الجزء الثالث والعشرون
مسالك الافهام
إلى تنقيح شرائع الإسلام/ 7
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثالث والعشرون (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 7)
الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة باقري
الطبعة الأولى: 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 266
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان قم شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت: www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی زین الدین بن على 911 - 965ق.
موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة.
1434ق. = 2013م.
30 ج.
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیا.
کتابنامه .
978-600-5570-74-8 ISBN .. (دوره)
(YY). ISBN 978-600-5570-98-4
مندرجات: ج . 17 - 28 مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام._
1 اسلام - مجموعه ها 2 ،محقّق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلّى، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. .شرح الف پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.
8 م92ش/6/pb4
297/08
محرر الرقمي: بسم الله قرباني
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثالث والعشرون
مسالك الأفهام
إلى تنقيح
شرائع الإسلام /7
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 3
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثالث والعشرون (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 7)
الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة باقري
الطبعة الأولى: 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 266
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان قم شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت: www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی زین الدین بن على 911 - 965ق.
موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة.
1434ق. = 2013م.
30 ج.
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیا.
کتابنامه .
978-600-5570-74-8 ISBN .. (دوره)
(YY). ISBN 978-600-5570-98-4
مندرجات: ج . 17 - 28 مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام._
1 اسلام - مجموعه ها 2 ،محقّق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلّى، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. .شرح الف پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.
8 م92ش/6/pb4
297/08
ص: 4
دلیل
موسوعة الشهيد الثاني
المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره
الجزء الأوّل = (1) منية المريد
الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة : 3. مسكّن الفؤاد؛ 4. التنبيهات العليّة؛ .5 البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.
الجزء الثالث = (7-30) الرسائل/ 2 : 7. تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9.العدالة؛ 10 ماء البئر ؛ 11. تيقن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13 النيّة؛ 14 صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار ؛ 18. أقل ما يجب معرفته من أحكام الحج والعمرة؛ 19 نيّات الحج والعمرة؛ 20 مناسك الحج والعمرة؛ 21 طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23 الحبوة؛ 24 أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيد ابن طراد الحسيني؛ 26 أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27 أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29 أجوبة مسائل السيد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفية.
الجزء الرابع = (31 -43) الرسائل /3 : 31 تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات العينية؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34 وصيّةً نافعةً : 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37 مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه .38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف .39 حاشية «خلاصة الأقوال» 40. حاشية
«رجال ابن داود»؛ 4.1 الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.
ص: 5
الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد
الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية
الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان
الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العليّة وحاشيتا الألفيّة
الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة
الجزء الرابع عشر = (51 و52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع
الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)
الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان
الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام
الجزء التاسع والعشرون - الفهارس
ص: 6
ملحقات النكاح
النظر الثالث في القسم والنشوز والشقاق...15
القول في القسم...15
معنى القسم ووجوبه...15
القسمة بين الأزواج حقّ على الزوج...17
الواجب في القسمة ...27
أسباب تفضيل بعض الزوجات على بعض عند تجدّد النكاح...34
تسقط القسمة بالسفر ...38
استحباب التسوية بين الزوجات في الإنفاق وإطلاق الوجه والجماع...42
اللواحق وفيه مسائل ...44
القول في النشوز ...59
نشوز الزوجة وحكمه...60
نشوز الزوج ...66
القول في الشقاق...68
بعث الحكمين وشرائطهما ...68
ص: 7
النظر الرابع في أحكام الأولاد...78
القسم الأوّل في إلحاق الأولاد...78
أحكام ولد الموطوءة بالعقد الدائم...78
أحكام ولد الموطوءة بالملك ...89
أحكام ولد الشبهة ...95
القسم الثاني في أحكام الولادة...97
سنن الولادة ...97
سنن اليوم السابع أربعة الحلق، والختان ...103
العقيقة ...108
الرضاع...113
أحكام الحضانة...122
لواحق الحضانة ...135
النظر الخامس في النفقات...138
القول في نفقة الزوجة...138
شرائط وجوب النفقة ...138
قدر النفقة...155
اللواحق ...161
لو كان غائباً فحضرت عند الحاكم وبذلت التمكين ...168
نفقة زوجة المملوك ...176
نفقة الزوجة مقدّمة على نفقة الأقارب ...180
القول في نفقة الأقارب ...181
تجب النفقة على الأبوين والأولاد...181
لا تجب النفقة على غير العمودين من الأقارب ...182
ص: 8
ما يشترط في وجوب الإنفاق...183
يشترط في المنفق القدرة ...186
الواجب من الإنفاق قدر الكفاية...187
اللواحق ...190
القول في نفقة المملوك...195
مقدار الواجب في نفقة الرقيق والبهائم...195
وجوب نفقة البهائم المملوكة...200
النظر الأول: أركان الطلاق...205
الركن الأوّل في المطلق...205
الشرط الأوّل: البلوغ ...206
القسم الثالث في الإيقاعات
لو بلغ فاسد العقل طلّق وليه...208
الشرط الثاني : العقل...211
الشرط الثالث: الاختيار ...212
الشرط الرابع: القصد ...218
جواز الوكالة في الطلاق...221
الركن الثاني في المطلقة...226
الشرط الأول: أن تكون زوجةً ...226
الشرط الثاني: أن يكون العقد دائماً...227
الشرط الثالث: أن تكون طاهرةً من الحيض والنفاس...228
طلاق الغائب عنها زوجها...229
ص: 9
الشرط الرابع: أن تكون مستبرأة...238
الشرط الخامس: تعيين المطلّقة ...239
الركن الثالث في الصيغة ...251
طلاق الأخرس بالإشارة...255
لا يقع الطلاق بالكتابة إلا مع العجز...257
لا عبرة بالكنايات من الطلاق ...259
هل يصحّ الطلاق بقوله: «اعتدّي»؟...261
هل يجوز تفويض أمر الطلاق إلى المرأة واختيارها؟...265
هل يقع الطلاق بقوله «نعم» في جواب السؤال عن الطلاق؟ ...272
يشترط تجريد صيغة الطلاق عن الشرط والصفة ...274
الطلاق بالعدد بلفظ واحد...276
الركن الرابع: الإشهاد ...292
النظر الثاني: أقسام الطلاق...299
طلاق البدعة ثلاث...299
طلاق السنة ثلاث ...301
تعريف الطلاق البائن وأقسامه...302
تعريف الطلاق الرجعي ...303
تعريف طلاق العدة ...304
طلاق السنّة بالمعنى الأخصّ...306
إذا طلق الحامل وراجعها هل يجوز طلاقها ثانية؟ ...309
إذا طلق الحائل ثمّ راجعها ...314
لو شكّ المطلّق في إيقاع الطلاق ...323
إذا طلّق الغائب وأراد العقد على رابعة أو على أُخت الزوجة ...326
ص: 10
النظر الثالث: اللواحق...328
المقصد الأوّل في طلاق المريض...328
المقصد الثاني فيما يزول به تحريم الثلاث...337
شرائط زوال التحريم...338
هل يهدم ما دون ثلاث طلقات مع استكمال شرائط التحليل؟...341
الإسلام ليس شرطاً في المحلل...344
الخصيّ يحلّل لو حصلت فيه الشرائط...348
إذا دخل المحلّل فادعت الإصابة ...348
هل الوطء المحرَّم يحلل...349
لو ادّعت المطلّقة ثلاثاً أنّها تزوّجت وفارقها الثاني...350
المقصد الثالث في الرجعة...354
بما تتحقّق الرجعة ؟ ...354
اختلاف الزوجين في انقضاء العدّة ...361
المقصد الرابع في جواز استعمال الحيل...370
المقصد الخامس في العدد...378
الفصل الأوّل: تجب العدّة في غير الوفاة بعد الدخول...379
الفصل الثاني في ذات الأقراء ...381
معنى القرء لغةٌ ...381
أقلّ زمان العدّة ...389
الفصل الثالث في ذات الشهور ...392
من لا تحيض وهي في سنّ من تحيض عدّتها ثلاثة أشهر ...392
حد اليأس خمسون سنة ...397
تعتدّ اليائسة التي تحيض مثلها بثلاثة أشهر أو أكثر ...399
ص: 11
لو استمرّ بالمعتدة الدم مشتبهاً...408
المعتبر بالأشهر الهلالية...411
الفصل الرابع في عدّة الحامل...414
لو مات المطلّق فى أثناء العدّة ...420
لو كانت المطلّقة حاملاً من زنى...421
اختلاف الزوجين في الأسبق من وضع الحمل والطلاق ...423
لو أقرّت بانقضاء العدة ثمّ جاءت بولد 425
الفصل الخامس في عدّة الوفاة...427
الحامل المتوفّى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين...430
وجوب الحداد على المرأة المتوفّى عنها زوجها...431
إذا طلّق إحدى زوجاته ومات...436
حكم المرأة الغائب عنها زوجها ...438
إذا حضر المفقود بعد الحكم بوفاته...443
الفصل السادس في عدد الإماء والاستبراء ...450
أقلّ زمان عدّة الأمة ...451
عدّة الذمّيّة كالحرّة...454
عدّة الأمّة من الوفاة ...455
من يجب استبراؤها؟ ...461
الفصل السابع في اللواحق...464
لا يجوز إخراج المطلقة رجعية من منزلها ولا تخرج هي...464
نفقة الرجعيّة لازمة في زمان العدّة...470
فروع في سكنى المطلقة ...472
لا نفقة للمتوفّى عنها زوجها ولو كانت حاملاً...487
ص: 12
حكم الزواج في العدّة بالنسبة إلى تعدّد العدّة وتداخلها...489
حكم المتزوّجة في العدّة لو حملت ...491
متى تعتدّ زوجة الحاضر والغائب في الطلاق والوفاة؟...495
إذا طلق المدخول بها وراجعها ثمّ طلّق قبل المسيس ...500
بمن يلحق الولد في الوطء بالشبهة؟ ...502
إذا طلّق زوجته بائناً ثمّ وطئها لشبهة...503
إذا نكحت في العدّة الرجعيّة وحملت من الثاني ...504
کتاب الخلع والمباراة
معنى الخلع والمباراة لغةً...507
النظر الأول في صيغة الخلع ...509
هل يقع الخلع بمجرّده أم لا بدّ من إتباعه بالطلاق؟ ...509
لا يقع الخلع بالكنايات ...514
الطلاق مع الفدية يكون بائناً وإن لم يكن بلفظ الخلع...516
يعتبر في صيغة الخلع وقوعها على وجه المعاوضة...518
النظر الثاني في الفدية ...527
عوض الخلع سبيله سبيل المهر ...527
هل يصحّ بذل الفداء من المتبرع ؟ ...531
يجوز أن يكون عوض الخلع منفعة ...536
يصحّ البذل من الأمة ...543
النظر الثالث في الشرائط...546
شروط الخالع ...546
شروط المختلعة...547
ص: 13
صحّة الخلع من المحجور والذمي والحربي...551
النظر الرابع في الأحكام...556
إذا صحّ الخلع فلا رجوع للزوج، ولها الرجوع في الفدية...560
إذا قالت: «طلقني ثلاثاً بألف» فطلقها ...566
لو قالت: «طلقني واحدةً بألف» فطلق ...574
التوكيل في الخلع ...578
يلحق بالأحكام مسائل النزاع ...579
إذا اتّفقا في القدر واختلفا في الجنس...579
لو اتّفقا على ذكر القدر دون الجنس ...580
لو اختلفا فيمن عليه العوض ...582
المبارأة ...586
يشترط إتباع المباراة بلفظ الطلاق...586
المبارأة تفترق عن الخلع في أمور ...589
ص: 14
القول في • القسم
والكلام فيه وفي لواحقه.
أما الأوّل فنقول : • لكلّ واحد من الزوجين حقّ يجب على صاحبه القيام به، فكما
_____________________________________________
النظر الثالث في القسم والنشوز والشقاق قوله «القسم».
القسم - هو بفتح القاف مصدر قسمت الشيء أقسمه، وبالكسر - الحظ والنصيب(1) ويقال: هو التقدير، ويمكن اعتبار القسم بين الزوجات منهما، وهو حقّ واجب لمن يجب الإنفاق عليه من الزوجات؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(2)، وللأخبار(3)، والتأسي(4) .
قوله: «لكلّ واحد من الزوجين حقّ يجب على صاحبه - إلى قوله - ما ينفّر منه الزوج».
ص: 15
يجب على الزوج النفقة من الكسوة والمأكل والمشرب والإسكان، فكذا يجب على الزوجة التمكين من الاستمتاع، وتجنّب ما ينفّر منه الزوج.
_________________________________________
لا خفاء في أنّ لكلّ من الزوجين حقاً على الآخر، قال الله تعالى: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)(1) ، يعني من الحقوق التي لهنّ على الأزواج من النفقة والمهر وغيرهما، وقال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(2)، وقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(3) . والمراد تشبيه أصل الحقوق بالحقوق لا في كيفيتها لاختلافها.
وروى محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن الباقر (علیه السلام)قال: «جاءت امرأة إلى النبيّ(صلی الله علیه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فقال: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدّق من بيته إلّا بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلّا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه، وإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع إلى بيتها قالت: فمَنْ أعظم الناس حقاً على الرجل؟ قال: والده، قالت: فمن أعظم الناس حقاً على المرأة؟ قال: زوجها. قالت: فما لي عليه من الحق مثل ما له عليّ؟ قال: لا، ولا من كلّ مائة واحدة فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً ! لا يملك رقبتي رجل أبداً »(4) وقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): «لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثمّ استقبلته تلحسه ما أدت حقّه»(5). وقال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»(6) ، «وخياركم خياركم لنسائهم»(7) .
ص: 16
•والقسمة بين الأزواج حق على الزوج - حرّاً كان أو عبداً - ولو كان عنّيناً أو خصيّاً. وكذا لو كان مجنوناً، ويقسم عنه الولى.
_______________________________________
وروی شهاب بن عبد ربّه، قال قلت لأبي عبد الله(علیه السلام) : ما حقّ المرأة على زوجها؟ قال: «يسد جوعتها، ويستر عورتها، ولا يقبّح لها وجهاً، وإذا فعل ذلك فقد - والله - أدّى حقّها»(1)
إذا تقرّر ذلك فالواجب على كلّ منهما القيام للآخر بالحقوق التي عليه من غير أن يحوج صاحبه إلى طلبها أو الاستعانة بغيره، وأن لا يظهر الكراهة في تأدية الحقّ، بل يؤديّه باستبشار وانطلاق وجه، وأن يكفّ عمّا يكرهه صاحبه من قول أو فعل بغير حقّ. ومنه تمكين الزوجة الزوج من الاستمتاع، وإزالة ما ينفر منه؛ لأن ذلك من مقدمات الواجب، وهو من جملة ما عليهن بالمعروف. ومنه عدم الخروج من منزله بغير إذنه ولو إلى بيت أهلها حتّى عيادة مرضاهم وحضور ميهم وتعزيتهم.
قوله: «والقسمة بين الأزواج حق على الزوج» إلى آخره.
لمّا كان الغرض من القسمة الإيناس والعدل بين الزوجات، والتحرّز عن الإيذاء والإيحاش بترجيح بعضهن على بعض، لم يفرّق فيها بين الحر والعبد، ولا بين العنّين والفحل، ولا بين الخصي وغيره؛ لاشتراك الجميع في الفائدة المطلوبة منه، والوقاع غير واجب.
وأمّا المجنون إذا كان له زوجات متعدّدة - ويتصوّر ذلك فيمن بلغ رشيداً - فتزوج أكثر من واحدة ثم عرض له الجنون أو زوجه وليه صغيراً أكثر من واحدة ثمّ بلغ مجنوناً، لا في غير ذلك؛ لأنّ المجنون البالغ لا يجوز لوليّه أن يزوّجه أكثر من واحدة؛ لانتفاء الحاجة بها.
ثمّ لا يخلو إما أن يكون جنونه مطبقاً أو أدواراً، فإن كان الثاني فهو في وقت الإفاقة كغيره من المكلفين، وفى غيرها كالمطبق. ثمّ إن لم يؤمن منه فلا قسم في حقّه. وإن أمن فإن كان قد قسم لبعض نسائه ثمّ جنّ فعلى الوليّ أن يطوف به على الباقيات؛ قضاء لحقوقهنّ. كما يقضي ما عليه من الدين وكذلك إذا طلبن إن جعلنا حق القسمة مشتركاً بينهما ،
ص: 17
•وقيل: لا تجب القسمة حتّى يبتدئ بها. وهو أشبه.
________________________________________
وإن جعلناه مخصوصاً للزوج لم يجب على الوليّ الإجابة، ولو أردن التأخر إلى أن يفيق ليتمّ المؤانسة فلهنّ ذلك.
وإن لم يكن عليه شيء من القسم بأن كان معرضاً عنهنّ جمع، أو جنّ بعد التسوية بينهنّ، فإن رأى منه الميل إلى النساء، أو قال أهل الخبرة: إنّ غشيانهن ينفعه، فعلى الوليّ أن يطوف به عليهنّ، أو يدعوهنّ إلى منزله ، أو يطوف به على بعضهنّ ويدعو بعضهنّ كما يرى، وليس له أن يجور؛ لأنّ الوليّ عاقل وليس للعاقل الجور في قسم زوجاته، ولا تفضيل بعضهنّ على بعض، فإن جار وقسم لإحداهنّ أكثر أثم. فإذا أفاق المجنون فالمشهور أنّ عليه القضاء لمن نقص من حقها، ولو قيل بعدم وجوب القضاء على المجنون وبقاء الحقّ في ذمة الوليّ كان وجهاً؛ لأنّ المجنون غير مكلّف، والقضاء تابع للتكليف بالفعل أو ثابت بأمر جديد وهو منتف هنا.
ولو انتفى الميل أو المصلحة لم يجب على الوليّ أن يقسم به. ويظهر من العبارة وجوب القسم به مطلقاً، وهو يتمّ على القول باشتراك الحق بين الزوجين وطلبن ذلك، لكنّ المصنف لا يقول به كما سيأتى(1) ، فعدم الوجوب هنا أجود.
قوله: «وقيل: لا تجب القسمة حتى يبتدئ بها. وهو أشبه».
لا خلاف بين العلماء في وجوب القسم بين الزوجات في الجملة؛ لما فيه من العدل بينهنّ، وتحصينهنّ، والمعاشرة بالمعروف المأمور بها، ولأن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) مات عن تسع وكان يقسم لثمان منهنّ؛ لأنّ سودة بنت زمعة وهبت ليلتها لعائشة حين أراد النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) طلاقها؛ لما كان بها من الكبر، فسألته أن يتركها في جملة أزواجه ووهبت ليلتها لعائشة(2). ومنه استفيد جواز هبة الليلة. والتأسي به(صلی الله علیه و آله و سلم) واجب.
وهل هي واجبة بنفس العقد والتمكين، أم يتوقف على الشروع فيها؟ قولان مبناهما
ص: 18
...
___________________________________________
على أنها هل هي حقّ للزوج ابتداءً أو لهما؟ فذهب الشيخ في المبسوط (1)، ومن تبعه(2) إلى الأول، فلا يجب إلّا إذا شرع؛ لأنّه بشروعه اقتضى تخصيص الأولى، والعدل واجب بين الزوجات، وهو الذي اختاره المصنّف.
ويدلّ عليه أنّ حقّ الاستمتاع ليس للزوجات، ومن ثمّ لم يجب على الزوج بذله لهنّ إذا طلبنه وإن بات عندهنّ. والجماع لا يجب إلا في كل أربعة أشهر كما مرّ(3)، والمتيقّن كونه حقاً للزوج فله طلبه متى شاء، والإعراض عنه كذلك. وإنّما وجب إكمال الدور مع الابتداء به مراعاة للعدل، ولظاهر قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ)(4) ، فإنّه يدلّ على أنّ الواحدة كالأمة لا حق لها في القسمة المعتبر فيها العدل، ولو وجبت لها ليلة من الأربع لساوت غيرها، وكلّ من قال بعدم الوجوب لها قال بعدمه للأزيد إلا مع الابتداء بواحدة فتجب التسوية؛ لأصالة براءة الذمة من وجوبها في محل النزاع.
والمشهور بين الأصحاب وجوب القسمة ابتداء ؛ للتأسي بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد كان يقسم بينهنّ كذلك دائماً ، حتى كان يطاف به في مرضه محمولاً(5) فيبيت عند كل امرأة ليلة حتّى حللنه أن يبيت عند عائشة، وكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك»(6)، يعني من جهة الميل القلبي، ولقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(7) والأمر للوجوب. وليس الأمر هنا للمرّة بل هو للتكرار، وليس في كل الأوقات، فبقي أن يكون بحسب ما تقتضيه
ص: 19
...
_______________________________________
القسمة؛ إذ لا قائل بثالث، ولإطلاق الأمر بها في قول الباقر(علیه السلام):« قسم للحرّة الثلثين من ماله ونفسه وللأمة الثلث من ماله ونفسه»(1) .
وفي كلّ واحد من هذه الأدلّة نظر؛ لأنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) لم يكن يفعل ذلك على وجه الوجوب؛ لما تقدم(2) من أنّ الأصحّ عدم وجوب القسمة عليه(صلی الله علیه و آله و سلم) ؛ لقوله تعالى: (تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ)(3)، والتأسي به إنّما يجب فيما يجب لا فيما يستحب.
وأيضاً فإنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) تركهنّ شهراً واعتزل في غرفة بسبب موجدة وجدها على بعضهن(4) ؛ ولم يكن الإيذاء والتقصير الموجب له صدر عن جميعهنّ. فلو كان واجباً عليه لاقتصر على هجر المستحقة له خاصة.
والمعاشرة بالمعروف لا تدلّ على وجوب المبيت عندهنّ بإحدى الدلالات، بل يمكن تحققها بدون ذلك، كالإيناس، والإنفاق، وتحسين الخلق، والاستمتاع في النهار أو في الليل مع عدم استيعاب الليلة بالمبيت بل مع عدم المبيت على الوجه الذي أوجبه القائل، بل يمكن تحصيل المعاشرة بالمعروف وزيادة في الأوقات مع عدم مبيته عندهن على ذلك الوجه، وفواتها أو أهمها مع المبيت حيث يقتصر على أقلّ الواجب. وبالجملة فدلالتها على وجوب القسمة دائماً بعيدة جداً.
وأمّا الرواية ففيها أوّلاً: ضعف السند.
وثانياً: تضمّنها ما ليس بواجب وهو أنه يقسم للحرّة الثلثين من ماله وللأمة الثلث منه وهو قرينة إرادة عدم الوجوب من الخبر، وعلى تقدير حمله على ظاهره يلزم منه ما هو
ص: 20
•فمن له زوجة واحدة فلها ليلة من أربع وله ثلاث يضعها حيث شاء وللاثنتين ليلتان، وللثلاث ثلاث والفاضل له. ولو كان له أربع كان لكلّ واحدة ليلة بحيث لا يحلّ له الإخلال بالمبيت، إلا مع العذر أو السفر أو إذنهنّ أو إذن بعضهن فيما تختص الآذنة به.
_________________________________________
خلاف الإجماع، وهو الأمر بإعطاء الحرّة الثلثين من النفس الشامل ذلك لثلثي الوقت، وذلك غير واجب إجماعاً. وهذا كله يدلّ على الاستحباب، ونحن نقول به.
قوله: «فمن له زوجة واحدة فلها ليلة من أربع» إلى آخره.
هذا تفريع على المشهور من وجوب القسمة ابتداءً مطلقاً. وتحرير الواجب من القسمة على هذا التقدير بفرض دور القسمة الواجبة أربع ليال؛ لأن الله تعالى أباح له أن ينكح أربع نسوة لا أزيد، فللزوجة من الأربع ليلة، ثمّ إن لم يكن له غيرها بقي له من الدور ثلاث ليال يبيتها حيث يشاء، فإذا انقضت الأربع وجب أن يبيت عندها ليلة ثمّ يفعل في لياليه الثلاث ما شاء، وهكذا. ومن كان له زوجتان فلكلّ واحدة ليلة تبقى له من الدور ليلتان يبيتهما حيث يشاء، وله تخصيص واحدة منهما بهما ، وإن كانت التسوية بينهما أفضل.
ومن كان له ثلاث زوجات فلهنّ ثلاث ليال وتبقى له من الدور ليلة يضعها حيث يشاء، ويخصها بمن شاء منهنّ، وقسمتها بينهن وبين بعضهن على التساوي والاختلاف.
ومن كان له أربع كمل الدور لهنّ، ولم يكن له الإخلال بالمبيت عند صاحبة الليلة أبداً مع الاختيار وعدم إذنها، وكلّما فرغ من الدور استأنف للأولى على الترتيب الذي فعله في الدور الأول.
وعلى ما اختاره المصنّف من عدم وجوبها - إلا إذا ابتدأ بها - لا يجب القسم للزوجة الواحدة مطلقاً، بل له أن يبيت عندها متى شاء ويعتزلها متى شاء. وإن كان له اثنتان جاز له ترك القسم بينهما ابتداءً بحيث لا يبيت عند واحدة منهما، بل يبيت وحده في بيت منعزل عنهما عند أمة أو نحوها ممّن لا قسمة لها أو في المسجد أو عند صديق، فإن بات عند واحدة منهما ليلةٌ وجب عليه أن يبيت عند الأخرى ليلة مراعاة للعدل بينهنّ، ولما فيه من
ص: 21
• وهل يجوز أن يجعل القسمة أزيد من ليلة لكلّ واحدة؟ قيل: نعم والوجه اشتراط رضاهنّ.
_____________________________________
المعاشرة لهنّ بالمعروف المأمور بها (1)، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل أو ساقط»(2). فإذا ساوى بينهما في ذلك جاز له اعتزالهما وترك القسمة إلى أن يريد المبيت عند إحداهما فيلزمه ذلك للأخرى، وهكذا. وكذا القول فيمن له ثلاث أو أربع. ومتى ساوى بينهنّ جُمَع ثمّ أعرض عنهن جاز كما في الابتداء.
وممّا يتفرّع على القولين أنّه لو كان عنده منكوحات لا قسمة لهنّ كالإماء، فعلى الأوّل ليس له أن يبيت عندهنّ إلا في الفاضل له من دور القسمة، فلو كان عنده أربع منكوحات بالعقد الدائم لم يكن له أن يبيت عند الأمة مطلقاً إلّا بإذن صاحبة الليلة.
وعلى القول الآخر يجوز له أن يبيت ابتداءً عند من لا تجب لها القسمة، ويستمرّ على ذلك مع واحدة منهنّ أو أزيد أو عند الجميع مساوياً أو مفاضلاً إلى أن يبيت عند مستحقة القسمة ليلةً، فيجب المبيت عند الباقيات من ذوات القسمة إن كان عنده أزيد من واحدة. فإذا ساوى بينهنّ جاز له العدول إلى من لا تستحق القسمة كما مر مستمراً إلى أن يرجع إلى ذوات القسمة، وهكذا.
قوله: وهل يجوز أن يجعل القسمة أزيد من ليلة لكل واحد؟» إلى آخره.
إذا قلنا بوجوب القسمة ابتداء أو أرادها حيث يكون عنده أزيد من واحدة فأقل القسمة بينهنّ ليلة ليلةً، ولا يجوز النقصان عنها؛ لأنه ينغص العيش ويبطل الاستئناس ولأنّ أجزاء الليل يعسر ضبطها غالباً.
ص: 22
...
___________________________________________
وهل يجوز أن يجعلها أزيد من ليلة؟ قيل: نعم، ذهب إليه الشيخ في المبسوط (1)وجماعة(2)؛ للأصل، وحصول الغرض حيث تحصل التسوية بينهنّ في الزمان، ولأنّ الحق له فتقديره إليه، وحقهنّ إنّما هو في العدل والتسوية وهو متحقق.
وقيل: لا تجوز الزيادة على ليلة؛ تأسياً بالنبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) ، ولما فيه من الإضرار والتغرير؛ إذ قد يحصل لبعضهنّ القسم، ويلحقه ما يقطعه عن القسم للباقيات(3). وهذا هو الذي اختاره المصنّف والمتأخّرون (4).
وفيه نظر؛ لما تقدّم من أنّ فعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان على وجه الاستحباب(5) ، ولا شبهة في رجحان كونه ليلةً، ولا يدلّ على المنع من الزائد ولحوق الضرر بالزيادة عن الليلة مطلقاً ممنوع، بل ربما كانت الزيادة عنها بمثل الليلتين والثلاث أنسب بحالهن وأقرب إلى مطلوبهنّ. وحصول العارض المانع من إكمال القسمة مشترك بين الليلة والأزيد، ولو سلّم أمكن تقييد الجواز بما لا يوجب الضرر عادةً.
وعلى القول بجواز الزيادة هل يتقدّر بقدر ؟ ليس في الأدلة ما يقتضي الحصر في عدد، إلّا أنّ المدة الطويلة كالسنة ممتنعة قطعاً، من حيث انتفاء المعاشرة بالمعروف معها، وبالإضرار بها غالباً. وفي المبسوط قدّرها بثلاث ليال واعتبر في الزائد عنها رضاهن(6). ويظهر من ابن الجنيد جواز جعلها سبعاً. وفي القواعد أطلق عدم تقديرها كثرة من غير تقييد برضاهن (7).
ص: 23
•ولو تزوّج أربعاً دفعةً رتبهنّ بالقرعة. وقيل: يبدأ بمن شاء حتى يأتي عليهن، ثمّ تجب التسوية على الترتيب. وهو أشبه.
________________________________________
وقد عرفت أنه لا دليل على الحصر إلّا من جهة العموم، كالإضرار ونحوه، وإن كان الاقتصار على الليلة أولى؛ للتأسّي. وموضع الخلاف مع تساويهنّ في الاستحقاق، أما مع التفاضل فلا إشكال في جواز القسمة أزيد من ليلة، كما سيأتي(1).
قوله: «ولو تزوّج أربعاً دفعةً رتبهنّ بالقرعة. وقيل: يبدأ بمن شاء حتى يأتي عليهنّ ثمّ تجب التسوية على الترتيب. وهو أشبه».
إذا أراد الابتداء بالقسمة، سواء أو جبناها ابتداء أو مع اختيارها، ففي كيفيّة البدأة قولان: أحدهما: أنّه يحكم بالقرعة فمن خرج اسمها بدأ بها، فإن كانتا اثنتين اكتفى بالقرعة مرّةً واحدةً؛ لأنّ الثانية تعينت ثانياً، وإن كنّ ثلاثاً أقرع بين الباقيتين في الليلة الثانية، وإن كنّ أربعاً أقرع بين الثلاث ثانياً ثم بين الاثنتين ثالثاً؛ تحرزاً عن التفضيل والترجيح، ولأنّه ليس واحدة منهنّ أولى بالتقديم من الأخرى، فالتقديم بالقرعة عدل. ولأنّ تقديم واحدة بغير قرعة يقتضي الميل إليها، فيدخل في الوعيد السابق من الخبر النبوي: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل»(2) .
ولأنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) كان يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً ويصحب من أخرجتها القرعة(3) .
صلى الله عليه وسلم والثاني : أنّه لا تجب القرعة، بل يجوز أن يبدأ بمن شاء منهنّ ثمّ يختار ثانياً وثالثاً إلى أن يأتي عليهنّ للأصل، ولأنّه على القول بعدم وجوب الابتداء بالقسمة بسبيل(4) من الإعراض عنهنّ جميعاً ، وما لم يبت عند بعضهنّ لا يلزمه شيء للباقيات، فلا يحتاج إلى
ص: 24
...
___________________________________________
القرعة ابتداء، وهذا أقوى، وهو الذي اختاره المصنّف والأكثر .
ويتخرّج في المسألة وجه ثالث وهو أنّه لا تجب القرعة ابتداءً ولكن تجب بين الباقيات إذا كنّ أزيد من واحدة، أمّا الأوّل، فلما قلناه من عدم وجوب الابتداء بالقسمة، وأنّه لا تجب إلا إذا ابتدأ بواحدة فيجب الإكمال للباقيات. فعند إرادة القسمة لم يتعلّق به وجوب حتى يقرع بين أفرادهنّ المتعدّدة فيه، وإنّما وجب للباقي بمبيته عند وجب للباقي بمبيته عند الأولى وقد كان بمجرّد الاختيار، فإذا تمت نوبتها وجب حينئذٍ القسم للباقيات، فإذا تعدّدن اعتبر التقديم بالقرعة؛ لعدم الأولوية مع اشتراكهنّ في الوجوب.
إذا تقرر ذلك فنقول: إذا أقرع بينهنّ وتمت النوب فلا حاجة إلى إعادة القرعة، بل يراعى ما اقتضته من الترتيب الأوّل وجوباً أو استحباباً. هذا إذا أوجبنا القسمة مطلقاً أو أراد العود إليها على الاتصال.
أما لو أعرض عنهنّ مدّةً طويلة ففى وجوب البناء على الترتيب السابق نظر؛ لأن القسمة الحاضرة حقّ جديد لا تعلّق له بالسابق، بل يحتمل سقوط اعتباره وإن عاد على الاتّصال حيث لا يوجبها مطلقاً؛ لأنّ كلّ دور على هذا التقدير له حكم برأسه.
ولو بدأ بواحدة من غير قرعة على القول بوجوبها فقد أساء، ويقرع بين الباقيات. وهل يعود بعد تمام النوب إلى التي بدأ بها ظلماً حيث يعتبر العود إلى الترتيب الأول؟ وجهان، من حصول الترتيب في نفسه وإن اقترن بالظلم، ومن سقوط اعتبار البدأة شرعاً فتعتبر القرعة كما لو ابتدأ بالقسم. وهذا أجود.
يقي البحث في أمرين:
أحدهما: أنّ الخلاف في وجوب القرعة وعدمها واقع على القولين السابقين، أعني وجوب القسمة ابتداءً أو مع البدأة بها، كما أشرنا إليه سابقاً (1). وقد صرّح بذلك الشيخ
ص: 25
...
______________________________________
في المبسوط حيث لم يوجبها ابتداءً وأوجب البدأة بالقرعة، فقال:
إذا كان للرجل زوجات لا يجب عليه القسم ابتداءً ؛ لأنّه حقّ له ، فإذا أسقطه لا يجبر عليه . - ثمّ قال: - فأمّا إن أراد أن يبتدئ بواحدة منهن فيجب عليه القسم؛ لأنّه ليس واحدة منهنّ أولى بالتقديم من الأخرى، فعليه أن يقسم بينهنّ بالقرعة، فمن خرجت له القرعة قدّمها. هذا هو الأحوط وقال قوم: قدّم من شاء منهنّ (1). انتهى كلامه.
وهو صريح في إيجابه القرعة على القول بعدم وجوب القسمة ابتداءً وإن كان قد جعله أخيراً أحوط.
ولكن العلّامة في القواعد بنى القول بوجوب القرعة على القول بوجوب القسمة ابتداء، فقال: وهل يبتدئ بالقرعة أو الاختيار؟ يبنى على الوجوب وعدمه(2).
وهذا البناء ليس بجيّد؛ لما عرفت من وقوع الخلاف على القولين. ويمكن حمل كلامه على بناء الحكم بوجوب القرعة على القولين عنده لا بناؤه في نفسه، بمعنى أنّه إن قال بوجوب القسمة مطلقاً القسمة مطلقاً يقول بوجوب القرعة وإلّا فلا. وله وجه حسن؛ لأنّه مع وجوبها يشترك الجميع في استحقاق القسمة، فالبدأة بواحدة دون أخرى ترجيح من غير مرجح وميل منهي عنه، بخلاف ما إذا لم يوجبها إلا مع الابتداء، فإنّه عند الابتداء بالأولى لا استحقاق لواحدة منهنّ، وإنّما تعلّق حقهن بتمام الليلة كما أشرنا إليه سابقاً(3). وعلى هذا لا يتوجّه عليه النقض بحكم الشيخ في المبسوط بوجوب القرعة مع عدم وجوب الابتداء بالقسمة؛ لأنه بناء الحكم عنده لا مطلقاً، والشارحان فهما منه إرادة الإطلاق فأوردا عليه كلام الشيخ (4).
ص: 26
•والواجب في القسمة المضاجعة لا المواقعة.
• ويختص الوجوب بالليل دون النهار. وقيل: يكون عندها في ليلتها، ويظلّ عندها في صبيحتها وهو المروي.
_______________________________________________
الثاني: فرض المصنف الحكم فيما لو تزوّج أربعاً دفعةً على وجه المثال لا الحصر؛ لأنّ الخلاف يجري وإن تزوّجهنّ على الترتيب، أمّا على القول بعدم وجوب الابتداء بالقسمة فظاهر؛ إذ لو كان معرضاً عمّن تزوّجهنّ أوّلاً ثم تزوّج غير هنّ وأراد القسمة جاء في البدأة الخلاف وكذا لو قسم لاثنتين وأكمل الدور لنفسه ثم تزوّج ثالثة. وأما على القول بوجوب القسمة مطلقاً فيأتي الخلاف فيمن تزوّج بها على رأس كل دور بأن بات عند ثلاث ثلاث ليال وتزوّج رابعة، أو عند اثنتين ليلتين وتزوّج ثالثة أو اثنتين.
قوله: «والواجب في القسمة المضاجعة لا المواقعة».
المراد بالمضاجعة أن ينام معها على الفراش قريباً منها عادة، معطياً لها وجهه دائماً أو أكثرياً، بحيث لا يعدّ هاجراً وإن لم يتلاصق الجسمان أو بعضهما. ولا تعتبر المواقعة؛ لما تقدّم من أنّها لا تجب إلّا في كلّ أربعة أشهر مرّةً (1)، ولأنها غير مقدورة في كل وقت وإنّما يناط بالنشاط والشهوة وهي لا تؤاتى حيث يريد، بل هو حق له فأمره بيده عداما استثني .
قوله: ويختصّ الوجوب بالليل دون «النهار» إلى آخره.
عماد القسم الليل، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ)(2) ، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا )(3) والنهار في ذلك تبع؛ لأنّه وقت التردّد والانتشار في الحوائج فلا تجب فيه القسمة، لكن يستحبّ أن يجعل النهار لصاحبة الليلة مبتدئاً بالليل؛ لأنّه المعتبر في التواريخ الشرعية، ويجوز العكس.
ص: 27
...
___________________________________________
ويظهر من الشيخ في المبسوط وجوب الكون معها نهاراً؛ لأنه قال:
وكلّ امرأة قسم لها ليلاً فإنّ لها نهار تلك الليلة، ولكن حكمه ليس كالليل، فإنّه يجوز الدخول نهاراً إلى الضرّة لعيادة وزيارة وحاجة كإعطاء النفقة ونحوها على القولين. وإنّما تظهر فائدته في عدم جواز اللبث معها لغير حاجة ولا لجماع، بخلاف الليل، فإنّه لا يجوز إلا لضرورة، كعيادة مريضة.
هكذا قرّره الشيخ(1) ، ولم ينقل المصنّف ولا غيره خلافه.
والقول الذي نقله بوجوب الكون في صبيحة الليلة عندها لابن الجنيد، فإنّه قال:
العدل بين النساء هو إذا كن حرائر مسلمات لم يفضّل إحداهن على الأخرى في الواجب لهنّ من مبيت بالليل وقيلولة صبيحة تلك الليلة(2).
واستدلّ له المصنف(3) وغيره(4) ، برواية إبراهيم الكرخي، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل له أربع نسوة فهو يبيت عند ثلاث منهنّ في لياليهن ويمسهنّ، فإذا نام عند الرابعة في ليلتها لم يمسها، فهل عليه في هذا إثم؟ قال: «إنّما عليه أن يكون عندها في ليلتها ويظلّ عندها صبيحتها، وليس عليه أن يجامعها إذا لم يرد ذلك»(5). وإلى هذه الرواية أشار المصنّف بقوله «وهو المروي».
وفي دلالة الرواية على مذهب ابن الجنيد نظر؛ لأنّ الصبيحة تطلق لغةً على أوّل النهار(6) .
ص: 28
•وإذا كانت الأمة مع الحرّة أو الحرائر فللحرّة ليلتان وللأمة ليلة.
________________________________________________________
والقيلولة التي أوجبها ابن الجنيد تكون في وسط النهار؛ لأنّها - لغة - النوم نصف النهار (1). ومع ذلك ليس في كلام ابن الجنيد أن يكون معها في الصبيحة بل فى القيلولة خاصةً، وهذا بخلاف ما في هذه الرواية. والأولى حمل الرواية على الاستحباب؛ لقصورها عن إفادة حكم الوجوب من حيث السند والأمر في الاستحباب أسهل. وكذا الحكم في بقية النهار.
وهذا كله فيمن لا يكون كسبه ليلاً كالحارس والأتوني(2) وإلا فعماد القسمة في حقهما وأشباههما النهار، وحكم الليل عندهم كنهار غيرهم والنهار كالليل عند غيرهم في جميع ما ذكر. ولو اختلف عمله فكان يعمل تارة بالليل ويستريح بالنهار، ويعمل أخرى بالنهار ويستريح بالليل وجب عليه مراعاة التسوية بين زوجاته بحسب الإمكان، فإن شق عليه ذلك لزمه لكلّ واحدة ما يتفق في نوبتها من ليل أو نهار.
قوله: «وإذا كانت الأمة مع الحرّة أو الحرائر فللحرّة ليلتان وللأمة ليلة».
إذا كان له زوجة أمة مع حرّة حيث يجوز الجمع بينهما - بأن يكون عبداً، أو قد تزوج الأمة أوّلاً لفقد شرط الحرّة ثم وجده فتزوّج الحرّة - فالمشهور أن للأمة نصف حق الحرّة. ولما كانت القسمة لا تصح من دون ليلة كاملة جعل للحرّة ليلتان وللأمة ليلة، وليكن ذلك من ثمان جمعاً بين حقهما وحقّ الزوج، فيكون له منها خمس ليال ولهما ثلاث هكذا ذكره جماعة من المتأخرين (3).
ولا يخلو من نظر؛ لأنّ تنصيف الليلة في القسمة يجوز لعوارض كما سيأتي(4) - وإن لم يجز التنصيف ابتداءً فلا مانع من كونه هنا كذلك. ولمّا كان الأصل في دور القسمة أربع ليال فالعدول إلى جعله من ثمان بمجرد ذلك مشكل، خصوصاً إذا قيل بجواز جمع ليلتي
ص: 29
•والكتابية كالأمة في القسمة، فلو كان عنده مسلمة وكتابية كان للمسلمة ليلتان وللكتابية ليلة. ولو كانتا أمةً مسلمةً وحرّةً ذميّةً كانتا سواء فى القسمة.
___________________________________________
الحرّة من الثمان؛ لأنّ ذلك خلاف وضع القسمة شرعاً .
وهذا كله إذا أوجبنا القسمة ابتداء. أما لو لم نوجبها إلّا مع الابتداء بها وفى الحرّة والأمة بما ذكر ولاءً (1)وسقط حقّهنّ إلى أن يبتدئ بإحداهنّ من غير اعتبار دور. وكذا القول في باقي الصور الآتية.
وذهب المفيد إلى أنّ الأمة لا قسمة لها مطلقاً(2). والأصحّ المشهور؛ لصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: سألته عن الرجل يتزوّج المملوكة على الحرّة، قال: «لا، فإذا كانت تحته امرأة مملوكة فتزوج عليها حرّة قسم للحرّة مثلي ما يقسم للمملوكة»(3). وفي معناها غيرها(4).
قوله: «والكتابية كالأمة في القسمة» إلى آخره. مساواة الحرّة الكتابية للأمة في القسمة لا نص عليه ظاهراً، لكنه مشهور بين الأصحاب.
وذكر ابن إدريس أنه مروي (5).
وربما استدل له باقتضاء الإسلام أن يعلو على غيره ولا يُعلى عليه(6) ، فلو ساوت المسلمة لزم عدم العلوّ.
وفيه نظر؛ لأنّ مثل ذلك لا يقاوم الأدلة العامة المتناولة لها. وعلوّ الإسلام يتحقق في غير
أداء الحقوق الشرعيّة، فإنّ المسلم والكافر فيه سواء.
ص: 30
فروع:
• لو بات عند الحرّة ليلتين فأعتقت الأمة ورضيت بالعقد كان لها ليلتان؛ لأنّها صادفت محلّ الاستحقاق.
ولو بات عند الحرّة ليلتين ثم بات عند الأمة ليلةً ثمّ أُعتقت لم يبت عندها أُخرى؛ لأنّها استوفت حقها.
ولو بات عند الأمة ليلةٌ ثمّ أُعتقت قبل استيفاء الحرّة، قيل: يقضي للأمة ليلة لأنها ساوت الحرّة. وفيه تردّد.
_____________________________________________
وعلى المشهور لو كانت الزوجة أمةً كتابيّةً كانت على نصف الأمة المسلمة، فيكون لها مع الحرّة المسلمة ربع القسمة، فيكون لها ليلة من ست عشرة، وللحرّة المسلمة أربع، والباقي للزوج حيث لا يكون له غيرهما.
واعلم أنّ اجتماع المختلفات يتشعّب إلى صور كثيرة، وقد عرفت أصولها فلا يخفى عليك حكم باقي الفروع، وحيث يجتمع للزوجة بسبب مصاحبة من دونها أكثر من ليلة يصير الدور هو العدد الخارج منه ما يراد من القسمة كالثمان حيث يكون هناك حرّة وأمة، فالليلتان للحرّة منها بمنزلة الليلة من الأربع، ويتخيّر الزوج بين إيفائها إيّاهما مجتمعتين ومتفرقتين. ويحتمل وجوب جعلهما في كلّ أربع ليلة كما كان لها ذلك قبل دخول الأمة، إلّا مع رضاها بالجمع. وكذا القول في الأربع من الست عشرة مع اجتماعها مع أمة كتابية. ومثله الليلتان منها للأمة المسلمة حيث تجامعها حرّة مسلمة وأمة كتابيّة. وما قرّرناه من الإشكال السابق(1) آت هنا وزيادة، ولا يحصل التخلّص منه لذات العدد الزائد إلّا مع تفريقه، بإعطائها ليلة من كل أربع إن كانت حرّة، ثمّ يشكل في ليلة الأمة من الثمان، وأقوى منه ليلتها من ست عشرة.
قوله: «لو بات عند الحرّة ليلتين فأعتقت الأمة - إلى قوله - وفيه تردّد».
إذا طرأ العتق على الأمة في أثناء الدور فلا يخلو إمّا أن يكون قد ابتدأ في القسم
ص: 31
...
______________________________________
بالحرّة أو بها، فهنا قسمان:
الأوّل: أن يكون البدأة بالحرّة، فإما أن تعتق الأمة في نوبة الحرّة أو في نوبة نفسها. فإن أعتقت في نوبة الحرّة نظر إن أعتقت في القدر المشترك بين الحرّة والأمة - بأن أعتقت في الليلة الأولى - قسم الليلة، وبات الليلة الأخرى عند المعتقة وساوى بينهما. وإن عتقت في الليلة الثانية لم يلزمه الخروج، بل يكمل الليلة عند الحرّة ثم يبيت عند المعتقة ليلتين أيضاً. وإن عتقت في نوبة نفسها نظر إن عتقت قبل تمام ليلتها أكمل لها ليلتين؛ لأنّها التحقت بالحرّة قبل توفية حقها. وإن عتقت بعد تمام ليلتها لم تستحق إكمال الليلتين، واقتصرت في ذلك الدور على ليلة ثمّ يسوّي بينهما بعد ذلك؛ لأنّ عتقها صادف تمام حقها وبراءة الذمة منه. وهذه الصورة قد تقدم البحث فيها في نكاح المشركات (1). وهل العتق في يومها كليلتها؟ يبنى على أنّ القسم هل يختصّ بالليل أم يضاف إليه النهار أم الصبيحة؟ والأقوى أنّه لا يلحق بالليلة مطلقاً.
الثاني: أن تكون البدأة بالأمة، فإن أعتقت في ليلتها صارت كالحرة وسوّى بينهما. وإن أعتقت بعد تمام ليلتها ففي إلحاقها في هذا الدور بالحرّة قولان:
أحدهما: اللحوق بها، فإن كان العتق قبل الشروع في نوبة الحرّة أو بعده إلى آخر الليلة الأولى اقتصر عليها، وإن كان بعد الشروع في الليلة الثانية قضى للأمة ليلةٌ أُخرى؛ لأنّها ساوت الحرّة قبل تمام نوبتها، فيسوي بينهما. وهذا قول الشيخ في المبسوط (2).
والثاني: أنّه يبيت عند الحرّة ليلتين ولا شيء للمعتقة في هذا الدور سوى الليلة؛ لأنّها استوفت حقّها قبل أن تعتق، فلا يجب لها شيء، بل يبتدئ بالقسمة بعد توفية الحرّة حقها.
وهذا أقوى.
والضابط على هذا أنّ الأمة متى أُعتقت بعد استيفاء حقها من النوبة فلا شيء لها،
ص: 32
•وليس للموطوءة بالملك قسمة واحدةً كانت أو أكثر.
• وله أن يطوف على الزوجات في بيوتهن، وأن يستدعيهنّ إلى منزله، وأن يستدعي بعضاً ويسعى إلى بعض.
_________________________________________
وأعطيت الحرّة حقها كاملاً، سواء كانت نوبتها متقدّمةً أم متأخرةً، ومتى أعتقت قبل تمام نوبتها أكمل لها نصيب الحرّة.
قوله: «وليس للموطوءة بالملك قسمة واحدة كانت أو أكثر».
هذا الحكم محلّ وفاق. فله مع تعدّدهنّ تخصيص من شاء منهنّ بالمبيت إذا لم تكن له زوجة أو كان وفضل له من الدور شيء فصرفه إلى الأمة.
وبالجملة فحكمهنّ في القسمة حكم المعدومات، فلو كان له زوجة واحدة ولم نوجب القسمة لها من كلّ أربع كان مبيته عند الأمة دائماً بمنزلة الإعراض عن الزوجة ومبيته وحده.
قوله: «وله أن يطوف على الزوجات في بيوتهنّ» إلى آخره.
إذا لم ينفرد الزوج بمسكن ودار عليهنّ في مساكنهنّ(1).فذاك. وإن انفرد بمسكن تخيّر بين المضيّ إليهنّ وبين أن يدعوهنّ إلى مسكنه في نوبتهن؛ لأنّ تعيين المسكن يرجع إليه، كما له نقلهن من مسكن إلى آخر.
