيمته يوم الإقباض - وهو تسليم البدل - لا يوم الإعواز؛ لأنّ الواجب في الذمّة هو المثل، وإنّما ينتقل إلى القيمة عند إرادة التسليم وتعذّر المثل.

ولو وجبت القيمة وقت الإعواز لكان إذا تمكن من المثل بعده ولما يسلّم القيمة لا يجزئ تسليم المثل لاستقرارها في الذمّة.

وتعبير المصنّف باليوم توسع، والمراد حين الإقباض؛ لإمكان اختلاف القيمة في ذلك اليوم. ووجه اعتبارها بوقت الإعواز أنه وقت العدول إلى القيمة.

وفيه وجه ثالث باعتبار أقصى القيم من حين الغصب إلى حين دفع العوض، وهو المعبّر عنه بيوم الإقباض.

ورابع باعتبار الأقصى من حينه إلى حين الإعواز.

ووجههما يظهر من اعتبار الغايتين مع مراعاة أقصى القيم في القيمي ؛ لأنّه مضمون في جميع الأوقات، فليكن في المثلي كذلك.

وخامس باعتبار الأقصى من حين الإعواز إلى حين دفع القيمة.

ووجهه أنّ الإعواز وقت الحاجة إلى العدول إلى القيمة، فيعتبر الأقصى من يومئذ.

ص: 493


1- راجع ج 3، ص 352 – 353.

• ولو أعوز فحكم الحاكم بالقيمة فزادت أو نقصت لم يلزم ما حكم به الحاكم وحكم بالقيمة وقت تسليمها؛ لأنّ الثابت فى الذمّة ليس إلّا المثل.

إن لم يكن المغصوب مثليّاً ضمن قيمته يوم غصبه

• وإن لم يكن مثليّاً ضمن قيمته يوم غصبه. وهو اختيار الأكثر. وقال في المبسوط والخلاف يضمن أعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف. وهو حسن ولا عبرة بزيادة القيمة ولا بنقصانها بعد ذلك على تردّد.

-------------------------------------------------------------------

واعلم أنه حيث يغرم القيمة ثمّ يقدر على المثل لا يردّ القيمة، بخلاف ما لو قدر على العين بعد أداء القيمة.

والفرق أنّ المثل إنّما وجب لتعذّر البدل، والتعذّر باق فلا يثبت الاسترداد، بخلاف ما لو قدر على العين، فإن القيمة كانت للحيلولة، فإذا قدر على عين الحقّ وجب؛ لأنّ دفع القيمة إنّما كان للمحافظة على حقّ المغصوب منه.

قوله: «ولو أعوز فحكم الحاكم بالقيمة فزادت أو نقصت» إلى آخره.

حكم الحاكم بالقيمة على تقدير الإعواز مترتب على طلب المالك، فكان لازم الحكم كون المطلوب من القيمة وقت الحكم، فإن دفعها الغاصب فذاك، وإلّا لم يوجب الحكم تخصيصها بذلك الوقت، من حيث إن الحكم تعلّق به؛ لأنّه وقت يجب فيه الدفع، فإذا أخره إلى وقت آخر فالمعتبر وقت الدفع، ولا ينافي ذلك الحكم؛ لأنّ الثابت في الذمّة المثل، فلا يتعيّن إلّا بدفع بدله على كلّ تقدير.

قوله: «وإن لم يكن مثليّاً ضمن قيمته يوم غصبه» إلى آخره.

إذا كان المغصوب متقوّماً وتلف عند الغاصب لزمه قيمته، لكن متى تعتبر؟ فيه أقوال:

أحدها: أنّ المعتبر قيمته يوم الغصب. ذهب إليه الشيخ في موضع من المبسوط(1)، ونسبه المصنّف هنا إلى الأكثر.

ص: 494


1- راجع المبسوط، ج 2، ص 474 ونسبه إليه فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 173.

-------------------------------------------------------------------

ووجهه أنّه أوّل وقت دخول العين في ضمان الغاصب، والضمان إنّما هو لقيمته، فيقضى به حالة ابتدائه.

ويضعّف بأنّ الحكم بضمان العين حينئذٍ بمعنى أنها لو تلفت وجب بدلها وهو القيمة، لا وجوب قيمتها حينئذٍ، فإنّ الواجب ما دامت باقيةً ردّها، ولا ينتقل إلى القيمة إلّا مع تلفها، فلا يلزم من الحكم بضمانها على هذا الوجه اعتبار ذلك الوقت.

وثانيها: ضمان القيمة يوم التلف. ذهب إليه ابن البرّاج(1) والعلّامة في المختلف(2)، ونسبه في الدروس إلى الأكثر (3)، ولم يذكر القول باعتبار يوم القبض - الذي جعله المصنّف مذهب الأكثر - استضعافاً له.

ووجه هذا القول ما أشرنا إليه من أنّ العين ما دامت موجودةً لا حقّ لمالكها في القيمة، زادت أم نقصت ومن ثمّ لم يحكم عليه بضمان زيادة القيمة السوقية إذا نقصت حين الردّ، وإنّما ينتقل حقّه إلى القيمة عند تلفها، فيعتبر قيمتها حينئذٍ ؛ لأنّه أول وقت وجوبها.

وهذا القول قويّ، إلّا أن في صحيحة أبي ولاد - فيمن اکتری البغل وتجاوز به محلّ الشرط(4) - ما يدل على وجوب أعلى القيم بين الوقتين، ولولاها لما كان عن هذا القول عدول.

وثالثها: ضمان أعلى القيم من حين القبض إلى التلف وهو مذهب الشيخ في موضع آخر من المبسوط وفي الخلاف والنهاية(5)، واختاره ابن إدريس(6)، واستحسنه المصنّف هنا ؛

ص: 495


1- المهذّب، ج 1، ص 436 - 437.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 81، المسألة 67.
3- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 105 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
4- الكافي، ج 5، ص 290، باب الرجل يكتري الدابّة فيجاوز بها الحد...، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 215، ح 943: الاستبصار، ج 3، ص 134، ح 483.
5- المبسوط، ج 3، ص 72 و 75؛ الخلاف، ج 3، ص 493، المسألة 9 ونسبه إلى النهاية أيضاً ابن فهد في المهذّب البارع. ج 4، ص 252: والمقتصر، ص 342، ولم نجده في النهاية، بل قال في ص 402 و 446: بالضمان يوم الغصب.
6- السرائر، ج 2، ص 481.

-------------------------------------------------------------------

لأنّه مضمون في جميع حالاته التي من جملتها حالة أعلى القيم، ولو تلف فيها لزم ضمانه فكذا بعده؛ ولأنّه يناسب التغليظ على الغاصب.

ويضعّف بما تقدّم من أنّ الزيادة للسوق ما دامت العين باقيةً غير مضمونة. ولا يلزم من ضمانها لو تلف في تلك الحالة ضمانها مع عدم تلفها؛ لأنّ ضمان القيمة على تقدير تلفها حينئذٍ ما جاء من قبل الزيادة، بل من حيث الانتقال من ضمان العين إلى القيمة لفوات العين، وهو منتف على تقدير عدم تلفها في تلك الحالة العليا. ومؤاخذة الغاصب بالأشقّ لا يجوز بغير دليل يقتضيه، وقد تبين ضعفه.

نعم، ما ذكرناه من دلالة الرواية عليه يرجّح القول به لمجرّد الرواية، لا لما ذكروه من الاعتبار.

واعلم أنّ محلّ الخلاف ما إذا كان اختلاف القيمة مستنداً إلى قيمة السوق مع بقاء العين بحالها، أما إذا استند نقص القيمة إلى نقص في العين ثمّ تلفت، فإنّ الأعلى مضمون اتّفاقاً لأنّ ذلك الجزء الفائت مضمون بقيمته يوم تلفه كضمان الجملة وإن بقيت الجملة، بخلاف زيادة السوق.

إذا تقرّر ذلك، فحيث يحكم بضمان القيمة - على أي وجه قيل من الثلاثة (1) - لا عبرة بزيادة القيمة ولا بنقصانها بعد يوم التلف؛ لأنّ الواجب القيمة فمتى حكم بها استقرت.

نعم، لو قلنا بأن الواجب في القيمي مثله كما ذهب إليه ابن الجنيد مخيراً بين دفع المثل والقيمة (2)، ومال إليه المصنّف في باب القرض (3) - اتّجه وجوب ما زاد من القيمة إلى حين دفعها كما في المثلي.

ص: 496


1- أي الأقوال الثلاثة في الضمان.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 96، المسألة 84؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 174 - 175؛ والشهيد في غاية المراد، ج 2، ص 245 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
3- راجع ج 3، ص 373.
الذهب والفضّة يضمنان بمثلهما

• والذهب والفضة يضمنان بمثلهما. وقال الشيخ (رحمه اللّه): يضمنان بنقد البلد، كما لو أتلف ما لا مثل له.

ولو تعذّر المثل، فإن كان نقد البلد مخالفاً للمضمون في الجنس ضمنه بالنقد. وإن كان من جنسه واتّفق المضمون والنقد وزناً صح. وإن كان أحدهما أكثر قوّم بغیر جنسه، ليسلم من الربا.

ولا تظنّنّ أنّ الربا يختص بالبيع، بل هو ثابت في كلّ معاوضة على ربوتين متّفقي الجنس.

-------------------------------------------------------------------

والمصنّف (رحمه اللّه) تردّد في ذلك؛ لما ذكرناه من الشك في كون الواجب في القيمي المثل أو القيمة.

والأظهر اعتبار القيمة، فلا يتغيّر بعد الحكم بها.

قوله: «والذهب والفضة يضمنان بمثلهما» إلى آخره.

كون الذهب والفضة مثليين هو المشهور بين الأصحّاب، بناءً على أنّ أجزاءه ممّا لا يختلف فيه القيمة إما مطلقاً أو مع تقارب صفاته. ويمكن جريانه على باقي التعريفات؛ لأنّه موزون ويصحّ السلم فيه، ويجوز بيع بعضه ببعض في الجملة. ولا فرق فيه بين المضروب وغيره إذا لم يكن فيه صنعة، أو كانت محترمة.

وقال الشيخ: إنهما قيميان(1).

ولعلّه نظر إلى ما أشرنا إليه سابقاً من اختلاف المضروب منه في الصفات الموجبة لاختلاف القيمة، فلا يجري عليه تعريف المثلي بأنه ما تساوت قيمة أجزائه؛ لأنّه اختار في المبسوط (2) هذا التعريف من غير أن يعتبر تقاربها في الصفات، ولا يدخل فيه بدونه.

ولكن لا بدّ من مراعاة ذلك في التعريف، وإلّا لم يدخل فيه شيء من المثليات؛ لاختلاف

ص: 497


1- المبسوط، ج 2، ص 475. وفي النسخ: «قيميّين». والمثبت من الحجريّتين.
2- المبسوط، ج 2، ص 473.

-------------------------------------------------------------------

صفات أصنافها الموجب لاختلاف قيمتها من الحبوب والأدهان وغيرها.

إذا تقرّر ذلك، فعلى الأظهر من كونهما مثليين فغصبهما غاصب ضمنهما بمثلهما وزناً أو عدداً، إن لم يكن فيهما صنعة. فإن تعذّر المثل، أو قلنا بقول الشيخ: إنهما قيميان اعتبرت قيمتهما بغالب نقد البلد.

فإن كان نقد البلد مخالفاً له في الجنس ضمنه بالنقد؛ لعدم المانع.

وإن كان من جنس المغصوب واتّفق الوزن والقيمة أخذ من نقد البلد أيضاً.

وإن اختلفا فكان الوزن أكثر من قيمتهما أو بالعكس، قال الشيخ في المبسوط :

له قيمتهما، ولكنّه لا يمكنه أخذ ذلك من غالب نقد البلد؛ لأنّه ربا، فيقوم بغير جنسه ويأخذ قيمته: ليسلم من الربا، فيأخذ كمال حقّه(1).

ورده ابن إدريس بمنع ثبوت الربا هنا؛ لأنّه مختصّ بالبيع (2)، فلا يضر اختلافهما في الوزن وكذا لو عاب فرده مع أرش النقص.

والمصنّف (رحمه اللّه) وافق الشيخ على ثبوت الربا هنا وإن خالفه في الأصل، لكنّه فرض المسألة فيما لو تعذّر المثل.

وأشار إلى الرد على ابن إدريس بقوله ولا تظنّنّ أنّ الربا يختص بالبيع، بل هو ثابت في كلّ معاوضة»؛ لعموم قوله تعالى: «وَحَرَّمَ الرِّبَوَاْ» (3). ومن خصه بالبيع نظر إلى أن الآية مسوقة في البيع حيث قال: «وَأَحَلَّ اللّه البَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبوا»(4).

وما اختاره المصنّف أقوى؛ نظراً إلى العموم أو الإطلاق. وفي المختلف اختار مذسب ابن إدريس من اختصاصه بالبيع(5).

ص: 498


1- المبسوط، ج 2، ص 475، وفيه: «قيمتها» بدل «قيمتهما».
2- السرائر، ج 2، ص 486 و 487.
3- البقرة (2): 275.
4- البقرة (2): 275.
5- مختلف الشيعة، ج 6، ص 86، المسألة 72.
لو كان في المغصوب صنعة لها قيمة

• ولو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالباً، كان على الغاصب مثل الأصل وقيمة الصنعة، وإن زاد عن الأصل، ربويّاً كان أو غير ربوي؛ لأنّ للصنعة قيمة تظهر لو أُزيلت عدواناً ولو من غير.غصب. وإن كانت الصنعة محرّمةً لم يضمن.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالباً» إلى آخره.

إذا كان المغصوب مثليّاً - كالنقدين - لكنّه اشتمل على صنعة لها قيمة - كالحلّي - لم يخرج عن المثلية بها عند المصنّف (رحمه اللّه) وجماعة (1)؛ لبقاء أجزائه متساوية في القيمة بغير الصنعة وتكون الصنعة مالاً زائداً على المثل فيضمن الأصل بمثله، والصنعة بقيمتها؛ لأنّها قيميّة.

ثم إن حكمنا باختصاص الربا بالبيع فالحكم بضمانه بالمثل وقيمة الصنعة على إطلاقه. وإن عمّمناه قيل: كان الحكم كذلك؛ لتغاير المضمون، فإنّ الصنعة أمر آخر غير الأصل، ولهذا تضمن لو أزيلت مع بقاء الأصل، ويصح الاستيجار عليها.

ويشكل بأنّه لم يخرج بالصنعة عن أصله، وإنّما اشتمل على وصف زائد، وقد صرّحوا في باب الربا بأنه لا فرق بين المصنوع وغيره في المنع من المعاوضة عليه بزيادة. وهذا.أقوى. فضمانها بالقيمة أظهر.

مع أنّا نمنع من بقائه مثليّاً بعد الصنعة؛ لأنّ أجزاءه ليست متّفقة القيمة؛ إذ لو انفصلت نقصت قيمتها عنها متّصلة كما لا يخفى.

وفي المسألة وجه ثالث بضمان المصنوع بمثله مصنوعاً إن أمكنت المماثلة. وهو بعيد. واختلفت فتوى التذكرة في هذه المسألة، فقال في موضع منها:

إذا أتلف حليّاً وزنه عشرة وقيمته عشرون ضمن الأصل بمثله وقيمة الصنعة، وكذا في غير النقدين، ربوياً كان أو غير ربوي(2).

ص: 499


1- منهم الشيخ في الخلاف، ج 3، ص 416، المسألة 31؛ والمبسوط، ج 3، ص 61؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 530 - 531: والشهيد في الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 103 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 235 المسألة 1048.
لو كان المغصوب دابّة فجنى عليها الغاصب

• ولو كان المغصوب دابّة فجنى عليها الغاصب أو غيره، أو عابت من قبل اللّه سبحانه ردّها مع أرش النقصان. ويتساوى بهيمة القاضي وغيره في الأرش.

-------------------------------------------------------------------

وقال في موضع آخر منها:

ولو كان فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها، والحليّ من الذهب والفضة، والمنسوج من الحرير والكتان والقطن والشعر والصوف، والمغزول من ذلك، فالأقرب أنّه يضمن بالقيمة(1).

وهذا كلّه إذا كانت الصنعة محلّلة.

أمّا المحرّمة - كالأواني حيث يمنع من اتخاذها من النقدين مطلقاً، وكآلات الملاهي والصليب والصنم - فإنّه يضمن بمثله، ولا تعتبر قيمة الصنعة؛ لأنّه لا قيمة لها شرعاً.

قوله: «ولو كان المغصوب دابّة فجنى عليها الغاصب أو غيره» إلى آخره.

لا ريب في ضمان نقص الحيوان المغصوب بالعيب في يد الغاصب، سواء كان من قبله أم من قبل غيره؛ لأنّ الجملة مضمونة عليه، فكذا أبعاضها.

ومع بقاء العين فهي مال المالك يتعيّن ردّه، فيجب أرش النقصان جمعاً بين حقّ العين الموجودة والصفات والأجزاء المفقودة، فإنّ حقّ العين الردّ والذاهب القيمة، وهو هنا الأرش. وهذا أمر لا يتفاوت بتفاوت الملاك.

ونبّه بقوله «ويتساوى» بهيمة القاضي وغيره على خلاف مالك وأحمد (2) في إحدى الروايتين عنه أنّ في قطع ذنب بهيمة القاضي تمام القيمة؛ لأنّها لا تصلح له بعد ذلك.

لنا: أنّ النظر في الضمان إلى نفس المفوّت لا إلى أغراض الملاك، إلّا ترى أنّ في وطء جارية الأب بالشبهة مهر المثل، كما في وطء جارية الأجنبي بالشبهة، وإن تضمّن وطء جارية الأب تحريمها عليه.

ص: 500


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 227، المسألة 1044.
2- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 413.