والأوّل أفضل؛ تأسياً بالنبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) فقد كان يطوف على نسائه في مساكنهنّ . وله أن يدعو . بعضهن ويمضي إلى مسكن بعضهن، لما ذكرناه من العلة. ومنع بعضهم من هذا القسم؛ لما فيه من التخصيص والخروج عن العدل. ولو كان له عذر في ذلك جاز اتفاقاً، كما إذا كان مسكن إحداهما أقرب إليه فمضى إليها، ودعا الأخرى ليخفّف عن نفسه مؤونة السير إليها،
ص: 33
•وتختصّ البكر عند الدخول بسبع ليال، والثيب بثلاث، ولا يقضى ذلك.
--------------------------------------------------------------------------
أو حضر بيت الشابة كراهة لخروجها، ودعا العجوز وحيث تمتنع المدعوة مع قدرتها على الإجابة فهي ناشزة تسقط نفقتها وقسمتها.
قوله: «وتختص البكر عند الدخول بسبع ليال، والثيب بثلاث، ولا يقضى ذلك».
من أسباب تفضيل بعض الزوجات على بعض تجدّد النكاح، فإنه يقتضي تخصيص الجديدة بزيادة مبيت عند الزفاف، وهي سبع ليال إن كانت بكراً وثلاث إن كانت ثيباً. والمقصود منه أن ترتفع الحشمة وتحصل الألفة والأنس.
وخصت البكر بزيادة؛ لأنّ حياءها أكثر. والأصل فيه ما روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنه قال: «للبكر سبعة أيام وللنيب ثلاث، ثم يعود إلى نسائه»(1) وأنّه(صلی الله علیه وآله و سلم) لما تزوّج أم سلمة أقام عندها ثلاثة أيام(2) .
ومن طريق الأصحاب رواية محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام)في رجل تزوج امرأة وعنده امرأة فقال: «إذا كانت بكراً فليبت عندها سبعاً، وإن كانت ثيباً فثلاثاً»(3). (4)
وذهب الشيخ في النهاية ، وكتابي الحديث إلى أنّ اختصاص البكر بالسبع على وجه الاستحباب، وأمّا الواجب لها فثلاث كالثيب(5) ؛ جمعاً بين رواية محمد ورواية الحلبي عن أبي عبد الله (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إذا تزوّج الرجل بكراً وعنده ثيب فله أن يفضّل البكر ثلاثة أيام»(6). و في معناها رواية الحسن بن زياد (7)، ومقطوعة سماعة(8) .
ص: 34
...
_____________________________________
وقال ابن الجنيد:
إذا دخل ببكر وعنده ثيب واحدة فله أن يقيم عند البكر أوّل ما يدخل بها سبعاً ثم يقسم. وإن كانت عنده ثلاث ثيب أقام عند البكر ثلاثاً حق الدخول، فإن شاء أن يسلفها من يوم إلى أربعة تتمّة سبعة، ويقيم عند كلّ واحدة من نسائه مثل ذلك ثم يقسم لهن جاز. والثيب إذا تزوجها فله أن يقيم عندها ثلاثاً حق الدخول، ثمّ يقسم لها ولمن عنده واحدة كانت أو ثلاثاً قسمة متساوية(1) . انتهى كلامه.
وهذا الحكم إشارة إلى جمع آخر بين الروايات غير ما ذكره الشيخ بحمل خبر السبع للبكر على تقديمها بذلك من غير اختصاص، وأخبار الثلاث على التقديم والاختصاص قريب مما ذكره العامة في ذلك(2) إلا أنّهم خصوا هذا الحكم بالنيب: استناداً إلى ما رووه عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه لما أقام عند أُم سلمة (رضي الله عنها) ثلاثاً قال لها: «إنّه ليس بك هوان أهلك إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة لك، وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي» قالت: تقيم معي ثلاثاً خالصة(3) .
والأشهر بين الأصحاب القول الأوّل، بل لم ينقلوا فيه خلافاً.
إذا تقرّر ذلك فنقول : ظاهر النصّ والفتوى أنّ هذا الحق لهما على جهة القسمة لا على وجه الاستحقاق المطلق، فيأتي فيه الخلاف السابق في وجوبها ابتداء أو مقيداً بالبدأة بإحدى الزوجات، وفيما لو لم يكن عنده غير الجديدة، فلا يختص على الثاني، ويكتفي لها بداعي الطبع. وربما قيل بوجوب ذلك اختصاصاً وتقديماً مطلقاً من غير اعتبار القسمة. والأظهر الأوّل ومحلّ التخصيص الليل كأصل القسمة، وهو اللائح من تأنيث الثلاث
ص: 35
...
___________________________________________
والسبع في النصوص، وأما النهار فتابع لليل كما ذكر في القسمة.
وفي قوله «ولا يقضى ذلك» تنبيه على خلاف ابن الجنيد بقضائه على بعض الوجوه، وقول بعض العامة بقضائه مطلقاً أو على بعض الوجوه أيضاً (1)، وقد أشرنا إلى بعضه.
وإطلاق النصوص يقتضي عدم الفرق في الثيب بين من ذهبت بكارتها بجماع وغيره ولا بين كون الجماع محللاً ومحرّماً ؛ عملاً بالعموم(2) .
وللعامة وجه بإلحاق من ذهبت بكارتها بغير الجماع بالبكر ، لمساواتها لها في الحكم بعدم الاستنطاق في النكاح (3).
وبقي في المسألة مباحث:
الأوّل: يجب التوالي في الثلاث والسبع؛ لأنّ الغرض لا يتم إلا به. ويتحقّق بعدم خروجه في الليل إلى عند واحدة من نسائه مطلقاً على حد ما يعتبر في القسمة، ولا إلى غيرها لغير ضرورة أو طاعة كصلاة جماعة ونحوها مما لا يطول زمانه وإن كان طاعةً؛ لأنّ المقام عندها واجب فهو أولى من المندوب.
ولو فرّق الليالي أساء، وفي الاحتساب به وجهان، من امتثال الأمر بالعدد فكان ذلك بمنزلة القضاء، ومن اشتمال التوالي على غاية لا تحصل بدونه، كالأنس وارتفاع الحشمة والحياء.
الثاني: لا فرق في الزوجة هنا بين الحرّة والأمة المسلمة والكتابية - حيث يجوز ابتداءً تزويجها - عملاً بالعموم(4) ، ولأنّ المقصود من ذلك أمر يتعلق بالطبع، وهو لا يختلف بالرق والحرية ولا بالإسلام والكفر ، كما يشترك الجميع في مدة العنّة والإيلاء.
ص: 36
..
__________________________________
وقيل: يتشطر للأمة ما تستحق الحرّة كالقسم في دوام النكاح(1). وقربه في التحرير(2). وعليه ففي كيفية التشطير وجهان: أحدهما: أن يكمل المنكسر فيثبت للبكر أربع ليال وللثيب ليلتان. وأصحهما: أنّ للبكر ثلاث ليال ونصفاً وللثيب ليلة ونصفاً؛ لأنّ المدّة قابلة للتنصيف، فيخرج عند انتصاف الليل إلى بيت منفرد أو مسجد.
ويعتبر في الحرّية والرقية بحالة الزفاف، فلو نكحها وهي أمة وزفّت إليه وهي حرّة فلها حق الحرائر على القولين. وإن أعتقت في أثناء المدّة ففي اعتبار حق الإماء أو الحرائر ،وجهان أجودهما الثاني وقد سبق نظيره في نكاح المشركات إذا تبدل الرق بالحرية(3).
الثالث: لو قضى حق الجديدة ثمّ طلّقها ثمّ راجعها لم يعد حق الزفاف؛ لأنّها باقية على النكاح الأول وقد وفي حقها، ومن ثم لو طلقها بعد ذلك كان طلاق مدخول بها فتجب العدّة وإن لم يدخل بعد الرجعة. ولو أبانها ثم جدد نكاحها ولو في العدة فالأصح تجدّد الحق، لعود الجهة بالفراق المبين ويحتمل عود الأول.
ومثله ما لو أعتق مستولدته أو أمته التي هي فراشه ثم نكحها. ولو كان قد أبانها قبل عند أن يوفيها حقها ثم جدد نكاحها لزمه التوفية؛ لأنّه ظلم بالطلاق. وعلى هذا فلو أقام البكر ثلاثاً واقتضها ثمّ أبانها ثم نكحها وجب أن يبيت عندها ثلاثاً حق زفاف الثيب. ولو قلنا بعود الأوّل وجب أن يبيت عندها أربعاً؛ لأنّ حق الزفاف في النكاح الثاني على هذا يبنى على النكاح الأول، وقد بقي منه هذا المقدار.
الرابع: قد عرفت أنّ للجديدة حق الاختصاص بالعدد المذكور والتقدّم به على غيرها. فإن زفّت إليه بعد تمام الدور حصل لها الاختصاص خاصّةً. وكذا لو تزوجها على واحدة. ولو كان عنده امرأتان فزفّت إليه جديدة بعدما قسم لإحداهما دون الأخرى قضى حق
ص: 37
•ولو سيق إليه زوجتان أو زوجات في ليلة قيل: يبتدئ بمن شاء، وقيل: يقرع. والأوّل أشبه، والثاني أفضل.
• وتسقط القسمة بالسفر. وقيل: يقضي سفر النقلة والإقامة دون سفر الغيبة.
------------------------------------------------------------------------------------
الزفاف، وتحقق هنا الاختصاص والتقديم، ثمّ قسم للقديمة الأُخرى، وأعطى الجديدة نصف ما وفى القديمة؛ لاستحقاقها حينئذٍ ثلث القسم. فإن كان قد قسم للأُولى ليلة وفى الأُخرى بعد حق الزفاف ليلة وبات عند الجديدة نصف ليلة وخرج بقية الليلة إلى مسجد ونحوه، ثم استأنف القسم بينهنّ على السوية. ولو قسم للأُولى خمس عشرة وتزوج بكراً خصها بسبع، ثم قسم ثلاثاً للقديمة وواحدة للجديدة خمسة أدوار.
الخامس: لو تزوّج في أثناء القسم ظلم من بقي بتأخير حقها بعد حضوره، ولا يؤثر في تقديم الجديدة. ويجب التخلّص من مظلمة المتأخرة على الوجه الذي ذكرناه.
قوله: «ولو سيق إليه زوجتان أو زوجات في ليلة» إلى آخره.
قد تقدم البحث في هذه المسألة(1) ، وإنّما أعادها لينبه هنا على اشتراك الجديدات في الاختصاص والتقديم على غير هنّ من القديمات، والأولى تضمّنت البدأة بواحدة بالقرعة أو التخيير أعم من أن يكون معهنّ غير هنّ أم لا. وإنّما يبتدئ بمن شاء أو يقرع حيث يتزوجهنّ ويزففن إليه دفعةً واحدةً، فلو ترتبن بدأ بالسابقة. ويكره زفافهن دفعة. وحيث تخرج القرعة لإحداهن قدمها بجميع السبع أو الثلاث.
ويحتمل تقديمها بليلة ثم يبيت عند الأخرى ليلةٌ، وهكذا يفعل إلى تمام المدة، والأقوى الأول. ويحتمل تخييره بين الأمرين وما يتشعب منهما ، كتخصيص الأولى بليلتين أو ثلاث ثمّ الثانية إلى أن يكمل العدد والحكم في استحباب القرعة وجواز التخيير كما سبق(2).
قوله: «وتسقط القسمة بالسفر. وقيل: يقضى سفر النقلة والإقامة دون سفر الغيبة».
إذا أراد الزوج السفر وأحب استصحاب بعض أزواجه دون بعض جاز، فقد كان النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم)
ص: 38
...
____________________________________________
يفعل ذلك ، فإذا صحب بعضهنّ فلا قضاء للمتخلّفات عن زمان صحبة المسافرة معه؛ لأنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ينقل أنّه كان يقضي للمتخلّفات، ولو وقع لا شبهة أن ينقل مع ذكر سفره بمن خرج اسمها، بل في بعض الروايات أنه لم يكن يقضي صريحاً .
ويؤيده أنّ المسافرة وإن حظّت بصحبة الزوج فقد تعبت بالسفر ومشاقّه، ولم يحصل لها دعة الحضر، فلو قضى لهنّ كان حظهنّ أوفر ، وهو خلاف العدل، أو ميل كلّ الميل .
وشرط بعضهم في عدم القضاء أن يصحب الخارجة بالقرعة ، فلو أخرجها بمجرد التخيّر والميل قضى؛ لأن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) ما كان يخرج معه واحدة إلا بالقرعة، فمن ثم لم يقض، بخلاف ما لو أخرجها بالتشهي؛ لأنه ميل وظلم بالتفضيل ولم يشترط ذلك المصنّف؛ لأنّ السفر لا حق للنساء فيه، ومن ثمّ جاز انفراده. وفيه الفرق بين الأمرين.
وعلى تقدير عدم القضاء مطلقاً أو مقيداً بالقرعة هل يعمّ كلّ سفر، أو يختص بسفر الغيبة؟ قولان:
أحدهما - واختاره المصنّف - العموم؛ لما ذكرناه من أنّ السفر لا حق لهنّ فيه، ولا مزيّة لسفر على سفر. ولأنّ الاشتغال بمشقة السفر ووعثائه يمنع من حقوق القسمة وخلوص الصحبة والتفرّد بالخلوة التي هي غاية القسمة.
ص: 39
• ويستحبّ أن يقرع بينهنّ إذا أراد استصحاب بعضهن. وهل يجوز العدول عمّن خرج اسمها إلى غيرها؟ قيل : لا ؛ لأنّها تعيّنت للسفر. وفيه تردّد.
_____________________________________
والثاني: الاختصاص بسفر الغيبة، كالسفر لتجارة أو غيرها من الأغراض مع عزم العود عند قضاء الوطر فيقضي سفر النقلة وهو الذي يخرج على نيّة الانتقال إلى بلد آخر. والفرق أنّ سفر النقلة لا يختصّ ببعضهنّ، بل يحتاج إلى نقلهن جميعاً، فلا يخصّص واحدة بالاستصحاب كما في الحضر، فإن صحب بعضهنّ قضى بخلاف غيره من الأسفار؛ إذ لا حقّ لهنّ فيه.
وفي حكم سفر النقلة الإقامة في سفر الغيبة بحيث يخرج عن اسم المسافر بالتمام أو ما في معناه؛ لأنه بالإقامة على ذلك الوجه يصير كالحاضر في التمتع بالزوجة والخروج عن مشقة السفر.
وفيه قول آخر بالتفصيل والفرق بين إخراجها معه هنا بالقرعة وعدمها فيه، فيقضي في الثاني دون الأوّل كالأوّل (1).
وفي المبسوط اقتصر على نقل القولين ولم يرجّح شيئاً ، لكنّه جزم بأن من أخرجها معه هنا بالقرعة لا قضاء عليه للباقيات، وتردّد في الفرق بين سفر النقلة وغيره(2). والأقوى عدم قضاء أيّام السفر مطلقاً، وقضاء أيّام الإقامة مطلقاً.
قوله: «ويستحبّ أن يقرع بينهنّ إذا أراد استصحاب بعضهن» إلى آخره.
وجه الاستحباب التأسي بالنبي(صلی الله علهی و آله و سلم) ، فإنه كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها أخرجها(3) .
ص: 40
•ولا يتوقف قسم الأمة على إذن المالك؛ لأنّه لا حظ له فيه.
____________________________________________
وكيفية القرعة أن يكتب أسماء النسوة في رقاع بعددهنّ ويدرجها في بنادق متساوية، ويضعها على وجه لا يتميّز ويخرج منها واحدةً على السفر، فمن خرج اسمها صحبها. وإن أراد استصحاب اثنتين معه أخرج رقعةً أُخرى، وهكذا.
ويجوز - والحال هذه - الاقتصار على رقعتين، ويكتب على كلّ واحدة اسم اثنتين إذا رضي باستصحاب كلّ واحدة من الاثنتين. والأوّل أعدل؛ لجواز أن تخرج اثنتان مفترقتين في الرقعتين، وهو لا يحصل بهذه الصورة. وإن شاء أثبت الحضر في ثلاث رقاع والسفر في واحدة وأدرجها ثمّ يخرج رقعة على اسم واحدة فإن خرجت رقعة السفر استصحبها، وإن خرجت رقعة من رقاع الحضر أخرج رقعةً أخرى على اسم الأخرى، وهكذا حتى تبقى رقعة السفر فيتعين المتخلفة. ولو أراد السفر باثنتين أثبت السفر في رقعتين والحضر في رقعتين.
إذا تقرّر ذلك وأخرجت القرعة واحدة أو أكثر حيث يريده لم يجب عليه استصحاب الخارجة، بمعنى جواز أن يخلّفها مع المخلّفات. ولكن هل يجوز تركها واستصحاب غيرها؟ قال الشيخ في المبسوط : لا(1) ، وإلا لانتفت فائدتها. وقيل: يجوز (2)؛ لأنّها ليست من الملزمات؛ لأنّ الاستصحاب تبرّع؛ إذ الزمان لا تستحقّ فيه الزوجات القسم وفائدتها رفع المشقة عن قلوب المتخلّفات حيث لم يصحبها بمجرّد الميل والهوى، وذلك على وجه الأفضلية إذ لم يثبت ما يدلّ على خلافه.
والفرق بين تركها مع المتخلفات وتركها مع أخذ غيرها - حيث جاز الأوّل إجماعاً دون الثاني - أنّ القرعة لا توجب الصحبة وإنما تعيّن من يستحق التقديم على تقدير إرادته. ولا ريب أن مراعاة القرعة أولى.
قوله: «ولا يتوقّف قسم الأمة على إذن المالك ؛ لأنّه لا حظ له فيه».
ص: 41
•وتستحبّ التسوية بين الزوجات في الإنفاق وإطلاق الوجه والجماع
______________________________________
إذا زوّج المولى أمته فعليه تسليمها إلى الزوج ليلاً، وله منعها منه واستخدامها نهاراً. وليس له في حقّ القسمة أمر؛ لأن الغرض منه الاستمتاع والأنس ولا حظ له فيه. فإذا طلبت حقها ليس للمولى منعها منه، ولا منعها من إسقاطه لو أرادته أو وهبته لبعض ضرائرها، كما ليس له فسخ النكاح لو رضيت بعننه أو جنونه؛ لأن ذلك حظها فأمره إليها. وهذا لا كلام فيه.
لكن هل يتوقّف وجوب القسمة لها على وجوب نفقتها كالحرّة؟ وجهان، من أن حقّ القسمة من جملة الحقوق المترتّبة على التمكين ودورانه مع النفقة في الحرّة وجوداً وعدماً، ومن أنّ وجوب نفقة الأمة على الزوج متوقّف على تسليمها إليه نهاراً، وهو غير واجب على المولى، فلا يكون حكمها كالناشز بل كالمسافرة في واجب. وقال الشيخ في المبسوط:
النفقة والقسم شيء واحد، فكل امرأة لها النفقة فلها القسم وكلّ من لا نفقة لها لا قسم لها(1).
وهذا يقتضي عدم وجوب القسم للأمة مع عدم تسليم المولى لها نهاراً؛ لسقوط نفقتها
حينئذ، وإن كان ذلك غير واجب على المولى. ولعلّه الوجه.
قوله: «وتستحبّ التسوية بين الزوجات في الإنفاق وإطلاق الوجه والجماع».
التسوية بينهنّ في القسم حيث لا مرجّح، والإنفاق عليهنّ بقدر الكفاية على ما سيأتي(2).
وأما التسوية بينهنّ في النفقة وحسن العشرة والجماع ومقدماته فليس بواجب؛ للأصل ولقوله تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ)(3) ومثل هذا ميل وليس كلّ الميل، لكنّه يستحب استحباباً مؤكّداً؛ لما فيه من رعاية العدل وتمام الإنصاف.
ص: 42
•وأن يكون في صبيحة كلّ ليلة عند صاحبتها.
• وأن يأذن لها في حضور موت أبيها وأُمها. وله منعها عن عيادة أبيها وأُمها، وعن الخروج من منزله إلا لحق واجب.
__________________________________________
وروى عبد الملك بن عتبة الهاشمي، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الرجل يكون له امرأتان فيريد أن يؤثر إحداهما بالكسوة والعطية أيصلح ذلك؟ قال: «لا بأس بذلك، وأجهد
في العدل بينهما»(1) .
وقد روي في عدل النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بين أزواجه - مع عدم وجوبه كما سبق(2) - أنه كان إذا قسم - بينهنّ لا ينتهى إلى المرأة الأولى إلى تسع، لكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها(3). وكان(صلی الله علیه و آله و سلم) يطوف عليهن فيدنو ويلمس من غير مسيس حتى يفضي إلى التي هي نوبتها فيبيت عندها (4).
وروي أنّ عليّاً(علیه السلام) قال : « من كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة فلا يتوضأ عند الأخرى»(5).
قوله: «وأن يكون في صبيحة كلّ ليلة عند صاحبتها».
قد تقدّم في رواية إبراهيم الكرخي ما يدلّ عليه، وذهاب بعض الأصحاب(6) إلى وجوبه، فلا أقل من الاستحباب.
قوله: «وأن يأذن لها في حضور موت أبيها وأُمها» إلى آخره.
قد عرفت أنّ حق الاستمتاع واجب عليها وهو غير مختصّ بزمان ولا مكان، فليس لها
ص: 43
وأما اللواحق فمسائل:
الأولى: • القسم حق مشترك بين الزوج والزوجة؛ لاشتراك ثمرته. فلو أسقطت حقّها منه كان للزوج الخيار.
____________________________________________
فعل ما ينافيه إلّا بإذنه، ومنه الخروج من بيته ولو إلى بيت أهلها وعيادتهم وشهادة جنائزهم؛ لأنّ غاية ذلك الاستحباب أو الإباحة فتقديم الواجب أولى.
وروى عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (علی السلام)قال: «إنّ رجلاً من الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) خرج في بعض حوائجه فعهد إلى امرأته عهداً أن لا تخرج من بيتها حتى يقدم» قال: «وإنّ أباها مرض فبعثت المرأة إلى النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) تستأذنه أن تعوده، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك». قالت: «فثقل فتأمرني أن أعوده؟ فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك»، قال: «فمات أبوها فبعثت إليه أن أبي قد مات فتأمرني أن أصلي عليه؟ فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك». قال: «فدفن الرجل فبعث إليها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إن الله قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك»(1).
وروى العامّة عن ثابت البناني عن أنس مثله(2).
ومع ذلك فيستحب للرجل أن لا يضيق عليها في ذلك، ويأذن لها في زيارة أهلها وعيادة مرضاهم وحضور ميتهم ونحو ذلك، كيلا يؤدّي إلى الوحشة وقطيعة الرحم.
قوله: «القسم حق مشترك بين الزوج والزوجة» إلى آخره.
الحكم باشتراك حق القسم بين الزوجين لا يوافق ما ذهب إليه المصنّف سابقاً من عدم وجوب القسمة على الزوج إلا أن يبتدئ بها(3) ، فإنّه مبني على اختصاص حقه بالزوج.
ص: 44
• ولها أن تهب ليلتها للزوج أو لبعضهنّ مع رضاه. فإن وهبت الزوج وضعها حيث شاء. وإن وهبتها لهنّ وجب قسمتها عليهنّ. وإن وهبتها لبعض اختصّت بالموهوبة. وكذا لو وهبت ثلاث منهنّ لياليهنّ للرابعة لزمه المبيت عندها من غير إخلال.
_____________________________________________
والقائل بوجوب القسمة مطلقاً ووجوبها للزوجة الواحدة من كل أربع احتج بهذه العبارة. ولعلّ المصنّف يريد بالحق أعم من الواجب؛ إذ لا شبهة في اشتراك ثمرته، وإنّما الكلام في اشتراك حقّيته أو اختصاصها بالزوج، ولو أراد بالحقّ ما هو أعم من الواجب فلابدّ من استعماله في معنييه، فليدخل حقّ الزوج فيه فإنه واجب. ويمكن حينئذ أن يريد القدر المشترك بين الواجب وغيره، وهو الراجح مطلقاً. وقد كان يمكن تفريع قوله «فلو أسقطت حقها منه» على الحكم بكونه حقاً للزوج، فليس لها حينئذ إسقاط نصيبها من القسم إلا ،برضاه، وتحصل المطابقة بين الحكمين.
قوله: «ولها أن تهب ليلتها للزوج أو لبعضهن مع رضاه» إلى آخره.
إذا سامحت واحدة من زوجاته وتركت حقها من القسم لم يجب على الزوج القبول سواء جعلنا الحق مختصاً به أم مشتركاً؛ لأنّ الاستمتاع بها حقه في الجملة، فله أن يبيت عندها في نوبتها. وإن رضي بالمسامحة ينظر إن وهبت من ضرّة بعينها بات عند الموهوبة منها ليلتين ليلة لها والليلة المنتقلة عن الواهبة. والأصل في ذلك ما روي أنّ سودة بنت زمعة لما كبرت وهبت نوبتها لعائشة، وكان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) يقسم لها يومها ويوم سودة.
ثمّ إن كانت نوبة الواهبة متصلة بنوبة الموهوبة بات عندها الليلتين على الولاء وإن كانت منفصلة عنها فالأصح وجوب مراعاة النوبة فيهما؛ لأنّ حق من بين الليلتين سابق فلا يجوز تأخيره ولأنّ الواهبة على تقدير تأخر ليلتها قد ترجع بين الليلتين، والموالاة تفوّت حقّ الرجوع عليها.
وإن وهبت حقّها من الزوج فله وضعه حيث شاء، وعلى هذا فينظر في ليلة الواهبة وليلة التي يريد تخصيصها أهما متواليتان أم لا؟ ويكون الحكم على ما سبق.
ص: 45
الثانية • إذا وهبت ورضي الزوج صحّ. ولو رجعت كان لها، لكن لا يصحّ في الماضي، بمعنى أنه لا يقضى، ويصحّ فيما يستقبل، ولو رجعت ولم يعلم لم يقض ما مضى قبل علمه.
_____________________________________
وإن وهبت حقّها من جميعهنّ وجبت القسمة بين الباقيات، وصارت الواهبة كالمعدومة. ومثله ما لو أسقطت حقّها مطلقاً. هذا إذا لم نوجب القسمة ابتداء، وإلّا لم يتمّ تنزيلها كالمعدومة على تقدير الهبة لهنّ لاشتراكهنّ حينئذ في تمام الدور، وهو الأربع. ولو جعلناها معدومة فضل له ليلة. والواجب على هذا القول أن يرجع الدور إلى ثلاث دائماً ما دامت الواهبة مستحقةً للقسم.
ويتفرّع على ذلك ما لو طلقها أو نشزت، فإن حكم ليلتها يسقط وتصير كالمعدومة محضاً، فلو كانت الموهوبة معيّنةً اقتصر على ليلتها، وعلى التقدير الآخر يفضل له ليلة.
واعلم أنّه لا يشترط في هذه الهبة رضى الموهوبة وقبولها حيث تكون معينة، بل يكفي قبول الزوج؛ لأنّ الحق مختص به ولو فرض هبة الجميع لواحدة انحصر الحقّ فيها، ولزمه مبيت الأربع عندها من غير إخلال على تقدير القول بوجوب القسمة دائماً. ولا تنزّل حينئذ منزلة الزوجة الواحدة بل بمنزلة الأربع. وعلى القول الآخر يجب عليه إكمال الدور لها (1)حيث ابتدأ به، وسقط عنه بعد ذلك إلى أن يبتدئ به فيجب عليه إكمال الأربع لها، وهكذا. ويجري عليه أيضاً قوله «الزمه المبيت عندها من غير إخلال» يعني بالدور الواجب.
قوله: «إذا وهبت ورضي الزوج صح» إلى آخره.
قد تقدّم الحكم بأنّ رضى الزوج معتبر(2)؛ لأنّ حق الاستمتاع له، وهذه الهبة في معنى إسقاط الحق والمسامحة فيه. وإنّما يتصوّر لزومه فيما يمكن أن يكون في الذمّة، كالماضي الذي يجب قضاؤه، أما المستقبل فلا يلزمها الهبة؛ لأنّه متجدّد لا يمكن قبضه فلها الرجوع
ص: 46
الثالثة: • لو التمست عوضاً عن ليلتها فبذله الزوج هل يلزم ؟ قيل: لا ؛ لأنه حقّ لا يتقوم منفرداً، فلا تصح المعاوضة عليه.
____________________________________________
فيه، حتى لو رجعت في أثناء الليل وعلم به خرج من عند الموهوبة إليها. وأما ما مضى فلا يؤثر الرجوع فيه؛ لأنّه كالهبة المقبوضة. وكذا ما فات قبل علم الزوج بالرجوع فلا يؤثّر فيه الرجوع ولا يقضى؛ لأنّه لم يظهر منه ميل ولا تقصير حيث لم يعلم. وفي المسألة وجه أنّه يقضى كما قيل بانعزال الوكيل قبل العلم بالعزل. والحق الأوّل.
قوله: «لو التمست عوضاً عن ليلتها فبذله الزوج هل يلزم؟» إلى آخره.
القول بعدم جواز المعاوضة على هذا الحق من الزوج وغيره من الضرات للشيخ في المبسوط ؛ محتجاً بأنّ العوض يكون في مقابلة عين أو منفعة، وهذا الحق ليس بعين ولا منفعة، وإنّما هو مأوى ومسكن، فلا تصح المعاوضة عليه بالمال(1) .
ونقل المصنّف له ب-«القيل» يؤذن بضعفه أو تردّده فيه.
ووجهه منع انحصار المعاوضة في الأمرين؛ لجواز المعاوضة بالصلح على حقّ الشفعة والتحجير ونحوهما من الحقوق مع أن في رواية عليّ بن جعفر ما يدل على جواز شرائه منها؛ لأنه روى عن أخيه موسى(علیه السلام)، قال: سألته عن رجل له امرأتان قالت إحداهما: ليلتي و یومی لک لك يوماً أو شهراً أو ما كان، أيجوز ذلك؟ قال: «إذا طابت نفسها واشترى ذلك منها فلا بأس»(2) وإطلاق الشراء على مثل هذا الحق مجاز؛ لأنّ متعلّقه الأعيان المالية لا غيرها، فكأنه كناية عن المعاوضة عليه في الجملة.
وحيث لا تصح المعاوضة يجب عليها ردّ العوض إن كانت قبضته، ويجب القضاء لها إن كانت ليلتها قد فاتت؛ لأنّه لم يسلّم لها العوض. هذا مع جهلهما بالفساد أو علمهما وبقاء العين وإلّا أشكل ،الرجوع لتسليطه لها على إتلافه بغير عوض حيث يعلم أنه لا يسلم له، كما في البيع الفاسد مع علمهما بالفساد.
ص: 47
الرابعة • لا قسمة للصغيرة، ولا المجنونة المطبقة، ولا الناشزة ولا المسافرة بغير إذنه، بمعنى أنه لا يقضى لهنّ عمّا سلف.
_____________________________________
قوله: «لا قسمة للصغيرة، ولا المجنونة المطبقة» إلى آخره.
لمّا كانت القسمة من جملة حقوق الزوجيّة وهي بمنزلة النفقة على الزوجة فمن لا تستحقّ النفقة لصغر أو نشوز فلا قسمة لها.
وأمّا المجنونة فإن كان جنونها مطبقاً فلا قسمة لها وإن استحقّت النفقة؛ إذ لا عقل لها يدعوها إلى الأنس بالزوج والتمتع به. وإن كان يعتريها أدواراً كالتي تصرع في بعض الأوقات فهي كالعاقلة في وجوب القسمة. كذا أطلقه المصنّف وجماعة(1) . والأولى تقييد المطبقة بما إذا خاف أذاها أو لم يكن لها شعور بالأنس به، وإلا لم يسقط حقها منها.
وأما المسافرة فإن كان سفرها بغير إذنه في غير واجب ولا ضروري فلا قسمة لها؛ لأنّها ناشزة. وإن كان واجباً مضيقاً كالحج الواجب بالأصل أو النذر المعين حيث يلزم، أو بإذنه في غرضه لم يسقط حقّها منها، فيجب القضاء لها بعد الرجوع. ولو كان بإذنه في غرضها غير الواجب أو الواجب الموسّع فقولان، من الإذن في تفويت حقّه فيبقى حقها، ومن فوات التمكين والاستمتاع المستحقّ عليها لأجل مصلحتها، والإذن إنّما يؤثر في سقوط الإثم. وفوات التسليم المستحقّ وإن كان بسبب غير مأثوم فيه يوجب سقوط ما يقابله، كما إذا فات تسليم المبيع قبل القبض بسبب تعذّر فيه، فإنّه يسقط تسليم الثمن والأوّل خيرة العلّامة في التحرير(2)، والثاني خيرته في القواعد(3)، وحيث نحكم بالوجوب فالمراد وجوب القضاء؛ لفوات محلّه بالسفر.
ص: 48
الخامسة : • لا يزور الزوج الضرّة في ليلة ضرتها. ولو كانت مريضة جاز له عيادتها، فإن استوعب الليلة عندها هل يقضيها؟ قيل: نعم؛ لأنه لم يحصل المبيت لصاحبتها. وقيل: لا، كما لو زار أجنبياً. وهو أشبه.
___________________________________________
قوله: «لا يزور الزوج الضرّة في ليلة ضرّتها» إلى آخره.
حيث كان محلّ استحقاق القسمة هو الليل فلا يجوز صرف شيء منه إلى غيرها إلّا بما جرت به العادة ودلّت قرائن الأحوال على إذنها فيه، كالدخول على بعض أصدقائه من غير إطالة، دون الدخول على الضرّة ولو لحاجة غير ضروريّة، لما فيه من التخصيص المنافي العدل، إلّا أن تكون مريضةً فيجوز عيادتها، لقضاء العادة به، كما يجوز عيادة الأجنبي، ولعدم التهمة في زيارتها حينئذ لمكان المرض، بخلاف الصحّة. وقيّده في المبسوط بكون المرض ثقيلاً وإلا لم يصح(1) .
ثم إن خرج من عندها في الحال لم يجب عليه قضاؤه وإن كان عاصياً به؛ لأنّه قدر يسير لا يقدح في المقصود وإن استوعب الليلة في غير العيادة فلا شبهة في القضاء، وفيها قولان(2) ، من عدم وصول حق صاحبة الليلة إليها، وليس من ضروريات الزيارة الإقامة طول الليل، فهو ظلم وكلّ ظلم للزوجة في المبيت يقضى. واختار المصنف العدم، كما لو زار أجنبياً والأوّل أقوى والفرق بين الأمرين واضح والأصل ممنوع، فإنّ زيارة الأجنبي مشروطة بعدم استيعاب الليلة. وعلى القولين فلا تحتسب على المزورة؛ لأنّها ليست حقها.
ولو طال المكث ليلاً عند غير صاحبة النوبة بغير عيادة، فإن كان عند الضرة وجب قضاؤه بمثله في نوبة المصحوبة فيه. وإن كان عند غيرها ففي ليلته إن فضل له فضل
ص: 49
• ولو دخل فواقعها ثم عاد إلى صاحبة الليلة لم يقض المواقعة في حقّ الباقيات؛ لأنّ المواقعة ليست من لوازم القسمة.
السادسة : • لو خان في القسمة قضى لمن أخلّ بليلتها.
___________________________________
وإلا بقيت المظلمة في ذمته إلى أن يتخلّص منها بمسامحة أو قضاء. والأقوى مساواة زمان
العيادة لغيره في ذلك.
قوله: «ولو دخل فواقعها ثم عاد إلى صاحبة الليلة» إلى آخره.
لما كان المعتبر في القسمة المضاجعة لا المواقعة فجامع غير ذات الليلة في ليلة الضرّة لم يجب عليه قضاء الجماع لها؛ لأنّه لم يدخل في حقّ القسم. وأمّا زمانه فإن طال وجب قضاؤه من ليلة المجامعة، وإلا فالإثم خاصّةً.
وخالف في ذلك بعض العامة فأوجب قضاء الجماع للمظلومة في ليلة المجامعة كما فعل بها، ثم يذهب إليها ليحصل العدل، وإن لم يكن الجماع واجباً في نفسه(1) .
قوله: «لو جار (2)في القسمة قضى لمن أخل بليلتها».
لا خلاف في وجوب القضاء لمن جار عليها في القسمة فأخلّ بليلتها، ولكن القضاءشروط ببقاء
المظلوم بهنّ في حباله، أو بأن يفضل له من الدور فضل يقضي به. فلو كان عنده أربع فظلم بعضهنّ في ليلتها، فإن كان ظلمها بترك المبيت عندها وعندهن لم يمكنه القضاء، لاستيعاب الوقت بالحقّ على القول بوجوب القسمة دائماً، فيبقى في ذمته إلى أن يطلق واحدة منهنّ أو تنشز أو تموت ليرجع إليه من الزمان ما يمكنه فيه القضاء.
ولو كان ظلمه بالمبيت عندهنّ فإن جعل ليلتها لواحدة معيّنة قضاها من دورها. وإن ساوى بينهنّ وأسقط المظلومة من رأس قضى لها من الزمان بقدر ما فاتها متوالياً إلى أن يتمّ
لها حقها، ثمّ يرجع إلى العدل.
ص: 50
...
_____________________________________________
ولو لم يبق المظلوم بهنّ معه بأن فارقهنّ بموت أو غيره ثم تزوّج ثلاثاً لم يمكن القضاء لتجدّد حقهن وحقها الحاضر في جميع الأوقات، فلا يمكن دفع الظلم إلا بالظلم.
وإن بقين ووجد معهنّ أُخرى حيث يمكن، أو بقي بعضهنّ كما لو فارق واحدة وتزوج أُخرى أمكن القضاء من دور المظلوم بهما دون الجديدة، فيعطيها من كل دور ثلاثاً وللجديدة ليلة إلى أن يكمل حقّها، ثم يرجع إلى العدل بينهن.
مثاله: كان معه ثلاث نسوة فبات عند اثنتين عشرين ليلة مثلاً، إمّا عشراً عند هذه وعشراً عند هذه ولاء، أو بات عندهما ليلة ليلةً إلى تمام العشرة، فتستحقّ الثالثة عشر ليال، وعليه أن يوفّيها ولاء، وليس له أن يفرّق فيبيت عندها ليلتين وعند كلّ واحدة ليلةً؛ لأنّها قد اجتمعت في ذمّته وهو متمكن من وفائها فلا يجوز أن يؤخّر، فلو نكح جديدة عقيب العشرين لم يجز أن يقدّم قضاء العشرة؛ لأنّه ظلم على الجديدة، بل يوفّيها أولاً حقّ الزفاف من ثلاث أو سبع، ثم يقسم الدور بينها وبين المظلومة، فيجعل لها ليلة وللمظلومة ليلتها وليلتي اللتين ظلمها بسببهما، وهكذا ثلاث أدوار فيوفّيها تسعاً ويبقى لها ليلةً، فإن كان قد بدأ بالمظلومة بات بعد ذلك ليلةً عند الجديدة بحق القسم، ثمّ ليلةً ليلةٌ عند المظلومة لتمام العشر، فيثبت للجديدة بهذه الليلة ثلث ليلة؛ لأنّ حقّها واحدة من أربع، فإذا أكمل لها ثلث ليلة خرج في باقي الليل إلى مسجد أو بيت صديق أو مسكن خال عن زوجاته، ثمّ يستأنف القسم للأربع بالعدل. وإن كان قد بدأ بالجديدة فإذا تمّت التسع للمظلومة بات ثلث ليلة عند الجديدة وخرج باقي الليل كما وصفناه، ثمّ بات ليلة عند المظلومة، ثمّ قسم بين الكلّ بالسوية.
وفي حكم الجديدة ما لو كانت واحدة من الأربع غائبة فظلم واحدة من الحاضرات بالأخريين وحضرت الغائبة، فيجب قضاء حق المظلومة مع رعاية جانب التي حضرت، فيقسم لها ليلةً وللمظلومة ثلاثاً، وإن احتيج إلى تبعيض الليلة فكما وصفناه.
وقد يحتاج إلى التبعيض بغير الظلم، كما لو كان يقسم بين نسائه فيخرج في نوبة واحدة
ص: 51
السابعة • لو كان له أربع فنشزت واحدة، ثمّ قسم خمس عشرة فوفّى اثنتين ثمّ أطاعت الرابعة، وجب أن يوفّي الثالثة خمس عشرة والتي كانت ناشزاً خمساً. فيقسم للناشز ليلة وللثالثة ثلاثاً خمسة أدوار، فتستوفي الثالثة خمس عشرة والناشز خمساً، ثمّ يستأنف.
________________________________________
لضرورة ولم يعد أو عاد بعد وقت طويل، فيقضي لها من الليلة التي بعدها مثل ما خرج ويخرج باقي الليل إلى المسجد أو نحوه كما قررناه. ويستثنى من الخروج ما إذا خاف اللصّ أو العسس(1) لو خرج أو لم يكن له في داره مكان منفرد يصلح للإقامة بقية الليلة، فيعذر في الإقامة. والأولى أن لا يستمتع بها فيما وراء زمان القضاء.
قوله: «لو كان له أربع فنشزت واحدة» إلى آخره.
إذا كان للرجل أربع زوجات فنشزت واحدة منهن سقط حقها من القسم، ووجب عليه القسم للثلاث الباقيات على الطاعة، فإن قسم عليهن ليلة ليلة فضل له حينئذ ليلة، وهي حق
الناشزة، فيضعها حيث شاء.
وإن جعل القسم أكثر من ليلة استوعب دور القسمة أو زاد عليه؛ لأنّ أقل النسوة المتعدّدات أن يكن اثنتين فإذا جعل القسم بينهنّ ليلتين ليلتين استوعب حقهما الدور فيسقط حقه من الزائد؛ لأنه أسقطه بيده حيث اختار الزيادة.
ويحتمل بقاء حقه بنسبة ما يبقى له من الدور، ففي المسألة تبقى له ليلة من الأربع، فيكون له ربع القسمة بمنزلة واحدة منهنّ، فإذا قسم لكل واحدة عشراً كان له بعد قضاء حقوقهن عشر. وظاهر مذهب الأصحاب في هذه المسألة ونظائرها هو الأول. ويدل عليه أن ثبوت حقه معهنّ وتفضيل بعضهنّ على بعض على خلاف الأصل، والدلائل العامّة من وجوب العدل والتسوية بينهنّ تدلّ على خلافه، فيقتصر فيه على مورد النصّ(2)، وهو ثبوت حقه
ص: 52
...
_____________________________________
في الزائد عن عددهن في الأربع على تقدير أن يقسم بينهنّ ليلة ليلةً، على ما في الرواية الدالّة عليه من ضعف السند، ولولا ظهور اتّفاق الأصحاب عليه أشكل إثباته بالنصّ. وعامة العلماء من غير الأصحاب على خلافه، وأنّه متى قسم لواحدة عدداً وجب أن يقسم للأُخرى مثلها مطلقاً مع تساويهما في الحكم.
وإنّما تظهر فائدة الخلاف على القول بوجوب القسمة دائماً. أمّا على القول بوجوبها مع الابتداء بها خاصة وجواز الإعراض بعد ذلك فالأمر سهل؛ لأنّه إذا وفى لهنّ العدد الذي جعله لهنّ جاز له الإعراض عنهن على هذا القول، سواء كان له حقّ في المدّة أم لا. ويحتمل تفريعاً على الرواية أن يكون له من المدة بنسبة حقه من الأربع.
إذا تقرّر ذلك فنقول في المسألة المفروضة : لو نشزت واحدة من الأربع وأراد القسم بين الثلاث، واختار أن يقسم لكلّ واحدة خمس عشرة ليلة أو اتّفق معهن على ذلك، فوقى اثنتين في العدد المذكور وبقيت واحدة ثم أطاعت الرابعة، فليس لها حظ في حق من مضى؛ لأنها كانت عاصيةً لا تستحق القسمة، لكن لها حق القسمة في المستقبل. وعليه أن يوفّى الثالثة المطيعة خمس عشرة مثل صاحبتيها، ولا يمكن جعلها ولاء بغير رضى الرابعة التي تجدّدت طاعتها لمشاركتها لها في استحقاق القسم حينئذ، لكنّها واحدة من أربع فلها ربع القسم من حين الطاعة، وباقي الدور - وهو ثلاث ليال - يجب صرفه إلى الثالثة، وهي حقّها وحق السابقتين كما أخذتا حقهما من الليالي التي اختصتا بها. وحينئذٍ فطريق التخلّص من حق المتأخرتين أن يبيت عند الثالثة ثلاث ليال وعند الرابعة ليلةً وهكذا خمسة أدوار، فيتمّ للثالثة حقّها وهو خمس عشرة ليلة، ويحصل للرابعة خمس ليال هي ربع الأدوار الخمسة، وحصول الخمس لها بطريق الاتّفاق تبعاً لحصول الخمس عشرة للثالثة، وأمّا الخمس عشرة فهي المقصودة بالذات. ثمّ يستأنف القسمة للجميع على السوية.
ص: 53
...
_______________________________________
هكذا أطلق المصنف (رحمه الله) وقبله الشيخ في المبسوط (1)فرض المسألة، وبعده العلّامة في كتبه(2). وظاهر إطلاقهم سقوط حق الزوج من القسمة كما بيناه.
ولو قلنا بعدم سقوطه أمكن فرض حقّه من المدة الماضية التي فضل له منها حصة وهي الثلاثون التي قسمها للاثنتين قبل طاعة الرابعة، فيكون له منها سبع ليال ونصف، فيستوفيها بعد انقضاء الدور للجميع إن قلنا بوجوب القسمة دائماً، وإلا فإعراضه حينئذ جائز مطلقاً كما بيناه.
وهذا الاحتمال لا ينافي فرض المصنف (رحمه الله)؛ لأن قوله «قسم خمس عشرة» يدلّ على إرادة ذلك العدد لكلّ زوجة بحيث لا يشركها فيها، بدليل قوله «قسم»؛ إذ حقّه في الدور لا يدخل في القسمة وإن خصه بواحدة ويؤيد ذلك قوله «وجب أن يوفّي الثالثة خمس عشرة»، فإنّه لو كان له في الخمس عشرة شركة لما وجب أن يوفّي الثالثة تمام الخمس عشرة ، بل كان له أن يقول لي من الخمس عشرة ربعها، فلا يجب للثالثة إلا مقدار ثلاثة الأرباع والزائد تبرع منه. فسقط بهذا احتمال أن يجعل الخمس عشرة مشتركة.
وقوله بعد كمال إيفائهن الحق «ثمّ يستأنف» يشعر أيضاً بأنه لا حق له بعد الكمال وإلا لنبه عليه.
وإحالته على القاعدة السابقة بعيدة؛ إذ ليس فيها ما يدلّ على مثل ذلك، وهذا البحث يجري في قضاء قسمة المظلومة في الأمثلة السابقة، وفي مواضع كثيرة يأتي بعضها في الكتاب أيضاً (3).
ص: 54
الثامنة : • لو طاف على ثلاث وطلّق الرابعة بعد دخول ليلتها ثم تزوجّها، قيل: يجب لها قضاء تلك الليلة، وفيه تردّد ينشأ من سقوط حقها بخروجها عن الزوجية.
___________________________________
قوله: «لو طاف على ثلاث وطلّق الرابعة بعد دخول ليلتها» إلى آخره.
حق القسم على الزوج من الأمور الواجبة في الجملة إمّا بعد الشروع فيه أو مطلقاً، فإن كان له زوجتان فصاعداً وقسم لواحدة ثم دخلت نوبة الأخرى حرم عليه طلاقها قبل أن يوفّيها حقّها من القسم؛ لاستلزام الطلاق تفويت الواجب فيكون محرّماً، لكنّه محرّم لأمر خارج عن حقيقة الطلاق فلا يبطل به كالبيع وقت النداء يوم الجمعة، ولأنّ النهي في غير العبادات لا يقتضي الفساد كما حقّق في الأصول(1). واحتمال البطلان في البيع وقت النداء آتٍ هنا.
ولا فرق في ذلك بين كون المطلقة بعد حضور نوبتها رابعة وغيرها؛ لاشتراك الجميع في
المقتضي. وذكر المصنف الرابعة تبعاً للشيخ(2) مجرد تمثيل.
وربما قيل إنّ السرّ في ذكر الرابعة أنّ نوبة غيرها لا تتحقّق إلا بالقرعة، بخلاف الرابعة.
وفيه: أنه مع تسليم التوقّف على القرعة لا يتمّ إلا في الدور الأول، أمّا بعده فتتعين نوبة كل واحدة بغير قرعة، ويتحقّق الفرض في غير الرابعة. وعلى المختار من تخييره بغير قرعة تتحقق نوبة غير الرابعة بتعيينه لها ثم طلاقها بعد دخولها.
والمصنّف لم يذكر تحريم الطلاق وقد ذكره الشيخ وغيره(3).
ولا فرق في التحريم بين وقوع الطلاق رجعيّاً وبائناً وإن كان في الرجعي يتمكن من الرجوع والتخلّص؛ لأنّ الطلاق سبب في تعطيل الحق واشتغال الذمّة به على التقديرين.
ولكن لو كان رجعيّاً ورجع في العدة وجب قضاء حقها وتخلّص منه بغير إشكال؛ لأنّ الرجعة أعادت الزوجيّة الأولى كما كانت.
ص: 55
...
_____________________________________
وإن تركها حتى انقضت عدتها، أو كان الطلاق بائناً ثم تزوّجها، فهل يجب عليه القضاء؟ قال الشيخ في المبسوط : نعم؛ لأنّه حق استقر في ذمته وقد أمكنه التخلص منه فيجب (1).
والمصنّف تردّد في الوجوب ممّا ذكرناه، ومن خروجها عن الزوجيّة فتسقط الحقوق المتعلقة بها.
وفيه منع الملازمة بين الأمرين، ومن ثمّ يبقى المهر وغيره من الحقوق المالية وإن طلق. و تخصيص بعض الحقوق بالسقوط دون بعض لا دليل عليه. فالقول بوجوب القضاء مطلقاً أقوى. ويتفرّع عليه وجوب التزويج لو توقفت البراءة عليه. ولو أمكن مجالستها(2) والتوصّل إلى إسقاط حقها بوجه آخر تخير بينه وبين التزويج. وحينئذ فلا يمنع تزويج رابعة؛ لعدم انحصار البراءة في التزويج. ولو فرض توقّفها عليه لم يقدح في صحّة التزويج لما قلناه من حكم النهي.
واعلم أن وجوب القضاء بل إمكانه على تقدير تزويجها مشروط بكون الزوجات أقلّ من أربع؛ ليمكن قضاؤه فيما يفضل له من الدور، أو كون الزوجات هنّ المظلوم بهنّ ليمكن القضاء فى دورهنّ. أما لو كان الظلم بتعطيل الليلة مع غيرهنّ أو كن جديدات لم يمكن القضاء؛ لأنّه إنّما يكون في نوبة إحداهنّ، والظلم لا يقضى بالظلم.