• ولا تقدير في قيمة شيء من أعضاء الدابّة، بل يرجع إلى الأرش السوقي. وروي في عين الدابّة ربع قيمتها.

وحكى الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط والخلاف عن الأصحّاب في عين الدابّة نصف قيمتها، وفي العينين كمال قيمتها، وكذا كلّ ما في البدن منه اثنان.

والرجوع إلى الأرش السوقي أشبه.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولا تقدير في قيمة شيء من أعضاء الدابّة» إلى آخره.

الحيوان المملوك يراعى فيه ماليته، فيضمن بتلفه قيمته، وبتلف شيء من أجزائه نقصه بسببه. ولا فرق في ذلك بين نوع من الحيوان ونوع؛ لاشتراكهما في المالية، فيجب في نقصها الأرش كسائر الأموال. وهذا مذهب الأكثر، ومنهم الشيخ في المبسوط(1).

وقال في الخلاف : كلّ ما في البدن منه اثنان ففيهما القيمة، وفي أحدهما نصفها (2).

واحتجّ عليه بالإجماع والرواية، وهي: «كلّ ما في البدن منه اثنان ففي الاثنين جميع القيمة، وفي الواحد نصفها»(3).

وردّه ابن إدريس بأنّ الرواية لم ترد كذلك إلّا في الإنسان، وحمل البهائم عليه قياس(4).

وكلام ابن إدريس جيّد من حيث هذا العموم، فإنّه لم يرد في الحيوان مطلقاً.

نعم، روى الكليني بإسناده إلى عاصم بن حميد عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5)، وبإسناده إلى مسمع عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضى في عين الدابّة ربع ثمنها»(6).

ص: 501


1- المبسوط، ج 2، ص 476.
2- الخلاف، ج 3، ص 397، المسألة 4.
3- الكافي، ج 7، ص 315، باب ما تجب فيه الدية كاملة...، ح 22؛ تهذيب الأحكام، ج 10، ص 250، ح 989، وص 258، ح 1020.
4- السرائر، ج 2، ص 498
5- الكافي، ج 7، ص 367، باب فيما يصاب من البهائم...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 10، ص 309، ح 1151.
6- الكافي، ج 7، ص 367، باب فيما يصاب من البهائم...، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 10، ص 309، ح 1152.
لو غصب عبداً أو أمةً فقتله أو قتله قاتل

• ولو غصب عبداً أو أمةٌ فقتله أو قتله قاتل ضمن قيمته، ما لم تتجاوز دية الحرّ، ولو تجاوزت لم يضمن الزيادة. ولو قيل : يضمن الزائد بسبب الغصب كان حسنا.

ولا يضمن القاتل غير الغاصب سوى قيمته ما لم تتجاوز. ولو تجاوزت دية الحرّ ردّت إليه فإن زاد الأرش عن الجناية طولب الغاصب بالزيادة دون الجاني.

أمّا لو مات في يده ضمن قيمته ولو تجاوزت دية الحرّ.

-------------------------------------------------------------------

وروى أبو العباس عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «من فقأ عين دابّة فعليه ربع ثمنها»(1).

والأصحّ وجوب الأرش مطلقاً؛ لضعف ما أوجب التقدير أو عدمه؛ لأنّ هذه الروايات لا يقول الشيخ بمضمونها، وما ادّعاه لم نقف فيه على رواية.

وقال في المختلف:

تحمل الرواية والإجماع الذي ادّعاه الشيخ على غير الغاصب في إحدى العينين، بشرط نقص المقدّر عن الأرش(2).

وهذا الحمل حسن لو صحت الرواية، ومع ذلك فمدلولها خلاف ما ادّعاه الشيخ.

قوله: «ولو غصب عبداً أو أمةً فقتله أو قتله قاتل ضمن قيمته» إلى آخره.

قاتل العبد غير الغاصب يضمن قيمته ما لم يتجاوز دية الحر، فيردّ إليها.

وحاصله : أنّه يضمن أقلّ الأمرين من قيمته ودية الحرّ. وهو موضع نصّ (3) ووفاق.

وأمّا الغاصب، فإن مات عنده ضمن قيمته مطلقاً؛ لأنّه مال محض وقد فوّته على مالكه عدواناً فيلزمه قيمته كغيره من الأموال، ولا معارض هنا لهذا الحكم.

ص: 502


1- الكافي، ج 7، ص 368، باب فيما يصاب من البهائم...، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 10، ص 309، ح 1149.
2- مختلف الشيعة، ج 1، ص 88، المسألة 73.
3- وسائل الشيعة، ج 29، ص 207 - 208، الباب 6 من أبواب ديات النفس.
لو جنى الغاصب عليه بما دون النفس

• ولو جنى الغاصب عليه بما دون النفس، فإن كان تمثيلاً، قال الشيخ : عتق وعليه قيمته. وفيه تردّد؛ ينشأ من الاقتصار بالعتق في التمثيل على مباشرة المولى.

-------------------------------------------------------------------

وإن قتله الغاصب وتجاوزت قيمته دية الحرّ ففي ضمانه للزائد قولان:

أحدهما: العدم، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف (1)؛ تسوية بين الغاصب وغيره، ولأصالة البراءة، ولأنّ الأغلب فيه الإنسانية لا المالية.

وذهب المصنّف (رحمه اللّه) وابن إدريس (2) وأكثر المتأخّرين إلى أنه يضمن جميع القيمة مطلقاً؛ لأنّه مال فيضمنه بقيمته كما مرّ.

وإنّما اقتصرنا في غير الغاصب على الدية؛ عملاً بالاتّفاق، فيبقى ما عداه على الأصل. وهذا أقوى، وعليه الفتوى فلو قتله غيره فزادت قيمته عن دية الحرّ لزم القاتل دية الحرّ، والغاصب الزيادة؛ لأنّ ماليته مضمونة عليه.

قال في المختلف:

والظاهر أنّ مراد الشيخ بقوله في المبسوط : إنّه لا يلزم القاتل الزيادة عن دية الحرّ، الجاني دون الغاصب؛ لأنّه أشار في المبسوط إلى ما اخترناه من لزوم الزائد؛ لأنّه قال: إذا غصب عبداً فقطع آخر يده، فإن رجع السيد على الغاصب رجع بأكثر الأمرين ممّا نقص وأرش الجناية، وإن رجع على القاطع رجع بالأرش وهو نصف القيمة، والزائد في مال الغاصب، لاختصاص ذلك بالجاني، فلا يتعدّى إلى الغاصب؛ لما فيه من مخالفة الأصل، فإنّ العبد مال(3).

وعلى هذا فيرتفع الخلاف.

قوله: «ولو جنى الغاصب عليه بما دون النفس» إلى آخره.

وجه ما اختاره الشيخ من عتقه بتنكيل الغاصب(4)، عموم ما دلّ على عتق المنكّل به في

ص: 503


1- المبسوط، ج 2، ص 476؛ الخلاف، ج 3، ص 398، المسألة 5.
2- السرائر، ج 2، ص 492.
3- مختلف الشيعة، ج 6، ص 89، المسألة 76: المبسوط، ج 3، ص 62 و 98.
4- المبسوط، ج 2، ص 476.

-------------------------------------------------------------------

النصوص الشامل لتنكيل المولى وغيره. فقد روى في التهذيب عن جعفر بن محبوب، عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «كل عبد مثل به فهو حرّ»(1).

ولا يعارضه ما ورد فيه تنكيل المولى بخصوصه كرواية أبي بصير عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيمن نكل بمملوكه أنه لا سبيل عليه سائبة» (2)؛ لعدم التنافي بين الحكم بعتقه على المولى المنكل وعتقه على كلّ من نكّل(3).

وقد حققنا في باب العتق أن الأخبار كلّها ضعيفة (4).

وقد خالف ابن إدريس في العتق بتنكيل المولى (5) فضلاً عن غيره.

والمصنّف تردّد أيضاً ثمّ فى عنقه بالتنكيل مطلقاً لذلك(6)، ومنه نشأ تردّده هنا؛ لأنّه إن كان ولابدّ فينبغي الاقتصار في الحكم على تنكيل المولى وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده وهو المولى؛ لأنّ عتقه مؤاخذة له على سوء فعله، ولعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لا عتق قبل ملك»(7)، ولأصالة بقاء الرقيّة في موضع الشك. وهذا هو المعتمد.

والعلّامة في بعض فوائده بنى الخلاف في الحكم على الخلاف في الحكمة، فإن كانت في المولى للعقوبة لم يطّرد، وإن كانت جبر وهن المنكل به لما فاته من التكسب بالعتق اطرد.

ولا يخفى ضعف هذا المبنى؛ لأنّه ردّ للحكمة إلى غير معلوم. والنص على تقدير العمل به غير معدّل. والعلّة المستنبطة ساقطة الاعتبار عند الأصحّاب.

ص: 504


1- تهذيب الأحكام، ج 8، ص 223، ح 801.
2- الكافي، ج 7، ص 172، باب ولاء السائبة، ح 9؛ الفقيه، ج 3، ص 142، ح 3522؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 223، ح 802.
3- في بعض النسخ زيادة: «به».
4- راجع، ج 8، ص 382.
5- السرائر، ج 3، ص 98.
6- راجع ج 8، ص 381.
7- الكافي، ج 1، ص 179، باب أنه لا عتق إلّا بعد ملك، ح 1: الفقيه، ج 3، ص 116، ح 3448؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 217، ج 773؛ الاستبصار، ج 4، ص 5، ح 14.
كلّ جناية ديتها مقدّرة في الحرّ فهي مقدّرة في المملوك

• وكلّ جناية ديتها مقدّرة في الحرّ فهي مقدّرة في المملوك بحساب قيمته. وما ليست مقدّرةً في الحرّ ففيها الحكومة. ولو قيل: يلزم الغاصب أكثر الأمرين من المقدّر والأرش كان حسناً.

• أما لو استغرقت قیمته، قال الشيخ (رحمه اللّه) كان المالك مخيّراً بين تسليمه وأخذ القيمة، وبين إمساكه ولا شيء له؛ تسوية بين الغاصب في الجناية وغيره. وفيه التردّد.

-------------------------------------------------------------------

وبهذا يظهر فساد ما قيل أيضاً من بناء الخلاف على أنّ التنكيل يخرج العبد عن الملكيّة، أو المولى عن أهليّة الملك بالنسبة إلى العبد أو عقوبة محضة. فعلى الأخيرين لا عتق، وعلى الأوّل يعتق. وكلّ ذلك ردّ إلى ما لا يعلم.

قوله: «وكلّ جناية ديتها مقدّرة في الحرّ فهي مقدرة في المملوك» إلى آخره.

الكلام في هذه كما سبق في الجناية على نفسه(1)، حيث تزيد قيمته عن دية الحرّ. والأقوى فيها أيضاً مراعاة جانب المالية بالنسبة إلى الغاصب، فيضمن أكثر الأمرين من المقدر والقيمة.

ثمّ إن كان هو الجاني فهذا حكمه. وإن كان الجاني عليه غير غاصب - بأن قطع يده - ضمن أقلّ الأمرين من نصف قيمته ونصف دية الحرّ. فإن زاد نصف القيمة عن نصف الدية تخيّر المالك بين الرجوع على الغاصب بنصف القيمة مطلقاً، فيرجع الغاصب على الجاني بأقل الأمرين، وبين أن يضمن الجاني أقلّ الأمرين، فلا يرجع به على الغاصب، ويأخذ المالك من الغاصب الزائد إن اتّفق.

وبالجملة، فقرار موجب الجناية على الجاني والزائد على الغاصب.

قوله: «أما لو استغرقت قيمته» إلى آخره.

هذا قول الشيخ في المبسوط (2)؛ ووجهه أنّ المقتضي لدفعه إلى الجاني إذا أخذت منه

ص: 505


1- سبق في ص 503.
2- المبسوط، ج 2، ص 477.

• ولو زادت قيمة المملوك بالجناية كالخصاء أو قطع الإصبع الزائدة ردّه مع دية الجناية؛ لأنّها مقدّرة.

-------------------------------------------------------------------

قيمته التحرّز من الجمع للمالك بين العوض والمعوض، وهذا المعنى موجود في الغاصب، فيستويان في هذا الحكم؛ لاشتراكهما في المقتضي، ولرواية أبي مريم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أنف العبد أو ذكره أو شيء يحيط بقيمته أنه يؤدي إلى مولاه قيمة العبد ويأخذ العبد»(1). وهي شاملة بإطلاقها للغاصب، إلّا أن الطريق ضعيف.

والمصنّف تردّد في ذلك ممّا ذكر، ومن أنّ المدفوع عوض الفائت فلا جمع وحمل الغاصب على الجاني قياس وهذا أقوى. وهو خيرة ابن إدريس(2).

قوله: «ولو زادت قيمة المملوك بالجناية» إلى آخره.

الكلام هنا في الجمع بين العين والقيمة، أو تخيّر المالك بين أحدهما كالسابقة، فقد قيل بأنه لا يجمع بينهما. والأصحّ خلافه؛ لأنّ القيمة عوض الفائت لا عوض الجميع فلا يلزم الجمع وإن كان المدفوع يصلح لأنّ يكون قيمة للمجموع، إلّا أنه هنا لم يقع كذلك، بل قيمة لبعضه. والشيخ وافق على جمع المالك بين الأمرين هنا، محتجاً بأنه ضمان مقدّر(3).

وقيل في قطع الإصبع الزائدة: إنّه لا شيء فيها؛ لعدم نقص القيمة كما هو الفرض(4). والأصحّ ضمان قيمتها؛ لأنّ لها مقدّراً وهو ثلث دية(5) الأصليّة.

واحترز بقوله «لأنّها مقدّرة» عمّا لو نقص السمن المفرط ولم تنقص القيمة فلا شيء للمالك بلا إشكال؛ لأنّه لا مقدّر له شرعاً ليجب بفواته، ولا نقصت فيه القيمة ليجب قدر

ص: 506


1- الكافي، ج 7، ص 307، باب الرجل يقتل مملوك غيره...، ح 21؛ تهذيب الأحكام، ج 10، ص 194، ح 765.
2- السرائر، ج 2، ص 496- 497.
3- المبسوط، ج 2، ص 479.
4- قاله العلّامة في قواعد الأحكام ج 2 ص 232.
5- في الحجريتين زيادة: «الإصبع».

• والبحث في المدير والمكاتب المشروط وأُمّ الولد كالبحث في القنّ.

إذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل

• وإذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل، ويملكه المغصوب منه ولا يملك الغاصب العين المغصوبة. ولو عادت كان لكلّ منهما الرجوع

-------------------------------------------------------------------

النقص فهو من قبيل الجناية على ما لا قيمة له.

قوله: «والبحث في المدير والمكاتب المشروط وأُم الولد كالبحث في القنّ».

لاشتراك الجميع في أصل الرقية، وإن تشبث الثلاثة بالحريّة.

وفي حكم المشروط هنا المطلق الذي لم يؤد شيئاً، وكان عليه أن يذكره؛ لئلّا يوهم خروجه من حيث إنه مخالف للمشروط في كثير من الأحكام. ولو أدّى شيئاً كان في جزئه الحرّ في الواقع بنسبة المؤدى بحكم الجاني الحرّ.

قوله: «وإذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل» إلى آخره.

إذا تعذّر ردّ العين على الغاصب عند طلب المالك لها - والمراد التعذّر عادةً - وجب عليه دفع بدلها إلى المالك مثلاً أو قيمة.

فإن رضي المالك بالبدل على وجه المعاوضة ملكه ملكاً مستقراً لا يزول بالقدرة على العين بعد ذلك.

وإن أخذه على وجه البدليّة - لتعذّر العين - ملكه أيضاً ملكاً محضاً، فنماؤه المنفصل له، لكن متى عادت العين كان لكلّ منهما الرجوع في ماله فيجبر الآخر على ردّ ما بيده، سواء في ذلك الغاصب والمالك على الأقوى.

وأمّا العين المغصوبة فهي باقية على ملك مالكها مطلقاً، ونماؤها له متّصلاً ومنفصلاً. وإنّما ملك العوض للحيلولة بينه وبين ملكه لا لكونه عوضاً، حتّى لو اتّفقا على ترك التراد فلابد من بيع ونحوه ليملك الغاصب العين. هكذا أطلقوه.

ولا يخلو من إشكال من حيث اجتماع العوض والمعوّض على ملك المالك من غير دليل واضح.

ص: 507

• وعلى الغاصب الأجرة إن كان ممّا له أجرة في العادة، من حين الغصب إلى حين دفع البدل. وقيل: إلى حين إعادة المغصوب والأوّل أشبه.

لو غصب شيئين ينقص قيمة كلّ واحد منهما إذا انفرد عن صاحبه

• ولو غصب شيئين ينقص قيمة كلّ واحد منهما إذا انفرد عن صاحبه -كالخفّين - فتلف أحدهما ضمن التالف بقيمته مجتمعاً، ورد الباقي وما نقص من قيمته بالانفراد. وكذا لو شقّ ثوباً نصفين فنقصت قيمة كلّ واحد منهما بالشقّ، ثمّ تلف أحدهما

-------------------------------------------------------------------

ولو قيل بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلاً، أو توقف ملك المالك للبدل على اليأس من العين، وإن جاز له التصرف فيه، كان وجهاً في المسألة.

قوله: «وعلى الغاصب الأجرة إن كان ممّا له أجرة في العادة» إلى آخره.

لا إشكال في وجوب الأجرة قبل دفع البدل؛ لأنّ يد الغاصب يد عدوان محض. وأمّا بعده فقيل الحكم كذلك؛ لأنّ الغاصب لم يملك العين، وإنّما دفع بدلها لمكان الحيلولة لا على وجه المعاوضة، ولهذا كان النماء المنفصل للمالك، فحكم الغصب باق إلى أن ترجع العين إلى مالكها.

والمصنّف (رحمه اللّه) رجّح سقوط الأجرة بعد دفع البدل؛ لأنّ الغاصب قد برئ من العين بدفع بدلها، فيبرأ من توابعها إلى أن يتمكن منها. وهذا لا يتم مع الحكم ببقائها على ملك المالك، وعدم وجود مسقط لضمان الغاصب لها، فإنّه لا يكون إلّا بردها، أو بالمعاوضة عليها على وجه تنتقل عن ملك مالكها ونحو ذلك، ولم يحصل.

قوله: «ولو غصب شيئين ينقص قيمة كلّ واحد منهما إذا انفرد عن صاحبه» إلى آخره.

أمّا ضمان قيمة التالف مجتمعاً؛ فلأن ذلك هو قيمته حين الغصب إلى حين التلف. وأمّا نقصان قيمة الآخر بالانفراد؛ فلحصوله بسبب التفريق المستند إليه. فلو كانت قيمتهما مجتمعين عشرة، فصارت قيمة الباقي إلى ثلاثة ضمن سبعة.

ومثله القول في شقّ الثوب ثمّ تلف أحد النصفين ويفرض نقص أحد النصفين - وإن كان

ص: 508

لو أخذ فرداً من خفّين فتلف في يده

• أما لو أخذ فرداً من خفّين يساويان عشرةً فتلف في يده، وبقي الآخر في يد المالك ناقصاً عن قيمته بسبب الإنفراد ردّ قيمة التالف أن لو كان منضماً إلى صاحبه. وفي ضمان ما نقص عن قيمة الآخر تردّد.

-------------------------------------------------------------------

غير متوقف على الآخر، من حيث إمكان الانتفاع به فى غيره- بأن يكون جعله ثوباً إنّما يحصل بهما؛ لصغر النصف عن الاستقلال، وعدم وجود مماثل له يتممه ونحو ذلك.

واعلم أنه على تقدير تلف أحد النصفين من الثوب المشقوق لا حاجة إلى نقصانهما بالشق، بل لو كان النقصان بواسطة تلف أحدهما من غير أن ينقصا بالشق فالحكم كذلك، بل هو الموافق للمسألة السابقة، فإنّ النقصان لو استند إلى الشق قبل التلف لكان ضمان النقص حاصلاً وإن ردّهما.

ويمكن أن يجعل الباء في «الشق» سببية، على معنى نقصان كلّ واحد بواسطة التفرقة التي سببها الشق؛ ليكون أدخل في تشبيه حكم المسألة بالسابقة، وإن كان لا يخلو من تكلّف، والأوّل مع سلامته عنه يبعد معه الشبه.

قوله: «أما لو أخذ فرداً من خفّين يساويان عشرة» إلى آخره.

الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها الموجب لاختلافهما في الحكم - مع اشتراكهما في تلف أحد الزوجين ونقصان الآخر - أنّ التلف في الأوّل حصل بعد إثبات الغاصب يده عليهما معاً، فكان الذاهب من القيمة بالتلف والنقصان مضموناً عليه، بخلافه هنا، فإنّه لم يغصب إلّا أحد الشيئين فيضمن قيمته قطعاً، والآخر حصل نقصه بسبب التفريق المستند إليه من غير أن يكون غاصباً له، فيكون كحبس المالك عن الماشية فتتلف، فيحتمل ضمان النقص للسببيّة، وعدمه؛ لعدم غصبه والأقوى الضمان. وقد تقدّم أنه يتحقّق بالسببيّة وإن لم يكن هناك غصب.

وبقي الكلام في قيمة التالف الذي غصبه، فإنّها كانت على تقدير اجتماعه مع الآخر تزيد حالة التفريق، وتلفه في يده لم يحصل إلّا عن حالة التفريق، فإذا اعتبرنا قيمته يوم التلف احتمل وجوب قيمته منفرداً حينئذٍ، أو قيمته مجتمعاً؛ لأنّه سبب في ذهاب الزائد كالآخر.

ص: 509

• ولا تملك العين المغصوبة بتغييرها وإخراجها عن الاسم والمنفعة، سواء كان ذلك بفعل الغاصب أو فعل غيره، كالحنطة تطحن، والكتان يغزل وينسج.

لو غصب مأكولاً فأطعمه المالك، أو أطعمه غير المالك

• ولو غصب مأكولاً فأطعمه المالك أو شاةً فاستدعاه ذبحها مع جهل المالك ضمن الغاصب.

-------------------------------------------------------------------

والمصنّف (رحمه اللّه) جزم بضمان قيمته مجتمعاً. وهو الأصحّ. ولا منافاة بين الحكم بوجوب القيمة يوم التلف وضمان الزيادة؛ لأنا نوجب قيمته يوم التلف بسبب الغصب والزيادة بالسببية كما مرّ.

مثاله: لو كانت قيمتهما عشرة، وأحدهما مجتمعاً خمسة، ومنفرداً ثلاثة، ضمن الثلاثة إجماعاً، وفي تمام الخمسة، وجهان أصحهما الضمان وفي تمام السبعة بسبب الباقي وجهان أيضاً، والأصحّ ضمان السبعة.

قوله: «ولا تملك العين المغصوبة بتغييرها وإخراجها عن الاسم والمنفعة» إلى آخره.

هذا الحكم محلّ وفاق بين الأصحّاب، وإنّما خالف فيه أبو حنيفة، فجعل كلّ تغير مغيّر للاسم موجباً لانتقال المالك إلى الغاصب، ويغرم للمالك مثله أو قيمته(1).

وضعفه ظاهر؛ لأصالة بقاء الملك، مع عدم ثبوت كون التغير موجباً لانتقال الملك عن مالكه. وكما لا يملك الغاصب العين بهذا العمل لا يملك شيئاً من الأجرة بسببه؛ لتعدّيه.

ثمّ ينظر إن كان ممّا يمكن ردّه إلى الحالة الأولى فردّه ضمن أرش النقص إن نقصت قیمته.

ولو رضي المالك ببقائه على الحالة الثانية لم يكن للغاصب ردّه. وإن ألزمه بالردّ إليها لزمه مع الأرش إن نقص ولو كان ممّا لا يمكن رده - كطحن الحنطة - فهو للمالك مجّاناً وأرش نقصه إن فرض نقصه في بعض الأحيان.

قوله: «ولو غصب مأكولاً فأطعمه المالك - إلى قوله فكان السبب أقوى».

ص: 510


1- حلية العلماء، ج 5، ص 257: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 403، المسألة 3964.

وإن أطعمه غير المالك، قيل: يغرم أيهما شاء، لكن إن أغرم الغاصب لم يرجع على الآكل، وإن أغرم الآكل رجع الآكل على الغاصب لغروره.

وقيل: بل يضمن الغاصب من رأس، ولا ضمان على الآكل؛ لأنّ فعل المباشر ضعف عن التضمين بمضامة الاغترار، فكان السبب أقوى.

-------------------------------------------------------------------

إنّما ضمن الغاصب مع كون المالك مباشراً للإتلاف ومتسلّماً لماله لضعف المباشرة(1) بالغرور واليد؛ لأنّ التسليم ليس تاماً، فإنّ التام هو التسليم على وجه يكون بتسليمه يتّصرف تصرّف الملاك، لا التصرف على وجه دون آخر. وقد تقدم البحث في ذلك(2).

و مثله ما لو استدعاه ذبح شاته ونحوها من الحيوان؛ لضعف المباشرة بالغرور، وكونه قد أذن له في الإتلاف مجاناً فلا يستتبع الضمان المقتضي لعدم غرم الغاصب له.

وأمّا إذا أطعم الطعام غير المالك فقد ترتبت الأيدي على المغصوب، فيتخير المالك في تضمين كلّ واحد من الأكل والغاصب، ويستقر الضمان على الغاصب مع جهل الأكل الغروره وقدومه على أنّ الأكل مجاناً لا يتعقب الضمان، فإذا فرض رجوع المالك عليه رجع على الغار(3) جمعاً بين الحقين. وهذا هو أصح القولين. وقد تقدّم(4).

وقيل: يختص الضمان بالغاصب من غير أن يشاركه الآكل في أصل الغُرم؛ لضعف المباشرة بالغرور، فاختصّ السبب لقوّته(5).

والأظهر الأوّل: لأنّ ضعف المباشرة لا يبلغ حداً ينتفى به الرجوع عليه، مع كونه متصرّفاً في مال الغير ومتلفاً له. نعم، ينجبر غروره برجوعه على الغار على تقدير رجوع المالك عليه ابتداء.

ص: 511


1- في بعض النسخ: «المباشر» بدل «المباشرة».
2- تقدّم في ص 469 - 470.
3- في بعض النسخ: «الغاصب» بدل «الغار».
4- تقدّم في ص 469 - 470.
5- راجع إيضاح الفوائد، ج 2، ص 171.
لو غصب فحلاً فأنزاه على الأُنثى

• ولو غصب فحلاً فأنزاه على الأنثى، كان الولد لصاحب الأنثى وإن كانت للغاصب.

لو غصب ما له أجرة وبقي في يده حتّى نقص

ولو نقص الفحل بالضراب ضمن الغاصب النقص، وعليه أُجرة الضراب. وقال الشيخ في المبسوط : لا يضمن الأجرة. والأوّل أشبه؛ لأنّها عندنا ليست محرّمةً.

• ولو غصب ما له أجرة وبقي في يده حتّى نقص، كالثوب يَخلَق والدابّة تهزل، لزمه الأجرة والأرش ولم يتداخلا، سواء كان النقصان بسبب الاستعمال أو لم يكن.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو غصب فحلاً فأنزاه على الأُنثى» إلى آخره.

لا خلاف في كون الولد في الحيوان غير الإنسان تابعاً للأم خاصّة، سواء في ذلك الغاصب وغيره؛ لأنّه نماؤها. ولا في ضمان الغاصب أرش الفحل على تقدير نقصانه؛ لأنّ نقص المغصوب مطلقاً مضمون على الغاصب، خصوصاً الحاصل بسبب الاستعمال.

وإنّما الخلاف في ثبوت أُجرة الضراب عليه، فمنعه الشيخ في المبسوط؛ محتجاً بنهي النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن كسب الفحل(1). والأكثر على ثبوتها؛ لأنّها منفعة محلّلة قد استوفاها الغاصب، فكان عليه.عوضها وحملوا النهي على الكراهة.

قوله: «ولو غصب ما له أجرة وبقي في يده حتّى نقص» إلى آخره.

إنّما لم يتداخلا؛ لأنّ كلّ واحد من أرش النقصان وأُجرة العين ثابت على انفراده على الغاصب، فإذا اجتمعا ثبتا أيضاً؛ استصحّاباً للحكم، وكون التداخل على خلاف الأصل.

ونبّه بقوله «سواء كان النقصان بسبب الاستعمال أو لم يكن» على خلاف بعض العامّة، حيث ذهب إلى أن نقصانه بالاستعمال يوجب التداخل وضمان أكثر الأمرين من الأرش والأجرة؛ استناداً إلى أن نقص الأجزاء ملحوظ في الأجرة؛ ولهذا لا يضمن المستأجر

ص: 512


1- المبسوط، ج 2، ص 516؛ وللرواية راجع الفقيه، ج 3، ص 170، ح 3649.
لو أغلى الزيت فنقص به أو أغلى عصيراً فنقص وزنه

• ولو أغلى الزيت فنقص ضمن النقصان.

ولو أغلى عصيراً فنقص وزنه قال الشيخ: لا يلزمه ضمان النقيصة؛ لأنّها نقيصة الرطوبة التي لا قيمة لها، بخلاف الأولى. وفي الفرق تردّد.

-------------------------------------------------------------------

الأجزاء الناقصة، وكان ما ينقص بالاستعمال تعتبر أجرته زائدة على ما لا ينقص به، فلو لا كونها ملحوظة لم تتحقّق الزيادة(1).

ويضعّف بمنع كونه ملحوظاً بها مطلقاً. وما ذكره مستنداً لا يدل عليه. وإنّما الأجرة في مقابلة الاستعمال، والنقصان غير مضمون على المستأجر؛ لإذن المالك له في التصرف الشامل لما ينتقص معه العين وعدمه. وزيادة الأجرة بسبب النقص غير معلوم، وبتقديره لا يدلّ على التداخل (2).

قوله: ولو أغلى الزيت فنقص ضمن النقصان» إلى آخره.

إذا غصب زيتاً أو دهناً فأغلاه، فإما أن ينتقص عينه أو قيمته أو كلاهما، أو لا ينتقص واحدة منهما.

فعلى الأوّل، بأن أغلى رطلين قيمتهما در هم فصارا رطلاً قيمته در همان، ففيه وجهان: أصحهما - وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف (رحمه اللّه) - أنّه يردّه ويغرم مثل الرطل الذاهب؛ لأنّ للزيت بدلاً مقدراً وهو المثل، فصار كما لو خصي العبد فلم تنقص قيمته. والزيادة الحاصلة أثر محض لا ينجبر به النقصان، كما لا يستحقّ به الغاصب شيئاً.

والثاني (3): أنّه يردّه ولا غرم عليه؛ لأنّ ما فيه من الزيادة والنقصان يستندان إلى سبب واحد، فينجبر النقصان بالزيادة. وقد ظهر جوابه ممّا ذكر في الأوّل.

وإن انتقصت قيمته دون عينه ردّه مع أرش النقصان.

وإن انتقصا جميعاً فالواجب عليه مع رد الباقي مثل ما ذهب بالإغلاء، إلّا إذا كان ما نقص

ص: 513


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 402، المسألة 3962.
2- في بعض النسخ زيادة: «فإنه غير الأوّل فلا يجبره».
3- أي الوجه الثاني.

-------------------------------------------------------------------

من القيمة أكثر ممّا نقص من العين، فيلزمه مع مثل الذاهب أرش نقصان الباقي. وإن لم ينتقص واحدة منهما ردّه ولا شيء عليه.

ولو غصب عصيراً وأغلاه فهل هو كالزيت حتّى يضمن مثل الذاهب إذا لم ينقص القيمة؟ فيه وجهان:

أحدهما - وهو الأظهر - نعم؛ لأنّه مضمون بالمثل كالزيت.

والثاني : لا، وهو الذي اختاره الشيخ(1).

والفرق أنّ حلاوة العصير باقية، والذاهب منه مائية ورطوبة لا قيمة لها، بخلاف الذاهب من الزيت؛ فإنه مالية وزيت، فتقوم.

ويضعّف كون المائية لا قيمة لها وإن آلت إلى الذهاب في الاستقبال، فإنّه لا يمنع من تقويمها في الحال.

ص: 514


1- المبسوط، ج 2، ص 500.

النظر الثالث في اللواحق

إشارة:

وهي نوعان:

النوع الأوّل في لواحق أحكام الغصب
إشارة:

وهي مسائل:

إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب

الأولى: • إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب، فإن كانت أثراً - كتعليم الصنعة، وخياطة الثوب ونسج الغزل وطحن الطعام - ردّه ولا شيء له. ولو نقصت قيمته بشيء من ذلك ضمن الأرش.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «إذا زادت قيمة المغصوب بفعل الغاصب» إلى آخره.

الزيادة في المغصوب تنقسم إلى آثار محضة، وإلى أعيان والثاني يأتي(1).

وجملة القول في القسم الأوّل: إن الغاصب لا يستحقّ بتلك الزيادة شيئاً؛ لتعديه. ثمّ ينظر إن لم يمكن ردّه إلى الحالة الأولى ردّه إلى مالكه بحاله مع أرش النقص إن اتّفق نقصان قيمته. وإن أمكن ردّه إلى الحالة الأولى، فإن رضي به المالك لم يكن للغاصب رده إلى ما كان عليه، وإن ألزمه الردّ إلى الحالة الأولى لزمه ذلك مع أرش النقص إن نقص عمّا كان قبل تلك الزيادة.

إذا تقرّر ذلك، فمن صور هذا القسم تعليم الصنعة، وخياطة الثوب وقصارته، وطحن الحنطة ونحو ذلك. وإنّما تكون الخياطة من هذا القسم إذا خاطه بخيوط المالك، أما إذا كانت الخيوط للغاصب فهي عين،محضة، وسيأتي ما يدلّ على حكمها في نظيرها (2).

ص: 515


1- سيأتي بعيد هذا.
2- سيأتي بعيد هذا.

• وإن كان عيناً كان له أخذها وإعادة المغصوب وأرشه لو نقص.

ولو صبغ الثوب كان له إزالة الصبغ بشرط ضمان الأرش إن نقص الثوب. ولصاحب الثوب إزالته أيضاً؛ لأنّه في ملكه بغير حقّ.

ولو أراد أحدهما ما لصاحبه بقيمته لم يجب على أحدهما إجابة الآخر.

وكذا لو وهب أحدهما صاحبه لم يجب على الموهوب القبول.

ثم يشتركان، فإن لم ينقص قيمة مالهما فالحاصل لهما، وإن زادا فكذلك ولو زادت قيمة أحدهما كانت الزيادة لصاحبها. وإن نقصت قيمة الثوب بالصبغ لزم الغاصب الأرش، ولا يلزم المالك ما ينقص من قيمة الصبغ.

-------------------------------------------------------------------

ثم في الطحن والقصارة وشق الثوب وكسر الإناء ما لا يمكن ردّه إلى ما كان. ولا يجبر على رفاء الثوب وإصلاح الإناء (1)؛ لأنّه لا يعود إلى ما كان بالرفاء والإصلاح.