ولو نكح جديدة وبقيت في نكاحه التي ظلم بها، كما إذا كان له ثلاث زوجات وظلم واحدةً بليال للأُخريين ونكح رابعة ثمّ تزوّج المظلومة أمكن قضاء حقها من نوبة المظلوم بهما مع مراعاة حق الرابعة على نحو ما تقدّم في المسألة السابقة.
ولو لم يفارق المظلومة وفارق اللواتي ظلم بهنّ ثمّ عدن إلى نكاحه، أو فارقها وفارقهنّ ثم عدن إلى نكاحه اشتغل بالقضاء. ولا يحتسب عن القضاء ما بات عندها في زمان مفارقتهن. ويجيء في عودهنّ بالنكاح الجديد الخلاف السابق (3).
ص: 56
التاسعة: • لو كان له زوجتان في بلدين فأقام عند واحدة عشراً، قيل: كان عليه للأخرى مثلها.
___________________________________
قوله: «لو كان له زوجتان في بلدين فأقام عند واحدة عشراً قيل: كان عليه للأُخرى مثلها».
القائل بذلك الشيخ في المبسوط ، ووجهه ما أشرنا إليه سابقاً من أن المبيت عند واحدة من الزوجات زيادة على الليلة يوجب المبيت عند الأخرى مثلها مراعاة للعدل بينهنّ. وأن جواز المفاضلة بين الاثنتين أو الثلاث مشروط بجعل القسمة ليلة ليلة. ونقل المصنّف له بصيغة القيل يؤذن باستشكاله.
ووجهه ما علم من أنّ للزوج مع الاثنتين نصف الدور، فينبغي أن يكون له من العشر نصفها، ولكلّ واحدة منهنّ ربع، فلا يلزمه للثانية إلّا ليلتان ونصف.
وهذا الوجه لم يشر إليه في المسألة المشتملة على القضاء للمظلومة مع وروده فيها.ويمكن الفرق من جهة تصريحه في تلك بأنّ العدد المذكور فيها - وهو الخمس عشرة جعله لكل واحدة على وجه القسم كما ذكره في لفظها، بخلاف هذه، فإنّه لم يذكر فيها ما يدلّ على أنّه قسم للأُولى عشراً وإلا للزمه للثانية مثلها وإن بقي حقّه بعد ذلك، بل قال: «فأقام عند واحدة عشراً» والإقامة عندها كذلك أعمّ من جعلها على وجه القسمة، أو مع إضافة حقه إليها، فلما كان اللفظ أعمّ استشكل حمل الإطلاق على القسمة مع أصالة براءة الذمّة من حق الثانية إذا أمكن صرف الإقامة عمّا يوجب شغل ذمّته بالثانية. وعلى هذا فيختلف الحكم باختلاف قصده.
والأقوى وجوب القسمة للأخرى بقدر الأولى مطلقاً في غير موضع الوفاق. والعلّامة في كتبه جزم بالحكم كما ذكره الشيخ ، ولم يتوقّف غير المصنف.
ص: 57
العاشرة: • لو تزوج امرأة ولم يدخل بها فأقرع للسفر فخرج اسمها جاز له مع العود توفيتها حصّة التخصيص؛ لأنّ ذلك لا يدخل في السفر؛ إذ ليس السفر داخلاً في القسم.
______________________________________
واعلم أنّ الزوجتين في البلدين إنّما يحتسب عليهما ما يقيمه عندهما، لا الطريق إليهما ولا عنهما. ويتخيّر في قسمة الثانية بين الذهاب إليها واستدعائها إليه، فإن امتنعت منه مع قدرتها سقط حقّها للنشوز .
قوله: «لو تزوج امرأة ولم يدخل بها فأقرع للسفر فخرج اسمها» إلى آخره.
نبّه بتعليل الحكم على خلاف الشيخ حيث اكتفى في تخصيصها بما يحصل في أيّام السفر؛ محتجاً بأنّ الغرض المقصود من ذلك - وهو ارتفاع الحشمة وحصول الأنس - يحصل بأيّام السفر وإن لم يحصل فيه تمام المقصود من القسم(1) . والمصنف (رحمه الله) ردّ ذلك بأنّ الأيام المخصوصة من جملة القسم غايتها أنّها تُفضَّل فيه كما فضلت الحرّة على الأمة، ومن ثَمّ عدّوا أسباب تفاوت القسم ثلاثة أو اثنتين. وحيث وقع الاتّفاق على أنّ أيّام السفر ليست داخلة في القسم - ومن ثم لا يقضى للمتخلفات ما فاتهنّ مع المصحوبة - فكذا لا تحتسب على الجديدة هنا.
ولا نسلّم انحصار الفائدة فيما ذكره، بل جاز أن يكون الاستمتاع بالجديدة في هذه المدة أهمّ مما ذكر نعم يجوز انضمام تلك العلّة إلى ما ذكرنا لا استقلالها بالحكم، ومع ذلك فالعلّة مستنبطة لا منصوصة والمعلوم إنّما هو اختصاصها بالعدد على وجه القسمة أو ما هو أقوى منها كما أشرنا إليه سابقاً(2)، لاكونه على وجه أضعف من حق القسمة. فما ذكره المصنف أجود. وفي حكمه ما لو تزوجها في السفر ولم تكن معه زوجاته، فلو كن معه خصّص الجديدة بالعدد ثمّ قسم بينها وبين القديمة بحسبه.
ص: 58
القول في • النشوز
وهو الخروج عن الطاعة. وأصله الارتفاع. وقد يكون من الزوج، كما يكون من الزوجة.
__________________________________________
قوله: «النشوز وهو الخروج عن الطاعة وأصله الارتفاع.
النشوز - لغةً - الارتفاع ، يقال : نشز الرجل ينشُز وينشز إذا كان قاعداً فنهض قائماً (1)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ أنشُرُواْ فَانشُزُوا)(2) أى انهضوا إلى أمر من أُمور الله تعالى.
وستى خروج أحد الزوجين عن طاعة الآخر نشوزاً؛ لأنه بمعصيته قد ارتفع وتعالى عمّا أوجب الله عليه من ذلك. ولذلك خص النشوز بما إذا كان الخروج من أحدهما؛ لأنّ الخارج ارتفع على الآخر فلم يقم بحقّه، أو عن الحق، ولو كان الخروج منهما معاً خصّ باسم الشقاق - كما سيأتي(3) _ لا النشوز؛ لاستوائهما معاً في الارتفاع فلم يتحقّق ارتفاع أحدهما عن الآخر.
وقال بعضهم:
يجوز إطلاق النشوز على ذلك أيضاً، نظراً إلى جعل الارتفاع عمّا يجب عليه من الطاعة لا على صاحبه، وهو متحقق فيهما (4).
وبعض الفقهاء أطلق على الثلاثة اسم الشقاق(5). والكلّ جائز بحسب اللغة، لكن ما جرى عليه المصنّف أوفق، لقوله تعالى: (وَالَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)(6) ، وقوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ
ص: 59
•فمتى ظهر من الزوجة أمارته مثل أن تقطب في وجهه أو تتبرم بحوائجه أو تغيّر عادتها في أدبها جاز له هجرها في المضجع بعد عظتها.
وصورة الهجر أن يحوّل إليها ظهره في الفراش. وقيل: أن يعتزل فراشها. والأوّل مرويّ. ولا يجوز له ضربها والحال هذه.
أما لو وقع النشوز - وهو الامتناع عن طاعته فيما يجب له - جاز ضربها ولو بأوّل مرة. ويقتصر على ما يؤمل معه رجوعها، ما لم يكن مدمياً ولا مبرحاً.
_______________________________________
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا )(1) وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا)(2) الآية.
وأما تخصيص الشيخ في النهاية النشوز بخروج الزوج عن الحقّ(3) فليس بجيد.
قوله: «فمتى ظهر من الزوجة أمارته» إلى آخره.
الوحشة الحاصلة بين الزوجين قد تعرف ويظهر سببها من الزوجة، وقد يظهر من الزوج، وقد يظهر منهما، أو يشتبه الحال وقد ذكر المصنف حكم الثلاثة وابتدأ بالأول؛ لدلالة الآية عليه، قال تعالى: (وَالَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)(4) . والمراد من الوعظ أن يخوّفها بالله تعالى ويقول: اتقي الله في حقي الواجب واحذري عذاب الله تعالى ونكاله ويذكر لها ما ورد من حقوق الزوج على الزوجة من الأخبار النبوية(5) وكلام الأئمّة(6)، ويبيّن لها أنّ النشوز يسقط النفقة وحقّ القسم، فقد تتأدب بذلك.
وأمّا الهجران فالمعتبر منه هنا الهجران في المضجع، وله أثر ظاهر في تأديب النساء. وقد اختلف في معناه، فقيل: أن يحوّل إليها ظهره في الفراش، ذهب إليه ابنا بابويه (7)،
ص: 60
...
_________________________________________
وهو الذي جعله المصنّف مرويّاً (1). وقال الشيخ وابن إدريس: أن يعتزل فراشها ويبيت على فراش آخر(2) . وقيل: يبدأ بالأوّل، فإن لم ينجع فالثاني(3). وقيل: أن يترك وطأها(4) . والأولى الرجوع فيه إلى العرف وما تستفيد المرأة منه الهجران.
وأما هجرها في الكلام بأن يمتنع من كلامها في تلك الحالة فلا بأس به إذا رجا به النفع، ما لم يزد عن ثلاثة أيام لنهي النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عنه فوق الثلاثة(5) .
وأما الضرب فهو ضرب تأديب وتعزير، كما يضرب الصبيان على الذنب. ويجب أن لا يكون مدمياً ولا مبرحاً، أي شديداً. وفي بعض الأخبار أنّه يضربها بالسواك . ولعلّ حكمته توهّمها إرادة الملاعبة والإفراح وإلا فهذا الفعل بعيد عن التأديب والإصلاح. ونقل الشيخ في المبسوط عن قوم أنّ الضرب يكون بمنديل ملفوف أو درّة، ولا يكون بسیاط ولا خشب (6).
وإذا تمهّد ذلك فنقول: اختلف العلماء في تنزيل هذه الأمور الثلاثة على التخيير أو الجمع أو الترتيب بالتدرّج من الأخفّ إلى الأثقل كمراتب النهي عن المنكر.
ص: 61
...
_________________________________________________
وعلى التقديرين هل هي مع تحقّق النشوز أو ظهور أمارته قبل وقوعه أو معهما؟ ومنشأ الخلاف من دلالة ظاهر الآية على ذكر الثلاثة متعاطفة بالواو المفيد للتخيير أو الجمع، وتعليقها على خوف النشوز لا عليه نفسه إن جعل الخوف على ظاهره. فاعتبر المصنّف في النافع في الأمور الثلاثة ظهور أمارة النشوز إجراء للخوف على ظاهره، لكنّه جعل الثلاثة على الترتيب، فتقدّم الموعظة، فإن لم تنجع فالهجر، فإن لم يفد انتقل إلى الضرب. ولم يذكر حكم النشوز بالفعل، لكن يمكن دلالة جوازها مع ظهور الأمارة على جوازها مع حصوله بالفعل بطريق أولى.
وهذا القول يوافق ظاهر الآية في السبب، ويحوج إلى تأويل المسبّب حيث عدل عن ظاهر التخيير أو الجمع إلى الترتيب؛ نظراً إلى أنّ مثل هذا من أفراد النهي عن المنكر فليكن بحكمه. والمراد من الآية جواز الجمع بين الثلاثة في الجملة لا مطلقاً، بل حيث يفتقر إليه بأن لا ينجع الاقتصار على ما دون الثلاثة.
وعكس الأمر ابن الجنيد فجعل الأمور الثلاثة مترتّبة على النشوز بالفعل، ولم يذكر الحكم عند ظهور أماراته، وجوّز الجمع بين الثلاثة ابتداء من غير تفصيل، فقال:
وللرجل إن كان النشوز من المرأة أن يعظها ويهجرها في مضجعها، وله أن يضربها غير مبرح .
ويظهر منه جواز الجمع بين الثلاثة والاجتزاء بأحدها أو باثنين منها؛ لأنّ ذلك حقه فله فيه الخيار. والوجه فيه حمل الواو على الجمع أو التخيير، وجعل الخوف بمعنى العلم كقوله :تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا) ، فأوّل الخوف واستغنى عن الإضمار الذي تكلّفه غيره.
ص: 62
...
__________________________________________
وجعل العلّامة في الإرشاد الثلاثة مترتبة على النشوز بالفعل(1) كما صنع ابن الجنيد، لكنه جعلها مترتبة مراتب الإنكار كما فعل المصنف في قوله الأوّل.
ومن الأصحاب من جعل الأمور الثلاثة منزلةٌ على الحالتين أعني ظهور أمارات النشوز وتحقّقه بالفعل. فالمصنّف في الكتاب والشيخ في المبسوط(2) والعلّامة في القواعد(3) جعلوا الوعظ والهجر معلّقين على ظهور أماراته، والضرب مشروطاً بحصوله بالفعل . ومع ذلک لم يشترطوا في جواز الضرب مع تحقّق النشوز تقديم الوعظ ولا الهجر، بل جوزوا الضرب بأوّل مرة، وجعلوا الهجر في الأوّل مشروطاً بعدم نجع الوعظ .
ووجه هذا القول حمل خوف النشوز على ظاهره وترتيب الأولين على مراتب النهي. وأما اشتراط الضرب بتحقق النشوز - مع أنّ ظاهر الآية جوازه مع الخوف - أن الضرب عقوبة وتعزير، والأصل فيها أن تكون منوطة بالحاكم.
والمحرّم عليها هو النشوز، وظهور أماراته لا يفيد اليقين به، فلا ينبغي العقوبة على الذنب قبل وقوعه، بخلاف الزجر بالوعظ والهجر فإن أمرهما أوسع، وظهور أمارات المعصية كافٍ في التنبيه عليها والزجر عنها. ومرجع ذلك إلى الأخذ بظاهر الآية مع مراعاة الاحتياط في العقوبة، والوقوف على موضع اليقين حيث يحتمل إرادة النشوز بالفعل من الخوف منه.
فالمتحقق الإذن في الضرب مع وقوعه، وقبله مشكوك فيه.
لكن قد يشكل هذا بالهجر، فإنّ تفويت حقها من اللطف وإعطاء الوجه في المضاجعة بمجرد الاحتمال لا يخلو من إشكال، إلا أنّ الأمر فيه أسهل كما قلناه، فجاز التعويل فيه على ظاهر الآية.
ص: 63
...
__________________________________________
ووجه عدم توقّف ضربها على الآخرين في هذه الحالة دلالة ظاهر الآية على التخيير بينه وبينهما أو الجمع من غير تقييد.
وفصل بعض العلماء في الآية تفصيلاً آخر(1) ، ووافقه العلّامة في التحرير(2)، فجعل الأمور الثلاثة مترتبة على مراتب ثلاثة من حالها، فمع ظهور أمارات النشوز يقتصر على الوعظ، ومع تحققه قبل الإصرار ينتقل إلى الهجر، فإن لم ينجع وأصرت انتقل إلى الضرب، وجعلوا المعنى في الآية واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهنّ، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن.
والأظهر أنّه متى احتمل انزجارها بالوعظ لا ينتقل إلى الهجر، وإن لم يجوّزه جاز الهجر، ولا يجوز الضرب إلّا مع العلم أنّها لا تتزجر بهما، ومعه يجوز الضرب ولو في الابتداء كمراتب النهي، وذلك حيث تتحقّق المعصية، وبدونه يقتصر على الموعظة.
بقي في المسألة أُمور ينبغي التنبيه عليها:
الأوّل: المراد بظهور أمارات النشوز تغيير عادتها معه في القول والفعل بأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين أو غير مقبلة بوجهها بعد أن كانت تقبل، أو تظهر عبوساً وإعراضاً و تثاقلاً ودمدمةً بعد أن كانت تلطّف له وتبادر إليه وتقبل عليه، ونحو ذلك. واحترزنا بتغيير العادة عمّا لو كان ذلك من طبعها ابتداءً، فإنّه لا يعدّ أمارة للنشوز والمصنّف (رحمه الله) اقتصر في اعتبار العادة على أدبها وأطلق الباقي. والمعتبر ما ذكرناه.
نعم، مثل التبرّم بالحوائج لا يعتبر فيه العادة؛ لأنّ ذلك حقّه فعليها المبادرة إليها ابتداء. ولا عبرة فيها بالعادة، بخلاف الأدب، فلذا خصه المصنف. وهذه الأمور ونحوها لا تعدّ نشوزاً فلا تستحقّ ضرباً عليه على الأقوى، بل يقتصر على الوعظ فلعلها تبدي عذراً أو
ص: 64
...
__________________________________________________
ترجع عما وقع من غير عذر. ويظهر من مجوّز الضرب بل الهجر أنّها أمور محرّمة وإن لم تكن نشوزاً، والضرب لأجل فعل المحرّم. وفيه نظر.
الثاني: ليس من النشوز ولا من مقدماته بذاءة اللسان والشتم، ولكنها تأثم به وتستحق التأديب عليه. وهل يجوز للزوج تأديبها على ذلك ونحوه ممّا لا يتعلّق بحق الاستمتاع، أم يرفع أمره إلى الحاكم؟ قولان تقدما في كتاب الأمر بالمعروف(1) ، والأقوى أنّ الزوج فيما وراء حق المساكنة والاستمتاع كالأجنبي وإن نقص ذلك عيشه وكدر الاستمتاع.
الثالث: المراد بحوائجه التي يكون التبرّم بها أمارة النشوز ما يجب عليها فعلها من الاستمتاع ومقدماته، كالتنظيف المعتاد وإزالة المنفّر والاستحداد، بأن تمتنع أو تتثاقل إذا طلبها على وجه يحوج زواله إلى تكلّف وتعب. ولا أثر لامتناع الدلال، ولا للامتناع من حوائجه التي لا تتعلّق بالاستمتاع؛ إذ لا يجب عليها ذلك.
وفي بعض الفتاوى المنسوبة إلى فخر الدين أنّ المراد بها نحو سقي الماء وتمهيد الفراش(2)، وهو بعيد جداً؛ لأن ذلك غير واجب عليها فكيف يعد تركه نشوزاً؟!
وقد نبه المصنّف على ذلك بقوله في تعريف النشوز «وهو الامتناع عن طاعته فيما يجب له» فترك الأمور المذكورة إذا لم يعد نشوزاً فكيف يعد التثاقل عنها من مقدمات النشوز ؟؟
الرابع: المراد بالتبرّم بحوائجه القيام إليها بتثاقل وتضجّر وإن فعلتها. قال الجوهري تبرم به إذا سئمه وضجر منه، وأبرمه أمله وأضجره(3). وقال: التبريح الشدة(4). والمراد هنا قوّة الضرب عرفاً؛ لأنّ المعتبر من ضرب التأديب ما يسهل وقعه، ومن ثم عبّروا عن آلته بمثل السواك والمنديل.
ص: 65
•وإذا ظهر من الزوج النشوز بمنع حقوقها فلها المطالبة، وللحاكم إلزامه. ولها ترك بعض حقوقها من قسمة ونفقة؛ استمالة له. ويحلّ للزوج قبول ذلك.
_________________________________________
الخامس: يجب اتقاء المواضع المخوفة كالوجه والخاصرة ومراق البطن ونحوها، وأن لا يوالي الضرب على موضع واحد، بل يفرّق على المواضع الصلبة، مراعياً فيه الإصلاح لا التشفّي والانتقام، فيحرم بقصده مطلقاً، بل بدون قصد المأذون فيه لأجله.
السادس: لو حصل بالضرب تلف وجب الغرم؛ لأنّه تبين بذلك أنه إتلاف لا إصلاح، بخلاف الوليّ إذا أدب الطفل. والفرق أنّ تأديب المرأة لحظ نفسه والولد لحظه لا لحظّ الوليّ. وقيل: إنهما مشروطان بعدم التلف(1) . وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى(2) .
وفرّق بينهما أيضاً بأنّ الأولى للزوج أن يعفو ويعرض عنه، بخلاف الولي فإنّ الأولى له أن لا يعرض عن ضرب التأديب عند الحاجة لرجوع المصلحة إلى الصبيّ، وقد ورد الخبر بالنهي عن ضرب الزوجة في الجملة(3)، ويتفرّع على هذا الفرق عدم ضمان الوليّ؛ لأنّه محسن و (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) (4).
قوله: «وإذا ظهر من الزوج النشوز بمنع حقوقها فلها المطالبة» إلى آخره.
هذا هو القسم الثاني من النشوز، وهو أن يتعدى الزوج ويمنعها بعض حقوقها الواجبة من نفقه وقسمة، أو يسيء خلقه معها ويؤذيها ويضربها بغير سبب مبيح له ذلك، فإن نجع فيه وعظها وإلّا رفعت أمرها إلى الحاكم. وليس لها هجره ولا ضربه وإن رجي بهما عوده إلى الحق؛ لأنّهما متوقّفان على الإذن الشرعي، وفي الآيتين(5) ما ينبه على تفويض ذلك إليه لا إليها، وهو اللائق بمقامه.
ص: 66
...
__________________________________________
ثم الحاكم إن عرف الحال باطلاع أو إقرار الزوج أو بشهود مطلعين على حالهما، وإلا نصب عليهما ثقةً في جوارهما أو غيره يخبرهما ويحكم بما يتبيّن، فإن ثبت تعدّي الزوج نهاه عن فعل ما يحرم وأمره بفعل ما يجب، فإن عاد إليه عزّره بما يراه. ولو امتنع من الإنفاق مع قدرته جاز للحاكم أن ينفق عليها من ماله ولو ببيع شيء من عقاره إذا توقّف عليه.
ولو كان لا يمنعها شيئاً من حقّها، ولا يؤذيها بضرب ولا كلام، ولكنّه يكره صحبتها المرض أو كبر، ولا يدعوها إلى فراشه، أو يهم بطلاقها، فلا شيء عليه، ويحسن أن تسترضيه بترك بعض حقّها من القسم والنفقة، قال الله تعالى: (وَإِن أَمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحا)(1).
وروي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) هم بطلاق سودة فقالت: لا تطلقني وخلّني مع نسائك، ولا تقسم لي واجعل يومى لعائشة، فنزلت الآية(2) .
وروى الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله(علیه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) فقال: «هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إنّي أُريد أن أطلقك، فتقول له: لا تفعل إنّي أكره أن يشمت بي، ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، وماكان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي، فهو قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحا) وهو هذا الصلح »(3) .
وما ذكرناه حكم بذلها الحق مع عدم تقصيره. وظاهر الآية جواز قبوله ذلك وحلّه له وإن كان آثماً في نشوزه، وكذلك عبارة المصنّف. والحكم فيه كذلك؛ لأنّ مثل ذلك لا يعدّ إكراهاً على بذل حقّها وإن أثم في تقصيره. نعم، لو قهرها على بذله فلا شبهة في عدم حلّه. ويظهر من رواية الحلبي تفسير الآية بالمعنى الأوّل خاصّةً، وهو أولى.
ص: 67
القول في • الشقاق
وهو فعال من الشق، كأن كل واحد منهما في شقّ.
•فإذا كان النشوز منهما وخشي الشقاق بعث الحاكم حكماً من أهل الزوج وآخر من أهل المرأة على الأُولى. ولو كانا من غير أهلهما أو كان أحدهما جاز أيضاً.
وهل بعثهما على سبيل التحكيم أو التوكيل؟ الأظهر أنّه تحكيم، فإن اتّفقا على الإصلاح فعلاه، وإن اتّفقا على التفريق لم يصحّ إلا برضى الزوج في الطلاق، ورضى المرأة في البذل إن كان خلعاً.
_____________________________________
قوله: «الشقاق وهو فعال من الشق كأنّ كلّ واحد منهما في شقّ».
لمّا كان ارتفاع أحدهما على الآخر دون صاحبه مختصاً باسم النشوز ناسب أن يخصّ التعدّي من كلّ منهما باسم الشقاق؛ لأنهما تشاركا في التعدي والتباعد فكأن كلا منهما صار فى شق، أي جانب غير جانب الآخر. وحاصله الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد.
قوله: «فإذا كان النشوز منهما وخشي الشقاق بعث الحاكم حكماً من أهل الزوج وآخر من أهل المرأة على الأولى» إلى آخره.
إذا كان النشوز منهما كان هو الشقاق نفسه كما تقدّم(1)، فقوله «وخشي الشقاق» أي خشي استمراره وإلا فهو حاصل من قبل. وعبّر بذلك موافقةً للآية الدالة على حكمه قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَاً إِصْلَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )(2)، ويجوز أن يراد من خشية الشقاق العلم به كما سلف(3)، وهو أولى من إضمار الاستمرار.
ص: 68
...
_______________________________________
ثم بيان حكم المسألة ينتظم في ستة أمور:
الأوّل: جعل المصنّف والأكثر الباعث للحكمين هو الحاكم، وجعلوا ضمير (فَابْعَثُوا) في الآية راجعاً إلى الحكام. وهو المناسب بمقام البعث والتحكيم، واللائق بقطع التنازع، والمرويّ(1) . وقال بعضهم: إنّ الضمير عائد إلى أهل الزوجين(2). وقيل: إلى الزوجين أنفسهما(3). ويضعف بأنّ ضمير الزوجين في الآية وقع مثنّى لغائب، والمأمور بالبعث هو الخائف من شقاقهما، وقد وقع الضمير عنه مخاطباً مجموعاً، وظاهر دلالته على المغايرة بينما. ولو كان كما قيل لقال تعالى: فليبعث كلّ منهما حَكَماً من أهله، أو نحو ذلك؛ ولأنّ الإنسان لا يبعث أحداً إلى نفسه.
ويظهر من المصنف في النافع اختيار هذا القول حيث قال: فإذا خشي الاستمرار بعث كلُّ
منهما حَكَماً من أهله. ولو امتنع الزوجان بعثهما الحاكم(4) .
وقريب منه كلام ابن الجنيد، إلّا أنه جعل الحاكم بأمر الزوجين بأن يبعثا من يختارانه من
أهلهما(5) . وفيه جمع بين الفائدتين والقولين.
وفي موثقة سماعة عن الصادق(علیه السلام) ما يرشد إلى كلام ابن الجنيد؛ لأنه قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: (فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة: أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح
ص: 69
...
___________________________________
والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة: نعم، فأشهدوا بذلك شهوداً عليهما، أيجوز تفريقهما عليهما؟ قال: «نعم»(1) الحديث. ويمكن أن يستدلّ بها على أنّ المرسل الزوجان.
وكيف كان فالأقوى الأوّل؛ لما ذكرناه. وعليه، فلو تعذر الحاكم، أو تعذر إرساله فبعث الزوجان كان المبعوث وكيلاً محضاً لا حكماً، فيفعل ما اقتضته الوكالة من عموم وخصوص، بخلاف ما لو جعلنا المأمور بالإرسال الزوجين أو أهلهما، فإنّه يأتي في المبعوث ما سنقرره في كونه وكيلاً أو حكماً.
الثاني: هل بعث الحكمين واجب أم مندوب؟ قولان(2)، من دلالة ظاهر الأمر على الوجوب، وكون الظاهر من حال الشقاق وقوع الزوجين أو أحدهما في المحرّم فيجب تخليصهما منه حسبةٌ، ومن إمكان الإصلاح بدون ذلك فلا يكون واجباً وإن كان راجحاً نظراً إلى ظاهر الأمر. والوجه بناءً على أنّ البعث من وظائف الحاكم الوجوب. ولو جعلنا متعلق الأمر الزوجين فالاستحباب أوجه؛ لإمكان رجوعهما إلى الحق بدون الحكمين، نعم، لو توقّف الرجوع إلى الحق عليهما وجب بعثهما مطلقاً من باب المقدّمة.
الثالث: هل يشترط كون الحكمين من أهل الزوجين، بمعنى كون المبعوث من قبلها من أهلها والمبعوث من قبله من أهله؟ قولان(3) ، منشؤهما دلالة ظاهر الآية على كونهما من أهلهما فلا يتحقق امتثال الأمر بدونه مؤيّداً بأنّ الأهل أعرف بالمصلحة من الأجانب ومن أنّ القرابة غير معتبرة في الحكم ولا في التوكيل وأمرهما منحصر في الأمرين، ولحصول الغرض بهما أجنبيين، والآية مسوقة للإرشاد فلا يدل الأمر على الوجوب،
ص: 70
...
_______________________________________
من قبيل (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)(1) . وهذا هو الأشهر، وهو الذي قطع به المصنّف والأكثر ، ولو تعذّر الأهل فلا كلام في جواز الأجانب.
الرابع: هل المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين ، أم حاكمان مولّيان من جهة الحاكم؟ فيه قولان(2) مرتبان على كون الباعث الحاكم؛ إذ لو جعلنا بعثهما من الزوجين فلا شبهة في كونه توكيلاً؛ لأنهما ليسا من أهل التفويض في الحكم الكلى وإن كان متعلقه جزئياً.
والأكثر على كونه تحكيماً؛ لأنّ الله تعالى سمّاهما حكمين، وخاطب يبعثهما الحكام، والوكيل مأذون ليس بحكم. ولأنّه لو كان توكيلاً لخاطب به الزوجين، ولأنّهما إن رأيا الإصلاح فعلاه من غير استئذان، ويلزم ما يشرطانه عليهما من السائغ، ولو كان توكيلاً لتبع ما دلّ عليه لفظهما . ووجه الأوّل أنّ البضع حق للزوج والمال حقّ للزوجة، وهما رشيدان فلا يولّى عليهما؛ ولأن الحكم يتوقف على الاجتهاد، وليس معتبراً فيهما.
ويضعف بأنّ حكم الشارع قد يجري على غير المحجور عليه كالمماطل، وبإصرار الزوجين على الشقاق صارا ممتنعين عن قبول الحق ، فجاز الحكم عليهما.
وإنّما لم يشترط الاجتهاد؛ لأنّ محلّه أمر معين جزئي، فيجوز تفويض الحاكم أمره إلى الأحاد كنظائره .
ص: 71
...
___________________________________________
فعلى الأوّل يتوقّف بعثهما على رضى الزوجين، فإن لم يرضيا ولم يتّفقا على شيء أدب الحاكم الظالم واستوفى حق المظلوم، وعلى الثاني لا يشترط رضاهما.
وعلى القولين يشترط فيهما البلوغ والعقل والإسلام والاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما .
وأمّا العدالّة والحرّيّة فإن جعلناهما حكمين اعتبرا قطعاً، وإن جعلناهما وكيلين ففي اعتبارهما وجهان أجودهما العدم؛ لأنهما ليسا شرطاً في الوكيل.
ووجه اشتراطهما عليه أنّ الوكالة إذا تعلقت بنظر الحاكم اشترط فيها ذلك كأمين الحاكم. الخامس: يجب على الحكمين الاجتهاد في النظر والبحث عن حالهما والسبب الباعث على الشقاق والتأليف بينهما ما أمكن.
ثمّ إن رأيا الإصلاح هو الأصلح فعلاه، وإن رأيا الأصلح لهما الفراق فهل يجوز لهما الاستبداد به، فيباشر حكمه الطلاق وحكمها بذل عوض الخلع إن رأيا الخلع هو الصلاح، أم يختص تحكيمهما بالإصلاح دون الفراق؟ قولان مرتبان على كونهما وكيلين أو حكمين.
فعلى الأوّل لا إشكال في وجوب مراعاة الوكالة، فإن تناولت الفراق فعلاه وإلا فلا.
وعلى الثاني في جواز الفراق أيضاً قولان مبنيان على أن مقتضى التحكيم على الإطلاق تسويغهما فعل ما يريانه صلاحاً فيتناول الطلاق والبذل حيث يكونان صلاحاً، ومن أنّ أمر طلاق المكلّف إلى الزوج، لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الطلاق بيد من أخذ بالساق»(1). وهذا هو الأشهر.
ويدلّ عليه من الأخبار حسنة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: (فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) (2)قال: «ليس للحكمين أن يفرقا
ص: 72
...
_____________________________________________
حتى يستأمرا الرجل والمرأة، ويشترطا عليهما إن شئتما جمعتما وإن شئتما فرقتما، فإن
جمعا فجائز وإن فرقا فجائز» (1).
ويظهر من ابن الجنيد جواز طلاقهما بدون الإذن؛ لأنّه قال:
ويشترط الوالي أو المرضي بحكمه على الزوجين أن للمختارين جميعاً أن يفرّقا بينهما أو يجمعا إن رأيا ذلك صواباً، وعلى كل واحد من الزوجين إنفاذ ذلك والرضى به، وأنّهما قد وكلاهما في ذلك، ومهما فعلاه فهو جائز عليهما(2).
وقد روي أنّ عليّاً(علیه السلام) بعث حكمين وقال: «تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما» فقالت المرأة رضيت بما في كتاب الله عليّ ولي. فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ(علیه السلام) : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به»(3).
وقد احتج بهذا الخبر الفريقان، فالأوّل من حيث إنّه اعتبر رضاهما وإقرارهما، والثاني من حيث جعل الجمع والتفريق إلى الحكمين. وقوله: «حتى تقرّ» أي ليس عليك أن تمتنع، بل عليك أن تنقاد لحكم الله تعالى كما انقادت. وهذا أشبه بمذهب ابن الجنيد.
ويتفرع عليه أن حَكَم الرجل إذا رأى أن يطلق بغير عوض طلق مستقلاً به؛ لأنّ حَكَم المرأة لا صنع له في الطلاق. ولا يزيد على واحدة، لكن إن راجع الزوج وداما على الشقاق زاد إلى أن يستوفي الطلقات الثلاث. وإن رأى الخلع وساعده حكم المرأة تخالعا. وإن اختلفا وقف.
السادس: ينبغي أن يخلو حَكَم الرجل بالرجل وحَكَم المرأة بالمرأة خلوةٌ غير محرّمة
ص: 73
تفريع: • لو بعث الحكمان فغاب الزوجان أو أحدهما، قيل: لم يجز الحكم؛ لأنّه حكم للغائب. ولو قيل بالجواز كان حسناً؛ لأن حكمهما مقصور على الإصلاح، أمّا التفرقة فموقوفة على الإذن.
_______________________________________
ليتعرّفا ما عندهما وما فيه رغبتهما. وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما على الآخر بما علم ليتمكّنا من الرأي الصواب، وينفذ حينئذ ما رأياه صواباً بشرطه. فإن اختلف رأيهما بعث إليهما آخرين حتّى يجتمعا على شيء.
وينبغي للحكمين إخلاص النيّة في السعي وقصد الإصلاح، فمن حسنت نيّته فيما يتحراه أصلح الله مسعاه، وكان ذلك سبباً لحصول مبتغاه، كما ينبه عليه قوله تعالى: (إن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )(1) ومفهوم الشرط أن عدم التوفيق بين الزوجين يدلّ على فساد قصد الحكمين، وأنهما لم يجتمعا على قصد الإصلاح، بل في نية أحدهما أو هما ،فساد ، فلهذا لم يبلغا المراد.
قوله: «لو بعث الحكمان فغاب الزوجان أو أحدهما» إلى آخره.
هذا الحكم مبنيّ على أنّ بعث الحكمين توكيل أو تحكيم، فعلى الأوّل ينفذ قطعاً؛ لأنّ تصرّف الوكيل فيما وكل فيه نافذ مع حضور الموكل وغيبته، ومع بقائه على الخصومة والشقاق وعدمه. ولو قلنا إنه تحكيم - كما هو المقصود - فقال الشيخ في المبسوط :
لا يجوز الحكم مع غيبة أحدهما؛ لأنّ الحكم حينئذ مشروط ببقاء الشقاق والخصومة بينهما، ومع الغيبة لا يعرف بقاء ذلك، ولأنّ كلّ واحد منهما محكوم له وعليه، ولا يجوز القضاء للغائب وإنّما يجوز عليه(2) .
وجوّز المصنّف والمتأخرون الحكم مع الغيبة؛ لأنّه مقصور على الإصلاح، وهو غير متوقّف على الحضور. وإنّما يمنع لو اشتمل على حكم له، كما لو حكما بالفرقة، وقد تقدّم
ص: 74
مسألتان:
الأولى: • ما يشترطه الحكمان يلزم إن كان سائغاً، وإلا كان لهما نقضه.
____________________________________________
أنّها لا يجوز (1). والأصل بقاء الشقاق استصحاباً لما كان قبل الغيبة.
وفيه نظر؛ لجواز أن يشتمل الحكم مع الإصلاح على شرطه لأحدهما فيكون حكماً للغائب وإن حصل معه الإصلاح.
وطرد بعضهم(2) الوجهين فيما لو سكت أحدهما؛ نظراً إلى العلّة الأولى؛ إذ لا يعلم بقاء الشقاق مع السكوت وهو ضعيف؛ لإمكان معرفة ذلك بالقرائن الحالية وإن كان ساكتاً، بل يمكن ذلك مع الغيبة أيضاً.
قوله: «ما يشترطه الحكمان يلزم إن كان سائغاً، وإلا كان لهما نقضه».
إذا شرط الحكمان شرطاً نظر فيه، فإن كان مما يصلح لزومه شرعاً لزم وإن لم يرض الزوجان، كما لو شرطا عليه أن يسكنها في البلد الفلاني أو المسكن المخصوص، أو لا يسكن معها في الدار أُمه(3) ولو في بيت منفرد، أو لا يسكن معها الضرّة في دار واحدة، أو شرطا عليها أن تؤجّله بالمهر الحالّ إلى أجل، أو تردّ عليه ما قبضته منه قرضاً، ونحو ذلك؛ العموم: «المؤمنون عند شروطهم»(4) وقد جعل إليهما الحكم. وإن كان غير مشروع، كما لو شرطا عليها ترك بعض حقّها من القسم أو النفقة أو المهر، أو عليه أن لا يتسرّى أو لا يتزوّج عليها أو لا يسافر بها، لم يلزم ذلك بلا خلاف.
ثمّ إن كان الشرط ممّا للزوجين فيه التصرّف - كترك بعض الحق - فلهما نقضه والتزامه تبرّعاً. وإن كان غير مشروع أصلاً - كعدم التزويج والتسرّي - فهو منقوض في نفسه.
ص: 75
الثانية: • لو منعها شيئاً من حقوقها، أو أغارها فبذلت له بذلاً ليخلعها صحّ، وليس ذلك إكراهاً.
_____________________________________
ويمكن أن يريد المصنّف بقوله «كان لهما نقضه» مطلقاً الشامل للجميع، الدال بمفهومه على أنّ لهما أيضاً التزامه التزام مقتضاه ، بأن لا يتزوّج ولا يتسرّى تبرّعاً بذلك وإن لم يكن لازماً له بالشرط. وإلى هذا يشير كلام الشيخ في المبسوط حيث قال في هذا القسم: فإن اختار الزوجان المقام على ما فعله الحكمان كان جميلاً، وإن اختارا أن يطرحا فعلا (1).
فإنّ ظاهر فعل الجميل كونه تبرّعاً وتفضلاً بغير استحقاق.
قوله: «لو منعها شيئاً من حقوقها، أو أغارها فبذلت له بذلاً ليخلعها صحّ» إلى آخره.
المراد بالحقِّ الذي منعها إيّاه فبذلت له الفدية لأجله الحقّ الواجب لها من القسمة والنفقة ونحوهما. وإنّما لم يكن ذلك إكراها وإن كان محرّماً؛ لأنه أمر منفكّ عن طلب الخلع ولا يستلزمه ، بل قد يجامع إرادة المقام معها، وإنّما الباعث على تركه حقها ضعف دينه، وحرصه على المال وميله إلى غيرها زيادة ونحو ذلك ممّا لا يستلزم إرادة فراقها ولا يدلّ عليه بوجه.
ونبه بقوله «أو أغارها» - أي تزوّج عليها - على أنّه لا فرق في ذلك بين ترك حقوقها الواجبة وغيرها؛ لأنّ إغارتها غير محرّمة وترك شيء من حقها الواجب محرم، وكلاهما لا يقتضيان الإكراه.
أما غير الحق الواجب - كالتزويج عليها، وترك بعض المستحبات كالجماع في غير الوقت الواجب، والتسوية بينها وبين ضرّاتها فيه وفي الإنفاق ونحوه - فظاهر ، حتى لو قصد بذلك فراقها لتفدي نفسها لم يكن إكراها عليه؛ لأنّ ذلك أمر سائغ، واقترانه بإرادة فراقها لا يقتضى الإكراه.
ص: 76
...
____________________________________
وأما تركه الحقّ الواجب فلما ذكرناه من أنه بمجرّده لا يدلّ على الإكراه بوجه. وكذا لو قصد بترك حقها ذلك ولم يظهره لها وإن كان آثماً. أمّا لو أظهر لها أن تركه لأجل البذل كان ذلك إكراهاً. وأظهر منه ما لو أكرهها على نفس البذل.
وما ذكره المصنّف قول الشيخ في المبسوط(1) ، ووافقهما عليه العلّامة في الإرشاد(2) . وفي التحرير نسب القول إلى الشيخ(3) ساكتاً عليه، مؤذناً بتردّده فيه أو ضعفه . وفي القواعد قيّد حقوقها بالمستحبة(4) ، ومفهومه أنّه لو منع الواجبة كان إكراها. وهذا القول نقله الشيخ في المبسوط أوّلاً عن بعض العامة، ثمّ قال: الذي يقتضيه مذهبنا أنّ هذا ليس بإكراه(5) وهو المعتمد.
ص: 77
و هي قسمان:
[القسم] الأول في إلحاق الأولاد
والنظر في أولاد الزوجات، والموطوءات بالملك، والموطوءات بالشبهة.
أحكام •ولد الموطوءة بالعقد الدائم:
وهم يلحقون بالزوج بشروط ثلاثة: الدخول ، ومضى ستة أشهر من حين الوطء، وأن لا يتجاوز أقصى الوضع، وهو تسعة أشهر على الأشهر. وقيل: عشرة أشهر. وهو حسن يعضده الوجدان في كثير. وقيل: سنة، وهو متروك.
______________________________________
النظر الرابع في أحكام الأولاد
قوله: «ولد الموطوءة بالعقد الدائم وهم يلحقون بالزوج» إلى آخره.
أجمع علماء الإسلام على أن أقلّ المدة التي يمكن فيها تولّد الإنسان حيّاً كاملاً ونشوؤه
من حين الوطء إلى حين الولادة ستة أشهر. ويدلّ عليه - مع الإجماع - قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ تَلَثُونَ شَهْرًا )(1)مع قوله تعالى: (وَفِصَلُهُ فِي عَامَيْنِ )(2) فتركب من الأمرين أن حمله يكون ستة أشهر؛ لأنّها الباقية من الثلاثين شهراً عن العامين، وليست هذه المدة أقصى مدة الحمل بالإجماع والوجدان، وإنّما هي أقلّ مدّته.
ص: 78
...
______________________________________________________
واختلفوا في أقصى مدته، فأطبق أصحابنا على أنها لا تزيد عن سنة، ثم اختلفوا فالمشهور بينهم أنه تسعة أشهر، ذهب إليه الشيخان في النهاية والمقنعة(1)، وابن الجنيد(2). وسلار (3)، وابن البراج(4) ، والمرتضى فى أحد قوليه(5) ، وجماعة آخرون(6).
ومستندهم رواية وهب عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(علیه السلام) : الولد لستة أشهر، ولسبعة، ولتسعة، ولا يعيش لثمانية أشهر»(7) .
ورواية عبد الرحمن بن سيابة عمّن حدثه، عن أبي جعفر(علیه السلام) ، قال: سألته عن غاية الحمل بالولد في بطن أمه كم هو ؟ فإنّ الناس يقولون: ربما بقي في بطنها سنتين. فقال: «كذبوا، أقصى مدة الحمل تسعة أشهر لا يزيد لحظة، لو زاد ساعة لقتل أمه قبل أن يخرج»(8) ورواية عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سمعت أبا إبراهيم(علیه السلام) يقول: «إذا طلق الرجل امرأته فادعت حبلاً انتظر تسعة أشهر، فإن ولدت وإلّا اعتدت بثلاثة أشهر ثم قد بانت »(9).
ورواية محمّد بن حكيم عنه(علیه السلام) قال: «إنّما الحمل تسعة أشهر»(10) الحديث.
وفي الاستدلال بهذه الأخبار مع كثرتها نظر؛ لأن وهب راوي الأولى مشترك بين
ص: 79
...
____________________________________
الضعيف والثقة(1) ، وفي طريقه من فيه نظر أيضاً. ومع ذلك لا دلالة فيه على نفي الزائد عن التسعة إلا من باب مفهوم العدد، وليس بحجة.
والرواية الثانية مرسلة فلا يعتمد على ما فيها، مع مخالفتها للوجدان كما ذكره المصنف.
وأمّا الثالثة فلا تدلّ صريحاً على أنّ التسعة أشهر أقصى الحمل، بل ربما دلّت على أنّه سنة؛ لأنّه لو علم انتفاء الحمل بعد التسعة يقيناً لم يحتج إلى الثلاثة أشهر بعدها؛ لأن المعتبر في غير الحامل أقرب الأمرين من ثلاثة أقراء وثلاثة أشهر، ومحصل هذه أمرها بالاعتداد بسنة، وذلك أعم من كون أقصى الحمل تسعة أشهر وسنة. ويمكن أن يكون الوجه في الأمر بانتظارها تسعة أشهر البناء على الغالب من كون الحمل بعد التسعة يوضع وإن لم يتعين.
وأمّا الرابعة فهى - مع كونها أظهر فى الدلالة على أن أقصى الحمل تسعة أشهر من السابقة - دالّة على أنّ الأقصى سنة؛ لأنّه قال فيها: قلت له: المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها زوجها فيرتفع طمثها ما عدّتها؟ قال: «ثلاثة أشهر» - إلى أن قال - قلت: فإنّها ارتابت. قال: «عدّتها تسعة أشهر». قلت: فإنّها ارتابت بعد تسعة أشهر. قال: «إنّما الحمل تسعة أشهر». قلت: فتزوّج، قال: «تحتاط بثلاثة أشهر». قلت: فإنّها ارتابت بعد ثلاثة أشهر. قال: «ليس عليها ريبة تزوّج»(2). فهذه كما ترى دالّة على جواز بلوغ الحمل سنة وإن كان الغالب التسعة، فلهذا أطلق التسعة ثمّ أمرها بالاحتياط ثلاثة لأجل احتمال الحمل، لا لأنّ العدة بعده ثلاثة، كما أشرنا إليه سابقاً. وهي أقوى الأدلة على أن أكثر الحمل سنة، وقد أوردها في الكافي(3) والتهذيب(4) ، بأسانيد كثيرة ومتون متقاربة مشتركة في هذا المعنى . وأجود طرقها الحسن.
ص: 80
•فلو لم يدخل بها لم يلحقه.
________________________________________
والقول بالسنة للمرتضى في الانتصار مدعياً عليه الإجماع(1) . ووافقه عليه أبو الصلاح (2)، ومال إليه فى المختلف(3). ويدلّ عليه من الأخبار - مضافاً إلى ما تقدم - رواية ابن حكيم عن أبي إبراهيم موسى أو أبيه(علیهما السلام) أنه قال في المطلقة يطلقها زوجها، فتقول: أنا حبلي، فتمكث سنة، قال: «إن جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق ولو ساعة واحدة في دعواها»(4).
وهذا القول أقرب إلى الصواب وإن وصفه المصنّف بالترك؛ إذ لم يرد دليل معتبر على كون أقصاه أقلّ من السنة، فاستصحاب حكمه وحكم الفراش أنسب وإن كان خلاف الغالب، وقد وقع في زماننا ما يدلّ عليه، مع أنّه يمكن تنزيل تلك الأخبار على الغالب، كما يشعر به قوله(علیه السلام): «إنّما الحمل تسعة أشهر» ثم أمر بالاحتياط ثلاثة نظراً إلى النادر، ولكن مراعاة النادر أولى من الحكم بنفي النسب عن أهله، بل يترتب ما هو أعظم من ذلك على المرأة، مع قيام الاحتمال معتضداً بقول سائر علماء الإسلام.
والقول بأنّ أقصاه عشرة للشيخ في موضع من المبسوط (5) واستحسنه المصنف هناء والعلّامة في أكثر كتبه(6) . وذكر جماعة(7) أنّ به رواية ، ولكن لم أقف عليها. وكيف كان فهو أقرب من القول بالتسعة.
قوله: «فلو لم يدخل بها لم يلحقه».
يتحقق الدخول الموجب لإلحاق الولد وغيره من الأحكام بغيبوبة الحشفة خاصةً أو قدرها من مقطوعها في القبل وإن لم ينزل على ما ذكره الأصحاب في مواضع كثيرة
ص: 81
•وكذا لو دخل وجاءت به لأقل من ستة أشهر حيّاً كاملاً.
• وكذا لو اتّفقا على انقضاء ما زاد عن تسعة أشهر أو عشرة من زمان الوطء أو ثبت ذلك بغيبة متحققة تزيد عن أقصى الحمل. ولا يجوز له إلحاقه بنفسه والحال هذه.
__________________________________________
وسيأتي التنبيه عليه في باب العدد(1) . وذكر الشهيد في قواعده أن الوطء في الدبر على هذا الوجه يساوي القبل في هذا الحكم وغيره إلا في مواضع قليلة استثناها(2). وما وقفت في كلام أحد على ما يخالف ذلك.
قوله: «وكذا لو دخل وجاءت به لأقل من ستة أشهر حياً كاملاً».
احترز بالحياة والكمالية عمّا لو ولدته في هذه المدّة غير حيّ أو ناقص الخلقة، فإنّه يمكن لحوقه به إذا قضى أهل الخبرة بإمكان تولّده منه على هذا الوجه من حين الدخول. وتظهر فائدة لحوقه به في وجوب مؤونة تجهيزه عليه، وفي استحقاق ديته لو جني عليه، ونحو ذلك.
والحكم بعدم لحوق الكامل الحيّ به فيما دون الستة هو المشهور بين الأصحاب؛ لما علم من أن أقل ما يمكن ولادته فيه حيّاً كاملاً هو الستة وخالف في ذلك الشيخان، فخيراه بين نفيه وبين الاعتراف به فيلحقه نسبه(3) . وهو شاذ.
والأصح وجوب نفيه للعلم بانتفائه عنه، فاعترافه بنسبه وإلحاق أحكام النسب به محرم.
قوله: «وكذا لو اتفقا على انقضاء ما زاد عن تسعة أشهر» إلى آخره.