ولو غزل القطن المغصوب ردّ الغزل وأرش النقص إن نقص. وليس للمالك إجباره على نقضه إن كان لا يمكن ردّه إلى الحالة الأولى. وإن أمكن فله إجباره عليه، مع ضمان النقص عن أصله لا عن الصنعة؛ لأنّ أمر المالك برده إذن في إذهاب الصنعة، وإن صارت حقّه بالتبعية لملك العين، مع كونها ليست عيناً.

قوله: «وإن كان عيناً كان له أخذها - إلى قوله - قيمة الصبغ».

هذا هو القسم الثاني، وهو ما إذا كانت الزيادة من الغاصب عيناً، إما محضة كالغرس، أو من وجه كصبغ الثوب. وسيأتي حكم الأوّل(2)، والكلام هنا في الثاني.

والصبغ إما أن يكون للغاصب، أو للمالك، أو لأجنبي، فهنا أحوال:

[الحالة] الأولى أن يكون للغاصب، فينظر إن كان الحاصل محض تمويه لا يحصل

ص: 516


1- في حاشية «و»: «وعن مالك أنّه يجبر عليهما، كما في تسوية الحفر. (منه رحمه اللّه)». راجع المدوّنة الكبرى، ج 5 ص 341.
2- يأتي في ص 539 - 540.

ولو بيع مصبوغاً بنقصان من قيمة الصبغ لم يستحقّ الغاصب شيئاً، إلّا بعد توفية المغصوب منه قيمة ثوبه على الكمال ولو بيع مصبوغاً بنقصان من قيمة الثوب، لزم الغاصب إتمام قيمته.

-------------------------------------------------------------------

منه عين لو نزع فليس للغاصب النزع إن رضي المالك. وهل له إجباره عليه؟ فيه وجهان نعم؛ لأنّه قد يريد تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته، ولا؛ لأنّه حينئذٍ كقصارة الثوب. والأقوى الأوّل.

وإن حصل بالانصباغ عين،مال، فإما أن يمكن فصله عنه، أو لا يمكن. ففي الثاني يصير شريكاً للمغصوب منه؛ لأنّه عين مال انضم إلى ملكه.

ثم ينظر إن كانت قيمته مغصوباً مثل قيمته وقيمة الصبغ قبل الصبغ كما إذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة، وهو يساوي بعد الصبغ عشرين، ولم يتغير قيمتهما - فهو بينهما بالسويّة.

ولو كان ذلك لزيادة قيمة الثوب ونقصان قيمة الصبغ فهو بينهما بالنسبة كما لو ارتفعت قيمة الثوب إلى اثني عشر، وانخفضت قيمة الصبغ إلى ثمانية.

ولو زادت قيمتهما لزيادة قيمة الثوب فالزيادة لمالكه خاصّة، أو لزيادة الصبغ فالزيادة للغاصب، أو لزيادتهما معاً فهي بينهما على نسبة الزيادة في كلّ منهما.

ولو كانت الزيادة بسبب العمل خاصّة فهى بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما قد زاد بالصنعة، والزيادة الحاصلة بفعل الغاصب إذا استندت إلى الأثر المحض تسلّم للمغصوب منه.

ولو نقصت قيمته عن قيمتهما معاً فالنقصان على الغاصب خاصّة؛ لأنّه إن كان من الصبغ فظاهر، وإن كان من الثوب فضمانه عليه إذا لم يستند النقصان إلى الثوب وحده باعتبار السوق، حتّى لو نقص - والحال هذه - عن قيمة الثوب وحده لزم الغاصب أرش النقصان، ولا شيء له لمكان الصبغ.

وفي الأوّل - وهو ما إذا أمكن فصله عن الثوب - فللغاصب إزالته مطلقاً مع ضمان أرش الثوب إن نقص.

ص: 517

-------------------------------------------------------------------

وقيل (1): إن أدى فصله إلى استهلاكه لم يُجب الغاصب إليه؛ لاستلزامه التصرف في مال الغير بغير فائدة، مع كونه متعدّياً في أصل الفعل.

والأشهر إجابته كما يقتضيه إطلاق المصنّف (رحمه اللّه) لأنّه لولاه لزم منه عدوان آخر وهو التصرف في مال الغير بغير حق؛ إذ لا سبيل إلى تملكه بعوض ولا بغيره قهراً، وبقاء الثوب في يد المالك ممنوعاً من التصرف فيه لأجل الصبغ ضرر آخر، فكانت إجابة الغاصب أصلح، وفيها جمع بين الحقين فعلى هذا يجاب إليه وإن نقص الثوب مع ضمان أرشه.

ولو طلب أحدهما ما لصاحبه بالقيمة لم يجب القبول؛ لأنّ كلّ واحد مسلّط على ماله، ولا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه.

وقال ابن الجنيد: إذا لم يرض المالك بالقلع ودفع قيمة الصبغ وجب على الغاصب القبول. ورجحه في المختلف(2).

والأظهر العدم. وكذا لا يجب على أحدهما قبول هبة ما للآخر؛ لما فيه من المنّة.

ولو طلب أحدهما البيع، فإن كان هو مالك الثوب أجبر الغاصب على الإجابة، دون العكس.

وفرّقوا بينهما بأنّ المالك يعسر بيعه الثوب منفرد يعسر بيعه الثوب منفرداً؛ لقلة الراغب بعيب الشركة، والغاصب متعدّ فليس له الإضرار بالمالك بالمنع من البيع، بخلاف الغاصب، فإنه بتعديه لا يملك إزالة ملك غير المتعدّي.

ويحتمل أن لا يجبر أحدهما على موافقة الآخر؛ لتحقّق الشركة المقتضية لذلك، وأن يجبر المالك للغاصب كالعكس، تسوية بين الشريكين؛ ليصل كلّ واحد منهما إلى ثمن ملكه الذي لا يمكن تحصيله إلّا به.

الحالة الثانية: أن يكون الصبغ مغصوباً من غير مالك الثوب. فإن لم يحدث بفعله نقصان

ص: 518


1- في حاشية «و»: «القول لابن الجنيد والعلّامة في المختلف. (من رحمه اللّه)». مختلف الشيعة، ج 6، ص 13 المسألة 69، وحكاه عن ابن الجنيد أيضاً.
2- في حاشية «و»: «القول لابن الجنيد والعلّامة في المختلف. (من رحمه اللّه)». مختلف الشيعة، ج 6، ص 13 المسألة 69، وحكاه عن ابن الجنيد أيضاً.
إذا غصب دهناً فخلطه بمثله

الثانية: • إذا غصب دهناً كالزيت أو السمن - فخلطه بمثله فهما شريكان.

وإن خلطه بأدون أو أجود، قيل: يضمن المثل؛ لتعذّر تسليم العين. وقيل: يكون شريكاً في فضل الجودة، ويضمن المثل في فضل الرداءة، إلّا أن يرضى المالك بأخذ العين.

أمّا لو خلطه بغير جنسه لكان مستهلكاً وضمن المثل.

-------------------------------------------------------------------

فلا غرم على الغاصب. وهما شريكان في الثوب المصبوغ كما سبق في الغاصب والمالك(1).

وإن حدث نقصان، فإن بقيت قيمة الثوب فهي لصاحب الثوب، ويغرم الغاصب الصبغ للآخر. وإن زادت بما لا تبلغ قيمة الصبغ فالزائد لمالك الصبغ، ويغرم الغاصب له الباقي. وإن زادت عنهما فهو بينهما بالنسبة.

هذا كلّه إذا لم تنقص القيمة السوقية لأحدهما، وإلّا اعتبرت النسبة كما مرّ.

ولو أمكن فصله فلهما تكليف الغاصب به ولصاحب الثوب طلب الفصل أيضاً. فإن حصل به نقص فيهما أو في أحدهما عمّا كان قبل الصبغ غرمه الغاصب.

الحالة الثالثة: أن يكون الصبغ مغصوباً من مالك الثوب أيضاً، بأن أخذ ثوبه وصبغه في مصبغته. فإن لم يحدث بفعله نقصان فيهما فهو للمالك ولا غرم على الغاصب، ولا شيء له إن زادت القيمة؛ لأنّ الموجود منه أثر محض. وإن حدث بفعله نقصان غرم الأرش. وإذا أمكن الفصل فللمالك إجباره عليه. وليس للغاصب الفصل إذا رضي المالك.

واعلم أنّ المذكور في الكتاب هو الحالة الأولى لا غير.

قوله: «إذا غصب دهناً كالزيت أو السمن - فخلطه بمثله فهما شريكان» إلى آخره.

إذا خلط المغصوب بغيره على وجه يتعذّر التمييز بينهما، فلا يخلو إما أن يخلطه بجنسه، أو بغيره. والأوّل إما أن يكون بمثله فى الجودة والرداءة أو بأعلى منه أو بأدنى.

فإن خلطه بمثله فقد جزم المصنّف والأكثر أنّه يكون شريكاً للغاصب بنسبة المخلوط؛

ص: 519


1- سبق في ص 516 وما بعدها.

-------------------------------------------------------------------

لأن عين مال المالك موجودة في الجملة غايته أنها ممتزجة بغيرها، وذلك لا يخرجها عن ملكه؛ ولأنّ في إثبات الشركة إيصال المالك إلى بعض حقّه بعينه، وإلى بدل بعضه من غير زيادة فوتت على الغاصب فكان أولى من إيصاله إلى بدل الكلّ.

وقال ابن إدريس:

ينتقل إلى المثل بالمزج وإن كان بالمساوي لاستهلاك العين؛ إذ لا يقدر الغاصب على ردّها لو طلبه(1).

ورد بأن ذلك لا يوجب خروجها عن ملكه، كما اختلط المالان بغير اختيارهما أو برضى المالكين، وبأنه لو غصب رطلاً من هذا ورطلاً من هذا فخلطهما وجعلناهما بذلك هالكين يلزم انتقال الملك فيهما إلى الغاصب، وهو تملك اختياري بمحض العدوان(2).

وإن خلطه بأجود فقولان:

أحدهما: أنّه كذلك(3) ؛ لوجود عين المغصوب المقتضي لتسلّط المالك عليها، وعدم الانتقال إلى مثلها أو قيمتها. ولا يقدح في ذلك الزيادة؛ لأنّها زيادة صفة بفعل الغاصب، فكان كما لو علم العبد صنعةً، أو صاغ النقرة حليّاً.

وقال الشيخ في المبسوط(4)، وابن إدريس (5): يتخير الغاصب في دفع القدر من العين أو غيرها؛ لأنّ العين قد استهلكت؛ إذ لا يقدر على الرد لو طالبه، والتخيير في الحقيقة راجع إلى ضمان المثل؛ لأنّه حينئذٍ لا ينحصر في العين، وهي أجود ممّا يلزمه، فإذا بذلها وجب قبولها بطريق أولى، ولأنّ بعضها عين حقّه، وبعضها خير منه. وهذا هو القول الذي حكاه المصنّف (رحمه اللّه) أولاً.

ص: 520


1- السرائر، ج 2، ص 482.
2- راجع جامع المقاصد، ج 1، ص 302.
3- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 235؛ وجامع المقاصد، ج 1، ص 302.
4- المبسوط، ج 2، ص 497.
5- السرائر، ج 2، ص 482.
فوائد المغصوب مضمونة بالغصب

الثالثة • فوائد المغصوب مضمونة بالغصب وهي مملوكة للمغصوب منه، وإن تجدّدت في يد الغاصب، أعياناً كانت، كاللبن والشعر والولد والثمر، أو منافع کسکنی الدار وركوب الدابّة. وكذا منفعة كلّ ما له أجرة بالعادة.

-------------------------------------------------------------------

وإن خلطه بالأردا، فإن جعلناه في غيره هالكاً فهنا أولى، فيعطيه مثله من غيره، وليس له أن يعطيه منه؛ لأنّه صار دون حقّه، إلّا أن يرضى المالك، وإن حكمنا بالشركة؛ نظراً إلى بقاء العين.

وإن كانت ناقصةً تخيّر المالك بين أن يأخذ حقّه من العين، وبين أن يطلب المثل من غيره.

وظاهر العبارة أنّه مع اختيار أخذه من العين يأخذها مجاناً. والأقوى أخذ الأرش؛ لأنّ النقص حصل بفعل الغاصب فيضمن أرشه.

وإن خلط المغصوب بغير جنسه - كما إذا خلط الزيت بالشيرج، أو خلط دقيق حنطة بدقيق شعير - فالمغصوب هالك؛ لبطلان فائدته وخاصيته باختلاط غير الجنس به بخلاف الجيّد مع الرديء المتّفقين في الجنس.

وفيه وجه بثبوت الشركة هنا أيضاً، كما لو خُلط برضاهما، أو امتزجا بأنفسهما، وقواه في التذكرة(1).

وله وجه؛ لأنّ إسقاط حقّه من العين مع وجودها بعيد إلّا أنّه يشكل بأنه على تقدير القسمة الإجبارية يكون قد حتّمنا على المالك أخذ غير المثل، إن كان الطالب هو الغاصب أو كلفنا الغاصب بغير المثل في المثلي إن كان الطالب المالك، وكلاهما خارج عن قواعد الغصب، لكنّه وارد على تقدير امتزاجهما بغير الغصب كما مرّ، وفيه جمع بين الحقين.

قوله: «فوائد المغصوب مضمونة بالغصب» إلى آخره.

لا إشكال في كون فوائد المغصوب لمالكه؛ لأنّها نماء ملكه ومنافعه، فتكون مضمونةً في يد الغاصب كالأصل ولا فرق في ثبوت أُجرة المنفعة بين أن يستعمل العين وعدمه.

ص: 521


1- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 312، المسألة 1111.

• ولو سمنت الدابّة في يد الغاصب، أو تعلّم المملوك صنعة أو علماً فزادت قيمته ضمن الغاصب تلك الزيادة.

فلو هزلت أو نسي الصنعة أو ما علّمه فنقصت القيمة لذلك ضمن الأرش وإن رد العين. ولو تلفت ضمن قيمة الأصل والزيادة.

-------------------------------------------------------------------

وعلى تقدير استعمالها وكون منفعتها مختلفة القيمة - بأن يكون العبد كاتباً خيّاطاً حائكاً ونحو ذلك - إن استعملها في الأعلى ضمنها.

وإن استعملها في الوسطى أو الدنيا أو لم يستعملها، ففي ضمان أُجرة متوسّطة أو الأعلى وجهان.

ولو كان دابّة أو مملوكاً اعتبرت أجرته في الوقت المعتاد لعمله، كالنهار دون الليل، إلّا أن يكون له صنعة في النهار وأُخرى في الليل، فيجب على الغاصب أُجرتهما.

وفي القواعد اعتبر في أجرة الصانع الأعلى(1)، ثمّ حكم في مطلق المغصوب بضمان أجرة المثل عن عمل مطلق(2).

ولعلّ المطلق شامل للأعلى؛ لأنّ المراد بأجرة المطلق أجرته لعلم يليق به عادةً، من غير تقييد بعمل مخصوص كالكتابة مثلاً، أو الخياطة، أو ركوب الدابّة، أو تحميل التراب عليها أو البرّ، فيتناول الأعلى حيث يكون قابلاً له.

وربما فسّر المطلق بالمتوسط، فيختلف الحكم.

قوله: «ولو سمنت الدابّة في يد الغاصب» إلى آخره.

قد تقدّم أنّ زيادة الأثر في المغصوب يتبع العين (3)، ولا يستحقّ عليه الغاصب شيئاً إذا كان بسببه ؛ لأنّ الزيادة - من السمن والتعلّم - من اللّه سبحانه وتعالى وإن كان الغاصب سبباً.

ص: 522


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 227.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 231.
3- تقدّم في ص 516 وما بعدها.

فرعان:

الأوّل: • لو زادت القيمة لزيادة صفة، ثمّ زالت الصفة، ثمّ عادت الصفة والقيمة لم يضمن قيمة الزيادة التالفة؛ لأنّها انجبرت بالثانية. ولو نقصت الثانية عن قيمة الأولى ضمن التفاوت.

إذا تجدّد الكمال بعد النقصان

أمّا لو تجدّدت صفة غيرها، مثل أن سمنت فزادت قيمتها ثمّ هزلت فنقصت قيمتها ثمّ تعلّمت صنعةً فزادت قيمتها، ردّها وما نقص بفوات الأولى.

-------------------------------------------------------------------

ومتى صار بتلك الصفة ملكاً للمغصوب منه، فهو مع الأصل في ضمان الغاصب. فإذا فرض تلفه، أو ذهاب الوصف خاصّة بأن نسي الصنعة وهزل السمن كان مضموناً على الغاصب كالأصل فيضمن ما تلف من الأصل والزيادة. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

قوله: «لو زادت القيمة لزيادة صفة، ثمّ زالت الصفة» إلى آخره.

إذا تجدّد الكمال بعد النقصان، سواء كان الكمال الأوّل الذي توسط نقصه موجوداً من حين الغصب أم تجدد في يد الغاصب، فإن كان الكمال الثاني هو الأوّل بعينه، كما لو كان صانعاً، أو عالماً فنسي العلم والصنعة ثمّ تذكّرهما، فلا شبهة في جبر المتجدّد للذاهب؛ لأنّه ذهب ثمّ عاد، فكأنّه لم يزل.

ولا يرد أن العلم غير باقٍ، فالعائد غير الزائل؛ لمنع ذلك أولاً. ولو سلم لزمه ضمانه وإن لم ينس؛ لأنّه يتجدّد في يد الغاصب بعد زوال ما كان حالته.

وإن لم يكن عينه فلا يخلو، إما أن يكون من الوجه الذي حصل فيه الأوّل، كما لو هزلت الجارية ثمّ سمنت وعادت القيمة كما كانت، ففيه قولان:

أحدهما: أنه ينجبر أيضاً ويسقط الغُرم، كما لو أبق العبد فعاد، أو جنى على عين فابيضت ثمّ زال البياض. وهذا هو الذي يقتضيه إطلاق المصنّف حيث خص الضمان بصفة غيرها، وإن كان ظاهر قوله «ثمّ عادت الصفة» قد يقتضى خلاف ذلك؛ لأنّ السمن الأوّل

ص: 523

-------------------------------------------------------------------

غير الثاني، إلّا أنّ الصفة - وهي نفس السمن - واحدة.