إذا ولدت الزوجة بعد أقصى زمان الحمل من حين الوطء انتفى عن الزوج في نفس الأمر.ووجب عليه نفيه ظاهراً، كما يجب عليه نفيه مع عدم الدخول أو ولادته لدون أقلّ الحمل.
ص: 82
...
________________________________________________
وقد ذكر المصنّف وغيره هنا أن أقصى المدّة المذكورة الموجب لنفي الولد يحصل بأمرين: أحدهما: اتفاق الزوجين على عدم الوطء في المدة المذكورة، والثاني: ثبوت ذلك بغيبة أحدهما عن الآخر في جميع المدّة. ولا إشكال في انتفائه عنه مع ثبوت ذلك بالبينة أو ما في حكمها.
وأما ثبوت الحكم بمجرّد اتفاقهما على عدم الوطء في المدّة، فوجهه أنّ الحق منحصر فيهما ، والفعل لا يعلم إلّا منهما، وإقامة البيئة على ذلك متعذرة أو متعسّرة، فلو لم نكتف باتفاقهما عليه وألحقنا به الولد حتماً نظراً إلى الفراش لزم الحرج والإضرار به، حيث يعلم انتفاءه عنه في الواقع ولا يمكنه نفيه ظاهراً، ولأنّ الشارع أوجب عليه نفيه عنه مع العلم بانتفائه، وجعل له وسيلة إليه مع إنكار المرأة باللعان، فلا بدّ في الحكم من نصب وسيلة إلى نفيه مع تصادقهما ليثبت له الحكم اللازم له شرعاً، ولا يمكن ذلك باللعان؛ لأنّه مشروط بتكاذب الزوجين ليمكنهما الشهادة بالألفاظ الدالّة على صدق الشاهد وكذب المشهود عليه، وظاهر لزوم الضرر لو لم يثبت ذلك باتفاقهما؛ إذ لا وسيلة له سواه.
وقد استشكل ذلك الشهيد (رحمه الله) في بعض حواشيه بأنهما لو اتفقا على الزني لم ينتف الولد ولحق بالفراش، وهو قائم مع اتّفاقهما هنا (1).
ويمكن حل الإشكال بأنّ مجرّد الزنى غير كافٍ في انتفاء الولد عن الفراش إذا كان قد وطئ وطاً يمكن إلحاقه به ؛ لما ثبت شرعاً من أنّ «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(2)، وهذا بخلاف ما إذا تصادقا على عدم الوطء في المدّة المذكورة؛ لأنّ الولد لا يمكن لحوقه بالزوج من دون الوطء في مدّة الحمل، ومن ثم اتفقوا على أنّه لو ثبت عدم الوطء في المدة بالبينة
ص: 83
•ولو وطئها واطئ فجوراً كان الولد لصاحب الفراش، لا ينتفي عنه إلا باللعان؛ لأن الزاني لا ولد له.
___________________________________________
- حيث يمكن إثباتها كما لو اتّفقت الغيبة - انتفى عنه بغير إشكال، بخلاف ما إذا ثبت زناها بالبينة، فإنّه لا يوجب نفيه عن الزوج ولا عن المرأة مع وجود الفراش الذي يمكن إلحاقه به، فافترق الأمران.
نعم، يحصل الإشكال من وجه آخر وهو منع انحصار الحقّ في الزوجين حتّى يقبل تصادقهما على ذلك، بل للولد في النسب حق أيضاً، وقد حكموا بأنّه لو ادعى مدّع مولوداً على فراش غيره، بأن ادّعى وطأه بالشبهة وصدّقه الزوجان فلابد من البينة لحقّ الولد. ولا يكفي تصديق الزوجين له في دعوى الولد. ومثل هذا آت هنا إن وافق المصنّف على هذا المدعى، إلّا أنه يمكن منعه بما ذكرناه من الحرج والضرر ، وكيف يجتمع الحكم بعدم جواز إلحاقه ووجوب نفيه مع الحكم بعدم انتفائه عنه بوجه من الوجوه حيث يتعذر إقامة البينة.
قوله: «ولو وطئها واطئ فجوراً كان الولد لصاحب الفراش» إلى آخره.
المراد بكونه لصاحب الفراش مع وطئه لها على وجه يمكن إلحاقه به فلا يعارضه حينئذٍ وطء الزاني؛ لأنّ الزاني لا يلحق به الولد وإن لم يكن هناك فراش، فيلحق الولد بالفراش على هذا الوجه، لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الولد للفراش وللعاهر الحجر »(1) . ولا فرق في ذلك بين كون الولد مشبهاً للزاني في الخلق والخلق وعدمه عملاً بالإطلاق، وتمسكاً بالاتفاق.
واحترز بالوطء فجوراً عمّا لو وطئها بشبهة بحيث يمكن تولّده من الزوج والواطئ بالشبهة، وذلك بأن تلده فيما بين أدنى الحمل وأقصاه من وطئهما، فإنّه يقرع بينهما ويلحق بمن تقع عليه القرعة؛ لأنّها فراش لهما. ولا فرق بين وقوع الوطءين في طهر واحد وعدمه، بل المعتبر إمكان إلحاقه بهما كما ذكرناه. ولو أمكن إلحاقه بواطئ الشبهة دون الزوج تعين له من غير قرعة كالعكس.
ص: 84
• ولو اختلفا في الدخول أو في ولادته فالقول قول الزوج مع يمينه. • ومع الدخول وانقضاء أقلّ الحمل لا يجوز له نفي الولد؛ لمكان تهمة أمه بالفجور، ولا مع تيقنه، ولو نفاه لم ينتف إلا باللعان.
• ولو طلّقها فاعتدت ثمّ جاءت بولد ما بين الفراق إلى أقصى مدة الحمل لحق به إذا لم توطأ بعقد ولا شبهة.
__________________________________________
قوله: «ولو اختلفا في الدخول أو في ولادته فالقول قول الزوج مع يمينه».
إذا اختلفا في الدخول فادّعته المرأة ليلحق به الولد وأنكره، أو اتّفقا عليه ولكن أنكر الزوج ولادتها للولد وادّعى أنّها أتت به من خارج فالقول قوله في الموضعين؛ لأصالة عدم الدخول وعدم ولادتها له ولأنّ الأوّل من فعله فيقبل قوله فيه، والثاني يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قولها فيه بغير بينة.
قوله: «ومع الدخول وانقضاء أقلّ الحمل لا يجوز له نفي الولد» إلى آخره.
لا بدّ مع انقضاء أقلّ الحمل بعد الدخول من عدم تجاوزه أكثر الحمل.
والحاصل أنه متى أمكن انتساب الولد إلى الزوج يحكم به له، ولا يجوز له نفيه، سواء تحقق فجور أُمه أم لا، وسواء ظن انتفاءه عنه أم لا؛ عملاً بظاهر الشرع، وصوناً للأعراض عمّا يشينها وعملاً بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الولد للفراش»(1) . ولا يستثنى من ذلك إلّا مع وطء الشبهة كما مر. ولو نفاه حيث يحكم بإلحاقه به ظاهراً لم ينتف إلا باللعان. وليس له اللعان بمجرّد الشبهة، بل مع تيقن نفيه عنه.
قوله: «ولو طلّقها فاعتدت، ثمّ جاءت بولد» إلى آخره.
إذا طلق المدخول بها فأتت بعد الطلاق بولد لستة أشهر فصاعداً من حين وطء المطلق ولم يتجاوز أقصى الحمل ولم توطأ بعده بعقد ولا شبهة، فهو للمطلّق بغير إشكال : لأنها فراشه ولم يلحقها فراش آخر يشاركه في الولد وإن كان لأزيد من مدة الحمل انتفى عنه مطلقاً.
ص: 85
...
_________________________________________
وإن لحقها فراش آخر بعقد أو شبهة، فإن لم يمكن لحوقه بالثاني، كما لو ولدته لأقلّ من ستة أشهر من وطئه ولأقصى الحمل فما دون من وطء الأوّل، لحق بالأوّل أيضاً، وتبيّن بطلان نكاح الثاني لوقوعه في عدّة الأوّل، وحرمت عليه أبداً؛ لوطئه في العدة.
ولو انعكس بأن ولدته لأزيد من أكثر الحمل من وطء الأوّل ولأقلّ الحمل فصاعداً إلى الأقصى من وطء الثاني لحق بالثاني قطعاً.
وإن ولدته لأزيد من أكثر الحمل من وطء الأول ولدون ستة أشهر من وطء الثاني انتفى عنهما قطعاً.
وإن أمكن إلحاقه بهما بأن ولدته فيما بين أقصى الحمل وأدناه من وطئهما أمكن كونه منهما. ولا خلاف في عدم ترجيح الأوّل؛ لأنّ فراش الثاني إما أقوى - من حيث زوال الأوّل وحصول الثاني بالفعل - أو مساو له. وفي ترجيح الثاني أو اعتبار القرعة قولان، منشؤهما من كونها حال الوطء فراشاً لكلّ منهما، والزمان صالح لإلحاقه بهما، فلا ترجيح إلا بالقرعة، ومن أنّ فراش الثاني ثابت بالفعل حقيقة بخلاف الزائل فإنّه مجاز عند جمع من الأصوليين(1). وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الولد للفراش»(2). والقولان للشيخ في المبسوط والنهاية(3) والعلّامة في المختلف(4) وغيره(5) . واختار المصنّف إلحاقه بالثاني. ولعله أقوى.
ثم عد إلى العبارة. واعلم أن قوله « ثم جاءت بولد ما بين الفراق إلى أقصى الحمل» ليس بجيّد؛ لأن الفراق قد يقع بعد زمان طويل من وقت الوطء وأقلّه مدّة الاستبراء، والمعتبر في مدة الحمل ما بين الوطء والوضع، فكان الأصوب إبدال الفراق بالوطء. وقوله «إذا لم توطأ
ص: 86
•ولو زنی بامرأة فأحبلها ثمّ تزوج بها لم يجز إلحاقه به، وكذا لو زني بأمة فحملت ثم ابتاعها.
• ويلزم الأب الإقرار بالولد مع اعترافه بالدخول وولادة زوجته له. فلو أنكره والحال هذه لم ينتف إلا باللعان.
_____________________________________________
بعقد ولا شبهة» غايةً لإلحاقه به على الإطلاق، فأما إذا حصل أحد الأمرين لم يبق الحكم بإلحاقه به على إطلاقه، بل فيه التفصيل الذي ذكرناه - وسننبه عليه في آخر الباب(1) - وكان اتصاله به أولى .
قوله: «ولو زنى بامرأة فأحبلها، ثم تزوج بها لم يجز إلحاقه به» إلى آخره.
إنما لم يجز إلحاقه به؛ لأنّه متولّد من الزنى والمتولد من الزني لا يلحق بالزاني. وتجدّد الفراش لا يقتضي إلحاق ما قد حكم بانتفائه، ولا يدخل في عموم «الولد للفراش» لأنّ المراد منه المنعقد في الفراش لا المتولّد مطلقاً، ولهذا انتفى عنه قبل الفراش، ولم ينتف عن الفراش لو ولد بعد الطلاق والعدة.
ويدلّ عليه بخصوصه رواية علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن القمي قال: كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر (علیه السلام): - جعلت فداك - ما تقول في رجل فجر بامرأة فحملت، ثمّ إنّه تزوّجها بعد الحمل فجاءت بولد وهو أشبه خلق الله به؟ فكتب(علیه السلام) بخطه وخاتمه «الولد لغيّة لا يورث»(2).
قوله: «ويلزم الأب الإقرار بالولد مع اعترافه بالدخول وولادة زوجته له» إلى آخره.
المراد ولادة زوجته له على وجه يوجب إلحاقه به بأن تلده ما بين أقل ّمدة الحمل إلى أكثرها، وترك ذلك اعتماداً على ما سبق. ولقد كان هذا العذر يوجب ترك ذكر هذه المسألة أيضاً، لذكره لها عن قريب.
ص: 87
• وكذا لو اختلفا في المدة.
• ولو طلق امرأته فاعتدت وتزوّجت أو باع أمته فوطئها المشتري ثم جاءت بولد لدون ستة أشهر كاملاً ، فهو للأوّل. وإن كان لستة فصاعداً فهو للثاني.
__________________________________
قوله: «وكذا لو اختلفا في المدة».
أي اختلف الزوجان في مدة الحمل من حين الوطء مع اتفاقهما عليه فادّعى ولادته لدون ستة أشهر أو لأزيد من أقصى الحمل، وادّعت ولادته لدون الأقصى على وجه يلحق به، فإنّه لا يلتفت إلى قوله ويلزمه الإقرار به، ولم ينتف عنه إلّا باللعان كما يقتضيه تشبيه حكم هذه المسألة بالسابقة؛ تغليباً لجانب الفراش ولأصالة عدم زيادة المدة في الثاني فمعها فيه الأصل والظاهر.
أما الأوّل فيشكل تقديم قولها فيه؛ لأنّ الأصل عدم مضي المدة المتنازع فيها، ولأن مآل هذه الدعوى إلى دعوى الدخول، فإنّه إذا قال: لم تمض ستة أشهر من حين الوطء، فمعناه أنّه لم يطأ قبل هذه المدّة وإنّما وطئ في أثنائها، كما أن قوله مقدّم في عدم الدخول؛ لأصالة عدمه فكذا هنا؛ لأصالة عدم تقدمه؛ لاشتراكهما في تعليل الأصل وإن افترقا في أصل وقوع الفعل وعدمه، فإن تقديم قوله في عدم الوطء ليس من حيث كونه وطاً بل من جهة موافقته للأصل، وهو مشترك بين الأمرين.
ولو نظر في تقديم قولها هنا إلى أنهما مع الاجتماع والخلوة يكون الظاهر الدخول، فيكون من باب ترجيح الظاهر على الأصل - كما قيل به في مواضع، منها وجوب المهر مع الخلوة - كان ذلك مشتركاً بين المسألتين؛ لأنه مع إنكار أصل الدخول مع الاجتماع يكون مدعياً خلاف الظاهر، فالحكم بتقديم قولها في هذه الصورة مشكل ولو خصّ الحكم بالصورة الأُولى كان حسناً.
قوله: «ولو طلق امرأته فاعتدت وتزوجت» إلى آخره.
هذا بيان حكم ما أجمله سابقاً في قوله «إذا لم توطأ بعقد ولا شبهة». وقد فصلناه في
ص: 88
أحكام ولد الموطوءة بالملك
•إذا وطئ الأمة فجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً لزمه الإقرار به، لكن لو نفاه لم يلا عن أمّه ، وحكم بنفيه ظاهراً . ولو اعترف به بعد ذلك ألحق به.
_________________________________________
محله(1)، فهو به أليق. وزاد هنا أنه لا فرق بين الطلاق وبيع الأمة لاشتراكهما في المقتضي زوالاً وحدوثاً. وفي حكم بيع الأمة عتقها ثم تزويجها.
ويدلّ على تقديم الثاني مع إمكان كونه منهما - مضافاً إلى ما تقدم - رواية زرارة عن الباقر(علیه السلام) قال : سألته عن الرجل إذا طلق امرأته ثمّ نكحت وقد اعتدت ووضعت لخمسة أشهر : «فهو للأوّل، وإن كان نقص من ستة أشهر فلأمه وأبيه الأول، وإن ولدت لستة أشهر فهو للأخير»(2).
وعلى حكم الأمة صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها فاعتدت ونكحت فإن وضعت لخمسة أشهر فإنّه لمولاها الذي أعتقها، وإن وضعت بعد ما تزوجت لستة أشهر فإنّه لزوجها الأخير»(3).
قوله: «إذا وطئ الأمة فجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً» إلى آخره.
لا فرق في الحكم بذلك بين أن نقول بجعل الأمة فراشاً بالوطء وعدمه؛ لورود النصوص بوجوب إلحاقه به حيث يمكن تولّده منه (4)؛ ولا يجوز له نفيه إلا مع العلم بانتفائه عنه، فإن نفاه انتفى عنه ظاهراً بغير لعان؛ لأنّه مختصّ بالزوجين كما دلّ عليه قوله تعالى (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَجَهُمْ)(5) الآية. وحيث يعترف به في وقت من الأوقات يلزمه نسبه،
ص: 89
•ولو وطئ الأمة المولى وأجنبي حكم بالولد للمولى.
• ولو انتقلت إلى موال بعد وطء كلّ واحد منهم لها حكم بالولد لمن هي عنده إن جاءت لستة أشهر فصاعداً منذ يوم وطئها، وإلّا كان للذي قبله إن كان لوطئه ستة أشهر فصاعداً، وإلا كان للّذي قبله. وهكذا الحكم في كلّ واحد منهم.
___________________________________
ولا يجوز له نفيه بعده وإن كان قد نفاه أولاً؛ لأنه بإقراره به لزمه حكم الإقرار لعموم الخبر(1) . وفي رواية عن عليّ (علیه السلام) قال: «إذا أقر الرجل بالولد ساعة ثم نفاه لم ينتف منه أبداً »(2).
قوله: «ولو وطئ الأمة المولى وأجنبي حكم بالولد للمولى».
هذا إذا كان الواطئ زانياً ، فلو كان واطئاً لشبهة وأمكن إلحاقه بهما أقرع كما مر. وقد روى
سعيد الأعرج عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عبد الله قال: سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال: «للذي عنده ؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) : الولد للفراش، وللعاهر الحجر»(3).
قوله: «ولو انتقلت إلى موال بعد وطء كل واحد منهم لها حكم بالولد لمن هي عنده إن جاءت لستة أشهر فصاعداً منذ يوم وطئها» إلى آخره.
إذا تعدد الموالي ووطئ كل واحد منهم فهى فراش للجميع أو في معنى الفراش، فيلحق الولد بالمالك بالفعل دون الزائل مع إمكان لحوقه به وإلّا فللسابق عليه؛ لأنه ناسخ لحكم الذي قبله مع إمكان لحوقه، وإلا فالسابق، وهكذا. ويجيء على القول بالقرعة في الفراش المتجدّد بالزوجيّة بينه وبين المتقدّم ورودها هنا، إلا أنّ الاحتمال هنا أضعف؛ لورود
ص: 90
•ولو وطئها المشتركون فيها في طهر واحد فولدت فتداعوه أقرع بينهم، فمن خرج اسمه الحق به وأغرم حصص الباقين من قيمة أمّه وقيمته يوم سقط حيّاً. وإن ادعاه واحد الحقّ به وألزم حصص الباقين من قيمة الأم والولد.
__________________________________________
الأخبار بتقديم من هي في يده على السابق(1) زيادة على ما ذكرناه هناك من وجه التقديم (2). ويدلّ على تقديم الحاضر رواية الصفّار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته وسئل عن رجل اشترى جاريةٌ ثم وقع عليها - إلى قوله - فإنّه باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ثمّ باعها الثاني من رجل آخر فوقع عليها ولم يستبرئ رحمها، فاستبان حملها عند الثالث فقال أبو عبد الله(علیه السلام) : «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»(3).
وروى الحسن الصيقل عن أبي عبد الله(علیه السلام) مثله، إلا أنه قال: «الولد للّذي عنده الجارية، ويصبر ؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): الولد للفراش وللعاهر الحجر»(4) وفي هاتين الروايتين دلالة على أنّ الأمة تصير فراشاً للمولى بالوطء. وسيأتي تحقيقه في اللعان(5) .
قوله: «ولو وطئها المشتركون فيها في طهر واحد فولدت» إلى آخره.
الأمة المشتركة لا يجوز لكلّ واحد من الشركاء وطؤها؛ لتعلّق حق غيره بها. لكن لو وطئها بغير إذن لم يكن زانياً بل عاصياً يستحق التعزير ويلحق به الولد وتقوم عليه الأُمّ والولد يوم سقط حيّاً، ويغرم حصص الباقين. وقد تقدّم الكلام في ذلك(6).
ولو فرض وطء الجميع لها في طهر واحد فعلوا محرّماً ولحق بهم الولد، لكن لا يمكن التحاقه بالجميع بل بواحد منهم بالقرعة، كما لو كانت فراشاً لاثنين فصاعداً فمن خرجت له القرعة الحق به وغرم حصص الباقين، كما ذكرناه.
ص: 91
...
_______________________________________
هذا إذا أشكل عليهم الأمر ولم يعلم تولّده من واحد بعينه، كما هو الظاهر من حال الواطئين في طهر واحد. وحكمهم عند الاشتباه مع الله تعالى أن لا يدعيه أحد منهم بخصوصه، بل يرجعوا فيه إلى القرعة، لكن لو فرض ادعاء كل واحد له أُقرع بينهم أيضاً، وأُلحق بمن خرج اسمه، وأغرم حصص الباقين من قيمته وقيمة أُمه؛ لأنّها صارت أُمّ ولد بالنسبة إلى من الحق به.
والأصل في هذه المسألة حسنة أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «بعث رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) عليّاً إلى اليمن فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما مرّ عليك، قال: يا رسول الله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية، فوطؤها جميعاً في طهر واحد فولدت غلاماً، واحتجوا فيه كلّهم يدعيه، فأسهمت بينهم، وجعلته للذي خرج سهمه، وضمنته نصيبهم. فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : إنه ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق»(1) .
والأصحاب حكموا بمضمونها، وحملوا قوله وضمنته نصيبهم على النصيب من الولد والأُمّ معاً، كما لو كان الواطئ واحداً منهم ابتداء، فإنّه يلحق به ويغرم نصيبهم منهما كذلك.
لكن يشكل الحكم بضمانه لهم نصيب الولد؛ لادّعاء كلّ منهم أنه ولده وأنّه لا يلحق بغيره، ولازم ذلك أنّه لا قيمة له على غيره من الشركاء. وهذا بخلاف ما لو كان الواطئ واحداً، فإنّ الولد محكوم بلحوقه به ولمّا كان من نماء الأمة المشتركة نماء الأمة المشتركة جمع بين الحقّين بإغرامه قيمة الولد لهم وإلحاقه به بخلاف ما هنا والرواية ليست صريحةً في ذلك؛ لأن قوله وضمنته نصيبهم يجوز إرادة النصيب من الأُمّ؛ لأنه هو النصيب الواضح لهم باتفاق الجميع، بخلاف الولد.
ص: 92
•ولا يجوز نفي الولد لمكان العزل.
__________________________________________
ويمكن أن يكون الوجه في إغرامه نصيبهم من الولد أن ذلك ثابت عليه بزعمه أنه ولده. ودعواهم لم تثبت شرعاً، فيؤاخذ المدّعي بإقراره بالنسبة إلى حقّهم، والنصيب في الرواية يمكن شموله لهما معاً من حيث إنّ الولد نماء أمتهم، فلكلّ منهم فيه نصيب، سواء ألحق به أم لا، ولهذا يغرم من لحق به نصيب الباقين في موضع الوفاق.
وعلى كل حال فالعمل بما ذكره الأصحاب متعيّن، ولا يسمع الشك فيه مع ورود النصّ به ظاهراً وإن احتمل غيره.
ولو كان المدّعي به بعضهم دون بعض، فإن اتّحد لحق به وحده، وكان حكم الباقين حكم من نفى ولده من أمته الملحق به ظاهراً، فإنّه ينتفي عنه بغير لعان، وإن كان نفيه محرّماً عليه من دون أن يعلم انتفاءه، وهنا أولى.
وإن كان المدّعي متعدداً - كاثنين منهم - مع نفي الباقين له أقرع بين المتداعيين كما لو انحصر الملك فيهما، وألحق بمن أخرجته القرعة كما لو أقرع بين الجميع، ولحقه باقي الأحكام.
ولو لم يدعه أحد منهم أُقرع بينهم أيضاً، وألحق بمن أخرجته كما ذكرناه.
ولا فرق في جميع هذه الأحكام بين وطئهم لها عالمين بالتحريم وجاهلين وبالتفريق. وإنّما يفترق الجاهل والعالم في الحكم بالإثم وعدمه، وفي استحقاق التعزير وعدمه. وكما لا يصح لأحد منهم تصديق المدعي فيه بدون أن يعلم انتفاءه عنه، لا يصحّ لهم الاتّفاق على نفيه عنهم إلا مع العلم كذلك.
وبالجملة فحكم كلّ واحد بالنسبة إلى هذا الولد كولده من الأمة الموطوءة المنفردة من حيث الحكم باللحوق وتحريم النفي وانتفائه على تقديره بغير لعان، ويزيد هنا توقّف لحوقه بأحدهم على القرعة، كما لو وطئ الأمة غير مالكها وطأ يمكن أن يلحق بكلّ منهما الولد.
قوله: «ولا يجوز نفى الولد لمكان العزل».
قد عرفت أن لحوق الولد بالواطئ بالملك والزوجيّة لا يتوقف على العلم بإنزال الماء،
ص: 93
•ولو وطئ أمته ووطئها آخر فجوراً لحق الولد بالمولى. ولو حصل مع ولادته أمارة يغلب معها الظنّ أنّه ليس منه قيل: لم يجز له إلحاقه به ولا نفيه، بل ينبغي أن يوصي له بشيء، ولا يورثه ميراث الأولاد. وفيه تردّد.
__________________________________________
بل يكفي فيه تغيب الحشفة أو قدرها، فبالأولى أن يلحق الولد بالواطئ إذا عزل عنها؛ لإمكان أن يسبقه شيء من الماء من غير أن يشعر به.
وقد يقع الإشكال في الموضعين بتقدير العلم بعدم نزول الماء ولكنّ الأصحاب أطلقوا الحكم كما وصفناه، وغيرهم من العامة اختلفوا في ذلك، فمنهم من وافق الأصحاب على ذلك(1)، ومنهم من اشترط في لحوق الولد نزول الماء ونفاه عنه مع العزل فضلاً عن تغيب الحشفة مجرّداً (2).
قوله: «ولو وطئ أمته ووطئها آخر فجوراً لحق الولد بالمولى» إلى آخره.
القول المذكور للشيخ (رحمه الله)(3) وأتباعه (4)، وأكثر الأصحاب؛ استناداً إلى رواياته(5) كثيرة دالّة بظاهرها على ذلك، لكنّها مختلفة الدلالة والأسناد، والواضح السند منها ليس بصريح في المطلوب، والدال عليه ظاهراً ضعيف السند ولكثرتها أعرضنا عن نقلها، مضافاً إلى مخالفتها للقواعد الشرعيّة، والأخبار الصحيحة المتّفق عليها من أنّ «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»(6). وأنّه لا عبرة في الولد بمشابهة الأب أو غيره.
ص: 94
احکام ولد الشهبة
• الوطء بالشبهة يلحق به النسب فلو اشتبهت عليه أجنبيّة فظنّها زوجته أو مملوكته فوطئها لحق به الولد. وكذا لو وطئ أمة غيره لشبهة، لكن في الأمة يلزمه قيمة الولد يوم سقط حيّاً؛ لأنه وقت الحيلولة.
______________________________________
ولأن الولد المذكور إن كان لاحقاً به فهو حرّ ،وارث وإلا فهو رق، فجعله طبيعة ثالثة وقسماً آخر ليس بجيد ومقتضى النصوص أنّ الولد يملك الوصيّة ولا يملكه المولى(1) ولا الوارث، وهي من خواص الحرّ، لكن عدم إلحاقه به ينافي ذلك.
والأقوى الإعراض عن مثل هذه الروايات والأخذ بالمجمع عليه من أنّ «الولد للفراش»(2) حيث تجتمع شرائط إلحاقه به.
قوله: «الوطء بالشبهة يلحق به النسب» إلى آخره.
لا خلاف في أنّ وطء الشبهة كالصحيح في لحوق أحكام النسب. وقد تقدم(3) تعريفه وبيان جملة من أحكامه في أوّل الكتاب. ويزيد عن النكاح الصحيح أن الشبهة لو تعلّقت بأمّة غيره فوطئها لحق به الولد لكن يلزمه قيمته لمولاها يوم ولد حياً ؛ لأنه نماء مملوكته. وقد تقدم(4) أن ولد الحرّ لا يكون رقاً، فيجمع بين الحقين بإعطاء المولى قيمة الولد يوم ولد على تقدير ولادته حياً، وإلا فلا شيء له، وينعقد الولد حراً تبعاً لأبيه، ولا ينافيه لزوم قيمته؛ لأنّ ذلك تقويم منفعة الأمة التي فاتت المولى بسبب تصرف الغير فيها. فعلى هذا لو لم يعطه قيمته بقي في ذمّة الأب، ولا يرجع الولد رقاً. وقد تقدم(5) البحث في نظائر ذلك.
ص: 95
ولو تزوج امرأةً لظنّها خاليةً ، أو لظنها موت الزوج أو طلاقه فبان أنّه لم يمت ولم يطلّق، ردّت على الأوّل بعد الاعتداد من الثاني، واختص الثاني بالأولاد مع الشرائط، سواء استندت في ذلك إلى حكم الحاكم أو شهادة شهود أو إخبار مخبر.
قوله: «ولو تزوج امرأة لظنّها خالية» إلى آخره.
هذا الحكم ذكره الشيخ ، والأصحاب كذلك . والمستند أخبار كثيرة تدل بإطلاقها ولا إشكال فيها على تقدير حكم الحاكم أو شهادة شاهدين يعتمد على قولهما في ذلك شرعاً وإن لم يحكم حاكم؛ إذ ليس هناك نزاع حتى يفتقر الحكم إليه، وحينئذ فيكون ذلك شبهة مسوّغة للوطء، وموجبة لإلحاق الأولاد، وثبوت الاعتداد بعد ظهور الفساد؛ لأن وطء الشبهة يوجب ذلك.
وأما على تقدير كون المخبر ممن لا يثبت ذلك به شرعاً كالواحد، فينبغي تقييده بما لو ظنا جواز التعويل على خبره جهلاً منهما بالحكم، فلو علما بعدم الجواز كانا زانيين، فلا يلحق بهما الولد ولا عدّة عليها منه ولو جهل أحدهما ثبتت العدة، ولحق الولد به دون الآخر.
و في التحرير صرّح بالاجتزاء بخبر الواحد.
وهو محمول على ما ذكرناه ليوافق القواعد الشرعيّة.
ص: 96
القسم الثاني في أحكام الولادة
والكلام فى سنن الولادة واللواحق.
أما سنن الولادة
• فالواجب منها استبداد النساء بالمرأة عند الولادة، دون الرجال إلا مع عدم النساء. ولا باس بالزوج وإن وجدت النساء.
• والندب ستة: غسل المولود
______________________________________
قوله: «فالواجب منها استبداد النساء بالمرأة عند الولادة» إلى آخره.
وجه وجوب استبدادهنّ بها من دون الرجال أنّ مثل ذلك يوجب سماع صوتها غالباً، والاطلاع على ما يحرم عليهم. وهذا يتم مع لزوم ذلك لا مطلقاً، ويتخلف في الرجال المحارم حيث لا يستلزم الاطلاع على ما يحرم على المحرم رؤيته، وينبغي تقديم الرجال المحارم على الأجانب لذلك، وبعضهم أوجبه . ولا شبهة في جواز الرجال مطلقاً عند عدم النساء، وجواز الأجانب عند عدم المحارم والزوج؛ لأنّ الضرورة تبيح من نظر المرأة، وسماع صوتها مثل ذلك، كنظر الطبيب ولمسه في وقت الحاجة ولو إلى العورة. وهذا الوجوب في جميع المراتب كفائي يجب على من بلغه حالها من النساء إلى أن يحصل من فيه الكفاية فيسقط عن الباقين.
وكذا حكم الرجال حيث ينتقل إليهم.
قوله: «والندب ستة غسل المولود».
إطلاق الغسل يقتضي اعتبار النية فيه والترتيب وغيرهما من أحكامه، مع احتمال عدمه،
ص: 97
• والأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى.
• وتحنيكه بماء الفرات وبتربة الحسين(علیه السلام) ، فإن لم يوجد ماء الفرات فبماء فرات. وإن لم يوجد إلا ماء ملح جعل فيه شيء من التمر أو العسل.
________________________________________
وأنه تنظيف محض له عن النجاسات العارضة له أو مطلقاً .
قوله: «والأذان في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى».
قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «من ولد له مولود فليؤذن في أذنه اليمنى أذان الصلاة، وليقم في أذنه اليسرى فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم» .
وقال الصادق لأبي يحيى الرازي: «إذا ولد لكم مولود أيّ شيء تصنعون؟» قلت: لا أدري ما يصنع به. قال: «خذ عدسة جاوشير فدقه بالماء ثم قطر في أنفه في المنخر الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة، وأذن في أذنه اليمنى وأقم في اليسرى، تفعل به ذلك قبل أن تقطع سرته، فإنّه لا يفزع أبداً، ولا تصيبه أمّ الصبيان» .
وفي حديث آخر عنه(علیه السلام) : «مروا القابلة أو بعض من يليه أن تقيم الصلاة في أُذنه اليمنى. فلا يصيبه لهم ولا تابعة أبداً».
قوله وتحنيكه بماء الفرات وبتربة الحسين(علیه السلام) » إلى آخره.
المراد بالتحنيك إدخال ذلك إلى حنكه، وهو أعلى داخل الفم. قال الباقر(علیه السلام) : «يحنك المولود بماء الفرات، ويقام في أذنه »
ص: 98
• ثم يسميه أحد الأسماء المستحسنة، وأفضلها ما يتضمّن العبودية لله سبحانه وتعالى، وتليها أسماء الأنبياء والأئمة(علیهما السلام).
______________________________________________
وفي رواية أُخرى: «حنكوا أولادكم بماء الفرات وبتربة قبر الحسين(علیه السلام) ، فإن لم يكن فيماء السماء»(1).
وكذا يستحب تحنيكه بالتمر، بأن يمضغ التمرة ويجعلها في فيه ويوصلها إلى حنكه بسبابته حتّى يتخلّل في حلقه. قال أمير المؤمنين(علیه السلام) : فكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) بالحسن والحسين(علیهما السلام)(2) .
ومثله روي عن أُم سلمة (رضي الله عنها) لما ولدت غلاماً فأتى به أبو طلحة النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) وأرسلت معه بتمرات فأخذها النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في فم الصبي وحنّكه به وسماه عبد الله(3) .
قال الهروي: يقال: حنكه وحنكه بتخفيف النون وتشديدها . والفرات المضاف إليه الماء نهر الكوفة والفرات الموصوف به الماء العذب وهو خلاف المالح.
قوله: «ثمّ يسمّيه أحد الأسماء المستحسنة، وأفضلها ما يتضمن العبودية لله» إلى آخره.
عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): استحسنوا أسماءكم، فإنّكم تدعون بها يوم القيامة، قم يا فلان بن فلان إلى نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك»(4) .
وعن الكاظم(علیه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا؟
قال: تحسن اسمه وأدبه» (5).
ص: 99
•وأن يكنيه مخافة النبز.
______________________________________
والأسماء الحسنة هي أسماء الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) وما تضمن العبودية لله تعالى، كعبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وأشباه ذلك.
والمصنّف (رحمه الله) جعل أفضلها ما تضمّن العبودية لله تعالى، ويليها في الفضل أسماء الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) . وتبعه عليه العلّامة في كتبه . ولم نقف على مستنده.
والموجود في الأخبار أفضلية أسماء الأنبياء(علیهم السلام) ، وأصدقها ما تضمّن العبودية لله تعالى. قال الباقر(علیه السلام) : أصدق الأسماء ما سمّي بالعبودية وأفضلها أسماء الأنبياء(علیهم السلام) ، إن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: من ولد له أربعة أولاد ولم يسم أحدهم باسمى فقد جفاني». ولا يخفى أن كون الاسم أصدق من غيره لا يقتضي كونه أفضل منه، خصوصاً مع التصريح بكون الأفضل أسماء الأنبياء(علیهم السلام) في نفس الخبر، فإنه يدلّ على أن الصدق غير الفضيلة. وبمضمون الخبر عبر الشهيد ( رحمه الله) في اللمعة .
وابن إدريس صرّح بأنّ الأفضل أسماء الأنبياء والأئمة(علیهم السلام) ، وأفضلها نبينا والأئمة(علیهم السلام)، وبعد ذلك العبودية لله تعالى دون خلقه . وهذا هو الأظهر.
قوله: «وأن يكنيه مخافة النبز».
الكنية - بضم الكاف - ما صدر من الأعلام بأب أو أُمّ، كأبي الحسن وأُم كلثوم. وهي مستحبّة مضافة إلى الاسم؛ حذراً من لحوق النبز للولد وهو ما يكره من اللقب. قال الباقر(علیه السلام) : «إنا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم» .
ص: 100
•وروي استحباب التسمية يوم السابع
_________________________________________
قوله «وروي استحباب التسمية يوم السابع».
أكثر الأخبار(1) تضمّنت استحباب التسمية للمولود من غير توقيت، فيدخل وقته من حين الولادة. وفي رواية عن الكاظم(علیه السلام): «إن أحبّ أن يسمّيه من يومه فليفعل »(2). بل روي استحباب تسمية الحمل محمّداً قبل أن يولد(3). والمصنف (رحمه الله) مشى على ذلك، فجعل التسمية من سنن الولادة ثم نقل استحباب كونه يوم السابع رواية.
والرواية التي أشار إليها هي رواية أبي الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الصبي المولود متى يذبح عنه ويحلق رأسه ويتصدّق بوزن شعره ويسمّى؟ فقال: «كلّ ذلك في اليوم السابع»(4). وبمعناها كثير(5).
وطريق الجمع بينها وبين ما أمر فيه بالتسمية مطلقاً بالحمل على الفضيلة والأفضليّة، فتجعل التسمية يوم السابع أفضل من غيره غير ما استثني من اسم محمد، فقد روي استحباب تسميته للحمل وحين يولد قال الصادق(علیه السلام) : لا يولد لنا مولود إلا سميناه ،محمّداً ، فإذا مضى سبعة أيام، فإن شئنا غيّرنا وإن شئنا تركنا»(6).
ص: 101
•ويكره أن يكنّيه أبا القاسم إذا كان اسمه محمّداً. • وأن يسمّيه حكماً أو حكيماً أو خالداً أو حارثاً أو مالكاً أو ضراراً.
وأما اللواحق فثلاثة:
سنن اليوم السابع، والرضاع، والحضانة.
___________________________________________
قوله: «ويكره أن يكنيه أبا القاسم إذا كان اسمه محمداً».
وجه الكراهة ما روي عن أبي عبد الله(علیه السلام) : «إن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) نهى عن أربع كنى: عن أبي عيسى وعن أبي الحكم، وعن أبي مالك، وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمّداً »(1).
قوله: «وأن يسميه حكماً أو حكيماً أو خالداً أو حارثاً أو مالكاً أو ضراراً».
مستند كراهة هذه الأسماء رواية حمّاد بن عثمان - الحسنة - عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) دعا بصحيفة حين حضره الموت يريد أن ينهى عن أسماء يتسمّى بها فقبض ولم يستها، منها: الحكم وحكيم وخالد ومالك، وذكر أنّها ستة أو سبعة ممّا لا يجوز أن يتسمّى بها»(2).
وروى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إنّ أبغض الأسماء إلى الله تعالى حارث ومالك وخالد»(3). وليس في الأخبار تصريح بالنهي عن «ضرار» بخصوصه(4) ، لكنه من الأسماء المنكرة، وقيل: إنها من أسماء إبليس.
وروى زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إنّ رجلاً كان يغشى علي بن الحسين(علیهما السلام) وكان يكنى أبا مرّة، فكان إذا استأذن عليه يقول: أبو مرّة بالباب فقال له علي بن الحسين(علهما السلام) : إذا جئت إلى بابنا فلا تقولن أبو مرة»(5) .
ص: 102
•وسنن اليوم السابع أربعة الحلق والختان، وثقب الأذن، والعقيقة.
__________________________________________________
قوله: «وسنن اليوم السابع أربعة الحلق والختان، وثقب الأذن، والعقيقة».
المشهور بين الأصحاب استحباب الأربعة والروايات ناطقة به. قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم): «كلّ غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويسمّى فيه ويحلق رأسه»(1) .
وقال الصادق(علیه السلام) : عق عنه واحلق رأسه يوم السابع، وتصدق بوزن شعره فضة»(2) .
وعنه(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): طهروا أولادكم يوم السابع، فإنّه أطهر وأطيب وأسرع لنبات اللحم، وإن الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين صباحاً» (3).
وفي خبر آخر عنه(علیه السلام) : إن الأرض تضجّ إلى الله عزّ وجلّ من بول الأغلف»(4) .
وفي خبرين عنه (علیه السلام)- في طريق أحدهما مسعدة بن صدقة(5) ، وفي الآخر محمد بن عيسى(6)، والظاهر أنّه الأشعري لا اليقطيني فيكون صحيحاً - قال: «ثقب أُذن الغلام من السنة، وختان الغلام من السنّة»(7).
وروى الكليني عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن التهنئة بالولد
متى؟ قال : «إنّه لمّا ولد الحسن بن علي(علیه السلام) هبط جبرئيل على النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بالتهنئة في اليوم السابع، وأمره أن يسمّيه ويكنّيه ويحلق رأسه ويعق عنه ويثقب أذنه، وكذلك حين ولد الحسين أتاه في اليوم السابع، بمثل ذلك» قال: «وكان لهما ذؤابتان في القرن الأيسر، وكان الثقب في الأذن اليمنى في شحمة الأذن، وفي اليسرى في أعلى
ص: 103
•أما الحلق فمن السنة حلق رأسه يوم السابع مقدماً على العقيقة، والتصدّق بوزن شعره ذهباً أو فضة.
•ويكره أن يحلق من رأسه موضع ويترك موضع وهي القنازع.
____________________________________________
الأذن، فالقرط في اليمنى، والشنف في اليسرى»(1).
وحرم بعض العامّة ثقب الأذن نظراً إلى أنه تأليم للولد وأذى لم يؤذن فيه شرعاً (2)، فإن صح حديثنا أو جبرته الشهرة فهو الإذن، وإلا فما قاله موجّه، إلّا أن يجعل مثل هذا الألم اليسير - مع ما يترتب عليه من زينة الصبي ونفعه - ممّا يكفي في الإذن فيه أمثال هذه الأخبار.
قوله: «وأما الحلق فمن السنة حلق رأسه يوم السابع مقدماً على العقيقة» إلى آخره.
قد تقدّم ما يدلّ على استحبابه(3). ويدل على تقديمه على العقيقة رواية إسحاق بن عمار، قال، قلت لأبي عبد الله(علیه السلام) : بأي ذلك نبدأ؟ قال: «تحلق رأسه، وتعق عنه، وتتصدّق بوزن شعره فضة، يكون ذلك في مكان واحد»(4) وفي رواية أبي بصير عنه(علیه السلام) : «بوزن شعره ذهباً أو فضة»(5).
قوله: «ويكره أن يحلق من رأسه موضع ويترك موضع وهي القنازع».
روي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال:«قال أمير المؤمنين(علیه السلام) : لا تحلقوا للصبيان القرع. والقزع أن يحلق موضعاً ويدع موضعاً»(6).
ص: 104
•وأمّا الختان فمستحبّ يوم السابع، ولو أخر جاز. ولو بلغ ولم يختن وجب أن يختن نفسه والختان واجب، وخفض الجواري مستحبّ. ولو أسلم كافر غير مختتن وجب أن يختن ولو كان مسناً. ولو أسلمت امرأة لم يجب ختانها واستحبّ.
______________________________________________
وفى خبر آخر عنه(علیه السلام) : أنه كره القزع في رؤوس الصبيان، وذكر أنّ القزع أن يحلق
الرأس إلا قليلاً وسط الرأس تسمّى القزعة(1) .
وفي حديث آخر عنه(علیه السلام) : أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أتي بصبي يدعو له وله قنازع فأبى أن يدعو له وأمر أن يحلق رأسه»(2) .
واعلم أنّ تعريف المصنّف والخبر الأوّل تضمّن كراهة ترك موضع من الرأس، سواء كان في وسطه أو غيره، وسواء تعدّد أم اتحد، والخبر الثاني اقتضى كون القزع هو ترك الوسط لا غير. وكلام أهل اللغة يوافق المعنى الأول، قال الهروي:
في الحديث «نهى عن القزع» : وهو أن يحلق رأس الصبي ويُترك منه مواضع يكون الشعر فيه متفرّقاً، ومنه قزع السحاب وهي قطعه(3).
قوله: «وأما الختان فمستحبّ يوم السابع، ولو أخر جاز» إلى آخره.
هنا مسائل:
الأولى: لا خلاف بين العلماء في وجوب الختان في الجملة، وأنه من الفطرة الحنيفية، وإنّما الكلام في أول وقت وجوبه هل هو قبل التكليف، بحيث إذا بلغ الصبيّ يكون قد اختتن قبله ولو بقليل، أم لا يجب إلا بعد البلوغ كغيره من التكاليف المتعلقة بالمكلّف؟ يظهر من عبارة المصنّف الأوّل: لإطلاق حكمه عليه بالوجوب، ولا ينافيه حكمه باستحبابه يوم السابع؛ لأنّ الوجوب على هذا القول موسّع من حين الولادة إلى أن يقرب التكليف. وعلى
ص: 105
...
___________________________________________
هذا فيكون فعله يوم السابع أفضل أفراده الواجبة، ولأجل ذلك أطلق عليه الاستحباب، كما يقال : يستحبّ صلاة الفريضة في أول وقتها. وعلى هذا فيكون الوجوب متعلقاً بالوليّ، فإن لم يفعل إلى أن بلغ الصبي أثم وتعلق الوجوب حينئذٍ بالولد.
وبهذا القول صرّح في التحرير فقال: ولا يجوز تأخيره إلى البلوغ(1).
ووجه هذا القول إطلاق الأمر به للولي الدال على الوجوب. وقد تقدّم بعضه(2).
ووجه الثاني أنّ الختان شرط في صحّة الصلاة ونحوها من العبادات، فلا يجب إلا مع وجوب المشروط. ولو سلم أنّه واجب لنفسه فمتعلقه المكلّف، والأصل براءة ذمّة الولي من فعله. والأمر قبل البلوغ محمول على الاستحباب؛ لأنّ في بعض الأخبار أنّه من السنة مقروناً مقروناً بثقب الأذن المتعين حمله على الاستحباب وإن كانت السنة في نفسها أعمّ من الواجب. وفي الحديث أن ابن عباس (رضي الله عنه) سئل: مثلُ مَن أنت حين قبض رسول
الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ قال: «أنا يومئذ مختون. وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك»(3).
وفي صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر(علیه السلام) : «إنما السنة في الختان على الرجال»(4).
وقول المصنف «ولو أخر «جاز» جارٍ على القولين؛ إذ لا شبهة في جواز تأخيره عن اليوم السابع، إنّما الكلام في وجوب تقديمه على البلوغ. وفي صحيحة عليّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن ختان الصبي لسبعة أيام من السنة هو أو يؤخّر فأيهما أفضل؟ قال: «لسبعة أيام من السنّة، وإن أخر فلا بأس»(5). ويمكن تناوله بإطلاقه لتأخيره إلى البلوغ، فيكون دليلاً على الثاني. وهو اختيار ابن إدريس(6).
ص: 106
...
_______________________________________________
وإنّما يجب الختان أو يستحبّ على تقدير ولادته مستور الحشفة، فلو ولد مختوناً خلقةً سقط الفرض. ولو مات غير مختتن لم يجب ختنه مطلقاً.
الثانية: الحكم مختص بالذكر كما تقتضيه ألفاظ النصوص، كقوله: «ختان الغلام من السنّة».(1) فلا يجب على الأُنثى إجماعاً. وأما الخنثى فإن لحق بأحدهما لحقه حكمه. وإن أشكل أمره ففي وجوبه في حقه وتوقف صحة صلاته عليه وجهان، من الشك في ذكوريّته التي هي مناط الوجوب؛ معتضداً بأصالة البراءة، ولاشتماله على تأليم من لا يعلم وجوبه عليه، ومن انحصار أمره فيهما، فلا يحصل اليقين بصحّة العبادات بدونه؛ ولأنّه مأخوذ بمراعاة الجانبين حيث يمكن، ولدخوله في عموم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الختان من الفطرة»(2).
وقولهم(علیهم السلام): «اختنوا أولادكم يوم السابع يطهروا»(3)، فإنّ لفظ الأولاد يشمل الجميع،
خرج منه الإناث بدليل من خارج فيبقى الباقي ولا ريب أنّ هذا أولى.
الثالثة: لو أسلم الكافر غير مختون وجب عليه الختان وإن طعن في السن؛ لعموم الأدلّة المتناولة للصغير والكبير والمسلم وغيره (4)، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) لرجل وقد أسلم: «ألق عنك شعر الكفر واختتن»(5)، وقول أمير المؤمنين(علیه السلام) : «إذا أسلم الرجل اختتن ولو بلغ ثمانين سنة»(6) .
الرابعة: يستحبّ خفض الجواري والنساء، وليس بواجب إجماعاً. روى عبد الله بن سنان عن الصادق(علیه السلام) قال: «ختان الغلام من السنّة، وخفض الجارية من السنّة».
ص: 107
وأما العقيقة • فيستحبّ أن يعق عن الذكر ذكر، وعن الأُنثى أُنثى.
__________________________________________
وفي خبر آخر عنه(علیه السلام) : «خفض الجواري مكرمة، وليس من السنّة ولا شيئاً واجباً، وأيّ شيء أفضل من المكرمة»(1).
وروى محمد بن مسلم - في الصحيح عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «لما هاجرن النساء إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) هاجرت فيهنّ امرأة يقال لها: أُم حبيب وكانت خافضة تخفض الجواري، فلمّا رآها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لها: يا أم حبيب العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت: نعم يا رسول الله، إلا أن يكون حراماً فتنهاني عنه قال: لا، بل حلال، فادني منّي حتّى أعلمك، فدنت منه فقال: يا أُمّ حبيب إذا أنت فعلت فلا تنهكي - أي لا تستأصلي وأشمي، فإنّه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج»(2). ولو أسلمت المرأة استحب خفضها كغيرها.
قوله: «وأما العقيقة».
أصل العقيقة الشعر الذي يخرج المولود به من بطن أُمه وهي عليه. وأصلها الشق، سمّي الشعر المذكور بذلك لأنّه يحلق عنه، ثم قيل للذبيحة التي تذبح يوم استحباب حلق شعره عقيقة؛ لأنّها يشق حلقومها. كذا قاله الهروي(3) وغيره(4) ؛ أو لأنّها تفعل لأجل العقيقة، فأطلق اسم السبب على المسبّب والفعل منه عق يعق بضم العين.
قوله: «فيستحبّ أن يعق عن الذكر ذكر، وعن الأُنثى أُنثى».