والثاني: العدم؛ لأنّ السمن الثاني غير الأوّل، والأوّل وقع مضموناً، والثاني تجدّد هبة من اللّه تعالى كالأوّل لو كان متجدّداً، فلا يحصل للغاصب بسببه شيء. وهذا أظهر.

ثمّ على القول بالانجبار إنّما يسقط الضمان مطلقاً لو عادت القيمة بتمامها بالعائد، فلو لم تبلغ القيمة الأولى ضمن ما بقي من النقصان.

وإن كان الكمال من وجه آخر بأن نسي صنعة وتعلم أُخرى، أو أبطل صنعة(1) الإباق وأحدث صنعة (2) أخرى، فلا انجبار بحال.

وعلى هذا فلو تكرّر النقصان، وكان في كلّ مرّة مغايراً بالنوع للناقص في المرّة الأُخرى، ضمن الكلّ، حتّى لو غصب جاريةٌ قيمتها مائة فسمنت وبلغت القيمة ألفاً. و تعلّمت صنعةً فبلغت ألفين، ثمّ هزلت ونسيت الصنعة فعادت قيمتها إلى مائة ردّها وغرم ألفاً وتسعمائة.

ولو علّم العبد المغصوب سورةً من القرآن أو حرفةً فنسيها، ثمّ علمه حرفة أو سورة أُخرى فنسيها أيضاً، ضمنهما.

وإن لم تكن مغايرة، كما إذا علّمه سورة واحدة، أو حرفة واحدة مراراً، وهو ينساها في كلّ مرة، ففيه الوجهان، فإن قلنا لا يحصل الانجبار بالعائد ضمن النقصان في كلّ مرّة، وإن قلنا يحصل ضمن أكثر المرات نقصاناً.

فروع:

الأوّل: لو مرض العبد المغصوب ثمّ برى فزال أثر المرض ففي جبر الصحة للفائت منها وجهان، نعم؛ لأنّ الصحة الثانية هي الأولى وبه قطع في التذكرة (3). والثاني: العدم؛ لمنع

ص: 524


1- في إحدى الحجريتين: «صفة» بدل «صنعة».
2- في إحدى الحجريتين: «صفة» بدل «صنعة».
3- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 263، المسألة 1068.

الثاني: • لا يضمن من الزيادة المتصلة ما لم تزد به القيمة، كالسمن المفرط إذا زال والقيمة على حالها أو زائدة.

-------------------------------------------------------------------

كونها الأولى، بل يكفي الشك فيستصحّب حكم الضمان. وكذا الحكم فيما لو رده مريضاً ثمّ برى وزال الأثر.

الثاني: لو غصب شجرةً فتحات ورقها ثمّ أورقت، أو شاةً فجر صوفها ثمّ نبت يغرم الأوّل ولا يجبر الثاني؛ لأنّه غيره، بخلاف ما لو سقط سنّ الجارية المغصوبة ثمّ نبت، أو تمعّط(1) شعرها ثمّ نبت، فإنّه يحصل الانجبار.

والفرق أنّ الورق والصوف متقوّمان فيغرمهما، وسنّ الجارية وشعرها غير متقوّمين، وإنّما غَرِم أرش النقص الحاصل بفقدانهما وقد زال. هكذا قيل (2).

وهذا يتمّ في الشعر، أما في السن فلا؛ لأنّ لها مقدّراً من الحرّ فيكون حكمها في الرقّ بنسبته من القيمة.

الثالث: لو زادت قيمة الجارية بتعلّم صنعة محرّمة كالغناء ثمّ نسيته، قيل: لم يضمن النقصان؛ لأنّه محرّم(3)، والمضمون الزيادات المحترمة.

وربما احتمل هنا الغُرم؛ لأنّ الواجب على الغاصب قيمتها كذلك؛ ولهذا لو غصب عبداً مغنياً يغرم تمام قيمته.

قوله: «لا يضمن من الزيادة المتصلة ما لم تزد به القيمة» إلى آخره.

لأنّ المعتبر من هذه الصفات القيمة، فما لا أثر له في زيادة القيمة لا اعتبار به. ولا فرق في ذلك بين الموجود حال الغصب والمتجدد في يد الغاصب.

واحترز بقوله «والقيمة على حالها عمّا لو كان بعض السمن لا أثر له في القيمة، وبعضه له أثر فزال الجميع، فإنّه يضمن قيمة ما له أثر فيها دون ما زاد عليه.

ص: 525


1- امتعط شعره وتمقط، أي تساقط من داء ونحوه. الصحاح، ج 2، ص 1161، «معط».
2- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 263، المسألة 1068.
3- تذكرة الفقهاء، ج 19، ص 263، المسألة 1068.
لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد ويضمنه

الرابعة. لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد، ويضمنه وما يتجدد من منافعه، وما يزداد من قيمته؛ لزيادة صفة فيه. فإن تلف في يده ضمن العين بأعلى القيم من حين قبضه إلى حين تلفه إن لم يكن مثليّاً.

-------------------------------------------------------------------

قوله «لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد، ويضمنه وما يتجدد من منافعه، وما یزداد من قيمته» إلى آخره.

لا إشكال في عدم ملك المشتري شراءً فاسداً؛ لأنّ نقل الملك من مالك إلى آخر موقوف على أسباب نصبها الشارع وحدود حدّدها، فما لم يحصل فالملك باق على أصله.

وتسميته - على تقدير فساد الشراء - مشترياً مجاز بحسب الصورة، وإلّا فالبيع حقيقةً لا يطلق إلّا على الصحيح.

وأمّا كونه مضموناً عليه؛ فلأنّه قبضه ليكون مضموناً عليه كذلك، ولعموم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1).

وللقاعدة المشهورة أنّ ما كان مضموناً بصحيحه يضمن بفاسده والبيع لو صحّ انتقل ضمان المبيع إلى المشتري بمعنى كون تلفه من ماله، فيكون في فاسده كذلك.

وأمّا حكم المصنّف بضمانه أعلى القيم فبتنزيله منزلة الغاصب، حيث إن المالك لم يأذن في قبضه إلّا على تقدير صحة البيع، فبدونه يكون موضوعاً بيده بغير حقّ.

وهذا يتم على تفسير الغصب بأنه الاستيلاء على مال الغير بغير حق، أمّا لو اعتبرنا العدوان لم يتمّ كونه غاصباً إلّا بتقدير علمه بالفساد وجهل البائع، أما مع جهلهما أو جهل المشتري فليست يده يد عدوان.

والوجه حينئذٍ أنّه يضمن القيمة يوم التلف إن لم نقل في الغاصب مطلقاً كذلك، وإلّا كان الحكم فيه كذلك مطلقاً بطريق أولى.

ص: 526


1- تقدّم تخريجه في ص 484، الهامش 1.
لو اشترى من غاصب ضمن العين والمنافع

• ولو اشترى من غاصب ضمن العين والمنافع ولا يرجع على الغاصب إن كان عالماً. وللمالك الرجوع على أيهما شاء. فإن رجع على الغاصب رجع الغاصب على المشتري. وإن رجع على المشتري لم يرجع على الغاصب لاستقرار التلف في يده.

وإن كان المشتري جاهلاً بالغصب رجع على البائع بما دفع من الثمن. وللمالك مطالبته بالدرك إمّا مثلاً أو قيمةً، ولا يرجع بذلك على الغاصب؛ لأنّه قبض ذلك

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو اشترى من غاصب ضمن العين والمنافع إلى قوله لم يرجع على الغاصب». المشتري من الغاصب - سواء كان عالماً بالغصب أم جاهلاً - من باب تعاقب الأيدي على المغصوب. وقد تقدّم تفصيل حكمها(1)، ولكن يزيد هنا بواسطة الشرى (2) أحكاماً تخصه أوجب ذكره بخصوصه. وقد تقدم الكلام فيه في البيع أيضاً(3).

وجملة أمره أنّ المشتري إن كان عالماً بالحال فهو غاصب محض يُطالب بما يُطالب به الغاصب. ويتخيّر المالك بين مطالبته بالعين أو بدلها وما استوفاه من منافعها وفات تحت يده منها، وبين مطالبة الغاصب الأوّل وهو البائع.

فإن طالب البائع رجع على المشتري بما استقر تلفه تحت يده، وبالعين إن كانت باقية، وبدلها إن كانت تالفة؛ لاستقرار التلف في يده.

نعم، لو كان قبل بيعه قد استوفى شيئاً من المنافع، أو مضى زمان يمكن استيفاء شيء منها فيه، أو نقصت في يده نقصاناً مضموناً، اختص بضمانه من غير أن يرجع به على المشتري ابتداء أو عوداً.

وإن رجع على المشتري بشيء من ذلك لم يرجع على البائع؛ لاستقرار التلف أو ما ف--ي حكمه في يده. ولا يرجع على البائع بالثمن إن كان تالفاً؛ لأنّه قد سلّطه عليه وأذن له في

ص: 527


1- تقدّم في ص 468.
2- في بعض النسخ: «المشتري» بدل «الشرى».
3- تقدّم في ج 3، ص 62 - 63.

مضموناً. ولو طالب الغاصب بذلك رجع الغاصب على المشتري ولو طالب المشتري لم يرجع على الغاصب.

-------------------------------------------------------------------

إتلافه، وإن كان في مقابله عوض لم يسلم له؛ لأنّه مع علمه بأنه لا يسلم له العوض في حكم المسلّط عليه مجاناً، وللإجماع على ذلك.

وإن كان الثمن باقياً ففي رجوعه علیه به قولان:

أحدهما - وهو الأشهر، بل ادعى عليه في التذكرة الإجماع (1)- عدم الرجوع؛ لأنّه بإعطائه إياه عالماً بعدم عوض حقيقي في مقابلته يكون في معنى هبته إياه؛ إذ لا معنى لها إلّا إعطاء العين من غير عوض، وهو متحقّق هنا.

وللمصنّف (رحمه اللّه) في بعض رسائله قول بجواز رجوعه به حينئذٍ (2). وهو قويّ؛ لعدم وقوع ما يدلّ على التمليك، وأصالة بقائه على ملك مالكه وتسليطه على التصرف فيه، غايته أن يمنع الرجوع بعوضه بعد تلفه، أمّا مع بقائه فلا.

وإن كان جاهلاً، فإن كانت العين باقية في يده، ردّها وأخذ الثمن إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً لظهور فساد العقد الموجب لتراد العوضين.

ثم إن كان عوض العين بقدر الثمن فذلك. وإن كان أزيد ففي رجوعه على الغاصب بالزيادة عن الثمن وجهان، من أنّ الشراء عقد ضمان، وقد شرع فيه على أن يكون العين من ضمانه، وإن كان الشراء صحيحاً. ومن دخوله على أن يكون المجموع في مقابلة الثمن، وهو يقتضي كون الزائد عليه في معنى التبرّع به وإعطائه إياه بغير عوض، فإذا أخذ منه عوضه رجع به.

وهذا قويّ. ولا يمنع من ذلك كون البيع عقد ضمان؛ لأنّه إن كان المراد من كونه عقد ضمان أنه إذا تلف المبيع عنده تلف من ماله واستقر عليه الثمن فهذا مسلّم، ولكن لم يكن شارعاً فيه على أن يضمن القيمة، ومعلوم أنه لو لم يكن المبيع مغصوباً لم يلزمه شيء بالتلف، غايته أن يكون ما قابل الثمن من المبيع مأخوذاً بعوضه والباقي سالم له بغير عوض،

ص: 528


1- تذكرة الفقهاء، ج 10، ص 18، المسألة 5.
2- المسائل الطبرية، ضمن الرسائل التسع، ص 307، المسألة الرابعة.
ما يغترمه المشتري... فله الرجوع به على البائع

• وما يغترمه المشتري ممّا لم يحصل له في مقابلته نفع كالنفقة والعمارة، فله الرجوع به على البائع.

ولو أولدها المشتري كان حرّاً، وغرم قيمة الولد، ويرجع بها على البائع.

وقيل في هذه له مطالبة أيهما شاء. لكن لو طالب المشتري رجع على البائع، ولو طالب البائع لم يرجع على المشتري. وفيه احتمال آخر.

أما ما حصل للمشتري في مقابلته نفع كسكنى الدار وثمرة الشجر والصوف واللبن، فقد قيل يضمنه الغاصب لا غير؛ لأنّه سبب الإتلاف ومباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة، فيكون السبب أقوى، كما لو غصب طعاماً وأطعمه المالك.

وقيل: له إلزام أيهما شاء، أما الغاصب فلمكان الحيلولة، وأما المشتري فلمباشرة الإتلاف فإن رجع على الغاصب رجع على المشتري؛ لاستقرار التلف في يده. وإن رجع على المشتري لم يرجع على الغاصب والأوّل أشبه.

-------------------------------------------------------------------

فكان الغاصب مغرّراً موقعاً إياه في خطر الضمان فليرجع عليه. وإن كان المراد غيره فلم قلتم : إن الشراء عقد ضمان مطلقاً؟

وحينئذٍ، فإن رجع المالك على المشتري جاهلاً بعوض المبيع، لم يرجع به على الغاصب البائع إن لم تزد قيمته عن الثمن. وإن رجع به على الغاصب رجع به على المشتري. وإن رجع بالزيادة على المشتري رجع بها على الغاصب. وإن رجع بها على الغاصب لم يرجع بها على المشتري.

ويظهر من إطلاق المصنّف عدم رجوع المشتري بالدرك مثلاً وقيمة، ومن تعليله بكونه قبضه مضموناً، عدم رجوعه بالزائد. وقد عرفت جواب التعليل.

قوله: «وما يغترمه المشتري ممّا لم يحصل له في مقابلته نفع» إلى آخره.

ما تقدّم حكم رجوع المشتري على الغاصب بالثمن وعوض المبيع، والكلام هنا في غيره من منافعه وما غرمه على المبيع.

ص: 529

-------------------------------------------------------------------

ومحصّله أنّ غرامة المشتري بواسطة المبيع عليه، أو المالك إن لم يكن حصل له في مقابلته نفع كالبناء والغرس إذا نقضه المالك - فله الرجوع به على الغاصب؛ لأنّه دخل على أن يكون ذلك له بغير غرم، وإنّما جاء الضرر من تغرير الغاصب. وكذا القول في أرش نقصانه.

وإن حصل له في مقابلته نفع كالسكنى والثمرة واللبن والركوب إذا غرّمه المالك، ففي رجوعه به علی الغاصب قولان:

أحدهما العدم، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف (1) وابن إدريس(2)؛ لمباشرته الإتلاف مع حصول منفعة في مقابلته، وحوالة الضمان على مباشر الإتلاف أولى.

والثاني: الرجوع، ذهب إليه المصنّف في كتاب التجارة (3) من هذا الكتاب وفي النافع(4). وإن كان هنا لم يرجّح أحد القولين؛ لأنّ الغاصب قد غرّه، ولم يشرع على أن يضمن ذلك، فكان الضمان على الغار، كما لو قدم إليه طعام الغير فأكله جاهلاً، ورجع المالك على الأكل. أو غصب طعاماً فأطعمه المالك، فإنّه لا يرجع على الغار.

وعلى هذا، فيتخير المالك بين رجوعه ابتداءً على الغاصب، فلا يرجع على المشتري، وبين أن يرجع على المشتري؛ لترتب يده على ماله فيرجع على الغاصب. وقيل: بل يتعيّن الرجوع على الغاصب خاصّة(5)، والأصحّ الأوّل.

ولو كان المغصوب جاريةٌ بكراً فافتضها المشتري فرجع عليه بالعوض، ففي رجوعه به الوجهان؛ لحصول نفع في مقابلته.

وأولى بعدم الرجوع هنا لو قيل به ثم؛ لأنّه بدل جزء منها أتلفه، فأشبه ما لو قطع عضواً من أعضائها.

ص: 530


1- المبسوط، ج 2، ص 487. ولم نعثر عليه في الخلاف.
2- السرائر، ج 2، ص 493.
3- راجع ج 3، ص 64.
4- المختصّر النافع، ص 369.
5- راجع قواعد الأحكام، ج 2، ص 237؛ وجامع المقاصد، ج 1، ص 320.
لو غصب مملوكة فوطئها

الخامسة : • لو غصب مملوكةً فوطئها، فإن كانا جاهلين بالتحريم لزمه مهر أمثالها؛ للشبهة. وقيل: عشر قيمتها إن كانت بكراً، ونصف العشر إن كانت ثيباً.

وربما قصر بعض الأصحّاب هذا الحكم على الوطء بعقد الشبهة.

-------------------------------------------------------------------

وأمّا المنافع التي لم يستوفها وفاتت تحت يده فرجع عليه بها، ففي حكم ما لم يحصل له في مقابلته نفع. وأولى بالرجوع؛ لأنّه لم يتلف ولا شرع في العقد على أن يضمنها.

ولو أولد الأمة غرم قيمته لمولاها عند انعقاده حراً، ويرجع به على الغاصب؛ لأنّه شرع في العقد على أن يسلم الولد حرّاً من غير غرامة، ولم يوجد منه تفويت.

والكلام في تخيّر المالك في الرجوع - مع استقراره - على الغاصب أو كونه ابتداء عليه كما مرّ.

ويحتمل إلحاق عوض الولد بما حصل له في مقابلته نفع كالمهر؛ لأنّ نفع حرية الولد يعود إليه. وهذا هو الاحتمال الذي أشار إليه فيجري فيه الوجهان، إلّا أنّ الأشهر الأوّل.