استحباب مساواتها للولد في الذكورية والأنوثية رواه الكليني مرسلاً عن الباقر(علیه السلام) قال: إذا كان يوم السابع وقد ولد لأحدكم غلام أو جارية فليعق عنه كبشاً عن الذكر ذكراً وعن
الأُنثى مثل ذلك»(5).
ص: 108
• وهل تجب العقيقة ؟ قيل : نعم. والوجه الاستحباب
______________________________________
وروي أخبار كثيرة تدلّ على إجزاء الذكر والأنثى مطلقاً، منها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «العقيقة في الغلام والجارية سواء»(1).
وحسنة ابن مسكان عنها(علیه السلام) ، قال : «عقيقة الغلام والجارية كبش كبش»(2).
ورواية منهال القماط عنه(علیه السلام) : «إنّما هي شاة لحم ليست بمنزلة الأضحية يجزئ منهاكلّ شيء»(3).
مع أنّ الرواية الأولى ليست صريحة في اعتبار المساواة، بل الظاهر من قوله « والأُنثى مثل ذلك» أنّ المستحبّ كونها ذكراً في الذكر والأنثى، فيكون موافقاً لغيره من الأخبار الدالّة على التسوية بينهما، ولا ريب في إجزاء الجميع، إنّما الكلام في الأفضلية.
قوله: «وهل تجب العقيقة؟ قيل: نعم. والوجه الاستحباب».
القول بالوجوب للمرتضى(4) ، وابن الجنيد(5). واحتج عليه السيّد في الانتصار بإجماع الإمامية، وابن الجنيد بالأخبار الدالّة على الوجوب كرواية أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام) ، قال: سألته عن العقيقة أواجبة هي؟ قال: «نعم، واجبة»(6).
ورواية أبي المغراء عن عليّ عنه(علیه السلام) قال: «العقيقة واجبة» (7).
ورواية عليّ بن أبي حمزة عن الكاظم (علیه السلام) قال: «العقيقة واجبة إذا ولد للرجل ولد»(8) . والأشهر الاستحباب. وهذه الأخبار - مع قطع النظر عن سندها - محمولة على تأكد
ص: 109
•ولو تصدق بثمنها لم يجز في القيام بالسنة. ولو عجز عنها أخرها حتّى يتمكن، ولا يسقط الاستحباب.
________________________________________
الاستحباب أو ثبوته؛ لأنه معنى الوجوب لغةٌ (1). ويؤيد الثاني قول الصادق(علیه السلام) في رواية عمر بن يزيد: «والعقيقة أوجب من الأضحية»(2). وأما احتجاج السيد بالإجماع فلا يخفى حاله. واعلم أنّ العلّامة قال في المختلف بعد نقله الوجوب عن المرتضى وابن الجنيد: احتج المرتضى برواية عليّ بن أبي حمزة. وذكر الأحاديث(3). وليس بجيد؛ لأن السيد (رحمه الله) لا يستند في مذهبه إلى الأخبار الصحيحة إذا كانت من طريق الآحاد، فكيف يحتجّ برواية ابن أبي حمزة، وهو مصرّح بكفره وكفر أضرابه من الفرق؟!(4) وإنّما أوجبها؛ لما توهمه من إجماع الإمامية عليه كما أشار إليه في الانتصار (5)، وجعل الإجماع مستنده في أكثر مسائله، وإن كان في تحقيق الإجماع ،نظر، إلا أنّه رأى ذلك حسب ما اتّفق له.
قوله: «ولو تصدق بثمنها لم يجز فى القيام بالسنّة» إلى آخره.
يدل على ذلك رواية محمد بن مسلم قال: ولد لأبي جعفر(علیه السلام) غلامان، فأمر زيد بن عليّ أن يشتري له جزورين للعقيقة، وكان زمن غلاء، فاشترى له واحدةً وعسرت الأُخرى، فقال لأبي جعفر(علیه السلام) : قد عسرت الأخرى فتصدق بثمنها؟ فقال: «لا، اطلبها حتّى تقدر عليها، فإنّ الله عزّ وجلّ يحبّ إهراق الدماء وإطعام الطعام» (6).
ورواية عبد الله بن بكير قال كنت عند بن بكير قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فجاءه رسول عمه عبد الله بن على فقال له : يقول لك عمّك : إنا طلبنا العقيقة فلم نجدها فما ترى نتصدق بثمنها ؟
ص: 110
• ويستحبّ أن يجتمع فيها شروط الأضحية.
•وأن تخص القابلة منها بالرجل والورك، ولو لم تكن قابلة أُعطي الأُمّ تتصدق به .
______________________________________
فقال: «لا إنّ الله يحبّ إطعام الطعام وإراقة الدماء»(1) .
قوله: «ويستحب أن يجتمع فيها شروط الأضحيّة».
من كونها سليمة من العيوب، سمينة. قال الصادق(علیه السلام) : «أجزأه ما يجزئ في الأضحية»(2). هذا مع الإمكان، ومع عدمه يجزئ فاقد الصفات؛ لقوله(علیه السلام) لما سئل عن العقيقة: «إنما هي شاة لحم ليست بمنزلة الأضحية يجزئ منها كلّ شيء»(3).
وقوله(علیه السلام) : «العقيقة ليست بمنزلة الهدي خيرها أسمنها»(4).
قوله: «وأن تخص القابلة منها بالرجل والورك» إلى آخره.
في صحيحة الكاهلي(5) ، وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام)(6) وكثير من الأخبار:« تعطى القابلة الرجل مع الورك»(7) كما ذكره المصنّف والجماعة(8) .
وفي رواية عمار عنه(علیه السلام) : «يُعطى القابلة ربعها، وإن لم تكن قابلة فلامه تعطيها من شاءت»(9). والمراد أنّ الأب يعطيها حصة القابلة إن كان هو الذابح للعقيقة فتتصدّق به؛
ص: 111
ولو لم يعق الوالد استحب للولد أن يعق عن نفسه إذا بلغ.
ولو مات الصبيّ يوم السابع، فإن مات قبل الزوال سقطت، ولو مات بعده لم يسقط الاستحباب.
____________________________________________
لأنّه يكره لها أن تأكل منها. وفي قوله(علیه السلام) : «تعطيها من شاءت» إشارة إلى أنّ صدقتها به لا تختص بالفقراء، بل تتأدى السنة بصدقتها به على الغني والفقير.
ولو كانت القابلة يهوديةً لا تأكل من ذبائح المسلمين أعطيت ربع قيمة العقيقة، روى ذلك عمار عن أبي عبد الله(علیه السلام)(1) .
قوله « ولو لم يعق الوالد استحبّ للولد أن يعقب عن نفسه إذا بلغ».
ولو لم يعقّ عند بلوغه بقى فى عهدتها ما دام حياً ؛ لقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الولد مرتهن بعقيقته فكه أبواه أو تركاه»(2). ولو شك هل عقّ عنه أبوه أم لا؟ استحب له أن يعق عن نفسه ؛ لأنّ الأصل عدم عقيقة غيره عنه، ولرواية عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله(علیه السلام) : إني - والله - ما أدري كان أبي عق عني أم لا؟ قال: فأمرني أبو عبد الله(علیه السلام) فعققت عن نفسي وأنا شيخ. وقال(علیه السلام) :«كل امرئ مرتهن بعقيقته والعقيقة أوجب من الأضحية»(3) .
قوله: «ولو مات الصبي يوم السابع» إلى آخره.
يدلّ على ذلك رواية إدريس بن عبد الله قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن مولود يولد فيموت يوم السابع، هل يعق عنه ؟ قال: «إن مات قبل الظهر لم يعقِّ عنه، وإن مات بعد الظهر عق عنه»(4) .
ص: 112
•ويكره للوالدين أن يأكلا منها • وأن يكسر شيء من عظامها، بل تفصل أعضاء.
•وأما الرضاع فلا يجب على الأُمّ إرضاع الولد، ولها المطالبة بأجرة رضاعه. وله استئجارها إذا كانت بائناً. وقيل: لا يصح ذلك وهي في حباله. والوجه الجواز.
________________________________________
قوله: «ويكره للوالدين أن يأكلا منها»
وكذا من في عيالهما حتى القابلة لو كانت منهم؛ لقول الصادق(علیه السلام) : «لا يأكل هو ولا أحد من عیاله من العقيقة». وقال: «للقابلة ثلث العقيقة، فإن كانت القابلة أمّ الرجل أو في عياله فليس لها منها شيء، وتجعل أعضاء ثمّ يطبخها ويقسمها، ولا يعطيها إلا أهل الولاية». وقال: «يأكل كلّ أحد من العقيقة إلا الأم»(1) .
قوله: «وأن يكسر شيء من عظامها، بل تفصل أعضاء».
قد تقدم في الخبر السابق ما يدلّ عليه في قوله «وتجعل أعضاء». وفي قوله فيه «ثمّ يطبخها» إشارة إلى سنة أخرى لم ينبه عليها المصنّف وهي أن تطبخ بالماء ولا تشوى على النار. ولا فرق حينئذ بين أن يقتصر على طبخها بالماء والملح، وبين أن يضيف إليها شيئاً آخر من الحبوب وغيرها، لتحقق الطبخ بالجميع.
ويستحب أن يدعى لها المؤمنون ، وأقلهم عشرة ؛ لرواية حفص الكناسي عن أبي عبدالله(علیه السلام) ، قال : ويُدعى نفر من المسلمين فيأكلون ويدعون للغلام»(2).
وفي خبر آخر عنه(علیه السلام) : «يطعم منه عشرة من المسلمين، فإن زاد فهو أفضل»(3).
قوله: «وأما الرضاع فلا يجب على الأُمّ إرضاع الولد» إلى آخره.
عدم وجوب إرضاع الولد على الأُمّ مشروط بوجود الأب، أو وجود مال للولد، ووجود
ص: 113
...
__________________________________________________
مرضعة سواها، وقدرته على دفع الأجرة إليها أو تبرعها، وإلّا وجب عليها إرضاعه كما يجب عليها الإنفاق عليه حيث يكون الأب مفقوداً أو معسراً.
فإذا اجتمعت هذه الشرائط لم يجب عليها، بل يتعلّق التكليف بالأب، كما يجب عليه الإنفاق عليه إن لم يكن للولد مال، وإلا استأجر عليه من ماله.
ويدل على عدم وجوبه عليها ظاهر قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَتَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(1) . وقوله تعالى: (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(2). ولو كان واجباً عليها لبينه، ولما قال: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ)، ولما حكم بإرضاع أخرى من غير تفصيل؛ لأنها إذا امتنعت فقد حصل التعاسر.
وأما قوله تعالى: (وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ)(3) فإنه وإن كان خبراً معناه الأمر، إلا أن الأمر مقيّد بمن أراد أن يتم الرضاعة بالنسبة إلى الحولين فلا يدل على أن الأمر مطلق لو سلّم حمله على الوجوب.
ويدلّ عليه أيضاً قول أبي عبد الله(علیه السلام): «لا تجبر الحرّة على رضاع الولد، وتجبر أُمّ
الولد»(4) ؛ ولأصالة عدم الوجوب.
ويشمل إطلاقه عدم وجوب الإرضاع على الأم اللباً وغيره؛ نظراً إلى عموم الأدلة. وهكذا أطلق الأكثر .
وأوجب جماعة منهم العلّامة في القواعد والشهيد إرضاع اللبأ وهو الموجود عند الولادة، محتجين بأن الولد لا يعيش بدونه(5) . وهو ممنوع بالوجدان. ولعلهم أرادوا الغالب، أو أنه لا يقوى ولا تشتد بنيته إلا به.
ص: 114
...
_____________________________________________
وعلى تقدير وجوبه هل تستحق أجرة عليه؟ قيل: لا ؛ لأنه فعل واجب، ولا يجوز أخذ الأجرة على الواجب (1). وكلّيته ممنوعة، فإن مالك الطعام يلزمه بذله للمضطرّ ولكن بالعوض باعتراف هذا القائل، وإن كان فيه خلاف أيضاً.
إذا تقرّر ذلك فلا خلاف في جواز استئجار الأب لها على إرضاعه على تقدير كونها مطلقةً بائناً؛ لخروج منافعها عن ملكه حينئذ.
وهل يصحّ استئجاره لها وهي في حباله؟ الأشهر بين الأصحاب الجواز؛ لعموم قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَتَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(2) الشامل للمطلقة وغيرها.
وفيه نظر؛ لأنّ الآية مسوقة للمطلقات وليس محلّ النزاع، ولأصالة الجواز، كما يجوز استئجارها الرضاع غيره
والقول بالمنع من استئجار الزوج لها وهي في حباله للشيخ في المبسوط(3) .
وكذلك منع من استئجارها لخدمته ولخدمة غيره ولرضاع ولد غيره مستدلاً بأنها عقدت على منافع لا تقدر على إيفائها، فإنّ زوجها قد ملك الاستمتاع بها في كل وقت إلا ما استثني من أوقات الصلاة والصيام فإذا لم تقدر على إيفائها كان العقد باطلاً، كما لو آجر نفسه شهراً ثمّ آجرها ذلك الشهر لغير المستأجر (4).
وأجيب بمنع ملك الزوج لجميع منافعها، وإنّما ملك الاستمتاع، ولا يلزم من استحقاقه في جميع- الأوقات ملك غيره من المنافع(5). وتظهر الفائدة في عدم استحقاقه استيفاء غير الاستمتاع وإن لم يكن لها التصرف فيها حيث ينافي حق الزوج من الاستمتاع.
ص: 115
•ويجب على الأب بذل أُجرة الرضاع إذا لم يكن للولد مال.
• ولأُمّه أن ترضعه بنفسها وبغيرها، ولها الأجرة.
________________________________________
فإذا استأجرها لمنفعة لا يملكها فقد أسقط حقّه من الزمان الذي تصرفه في الإرضاع بالنسبة إلى إيقاع الاستمتاع المستحق فيه. ويظهر أثر ذلك أيضاً فيما لو لم يستوف حقّ الاستمتاع لمرض أو غيبة ونحوهما، فإنّ لها التصرّف في باقي منافعها لعدم المنافاة.
قوله: « ويجب على الأب بذل أجرة الرضاع إذا لم يكن للولد مال».
لأن الرضاع من جملة النفقة الواجبة للولد على الأب مقدماً على الأُمّ مع فقر الولد كما سيأتي (1)، ولقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(2) و «على» ظاهرة في الوجوب والاستحقاق كقولك «على فلان دين» وهو كناية عن أجرة الرضاع. وأطلق على الأب «المولود له» للتنبيه على أنّ الولد حقيقة للأب، ولهذا انتسب إليه دون أُمّه، ووجبت عليه النفقة ابتداء. ولو كان للولد مال لم يجب على الأب بذل الأجرة؛ لأنّه غنيّ فلا يجب عليه الإنفاق عليه.
قوله: «ولأُمّه أن ترضعه بنفسها وبغيرها، ولها الأُجرة».
إذا استأجرها للرضاع، فإن صرّح بإرادة تحصيل إرضاعه بنفسها أو غيرها فلا شبهة في جواز الأمرين واستحقاقها الأجرة المسمّاة. وإن شرط إرضاعه بنفسها تعيّن ولا يجوز لها حينئذ إرضاعه بغيرها، فإن فعلت فلا أُجرة لها. وإن أطلق بأن استأجرها لإرضاعه فهي مسألة الكتاب. والمشهور حينئذ جواز إرضاعها له بنفسها وغيرها؛ لأنها حينئذ أجير مطلق ومن شأنه جواز تحصيل المنفعة بنفسه وغيره.
وقيل: لا يجوز؛ لاختلاف المراضع في الحكم والخواصّ، ودلالة العرف على مباشرتها (3)، حتى قيل: إنّه يجب تعيين المرضعة في العقد لذلك، فلا أقل من تعيينها عند
ص: 116
•وللمولى إجبار أمته على الرضاع.
• ونهاية الرضاع حولان ويجوز الاقتصار على أحد وعشرين شهراً ولا يجوز نقصه عن ذلك. ولو نقص كان جوراً. وتجوز الزيادة عن الحولين شهراً أو شهرين. ولا يجب على الوالد دفع أجرة ما زاد عن حولين.
_________________________________________
الإطلاق(1). والأقوى الرجوع إلى العرف فإن لم يتفق أو اضطرب جاز أن ترضعه بنفسها وغيرها. ولا فرق في الغير بين خادمها وغيرها، وحيث جاز استحقت الأجرة وإلا فلا.
قوله: «وللمولى إجبار أمته على الرضاع».
لأنّها مملوكة للمولى، ومنافعها أجمع مستحقة له، سواء في ذلك منافع الاستمتاع وغيرها، بخلاف الزوجة، ولا فرق في ذلك بين أُمّ الولد وغيرها؛ لاشتراكهما في المقتضي. وذكر أُمّ الولد في الرواية السابقة(2) لا يقتضي نفي الحكم عن غيرها .
قوله: «ونهاية الرضاع حولان» إلى آخره.
لا خلاف بين أصحابنا في أن مدة الرضاع بالأصالة حولان كاملان، لقوله تعالى: (وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(3) . وظاهر الآية كون تمام الرضاعة حولين، وهو لا ينافي جواز النقص عنهما. وقد جوّز أصحابنا الاقتصار على أحد وعشرين شهراً؛ لظاهر قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ، تَلَقُونَ شَهْرًا )(4)، فإذا حملت به تسعة أشهر - وهو الغالب - بقي فصاله - وهو مدّة رضاعه أحد وعشرين شهراً، ولرواية سماعة عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «الرضاع أحد وعشرون شهراً، فما نقص فهو جور على الصبي»(5).
ص: 117
...
_______________________________________
وظاهرهم الاتّفاق على ذلك، وهو يتمّ على القول بأنّ أكثر الحمل تسعة أشهر لا أزيد وإلا لم يتمّ التعليل إلّا في ولد يولد للتسعة، فلو ولدته لستة أشهر أو سبعة كان ذلك حمله وما يبقى من الثلاثين فصاله، والآية لا تدلّ على أزيد من ذلك. والرواية ضعيفة السند.
وقد روي عن ابن عباس أن من ولد لستة أشهر ففصاله في عامين، ومن ولد لسبعة فمدة
رضاعه ثلاثة وعشرون شهراً، ومن ولد لتسعة فأحد وعشرون(1).
وهو قول موجّه جامع بين الآيات. وعلى قول من جعل أكثر الحمل عشرة أشهر أو سنة من أصحابنا يشكل تعين أحد وعشرين شهراً للرضاع إن لم يكن إجماعاً مانعاً من جواز خلافه. وكيف كان فالعمل على المشهور، ويكفي فيه البناء على الغالب في الحمل.
وأمّا الزيادة على الحولين فمقتضى الآية أنه ليس من الرضاعة؛ لتمامها بالحولين، لكن ليس فيها دلالة على المنع من الزائد. وفي صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن الرضا (علیه السلام)قال: سألته عن الصبي هل يرضع أكثر من سنتين؟ فقال: «عامين»، قلت: فإن زاد على سنتين هل على أبويه من ذلك شيء؟ قال: «لا»(2) . والمصنّف والجماعة(3) قيدوه بشهر وشهرين، وذكروا أنه مروي .
وعلى تقدير فعله لا تستحق الأُمّ على أبيه أجرة للزائد. ولا يخلو على إطلاقه من إشكال، وإنّما يتمّ على تقدير عدم حاجة الولد إليه، أما لو احتاج إليه لمرض ونحوه بحيث لم يمكن غذاؤه بغير اللبن كان اللبن حينئذ بمنزلة النفقة الضرورية، فعدم استحقاق
ص: 118
•والأُمّ أحق بإرضاعه إذا طلبت ما يطلب غيرها. ولو طلبت زيادة كان للأب نزعه وتسليمه إلى غيرها. ولو تبرعت أجنبية بإرضاعه فرضيت الأم بالتبرع فهي أحق به، وإن لم ترض فللأب تسليمه إلى المتبرعة.
___________________________________________
الأُمّ عليه أجرة مطلقاً لا يخلو من نظر إلّا أنّ عمل الأصحاب وروايتهم على ذلك، فلا مجال لخلافه
قوله: «والأُمّ أحق بإرضاعه إذا طلبت ما يطلب غيرها» إلى آخره.
كون الأم أحق بإرضاع الولد إذا تبرّعت به أو طلبت ما يطلب غيرها وإلّا كان الأب أحقّ به، هو المشهور بين الأصحاب؛ بناءً على جواز استئجارها للإرضاع مطلقاً. والشيخ على أصله السابق من أنّها إذا كانت في عصمة الزوج ليس لها أخذ الأجرة، فلا تكون في تلك الحال أحق إلا إذا تبرعت به، وإن كانت مطلقة فهي أحق به كما فصلوه.
ويدلّ عليه قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(1) . ومع امتناع الأب لوجود المتبرعة أو من يأخذ أقل يتناوله قوله تعالى: (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(2) الدالّ على جواز أخذه منها وتسليمه للأُخرى. والآية مسوقة للمطلقات، كما أشرنا إليه سابقاً (3)، فإذا جاز للأم أخذ الأجرة على الإرضاع دخلت في الحكم بطريق أولى.
ويدلّ على حكم المطلقة أيضاً رواية أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا طلق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتّى تضع حملها، فإذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارها إلا أن يجد من هو أرخص منها، فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه»(4) .
ص: 119
..
_____________________________________________
ونقل الشيخ في الخلاف عن بعض العلماء: أنّ الأم أحق بالولد متى طلبت أجرة المثل وإن وجد الأب من يأخذ أقل أو يتبرع(1) : العموم قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(2)المتناول لمحل النزاع وقواه ابن إدريس(3).
واحتج الشيخ للقول الأول بقوله تعالى: (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) وهذه إذا طلبت الأجرة وغيرها تتطوّع فقد تعاسرا. وأجاب عن الآية الأخرى بأنّها تفيد لزوم الأ إن أرضعت، وذلك لا خلاف فيه، وإنما الكلام في أنه يجب دفع المولود إليها لترضعه أم لا. وليس ذلك في الآية (4).
وأجيب عنه بأنّ المراد من قوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أردن الإرضاع، فيدل على كونها أحقّ بالأجرة مطلقاً. وقوله تعالى (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ) أي في الإرضاع وعدمه - بأن امتنعت منه - فسترضع له أخرى، لا أنّها إذا طلبت الأجرة(5) .
وفيه نظر؛ لأنّ الإضمار على خلاف الأصل، والتعاسر أعمّ من وقوعه على الإرضاع وعدمه وعلى الأجرة. ولا يرد أنه يلزم على القول الآخر الإضمار؛ لأن الأجرة تملك بالعقد وقد علق الأمر بدفعها على الفعل؛ لأنّ الأجرة وإن ملكت بالعقد على تقدير وقوع صيغة الإجارة إلّا أنّ دفعها لا يستحق إلا بالعمل، والأمر في الآية وقع بإيتائهن الأجر لا بأصل ملكه. على أنّ استحقاقها الأجرة غير متوقّف على عقد الإجارة، بل يكفي فيه الفعل مع قصد الأجرة أو عدم التبرع، فيكون حكمها في استحقاق الأجرة وملكها كالجعالة لا تستحق إلا بالعمل. ولا يشترط في لزومها تمام الرضاع، بل حصول مسماه المقابل للأجرة كما تقتضيه الآية.
ص: 120
فرع : • لو ادعى الأب وجود متبرعة وأنكرت الأُمّ فالقول قول الأب؛ لأنّه يدفع عن نفسه وجوب الأجرة، على تردّد.
•ويستحب أن يرضع الصبي بلبن أمه، فهو أفضل.
__________________________________________
قوله: «لو ادعى الأب وجود متبرعة وأنكرت الأُمّ» إلى آخره.
منشأ التردّد من كون الأُمّ منكرة لما يدعيه من وجود المتبرعة، والأصل عدمه، فيكون القول قولها؛ لأنّه المدعي، ولأن الحقّ ثابت لها وهو يدعي إسقاطه بوجود المتبرعة، والأصل عدم سقوطه إلى أن يثبت. وممّا ذكره المصنف من أنّ الأُمّ تدعي شغل ذمّة الأب بالأجرة وهو ينفي ذلك عن نفسه، والأصل براءة ذمّته منها، ولأنّه يعسر عليه إقامة البيّنة على ما يقوله فيصدق بيمينه وهو قول الشيخ في المبسوط (1)، وهو أشهر.
قوله: «ويستحب أن يرضع الصبي بلبن أُمّه، فهو أفضل».
وجه الأفضليّة كونه أوفق بمزاجه، لتغذيه منه في بطنها حال كونه دماً، وباكتسابه صورة اللبن بعد الولادة فيبقى أقرب إلى مادته من غيره، ولقول أمير المؤمنين(علیه السلام) : «ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه»(2).
والمصنف تبع الرواية في التعبير بالصبيّ - دون الولد الشامل للذكر والأنثى مع اشتراكهما في الحكم وفي لفظ «اللبن» وقد قال أهل اللغة: إنه لا يطلق إلا على لبن البهائم من الناقة والبقرة والشاة(3)، قال ابن السكيت: تقول: هو أخوه بلبان أُمه - بكسر اللام - ولا تقول: بلبن أُمّه(4) .
ص: 121
•وأمّا الحضانة • فالأم أحق بالولد مدة الرضاع وهي حولان ذكراً كان أو أنثي إذا كانت حرّة مسلمة، ولا حضانة للأمة ولا للكافرة مع المسلم.
فإذا فصل فالوالد أحق بالذكر ، والأُم أحق بالأُنثى حتّى تبلغ سبع سنين ، وقيل : تسعاً . وقيل : الأُم أحق بها ما لم تتزوّج . والأوّل أظهر . ثم يكون الأب أحق بها.
___________________________________________
قوله: «وأمّا الحضانة».
هي - بفتح الحاء - ولاية على الطفل والمجنون(1) لفائدة تربيته وما يتعلق بها من مصلحته من حفظه، وجعله في سريره، ورفعه، وكحله ودهنه، وتنظيفه، وغسل خرقه وثيابه ونحو ذلك. وهي بالأنثى أليق منها بالرجل؛ لمزيد شفقتها، وخلقها المعد لذلك بالأصل.
قوله: «فالأُم أحق بالولد مدة الرضاع وهى حولان - إلى قوله - والأول أظهر».
لا خلاف في أن الأم أحق بالولد مطلقاً مدة الرضاع إذا كانت متبرّعة أو رضيت بما يأخذ غيرها من الأجرة، فيجتمع لها في الحولين حق الرضاع والحضانة، ولها الأجرة على الرضاع - على ما فصل - دون الحضانة.
نعم لو احتاج الطفل إلى نفقة زائدة على الرضاع والحضانة فهى على الأب المؤسر أو مال الولد إن كان له مال كأجرة الرضاع، ومنها ثمن الصابون لغسل ثيابه ،وخرقه دون نفس الفعل فإنّه على الأُمّ؛ لأنّه من متعلّقات الحضانة. وكذا القول في غيرها ممن تثبت له الحضانة.
وهذا لا كلام فيه، إنّما الخلاف فيما بعد الحولين، فقد اختلف الأصحاب في مستحقّ الحضانة حينئذ من الأبوين بسبب اختلاف الأخبار، ففي بعضها: أنّ الأُمّ أحق بالولد مطلقاً ما لم تتزوّج(2) . وهو الذي رواه العامة أيضاً عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3). وفي بعضها: أنها أحق به إلى
ص: 122
...
_________________________________________
سبع سنين . وفي بعض آخر إلى تسع . وفي بعضها: أن الأب أحق به . وليس في الجميع فرق بين الذكر والأنثى، ولكن من فصل جمع به بين الأخبار، فحمل ما دل على أولوية الأب على الذكر؛ لأنّه أنسب بحاله وتأديبه وتعليمه، وما دلّ على أولويّة الأُمّ على الأُنثى لذلك. ولأن فيه - مع المناسبة - الجمع بين الأخبار. ورجحوا الأخبار المحدّدة بالسبع؛ لأنّها أكثر وأشهر. ومع ذلك فليس في الباب خبر صحيح، بل هي بين ضعيف ومرسل وموقوف.
إذا تقرّر ذلك فحضانة الأُمّ حيث تثبت مشروطة بأمور:
أحدها: أن تكون مسلمةً إذا كان الولد مسلماً. فالكافرة لا حضانة لها على الولد المسلم بإسلام أبيه؛ لأنّه لا حظّ له في تربية الكافرة؛ لأنّها تفتنه عن دينه، وهو ينشأ على ما يألفه منها، ولأنه لا ولاية للكافر على المسلم للآية ، ولو كان الولد كافراً تبعاً لأبويه فحضانته لها - على ما فصل - إن ترافعوا إلينا. نعم، لو وصف الولد الإسلام نزع من أهله، ولم يمكّنوا من كفالته؛ لئلا يفتنوه عن الإسلام الذي قد مال إليه، وإن لم نصحّح إسلامه.
وثانيها: أن تكون حرّةً، فلا حضانة للرقيقة؛ لأنّ منفعتها للسيّد، وهي مشغولة به غير متفرّغة للحضانة، ولأنّه نوع ولاية واحتكام بالحفظ والتربية، والرقيق لا ولاية له وإن أذن السيد.
ثمّ ينظر إن كان الولد حراً فحضانته لمن له الحضانة بعد الأُم من الأب أو غيره، وإن كان رقيقاً فحضانته على السيد. ولو كانت الأم حرّة والولد رقيقاً، كما لو سبي الطفل وأسلمت الأُمّ
ص: 123
...
__________________________________
أو قبلت الذمة، فكذلك حضانته للسيد. والمدبّرة والمكاتبة وأم الولد والمعتق بعضها كالقنّة.
ولو كان نصف الولد حراً ونصفه رقيقاً فنصف حضانته للسيد ونصفه للأُم أو من يلي حضانة الحرّ من الأقارب، فإن اتّفقا على المهاياة أو على استئجار من يحضنه أو رضي أحدهما بالآخر فذاك، وإن تمانعا لم يضيّع واستأجر الحاكم من يحضنه، وأوجب المؤونة على السيد ومن تقتضي الحال الإيجاب عليه. وليس هذا كتزاحم المتعددين في درجة واحدة على الحضانة كما سيأتي(1) ؛ لأنّه لا استحقاق هنا لكلّ واحد في مجموع الحضانة بخلاف ما يأتي، فلا تتوجه القرعة هنا.
وثالثها: أن تكون عاقلةً، فالمجنونة لا حضانة لها؛ لأنّ المجنون لا يتأتى منه الحفظ والتعهّد بل هو في نفسه محتاج إلى من يحضنه. ولا فرق بين أن يكون الجنون مطبقاً أو منقطعاً، إلا إذا وقع نادراً ولا تطول مدته، فلا يبطل الحق، بل هو كمرض يطرأ ويزول. وفي إلحاق المرض المزمن الذي لا يرجى زواله كالسلّ والفالج بحيث يشغله الألم عن كفالته وتدبير أمره به وجهان، من اشتراكهما في المعنى المانع من مباشرة الحفظ، وأصالة عدم سقوط الولاية مع إمكان تحصيلها بالاستنابة، وبه يفرق بينه وبين الجنون.
ولم يعتبر المصنّف شرط العقل، ولا بدّ منه.
ورابعها: أن تكون فارغة من حقوق الزوج، فلو نكحت سقط حقها من الحضانة للأخبار الدالّة عليه، ومنها أنّ امرأةً قالت يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «أنت أحق ما لم تنكحي»(2) .
ص: 124
...
______________________________________
ولأنّ النكاح يشغلها بحق الزوج ويمنعها من الكفالة. ولا أثر لرضى الزوج كما لا أثر لرضى السيّد بحضانة الأمة، لإطلاق النصّ، وقد يرجعان فيتشوّش أمر المولود. ولا فرق عندنا بين تزويجها بقريب الزوج وغيره ؛ عملاً بإطلاق النصّ . وهذا الشرط ذكره المصنّف فيما بعد (1).
وخامسها: أن تكون أمينةً فلا حضانة للفاسقة؛ لأنّ الفاسق لا يلى، ولأنّها لا تؤمن أن تخون في حفظه، ولأنّه لا حظ له في حضانتها؛ لأنه ينشأ على طريقتها، فنفس الولد كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته.
وهذا الشرط لم يذكره المصنّف ، وقد اعتبره الشيخ في المبسوط(2)، والشهيد في قواعده(3) ، والعلامة في التحرير (4)في ولاية الأب. وفي القواعد استقرب عدم اشتراط العدالة ؛ عملاً بعموم الأدلة(5). ويمكن الجمع بين عدم اشتراط العدالة مع اشتراط عدم الفسق؛ لثبوت الواسطة عند الأكثر، ويجعل المانع ظهور الفسق؛ لما يترتب عليه من الأخطار السابقة، بخلاف غيره من المستورين وإن لم تظهر عدالته بالمعنى الذي اعتبره المتأخّرون.
وسادسها: أن تكون مقيمةً. فلو انتقلت إلى محلّ تقصر فيه الصلاة بطل حقها من الحضانة عند الشيخ في المبسوط، ثمّ نقل عن قوم أنّه إن كان المنتقل هو الأب فالأُمّ أحق به، وإن كانت الأُمّ منتقلةٌ، فإن انتقلت من قرية إلى بلد فهي أحقّ، وإن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق به؛ لأنّ في السواد يقل تعليمه وتخرّجه. قال الشيخ بعد نقله ذلك: وهو قوي(6).
ص: 125
•ولو تزوّجت الأم سقطت حضانتها عن الذكر والأنثى، وكان الأب أحق بهما.
________________________________________
وقيل: لو سافر الأب جاز له استصحاب الولد وسقطت حضانتها أيضاً (1)، فيكون ذلك شرطاً سابعاً، ذكره الشهيد في قواعده(2).
ونقل شرطاً ثامناً أن لا يكون بها مرض يعدي من جذام أو برص؛ لما يترتب على حضانتها من خوف الضرر على الولد، وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»(3). ويحتمل عدم السقوط بذلك؛ لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا عدوى ولا طيرة »(4). وهذان الشرطان لم يذكرهما الأكثر .
فرع : لو كان الولد خنثى ففي إلحاقه بالذكر أو بالأنثى قولان منشؤهما استصحاب الأُمّ حقّ الحضانة الثابت قبل تمام الحولين للشكّ في المزيل؛ إذ هو الذكورية ولم يتحقق، وكون استحقاقها مشروطاً بالأنوثية ولم يعلم. والأقوى إلحاقه بالأنثى لوجوب جريان أحكامها عليه من الستر ونحوه، ودخوله في عموم الأخبار الدالة على استحقاقها الولد مطلقاً . منه الذكر لمناسبة تربيته وتأديبه فيبقى الباقي. قوله: «ولو تزوّجت الأُم سقطت حضانتها عن الذكر والأنثى، وكان الأب أحق بهما».
أي تزوّجت بغير الأب، وإلا بقيت حضانتها، وإنّما أطلق المصنف تبعاً لإطلاق الأخبار، لكنّها منزلة على ذلك بقرينة المقام. ويحتمل عموم الحكم نظراً إلى الإطلاق. ولا فرق في سقوط حقّها مع تزويجها بين دخول الزوج بها وعدمه وإن كان المانع ظاهراً اشتغالها بالزوج، للعموم(5) .
ص: 126
•ولو مات كانت الأم أحق بهما من الوصي.
______________________________________
وحيث تسقط ولايتها عنه ينبغي أن لا يمنع الولد من زيارتها والاجتماع بها؛ لما في ذلك من قطع الرحم. ثمّ إن كان ذكراً ترك يذهب إلى أمه، وإن كان أُنثى فأُمها تأتيها زائرة؛ لأن الجارية لا تصلح للخروج، بخلاف الأم، فإذا زارتها الأُم خففت من غير انبساط في بيت المطلق. هذا في حال الصحّة.
أما مع المرض فإن كان المريض الولد لم تمنع أُمه من مراعاته وتمريضه والإقامة عنده؛ لأنّها أشفق عليه وأحنى وأرق وأرفق من غيرها. وإن مرضت الأم لم يمنع الولد من التردّد إليها، ذكراً كان أو أنثى. ولو مات الولد حضرته أمه وتولت أمره وإخراجه، ولا تتبع جنازته؛ لنهي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(1) عن ذلك . وروي عنه(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «لعن الله زائرات القبور»(2). وإن ماتت الأُمّ حضرها الولد وجهزها وتولى أمرها إن كان من أهله كلّ ذلك بإذن الزوج كما مر في باب القسم (3).
قوله: «ولو مات كانت الأم أحق بهما من الوصي».
أي إذا مات الأب وقد صارت الحضانة له بأن كان الولد ذكراً بعد الحولين أو أنثى بعد المدة أو لفقد شرط الحضانة في الأمّ انتقلت الحضانة إلى الأُمّ، وكانت أحق بها من وصيّ الأب وغيره من الأقارب.
وظاهر العبارة عدم الفرق بين كون الأُمّ حينئذ متزوّجة وعدمه، وأنّ مانع التزويج إنّما يؤثر مع وجود الأب كما يقتضيه النصّ(4)، حيث إنّ المنازعة وقعت بينها وبين الأب فجعلها
ص: 127
•وكذا لو كان الأب مملوكاً أو كافراً كانت الأُمّ الحرّة أحق بهما وإن تزوجت.
_____________________________________
أحق به ما لم تتزوّج. وبهذا المفهوم صرّح العلّامة في الإرشاد(1) . وباقي عبارات الأصحاب في ذلك مجملة - كعبارة المصنّف - محتملة لتقييدها بكونها غير مزوّجة؛ نظراً إلى أنه شرط في الحضانة مطلقاً، وإلى التعليل المذكور باشتغالها بحقوق الزوج فإنّه آت هنا، لكن المحصل ما ذكرناه. والمتحقّق من مانعيّة التزويج ما كان منها مع وجود الأب لا مطلقاً. وسيأتي (2)- فيما لو كان الأب رقيقاً - ما يدلّ على أولوية الأم وإن كانت متزوجة، والتعليل المذكور مناسب للنص لا منصوص.
قوله: «وكذا لو كان الأب مملوكاً أو كافراً كانت الأُمّ الحرّة أحق بهما وإن تزوجت».
ما تقدّم(3) من الشرائط المعتبرة في الأُمّ آتٍ هنا غير التزويج، ومنها الحرية والإسلام؛ لما ذكر فيها من العلة.
ويدلّ على كونها أحقّ من الأب المملوك وإن تزوجت صحيحة داود الرقي(4)، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن امرأة نكحت عبداً فأولدها أولاداً، ثمّ إنّه طلقها فلم تقم مع ولدها وتزوجت، فلما بلغ العبد أنّها تزوّجت أراد أن يأخذ منها ولده وقال: أنا أحق بهم منك إن تزوّجت. فقال: «ليس للعبد أن يأخذ منها ولدها وإن تزوّجت حتّى يعتق، هي أحقّ بولدها منه ما دام مملوكاً، فإذا أعتق فهو أحق بهم منها»(5).
وهذه الرواية صريحة في استحقاق الأم الحضانة وإن كانت مزوجة مع وجود المانع
ص: 128
• فلو أُعتق كان حكمه حكم الحرّ.
_________________________________________
للأب من الحضانة بالرقيّة. والمصنّف وغيره (1)حملوا مانع الكفر عليها؛ لأنّه أقوى منها ولم يصرّحوا بحكم غيرهما من الموانع، وظاهر إطلاقهم الأول إلحاق موته بهما (2).
ويمكن استفادته من ذلك بطريق أولى؛ لأنّ مانع الرقّ يقبل الزوال بخلاف مانع الموت، ولذا أطلقوا الحكم في السابق على إجمال فيه. ويبقى الكلام في باقي الموانع والظاهر المساواة، وإنّما لم يذكروا حكمها لعدم تعرضهم لأصل الشرطيّة في غير الكفر والرق غالباً كما فعل المصنّف فلذا رتب الحكم عليهما.
والضابط أنّ الأب إنما يكون أولى من الأُمّ، مع اجتماع شرائط الحضانة فيه التي من جملتها الإسلام والحرّية والعقل إجماعاً، والأمانة والحضر والسلامة من الأمراض المعدية على الخلاف. فمتى اختل شرط من شروطها فيه فالأُمّ أحقّ بالولد مطلقاً إلى أن يبلغ، وكذا لومات الأب ومتى اختلّ شرط من شروطها فيها فالأب أحقّ به مطلقاً كذلك، مطلقاً كذلك، ومتى مات أحدهما انتقل الحق إلى الآخر مطلقاً.
واشتراط عدم تزويجها إنّما يعتبر في ترجيحها على الأب مع اجتماع الشرائط فيه خاصة.
قوله: «ولو أُعتق كان حكمه حكم الحرّ».
ومثله ما لو أسلم الكافر، أو تعدل الفاسق، أو عقل المجنون، أو برئ المريض، أو حضر المسافر. وقد تقدّم (3)في الرواية ما يدل على حكم العبد إذا أعتق، فلذا اقتصر المصنف عليه، وعداه غيره إلى الباقي (4)؛ نظراً إلى الاشتراك في المعنى ، ولأنّ الولاية ثابتة بالأصل وإنّما تخلّفت لفقد الشرط، فإذا حصل ثبتت أو أنّ هذه الأشياء موانع فإذا زالت أثرت.
ص: 129
•فإن فقد الأبوان فالحضانة لأب الأب، فإن عُدم قيل: كانت الحضانة للأقارب، وترتبوا ترتب الإرث؛ نظراً إلى الآية. وفيه تردّد.
______________________________________
ويحتمل عدم العود في غير ما ثبت بالنص؛ لتحقق الزوال قبل زوال المانع أو حصول الشرط، فعودها يحتاج إلى دليل.
ويضعّف بأن الدليل هو ما دلّ على أنّ الأُمّ أحق بحضانة الولد ابتداء، فإنّه متناول لمحلّ النزاع. وسيأتي الخلاف فيما لو طلقت هل تعود ولايتها أم لا (1)؟ وهو ينبه على توجه الاحتمال.
قوله: «فإن فقد الأبوان فالحضانة لأب الأب» إلى آخره.
اعلم أنّه لا نصّ في مستحقّ الحضانة على الخصوص سوى الأبوين دون من عداهما من بقية الأجداد والجدات والأقارب، فلذلك اختلف الأصحاب في حكمهم اختلافاً كثيراً، فمنهم من (2)عدى الحكم منهما إلى باقي الأقارب والأرحام على ترتيب الإرث؛ لعموم قوله تعالى: (وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللَّهِ)(3) فَإِنَّ الأولوية تشمل الإرث والحضانة وغيرهما؛ ولأنّ الولد مضطر إلى التربية والحضانة، فلا بد في الحكمة من نصب قيم بها، والقريب أولى بها من البعيد.
وعلى هذا، فمع فقد الأبوين ينظر في الموجود من الأقارب، ويقدر لو كان وارثاً ويحكم له بحقّ الحضانة ثمّ إن اتّحد اختصّ، وإن تعدّد أقرع بينهم؛ لما في اشتراكها من الإضرار بالولد. وهذا القول هو المعتمد، ووراءه أقوال أخر:
منها: أنه مع فقد الأبوين تكون الحضانة لأب الأب مقدّماً على غيره من الإخوة والأجداد والجدّات وإن شاركوه في الإرث وهذا هو الذي قطع به المصنّف، والعلامة في غير المختلف(4) ، وجماعة منهم الشيخ في موضع من المبسوط(5) ، حتّى ابن إدريس
ص: 130
...
_____________________________________________
مع اقتصاره في الحضانة على الأبوين(1).
ووجهه أنّ الجد للأب أب في الجملة، فيكون أولى من غيره من الأقارب، ولأنه أولى بالمال، فيكون أولى بالحضانة.
ويضعّف بأنّ ذلك لو كان موجباً لتقديمه لاقتضى تقديم أُمّ الأُمّ عليه لأنّها بمنزلة الأُمّ. وهي مقدّمة على الأب على ما فصل. وولاية المال لا مدخل لها في الحضانة وإلا لكان الأب أولى من الأُمّ، وكذا الجد له، وليس كذلك إجماعاً.
والنصوص خالية عن غير الأبوين من الأقارب، وإنما استنبط حكمه من آية أُولي الأرحام(2). وهي لا تدلّ على تقديمه على غيره ممن هو في درجته. وإلى هذا مال في المختلف(3).
ومنها: أنّه مع عدم الأبوين ينتقل الحكم إلى الأجداد، ويقدمون على الإخوة وإن شاركوهم في الإرث ولا يفرّق بين الجد للأب وغيره، ومع فقدهم ينتقل إلى باقي مراتب الإرث. وهو خيرة العلّامة في الإرشاد (4)، ولم يفصل حكم الأجداد مع التعدد والعلو، ومن يتقرّب منهم بالأُم أو الأب.
ومنها: أنه مع موت الأب تقوم أمه مقامه في ذلك، فإن لم تكن له أمّ وكان له أب قام مقامه في ذلك، فإن لم يكن له أب ولا أُمّ كانت الأم التي هي الجدة أحق به من البعيد. وهو قول المفيد(5) .
ومنها: قول ابن الجنيد :
وهو أن من مات من الأبوين كان الباقي أحق به من قرابة الميت، إلا أن يكون المستحق
ص: 131
...
___________________________________________________
له غير رشيد فيكون من قرب إليه أولى به، فإن تساوت القرابات قامت القرابة مقام من هي له قرابة في ولايته.
- إلى أن قال: - والأم أولى بها ما لم تتزوج، ثم قرابتها أحقّ من قرابة الأب؛ لحكم النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) بابنة حمزة لخالتها دون أمير المؤمنين(علیه السلام) وجعفر، وقد طالبا بها؛ لأنها ابنة عتهما جميعاً، وقال أمير المؤمنين(علیه السلام) : إن عندي ابنة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) وهي أحق بها».
فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) :«ادفعوها إلى خالتها فإنّ الخالة أمّ»(1).
وابن إدريس نفى استحقاق من عدا الأبوين وأب الأب مطلقاً(2) .
وفي المسألة أقوال أُخر(3) غير ما ذكرناه.
والحق أنّ آية أُولى الأرحام لا تدلّ على شيء مما ذكروه، وإنما تفيد تنزيل حقّ الحضانة على مراتب الإرث كما أسلفناه(4) ، وهي تدلّ على تقديم الإخوة والأجداد على غيرهم من الأقارب، ولا تفيد تقديم الأجداد على الإخوة إلّا إذا جعلنا الجد أباً والجدّة أُمّاً حقيقةً فيتناولهما ما دلّ على أصل الحكم، ويقدّم كلّ منهما حيث يقدم من يمت به، ويلزم منه حينئذٍ تقديم الجدّة للأُمّ على الأب، والجدّ للأب على الأُم حيث يتلقى الحضانة عن الأب من غير أن يأخذها بالأصالة.
ثمّ الجدّة لأُمّ كانت أم لأب أولى من العمّة والخالة مطلقاً، كما أنّ الجد مطلقاً أولى من العمّ والخال والأدنى من كلّ مرتبة أولى من العليا ذكوراً وإناثاً. ولا اعتبار بكثرة النصيب وقلته، ولا بالتقرب بأمرين مع تقرّب الآخر بسبب واحد مع اشتراكهما في الإرث.
ص: 132
فروع أربعة على هذا القول:
الأول: • قال الشيخ (رحمه الله): إذا اجتمعت أُخت لأب وأُخت لأُم كانت الحضانة للأُخت من الأب؛ نظراً إلى كثرة النصيب في الإرث والإشكال في أصل الاستحقاق، وفي الترجيح، ومنشؤه تساويهما في الدرجة. وكذا قال في أُمّ الأُمّ مع أُمّ الأب.
________________________________________
ولو اجتمع ذكر وأنثى ففي تقديم الأُنثى قول (1)مأخذه تقديم الأُم على الأب، وكون الأُنثى أوفق لتربية الولد . وأقوم بمصالحه صغيراً سيما الأنثى، وإطلاق الدليل المستفاد من الآية يقتضي التسوية بينهما كما يقتضي التسوية بين كثير النصيب وقليله؛ لاشتراك الجميع في القرب المقتضي للاشتراك في الإرث.
نعم، لو صحّت رواية تقديم الخالة (2)- لمكان تعليلها بكون الخالة أُمّاً - ترد على إطلاق الآية، ويمكن حينئذٍ أن تستثنى من العموم كما استثني الأب والأم بتفضيلهما من الآية المقتضية للتسوية بينهما وأمّا تقديمه(علیه السلام) للخالة على ابن العم وبنت العم فموافق للآية؛ لأنّها أقرب منهما.
قوله: «قال الشيخ (رحمه الله): إذا اجتمعت أُخت لأب» إلى آخره.
هذا القول ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط، محتجاً على التقديم بآية أولي الأرحام، وأنّ كثرة النصيب تدلّ على زيادة القرب، مع أنّه في المبسوط في موضع آخر قال: وإن قلنا إنّهما سواء ويقرع بينهما كان قوياً (3).
والمصنف تردّد في موضعين:
أحدهما: أصل استحقاق الأختين في الحضانة؛ نظراً إلى ما أسلفناه (4)من عدم النص
ص: 133
الثاني: • قال في جدة وأخوات: الجدة أولى؛ لأنّها أُمّ.
الثالث . قال : إذا اجتمعت عمة وخالة فهما سواء.
__________________________________________
عليها بخصوصه في غير الأبوين، ومن عموم آية أولي الأرحام.
والثاني : على تقدير استحقاقهما في أولوية من نصيبه أكثر على من يشاركه في الميراث. من أنّ الآية تقتضي تساويهما فيها من حيث اشتراكهما في الميراث وإن تفاضلا، ومن أنّ كثرة النصيب تدلّ على زيادة القرب، فكما أنّ زيادته توجب الترجيح في المراتب(1) فكذا في المرتبة نفسها.
والأقوى تساويهما في الاستحقاق؛ لما قرّرناه من تناول الآية لهما، ومن ثمّ اشتركا في أصل .الإرث. وكذا القول في أُمّ الأُمّ مع أُمّ الأب، فإنّه يحتمل تقديم أُمّ الأب لزيادة النصيب، وعدمه لاشتراكهما في أصل الإرث. بل قبل بتقديم أُمّ الأُمّ؛ لأنها أُم حيث تكون الأُم مقدّمة(2) .
قوله: «قال في جدة وأخوات الجدة أولى؛ لأنّها أُمّ».
هذا قوله (رحمه الله) في الخلاف : محتجاً بأنها أُمّ(3). وهو يتمّ لو قلنا : إنّها أُمّ حقيقة لتدخل في النصّ السابق(4) ، وهو ممنوع، ومن ثم يصح سلبها عنها، فيقال: إنها ليست أُمّاً بل أُمّ أُمّ.