قوله: «لو غصب مملوكة فوطئها» إلى آخره.

إذا وطئ الغاصب المملوكة المغصوبة فلا يخلو إما أن يكونا جاهلين بالتحريم أو عالمين أو بالتفريق. وعلى التقادير الأربعة: إمّا أن يحبلها أو لا. وعلى التقادير الثمانية: فإما أن يطأها مختارةً أو مكرهةً. ومع الجهل: إمّا أن يطأها بعقد أو بدونه.

وقد تقدّم الكلام على نظير المسألة في النكاح(1) والبيع(2). ولنشر إلى أحكام المسألة إجمالاً تبعاً للمصنّف (رحمه اللّه) فنقول:

إن وطئها جاهلين بالتحريم وجب عليه مهر أمثالها؛ لأنّه عوض منفعة البضع حيث لا مقدر له شرعاً وبه قال الشيخ (3) وابن إدريس(4).

ص: 531


1- تقدّم في ج 6، ص 455 وما بعدها.
2- تقدّم في ج 3، ص 312.
3- المبسوط، ج 2، ص 480 - 481.
4- السرائر، ج 2، ص 488 - 489.

• ولو افتضها بإصبعه لزمه دية البكارة. ولو وطئها مع ذلك لزمه الأمران.

-------------------------------------------------------------------

وقال بعض الأصحّاب: يجب عشر قيمتها إن كانت بكراً، ونصفه إن كانت ثيباً (1)؛ للرواية، وقد تقدّمت في النكاح (2).

ورُدَّ بورودها في غير محل النزاع على خلاف الأصل فيقتصر بها على موردها.

وفي المسألة قول ثالث، وهو أن الحكم بوجوب مهر المثل، أو العشر ونصفه مقصور على ما لو وطئ الغاصب بعقد الشبهة، بأنّ توهّم حِلَّها بالعقد من دون إذن سيدها؛ لبعده عن شرائع الإسلام، أو قرب عهده به.

ووجه هذا القول: أنّ منفعة البضع لا تضمن بدونه كما يظهر في الزانية. وحينئذٍ فلا يجب المسمّى في العقد بفساده بل مهر المثل أو ما في معناه: لأنّه المقدّر شرعاً للبضع حيث يظهر فساد العقد.

والأظهر الأوّل وعدم ضمان منفعة البضع بدون العقد ممنوع، كما يظهر ذلك في وطء الشبهة، وهذا منه.

واعلم أنّ الجهل بتحريم وطء المغصوبة قد يكون للجهل بتحريم الزنى مطلقاً، وقد يكون لتوهّم حِلَّها خاصّة؛ لدخولها بالغصب في ضمانه، ولا يقبل دعواهما إلّا من قريب العهد بالإسلام، أو فيمن نشأ في موضع بعيد من المسلمين، وقد يكون لاشتباهها عليه وظنّه أنّها جاريته، وهنا لا يشترط لقبول دعواه ما ذكر.

قوله: «ولو افتضها بإصبعه لزمه دية البكارة. ولو وطئها مع ذلك لزمه الأمران».

وجه وجوب الأمرين - من غير أن يدخل أرش البكارة في المهر - أنهما أمران مختلفان، فإزالة البكارة جناية، والوطء استيفاء منفعة البضع فلا يدخل أحدهما تحت الآخر.

وذهب جماعة - منهم العلّامة في التحرير(3)، والشهيد في الدروس (4)- إلى التداخل؛ لأنّ

ص: 532


1- حكاه فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 188.
2- تقدّمت في ج 6، ص 460.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 543، الرقم 6160.
4- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 106 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11)

• وعليه أجرة مثلها من حين غصبها إلى حين عودها.

• ولو أحبلها لحق به الولد وعليه قيمته يوم سقط حيّاً، وأرش ما ينقص من الأمة بالولادة.

-------------------------------------------------------------------

البكارة ملحوظة على تقدير وجوب المهر أو العشر، ويزيد باعتبارها الواجب، ولو وجب أرش البكارة منفرداً لزم وجوب مهر ثيب لا بكر، كما لو افتضها بإصبعه ثمّ وطئها، فلا وجه للجمع بينهما.

وأجيب بأنّ ملاحظة البكارة في مهر المثل أو العشر لا يقتضي التداخل؛ لأنّ ملاحظتها من حيث إن وطء البكر خلاف وطء الثيب، فملاحظتها باعتبار الوطء لا باعتبار الجناية فلابدّ للبكارة من شيء زائد، وهو عشر آخر على قول، أو أرش نقصان قيمتها عن حالة البكارة إلى الثيوبة؛ نظراً إلى نقص الماليّة(1).

قوله: «و عليه أجرة مثلها من حين غصبها إلى حين عودها».

المراد أجرة مثلها في غير زمان الوطء؛ لأنّه قد ضمن منفعة البضع في وقته، فلابدّ استثنائه من الزمان والمعتبر أجرة المثل لما يصلح لعمله عادةً مع اتحاده، ومع تعدّده فالمعتبر أُجرة مثل الأعلى. ويمكن دخوله في مطلق أُجرة المثل؛ لأنّ المراد بها ما يبذل أجرة في تلك المدة لأمثال هذه الأمة على الوصف الذي هي عليه من قبول الصنائع المتعدّدة التي من جملتها ملك الأعلى. وقد تقدم البحث في ذلك(2).

قوله: «ولو أحبلها لحق به الولد» إلى آخره.

أمّا الحوق الولد به فللشبهة الموجبة لإلحاق.مثله. وأما وجوب قيمته عليه حينئذٍ ؛ فلأنّه وقت الحيلولة بين مولى الأمة وبين ما هو من نمائها وتابع لها، مراعاة للجمع بين الحقين؛ ولأنّه أوّل وقت إمكان التقويم فيقوم أن لو كان رقيقاً، ويسلّم قيمته للمولى مع أرش نقصان الولادة لو نقصت.

ص: 533


1- جامع المقاصد، ج 1، ص 310.
2- تقدّم في ص 521 - 522.

• ولو سقط ميتاً، قال الشيخ (رحمه اللّه) : لم يضمنه؛ لعدم العلم بحياته. وفيه إشكال ينشأ من تضمين الأجنبي. وفرّق الشيخ (رحمه اللّه) بين وقوعه بالجناية ووقوعه بغير جناية.

• ولو ضربها أجنبى فسقط ضمن الضارب للغاصب دية جنين حرّ، وضمن الغاصب للمالك دية جنين أمة.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو سقط ميتاً، قال الشيخ (رحمه اللّه): لم يضمنه» إلى آخره.

إذا سقط الولد ميتاً لا بجناية جانٍ من الغاصب أو أجنبي ففي وجوب شيء على الغاصب وجهان: أحدهما العدم. ذهب إليه الشيخ في المبسوط ؛ محتجاً بأنه لا يعلم كونه حياً قبل ذلك(1)، ووجوب شيء فرع ثبوت الحياة؛ لأنّه إنّما يقوم بعد سقوطه حيّاً، ولعدم الحيلولة.

ولو سقط بالجناية فعليه الضمان؛ لأنّ الإلقاء عقيب الضرب يظهر منه أنّ الموت بسببه، بخلاف الأوّل؛ لما تقرّر من أصالة عدم الحياة إلى أن يعلم غيره.

والمصنّف (رحمه اللّه) استشكل الحكم بعدم ضمان الحمل من غير جناية، من حيث اعترف الشيخ بتضمين الأجنبي لو سقط بجنايته ميتاً.

والفرق غير واضح؛ لأنّ عدم العلم بحياته ثابت على التقديرين، فإن كان مؤثراً في عدم وجوب شيء فلا أثر للضرب.

والوجه: أنّ الغاصب يضمن دية جنين أمة، سواء سقط بجناية أم لا، لكن على تقدير كونه بجنايته فللمالك دية جنين أمة، وباقي دية جنين الحرّة للإمام؛ لأنّ القاتل لا يرث والأمة رقيقة لا ترث أيضاً.

قوله: «ولو ضربها أجنبي فسقط ضمن الضارب» إلى آخره.

وجه الفرق أنّ الولد محكوم بحرّيّته؛ لأنّ الفرض كون الواطئ جاهلاً والولد لاحق به فيضمن الجاني عليه لأبيه دية جنين حرّ. ولمّا كان الغاصب ضامناً للمالك قيمته على تقدير

ص: 534


1- المبسوط، ج 2، ص 481.
لو غصب مملوكةً فوطئها وكانا عالمين بالتحريم

• ولو كان الغاصب والأمة عالمين بالتحريم، فللمولى المهر إن أكرهها الغاصب على الوطء، وعليه الحد. وإن طاوعت حُدَّ الواطئ ولا مهر. وقيل: يلزمه عوض الوطء؛ لأنّه للمالك. والأوّل أشبه، إلّا أن تكون بكراً فيلزمه أرش البكارة.

-------------------------------------------------------------------

كونه مملوكاً - مراعاة لمنفعة الأمة كان الواجب عليه للمولى دية جنين أمة على ما سيأتي(1).

ولا يتوقّف وجوب حقّ المولى على الغاصب على أخذه الحقّ من الجاني، بل كلّ واحد من الحقين متعلّق بذمة غريمه من غير تقييد بالآخر.

قوله: «ولو كان الغاصب والأمة عالمين بالتحريم» إلى آخره.

من الصور التي سبق ذكرها ما إذا كانا عالمين بالتحريم، فإن انضمّ إلى ذلك كون الأمة مكرهةً فللمولى مهر مثلها، أو ما في حكمه اتّفاقاً لانتفاء المانع وهو كونها بغياً، وعلى الغاصب الحدّ؛ لكونه زانياً. وإن طاوعته حُدَّ، ولا مهر على المشهور؛ لنهي النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن مهر البغيّ (2) الشامل لموضع النزاع.

وقيل: لا يسقط هنا(3) لأنّه مال لغيرها وهو المالك «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(4). والنهي عن مهر البغي لا يتناول المتنازع؛ لأنّ ذلك عوض المنفعة للمالك لا مهر حقيقي ومن ثمّ لا يطلق على الأمة اسم المهيرة، بل على الحرّة كما مر في بابه (5)؛ ولأن النهي عن ثبوت المهر للبغيّ ولا نقول: إنّه لها بل لمولاها.

لكنّ الأشهر بين الأصحّاب هو الأوّل، بل قال الشهيد في شرح الإرشاد: إن القائل بثبوته

ص: 535


1- سيأتي عن قريب.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 135 - 136، ح 599، وفيه: «مهر البغي من السحت»؛ مسند أحمد، ج 1، ص 584، ح 3334؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 730، ح 2159؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 267، ح 3428؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 8 - 9، ح 11006.
3- مختلف الشيعة، ج 1، ص 90، المسألة 77.
4- فاطر (35): 18.
5- مرّ في ج 6، ص 578.

• ولو حملت لم يلحق الولد، وكان رقّاً لمولاها، ويضمن الغاصب ما ينقص بالولادة. ولو مات ولدها في يد الغاصب ضمنه.

ولو وضعته ميتاً، قيل: لا يضمن؛ لأنا لا نعلم حياته قبل ذلك. وفيه تردّد. ولو كان سقوطه بجناية جان لزمه دية جنين الأمة، على ما نذكر في الجنايات.

-------------------------------------------------------------------

غير معروف(1)، مع أنّه مختار العلّامة في التذكرة (2).

ولا إشكال في وجوب أرش البكارة لو كانت بكراً؛ لأنّ إزالة البكارة جناية عليها فيثبت أرشها، وليست كالوطء.

قوله: «ولو حملت لم يلحق الولد، وكان رقّاً لمولاها - إلى قوله - لزمه دية جنين الأمة».

إنّما لم يلحق الولد لكونه زانياً فيكون رقاً للمولى؛ لأنّه نماء مملوكته. وكما لا يلحق بأبيه لا يلحق بأمه؛ لاشتراكهما في المقتضي. وهو الذي يقتضيه إطلاق قوله «لم يلحق الولد». وتظهر فائدة عدم لحوقه بهما في عدم ثبوت التوارث بينهما لو فرض حريتهما، أو أحدهما بعد ذلك.

ثمّ الولد مضمون على الغاصب ما دام في يده كالأم. ولو وضعته ميتاً فالإشكال في ضمانه كما سبق. ولكن المصنّف (رحمه اللّه) جزم هنا بضمانه (3).

والوجه فيه أنه لما كان محكوماً برقيته كان ملحقاً بالمال، فيكون مضموناً عليه على كلّ حال كحمل البهيمة، والحمل له قيمة شرعاً وإن لم يعلم حياته، بخلاف السابق، فإنّ ضمانه لقيمته موقوف على ولادته حياً؛ لكونه حراً ولم يحصل. وكما يضمن دية جنين الأمة يضمن نقص أُمّه بسبب الوضع وأُجرتها.

ص: 536


1- غاية المراد، ج 2، ص 251 - 252 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
2- في حاشية بعض النسخ: «في كتاب البيع منها. (منه قدّس سرّه)». تذكرة الفقهاء، ج 10، ص 294 - 295، المسألة 128.
3- كذا في الشرح وفي نسخ المتن: «فيه تردد»، واحتمل في جواهر الکلام، ج 37، ص 197 عثور الشارح على نسخة أخرى من الشرائع، قال: «بل لعلّها هي الأصحّ» إلى آخره.
إذا غصب حبّاً فزرعه أو بيضاً فاستفرخه

• ولو كان الغاصب عالماً وهي جاهلة لم يلحق الولد، ووجب الحد والمهر.

• ولو كان بالعكس لحق به الولد وسقط عنه الحدّ والمهر، وعليها الحدِّ.

السادسة: • إذا غصب حبّاً فزرعه، أو بيضاً فاستفرخه، قيل: الزرع والفرخ للغاصب، وقيل: للمغصوب منه، وهو أشبه.

-------------------------------------------------------------------

قوله: «ولو كان الغاصب عالماً وهي جاهلة» إلى آخره.

هذه من الصور السابقة أيضاً، وهي ما إذا كان الغاصب عالماً بالتحريم والأمة جاهلة به، فهو زان دونها ويلحق بها الولد دونه، وعليه الحد والمهر؛ لكون الوطء محترماً من طرفها.

قوله: «ولو كان بالعكس لحق به الولد» إلى آخره.

المراد بالعكس: أن تكون هي عالمة بالتحريم دونه، وهي تتمة الصور السابقة.

وحكمها أن الولد لاحق به للشبهة دونها للزنى وعليه قيمة يوم ولادته حياً كما سبق(1)، وعليها الحدّ للزنى. وفي ثبوت المهر ما مرّ (2) من الخلاف من كونها بغيّاً، ومن كونه مال الغير.

قوله: «إذا غصب حبّاً فزرعه، أو بيضاً فاستفرخه» إلى آخره.

القول بكونه للغاصب للشيخ في المبسوط والخلاف؛ محتجاً بأن عين المغصوب قد تلفت فلا يلزم الغاصب سوى قيمتها أو مثلها، والفرخ والزرع غير الحبّ والبيض، ومن قال إنهما عينهما فهو مكابر (3). مع أنّه قال في الكتابين أيضاً بكونه للمالك (4)؛ وهو الحقّ؛ لأنّ الزرع والفرخ يكونان من عين مال المغصوب منه، وحدث النماء في ملكه فلا يملكه الغاصب. والبيضة بحضن الدجاجة لها لم تخرج عن ملك المالك. والاستحالات الحاصلة صفات حصل بسببها استعدادات مختلفة متعاقبة بخلق اللّه تعالى لا أثر للغاصب فيها. وأسباب

ص: 537


1- سبق في ص 533.
2- مرّ في ص 535.
3- المبسوط، ج 2، ص 527: الخلاف، ج 3، ص 420 - 421، المسألة 38.
4- في حاشية «و»: «القول الثاني الموافق للأصحاب قاله الشيخ في المبسوط في كتاب العارية، وفي الخلاف في كتاب الدعاوي والبيّنات (منه قدس سره)». راجع المبسوط، ج 2، ص 467؛ الخلاف، ج 6، ص 344، المسألة 17.
إذا غصب عصيراً فصار خمراً ثمّ صار خلّاً

• ولو غصب عصيراً فصار خمراً ثمّ صار خلاً كان للمالك. ولو نقصت قيمة الخلّ عن قيمة العصير ضمن الأرش.

-------------------------------------------------------------------

التمليك محصورة شرعاً موقوفة على حكم الشارع، وليس هذا منها.

وقول الشيخ «إنّ العين قد تلفت» ممنوع، ولو تلفت لم يحصل لها نماء، وإنّما استحالت صورتها النوعية وتغيرت صفاتها وخواصها، وذلك لا يقتضي الخروج عن الملك.

وقوله «إنّ من قال في الفرخ: إنه عين البيض والزرع إنه عين الحبّ مكابر» فهذا ممّا لا يقول به أحد، ولا حاجة للحكم ببقاء ملك المالك إلى القول به، بل نقول: إن ملك الأصل له، وإن تبدّل صفاته وخواصه لا يخرجه عن ملكه.

قوله: «ولو غصب عصيراً فصار خمراً» إلى آخره.

إذا غصب عصيراً فصار خمراً ضمن مثله؛ لتنزيله بذلك منزلة التلف؛ لخروجه عن أهليّة الملك. فإن لم يدفع إليه العوض حتّى صار خلاً في يد الغاصب عاد إلى ملك مالكه؛ لأنّ المانع كان هو الخمرية وقد زالت وإن حدث له صورة أخرى.

ثمّ ينظر إن نقصت قيمة الخلّ عن قيمة العصير ضمن الأرش. ويخالف هذا ما إذا غصبه خمراً غير محترمة فتخلّلت في يده، فإنّه لا يجب عليه ردّ الخلّ.