وذهب في المبسوط إلى تساويهما في استحقاق الحضانة(5) ؛ لاشتراكهما في أصل الإرث، فيتناولهما آية أولى الأرحام. وهو أقوى. وحينئذٍ فيقرع بينهما.
قوله: «قال: إذا اجتمعت عمّة وخالة فهما سواء».
ص: 134
الرابع: • قال : إذا حصل جماعة متساوون في الدرجة كالعمة والخالة أقرع بینهم.
ومن لواحق الحضانة ثلاث مسائل:
الأولى: • إذا طلبت الأم للرضاعة أُجرة زائدة عن غيرها، فله تسليمه إلى الأجنبية.
وفي سقوط حضانة الأم تردّد، والسقوط أشبه.
____________________________________
هذا القول مبنيّ على الرجوع إلى أصل الإرث لا إلى مقداره. وقد تقدم الكلام فيه واختلاف مذهبه في ذلك(1) . وما اختاره هنا قوي؛ لما ذكر.
قوله: «قال: إذا حصل جماعة متساوون في الدرجة، كالعمة والخالة، أُقرع بينهم».
نسبة القول بالقرعة إلى الشيخ(2) تؤذن بعدم ارتضاه أو تردّده فيه .
ووجهه أنّ الاشتراك يقتضى التسوية بين المستحقّين في ذلك، فيتولى كلّ واحد أمر الولد دفعةٌ واحدةٌ أو بالتناوب، والمهاياة والقرعة تنافي ذلك، ومن حيث استلزام الاشتراك والتناوب الإضرار بالولد واختلاف أمره وإلفه، فالقرعة أوفق لمصلحته وهذا هو الأقوى. وحيث يتعين أحد بالقرعة يستمر له الاستحقاق إلى أن يموت أو يعرض عن حقّه فينتقل إلى غيره إن اتّحد وإلا افتقر إلى القرعة أيضاً، وهكذا.
قوله: «إذا طلبت الأُمّ للرضاعة أُجرة زائدة عن غيرها» إلى آخره.
منشأ التردد من أنهما حقان متغايران فلا يلزم من سقوط حقّها من أحدهما سقوطه من الآخر، وحق الحضانة ليس مشروطاً بذلك. ومن لزوم الحرج بتردّد المرضعة إليها في كلّ وقت يحتاج الولد إلى الإرضاع ودلالة قول الصادق(علیه السلام) في رواية داود بن الحصين:« فإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم وقالت الأُمّ: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإنّ له
ص: 135
الثانية: • إذا بلغ الولد رشيداً سقطت ولاية الأبوين عنه، وكان الخيار إليه في الانضمام إلى من شاء.
____________________________________________
أن ينزعه منها»(1) . الحديث. وهذا هو الذي اختاره المصنّف.
وفي الأوّل قوة. والضرر بذلك لا يبلغ حدّ إسقاط الحقّ الثابت والخبر ضعيف السند. ويمكن حمله على نزعه من جهة الرضاع لا مطلقاً. وعلى هذا فتأتي المرضعة إليه إن أمكن وإلا حمل الولد إليها وقت الحاجة، فإن تعذّر جميع ذلك سقط حقّها من الحضانة حينئذ إن لم تتبرّع بالإرضاع إلى أن توجد مرضعة تأتي إليه أو يمكن نقله إليها كما مر؛ لأنّ حفظ الولد واجب ولا يتم إلا بذلك، والضرر يتحقّق حينئذ.
قوله: «إذا بلغ الولد رشيداً سقطت ولاية الأبوين عنه، وكان الخيار إليه في الانضمام إلى من شاء».
لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وهو موضع ،وفاق، ولكن كرهوا للبنت مفارقة أُمّها إلى أن تتزوج. ونبه بإثبات التخيير بعد البلوغ والرشد على خلاف بعض العامّة حيث أثبتوه بعد التمييز ويكون عند من اختار منهما(2). وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خير غلاماً بين أبيه وأُمه حين اختصما إليه فيه(3).
وبعضهم خص التخيير بالذكر(4)، ولم يثبت ذلك عندنا. وإلى عدم التخيير ذهب أبو حنيفة ومالك (5).
ص: 136
الثالثة: • إذا تزوّجت سقطت حضانتها، فإن طلقها رجعيّة فالحكم باق. وإن بانت منه قيل لم ترجع حضانتها. والوجه الرجوع.
________________________________________
قوله: «إذا تزوجت سقطت حضانتها، فإن طلقها رجعية فالحكم باق» إلى آخره.
القول بالرجوع للشيخ(1) والأكثر؛ لأنّ المانع من حضانتها متزوجة اشتغالها بحقّ الزوج عن الحضانة، فإذا زال المانع رجع الحقّ، فبقي المقتضي لاستحقاقها سليماً عن المعارض، ولقوله (صلى الله عليه و آله و سلم) في الخبر السابق(2): «أنت أحق به ما لم تنكحي» و «ما» هنا ظرفيّة زمانية أي مدة لم تنكحي فيها، فإذا زالت الزوجيّة بالطلاق البائن فهي في مدّة لا تنكح فيها، فتكون أحق.
والقول بعدم الرجوع لابن إدريس؛ محتجاً بأن الحقّ خرج عنها بالنكاح، فعوده يحتاج إلى دليل(3). والرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) جعل غاية الاستحقاق للحضانة التي تستحقها الأُمّ تزويجها، وهذه قد تزوجت فخرج الحق منها حينئذ.
وعلى المشهور لو نكحت ثانياً سقط حقّها إلى أن تخرج من الزوجيّة فيعود إليها، وهكذا أبداً. والمعتدة رجعيّة بمنزلة الزوجة، ولهذا يجب الإنفاق عليها، فلا تستحقّ إلّا بانقضاء العدة، بخلاف البائن. ومثله ما لو أسلمت الكافرة، أو أفاقت المجنونة، أو أعتقت الأمة، أو حسن حال الفاسقة فتثبت لها الحضانة، لارتفاع المانع. وظاهر هم اختصاص الخلاف بالمطلقة.
ص: 137
• لا تجب النفقة إلّا بأحد أسباب ثلاثة : الزوجية، والقرابة، والملك.
القول في نفقة الزوجة
والكلام فى الشرط، وقدر النفقة واللواحق.
والشرط اثنان :
الأوّل: أن يكون العقد دائماً.
__________________________________________
النظر الخامس في النفقات
قوله: «لا تجب النفقة إلا بأحد أسباب ثلاثة: الزوجية، والقرابة، والملك».
لوجوب النفقة أسباب ثلاثة ملك النكاح، وملك اليمين وقرابة البعضيّة.
والأولان يوجبان النفقة للمملوك على المالك دون العكس؛ لاشتغال المملوك، وكونه محبوساً بسببه فرقه ليتفرّغ لمالكه، وجبر ما لحقه من التعب بالقيام بمؤونته. والثالث يوجب النفقة لكلّ واحد من القريبين على الآخر؛ لشمول معنى البعضية والشفقة.
والأصل في السبب الأول - قبل الإجماع - قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1) ، وقوله تعالى: (لِيُنفِقُ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفق مِمَّا اتَنهُ الله )(2).
ومن السنّة ما روي أنّ هند امرأة أبي سفيان جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم)، فقالت: إنّ
ص: 138
الثاني: • التمكين الكامل، وهو التخلية بينها وبينه بحيث لا تخصّ موضعاً ولا وقتاً. فلو بذلت نفسها في زمان دون زمان أو مكان دون آخر مما يسوغ فيه الاستمتاع لم يحصل التمكين.
_______________________________________
أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى ما يكفينى وولدي إلّا ما أخذ منه سراً وهو لا يعلم، فهل عليّ في ذلك من شيء ؟ فقال(صلی الله علیه و آله و سلم) :«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (1).
ويستفاد من الخبر وراء وجوب نفقة الزوجة والولد فوائد :
الأولى: أنّه يجوز للمرأة الخروج من بيتها لتستفتي.
الثانية: أنّ صوتها ليس بعورة وإلا لنبهها (صلی الله علیه و آله و سلم) على ذلك؛ لأنّ تقريره كقوله وفعله.
الثالثة: أنّه يجوز لمن منع حقه أن يشكو ويتظلم، ولذلك لم ينهها عن الشكوى.
الرابعة: أنّه يجوز ذكر الغائب بما يسوؤه عند الحاجة، فإنّها وصفته بالشحّ.
الخامسة: أنه يجوز لمن له حقّ على غيره وهو ممتنع أن يأخذ من ماله بغير علمه.
السادسة: أنّه لا فرق بين أن يكون من جنس حقه أو من غير جنسه؛ ولذا أطلق لها الأخذ بقدر الكفاية.
السابعة : أنّه يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه.
الثامنة: أنه يجوز القضاء على الغائب. وقد يقال في هذين: أنه أفتى ولم يقض.
التاسعة: أنّ الأُمّ يجوز أن تكون قيمة الولد، فإنه(صلی الله علیه واله و سلم) يجوز لها الأخذ والإنفاق في حياة الأب لامتناعه، لكن يشترط نصب الحاكم .لها.
العاشرة: أنّ المرجع في نفقة الزوجة والولد إلى العرف(2)، ولا تقدير له شرعاً.
قوله: «التمكين الكامل، وهو التخلية بينها وبينه» إلى آخره.
ص: 139
•وفي وجوب النفقة بالعقد أو بالتمكين تردّد أظهره بين الأصحاب وقوف الوجوب على التمكين.
_____________________________________________
المراد تخلية الزوجة بين نفسها وبين الزوج بحيث لا تخص بالتخلية موضعاً -كبيتها وبلدها - دون آخر، بل في كلّ مكان أراده الزوج ممّا يصلح للاستمتاع بحسب حالها. وكذلك الزمان ويمكن أن يريد بالمكان ما يعمّ البدن كالقبل وغيره مما يسوغ فيه الاستمتاع، وكلاهما معتبر في التمكين وإن كان الأوّل أظهر في المراد.
وهذا البحث يجري على القولين الآتيين؛ لأنّ كلّ ما لا يعد تمكيناً كاملاً فهو نشوز، كما لو منعت نفسها في مكان أو زمان أو وصف يسوغ فيه الاستمتاع، فإن جعلنا التمكين شرطاً فظاهر وإن جعلنا النشوز مانعاً كان ملحوظاً في تحقق معناه، فلذا بدأ به قبل تحقیق محل الخلاف.
واعلم أنّ الظاهر من كلام المصنّف وغيره - بل صرّح به بعضهم - أنّ التمكين لا يكفي حصوله بالفعل، بل لا بد من لفظ يدل عليه من قبل المرأة، بأن تقول: «سلّمت نفسي إليك حیث شئت، وأي زمان شئت» ونحو ذلك، فلو استمرت ساكتة وإن مكنته من نفسها بالفعل لم يكف في وجوب النفقة . ولا يخلو ذلك من إشكال.
قوله: «وفي وجوب النفقة(1) بالعقد أو بالتمكين تردّد» إلى آخره.
اعلم أنّ الشيء قد يثبت في الذمة ويتأخّر وجوب تسليمه كالدين المؤجل.
ولا خلاف في أنّ وقت وجوب التسليم في النفقة صبيحة كلّ يوم، وفي الكسوة أوّل الصيف والشتاء، وذلك بعد حصول التمكين والخلاف في وقت ثبوتها في الذمّة. ولا ريب في أنّ للنفقة تعلّقاً بالعقد والتمكين جميعاً ، فإنّها لا تجب قبل العقد، ولو نشزت بعد العقد لم تطالب بالنفقة. واختلف في أنّها بم تجب؟ فقيل: بالعقد كالمهر، لا بالتمكين(2) ؛ لدلالة
ص: 140
...
________________________________________________
الأدلّة السابقة (1)على وجوبها للزوجة من غير تقييد، غايته أنّ النشوز لما ثبت أنّه مانع من وجوب الإنفاق كان الشرط عدم ظهور المانع، فما لم يوجد المانع يستمر الوجوب المعلق على الزوجية الحاصلة بالعقد، فالعقد مثبت والنشوز مسقط ؛ ولأنّها تجب للمريضة والرتقاء.
وقيل: لا تجب بالعقد مجرّداً، بل بالتمكين؛ لأنّ المهر يجب به، والعقد لا يوجب عوضين مختلفين (2)؛ ولأنّ النفقة مجهولة الجملة، والعقد لا يوجب مالاً مجهولاً.
ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج ودخل بعد سنتين، ولم ينفق إلا بعد دخوله (3). ولقوله : «اتقوا الله في النساء، فإنّهنّ عوار عندكم، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (4)، أوجب لهنّ إذا كنّ عند الرجال، وهو يدلّ على التمكين.
ولأنّ الأصل براءة الذمة من وجوب النفقة، خرج منه حالة التمكين بالإجماع فيبقى الباقي على الأصل.
وفي جميع هذه الأدلة نظر؛ لأنّ عدم إيجاب العقد عوضين مختلفين وعدم إيجابه مالاً مجهولاً، مجرّد دعوى أو استبعاد قد دلّ الدليل على خلافهما، فإن الآيات الدالّة على وجوب الإنفاق على الزوجة من غير تقييد تدلّ على أنّ العقد أوجب النفقة على ذلك الوجه. وأي مانع من إيجاب العقد أمرين مختلفين كما في شراء الدابة والمملوك؟ فإنّ العقد يوجب الثمن كالمهر ويوجب الإنفاق المجهول من غير شرط إجماعاً.
ص: 141
•ومن فروع التمكين أن لا تكون صغيرة يحرم وطء مثلها، سواء كان زوجها صغيراً أو كبيراً، ولو أمكن الاستمتاع منها بما دون الوطء؛ لأنه استمتاع نادر لا يرغب إليه في الغالب.
_____________________________________________
و عدم إنفاق النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قبل الدخول - لو سلّم - لا يدل على عدم الوجوب بإحدى الدلالات. والخبر يدلّ على خلاف مطلوبكم؛ لأن الضمير في قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) «ولهن عليكم رزقهن» يعود إلى النساء المصدر بذكر هنّ، وهو أعم من الممكنات. ووصفهن بالوصفين لا يدلّ على التمكين المدعى كونه شرطاً أو سبباً ؛ لأنّ استحلال فروجهن يحصل مع التمكين التامّ وعدمه.
وأمّا أصالة البراءة فإنّما تكون حجّةٌ مع عدم دليل ناقل عنه، لكنه موجود هنا بالعمومات(1) الدالة على وجوب نفقة الأزواج، والأصل عدم التخصيص.
وعلى كلّ حال، فالأظهر بين الأصحاب هو القول الثاني، كما أشار إليه المصنف(2). وتظهر فائدة القولين في مواضع يذكر المصنّف بعضها:
منها: ما لو اختلفا في التمكين فقالت المرأة سلّمت نفسي إليك من وقت كذا وأنكر، فإن قلنا: إنّ النفقة تجب بالتمكين فالقول قول الزوج، وعليها البيّنة؛ لأصالة عدم التمكين. وإن قلنا: تجب بالعقد فالقول قولها؛ لأنّ الأصل استمرار ما وجب بالعقد، وهو يدّعي السقوط فعليه بيّنة النشوز المسقط.
ومنها: ما لو لم يطالبها الزوج بالزفاف ولم تمتنع هي منه، ولا عرضت نفسها عليه ومضت على ذلك مدة، فتجب النفقة على الأول دون الثاني. وسيأتي الكلام فیه(3).
قوله: «ومن فروع التمكين أن لا تكون صغيرة يحرم وطء مثلها» إلى آخره.
الزوجان بالنسبة إلى وجوب الإنفاق وعدمه إما أن يكونا صغيرين لا يصلحان للاستمتاع أو كبيرين، أو الزوج صغيراً والزوجة كبيرة، أو بالعكس. وقد أشار إلى حكم الأربعة.
ص: 142
•أما لو كانت كبيرةً وزوجها صغيراً، قال الشيخ: لا نفقة لها.
وفيه إشكال منشؤه تحقّق التمكين من طرفها والأشبه وجوب الإنفاق.
___________________________________________
والحاصل منها أن تمكين الزوجة للزوج من الاستمتاع لمّا كان معتبراً في وجوب النفقة - والمراد به ما كان مقصوداً بالذات وهو الوطء؛ إذ غيره من مقدماته إنّما يقصد بالتبع - لم يتحقّق التمكين من الصغيرة التى هى دون التسع، سواء مكنت منه أم لا؛ لتحريم وطئها شرعاً، وعدم قبولها لذلك عادةً، وبهذا يفرق بينها وبين الحائض حيث شاركتها في تحريم الوطء. وأيضاً فالاستمتاع بالحائض ممكن حتى بالوطء على بعض الوجوه، بخلاف الصغيرة؛ لعدم صلاحيتها لذلك مطلقاً، فلا يجب على الزوج الإنفاق عليها ولا على وليه ولو كان صغيراً؛ لفقد الشرط.
والمعتبر في الصغير هاهنا من لا يصلح للجماع ولا يتأتى منه ولا يلتذّ به، والكبير من يتأتّى منه ذلك، لا ما يتعلّق بالتكليف وعدمه، فالمراهق كبير هنا.
ومحلّ الكلام فيما إذا عرضت الصغيرة عليه بنفسها أو وليها، أما بدونه فلا مجال للبحث كالكبيرة، إلا إذا جعلنا الموجب العقد وحده.
قوله: «أما لو كانت كبيرة وزوجها صغيراً» إلى آخره.
لما كان المعتبر في وجوب الإنفاق العقد مع التمكين أو هو مع عدم النشوز فاللازم منه وجوبه للكبيرة إذا مكّنت أو لم تنشز وإن كان الزوج صغيراً؛ لأنّ الأصل عدم اشتراط أمر آخر في الوجوب وهو قبول الزوج للاستمتاع، كما يجب الإنفاق عليها لو غاب أو هرب بعد أن سلمت نفسها.
ووجه ما ذهب إليه الشيخ(1) عدم إمكان الاستمتاع بها بسبب هو معذور فيه، فلا يلزم غرماً؛ ولأنّه بعدم أهليته لا أثر للتمكين في حقّه؛ فإنّ التمكين شرطه الإمكان وإلا لم يتحقّق ولأن الامتناع من جهة الفاعل أقوى من جهة القابل، فإذا أسقط الثانى أسقط الأول.
ص: 143
• ولو كانت مريضةً أو رتقاء أو قرناء لم تسقط النفقة؛ لإمكان الاستمتاع بما دون الوطء قبلاً، وظهور العذر فيه.
_____________________________________
وفيه نظر؛ لمنع تأثير العذر من جهته مع اجتماع شرائط الوجوب من قبلها؛ لما بيّنّاه سابقاً (1).
ولأن المعتبر في التمكين رفع المانع من جهتها، والأصل عدم اشتراط أمر آخر، وبه يفرق بين عجز الفاعل والقابل؛ لأنّ الشارع رتب إيجاب النفقة على أسباب فإذا حصلت وجب أن يثبت الوجوب، والمعلوم منه العقد مع بذل المرأة نفسها أو مع عدم المنع. فالقول بالوجوب أقوى.
قوله: «ولو كانت مريضةً أو رتقاء أو قرناء لم تسقط النفقة» إلى آخره.
لما حكم بعدم وجوب الإنفاق على الصغيرة وإن مكنت من حيث تعذّر الوطء، ذكر ما يمكن أن يشاركها في الحكم وهو المريضة والرتقاء والقرناء. ونبّه على الفرق بينها وبين الصغيرة بأنّ الاستمتاع بالرتقاء والقرناء ممكن فيما دون الفرج، وظهور العذر فيه من حيث كونهما مانعاً دائماً فلا يناسب إدامة الحبس عليها مع عدم النفقة، بخلاف الصغيرة فإنّ لها أمداً يرتقب. وأمّا المريضة فإنّ الوطء وإن تعذر بها مطلقاً إلا أن ذلك عارض متوقع الزوال كالحيض، فلا يؤثر.
ويمكن أن يكون قوله «وظهور العذر» تعليلاً لحكم المريضة على وجه الترتيب المشوّش ؛ لأنّ إمكان الاستمتاع بما دون الوطء قبلاً مخصوص بالرتقاء والقرناء، وبقي حكم المريضة معلّلاً بظهور العذر. والمراد منه أنّه عذر طارئ ومتوقع الزوال كما ذكرناه. ويمكن جعل المجموع علة للمجموع؛ لأنّ المريضة لا يفوت منها الأنس وجميع الاستمتاعات المقصودة عادة بخلاف الصغيرة والقول في الأخيرتين كما تقدّم(2).
ص: 144
•ولو اتّفق الزوج عظيم الآلة وهي ضعيفة مُنع من وطئها، ولم تسقط النفقة، وكانت كالرتقاء.
•ولو سافرت الزوجة بإذن الزوج لم تسقط نفقتها، سواء كان في واجب أو مندوب أو مباح. وكذا لو سافرت في واجب بغير إذنه، كالحج الواجب. أما لو سافرت بغير إذنه في مندوب أو مباح سقطت نفقتها.
_________________________________________
قوله: «ولو اتّفق الزوج عظيم الآلة وهي ضعيفة منع من وطئها» إلى آخره.
منعه من وطئها على وجه الوجوب، لما يشتمل عليه الوطء من الضرر وخوف الجناية بالإفضاء وغيره، ولقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1) ومن المعروف أن يكون الجماع على صفة يلتدان به لا ما يحصل به الضرر.
وإنما يتم تشبيهها على هذه الحالة بالرتقاء لو اكتفينا في تعليل وجوب نفقتها بظهور عذرها وقدومه على ذلك، أو اكتفينا بالاستمتاع بغير الوطء مطلقاً، وإلا فالفرق بينها وبين الرتقاء قائم بإمكان وطء الرتقاء دبراً دون هذه؛ لأنّ ضعفها في القبل يقتضي ضعفها مطلقاً؛ نظراً إلى الوصف المذكور. ومثله ما لو اتّفق كونها ضئيلة (2)وهو عبل(3) وإن لم يكن عظيم الآلة زيادة على غيره.
وطريق معرفة ذلك باعترافه أو بالمشاهدة لهما حال الجماع لو ادّعته وأنكر. وجاز النظر لمكان الحاجة كنظر الطبيب، فينظر إليه من النساء من يثبت بقوله ذلك. ويحتمل الاكتفاء بواحدة؛ جعلاً له من باب الإخبار.
قوله: «ولو سافرت الزوجة بإذن الزوج لم تسقط نفقتها» إلى آخره.
ليس السفر من حيث هو سفر من مسقطات النفقة، وإنّما يسقطها مع تضمّنه للنشوز
ص: 145
...
___________________________________
المتحقّق بالخروج عن طاعته ومنعه من الاستمتاع حيث يجب، ويلزم من ذلك أنّ سفرها لو كان بإذنه لم يمنع من وجوب النفقة مطلقاً؛ لأنّه بالإذن أسقط حقّه النفقة مطلقاً؛ لأنّه بالإذن أسقط حقّه من الاستمتاع مدة السفر ورضي بفواته، فلا يكون ذلك مسقطاً. ولا فرق حينئذ بين كون سفرها في مصلحته أو ،مصلحتها، ولا بين كونه في واجب وغيره.
ولا إشكال في ذلك كله إلّا في سفرها بإذنه في مصلحتها، ففيه وجه بالسقوط؛ لخروجها به عن قبضته وإقبالها على شأنها. ويضعّف بأنّ ذلك غير قادح مع وقوعه بإذنه، كما لو أذن لها في الخروج إلى بيت أهلها على وجه لا يتمكن معه من الاستمتاع.
وربما بني الحكم على أنّ النفقة تجب بالعقد بشرط عدم النشوز أو بالتمكين، فعلى الأوّل تجب؛ لأنّها ليست ناشزةً بذلك قطعاً، وعلى الثاني يسقط؛ لعدم التمكين.
وضعفه يظهر ممّا قرّرناه.
وإن كان السفر بغير إذنه، فإن كان في غير واجب فلا شبهة في السقوط؛ لتحقّق النشوز بذلك، سواء كان في مصلحتها أم مصلحته وإن كان في واجب، فإن كان مضيّقاً كحج الإسلام لم تسقط؛ لأنّها معذورة في ذلك، والمانع شرعي، وإن كان موسعاً كالنذر المطلق - حيث انعقد بإذنه، أو قبل التزويج ولم يتضيّق بظن العجز عنه لو أخرته - ففي توقّفه على إذنه قولان(1) ناشئان من أنّ حقه مضيّق حيث يطلبه فيقدّم على الموسّع عند التعارض ومن أنّ الواجب مستثنى بالأصل، وتعيينه منوط باختيارها شرعاً وإلا لم يكن موسعاً . ويظهر من إطلاق المصنّف الواجب عدم توقفه على إذنه، وهو الوجه. وعلى القولين يترتب حكم النفقة، فإن لم نوقّفه على إذنه لم تسقط وإلّا سقطت.
ص: 146
•ولو صلت أو صامت أو اعتكفت بإذنه أو في واجب وإن لم يأذن لم تسقط نفقتها. وكذا لو بادرت إلى شيء من ذلك ندباً؛ لأنّ له فسخه ولو استمرّت مخالفةً تحقق النشوز وسقطت النفقة.
___________________________________________
قوله: «ولو صلت أو صامت أو اعتكفت بإذنه أو في واجب وإن لم يأذن لم تسقط نفقتها» إلى آخره.
لا فرق في الصلاة الواجبة بين كون وقتها موسعاً ومضيّقاً في جواز فعلها بدون إذنه، وعدم تأثيره في سقوط النفقة.
أما الصوم فإن كان مضيّقاً - كرمضان، والنذر المعيّن، وقضاء رمضان إذا لم يبق لرمضان الثاني إلّا قدر فعله - فكالصلاة؛ لتعيّن ذلك عليها شرعاً فكان عذراً. وإن كان موسّعاً - كقضاء رمضان مع سعة وقته، والنذر المطلق، والكفّارة حيث قلنا بأنّها موسعة - ففي توقف المبادرة به على إذنه قولان، تقدّم وجههما في المسألة السابقة.
وإطلاق المصنّف الواجب يقتضي عدم توقفه على إذنه كالسابق. وهو قويّ.
واعتبر الشيخ والعلّامة في القواعد توقّف المبادرة على إذنه ، واتفقوا على جواز مبادرتها إلى الصلاة الواجبة مع سعة وقتها بغير إذنه.
والفرق بينها وبين ما ذكر من الواجب الموسع أنّ الوقت لها بالأصالة، بخلاف ما ثبت بالنذر.
وبأنّ الأمر بها في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَوَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ) عام فصارت كالصوم المعين.
وأنّ الصلاة قيل بوجوبها في أول الوقت، ولا يجوز التأخير إلّا لعذر أو بدل وهو العزم .
ص: 147
...
____________________________________________
وعلى القول الآخر فأوّل الوقت أفضل(1) ؛ لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) :« أوّل الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله»(2) وهو عامّ، بخلاف الصوم غير الموقت وأنّ زمان الصلاة يسير لا يستوعب اليوم ،بخلاف الصوم.
وفي كل واحد من هذه الفروق نظر لا يخفى. وعلى ما اخترناه يسقط البحث عن طلب الفرق.
وأمّا الصوم المندوب ونحوه فلا يسقط بمجرده النفقة؛ لأنّه غير مانع من التمكين. نعم، لو طلب الاستمتاع فمنعته سقطت لذلك لا لأجل العبادة.
وقال الشيخ في المبسوط : تسقط النفقة وتكون ناشزاً حيث يطالبها بالفطر فتمتنع(3).
ويضعف بأنّ مخالفتها في ترك الأكل والشرب لا تعد نشوزاً؛ إذ لا يجب عليها طاعته فيهما. والوطء ممكن بدونهما.
ولو علّل بأنّ الصوم عبارة عن توطين النفس على الامتناع عن المفطرات ومن جملتها الوطء، ونيّته هي العزم على منع الزوج عن الوطء وهو عين النشوز، لم يطابق مدّعى الشيخ؛ لأنّه علّق نشوزها على المطالبة بالفطر فتمتنع وهذا التعليل يقتضي تحقّق النشوز بمجرّد نيّة الصوم، أو بدخول أوّل النهار وإن لم يطالب.
ومع ذلك فدعوى أن نيّة النشوز تكون نشوزاً فاسدة؛ لأنّ النشوز هو الخروج عن طاعة الزوج - كما تقدّم (4)- بمنعه من الاستمتاع أو الخروج بغير إذنه أو نحو ذلك لا نيته حتى لو نوت أن تخرج عن طاعته ولم تفعل لم يكن نشوزاً.
ص: 148
• و تثبت النفقة للمطلّقة الرجعية كما تثبت للزوجة، وتسقط نفقة البائن وسكناها، سواء كانت عن طلاق أو فسخ نعم، لو كانت مطلقةً حاملاً لزم الإنفاق عليها حتى تضع، وكذا السكنى وهل النفقة للحمل أو لأمه؟ قال الشيخ (رحمه الله) هى للحمل.
وتظهر الفائدة في مسائل، منها: في الحرّ إذا تزوّج أمةً وشرط مولاها رق الولد، وفي العبد إذا تزوّج أمةً أو حرّةً وشرط مولاه الانفراد برق الولد.
__________________________________________
فهذا التعليل ضعيف، كما ضعف تعليل عدم منع الصوم باستلزامه الدور على تقديره من حيث إن كونه مانعاً يستلزم صحّته المستلزمة لكونه عذراً ، فلا تسقط به النفقة، فلا يكون مانعاً، فيلزم من إسقاطه لها عدم إسقاطه. فإنّ مدعي إسقاطه للنفقة لا يتوقّف على ثبوت كونه مانعاً ؛ لأن النشوز يتحقق بحصول الامتناع من جهة المرأة وإن قدر الزوج على قهرها عليه.
وهكذا يقول الشيخ هنا:
إنّ الصوم ندباً نشوز من جانب المرأة من حيث امتناعها منه، وإعراضها عنه بما ليس بواجب وإن قدر الزوج معه على الاستمتاع، وحكم بفساده(1).
قوله: «و تثبت النفقة للمطلقة الرجعية كما تثبت للزوجة» إلى آخره.
المعتدة إمّا رجعيّة أو بائنة. فالرجعية حكمها في النفقة حكم الزوجة؛ لبقاء حبس الزوج وسلطنته. واستثنى بعضهم من مؤونتها آلة التنظيف؛ لأنّ الزوج ممتنع عنها(2)، وهو حسن. واستثنى آخرون منها الموطوءة بالشبهة في أثناء العدّة فحملت وتأخرت عدّة الزوج، فإنّها لا نفقة لها على الزوج زمن الحمل(3). وليس بجيّد؛ لأنّها في زمن الحمل ليست في عدّة رجعية بل بائنة؛ لأن العدة لوطء الشبهة لا للزوج.
ص: 149
...
___________________________________________
ولا فرق بين أن تكون أمةً وحرّةً، حائلاً وحاملاً، ولا تسقط نفقتها إلا بما تسقط به نفقة الزوجات ؛ لأنّ حكم الزوجيّة باقٍ عليها في ذلك، ويستمر إلى انقضاء العدة بوضع الحمل أو غيره.
ولو ظهر بها أمارات الحمل بعد الطلاق فعلى الزوج الإنفاق عليها إلى أن تضع أو تبين الحال فإن أنفق ثمّ بان أنّه لم يكن حمل فله استرداد المدفوع إليها بعد انقضاء العدة، وتسأل عن قدر الأقراء إن اتّفق فإن عيّنت قدراً صدقت باليمين إن كذبها الزوج، وبلا يمين إن صدّقها، وإن قالت: لا أعلم متى انقضت عدّتي، سئلت عن عادة حيضها وطهرها، فإن ذكرت عادةً مضبوطةً بنينا الأمر على قولها. وإن ذكرت أنّها مختلفة أخذنا بأقلّ عادتها ورجع الزوج فيما زاد، فإنّه المتيقّن وهي لا تدّعي زيادة عليه. وإن قالت: نسيت عادتي، ففي البناء على أقل ما يمكن انقضاء العدّة به؛ لأصالة البراءة من الزائد، أو على ثلاثة أشهر بناءً على الغالب، وجهان، منشؤهما تعارض الأصلين؛ إذ الأصل بقاء العدة أيضاً إلى أن يثبت الانقضاء.
ويعتضد الثاني بالظاهر، والمتيقّن هو الأول.
وإن بانت حاملاً وأتت به لمدة يمكن أن يكون منه، فالولد له والنفقة عليه إلى حين الوضع وإن أتت به لأكثر من أقصى الحمل من حين الطلاق ولأقلّ منه من حين انقضاء العدّة لحق به في هذه المدة؛ لأنّ الطلاق رجعى وهى في مدّة العدة بمنزلة الزوجة. وإن أتت به لأكثر من ذلك انتفى عنه بغير لعان ولا تنقضى عدتها به عنه، فتكون عدتها بالأقراء، فإن نسبته إلى غير الزوج وادّعت أنه وطئها بعد الأقراء استعيد الفاضل. وإن قالت : بعد قرءين، فلها نفقتهما، ولا شيء لها عن مدّة الحمل وعليها تتمّة الاعتداد بالقرء الثالث بعد الوضع. ولها نفقته. وإن قالت عقيب الطلاق، فعدتها بعد الوضع ثلاثة أقراء، ولا نفقة لها عن مدّة الحمل. وإن نسبته إليه وأنكر فالقول قوله، وتسقط عنه نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء.
وأما البائن فلا نفقة لها ولا سكنى عندنا، إلّا أن تكون حاملاً على قول الشيخ(1) ، أو مطلقة
ص: 150
...
____________________________________________________
حاملاً على الأشهر؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(1)الشامل بعمومه للبائنات بالطلاق والرجعيات وخرجت السكنى مع عدم الحمل - وإن دلّ عليها صدر الآية - بالسنة . وروي أن النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) قال لفاطمة بنت قيس وكانت مبتوتة: «لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً»(2) .
وهل النفقة للحمل أو للحامل لأجله ؟ قال الشيخ في المبسوط بالأوّل(3)، وتبعه عليه جماعة(4) منهم العلّامة في المختلف(5) ؛ لدوران النفقة معه وجوداً وعدماً، فإنّها لو كانت حائلاً لا نفقة لها، وإذا كانت حاملاً وجبت النفقة، فلما وجبت بوجوده وسقطت بعدمه دل على أنّها له كدورانها مع الزوجية وجوداً وعدماً.
ولوجوبها له منفصلاً فكذا متّصلاً، ولنصّ الأصحاب على أنّه ينفق عليها من مال الحمل.
وذهب آخرون منهم ابن زهرة إلى الثاني : لأنّه لو كانت النفقة للحمل لوجبت نفقته دون نفقتها، ولما كانت نفقتها مقدّرةً بحال الزوج؛ لأنّ نفقة الأقارب غير مقدرة بخلاف نفقة الزوجة. ولأنّها لو كانت للحمل لوجبت على الجدّ، كما لو كان منفصلاً، وهي لا تجب عليه هنا.
ولأنّها لو كانت للولد لسقطت بيسار الولد، كما إذا ورث أو أوصي له بشيء فقبله أبوه.
والشيخ التزم بعض هذه الالتزامات فحكم بسقوطها بيسار الولد وثبوتها على الجدّ(6) .
ص: 151
...
____________________________________
إذا تقرر ذلك فتظهر فائدة الخلاف في مواضع:
منها: إذا تزوّج حرّ بأمة وشرط مولاها رقّ الولد وجوّزناه فأبانها وهي حامل، فعلى القول بأنّها للحمل لا تجب على والده، بل على سيّده وهو سيّد الأمة، وعلى القول الآخر فهي على الزوج.
ومنها: إذا تزوج عبد بأمة فأبانها حاملاً، فمن قال النفقة للحمل كانت على سيّد الولد منفرداً أو مشتركاً دون والده؛ لأنّ العبد لا تجب عليه نفقة أقاربه ومن قال: إنّها لها قال: النفقة عليه فى كسبه أو على سيّده.
ومنها : إذا تزوّج عبد بحرة، فإن شرط مولاه رقيّة الولد وجعلنا النفقة للحمل فهي على المولى، وإن جعلناها للحامل فهي عليه أو في كسب العبد على الخلاف، وإن لم يشترط رقيتّه فلا نفقة على المولى؛ لأنّه ولد حرّ وأبوه مملوك، وعلى الثاني فهي على المولى أو في كسبه، وعلى هذه اقتصر المصنّف تبعاً للشيخ (1).
ومنها: لو لم ينفق عليها حتى مضت مدة أو مجموع العدة، فمن قال بوجوبها للحمل لا يجب قضاؤها؛ لأنّ نفقة الأقارب لا تقضى ، ومن قال إنّها لها وجب القضاء؛ لأنّ نفقة الزوجة تقضى.
وأورد على هذا بأنّ القضاء إنّما هو للزوجة لكونها معاوضةً، والزوجيّة هنا منفيّة قطعاً.
وأجيب بأنّ الوجوب لها على حد الوجوب للزوجة ، وفيه منع(2).
ويمكن الجواب بأنّ النفقة حق مالي والأصل فيه وجوب القضاء، خرج القريب من ذلك بدليل خارج؛ لأنّها معونة لسدّ الخلة، فيبقى الباقي على الأصل.
ومنها: لو كانت ناشزاً حال الطلاق أو نشزت بعده، فعلى القول بأنّ النفقة لها تسقط؛ لما أسلفناه من أنّ المطلقة حيث تجب نفقتها كالزوجة تسقط نفقتها حيث تسقط وتجب
ص: 152
•وفي الحامل المتوفّى عنها زوجها روايتان أشهرهما أنّه لا نفقة لها، والأُخرى ينفق عليها من نصيب ولدها.
_____________________________________
حيث تجب(1). وعلى القول بأنّها للحمل لا تسقط.
ومنها: لو ارتدّت بعد الطلاق، فتسقط نفقتها على الثاني دون الأوّل.
ومنها: ضمان النفقة الماضية، فيصحّ على الثاني دون الأول.
ومنها: ما إذا مات الزوج وهي حامل، فعلى الأوّل تسقط ؛ لأنّ نفقة القريب تسقط بالموت، وعلى الثانى قولان يأتيان .
ومنها: لو أبرأته عن النفقة الحاضرة - كما بعد طلوع الفجر من نفقة اليوم - سقطت على الثاني
دون الأوّل؛ لما سيأتي من ثبوتها للزوجة بذلك دون القريب(2).
ومنها: لو سلّم إليها نفقة ليومه فخرج الولد ميتاً في أوّله لم تسترد إن قلنا: لها وإلّا استردت، ويحتمل استردادها على التقديرين.
ومنها: وجوب الفطرة إن قلنا: إنّها للحامل دون الحمل. ويحتمل الوجوب مطلقاً؛ لأنّها منفق عليها حقيقةً على القولين فكيف لا تجب فطرتها ؟!
ومنها: لو أتلفها متلف بعد قبضها وجب بدلها إن قلنا للحمل ولم تفرّط ، ولو قلنا: لها لم يجب. إلى غير ذلك من الفوائد المترتبة على القولين.
قوله: «وفي الحامل المتوفى عنها زوجها روايتان» إلى آخره.
المراد بالرواية هنا الجنس؛ لأنّه ورد بعدم الإنفاق عليها أربع روايات معتبرات الأسناد: فمنها حسنة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال في الحبلى المتوفى عنها زوجها: «إنّه
لا نفقة لها»(3).
ص: 153
•وتثبت النفقة للزوجة مسلمةً كانت أو ذمّيّةً أو أمةٌ.
_________________________________________
ورواية أبي الصباح الكناني - وهي قريبة إلى الصحة (1)- عن أبي عبد الله(علیه السلام) في المرأة الحامل المتوفّى عنها زوجها هل لها نفقة؟ قال: «لا»(2) .
ورواية زرارة عن أبي عبد الله(علیه السلام) مثلها(3).
والرواية بالإنفاق عليها رواها أبو الصباح الكناني أيضاً عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المرأة المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من مال ولدها الذي في بطنها»(4) . وعمل بها الشيخ(5) والأكثر(6). والأوّل مختار ابن إدريس(7) والمصنّف والعلّامة(8) وسائر المتأخرين(9)، وهو الأقوى.
قوله: «و تثبت النفقة للزوجة مسلمة كانت أو ذمّيّةً أو أمة».
لا إشكال في وجوب النفقة للزوجة مسلمة كانت أم كافرةً، حرّة أم أمةً ؛ لاشتراك الجميع في المقتضي ، لكن لما كان التمكين التامّ شرطاً في وجوبها اشترط في الأمة أن يسلّمها مولاها ليلاً ونهاراً ، وإلا لم تجب ،نفقتها، كما لو سلّمت الحرّة نفسها ليلاً لا نهاراً. ولا يجب على المولى تسليمها كذلك، بل إن أراد التخلّص من النفقة فليسلّمها تسليماً تاماً، وإلا
ص: 154
•وأما قدر النفقة فضابطه : القيام بما تحتاج المرأة إليه من طعام وإدام وكسوة وإسكان وإخدام وآلة الادّهان؛ تبعاً لعادة أمثالها من أهل البلد.
____________________________________________-
فالواجب عليه تسليمها ليلاً خاصّةً؛ لأنّه يملك منها الانتفاع والاستمتاع، فإذا سقط حقّه من أحدهما بقى الآخر، وصرف كلّ منهما إلى وقته المعتاد فوقت الانتفاع النهار، ووقت الاستمتاع الليل، كما أنّه لو انعكس فأجرها للخدمة وجب عليه تسليمها لها نهاراً، وجاز حبسها عنده ليلاً؛ لبقاء حق الاستمتاع له.
ثمّ الحكم في النفقة التي لم تتوقف على التمليك - كالإسكان والكسوة على القول بأنّها إمتاع - واضح؛ لأنّ الأمة أهل للانتفاع المجرّد عن الملك. وإن توقّفت على الملك كالمؤونة التي تملكها المرأة في صبيحة كل يوم - فيشكل الحكم بها للأمة إلا أن نقول: يملكها المولى وتتلقى الانتفاع بها عنه، ويتوقّف تصرّفها فيها على إذنه؛ إذ له إبدالها وإطعامها من غيرها. ويمكن أن يجعل تزويجها بنفسه مفيداً للإذن لها في تناول المؤونة وإن لم تكن مالكة؛ عملاً بشاهد الحال والعرف، وهذا حسن وعلى القولين فللأمة أن تطالب بها الزوج، كما لها أن تطالب السيّد، وإذا أخذت فللسيد الإبدال لحقّ الملك.
والحاصل أنّ له في النفقة حق الملك ولها حقّ التوثق به، ويتفرع عليه أنه ليس للمولى الإبراء من نفقتها ولا بيع المأخوذ، إلا أن يسلّمها بدله.
ولو اختلفت الأمة وزوجها في تسليم نفقة اليوم فالقول قولها مع يمينها، ولا أثر لتصديق السيّد الزوج مراعاة لحقّها فيها. ولو اختلفا في النفقة الماضية اتجه ثبوت المدّعى بتصديق السيد وكون الخصومة فيها إليه ؛ لأنّها صارت كالصداق، وحقّها إنّما يتعلّق بالحاضر.
قوله: «وأمّا قدر النفقة فضابطه القيام بما تحتاج المرأة إليه» إلى آخره.
لمّا كانت الأوامر بالنفقة مطلقة(1) رجع فيها إلى العرف؛ لأنّه المحكّم في أمثال ذلك حيث
ص: 155
•وفي تقدير الإطعام خلاف، فمنهم من قدره بمد للرفيعة والوضيعة من الموسر والمعسر، ومنهم من لم يقدّر واقتصر على سد الخلّة. وهو أشبه.
_______________________________________
لا يقدّره الشارع، وفي النصوص إيماء إلى المتعارف أيضاً، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، وقال النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) للمرأة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فيرجع فيما تحتاج إليه - من الطعام وجنسه من البر والشعير والتمر والزبيب والذرّة وغيرها، والإدام الذي تأتدم به من السمن والزيت والشيرج واللحم واللبن وغيره، والكسوة من القميص والسراويل والمقنعة والجبّة ،وغيرها وجنسها من الحرير والقطن والكتان والإسكان في دار وبيت لاثقين بحالها، والإخدام إذا كانت من ذوي الحشمة والمناصب المقتضية له، وآلة الادهان التي تدّهن بها شعرها وترجله من زيت أو شيرج. مطلق أو مطيّب بالورد أو البنفسج أو غيرهما ممّا يعتاد لأمثالها، والمشط وما يغسل به الرأس من السدر والطين والصابون على حسب عادة البلد ونحو ذلك ممّا تحتاج إليه - إلى عادة أمثالها من أهل بلدها. وإن اختلفت العادة رجع إلى الأغلب، ومع التساوي فما يليق منه بحاله.
قوله: «وفي تقدير الإطعام خلاف، فمنهم من قدره بمد للرفيعة» إلى آخره.
المقدّر له بمد مطلقاً الشيخ في الخلاف. وفصل في المبسوط فجعل على الموسر مدین كلّ يوم، وعلى المتوسط مداً ونصفاً، وعلى المعسر مداً .
والأصل في هذا التقدير أنّ المد قدّره الشارع في الكفارات قوتاً للمسكين، فاعتبرت النفقة به؛ لأنّ كلّ واحد منهما مال يجب بالشرع لأجل القوت، ويستقرّ في الذمّة. وربما أوجب الشارع في بعض الكفارات لكلّ مسكين مدين، فجمع في القول الثاني بين الأمرين بجعل المدين على الموسر، والمدّ على المعسر، وجعل المتوسط بينهما فألزم بمدّ ونصف.
ص: 156
•ويرجع في الإخدام إلى عادتها، فإن كانت من ذوي الإخدام ،وجب وإلّا خدمت نفسها. وإذا وجبت الخدمة فالزوج بالخيار بين الإنفاق على خادمها إن كان لها خادم، وبين ابتياع خادم أو استئجارها، أو الخدمة لها بنفسه. وليس لها التخيير. ولا يلزمه أكثر من خادم واحد ولو كانت من ذوي الحشم؛ لأن الاكتفاء يحصل بها. ومن لا عادة لها بالإخدام يخدمها مع المرض؛ نظراً إلى العرف.
______________________________________
والأقوى ما اختاره المصنّف من عدم التقدير والرجوع إلى قدر الكفاية وسد الخلّة وهي الحاجة، وهو اختيار ابن إدريس(1) وسائر المتأخرين(2)؛ لأنّ التقدير رجوع إلى تخمين، وضرب من القياس لا يطابق أصول مذهبنا.
قوله: «ويرجع في الإخدام إلى عادتها» إلى آخره.
النساء صنفان:
أحدهما: اللواتي لا يخد من أنفسهن في عادة البلد بل يكون لهنّ من يخدمهن وإن قدرن على الخدمة فإن كانت الزوجة منهنّ وجب على الزوج إخدامها؛ لأنّه من المعاشرة بالمعروف المأمور بها(3) . ولا فرق فى وجوب الإخدام لهذه بين أن يكون الزوج موسراً ومعسراً، حرّاً وعبداً، والاعتبار بحال المرأة في بيت أبيها دون أن ترتفع بالانتقال إلى بيت زوجها، ويليق بحالها بسبب الانتقال أن يكون لها خادم.
ولا يجب أكثر من خادم واحد لحصول الكفاية به ويحتمل اعتبار عادتها في بيت أبيها. فإن كانت ممّن تخدم بخادمين وأكثر وجب إخدامها بذلك العدد؛ لأنّه من المعاشرة بالمعروف.
ولا يلزمه تمليك الخادم إيّاها، بل الواجب إخدامها بحرة أو أمة مستأجرة، أو بنصب
ص: 157
...
_____________________________________
مملوكة له تخدمها، أو بالإنفاق على التي حملتها معها من حرّة أو أمة. ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو صبيّاً أو محرماً لها. وفي مملوكها الخصيّ أو مطلقاً وجهان مبنيان على جواز نظره إليها. وقد تقدم(1).
والصنف الثاني : اللواتي يخدمن أنفسهنّ في العادة، فلا يجب إخدامها، إلّا أن تحتاج إلى الخدمة لمرض أو زمانة فعلى الزوج إقامة من يخدمها ويمرّضها، ولا ينحصر هنا في واحد بل بحسب الحاجة. ولا فرق هاهنا بين أن تكون الزوجة حرّة أو أمة وإن لم يكن لها عذر محوج إلى الخدمة فليس عليه الإخدام. ولو أرادت أن تتخذ خادماً بمالها فله منعه من دخول داره.
ثم هنا مسائل:
الأولى: إذا أخدمها بحرّة أو أمة مستأجرة فليس عليه سوى الأجرة. وإن أخدمها بجاريته فنفقتها تجب بحق الملك. وإن كان يخدمها بكفاية مؤونة خادمتها فهذا موضع نفق الخادمة. والقول في جنس طعامها وقدره كهو في جنس طعام المخدومة. والأصحّ اعتبار قدر كفايتها كما مرّ(2) .
وكذا يجب لها الإدام المعتاد لأمثالها لا لجنس طعام المخدومة.
الثانية: لو قال الزوج: «أنا أخدمها» وأراد إسقاط مؤونة الخدمة فله ذلك؛ لأنّ الخدمة حق عليه فله أن يوفيه بنفسه وبغيره، وعلى هذا فالواجب إخدامها بإحدى الطرق التي سبقت، أو أن يخدمها بنفسه. هذا فيما لا تستحيي منه كغسل الثوب، واستقاء الماء، وكنس البيت، وطبخ الطعام.
أمّا ما تستحيي منه كالذي يرجع إلى خدمة نفسها من صب الماء على يدها، وحمله إلى الخلاء، وغسل خرق الحيض، ونحو ذلك - فلها الامتناع من خدمته؛ لأنّها تحتشمه
ص: 158
•ويرجع في جنس المأدوم والملبوس إلى عادة أمثالها من أهل البلد، وكذا فى المسكن. ولها المطالبة بالتفرد بالمسكن عن مشارك غير الزوج.
__________________________________________
وتستحيي منه فيضرّ بحالها ، وليس ذلك من المعاشرة بالمعروف وأطلق المصنّف وجماعة(1) تخييره في الخدمة بنفسه مطلقاً؛ لأنّ الحقّ عليه فالتخيير في جهاته إليه .
الثالثة: لو تنازعا في الخادمة التي يستأجرها الزوج لخدمتها أو الجارية التي تخدمها من جواريه، ففي تقديم مرادها أو مراده وجهان من أنّ الخدمة لها وقد يكون الذي عينته أوفق لها وأسرع إلى الامتثال، ومن أن الواجب عليه أن يكفيها الخدمة دون أن يكتفي بتلك المعينة، كما لا يجوز تكليفه النفقة من طعام معيّن؛ ولأنّه قد يدخله ريبة وتهمة فيمن تختارها، وهذا أصحّ. هذا في الابتداء، فأمّا إذا توافقا على خادمة وألفتها، أو كانت قد حملت خادمة مع نفسها فأراد إبدالها، ففي جوازه وجهان من تخييره في الإخدام، وعسر قطع المألوف على النفس. والأوّل أقوى.
ولو أرادت استخدام ثانية وثالثة من مالها فللزوج أن لا يرضى بدخولهنّ داره، وكذا لو حملت معها أكثر من واحدة فله أن يقتصر على واحدة ويخرج الباقيات من داره، كما له أن يكلفها بإخراج مالها من داره ومنع أبويها من الدخول عليها، وإخراج ولدها من غيره إذا استصحبته معها.
الرابعة: لو كانت الزوجة أمةٌ لكنّها ذات جمال تخدم في العادة، ففي وجوب إخدامها وجهان، من النظر إلى العادة، والالتفات إلى نقصانها بالرقّ، وحقّها أن تخدم دون أن تستخدم والأوّل أقوى.
قوله: «ويرجع في جنس المأدوم والملبوس إلى عادة أمثالها من أهل البلد» إلى آخره.
المرجع في جميع ذلك إلى عادة أمثالها من بلدها، ولا نظر إلى عادة الزوجة؛ لدلالة
ص: 159
•ولا بد في الكسوة من زيادة في الشتاء للتدثر، كالمحشوة لليقظة، واللحاف للنوم. ويرجع في جنسه إلى عادة أمثال المرأة. وتزاد إذا كانت من ذوي التجمّل - زيادة على ثياب البذلة - ما يتجمّل أمثالها به.
________________________________________
المعاشرة بالمعروف والإنفاق بالمعروف عليه. ويختلف المأدوم باختلاف الفصول. وقد تغلب الفواكه في أوقاتها فتجب. واعتبر الشيخ في اللحم كل أسبوع مرة محتجاً بأنّه المعروف، ويكون يوم الجمعة . وأوجب ابن الجنيد اللحم على المتوسط في كلّ ثلاثة أيام.
ولا يشترط في المسكن أن يكون ملكاً له، بل يجوز إسكانها في المستعار والمستأجر اتفاقاً؛ لأنه إمتاع لا تمليك. ولا يخفى أنّ لها المطالبة بالتفرد بالمسكن.
والمراد به ما يليق بحالها من دار وحجرة وبيت .فرد فالتي يليق بها الدار والحجرة لا يسكن معها غيرها في دار واحدة بدون رضاها لكن لو كان في الدار حجرة مفردة المرافق فله أن يسكن فيها، وكذا لو أسكن واحدة في العلو وواحدة في السفل والمرافق متميزة. والتي يليق بها البيوت المفردة له أن يسكنها في بيت من دار واحدة. ولا يجمع بين الضرتين، ولا بين المرأة وغيرها في بيت واحدة مطلقاً إلا بالرضى.
قوله: «ولا بد في الكسوة من زيادة فى الشتاء للتدثر» إلى آخره.
لما كان المرجع في الكسوة إلى المتعارف وما يليق بحالها اختلف ذلك باختلاف البلاد في الحر والبرد و باختلاف الفصول فيعتبر في الشتاء زيادة المحشو والفرو إن اعتيد لمثلها ونحو ذلك. ويرجع في جنسه من القطن والكتان والحرير وغيرها إلى عادة أمثالها. وكذا يجب للصيف الثياب اللائقة بحالها من الكتان والحرير ونحوه ممّا يعتاد. ويعتبر مع ذلک ثياب التجمل زيادة على ثياب البذلة - وهي التي تلبس في أكثر الأوقات - إذا كانت من أهل التجمّل. ولو لم تستغن بالثياب في البلاد الباردة عن الوقود وجب من الحطب والفحم
ص: 160
وأما اللواحق فمسائل:
الأولى: • لو قالت: «أنا أخدم نفسي ولي نفقة الخادم» لم تجب إجابتها. ولو بادرت بالخدمة من غير إذن لم يكن لها المطالبة.
الثانية: • الزوجة تملك نفقة يومها مع التمكين. فلو منعها وانقضى اليوم استقرت نفقة ذلك اليوم، وكذا نفقة الأيّام، وإن لم يقدّرها الحاكم ولم يحكم بها. ولو دفع لها نفقةً لمدّة وانقضت تلك المدّة ممكنةً فقد ملكت النفقة. ولو استفضلت منها أو أنفقت على نفسها من غيرها كانت ملكاً لها.
________________________________________
بقدر الحاجة. ويجب أيضاً مراعاة ما يفرش على الأرض من الحصر والبساط والملحفة والنطع واللبد والمخدة واللحاف بما يليق بحالها عادة بحسب الفصول.
وقد عدّد الفقهاء في هذا الباب أشياء كثيرة بحسب ما اتفق اعتياده عندهم.
ولمّا كان المعتبر منه المعتاد لأمثالها في بلدها في كل وقت يعتبر فيه استغني عن تعداد أفراد ما يجب؛ لدخوله فيما ذكر من الضابط.
قوله: «لو قالت: أنا أخدم نفسي ولي نفقة الخادم، لم تجب إجابتها» إلى آخره.
إنّما لم يكن لها ذلك؛ لأنّ تعيين الخادم إليه لا إليها؛ لأنّ الحقّ عليه فيرجع في تعيينه إليه.
ولأنّ ذلك يسقط مرتبتها، وله أن لا يرضى به؛ لأنها تصير مبتذلة، وله في رفعتها حقّ وغرض صحيح، فله أن لا يرضى به وإن رضيت بإسقاط حقّها.
وحينئذٍ فإن بادرت بالخدمة من غير إذنه كانت متبرّعةً، فلا أُجرة لها ولا نفقة زائدة بسبب الخدمة.
قوله: «الزوجة تملك نفقة يومها مع التمكين» إلى آخره.
لما كان المقصود من النفقة القيام بحاجتها وسدّ خلّتها - لكونها محبوسة لأجله - فالواجب منها أن يدفع إليها يوماً فيوماً؛ إذ لا وثوق باجتماع الشرائط في باقي الزمان، والحاجة تندفع بهذا المقدار، فيجب دفعها في صبيحة كلّ يوم إذا طلع الفجر. ولا يلزمها
ص: 161
...
_________________________________________
الصبر إلى الليل ليستقرّ الوجوب؛ لتحقّق الحاجة قبله، ولأنّها تحتاج إلى الطحن والخبز والطبخ؛ إذ الواجب عليه دفع الحبّ ونحوه ومؤونة إصلاحه، لا عين المأكول مهيّاً؛ عملاً بالعادة، فلو لم يسلّم إليها في أول النهار لم تنله عند الحاجة.
ولو منعها من النفقة وانقضى اليوم ممكنة استقرّت نفقة ذلك اليوم في ذمته؛ لأنّ نفقة الزوجة اعتياض في مقابلة الاستمتاع، فتصير بمنزلة الدين وكذا نفقة الأيّام المتعدّدة إذا مضت ولم ينفق عليها. ولا فرق عندنا بين تقدير الحاكم لها وعدمه؛ لأنّها حقّ مالي في معنى المعاوضة، فيثبت منها ما يقتضيه التقدير شرعاً وإن لم يكن مقدراً ابتداء. كما يثبت في ذمّته عوض المتلفات المجهولة القيمة وتستخرج القيمة حيث يحتاج إلى معرفتها.
ثمّ استحقاق الزوجة المؤونة على وجه التمليك لا الإمتاع؛ لأنّ الانتفاع به لا يتمّ إلّا مع ذهاب عينه. وكذا حكم كلّ ما يستهلك من آلة التنظيف والدهن والطين والصابون ونحو ذلك، فإذا دفعه إليها ملكت نفقة اليوم وتخيّرت بين التصرف فيه وفي بعضه، واستفضال بعضه وجميعه، والإنفاق على نفسها من مالها، كما تتخيّر في جهات أموالها. وهذا في نفقة نفسها واضح.
أمّا نفقة خادمها فإن كان حرّاً فكذلك؛ لأنّ الحرّ يقبل الملك. ويتصوّر استحقاق الحرّ النفقة بالشرط، أو يجعلها أُجرة الخدمة، بأن وعدت أن تخدم بالنفقة، فتطالب كل يوم بها كالمرأة وإن لم يكن عقداً لازماً.
أمّا إذا أخذتها لخادمتها المملوكة لها، فينبغي أن يكون الملك لمولاتها، كما تملك نفقة نفسها. ثمّ يحتمل أن يكون ملكاً تاماً فتتخيّر بين إنفاقها عليها وإبدالها، وأن يكون ملكها له مقيّداً بأن تدفعها إلى الخادمة.
وحيث كان أخذها على وجه الملك، فلو سرقت منها أو تلفت بسبب آخر لم يلزم الزوج مرّةً أُخرى وإن لم يكن بتفريط، بخلاف ما تأخذه على وجه الإمتاع.
ص: 162
• ولو دفع إليها كسوة لمدّة جرت العادة ببقائها إليها صحّ. ولو أخلقتها قبل المدّة لم يجب عليه بدلها. ولو انقضت المدّة والكسوة باقية طالبته بكسوة لما يستقبل.
___________________________________________
قوله: «ولو دفع إليها كسوة لمدّة جرت العادة ببقائها إليها صحّ» إلى آخره.
لا بدّ قبل بيان وجه الحكم في المسألتين من تمهيد مقدّمة تترتب عليها، وهي أنّ ممّا يجب للزوجة من النفقة وتوابعها ما تأخذه على وجه الملك وهو المؤونة على ما تقدّم(1) ؛ لأنّها ممّا يستهلكها الانتفاع، بل استهلاكها هو الانتفاع بها. ومنه ما تأخذه على وجه الإمتاع، وتستحقّه على جهة الانتفاع خاصةً، وهو المسكن والخادم؛ لأنّ عينه لا يستهلكها الانتفاع ولا يدفع إليها. ومنها ما هو متردّد بين الأمرين، وهو الكسوة، فإنّها مما يبقى عينها مع الانتفاع كالمسكن وتفنى به على طول المدة كما تفنى النفقة به في الجملة بخلاف المسكن.
وقد اختلف العلماء لذلك في كونها تمليكاً أو إمتاعاً، فذهب المصنّف والعلّامة في غير التحرير والإرشاد، والشيخ في المبسوط إلى الأوّل(2)؛ لما ذكر ، ولقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)(3) عطفها على الرزق فيكون الواجب فيهما واحداً؛ لاقتضاء العطف التسوية في الحكم، وهو في الرزق التمليك فيكون كذلك في الكسوة، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ، واللام للملك.
وفيه نظر؛ لمنع اقتضاء العطف التسوية في جميع الأحكام وجميع الوجوه.
سلّمنا، لكنّ المعتبر الاشتراك في الحكم المذكور دون صفته وكيفيته، فإنّ قولنا «أكرم
ص: 163
...
_____________________________________
زيداً وعمراً» يقتضي اشتراكهما في أصل الإكرام لا التسوية فيه من كل وجه، والظاهر من الحكم هنا كون الرزق مستحقاً عليه فتكون الكسوة كذلك، وأمّا كيفيّة الاستحقاق، فأمر آخر خارج عن أصل الحكم، ومن الجائز أن يريد بقوله «وكسوتهن» جعلهن مكسيات وهو يتمّ بالإمتاع.
وأمّا الخبر فمع قطع النظر عن إسناده يجوز كون «اللام» للاستحقاق - لا للملك - أو الاختصاص، بل هو الأصل فيها، كما حققه جماعة(1) ، وهما يتحقّقان بالإمتاع.
ويؤيّد الثاني أنّ الغاية من الكسوة الستر، وهو يحصل بالإمتاع كالسكني، وأصالة براءة الذمّة من التمليك. وهو خيرة العلّامة في الإرشاد(2)، وتردّد في التحرير(3).
والكلام في آلة الفرش وظروف الطعام والشراب وآلة التنظيف - كالمشط كالكسوة، بل الإمتاع فيها أظهر، خصوصاً الآلات؛ لأنه لو جاء بالطعام معمولاً لاستغنى عن الآلة.
إذا تقرّر ذلك فتظهر فائدة الخلاف في مسائل:
منها : لو دفع إليها كسوة لمدّة جرت العادة ببقائها إليها، فتلفت في يدها قبل مضيّ المدة من غير تقصير، فعلى الأوّل لا يجب عليه إبدالها، وهو الذي قطع به المصنّف؛ لأنه قد وفى ما عليه، فأشبه ما إذا ملكها النفقة فتلفت في يدها، وعلى الثاني عليه الإبدال. ولو أتلفتها بنفسها فلا إبدال على القولين؛ لأنّه على الإمتاع يلزمها ضمانها، فكأنّها لم تتلف مع احتماله؛ لأن الواجب عليها القيمة وعليه المثل.
ولو تخرّقت قبل مجيء وقته - لكثرة تحاملها عليها زيادة على المعتاد، أو قصرت في حفظها ونشرها في الهواء حيث تفتقر إليه - فهو كما لو أتلفتها.
ومنها: لو انقضت المدة والكسوة باقية لرفقها بها، فعليه كسوة أخرى على الأوّل، وهو
ص: 164
...
____________________________________________
الذي حكم به المصنّف؛ لأنّ ملكها لها مترتّب على المدّة المعتادة لها، كما لو استفضلت من طعام يومها. وعلى الثاني لا يلزمه حتّى يبلى ما عندها، لكن لو كانت الأولى كسوة الصيف مثلاً ولا تصلح للشتاء فعليه أن يعطيها ما يقصد(1) اللشتاء، أو يزيدها عليها إن كانت تصلح له مع غيرها. وفي الإرشاد مع حكمه بأنّها إمتاع جوز لها المطالبة بأخرى بعد المدة وإن كانت باقية(2) . وعليه يمكن بناء حكم المصنّف على ذلك، فلا يعلم من الحكم أن مذهبه التمليك.
ومنها: لو ماتت في أثناء المدة التي تصلح لها الكسوة، أو مات الزوج، أو طلقها فعلى القول بالإمتاع تسترد مطلقاً، وعلى القول بالتمليك يحتمل قويّاً ذلك أيضاً؛ لأنّه أعطاها للمدة المستقبلة وهي غير واجبة عليه كما لو أعطاها نفقة أيام، وهو الذي جزم به المصنّف فيما يأتي(3)، وعدمه؛ لأنّ تلك المدّة بالنسبة إلى الكسوة كاليوم بالنسبة إلى النفقة، وسيأتي(4) ؛ أنّ النفقة لا تسترد لو وقع ذلك في أثناء النهار.
نعم، لو لم تلبسها أصلاً أو لبستها دون المعتاد في ذلك البعض من المدة اتجه على التمليك أن تملك منها بالنسبة.
ومنها: إذا لم يكسها مدةً صارت الكسوة ديناً عليه على الأوّل كالنفقة. وعلى الإمتاع لا تصير ديناً مع احتماله، كما لو سكنت في منزلها ولم تطالب بالمسكن.
ومنها أنّ له أن يأخذ المدفوع إليها ويعطيها غيره على وجه الإمتاع، ولا يجوز ذلك على وجه التمليك إلّا برضاها.
ومنها: أنّه لا يصحّ لها بيع المأخوذ ولا التصرّف فيه بغير اللبس على وجه الإمتاع ويصحّ على وجه التمليك ما لم يناف غرض الزوج من التزين والتجمّل وغيرهما، ومثله النفقة لو أدّى تصرّفها فيها بغير الأكل إلى الضعف وما لا يليق بالزوج من الأحوال.
ص: 165
•ولو سلّم إليها نفقةً لمدّة ثمّ طلّقها قبل انقضائها استعاد نفقة الزمان المتخلّف إلّا نصيب يوم الطلاق وأمّا الكسوة فله استعادتها ما لم تنقض المدة المضروبة لها.
______________________________________
ومنها: جواز إعطائها الكسوة بالإعارة والإجارة على الإمتاع دون التمليك. ولو تلف المستعار وحكم بضمانه فالضمان على الزوج.
قوله: «ولو سلّم إليها نفقةً لمدّة ثمّ طلّقها قبل انقضائها استعاد نفقة الزمان المتخلّف إلّا
نصيب يوم الطلاق» إلى آخره.
إذا سلّم إليها نفقةً لمدّة - كشهر مثلاً - ثمّ طلقها قبل انقضائه وجب استرداد ما يخصّ بقية المدة بعد يوم الطلاق؛ لما تقدّم من أنّها لا تملك النفقة إلّا يوماً فيوماً(1) ، ودفعه نفقة المدة كان على وجه التبرّع؛ نظراً إلى ما يلزمه ويستقرّ عليه في المستقبل، فإذا تبين خلافه استرد كالزكاة المعجلة. وفي حكم الطلاق ما لو مات أحدهما. وأولى بالاسترداد ما لو نشزت.
وإنّما لم يجب ردّ بقية نصيب يوم الطلاق وما في معناه؛ لما تقرّر من أنّها تملك نفقته في أوّل النهار، فلا يزول الملك.
واستثنى بعضهم ما لو كان سقوطها بالنشوز؛ نظراً إلى استناد المنع إليها، بخلاف الموت والطلاق(2). وفي الفرق نظر ؛ لاشتراك الجميع في فقد شرط الاستحقاق لبقية اليوم، والعذر وعدمه لا مدخل له في ذلك وإن كان له مدخل في الإثم وعدمه.
وعلى القول بالاسترداد فهل هو لجميع نفقة اليوم أو للمتخلّف منه بعد فقد الشرط؟ وجهان، من حصول شرط الاستحقاق في الماضي منه، ومن جواز كونه مشروطاً ببقائها على الطاعة إلى آخر النهار هذا كلّه في النفقة.
أما الكسوة فحكم باستردادها ما لم تنقض المدّة المضروبة لها عادةً. وبناؤه على القول بالإمتاع واضح. وأما على ما يظهر منه من كونها تمليكاً فوجهه أن إعطاءها للمدّة المستقبلة
ص: 166
الثالثة: • إذا دخل بها واستمرت تأكل معه وتشرب على العادة لم تكن لها مطالبته بمدة مؤاكلته.
•ولو تزوّجها ولم يدخل بها وانقضت مدة لم تطالبه بنفقة لم تجب النفقة، على القول بأنّ التمكين موجب للنفقة أو شرط فيها؛ إذ لا وثوق بحصول التمكين لو طلبه.
___________________________________________
وقع تبرّعاً كالنفقة، غاية ما في الباب أنّ النفقة يتصوّر فصلها وتفريقها على الأيام، فجمعها بمجرّد الاختيار والكسوة لا تقبل الانفصال لكلّ يوم، فدفعها إليها لمدّة يكون على وجه الاضطرار لا على وجه الاستحقاق، فإذا زال الاستحقاق استرجعت من حينئذٍ ولا تستثنى بقية اليوم كالنفقة. ويحتمل على القول بالتمليك عدم استردادها؛ لأنّ كسوة الصيف مثلاً بالنسبة إليه كاليوم بالنسبة إلى نفقته. وهو أظهر وجهي الشافعية(1).
قوله: «إذا دخل بها واستمرت تأكل معه وتشرب على العادة» إلى آخره.
إنّما لم يكن لها ذلك لحصول المقصود من النفقة، ولجريان الناس على ذلك في سائر الأعصار، واكتفاء الزوجات به، ولو طلبت المرأة النفقة للزمان الماضي والحال هذه لاستنكر. وللشافعيّة وجه بعدم سقوط نفقتها بذلك؛ لأنّه لم يؤد الواجب الموظف عليه شرعاً، وتطوّع بما ليس بواجب(2).
هذا إذا كانت المرأة بالغة رشيدة، أو كانت تأكل معه بإذن الولى. أمّا لو كانت مولّى عليها
ولم يأذن الولي فالزوج متطوّع، ولا تسقط نفقتها بذلك؛ لتوقفها على قبضه أو إذنه.
قوله: «ولو تزوّجها ولم يدخل بها وانقضت مدة لم تطالبه بنفقة لم تجب النفقة» إلى آخره.
إذا تزوّجها ولم يطالبها بالزفاف ولم تمتنع هي منه ولا عرضت نفسها عليه ومضت على ذلك مدّة، ففي وجوب نفقتها تلك المدّة قولان مبنيان على أنّ النفقة تجب بالعقد بشرط
ص: 167
تفريع على التمكين: . لو كان غائباً فحضرت عند الحاكم وبذلت التمكين لم تجب النفقة إلا بعد إعلامه ووصوله أو وكيله وتسليمها. ولو أعلم فلم يبادر ولم ينفذ وكيلاً سقط عنه قدر وصوله وألزم بما زاد.
______________________________________
عدم النشوز، أو به مع التمكين. فعلى الأوّل تجب؛ لوجود الموجب وعدم المسقط وهو النشوز، وعلى الثاني لا تجب؛ إذ لا تمكين؛ لأنّ المراد منه - على ما فسّره معتبره - أن تقول له باللفظ: سلّمت نفسي إليك في أي وقت شئت ومكان ونحو ذلك، ولا يكفي السكوت وإن وثق ببذلها التمكين عادةً على تقدير طلبه منها.
وتعليل المصنّف بعدم الوثوق بحصول التمكين يريد به ذلك ، لكن العبارة عنه غير جيّدة، بل الأولى التعليل بعدم التمكين بالفعل كما ذكرناه، سواء حصل وثوق به أم لا. وقد أجاد الشيخ في المبسوط حيث علّل عدم الوجوب بقوله : لأنّ النفقة إنّما تجب بوجود التمكين لا بإمكان التمكين(1) . وفي القواعد جمع بين العلتين(2)، وكان يستغني بإحداهما وهو عدم التمكين، وإن تكلّف متكلّف للجمع بينهما فائدة مّا.
قوله: «لو كان غائباً فحضرت عند الحاكم وبذلت التمكين» إلى آخره.
إذا غاب الزوج فإن كانت غيبته بعد أن مكنته الزوجة وجبت النفقة عليه، وجرت عليه مدة غيبته. وإن كانت غيبته قبل التمكين، فإن اكتفينا بالعقد بشرط عدم المانع فالحكم كذلك، وإن اعتبرنا التمكين في الوجوب شرطاً أو سبباً فلا نفقة لها. فإن حضرت عند الحاكم وبذلت له التسليم والطاعة كتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ليعلمه بالحال ويستدعيه إن شاء، فإذا سار إليها وتسلّمها أو بعث وكيلاً فتسلّمها وجبت النفقة حينئذ. وإن لم يفعل، فإذا مضى زمن إمكان الوصول إليها عادةً فرض لها النفقة في ماله وجعل كالمتسلّم لها؛ لأنّ الامتناع منه. ولو اقتصر على الإرسال إليه بغير توسط الحاكم الذي هو في بلده جاز أيضاً لكن يشترط ثبوت ذلك عنده بإخبار عدلين.
ص: 168
...
___________________________________
ولو لم يعرف موضعه كتب الحاكم إلى حكام البلاد التي تتوجّه إليها القوافل من تلك البلد عادةً؛ ليطلب وينادى باسمه، فإن لم يظهر فرض الحاكم نفقتها في ماله الحاضر، وأخذ منها كفيلاً بما يصرفه إليها؛ لأنّه لا يؤمن أن يظهر وفاته أو طلاقه.
ولو لم يرسل الحاكم إليه ولكن بلغه تمكينها بقول من يثبت به، ومضى زمن يمكنه الوصول فلم يصل، فالأقوى جواز فرض الحاكم لها النفقة إذا ثبت عنده وصول الخبر إليه على ذلك الوجه.
ولو لم يظهر له خبر أو لم يتمكن الحاكم من الإرسال والبحث عنه وقفت النفقة على القول بتوقفها على التمكين.
هذا كلّه إذا كانت المرأة بالغةً عاقلة، أما لو كانت مولّى عليها، فلا اعتبار بعرضها وبذلها الطاعة، وإنما الاعتبار بعرض الولي.
ولو كانت مراهقةً تصلح للوطء وسلّمت نفسها وتسلّمها الزوج، قال الشيخ:
وجبت النفقة كالكبيرة إلّا في فصل واحد، وهو أن الخطاب مع الكبيرة في موضع السكنى والتمكين الكامل، وهاهنا إذا قام وليها مقامها في التسليم استحقّت النفقة، ولو لم يكن لها وليّ أو كان غائباً أو منعها فسلّمت هي نفسها وجبت النفقة وإن لم تكن ممن يصح تصرفها؛ لأنّ الزوج استحقّ القبض ولا اعتبار في كون المقبوض منه من أهل الإقباض، كما لو دفع الثمن وقبض المبيع من صبي أو مجنون أو وجده في الطريق صحّ(1) .
وفي هذا الفرض على أصولنا نظر؛ لأنّ المراهقة هي المقاربة للبلوغ، وإذا كان بلوغ الأنثى عند الأصحاب بتسع فالمراهقة تكون قبل إكمالها، والوطء غير جائز في هذه الحالة، ولا يتحقّق التمكين ولا التسليم معها مطلقاً، وبعد إكمالها يحصل البلوغ وتزول المراهقة. وإنّما يجري هذا على أصول المخالفين الذين يعتبرون في الذكر والأنثى بلوغ خمس
ص: 169
•ولو نشزت وعادت إلى الطاعة لم تجب النفقة حتّى يعلم وينقضي زمان يمكنه الوصول إليها أو وكيله. ولو ارتدت سقطت النفقة. ولو غاب فأسلمت عادت نفقتها عند إسلامها ؛ لأنّ الردّة سبب السقوط وقد زالت.
وليس كذلك الأُولى؛ لأنّ بالنشوز خرجت عن قبضته فلا تستحقّ النفقة إلّا بعودها إلى قبضته.
_______________________________________
عشرة، فتتحقّق المراهقة بعد التسع وقبل البلوغ في وقت يجوز فيه الوطء.
ولو انعكس الأمر فسلّمت المرأة نفسها إلى الزوج المراهق بغير إذن الوليّ وجبت النفقة هنا، ويسهل فرضه. وهذا بخلاف تسليم المبيع من المراهق؛ لأن المقصود هناك أن تصير اليد للمشتري، واليد في مال المراهق للوليّ لا له بخلاف يد الاستمتاع. مع احتمال توقف ثبوتها على بذل التمكين للولي وإن كان متعلقه الصبيّ؛ نظراً إلى ولايته عليه، وسلب تصرّفه معه والأول أفقه.
قوله: «ولو نشزت وعادت إلى الطاعة لم تجب النفقة» إلى آخره.
هذه المسألة شعبة من السابقة، وتفارقها في أن عدم التمكين كان في الأولى مستمراً من
حین العقد، وهنا متجدّد بالنشوز.
وتحريرها: أنّ الزوجة إذا نشزت مع حضور الزوج فغاب عنها وهي كذلك، ثمّ عادت إلى الطاعة في غيبته لم تجب نفقتها إلى أن يعلم بعودها وينقضي زمان يمكنه الوصول إليها أو وكيله إلى آخر ما قرّر في السابقة؛ لخروجها بالنشوز عن قبضته فلا تعود إلى أن يحصل تسليم وتسلّم مستأنفين، وهما لا يحصلان بمجرّد عودها بذلك، فإذا عاد إليها أو بعث وكيله واستأنفت تسليمها عادت النفقة.
و تفارق السابقة في جريان حكمها على القولين بخلاف السابقة، فإنّها مبنية على اعتبار
التمكين كما مرّ .
ص: 170
...
____________________________________________
ولو ارتدت المرأة في حضرة الزوج وهي في قبضته سقطت نفقتها؛ لتحريم وطئها بعد الردّة، والمانع من قبلها. فإذا غاب الزوج وهي مرتدّة وكانت مدخولاً بها فعادت في العدّة إلى الإسلام وهو غائب، فالذي قطع به المصنّف وقبله الشيخ في المبسوط(1) أن نفقتها تعود بمجرّد عودها وإن لم يبلغه الخبر ولم يحضر .
وفرّقوا بينها وبين الناشز بأن نفقة المرتدّة قد سقطت بردّتها، فإذا عادت إلى الإسلام ارتفع المسقط، فعمل الموجب عمله؛ لأنّ الفرض كونها في قبضته من قبل السفر بخلاف الناشز فإن سقوط نفقتها لخروجها عن يد الزوج وطاعته، وإنّما تعود إذا عادت إلى قبضته، وذلك لا يحصل في غيبته.
وهذا الفرق لا يخلو من نظر؛ لأنّ الارتداد مانع شرعي من الاستمتاع وقد حدث من جهتها، ومتى لم يعلم الزوج بزواله فالواجب عليه الامتناع منها وإن حضر. ولا يكفي مجرّد كونها في قبضته مع عدم العلم بزوال المانع الذي جاء من قبلها فأسقط النفقة.
نعم، هذا الفرق يتمّ لو كان المانعان حصلا في غيبته ولم يعلم بهما ، فإنّ نشوزها بخروجها من بيته إذا أسقط النفقة لم تعد برجوعها إلى بيته؛ لخروجها عن قبضته فلابدّ من عودها إليها، ولا يحصل ذلك حال الغيبة بخلاف ما لو ارتدت ثم رجعت ولم يعلم فإنّ التسليم حاصل مستصحب، والمانع حصل وزال وهو لا يعلم به، فلم يتحقّق من جهته الامتناع منها لأجله، بخلاف ما لو علم.
ويمكن الجواب عن الإشكال بأن العقد لما اقتضى وجوب النفقة إما مع التمكين أو بدونه، وقد تحقق الشرط، فالأصل يقتضي وجوب النفقة إلى أن يختل الشرط، والارتداد لا يحصل معه الإخلال بالشرط؛ لأنّ التمكين من قبلها حاصل، وإنّما كانت الردّة مانعاً، فإذا زال المانع عمل المقتضي لوجوب النفقة عمله - كما أشرنا إليه - بخلاف النشوز، فإنّ الشرط أو السبب قد انتفى فلابدّ للحكم بوجوب النفقة من عوده، ولا يحصل إلا بتسليم جديد.
ص: 171
الرابعة : • إذا ادعت البائن أنها حامل صرفت إليها النفقة يوماً فيوماً، فإن تبيّن الحمل وإلا استعيدت.
_______________________________________
فإن قيل: الارتداد لما أسقط وجوبها توقّف ثبوته على سبب جديد، وإلا فحكم السقوط مستصحب.
قلنا: السبب موجود وهو العقد السابق المصاحب للتمكين؛ لأنّه الفرض والردّة ما رفعت حكم العقد، ولهذا لو أسلمت عادت إلى الزوجية بالعقد السابق، وعلى هذا فلا يفرّق بین علمه بعودها وعدمه.
قوله: «إذا ادعت البائن أنها حامل صرفت إليها النفقة يوماً فيوماً» إلى آخره.
مقتضى كلام المصنّف وجوب الإنفاق عليها بمجرد دعواها الحمل وإن لم يتبيّن أو يظن.
ووجهه أنّ الحمل فى ابتدائه لا يظهر إلّا لها، فيقبل قولها فيه - كما يقبل في الحيض والعدة - لأنّها من الأمور التي لا تظهر إلا من قبلها.
ولأنّ فيه جمعاً بين الحقين، وحق الزوج على تقدير تبين عدمه ينجبر بالرجوع عليها. ولأنّه لو لا القبول لأدّى إلى الإضرار بها مع حاجتها إلى النفقة، أو مطلقاً لو قلنا إن النفقة للحمل؛ لأنّ نفقة الأقارب لا تقضى، فلو أخر الدفع إليها إلى أن يتيقن تفوت مدة طويلة بغير نفقة ولا يجب قضاؤها.
والشيخ في المبسوط علّق وجوب الإنفاق على ظهور الحمل(1) . وفي التحرير على شهادة أربع من القوابل(2). ولعله أجود؛ لأنّ وجوب الإنفاق على الزوجة انقطع بالطلاق البائن، ووجوبه عليها مشروط بالحمل، والأصل عدمه إلى أن يتحقّق. وحكم الزوجة به في الابتداء ظنّي، والظنّ قد يكذب.
ولأنه تعالى قال: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(3) شرط
ص: 172
•ولا ينفق على بائن غير المطلقة الحامل. وقال الشيخ: ينفق؛ لأنّ النفقة للولد.
________________________________________
في الإنفاق عليهن كونهنّ أولات حمل، وهذا الوصف لا يتحقّق بمجرد الدعوى.
ثم على تقدير قبول قولها أو وجوب البناء على الظنّ أو على شهادة النساء المستندة إلى قرائن يجوز كذبها لو تبين كونها غير حامل استعيدت؛ لظهور عدم استحقاقها لها في نفس الأمر، فأشبه ما إذا ظنّ أنّ عليه ديناً فأداه ثمّ بان خلافه، ومثله ما لو أنفق على قريبه؛ لظنّ
إعساره فبان يساره .
ثم على تقدير وجوب الإنفاق عليها هل تطالب بكفيل؛ لجواز ظهور خلاف ما ادّعته ؟ فيه وجهان منشؤهما أنّها استولت على مال الغير بسبب لم يثبت في نفس الأمر، وإنّما حكم به الشارع لتعذّر إثبات موجبها قطعاً، فلو أخرت إلى الوضع لزم الإضرار بها كما قررناه. فيجمع بين الحقّين بالدفع إليها بكفيل، ومن حيث عدم ثبوت استحقاق الرجوع عليها الآن. والأوّل لا يخلو من قوة.
قوله: «ولا ينفق على بائن غير المطلقة الحامل. وقال الشيخ: ينفق؛ لأنّ النفقة للولد».
قد عرفت أنّ أسباب النفقة منحصرة في ثلاثة أحدها الزوجية، فمع بينونة الزوجة تخرج عن السببية، لكن وجبت النفقة للمطلّقة بائناً إذا كانت حاملاً بالنصّ(1) والإجماع، فبقي الباقي على الأصل.
وألحق بعضهم البائنة بغير الطلاق إذا كانت حاملاً بالمطلقة؛ نظراً إلى دعوى أن وجوب النفقة على المطلقة الحامل لأجل الحمل من حيث كونه ولداً للمنفق لا لأجلها، وهذه العلّة موجودة في الحامل منه غير المطلقة(2). وبذلك أفتى الشيخ في المبسوط حتى في الحامل من
ص: 173
•فرع على قوله (رحمه الله): إذا لاعنها فبانت منه وهي حامل فلا نفقة لها؛ لانتفاء الولد، وكذا لو طلقها ثم ظهر بها حمل فأنكره ولاعنها.
ولو أكذب نفسه بعد اللعان واستلحقه لزمه الإنفاق؛ لأنّه من حقوق الولد.
_____________________________________
نكاح فاسد كنكاح الشغار مع الجهل؛ محتجاً بعموم الأخبار الدالة على وجوب الإنفاق على الحامل(1) .
ويضعف الأوّل بأنّه مبنيّ على العمل بالقياس، وإلا فالآية صريحة في الحامل المطلقة. ومع ذلك فكون النفقة للحمل غير معلوم، وإنّما المعلوم كونها للحامل وإن كان ذلك بسببه.
وأما الأخبار التي ادعى الشيخ عمومها فذكرها في التهذيب(2)، وكلّها مقيّدة بالطلاق، إلا رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «الحامل أجلها أن تضع حملها، وعليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها»(3). فهذه متناولة بإطلاقها لغير المطلقة، لكنّها ضعيفة السند بمحمّد بن قيس، فإنّه مشترك بين الثقة وغيره. ويمكن حملها على المطلقة حيث لا تستقلّ بنفسها.
نعم، لو ثبت أنّها للحمل اتّجه ذلك. والذي دلّت عليه النصوص وجوبها للمطلقة الحامل، فيقتصر عليه؛ لكونه على خلاف الأصل.
قوله «فرع على قوله (رحمه الله): إذا لاعنها فبانت منه» إلى آخره.
البائنة باللعان إن كان لعانها لنفي الولد فلا نفقة لها في العدة على القولين؛ لأنّها صارت أجنبيّة وانتفى الحمل عنه، فصارت كالحائل.
وإن كان لعانها للقذف مع اعترافه بولدها فينبغي بناؤه على القولين، فإن قلنا: إنّ النفقة
ص: 174
...
______________________________________
للحمل وجبت هنا عند الشيخ؛ لوجوب الإنفاق على الولد وإن قلنا: إنّه للحامل فلا؛ لأنّها صارت أجنبية.
وكان على المصنّف أن يقيّد اللعان بكونه لنفي الولد لتخرج الصورة الثانية، وكأنّه اكتفى بالتعليل بانتفاء الولد، وكذا لو طلقها بائناً ثمّ ظهر بها حمل وأنكره ولا عنها، فإنّ النفقة تسقط عنه باللعان، وهنا صرّح بكون اللعان لإنكاره.
ولو أكذب نفسه في الصورتين واستلحق الولد بعد اللعان لحق به في الحقوق المتعلّقة بالولد دون العكس، ومن جملتها النفقة، فيجب الإنفاق على أمّه قبل الوضع إن جعلنا النفقة لأجل الحمل، وهو المقصود هنا، ولا يجب قضاء النفقة الماضية من حين اللعان إلى أن أقرّ به؛ لأنّا لم نوجب النفقة إلا للحمل، ونفقته لا تقضى.
وحكم في المبسوط بجواز رجوعها عليه بما مضى(1) ، مع أن مذهبه أنّ النفقة للحمل(2).وكذا جوّز رجوعها عليه لو أكذب نفسه بعد وضعه بنفقة زمان العدّة وأجرة الحضانة؛ محتجّاً بأنه قد كان واجباً عليه، وإنّما انقطع لانقطاع النسب، فإذا عاد عادت .
ولا يخفى ما فيه حيث بنى على أنّ النفقة للحمل، وهو قريب قد فاتت نفقته.
وعلله بعضهم بأنّ النفقة وإن كانت للحمل فهي مصروفة إلى الحامل، وهي صاحبة حقّ فيه، فيصير ديناً كنفقة الزوجة(3) .
وفي هذا التعليل إضراب عن كونها للحمل خاصّةً والتزام أنّها لهما، وإلا فالإشكال بحاله.
وعُلّل أيضاً بأنّه السبب في حكم الحاكم بوجوب النفقة عليها فيضمن، لقوة سببه. وبأنّ اللعان شهادة، فمع تمامه قد حكم الحاكم بشهادته بوجوب النفقة عليها كالدين،
ص: 175
المسألة الخامسة : • قال الشيخ (رحمه الله): نفقة زوجة المملوك تتعلق برقبته إن لم يكن مكتسباً، ويباع منه في كلّ يوم بقدر ما يجب عليه. وقال آخرون تجب في ذمته. ولو قيل: يلزم السيد لوقوع العقد بإذنه كان حسناً.
_________________________________________
ثمّ إكذابه نفسه كالرجوع في الشهادة بعد الحكم، والرجوع في الشهادة بعد الحكم موجب
للضمان.
وفيه منع كون اللعان شهادة محضة وإن كان الله تعالى قد أطلق عليه الشهادة(1) .
وإنفاقها على الولد قد لا يستند إلى حكم الحاكم عليها بخصوصها لو سلم كونه شهادة محضة.
قوله: «قال الشيخ (رحمه الله): نفقة زوجة المملوك تتعلق برقبته» إلى آخره.
حاصل كلام الشيخ (رحمه الله): أنّ العبد إن كان مكتسباً بقدر النفقة أو أزيد فنفقته کسبه، وإن فضل شيء فلسيّده وإن قصر كسبه عنها أو لم يكن مكتسباً تعلّق الفاضل أو المجموع برقبته تنزيلاً للوطء منزلة الجناية.
ثمّ إن أمكن أن يباع منه كل يوم بقدر ما يجب عليه من النفقة فعل، وإن لم يمكن بيع منه ما يمكن كالنصف والثلث، مقتصراً على ما يتأدّى به ،الغرض، ثمّ الأقرب إليه فالأقرب، فإن لم يمكن ذلك بيع جميعه كما قيل في الجناية(2)، ووقف ثمنه ينفق عليها منه، وقد انتقل ملك سيده عنه إلى آخر.
وعلى القول بتعلّقها بذمته يتبع بها إذا أعتق وأيسر، وكانت في زمن الرقية كزوجة المعسر.
والأقوى أنّ النفقة على مولاه كالمهر مطلقاً. وقد تقدم البحث في هذه المسألة في باب أولياء العقد.
ص: 176
• قال (رحمه الله): ولو كان مكاتباً لم تجب نفقة ولده من زوجته، وتلزمه نفقة الولد من أمته؛ لأنّه ماله ولو تحرّر منه شيء كانت نفقته في ماله بقدر ما تحرّر منه.
______________________________________
قوله: «قال (رحمه الله): ولو كان مكاتباً لم تجب نفقة ولده من زوجته، وتلزمه نفقة الولد من أمته؛ لأنه ماله. ولو تحرّر منه شيء كانت نفقته في ماله بقدر ما تحرّر منه».
الفرق بين الولدين أن الولد من زوجته إذا كانت حرّة حرّ، والمكاتب معسر لا تجب عليه نفقة الأقارب، بخلاف ولده من أمته، فإنّه ماله وهو تابع له فتكون نفقته عليه كما ينفق على حيوانه.
وإنّما نسب القول إلى الشيخ مشعراً بتمريضه؛ لما يشتمل عليه من الإجمال، فإن ولده من زوجته أعم من كون أمه حرّةً وأمةً، وعلى تقدير كونها أمةً فقد يشرط انفراد مولاها به أو انفراد الأب به، أو يطلق بحيث يكون مشتركاً بينهما. فعلى تقدير حريته يتمّ ما قاله الشيخ وعلى تقدير رقيته فالنفقة تابعة للملك.
أما ولده من أمته فإنه يكون تابعاً له في الكتابة؛ لأن فرض أُمه أمة المكاتب يقتضي شراءها بعد الكتابة واستيلادها بعدها كذلك، لكن يشترط كونه بإذن المولى؛ لأنّه ليس له شراء أمة يطؤها بدون إذنه. فمع إذنه يكون تابعاً ومملوكاً له لا ينعتق عليه، إلّا أن يؤدّي مال الكتابة فيتبعه في الحرّية، أو يعجز فيسترق معه. وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى(1).
ولو تحرّر من المكاتب شيء كانت نفقة ولده من زوجته في مال أبيه بقدر ما تحرّر منه والباقي على أمه إن كانت حرّةً موسرةً، كما أنّ جميعها عليها مع الشرطين.
ولم يذكر المصنّف حكم نفقة زوجة المكاتب، وكان البحث بها أنسب.
وحكمها أنّها في كسبه مطلقاً، لكن لو أدى المطلق شيئاً وتحرّر منه بنسبته كانت نفقة
ص: 177
السادسة : • إذا طلق الحامل رجعيّةً فادعت أن الطلاق بعد الوضع وأنكر، فالقول قولها مع يمينها. ويحكم عليه بالبينونة تدييناً له بإقراره، ولها النفقة استصحاباً لدوام الزوجية.
__________________________________________
نصيب الرقيّة نفقة المعسر ونفقة نصيب الحرّية بحسب حاله إن فرّقنا بين القسمين.
قوله: «إذا طلق الحامل رجعيّةً فادعت أن الطلاق بعد الوضع وأنكر» إلى آخره.
المراد أنّ امرأته كانت حاملاً وطلقها ووضعت الحمل واختلفا، فقال الزوج: طلقتك قبل الوضع وانقضت عدّتك بالوضع فلا نفقة لك الآن، وقالت: بل طلّقتني بعد الوضع وطلبت النفقة، فعليها العدة من الوقت الذي تزعم أنّه طلقها فيه . ولها النفقة؛ لأنّ الأصل بقاء النكاح إلى الوقت الذي تدّعيه، وكذلك الأصل بقاء العدّة والنفقة. وليس له الرجعة؛ لأنّها قد بانت بزعمه، ومن أقرّ بشيء قبل فيما يتعلّق به لا فيما يتعلّق بغيره، كما لو أقرّ ببيع عبده ممن يعتق العبد عليه، فإنّه يحكم عليه بعتق العبد، ولا يقبل قوله في لزوم الثمن على من زعم أنّه اشترى. ولو فرض أنّ الزوج كان قد أصابها قبل الوضع في الوقت الذي زعم أنّها مطلقة فيه لم يلزمه مهر المثل؛ لأنّها تزعم أنّ الطلاق وقع بعد الولادة وأنّ الإصابة في النكاح، فلا شيء لها بإقرارها.
ولو انعكس الفرض فقال الزوج: طلقتك بعد الولادة وأنت في العدة ولى الرجعة وقالت: بل قبلها وقد انقضت العدة، فالقول قول الزوج في بقاء العدة وثبوت الرجعة ولا نفقة لها في العدّة بتقريب ما سبق.
ولو قيل بتخصيص هذا الحكم بما إذا لم يعيّنا زماناً لهما، أما لو اتّفقا على زمان أحدهما واختلفا في تقدّم الآخر وتأخره، فالقول قول مدّعي تأخّره مطلقاً؛ لأصالة عدم تقدّمه واستقرار حال ما اتفقا عليه كان حسناً.
فلو فرض اتفاقهما على أنّ الطلاق وقع يوم الجمعة واختلفا في زمان الوضع، فادّعت أنّه وقع يوم الخميس في المسألة الأولى، وادّعى وقوعه يوم السبت مثلاً، فالقول
ص: 178
السابعة • إذا كان له على زوجته دين جاز أن يقاصّها يوماً فيوماً إن كانت موسرةٌ، ولا يجوز مع إعسارها؛ لأنّ قضاء الدين فيما يفضل عن القوت. ولو رضيت بذلك لم يكن له الامتناع.
_______________________________________
قوله؛ لأصالة عدم تقدّم الوضع. ولو انعكست الدعوى فالقول قولها؛ لما ذكر. ولو اتّفقا على وقوع الوضع يوم الجمعة واختلفا في تقدّم الطلاق وتأخّره، فالقول قول مدّعي التأخر في المسألتين.
وربما قيل(1) بأنّه مع الاتفاق على وقت أحدهما والاختلاف في الآخر يقدم قول الزوج في الطلاق مطلقاً؛ لأنّه من فعله، وقولها في الوضع مطلقاً لذلك.
قوله: «إذا كان له على زوجته دين جاز أن يقاصها يوماً فيوماً إن كانت موسرة، ولا يجوز مع إعسارها» إلى آخره.
نفقة المرأة بعد وجوبها بمنزلة الدين على الزوج فإذا كان له عليها دين وكانت ممتنعةً من أدائه جاز له مقاصّتها من النفقة بعد وجوبها عليه، بأن ينوي استيفاء نفقة كلّ يوم في صبيحته. ولو لم تكن ممتنعةً من وفاء دينها لم يكن له المقاصة؛ لأنّ تعيين الدين من مالها موكول إليها، اللهم إلا أنّ يوافق دينه النفقة جنساً ووصفاً، فيكون التهاتر حينئذ قهريّاً.
هذا كلّه إذا كانت موسرةً بحيث تملك قوتها من غيره قوّةً أو فعلاً لتجوز مقاصّتها، وإلا لم يجز؛ لما أشار إليه المصنف من التعليل، بأنّ قضاء الدين إنما يجب فيما يفضل عن القوت. والمقاصة تابعة لوجوب الوفاء مع الامتناع منه أو ما في معناه.
ولو رضيت بالمقاصة مع إعسارها لم يكن له الامتناع؛ لأنّ الحقّ لها في ذلك، فإذا رضيت بإسقاط حقها وآثرت وفاء دينها على القوت لم يكن له الامتناع، وربما قيّد ذلك
ص: 179
الثامنة : • نفقة الزوجة مقدّمة على الأقارب، فما فضل عن قوته صرفه إليها، ثمّ لا يدفع إلى الأقارب إلا ما يفضل عن واجب نفقة الزوجة؛ لأنّها نفقة معاوضة، وتثبت في الذمة.
__________________________________________
بما إذا لم يتوجّه عليه ضرر بالقبول، بأن ضعفت عن حقه وإلا كان له الامتناع وقد سبق نظيره (1).
قوله: «نفقة الزوجة مقدّمة على الأقارب، فما فضل عن قوته صرفه إليها، ثمّ لا يدفع إلى
الأقارب - إلى قوله - وتثبت في الذمّة».
إذا اجتمع على الشخص الواحد محتاجون يلزمه الإنفاق عليهم، فإن وفى ماله أو كسبه بنفقتهم فعليه نفقة الجميع، وإن لم يف بالكلّ ابتدأ بنفقة نفسه؛ لأنّ نفقته مقدّمة على جميع الحقوق من الديون وغيرها من أموال المعاوضات وغاية نفقة الزوجة إلحاقها بذلك، فإن فضل منه نفقة واحد قدّم نفقة الزوجة على نفقة الأقارب(2) .
والفرق بين نفقتهما - مع اشتراكهما في أصل الوجوب - ما أشار إليه المصنّف من أن نفقة الزوجة تثبت على وجه المعاوضة على الاستمتاع وتثبت في الذمّة إذا فاتت بخلاف نفقة القريب؛ فإنّها تثبت لمجرّد المواساة، والعوض أولى بالرعاية من المواساة.
ولأنّها أقوى من نفقة القريب، ولهذا لا تسقط بغناها ولا بمضيّ الزمان، بخلاف نفقته.
واعترض بأنّ نفقتها إذا كانت كذلك كانت كالديون، ونفقة القريب مقدّمة على الديون كما علم من باب المفلس(3). ويؤيّده ما روي أن رجلاً جاء إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقال: معي
ص: 180
القول في نفقة الأرقاب
والكلام فيمن ينفق عليه ، وكيفية الإنفاق واللواحق.
• تجب النفقة على الأبوين والأولاد إجماعاً. وفي وجوب الإنفاق على آباء الأبوين وأُمهاتهم تردّد، أظهره الوجوب.
_______________________________________
دينار، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «أنفقه على نفسك» فقال: معي آخر فقال: «أنفقه على ولدك» فقال: معي ،آخر فقال: «أنفقه على أهلك»(1) فقدّم نفقة الولد على نفقة الأهل كما قدّم نفقة النفس على الولد.
ولهذا الخبر ذهب بعض الشافعية إلى أنّ نفقة الطفل تقدم على نفقة الزوجة(2).
ويمكن الجواب بأنّ نفقة الزوجة إنّما تكون كالدين مع مضيّ وقتها، ويلتزم حينئذ بأنّ نفقة القريب مقدّمة على قضائها كما تقدّم على قضاء الدين. أما الحاضرة فإنّها أقوى من الدين، ولذلك قدمت نفقة الزوجة عليه في مال المفلس ويبقى معها المرجّح على نفقة القريب بقوتها بسبب المعاوضة، وثبوتها مع الغنى والفقر، بخلاف نفقة القريب، فيقدّم عليها.