والفرق أنّ العصير كان مملوكاً لمن هو في يده، وإنّما طرأ عليه مانع الملك فيزول بزواله بخلاف الخمر، فإنّها لم تكن مملوكة له بوجه وانتزاعها من يده غير مضمون وتخلّلها أحدث ملكاً جديداً لمن هي في يده إن نوى بإبقائها في يده التخليل، أو مباحاً يستحقّه من يسبق إلى أخذه.

ولو كان المغصوب خمراً متخذة للتخليل فتخلّلت في يد الغاصب فالأقوى وجوب ردّها كالعصير؛ لكونها مستحقةً لمن هي في يده بهذه النيّة، مع احتمال العدم؛ لعدم صلاحيتها للملك. وفائدة احترامها جواز إبقائها في يده، وعدم وجوب إراقتها. وقد تقدّم البحث فيه في الرهن(1).

ص: 538


1- تقدّم في ج 3، ص 462 - 463.
لو غصب أرضاً فزرعها أو غرسها

السابعة: • لو غصب أرضاً فزرعها أو غرسها فالزرع ونماؤه للزارع، وعليه أجرة الأرض، وإزالة غرسه وزرعه، وطم الحفر، وأرش الأرض إن نقصت.

ولو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس لم يجب على الغاصب إجابته. وكذا لو

-------------------------------------------------------------------

إذا تقرّر ذلك، فعلى تقدير تخمير العصير في يد الغاصب لو اختار المالك تغريمه قبل انقلابها خلاً فله ذلك، فإذا أخذ العوض فانقلبت خلاً في يد الغاصب وجب ردّه وأخذ البدل، كما لو دفعه حيث لم يمكنه رد المغصوب لمانع آخر.

مع احتمال استقرار ملك الغاصب عليه حينئذٍ ؛ لخروجها عن أهلية الملك حين الخمريّة، وبراءته منها بدفع البدل، وتخليلها أوجب حدوث ملكه لمن هي في يده.

ولو طلب المالك أخذها خمراً مع أخذ البدل، ففي [وجوب](1) إجابته إليه وجهان، من خروجها عن ملكه، ومن ثمّ وجب البدل تاماً.

ومن بقاء الأولوية؛ لإمكان إرادته التخليل ومن ثمّ عاد ملكه إليها قبل دفع البدل. وهذا أقوى، إلّا أن يُعلم من حاله أنّه يتخذها للشرب لزوال حقّه حينئذٍ، وكون إعادتها إليه تعاوناً على الإثم والعدوان.

ثمّ على تقدير إعادتها إليه مع البدل فصارت خلاً في يد المالك، ففي وجوب ردّ المثل إلى الغاصب وجهان، من أنه أخذه للحيلولة بينه وبين مالكه وقد زالت بعود ملكه إليه فيجب الرد. ومن أنّ هذا ملك متجدّد؛ لأنّ العصير لما صار خمراً صار تالفاً فوجب بدله.

والأقوى الأوّل: لأنّ الأصل ماله، وإنّما حدث له مانع الخمرية، فإذا زال المانع عاد الملك ولم يبطل حقّه منه رأساً، وإنّما زال الملك بالفعل وبقي بالقوة القريبة منه. ولابدّ من مراعاة الأرش على تقدير نقصه حيث لا يجمع بينه وبين البدل.

قوله: «لو غصب أرضاً فزرعها أو غرسها - إلى قوله - ولو هبة».

إذا زرع الغاصب الأرض المغصوبة أو غرس فيها غراساً فنماؤه له تبعاً للأصل.

ص: 539


1- ما بين المعقوفين أثبتناه من الطبعة الحجريّة.

بذل الغاصب لم يجب على صاحب الأرض قبوله ولو هبة.

-------------------------------------------------------------------

ولا يملكه المالك على أصحّ القولين.

وقال ابن الجنيد:

يتخيّر المغصوب منه بين أن يدفع إلى الغاصب نفقته على العين التي يحدثها ويأخذها، وبين أن يتركها له(1).

واستند في ذلك إلى رواية رواها عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته، وليس له من الزرع شيء»(2).

والرواية لم تثبت صحتها. وتملك مال الغير بغير اختياره يتوقّف على دليل ناقل عن حكم الأصل، وعموم: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(3).

نعم، لمالك الأرض إزالة الغرس والزرع وإن لم يبلغ أوانه ولم ينتفع به، بأن يكلّفه القطع أو يقلعه بنفسه مع امتناعه؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ليس لعرق ظالم حقّ»(4).

خلافاً لبعض العامّة حيث منع من قلع الزرع مجاناً؛ لأنّ له غاية تنتظر، وحكم بتخيّر المالك بين أن يبقيه بأجرة، وبين أن يتملكه ويغرم مثل البذر وأجرة عمله (5). وهو قريب من قول ابن الجنيد.

ولو أراد الغاصب القلع لم يكن للمالك منعه؛ لأنّه عين ماله. وإذا قلع فعليه الأُجرة وتسوية الحفر وأرش الأرض إن نقصت ولا يدخل الأرش في الأجرة ولا يجب على

ص: 540


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 96، المسألة 85.
2- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 824، ح 2466؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 261، ح 3403: الجامع الصحيح، ج 3. ص 648. ح 1366: السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 225، ح 11742.
3- الكافي، ج 7، ص 273، باب القتل، ح 12: الفقيه، ج 4، ص 092 ح 5154؛ مسند أحمد، ج 1، ص 69، ح 20172؛ سنن الدارقطني، ج 2، ص 605، ح 2849 بتفاوت فيها.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 446 - 447، ح 22272؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 178، ح 3073؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 662، ح 1378؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 235، ح 11772 و 11774 و 11775.
5- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 392، المسألة 3950؛ الحاوي الكبير، ج 7، ص 167.

• ولو حفر الغاصب فى الأرض بئراً كان عليه طتها. وهل له طتها مع كراهية المالك؟ قيل : نعم؛ تحفّظاً من درك التردّي. ولو قيل: للمالك منعه كان حسناً، والضمان يسقط عنه برضى المالك باستبقائها.

إذا حصلت دابّة في دار لا تخرج إلّا بهدم

الثامنة: • إذا حصلت دابّة في دار لا تخرج إلّا بهدم، فإن كان حصولها بسبب من صاحب الدار الزم الهدم والإخراج، ولا ضمان على صاحب الدابّة. وإن كان من صاحب الدابّة ضمن الهدم. وكذا إن لم يكن من أحدهما تفريط ضمن صاحب الدابّة الهدم؛ لأنّه لمصلحته.

-------------------------------------------------------------------

أحدهما إجابة الآخر إلى تملك ما يملكه بعوض ولا غيره؛ للأصل، خلافاً لمن أشرنا إليه.

ولو كان الغاصب قد جمع بين غصب الأرض والبذر ولو من مالك واحد، فللمالك أن يكلّفه القلع ويغرمه أرش النقصان، لكن هنا ليس للغاصب قلعه إذا رضي المالك. وكذا الغرس.

قوله: «ولو حفر الغاصب في الأرض بئراً كان عليه طمها» إلى آخره.

القول للشيخ (رحمه اللّه) معللاً بما ذكره(1). والأقوى ما اختاره المصنّف من عدم جواز طقها مع نهي المالك، بل ولا يجوز بدون إذنه؛ لأنّه تصرّف في مال الغير عدواناً. ودرك التردّي يزول بنهي المالك له المالك له عن طتها؛ لسقوط العدوان بذلك. وحينئذٍ فيستأذن المالك في الطمّ، فإن أذن له فعل وزال الدرك، وإن نهاه زال المانع. ولو تعذّر استيذان المالك - لغيبة ونحوها - جاز له طتها تحرّزاً من الدرك المذكور.

قوله: «إذا حصلت دابّة في دار لا تخرج إلّا بهدم» إلى آخره.

لا إشكال في ضمان المفرّط منهما، أما صاحب الدار بأن غصب الدابّة وأدخلها داره، أو صاحب الدابّة بأن أدخلها بغير إذن صاحب الدار، فتهدم مجاناً في الأوّل، ويغرم أرش النقص في الثاني.

ص: 541


1- المبسوط، ج 2، ص 490.
لو أدخلت دابّة رأسها في قدر وافتقر إخراجها إلى كسر القدر

• ولو أدخلت دابّة رأسها في قدر وافتقر إخراجها إلى كسر القدر، فإن كانت يد مالك الدابّة عليها أو فرّط في حفظها ضمن.

وإن لم يكن يده عليها وكان صاحب القدر مفرّطاً مثل أن يجعل قدره في الطريق كسرت القدر عنها، ولا ضمان في الكسر.

وإن لم يكن من أحدهما تفريط، ولم يكن المالك معها، وكانت القدر في ملك صاحبها، كسرت وضمن صاحب الدابّة؛ لأنّ ذلك لمصلحته.

-------------------------------------------------------------------

وإنّما الكلام فيما إذا لم يكن من أحدهما تفريط، بأن أدخلها بإذنه، أو دخلت بنفسها من غير أن يكون مالكها فرّط في إرسالها. والمشهور حينئذٍ أنّ الضمان على صاحب الدابّة؛ لأنه لتخليص ماله.

ويشكل بأنّ التخليص والمصلحة قد تكون مشتركة بينهما، بل هو الأغلب، وقد تكون مختصّةً بصاحب الدار، بأن لا يكون لصاحب الدابّة حاجة إلى إخراجها لصغرها، أو عدم صلاحيتها للانتفاع بوجه من الوجوه، وصاحب الدار يحتاج إليها في موضع الدابّة عاجلاً، والفرض انتفاء التفريط.

نعم، لو خيف هلاك الدابّة بدون الإخراج اتجه وجوبه؛ لحرمة الروح. ومع ذلك ففي اقتضاء ذلك ضمان صاحب الدابّة نظر.

قوله: «ولو أدخلت دابّة رأسها في قدر» إلى آخره.

الحكم هنا في اعتبار التفريط وعدمه، وضمان المفرّط كالسابقة. والمراد بضمان صاحب الدابّة - على تقدير تفريطه - ضمان القيمة إن لم يكن لمكسور القدر قيمة وضمان الأرش إن كان لمكسوره قيمة.

والإشكال - مع عدم التفريط - في ضمان صاحب الدابّة كما مرّ؛ لأنّ المصلحة قد تكون مشتركةً، وقد تكون مختصّةً بصاحب القدر أو غالبةً، خصوصاً إذا كان ما يبقى من القدر بعد الكسر له قيمة؛ فإنّ حفظه مصلحة لمالكها، وقد تكون قيمة القدر أو أرشه تزيد عن قيمة الدابّة على تقدير إتلافها، فإلزام صاحب الدابّة زيادة عن قيمة دابّته بعيد.

ص: 542

التاسعة. قال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط : إذا خشي على حائط جاز أن يسند بجذع بغير إذن مالك الجذع مدّعياً الإجماع.

وفي دعوى الإجماع نظر.

-------------------------------------------------------------------

وأيضاً فقد تكون مأكولة اللحم، فلا يفوت عليه بذبحها ما يقابل القدر أو ما يفوت منها. وكون المقصود خلاص الحيوان؛ لأنّه ذو روح لا يتم مطلقاً؛ لأنّه على تقدير صلاحيته للذبح لا يتعيّن تخليصه ببقائه، فيكون حكمه حكم القدر مع اشتراكهما في عدم التفريط.

واحتمل في الدروس ذبح الدابّة، مع كون كسر القدر أكثر ضرراً من قيمة الدابّة أو أرشها؛ ترجيحاً لأخف الضررين(1).

وبالجملة فحكم المسألة مع انتفاء التفريط مشكل، وإن كان المشهور ما ذكره المصنّف (رحمه اللّه).

واعلم أنّ عطف المصنّف قوله «ولم يكن المالك معها» على ما إذا «لم يكن من أحدهما تفريط» غير جيد؛ لأنّ عدم كون المالك معها قد يكون من موجبات عدم التفريط، وقد يجامع التفريط.

وكذا قوله «وكانت القدر في ملك صاحبها» فإنّه من أمثلة عدم التفريط، فعطفه عليه المقتضي للمغايرة وكونه شرطاً آخر مع عدم التفريط ليس بجيّد. وكان حقهما أن يكونا مثالين لعدم التفريط.

ولو جعل الواو للحال قرب من المقصود، وإن كان لا يخلو من قصور في الجملة أيضاً. ثمّ إنّ ذكر هذين الفرعين في الغصب استطراد. ولو فرض وقوع الفعل من الغاصب لكان الضمان عليه.

قوله: «قال الشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط : إذا خشي على حائط جاز» إلى آخره.

هذا الحكم ذكره الشيخ كذلك مطلقاً (2). وهو يتم على تقدير الخوف من وقوعه على نفس

ص: 543


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 101 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- المبسوط، ج 2، ص 504.
إذا جنى العبد المغصوب عمداً فقتل

العاشرة: • إذا جنى العبد المغصوب عمداً فقتل ضمن الغاصب قيمته. وإن طلب ولي الدم الدية لزم الغاصب أقلّ الأمرين من قيمته ودية الجناية.

وإن أوجبت قصاصاً فيما دون النفس فاقتص منه ضمن الغاصب الأرش. وإن عفا على مال ضمن الغاصب أقلّ الأمرين.

-------------------------------------------------------------------

محترمة بحيث لا يندفع بدونه؛ لجواز إتلاف مال الغير لحفظ النفس، فإتلاف منفعته أولى. أما بدون ذلك فالمنع أوضح للمنع من التصرف في مال الغير بغير إذنه عقلاً وشرعاً.

وأمّا دعواه الإجماع على الحكم فلو تمّ كان هو الحجة، لكن لا يعلم له موافق عليه، فضلاً عن كونه إجماعاً، وإن وافقه موافق من المتأخّرين كما يظهر من الشهيد في الدروس(1) - فهو شبيه الإجماع المنقول بخبر الواحد، ولا أثر له في ذلك؛ لأنّ المعتبر إجماع من في عصره ومن قبله، وهو منتف خصوصاً على وجه يصير حجة كما أشرنا إليه مراراً.

قوله: «إذا جنى العبد المغصوب عمداً» إلى آخره.

لمّا كان المغصوب مضموناً على الغاصب بجملته وأبعاضه، سواء فرّط فيه أم لا، فقتله بسبب الجناية أو قطع شيء من أطرافه ونحو ذلك، من جملة النقصان الحادث عليه، فيكون مضموناً على الغاصب بالقيمة يوم التلف أو بأعلى القيم، كما لو تلف بآفة سماويّة.

ولو كانت الجناية توجب مالاً، وطلب وليّ الدم المال وجب على الغاصب فكه بالفداء، كما يجب عليه تحصيله ودفعه إلى المالك، وما يتوقّف عليه تسليمه من باب مقدمة الواجب.

وبمَ (2) يفديه؟ بأرش الجناية بالغاً ما بلغ حيث لا يرضى المجني عليه عمداً بدونه، أم بأقلّ الأمرين من الأرش وقيمة العبد؟ فيه وجهان، أشهرهما الثاني؛ لأنّ ذلك هو الواجب على المولى، والجاني لا يجني على أكثر من نفسه.

ووجه الأوّل: أن الواجب في العمد القصاص فرضى المجني عليه أو وليه بالمال، مع

ص: 544


1- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 100 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- في «م»: «وهل».

-------------------------------------------------------------------

قدرة الغاصب عليه يكون مقدمةً لوجوب ردّه إلى مالكه، مع توقف الرد على مؤونة تزيد عن قيمته، فإنّها واجبة على الغاصب في غير الجناية فكذا فيها؛ لاشتراكهما في المقتضي.

وإنّما يتعيّن ضمان الغاصب أقلّ الأمرين - كما أطلقه المصنّف - على تقدير عفو الولي على مال مطلق، فإنّه يلزم الغاصب حينئذٍ ما يلزم المالك، وهو أقلّ الأمرين من أرش الجناية وقيمة العبد.

وكذا الحكم لو ارتد أو سرق في يد الغاصب، ثمّ قتل أو قطع. ولا فرق بين استيفاء حقّ الجناية منه بعد ردّه وقبله إذا كان السبب حاصلاً وقت الغصب.

ولو انعكس ففي ضمان الغاصب وجهان، من حصول التلف أو النقص في يده. ومن سبق سببه على الغصب والإتلاف مستند إليه، فلا يكون مضموناً عليه.

والأقوى ضمان الغاصب قيمة عبد مستحق القتل أو القطع؛ لأنّه غصبه كذلك.

إذا تقرّر ذلك، فالعبد الجاني في يد الغاصب إما أن يدفعه إلى المالك بعد فكه من الجناية، أو قبله، أو لا يدفعه بل يتلف في يده. فإن فكه من الجناية ثمّ دفعه إلى مالكه فقد برئ من الحقّين.

وإن دفعه إلى المالك قبل دفع الجناية، وكانت الجناية متعلّقة بنفسه، فللمجنيّ عليه استيفاؤها فيرجع المالك بقيمته إن قُتِل، أو بأرشه إن نقص على الغاصب؛ لأنّه ردّه بعيب مضمون عليه.

وإن تلف في يده قبل إيفاء حقّ الجناية فللمالك عليه القيمة أو الأقصى على ما مرّ. فإذا أخذها فللمجني عليه أن يغرم الغاصب وإن تعلّق بالقيمة التي أخذها المالك؛ لأنّ حقّه كان متعلّقاً بالرقبة فيتعلّق ببدلها كالعين المرهونة إذا أتلفها متلف، فإن الرهن يتوثق ببدلها.

ويحتمل اختصاص المالك بما أخذ، والمجني عليه يطالب الغاصب، كما أن المجني عليه لو أخذ أرش الجناية لم يكن للمالك التعلق به فهما كرجلين لكلّ واحد منهما دين على ثالث.

والأصحّ الأوّل. فإذا أخذ المجني عليه حقّه من تلك القيمة رجع المالك بما أخذه على

ص: 545

إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب

الحادية عشرة : • إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب لزمه إعادته ولو طلب المالك الأجرة عن إعادته لم يلزم الغاصب؛ لأنّ الحقّ هو النقل. ولو رضى المالك به هناك لم يكن للغاصب قهره على الإعادة.

-------------------------------------------------------------------

الغاصب؛ لأنّه لم يسلّم له، بل أخذ منه بجناية مضمونة على الغاصب.

ثمّ الذي يأخذه المجني عليه قد يكون كلّ القيمة، بأن كان الأرش بقدرها، وقد يكون بعضها، بأن كانت القيمة ألفاً والأرش خمسمائة. فإذا أخذ المجني عليه الأرش رجع المالك به خاصّة؛ لأنّ الباقي قد سلّم له.

وكذا لو كان العبد يساوي ألفاً فرجع بانخفاض السوق إلى خمسمائة، ثمّ جنى ومات عند الغاصب، وأوجبنا للمالك أقصى القيم فليس للمجني عليه إلّا خمسمائة وإن كان أرش الجناية ألفاً؛ لأنّه ليس عليه إلّا قدر قيمته يوم الجناية.

قوله: «إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب لزمه إعادته» إلى آخره.

إذا نقل الغاصب المغصوب إلى غير المكان الذي غصبه منه وجب عليه ردّه إليه إن كان مالكه [يطالب](1) به بغير إشكال؛ لأنّ الردّ مقدّمة الواجب. وإن أمكن إيصاله إلى مالكه بغيره تخيّر المالك بين أن يقبضه حيث يدفعه إليه، وبين أن يأمره بردّه إلى مكانه الأوّل؛ لأنّه عادٍ بنقله الأوّل، فكان عليه الردّ حيث يطلبه المالك. وله أن يأمره برده إلى بعض المسافة التي نقله فيها بطريق أولى. وليس للغاصب حينئذٍ مجاوزة مطلوب المالك حيث يكون هو الحقّ أو بعضه.

أمّا الأوّل فواضح وأمّا الثاني؛ فلأنّه يكون حينئذٍ قد رضي ببعض حقّه.

وحيث يرضى المالك ببقائه دون المكان الأوّل ليس للغاصب الزيادة عليه؛ لأنّه تصرف في المغصوب بغير إذن المالك. فلو تجاوز به المأذون فللمالك إلزامه بإعادته؛ لتعديه في النقل كأصله.

ولا يخفى أنّ حقّ المالك على تقدير النقل إنّما هو في الرد، لا في مؤونته خاصّة، فلو

ص: 546


1- مابين المعقوفين أثبتناه من الطبعة الحجريّة.
النوع الثاني في مسائل التنازع
إشارة:

وهی ستّ:

إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة

الأولى: • إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه. وهو قول الأكثر. وقيل : القول قول الغاصب وهو أشبه.

أمّا لو ادّعى ما يُعلم كذبه فيه، مثل أن يقول: «ثمن الجارية حبّة» أو «درهم» لم يقبل.

-------------------------------------------------------------------

طلب الأجرة على نقله لم يجب على الغاصب القبول؛ لأنّه خلاف حقه. ولا فرق في هذا الحكم بين كون المغصوب مالاً صامتاً أو ناطقاً.

وفي معناه ما لو نقل حرّاً صغيراً أو كبيراً بالقهر من موضع إلى موضع واحتاج عوده إلى مؤونة، فهو على الناقل لتعديه. ولو لم يكن للمنقول غرض في الرجوع إلى الموضع الأوّل فلا شيء عليه.

قوله: «إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة» إلى آخره.

القول بتقديم قول المالك للشيخ في النهاية و المقنعة (1)؛ لجناية الغاصب فيلغو قوله. والأقوى ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من تقديم قول الغاصب، وهو اختيار الشيخ في المبسوط والخلاف(2) وابن إدريس (3) و [ أكثر ](4) المتأخّرين؛ لأنّه منكر وغارم، ولأصالة عدم الزيادة. هذا إذا ادعى ما يحتمل كونه قيمة المغصوب ولو نادراً.

ص: 547


1- الشيخ الطوسي في النهاية، ص 402 والشيخ المفيد في المقنعة، ص 607 وفي هامش «و»: «الظاهر الشيخين؛ لأنّ المقنعة لشيخنا المفيد، والشهيد في الشرح أسند هذا القول إليه أيضاً». راجع غاية المراد، ج 2، ص 254 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
2- المبسوط، ج 2، ص 492: الخلاف، ج 3، ص 412، المسألة 26.
3- السرائر، ج 2، ص 490.
4- كلمة «أكثر» لم ترد في بعض النسخ.
إذا تلف وادّعى المالك صفةٌ يزيد بها الثمن

الثانية: • إذا تلف وادعى المالك صفةً يزيد بها الثمن كمعرفة الصنعة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنّ الأصل يشهد له.

أمّا لو ادّعى الغاصب عيباً كالعور وشبهه، وأنكر المالك فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل الصحة، سواء كان المغصوب موجوداً أو معدوماً.

-------------------------------------------------------------------

أمّا لو ادعى ما يُعلم كذبه عادةً لم يقبل، وطُولب بجواب آخر محتمل فيقبل منه، وهلم جراً. ويحتمل إلغاء قوله حين يدعي القيمة الكاذبة، والرجوع إلى المالك حينئذٍ.

والأقوى الأوّل، وبه صرّح في التحرير(1): طرداً للقاعدة، ولا يلزم من إلغاء قوله المخصوص لعارض كذبه إلغاء قوله مطلقاً حيث يوافق الأصل.

قوله: «إذا تلف وادّعى المالك صفةً يزيد بها الثمن كمعرفة الصنعة» إلى آخره.

وجه تقديم قول الغاصب في الأوّل والمالك في الثاني موافقة قولهما الأصل في ذلك، فإنّ الأصل عدم تعلّم الصنعة التي لم تكن موجودةً في أصل الخلقة، والأصل سلامته من العيوب الخارجة عن أصل الخلقة.

والحكم في الأصل الأوّل واضح. وأما الثاني فإن كان العيب حادثاً طارئاً على أصل الخلقة كالعور وقطع اليد - فالأمر فيه كالأوّل؛ لأنّ الأصل عدم عروض العيب بعد ثبوت كون الخلقة في الأصل تامّةً. ولا تعارضه أصالة براءة ذمة الغاصب من الزائد؛ لأنّ هذا الأصل متأخر عن ذلك الأصل ومنافٍ له فلا يلتفت إليه.

وإن كان العيب الذي يدّعيه أصليّاً في الخلقة، بأن ادعى أنه أكمه أو وُلِدَ أعرج أو عديم اليد، لم يتمّ الأصل فيه إلّا بمعنى الأمر الغالب، فإنّ السلامة في الخلقة غالبة، وتعارضه أصالة العدم، وبراءة ذمّة الغاصب ممّا يقابله. ولكن المشهور قبول قول المالك هنا أيضاً.

وكلام المصنّف لا يأبى إرادة الأوّل: لأنّه مثل العيب بالعور وشبهه، وهو يقتضي كون النزاع في الطارئ.

ص: 548


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 4، ص 550، الرقم 6165.
إذا باع الغاصب شيئاً ثمّ انتقل إليه بسبب صحيح

الثالثة: • إذا باع الغاصب شيئاً ثمّ انتقل إليه بسبب صحيح، فقال للمشتري: «بعتك ما لا أملك» وأقام بيّنةً، هل تسمع بيّنته؟ قيل: لا؛ لأنّه مكذب لها بمباشرة البيع. وقيل: إن اقتصر على لفظ البيع ولم يضم إليه من الألفاظ ما يتضمن ادعاء الملكيّة قبل، وإلّا ردّت.

-------------------------------------------------------------------

ونبّه بقوله «سواء كان المغصوب موجوداً أو معدوماً على خلاف الشيخ حيث فرّق بين الأمرين، وقدّم قول الغاصب لو كان المغصوب موجوداً والعيب موجوداً فيه(1)، فقال: «غصبته هكذا»، وقال المالك: «بل حدث عندك»، محتجاً بأنّ الأصل براءة ذمّته، وعدم وضع يده على تلك الصفة، بخلاف ما إذا كان معدوماً فادعى كونه معيباً؛ لأنّ الأصل السلامة، ولم يعلم وجود العيب.

والأصحّ التسوية بين الأمرين وتقديم قول المالك فيهما؛ لأصالة السلامة، وعدم تقدّم العيب على تقدير كونه موجوداً.

قوله: «إذا باع الغاصب شيئاً ثمّ انتقل إليه بسبب صحيح» إلى آخره.

إذا باع الغاصب شيئاً ثمّ انتقل إليه بسبب صحيح كالشراء والإرث، ولم يكن المشتري عالماً بكونه غاصباً، فقال للمشتري «بعتك ما لا أملك حال البيع» فالشراء فاسد، وأقام بينةٌ بذلك، وادعى المشتري صحته تعويلاً على ظاهر الحال من أنّه مالك، أو لم يدّع شيئاً واكتفى بقبول دعوى المدعي وعدمه، فهل تسمع الدعوى والبيّنة؟ قيل: لا؛ لمنافاتها ما دلّ عليه البيع من كونه مالكاً، وهو مكذب لها بمباشرته البيع الدال على كونه ملكه.

ويضعّف بمنع كون مطلق البيع منافياً لكونه غير مالك، فإنّ البيع كما يقع على ما يملكه البائع يقع على ما لا يملكه بالإذن،وغيره غايته أنه بدون الإذن يكون فضوليّاً، وبيع الفضولي صحيح في الجملة.

وعلى هذا فمطلق البيع لا يقتضي تكذيب البينة؛ لإمكان صدقه في البيع، وصدقها في عدم ملكية المبيع حالته.

ص: 549


1- المبسوط، ج 2، ص 526.
إذا مات العبد وادّعى الغاصب ردّه قبل موته

الرابعة • إذا مات العبد فقال الغاصب «رددته قبل موته» وقال المالك: «بعد موته»، فالقول قول المالك مع يمينه. وقال في الخلاف: ولو عملنا في هذه بالقرعة كان جائزاً.

-------------------------------------------------------------------

ومن ثمّ فصل آخرون فقالوا: إنه إن اقتصر على لفظ البيع ولم يضم إليه حالته من الألفاظ ما يدلّ على كونه مالكاً سمعت دعواه وقبلت بيّنته؛ لعدم المنافاة كما قرّرناه، فإنّ البيع بمجرّده لا يقتضي الملكيّة، بل هو أعمّ من بيع الفضولي وغيره، والعام لا يقتضي فرداً بخصوصه. وإن ضم إليه ما يدلّ على كونه مالكاً، كقوله: «هذا ملكي» أو «بعتك ملكي»، أو يقول بعد البيع: «قبضت ثمن ملكي» أو «أقبضته المشتري» أو نحو ذلك، لم تسمع دعواه ولا بينته؛ لتكذيبه.إيّاها وهذا التفصيل حسن، وهو الأقوى.

ولا يرد على القسم الأوّل كون إطلاق البيع منزلاً على ما يملكه البائع، ومن ثمّ لو باع مالك النصف مشاعاً النصف انصرف إلى نصيبه، ولم ينزل على الإشاعة، ولو كان أعمّ لنزل عليها؛ لمنع تنزيله عليها على ذلك التقدير، وغايته أن يكون مشتركاً بين بيع مال غيره وماله، والمشترك يحمل على بعض أفراده بالقرينة وهي هنا موجودة، فإن الظاهر الغالب كون الإنسان لا يبيع مال غيره بل مال نفسه. فإذا أمكن حمل البيع على ملك نفسه لم يحمل على ملك غيره لهذه القرينة الظاهرة والعرف المطّرد، بخلاف ما إذا باع الإنسان مال غيره الذي لا تصوّر ملك البائع له حالة البيع، فإنّه لا نفوذ له إلّا في ملك الغير؛ لعدم إمكان غيره، فكان ذلك هو المخصّص لهذا الفرد.

وإطلاق البيع على هذا الفرد أمر شائع في ألسنة الفقهاء وغيرهم لا سبيل إلى إنكاره. فيكون حقيقةً فيه، وإن لم يحمل إطلاقه عليه؛ لما ذكرناه من الاشتراك المانع منه بدون القرينة. فلا يلزم من عدم حمل إطلاق البيع في صورة الفرض على الإشاعة كون بيع مال الغير ليس بحقيقي.

قوله: «إذا مات العبد فقال الغاصب: رددته قبل موته» إلى آخره.

إذا ادعى الغاصب ردّ العبد قبل موته، وعكس المالك، فقد تعارض هنا الأصلان؛ لأنّ كلّ

ص: 550

إذا اختلفا في تلف المغصوب

الخامسة • إذا اختلفا في تلف المغصوب، فالقول قول الغاصب مع يمينه، فإذا حلف طالبه المالك بالقيمة؛ لتعذّر العين.

-------------------------------------------------------------------

واحد من الموت والردّ حادث والأصل عدم تقدّمه، لكنّ ذلك يقتضي ترجيح جانب المالك؛ لأنّ التعارض المذكور يكون في قوة اقترانهما، وذلك غير كافٍ في براءة ذمة الغاصب منه؛ لأنّ براءته متوقّفة على تسليمه حيّاً سليماً وهو منتفٍ هنا، فتقديم المالك ليس من جهة ترجيح أصله، بل من الجهة التي أشرنا إليها.

ويزيد أيضاً أنّ معه أصالة بقاء الضمان واستحقّاق المطالبة.

والشيخ (رحمه اللّه) في الخلاف(1) نظر إلى تعارض الأصلين وعدم الترجيح، وذلك يقتضي الإشكال والقرعة لكلّ أمر مشكل.

ويشكل بأنه لا إشكال على ما حقّقناه.

وفي الدروس (2) مال إلى قول الخلاف، لكن ظاهره أنه مع تعارض البينتين. وكلاهما مشكل.

أمّا الأوّل فلما ذكرناه.

وأمّا الثاني؛ فلأنّه مع التعارض إن قدم بيئة الداخل - وهو الذي قدم قوله فهو المالك، أو الآخر فهو الغاصب. والأقوى تقديم المالك مطلقاً.

قوله: «إذا اختلفا في تلف المغصوب، فالقول قول الغاصب مع يمينه» إلى آخره.

إنّما كان القول قول الغاصب في تلف العين - مع أنّ الأصل يقتضي بقاءها، فقوله مخالف للأصل - لأنّه قد يكون صادقاً ولا بينة له، فلو لم يقبل قوله لزم تكليف ما لا يطاق أو تخليده الحبس؛ لأنّه إن كلّف بالعين مع كونها تالفة في نفس الأمر لزم الأوّل، وإذا لم يسلّمها يلزم أن يخلّد الحبس، وذلك محال وضرر وحرج منفيّان(3).

ص: 551


1- الخلاف، ج 3، ص 418، المسألة 34.
2- الدروس الشرعيّة، ج 3، ص 108 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
3- الحجّ (22): 78؛ راجع الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4، وص 292 - 293، باب الضرر، ح 2؛ والفقيه ج 3، ص 76، ح 3371، وص 233، ح 3862؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146، ح 651.
إذا اختلفا فيما على العبد من ثوب أو خاتم

السادسة. إذا اختلفا فيما على العبد - من ثوب أو خاتم - فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنّ يده على الجميع.

-------------------------------------------------------------------

ولا يرد مثله فيما لو أقام المالك البيئة ببقاء العين، فإنّه حينئذٍ يكلّف بردها ويحبس بالتأخير، مع إمكان صدقه؛ إذ البينة ببقائها لا يقتضي المطابقة في نفس الأمر.

لأنّه يمكن الفرق هنا بأن بقاءها ثابت شرعاً، وظاهر الحال يقتضي صدق البيّنة فيه فيجوز البناء على هذا الظاهر، وإهانته بالضرب والحبس إلى أن يظهر للحاكم كون تركه ليس عناداً، فإذا تعذّر الوصول إلى العين انتقل إلى بدلها كما هنا، بخلاف البناء على الأصل، فإنه حجّة ضعيفة مختلف فيها بين الفقهاء والأصوليّين، فلا يناسبها التضييق بالعقوبة ونحوها.

وفي قول المصنّف «طالبه المالك بالقيمة؛ لتعذّر العين» جواب عن قول بعض العامّة بأنّ المالك ليس له أن يطالب بالقيمة؛ لأنّه يزعم بقاء العين فلا يستحقّ بدلها(1).

ومحصل الجواب أنّ الانتقال إلى البدل قد يكون لتلف العين، وقد يكون لتعذّر ردّها وإن كانت باقيةً كما مرّ(2)، والأمر هنا من هذا القبيل، فيستحقّ المالك البدل للحيلولة بتعذّر العين وإن قطع ببقائها، فضلاً عن دعوى البقاء ظاهراً، فإذا ثبت باليمين تلفها فالعجز أظهر، واستحقّاق البدل متعيّن.

قوله: «إذا اختلفا فيما على العبد، من ثوب أو خاتم - إلى قوله - لأنّ يده على الجميع».

المراد يده حالة الغصب فيكون قوله مقدماً. ولا يعارضه سبق يد المالك؛ لأنّ يد الغاصب طارئة ناسخة للسابق. ويدل على ترجيحها على يد المالك الحكم بضمانه لعينه ومنفعته، وذلك فرع إثبات اليد واللّه أعلم.

***

تمّ الجزء التاسع - بحسب تجزئتنا - ويليه في الجزء العاشر كتاب الشفعة

ص: 552


1- راجع الحاوي الكبير، ج 7، ص 178؛ وحلية العلماء، ج 5، ص 255 - 256؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 438، المسألة 3992.
2- مرّ في ص 507.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.