والخبر - مع تسليمه - يحمل على الإنفاق على وجه التبرّع؛ توسعاً في النفقة.
ويؤيده قوله فيه بعد ذلك معي آخر، قال: «أنفقه على خادمك» قال: أنفقه في سبيل الله، وذلك أيسر» مع أن نفقة الخادم أعم من أن تكون واجبة وغير واجبة، وكذلك الإنفاق في سبيل الله، فجرى الحديث على الأمر بالإنفاق على ما فيه قربة.
قوله: «تجب النفقة على الأبوين والأولاد إجماعاً وفي وجوب الإنفاق على آباء الأبوين وأُمهاتهم تردّد، أظهره الوجوب».
ص: 181
•ولا تجب النفقة على غير العمودين من الأقارب، كالإخوة والأعمام والأخوال وغيرهم، لكن تستحب، وتتأكد في الوارث منهم.
___________________________________________
لا خلاف بين أصحابنا في وجوب نفقة كلّ من الأبوين والأولاد على الآخر، وقد سبق ما يدلّ عليه(1). وموضع الدلالة بغير شبهةٍ الأولاد والأبوان، فأما من علا أو سفل ففي تناول النص لهم نظر من الشك في صدق الآباء والأولاد عليهم بطريق الحقيقة.
والمصنّف تردّد في دخول آباء الأبوين وأُمهاتهم لذلك؛ إذ قد أُطلق عليهم لفظ الآباء في قوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ابَاءِى إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ)(2)، وقوله تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ )(3) والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومن جواز السلب الدال على المجاز ومطلق الاستعمال أعم من الحقيقة.
ولا نعلم مخالفاً من أصحابنا في دخولهم هنا، وإنّما تردّد المصنّف لضعف الدليل، ومن أصوله (رحمه الله) أن لا يعتدّ بحجيّة الإجماع بهذا المعنى، كما نبه عليه في مقدّمة المعتبر (4)؛ وهو الحق الذي لا محيد عنه لمنصف.
وما ذكره (رحمه الله) من وجه التردّد في الآباء يأتي مثله في الأولاد للشك والخلاف في إطلاق اسم الولد على ولد الولد. وقد تقدّم البحث فيه في الوقف(5) ، وأن المصنّف اختار عدم دخوله في إطلاق الولد فكان الأولى التعرّض له هنا وكيف كان فالمذهب وجوب الإنفاق على الجميع.
قوله: «ولا تجب النفقة على غير العمودين من الأقارب، كالإخوة والأعمام والأخوال وغيرهم، لكن تستحب وتتأكد في الوارث منهم».
ص: 182
• ويشترط في وجوب الإنفاق الفقر. وهل يشترط العجز عن الاكتساب ؟ الأظهر اشتراطه ؛ لأنّ النفقة معونة على سدّ الخلّة، والمكتسب قادر ، فهو كالغنيّ.
________________________________________
هذا هو المعروف في المذهب. ويؤيده أصالة براءة الذمّة من وجوب الإنفاق على غير من دلّ الدليل على وجوب الإنفاق عليه وهو منفي هنا. ولم ينقل المصنّف هنا خلافاً، ونقله العلّامة في القواعد(1) ، وأسنده الشراح(2) إلى الشيخ، وأنه ذهب إلى وجوبها على كلّ وارث .
والشيخ في المبسوط قطع باختصاصها بالعمودين، ونقل وجوبها على الوارث إلى رواية ، وحملها على الاستحباب(3).
قوله: «ويشترط في وجوب الإنفاق الفقر. وهل يشترط العجز عن الاكتساب ؟ الأظهر اشتراطه ؛ لأنّ النفقة معونة على سد الخلّة» إلى آخره.
وجه عدم اشتراط القدرة على الاكتساب حصول الحاجة بالفعل. وهو ضعيف جداً ؛ لأنّ المكتسب قادر، ومن ثمّ منع من الزكاة والكفّارة المشروطة بالفقر ، وقد ساوى النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) بين الغنيّ والقوي المكتسب في ذلك، فقال للرجلين اللذين أتياه فسألاه من الصدقة: «أُعطيكما بعد أن أعلمكما أن لا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب»(4) .
نعم، يعتبر في الكسب كونه لا ثقاً بحاله عادةً، فلا يكلّف الرفيع والعالم الكنس والدباغة.
ص: 183
•ولا عبرة بنقصان الخلقة، ولا نقصان الحكم مع الفقر والعجز.
•وتجب ولو كان فاسقاً أو كافراً. وتسقط إذا كان مملوكاً، وتجب على المولى.
______________________________________
ولو أمكن المرأة الكسب بالتزويج ممّن يليق بها تزويجه عادةً فهي قادرة بالقوّة؛ لأنّ ذلك ممّا لا يخرج عن العادة.
قوله: «ولا عبرة بنقصان الخلقة، ولا نقصان الحكم مع الفقر والعجز».
أراد أنّه مع تحقّق العجز يجب الإنفاق عليه وإن كان في نفسه كاملاً كالمكلّف التام الخلقة.
ونبّه بذلك على خلاف الشيخ في المبسوط حيث اشترط فيه اجتماع الوصفين: الإعسار ونقصان الخلقة أو الحكم أو هما (1)، مع أنه قال في موضع آخر منه: إن الفقر كافٍ(2)، كما قاله غيره(3).
والمراد بناقص الخلقة الأعمى والمقعد، وبناقص الحكم الصبي والمجنون، وبناقصهما المجنون الأعمى.
واعلم أنّه لا فرق في القدرة على الاكتساب بين ناقص الحكم وغيره، فلو بلغ الولد حداً يُمكن أن يتعلم حرفةً أو يحمل على الاكتساب فللوليّ حمله عليه والإنفاق عليه من كسبه، لكن لو هرب عن الحرفة وترك الاكتساب في بعض الأيام فعلى الأب الإنفاق عليه، بخلاف المكلّف. وتعتبر الحرفة والكسب اللائقان بحاله كالمكلّف وأطلق ابن الجنيد وجوب النفقة على الولد الصغير إلى أن يبلغ الحلم أو الحيض(4).
قوله: وتجب ولو كان فاسقاً أو كافراً. وتسقط إذا كان مملوكاً، وتجب على المولى».
ص: 184
...
____________________________________
أي يجب الإنفاق على القريب البعضي وإن كان فاسقاً أو كافراً؛ لعموم الأدلّة(1) الشاملة له ، ولقوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(2) ومن المعروف الإنفاق عليهما مع حاجتهما ويساره. والمراد كونهما كافرين، وأولى منه لو كانا فاسقين. ولا يقدح كونهما غير وارثين؛ لعدم الملازمة بينهما. وبهذا صرّح الأصحاب وأكثر العلماء من غيرهم.
قال الشيخ في المبسوط :
كل سبب يجب به الإنفاق من زوجيّة ونسب وملك يمين فإنّا نوجبها مع اختلاف الدين كما نوجبها مع اتّفاقه؛ لأنّ وجوبها بالقرابة، وتفارق الميراث؛ لأنّه يستحقّ بالقرابة في الموالاة، واختلاف الدين يقطع الموالاة(3).
وإنّما شرط الاتّفاق في الدين أبو حنيفة مع إيجابه النفقة لكلّ ذي رحم(4) .
وقد أغرب الفاضل فخر الدين في شرحه حيث جعل المانع من الإرث - كالرق والكفر والقتل - مانعاً من وجوب الإنفاق(5). وربما نقل عنه أنّ ذلك إجماعي. والأمر بخلافه؛ لتصريح الأصحاب بنحو ما قلناه(6) ، ولم نقف على مخالف منهم فيه.
مع أنّ هذا وإن تمَّ في الرق، حيث إنّ نفقة المملوك لا تجب على قريبه، إلّا أن ذلك لا من حيث إنّ الرق مانع من الإرث بل من حيث استغنائه بإنفاق السيّد عليه المقدّم في الوجوب على القريب؛ لاشتغاله بخدمته فكان أولى بالإنفاق عليه، ولو فرض تقصيره
ص: 185
• ويشترط في المنفق القدرة، فلو حصل له قدر كفايته اقتصر على نفسه، فإن فضل شيء فلزوجته، فإن فضل فللأبوين والأولاد.
_____________________________________
في النفقة ولم يتفق من يجبره على بيعه أو الإنفاق عليه فالأقوى وجوبها على قريبه؛ عملاً بالعموم الخالي عن المعارض هنا.
وقيد بعضهم(1) الكافر بكونه معصوم الدم، فلو كان حربيّاً لم يجب الإنفاق عليه؛ لجواز إتلافه، فترك الإنفاق عليه لا يزيد عنه ولا بأس به، وإن كان للعموم أيضاً وجه؛ لما فيه من المصاحبة بالمعروف المأمور بها للأبوين على العموم، إلّا أن يفرق بينهما وبين الأولاد.
قوله: «ويشترط في المنفق القدرة، فلو حصل له قدر كفايته اقتصر على نفسه، فإن فضل
شيء فلزوجته» إلى آخره.
المعتبر من كفايته قوت يومه بالنسبة إلى المؤونة، وكسوته اللائقة بحاله في الفصل الذي هو فيه، ولا يعتبر غيره في الوقت الحاضر والآلات المضطر إليها للطعام والفرش كالكسوة. فهذا هو الذي يعتبر مقدّماً على نفقة الزوجة. ثمّ تعتبر نفقة الزوجة ليومها أيضاً. ونفقة خادمها تابع لنفقتها. والقول في كسوتها وبقيّة الآلات كالقول في الرجل. فإن فضل من ماله بالفعل أو القوة شيء وجب صرفه إلى الأبوين والأولاد كما شرحناه. فإن قام بكفايتهم ومؤونة يومهم عمل في اليوم الثاني مثل ذلك، وإن قصر عنهم حيث كانوا متعددين فسيأتي البحث فيه (2).
ولو لم تكن له زوجة وكان يفضل من ماله أو كسبه ما يقوم بكفاية قريبه جاز له التزويج وإن أدى إلى عدم الإنفاق عليهما؛ لأنّ نفقتهما مواساة تجب حيث يمكن، والتزويج أمر سائغ له، بل مأمور به.
ص: 186
•ولا تقدير في النفقة، بل الواجب قدر الكفاية من الإطعام والكسوة والمسكن، وما يحتاج إليه من زيادة الكسوة فى الشتاء للتدثر يقظةً ونوماً.
• ولا يجب إعفاف من تجب النفقة له.
______________________________________
قوله: «ولا تقدير في النفقة، بل الواجب قدر الكفاية من الإطعام والكسوة والمسكن وما يحتاج إليه » إلى آخره.
لما كان المعتبر من نفقة القريب المواساة له ودفع حاجته لم يتقدّر بقدر، بل يعتبر فيها الكفاية بحسب حال المنفق لا المنفق عليه بخلاف نفقة الزوجة، فتعتبر فيه الحاجة وقدرها، حتّى لو استغنى في بعض الأيام بضيافة وغيرها لم تجب.
ويعتبر حاله في سنّه وزهادته ورغبته، بخلاف الزوجة. فالرضيع تندفع حاجته بمؤونة الإرضاع في الحولين، والفطيم وما بعده على ما يليق بهما. ولا يعتبر بلوغ المنفق عليه حدّ الضرورة، كما لا يكتفى بسدّ رمقه، بل الكفاية. ويجب الأدم، كما يجب القوت عندنا، وكذا الكسوة والسكنى ولو احتاج إلى الخدمة وجبت مؤونة الخادم أيضاً.
والظاهر أنّ مؤونة القريب إمتاع لا تمليك، بخلاف نفقة الزوجة؛ لما تقرّر من أنّ الغرض منها دفع الحاجة، بخلاف ما وقع معاوضة، فلو تلفت في يده بغير تفريط وجب إبدالها، وكذا لو أتلفها بنفسه، لكن هنا يجب عليه مع إبدالها ضمان ما أتلفه إذا أيسر.
قوله: «ولا يجب إعفاف من تجب النفقة له».
المراد بالإعفاف أن يصيّره ذا عفّة بأن يهيئ له مستمتعاً، بأن يزوجه أو يعطيه مهراً ليتزوج، أو يملكه جارية محلّلة له، أو يعطيه ثمن جارية صالحة له عرفاً كالنفقة.
وقد قال بوجوبه بعض الأصحاب(1) ، وجماعة من العلماء (2)للأب وإن علا؛ لأنّ ذلك من
ص: 187
•وينفق على أبيه دون أولاده؛ لأنّهم إخوة المنفق. وينفق على ولده وأولاده؛ لأنّهم أولاد.
_______________________________________
أهم المصاحبة بالمعروف، ولأنّه من وجوه حاجاته المهمة، فيجب على الابن القيام به كالنفقة والكسوة والأشهر الاستحباب ولو كان قادراً على التزويج مالكاً للمهر لم يجب على القولين، وإن وجبت نفقته بعد ذلك.
ويشترط حاجته إلى النكاح، ويقبل قوله في الرغبة من غير يمين، لكن لا يحلّ له طلبه حيث نقول بوجوبه، إلا إذا صدقت شهوته وشقّ عليه الصبر.
ولا تتأدّى الوظيفة وجوباً واستحباباً بالعجوز التي لا تليق بحاله، ولا الشوهاء، كما ليس له أن يطعمه طعاماً فاسداً لا ينساغ برغبة.
ونفقة الزوجة حينئذٍ تابعة للإعفاف، فإن وجب وجبت وإلّا استحبّت، وكذا القول فى نفقة زوجة الأب التي يتزوجها بغير واسطة الابن وأوجب الشيخ في المبسوط نفقة زوجته وإن لم يجب إعفافه؛ لأنّها من جملة مؤونته وضرورته، كنفقة خادمه حيث يحتاج إليه(1) .
ولو ماتت الزوجة أو الأمة تجدّد حكم الإعفاف بغيرها وجوباً أو استحباباً.
وكذا لو طلّقها لنشوز ونحوه، أو باع الأمة لذلك ولو كان تشهياً لم يعد الحكم؛ لأنّه المقصّر والمفوّت على نفسه.
قوله: «وينفق على أبيه دون أولاده؛ لأنّهم إخوة المنفق. وينفق على ولده وأولاده؛ لأنّهم أولاد».
لمّا كان وجوب الإنفاق مختصاً بالأب وإن علا، وبالولد وإن نزل دون غيرهم من الأقارب، فاللازم منه أنّه لو كان له أب ولأبيه أولاد وهو عاجز عن نفقته ونفقتهم وجب على الابن الإنفاق عليه دون أولاده؛ لفقد محل الواجب فيهم من حيث إنّهم إخوة. ولو كان له
ص: 188
•ولا تقضى نفقة الأقارب؛ لأنّها مواساة لسدّ الخلّة، فلا تستقرّ في الذمّة ولو قدرها الحاكم. نعم، لو أمره بالاستدانة عليه فاستدان وجب القضاء.
_____________________________________
ولد ولولده أولاد محتاجون وجب عليه الإنفاق على الجميع؛ لصدق الأولاد على الجميع الموجب للنفقة وإن لم يصدق ذلك مطلقاً كما مرّ(1) .
وكما لا يجب الإنفاق على زوجة الأب إذا لم تكن أمّاً - إن لم نقل بوجوب الإعفاف على الابن - فكذا لا يجب على زوجة الولد وقوفاً على موضع اليقين، ولأنّه لا يجب إعفاف الابن اتفاقاً، إلا مع حاجته إلى الزوجة بحيث تؤدي مؤدّى الخادم حيث يكون محتاجاً إليه، فيجب الإنفاق عليها لذلك وإن لم يجب لكونها زوجةً.
قوله: «ولا تقضى نفقة الأقارب؛ لأنّها مواساة لسد الخلّة» إلى آخره.
أشار بالتعليل إلى الفرق بين نفقة القريب ونفقة الزوجة - حيث وجب قضاء نفقتها دون نفقة القريب - بأنّ الغرض من نفقة القريب مواساته وسدّ خلّته، فوجوبها لدفع الحاجة لا عوض، فإذا أخل بها أثم ولم تستقر في الذمّة، فلا يجب قضاؤها، كما لو أخلّ بقضاء حاجة المحتاج الذي يجب عليه إعانته، بخلاف نفقة الزوجة، فإنّها وجبت عوض الاستمتاع فكانت كالمعاوضة المالية، فإذا لم يؤدّها استقرّت في ذمّته، ويفرّع عليه وجوب قضائها. ولا فرق في ذلك عندنا بين تقدير الحاكم لها وعدمه؛ لأنّ تقديرها لم يخرجها عن حالها الأصلي من كونها مواساة ودفع ضرورة؛ خلافاً لبعض الشافعية حيث ذهب إلى أنها مع فرض الحاكم لها تصير ديناً في الذمّة(2).
نعم، لو أمره الحاكم بالاستدانة(3) على قريبه الواجب عليه الإنفاق لغيبته أو امتناعه
ص: 189
الأولى: • تجب نفقة الولد على أبيه، ومع عدمه أو فقره فعلى أب الأب وإن علا؛ لأنّه أب. ولو عدمت الآباء فعلى أم الولد، ومع عدمها أو فقرها فعلى أبيها وأُمّها وإن علوا الأقرب فالأقرب. ومع التساوي يشتركون في الإنفاق.
____________________________________
واستدان استقرّت في ذمته بذلك، ووجب عليه قضاؤها؛ لأنّها صارت بذلك ديناً محضاً.
قوله: «تجب نفقة الولد على أبيه» إلى آخره.
أشار بهذه المسألة إلى بيان مراتب المنفق والمنفق عليه وحكمهما عند الاجتماع، فإذا وجد للمحتاج قريبان من أصوله لو انفرد أحدهما لوجبت النفقة عليه، نظر إن اجتمع أبوه وأُمّه فالنفقة على الأب دونها؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَتَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)(1) أوجب أجرة الرضاع على الأب، فكذا غيرها من النفقات؛ استصحاباً لحكم الوجوب، ولقوله (صلى الله عليه و آله و سلم) لهند:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(2) من غير أن يستفصل هل هي موسرة بنفقة الولد أم لا؟ وترك الاستفصال يفيد العموم.
وإن فقد الأب أو كان معسراً ووجد أحد من آبائه قام مقامه في الوجوب؛ مقدّماً على الأمّ، لمشاركته له في المعنى والاسم. وهكذا الحكم فيه وإن علا. ولا يفرض تعدّده؛ لأنّ المراد به وليّ المال، وهو مختصّ بجانب الأبوة دون الأُمهات وإن كن لأب.
فإن فقد الجميع أو كانوا معسرين وجبت حينئذٍ على الأُمّ الموسرة. فإن فقدت أو كانت معسرةً فعلى أبيها وأُمها بالسويّة وإن علوا؛ مقدّماً في الوجوب الأقرب إليها فالأقرب. ولم يتعرّض لحكم الآباء والأمهات من قبل أم الأب وإن علا. وقد ذكر الشيخ(3) وغيره(4)
ص: 190
الثانية • إذا كان له أبوان وفضل له ما يكفى أحدهما كانا فيه سواء. وكذا لو كان ابناً وأباً. ولو كان أباً وجداً أو أُمّاً وجدّة خصّ به الأقرب.
___________________________________________
من الأصحاب أنّ حكمهم حكم آباء الأُمّ من الطرفين، فيشاركونهم مع التساوي في الدرجة بالسوية، ويختصّ الأقرب من الجانبين إلى المحتاج بوجوب الإنفاق ، فلو كان له أبو أُمّ وأُمّ أب وجبت عليهما على السوية.
وكذا لو اجتمع أبو أُم أب وأم أبي أم، أو أبو أبي أُمّ وأُمّ أُمّ أب. ومتى قرب أحدهما بدرجة فهو أولى. وعلى هذا حكم باقي الفروض المتعددة من الجانبين أو أحدهما.
فهذا ما يتعلّق بحكم الأصول منفردين عن الفروع.
ولو انعكس بأن وجد الفروع دون الأصول، فإن اتّحد الفرع وجبت عليه بشروطه. وإن تعدّد في درجة واحدة كالأولاد المتعدّدين وجبت عليهم بالسويّة، سواء في ذلك الذكر والأُنثى. ولو اختلفت درجاتهم - كابن وابن ابن أو ابن ابن وابن ابن ابن - وجبت على الأقرب إلى المنفق عليه فالأقرب. ولا فرق في ذلك كله بين الذكر والأنثى، ولا بين الموسر بالقوّة والفعل على الأقوى فيهما. وفي المسألة قول آخر بوجوبها على الذكر والأنثى على حسب الميراث(1) ، وآخر باختصاصها بالذكر(2) . وهما ضعيفان.
وبقي من الأقسام ما لو اجتمع العمودان. وسيأتي في كلام المصنف الإشارة إلى بعض مسائله، وهناك تفصيلها إن شاء الله تعالى (3).
قوله: «إذا كان له أبوان وفضل له ما يكفي أحدهما كانا فيه سواء. وكذا لو كان ابناً وأباً. ولو كان أباً وجداً أو أُمّاً وجدة خص به الأقرب».
أشار بهذه المسألة إلى شيء من أحكام ما إذا تعدّد المنفق عليه. وجملة أقسامه أنّه إن
ص: 191
...
____________________________________________
وجد من جهة واحدة كالآباء والأجداد المتعدّدين أو الأولاد المتعدّدين يجب الإنفاق على الجميع القريب منهم والبعيد إن وسع ماله أو كسبه لذلك، وإن قصر بدأ بالأقرب إليه فالأقرب فالأب أولى من الجدّ، فإن فضل عنه فضل صرف إلى الجدّ، وكان أولى ممّن بعد عنه بمرتبة، وهكذا. ولا فرق في كلّ مرتبة بين الذكر والأنثى، ولا بين المتقرّب بالأب من الأب والأم والمتقرّب بالأم كذلك. فالأبوان يتساويان وكذا أبواهما. فلو اجتمع أبو الأب مع أُمّ الأُمّ كانا سواء، وهكذا.
ولو اجتمع الأولاد المتعدّدون فكذلك يشترك ذكرهم وأنثاهم مع تساويهم في المرتبة، ويختصّ الأقرب مع القصور، فلو كان له ابن وبنت تساويا، وكذا لو كان له ابن بنت وبنت ابن والبنت أولى من ابن الابن وهكذا. ولو اجتمع العمودان اعتبرت المراتب في الطرفين، فإن تساوت عدداً اشتركوا، وإن اختلفت اختصّ الأقرب فالأولاد ذكوراً وإناثاً ومختلفين يشاركون الأبوين وكذا أولاد الأولاد مطلقاً يشاركون الأجداد والجدّات للأب أو الأم، .أولهما والأولاد للصلب أولى من الأجداد، كما أنّ الأبوين أولى من أولاد الأولاد. وهكذا في جميع المراتب هذا كله مع قصور مال المنفق عليهم عن مقدار كفايتهم.
وإنّما يشترك المتعدّدون في المرتبة الواحدة مع كفاية سهم كلّ واحد لصاحبه أو إفادته نفعاً معتداً به، فلو لم ينتفع به أحدهم لقلّته وكثرتهم ففي اقتسامهم له كذلك أو القرعة فيه بينهم وجهان أجودهما الثاني لمنافاة التشريك للغرض من نفقة القريب؛ لأن المقصود منها سد الخلّة وهو منتف مع القسمة مطلقاً، وليست كالدين الذي يتساوى فيه المستحقّون وإن قل. وترجيح بعضهم بغير مرجّح ممتنع، والقرعة مرجّحة بمرجّح.
ولو كان نصيب أحدهم يعتدّ بنفعه له - لصغر أو مرض - دون الباقين أقرع فيمن عدا المنتفع إن تعدّد، وإلّا اختصّ كلّ بنصيبه مع احتمال اختصاص المنتفع بنصيبه بالجميع. وفي ترجيح الأحوج - لصغر ومرض - بدون القرعة وجهان، من اشتراكهما في أصل الحاجة، وكونها علة الإنفاق وكلّما كانت أقوى كان تأثيرها أقوى.
ص: 192
الثالثة: • لو كان له أب وجد موسران فنفقته على أبيه دون جده. ولو كان له ابن وأب موسران كانت نفقته عليهما بالسوية.
______________________________________
قوله: «لو كان له أب وجد موسران فنفقته على أبيه» إلى آخره.
قد تقدّم أنّ الأب مقدّم في وجوب الإنفاق على الجدّ(1)، وليس في إعادتها كثير فائدة إلّا التقييد باليسار، وقد علم اشتراطه في كل من تجب عليه النفقة.
وأما قوله «ولو كان له أب وابن موسران كانت النفقة عليهما» فهو تتمّة أقسام تعدّد المنفقين، وهو ما لو اجتمع العمودان معاً. ووجه تساوي الأب والابن في الوجوب ظاهر؛ لتساويهما في الرتبة، فإنّ المنفق عليه أب لأحدهما وابن للآخر، فلا فارق بينهما إلا الأُبوّة والبنوة، وكلاهما علّة لوجوب الإنفاق. وحيث كان الأب مقدماً على الجد فمساويه في المرتبة - وهو الابن - يكون مقدّماً عليه كذلك. وهكذا القول في الأب مع ولد الولد، فإنّ الأب أولى بالوجوب، لأنّه أقرب.
بقي الكلام في حكم الولد لو كان أنثى، وحكم الأم مع الولد مطلقاً، والمصنّف لم يتعرّض لحكمهما، ولا يخلو من إشكال من حيث المرتبة، فإنّ الابن مساو للأم في المرتبة كما قلناه في الأب وكذلك البنت وكذلك هي مساوية للأب كالابن.
فيحتمل اشتراك الجميع في الوجوب عدا الأم، فإنّها مع وجود الأب متأخرة.
وتقديم الابن على الأم؛ لأنّه في مرتبة الأب المتقدم على الجد المتقدم عليها. بل تقديم
الأولاد مطلقاً عليها لذلك(2)، فإنّ البنت في مرتبة الابن المتقدم عليها بمراتب.
وتقديم الابن على البنت كما قدم الأب على الأم. واشتراك البنت والأُمّ خاصّة مع تقدّم الابن عليهما، لاشتراكهما في الأنوثية الموجبة لتأخّر المرتبة، وتساويهما في الرتبة بالنسبة إلى المنفق عليه، وليس في الباب دليل واضح، وقلّ من تعرّض من أصحابنا للبحث عن ذلك.
ص: 193
الرابعة: • إذا دافع بالنفقة الواجبة أجبره الحاكم، فإن امتنع حبسه. وإن كان له مال ظاهر جاز أن يأخذ من ماله ما يصرف في النفقة. وإن كان له عروض أو عقار أو متاع جاز بيعه؛ لأنّ حق النفقة كالدين.
_____________________________________
والوجه استواء الابن والبنت والأم مع الولد مطلقاً، وبه قطع في التحرير(1) ، وتردّد في القواعد(2).
تنبيهات :
الأوّل: لو كان الأقرب معسراً وأوجبناها على الأبعد فأنفق ثمّ أيسر الأقرب تعلّق به الوجوب حينئذٍ، ولا يرجع الأبعد عليه بما أنفق؛ لأنّه كان مخاطباً بالوجوب قبل يسار الأقرب لا نائباً عنه.
الثاني : لو كان له ولدان ولم يقدر إلّا على نفقة أحدهما وله أب وجب على الأب نفقة الأخرى. فإن اختلفا في قدر النفقة وكان مال الأب يسع أحدهما بعينه كالأقلّ نفقة اختصّ به ووجبت نفقة الآخر على جده. وإن تساويا في النفقة واتّفقا على الإنفاق بالشركة أو على أن يختصّ كلّ واحد منهما بواحد فذاك، وإن اختلفا عمل بقول من يدعو إلى الاشتراك. وكذا يحكم بالاشتراك لو أراد كلّ منهما الاختصاص بواحد. ويحتمل قويّاً القرعة.
الثالث: لو كان للأبوين المحتاجين ابن لا يقدر إلا على نفقة أحدهما، وللابن ابن موسر، فعلى ابن الابن باقي نفقتهما. وحكمهما في الاختلاف والاتّفاق كالسابق.
قوله: «إذا دافع بالنفقة الواجبة أجبره الحاكم» إلى آخره.
لا فرق في هذا الحكم بين نفقة الزوجة والأقارب لاشتراكهما في الوجوب وإن اختلفا بالقوة والضعف. وللحاكم إجبار من يقصّر في دفع الواجب، فإن امتنع من الدفع مع أمره تخيّر الحاكم بين حبسه وتأديبه لينفق بنفسه، وبين أن يدفع من ماله مقدار النفقة إن كان له مال ظاهر. ولو توقّف على بيع شيء من عقاره أو ماله جاز؛ لأنّ حق النفقة واجب، فكانت في ذلك كالدين، وإن فارقته نفقة القريب بعد مضي الوقت؛ لأنّ الكلام هنا في حكمها في الوقت.
ص: 194
القول في نفقة المملوك
• تجب النفقة على ما يملكه الإنسان من رقيق وبهيمة. أما العبد والأمة فمولاهما بالخيار في الإنفاق عليهما من خاصة أو من كسبهما.
_____________________________________
ولو كان المنفق غائباً تولى الحاكم النفقة من ماله كالحاضر الممتنع. وله أن يأذن للمنفق عليه في الاستدانة والإنفاق ثمّ يرجع عليه به كما مرّ(1). وقد تقدم الكلام في أمر النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) هنداً في أخذ قدر كفايتها وولدها من مال الزوج(2).
ولو لم يقدر على الوصول إلى الحاكم ففي جواز استقلاله بالاستقراض عليه أو البيع من ماله مع امتناعه أو غيبته وجهان أجودهما الجواز؛ لأنّ ذلك من ضروب المقاصة حيث يقع أخذ القريب في الوقت والزوجة مطلقاً.
ولو تعدّد المنفق وامتنع أحدهم أو غاب دون الباقين أنفق الحاكم من مال الممتنع أو الغائب بحسب ما يخصّه، وأنفق الباذل ما يخصّه منها. ولو لم يجد الحاكم مالاً ولا مقرضاً أمر الحاضر بالإنفاق بعضها مما عليه وبعضها قرضاً على شريكه فيه.
قوله: «تجب النفقة على ما يملكه الإنسان من رقيق وبهيمة» إلى آخره.
ممّا يجب على الإنسان الإنفاق عليه ما يملكه من الحيوان إنساناً أم بهيمة؛ لحرمة الروح، ولما روي عن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف»(3) . وقوله : «عذبت امرأة في هرة أمسكتها حتى ماتت من الجوع، فلم تكن تطعمها ولا ترسلها لتأكل من خشاش الأرض»(4) . والخشاش - بفتح الخاء وكسرها - هوامّها (5).
ص: 195
•ولا تقدير لنفقتهما، بل الواجب قدر الكفاية من إطعام وإدام وكسوة. ويرجع في جنس ذلك كله إلى عادة مماليك أمثال السيد من أهل بلده.
__________________________________________
ولا فرق في المملوك بين الصغير والكبير والصحيح والأعمى والزمن والمرهون والمستأجر وغيرها، ولا بين الكسوب وغيره، لكن في الكسوب يتخيّر المولى بين الإنفاق عليه من ماله وأخذ كسبه، وبين إيكال نفقته إلى الكسب، فإن لم يف فالباقي على السيد. ولو تعدّد المالك فالنفقة عليهم موزّعة بحسب الملك.
قوله: «ولا تقدير لنفقتهما ، بل الواجب قدر الكفاية» إلى آخره.
المعتبر من هذه النفقة قدر الكفاية، ولا تتقدر بقدر كنفقة القريب.
وهل المعتبر كفاية مثله في الغالب أو كفاية نفسه؟ وجهان أجودهما الثاني، فتراعي رغبته وزهادته وكثرة أكله بحيث لا يقوم به دون ذلك وقلته، فلو كان أكله زائداً عن أمثاله وفقد الزيادة يؤثّر في قوته وبدنه لزمت السيد. ومثله نفقة القريب.
وأمّا الجنس فيعتبر غالب القوت الذي يطعم منه المماليك في البلد لأمثال السيّد من الحنطة والشعير وغيرهما. وكذا الإدام الغالب والكسوة الغالبة من القطن والكتان والصوف. ويراعى حال السيد في اليسار والإعسار والمقام فيجب ما يليق بحاله من رفيع الجنس الغالب وخسيسه ولا يجوز الاقتصار في الكسوة عن ذلك وإن لم يتأذ بحرّ ولا برد؛ لأنّ ذلك يعد تحقيراً وإذلالاً.
ولو كان السيد يتنعم في الطعام والإدام والكسوة استحبّ أن يدفع إليه مثله، ولا يجب، بل يجوز الاقتصار على ما دونه إذا كان هو الغالب. وما روي أنّه قال: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل ويلبسه ممّا يلبس»(1) . محمول على الاستحباب، أو على أنّ الخطاب للعرب الذين مطاعمهم وملابسهم متقاربة، أو على أنّه جواب سائل علم حاله فأجاب على ما اقتضاه الحال، كما وقع في كثير من
ص: 196
...
__________________________________________
أجوبته(صلی الله علیه و آله و سلم) . ولو كان السيد يطعم ويلبس دون المعتاد غالباً - بخلاً أو رياضة - لزمته رعاية الغالب للرقيق، فليس له الاقتصار على ما اقتصر عليه.
ولو كان له مماليك فالأولى التسوية بينهم مع اتفاقهم في الجنس وإن اختلفوا في النفاسة
والخسة. وله تفضيل ذوات الجمال من الإماء والسراري مطلقاً؛ حملاً على الغالب.
ويستحبّ أن يجلس رقيقه معه على المائدة ويطعمهم، خصوصاً إذا كان هو الذي يعالج طعامه، فإن لم يفعل فينبغي له أن يعطيه منه ولو لقمةٌ، روي أنه(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه وقد كفاه حرّه وعمله فليقعده فليأكل معه، وإلا فليناوله أكلةٌ من طعام»(1).
وفي رواية أخرى: «إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حرّه ودخانه فليجلسه معه، فإن أبي فليروغ له اللقمة واللقمتين»(2) والأكلة - بالضم - اللقمة(3)، وروّغها: إذا روّاها دسماً (4).
وربما ذهب بعضهم إلى وجوب أحد الأمرين تخييراً؛ عملاً بظاهر الأمر مع كون الإجلاس أفضل(5). والوجه أنّ ذلك على وجه الاستحباب ندباً إلى التواضع ومكارم الأخلاق والاستحباب فيمن عالج الطعام ،آكد، ورعاية هذا الخلق في حقّ الحاضرين أهم. وليكن ما يناوله من اللقمة كبيرة تسد مسداً، دون الصغيرة التي تهيج الشهوة ولا تقضي النهمة.
واعلم أنّ نفقة الحيوان كنفقة القريب في أنّها إمتاع لا تمليك، بل هنا أولى؛ لعدم قبوله
ص: 197
•ولو امتنع عن الإنفاق أجبر على بيعه أو الإنفاق. ويستوي في ذلك القنّ والمدبّر وامّ الولد.
____________________________________
الملك مطلقاً على أصح الأقوال، فلا تصير ديناً بتأخيرها، بل تسقط بمضي الزمان وإن فعل حراماً. ولو دفع إليه الطعام ثم أراد إبداله فله ذلك ما لم يتضمن تأخير الأكل عن المعتاد.
قوله: «ولو امتنع عن الإنفاق أجبر على بيعه أو الإنفاق» إلى آخره.
إذا امتنع المولى من الإنفاق على المملوك مع قدرته عليه أجبره الحاكم على الإنفاق أو البيع، وإن لم يكن له مال وكان ذا كسب خيّره بين البيع والتكسّب والإنفاق عليه إن وفى الكسب به. ومع التعذّر يتعيّن البيع إن لم يمكن الإنفاق عليه من بيت المال، أو تبرّع به متبرع، أو من الزكاة ونحوها، ولو تعذر البيع لعدم الراغب أجبر على الإنفاق عليه؛ لأنّ الواجب المخيّر إذا تعذّر بعض أفراده تعيّن الباقي، فلو لم يبق منه إلا فرد صار كالواجب المعين.
ولا فرق في ذلك بين القنّ والمدبّر وأم الولد؛ لاشتراك الجميع في المملوكية، إلا أن أُمّ الولد لا تباع بل يجبر على الإنفاق عليها خاصّةً، ومع تعذره - لفقره وتعذر الإنفاق عليها من بيت المال ونحوه - لم يجب تعجيل عتقها، كما لا يجب عتق غيرها من الرقيق.
وهل يجوز بيعها حينئذ؟ وجهان، من عموم النهي عن بيع أُمّ الولد(1) المتناول لذلك ، ومن جواز بيعها فيما هو أقلّ ضرراً من هذا، فإنّ فيه حفظ النفس من الهلاك، ولعله أقوى، وبه قطع الشهيد (رحمه الله تعالى) في اللمعة(2) .
وخرج بمن عدّد من أنواع المماليك المكاتب، فإن نفقته تسقط عن المالك وتثبت في كسبه، وكذا لو اشترى المكاتب مملوكاً أو اتّهب أو أوصي له - حيث جوزناها - ولو بابنه وأبيه، فيجب عليه الإنفاق ما دام مملوكاً له، فإذا أُعتق سقطت ما دام مكاتباً؛ لأنّ نفقة القرابة غير واجبة عليه.
ص: 198
•ويجوز أن يخارج المملوك، بأن يضرب عليه ضريبة ويجعل الفاضل له إذا رضي. فإن فضل قدر كفايته وكله إليه وإلا كان على المولى التمام. ولا يجوز أن يضرب عليه ما يقصر كسبه عنه، ولا ما لا يفضل معه قدر نفقته، إلا إذا قام بها المولى.
__________________________________________
قوله: «ويجوز أن يخارج المملوك» إلى آخره.
المخارجة هي ضرب خراج معلوم على الرقيق يؤديه كلّ يوم أو مدّة ممّا يكتسبه. وليس للعبد أن يجبر السيد عليها إجماعاً، ولا للسيد إجبار العبد على أصح القولين؛ لأنّه يملك استخدامه المعتاد لا تحصيل ذلك القدر المطلوب منه بالكسب واختار في التحرير جواز إجباره عليها إذا لم يتجاوز بذل المجهود(1) ؛ لأنّه يملك منافعه فله نقلها إلى غيره بالعوض علی کره منه والمخارجة مثله.
وإذا تراضيا فليكن له كسب دائم يفي بذلك الخراج فاضلاً عن نفقته وكسوته إن جعلهما المولى في كسبه. وإذا وفى وزاد ما يكتسبه فالزيادة مبرّة من السيّد إلى عبده وتوسيع عليه. وإن ضرب عليه أكثر ممّا يليق بحاله منعه منه الحاكم، وقد ورد: «لا تكلّفوا الصغير الكسب فيسرق، ولا الأمة غير ذات الصنعة فتكتسب بفرجها»(2). ويجبر النقصان في بعض الأيّام بالزيادة في بعضها حيث شرطها لمدة تسع ذلك. ولا يخفى أنّ المخارجة لا تلزم استدامة كما لا تجب ابتداء.
واعلم أنّه لا يجوز للمولى أن يكلّف رقيقه العمل إلّا ما يطيقه ويعتاد لمثله.
ولا يكلفه الأعمال الشاقة، إلّا في بعض الأوقات المعتادة لها، ولا ما إذا قام به يوماً أو يومين ضعف بعدها شهراً أو شهرين، وإذا عمل بالنهار أراحه بالليل، وبالعكس. ويريحه في أيام الصيف في وقت القيلولة ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة.
ص: 199
وأمّا نفقة البهائم المملوكة فواجبة، سواء كانت مأكولةً أو لم تكن. والواجب القيام بما تحتاج إليه، فإن اجتزأت بالرعي وإلّا علفها. فإن امتنع أجبر على بيعها، أو ذبحها إن كانت تقصد بالذبح، أو الإنفاق. وإن كان لها ولد وفّر عليه من لبنها قدر كفايته. ولو اجتزأ بغيره من رعي أو علف جاز أخذ اللبن.
____________________________________________
قوله: «وأمّا نفقة البهائم المملوكة فواجبة» إلى آخره.
من ملك دابّة لزمه علفها وسقيها؛ لحرمة الروح، ويقوم مقام السقي والعلف تخليتها لترعى وترد الماء إن كانت ممّا ترعى وتجتزئ به لخصب الأرض، ولم يكن مانع من ثلج وغيره. وإن أجدبت الأرض وكانت لا تجتزئ بما ترعى فعليه أن يضيف إليه من العلف ما يكفيها. ويطّرد ذلك في كلّ حيوان محترم، فإن امتنع من ذلك أجبره الحاكم على بيعها أو صيانتها بالعلف أو التخلية، أو ذبحها إن كانت ممّا تقصد بالذبح للحم أو لتذكية الجلد على أصحّ القولين.
وإن لم ينتفع بها بالذبح أجبر على الإنفاق أو البيع. فإن لم يفعل ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحال. وإنّما يتخيّر مع إمكان فعل كلّ واحد من الأفراد وإلا وجب الممكن، حتى لو انحصر في فرد تعيّن كما مرّ. وإن كان لها ولد وفّر عليه من لبنها ما يكفيه وحلب ما يفضل عنه، إلّا أن تتأدّى كفايته بغير اللبن.
تنبيهات:
[الأوّل:] لا يجوز تكليف الدابة ما لا تطيقه من تثقيل الحمل وإدامة السير. ويجوز غصب العلف لإبقائها إذا لم يوجد غيره ولم يبذله المالك بالعوض، كما يجوز غصبه كذلك لحفظ نفس الإنسان، ويلزمه المثل أو القيمة.
[الثاني:] ولا يجوز الحلب إذا كان يضرّ بالبهيمة لقلّة العلف وإن لم يضرّ ولدها. ويكره تركه إذا لم يكن في الحلب إضرار بها؛ لما فيه من تضييع المال والإضرار بالبهيمة ويحتمل الوجوب، ويستحب أن لا يستقصي في الحلب، وأن يقص الحالب أظفاره كيلا يؤذيها بالقرص.
ص: 200
...
_____________________________________
[الثالث ] ويبقى للنحل شيء من العسل في الكوارة(1). ولو احتاجت إليه كوقت الشتاء - وجب إبقاء ما يكفيها عادةً. ويستحبّ أن يبقى أكثر من الكفاية، إلا أن يضرّ بها.
[الرابع:] وديدان القزّ تعيش بورق التوت، فعلى مالكها القيام بكفايتها منه وحفظها من التلف. فإن عزّ الورق ولم يعتن بها باع الحاكم من ماله واشترى لها منه ما يكفيها. ولا يجوز إتلافها لذلك. وإذا جاء وقتها جاز تجفيف جوزها في الشمس - وإن هلكت - لتحصيل غايتها.
وبقي من المال ما لا روح فيه كالعقار، فلا يجب القيام بعمارته، ولا زراعة الأرض، لكن یکره تركه إذا أدى إلى الخراب.
وفي وجوب سقي الزرع والشجر وحرثه مع الإمكان قولان أشهرهما العدم.
***
تمّ قسم العقود بحمد الله تعالى ومنّه وحسن توفيقه. والحمد لله أوّلاً وآخراً، وعلى كلّ حال فرغ من تأليف هذا الشرح ضحى يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستّين وتسعمائة من الهجرة النبويّة على مشرّفها السلام(2).
ص: 201
ص: 202
فی الإیقاعات
وهي أحد عشر كتاباً :
في الإيقاعات
1.كتاب الطلاق
2.كتاب الخلع والمباراة
3.كتاب الظهار
4. كتاب الإيلاء
ه. كتاب اللعان
6.كتاب العتق
7.كتاب التدبير والمكاتبة والاستيلاد
8.كتاب الإقرار
9.كتاب الجعالة
10. كتاب الأيمان
11. كتاب النذر
ص: 203
ص: 204
•كتاب الطلاق
والنظر في الأركان والأقسام واللواحق.
وأرکانه أربعۀ:الركن الأول في المطلق ويعتبر فيه شروط أربعة:
--------------------------------------------------------------------------
کتاب الطلاق
قوله: «كتاب الطلاق».
الطلاق - لغةٌ - حلّ القيد، ويطلق على الإرسال والترك، يقال: ناقة طالق، أى مرسلةً
ترعى حيث تشاء، وطلّقت القوم : إذا تركتهم(1).
وشرعاً: إزالة قيد النكاح بصيغة «طالق» وشبهها.
ويقال: طلّق الرجل امرأته تطليقاً ، وطَلَقت هي تطلُق طلاقاً، فهي طالق وطالقة. وعن الأخفش أنّه لا يقال: طَلُقت بالضم(2). وفي ديوان الأدب: إنّه لغة(3).
ص: 205
[الشرط] الأوّل: البلوغ
• فلا اعتبار بعبارة الصبي قبل بلوغه عشراً. وفيمن بلغ عشراً عاقلاً وطلّق للسنة رواية بالجواز فيها ضعف.
-----------------------------------------------------------------------
قوله: «فلا اعتبار بعبارة الصبيّ قبل بلوغه عشراً» إلى آخره.
الرواية التي أشار إليها رواها ابن فضّال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (علیه السلام قال: «يجوز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين»(1). وضعفها بالرجلين المذكورين، فإنّهما فطحيّان(2)، ومع ذلك عمل بمضمونها الشيخان(3) وجماعة من المتقدمين(4).
وقد روى في معناها ابن أبي عمير - في الحسن - مرسلاً عن أبي عبد الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجوز طلاق الصبيّ إذا بلغ عشر سنين»(5).
وروى ابن بکیر جواز طلاقه غير مقيد بالعشر أيضاً عنه قال: «يجوز طلاق الغلام إذا
كان قد عقل، ووصيته وصدقته وإن لم يحتلم»(6).
وفي معناها موقوفة سماعة قال: سألته عن طلاق الغلام ولم يحتلم وصدقته، قال: «إذا طلّق للسنّة ووضع الصدقة في موضعها وحقّها فلا بأس، وهو جائز»(7) وعمل بمضمونها
ص: 206
•ولو طلق وليه لم يصحّ؛ لاختصاص الطلاق بمالك البضع، وتوقّع زوال حجره غالباً.
----------------------------------------------------------------------------
ابن الجنيد فلم يقيّد بالعشر(1). ولم يعتبر المصنّف خلافه، بل اقتصر على نقل القول المشهور.
والأصحّ عدم صحّته مطلقاً؛ لضعف المستند ومخالفته للأصول الشرعيّة وأكثر الأمّة، مع أنه قد روى أبو الصبّاح الكناني بطريق قريب إلى الصحّة(2) عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ليس طلاق الصبيّ بشيء»(3)، وروى أبو بصير عنه (علیه السلام) قال: «لا يجوز طلاق الصبيّ ولا السكران»(4). وهذا مذهب ابن إدريس(5)والمتأخّرين(6).
قوله: «ولو طلّق وليه لم يصحّ؛ لاختصاص الطلاق بما لك البضع» إلى آخره.
أشار بالتعليل الأوّل إلى الرواية عنه أنه قال: «الطلاق بيد من أخذ بالساق»(7) والمبتدأ منحصر في خبره، وهو يقتضي انحصار وقوع الطلاق المعتبر في الزوج المستحق للوصف. وبقوله «وتوقّع زوال حجره إلى بيان الفرق بينه وبين المجنون، حيث يجوز للولي أن يطلق عنه مع المصلحة بخلاف الصبيّ؛ لأنّ الصبيّ لحجره أمد يتوقّع زواله بالبلوغ غالباً، بخلاف المجنون فإنّه لا أمد له.
وقيّد بالغلبة؛ لجواز بلوغه فاسد العقل، فيجوز طلاقه عنه حينئذ مع المصلحة،
كما سيأتي.
ص: 207
•ولو بلغ فاسد العقل طلّق وليه،
مع مراعاة الغبطة، ومنع منه قوم، وهو بعيد».
--------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو بلغ فاسد العقل طلّق وليه مع مراعاة الغبطة، ومنع منه قوم، وهو بعيد». المشهور بين الأصحاب المتقدّمين منهم والمتأخّرين - ومنهم الشيخ في النهاية(1) وابن الجنيد(2) وابن بابويه(3) وأتباع الشيخ(4) والمتأخّرون (5)- جواز طلاق الولي عن المجنون المطبق مع الغبطة؛ لأنّ مصلحة المجنون منوطة بالوليّ عنه، لتعذّر إسنادها إليه، وعدم توقّع زوال عذره ، فلو لم يجعل للوليّ هذا التصرّف لزم تضرّر المجنون بتقدير استغنائه عن الزوجة وكون مصلحته في مفارقتها، والضرر منفي بالآية(6) والرواية(7)، بخلاف الطفل؛ لأنّ نكاحه منوط بالمصلحة، وعذره متوقّع الزوال.
ولصحيحة أبي خالد القمّاط قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): الرجل الأحمق الذاهب العقل يجوز طلاق وليّه عليه؟ قال: «ولمَ لا يطلق هو؟» قلت: لا يؤمن إن هو طلّق أن يقول غداً لم أُطلّق، أو لا يحسن أن يطلّق. قال: «ما أرى وليّه إلا بمنزلة السلطان»(8).
ص: 208
...
-----------------------------------------------------------------------------
وروى الصدوق عن الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن طلاق المعتوه الزائل العقل أيجوز؟ قال: «لا»(1). وعن أبي بصير عنه (علیه السلام) أنّه سئل عن المعتوه يجوز طلاقه؟ فقال: «ما هو؟» فقلت: الأحمق الذاهب العقل، فقال: «نعم»(2). ثمّ قال ابن بابويه: يعني إذا طلّق عنه وليه، فأمّا أن يطلق هو فلا؛ لما رواه صفوان بن يحيى عن أبي خالد القمّاط قال قلت لأعبد الله (علیه السلام): رجل يعرف رأيه مرّةً وينكره أخرى، يجوز طلاق وليه عنه؟ فقال: «ما له هو لا يطلق؟» قال قلت: لا يعرف حدّ الطلاق، ولا يؤمن عليه إن طلّق اليوم أن يقول غداً لم أطلّق، فقال: «ما أراه إلّا بمنزلة الإمام - يعني الولي-»(3).
وفي الاحتجاج بهذه الأخبار نظر؛ لأنّ جعل الوليّ بمنزلة الإمام أو السلطان لا يدلّ على جواز طلاقه عنه. ولأنّ متن الحديثين لا يخلو من قصور؛ لأن السائل وصف الزوج بكونه ذاهب العقل، ثمّ يقول له الإمام ما له لا يطلق؟ مع الإجماع على أنّ المجنون ليس له مباشرة الطلاق ولا أهليّة التصرّف، ثمّ يعلّل السائل عدم طلاقه بكونه ينكر الطلاق أو لا يعرف حدوده، ثمّ يجيبه بكون الولي بمنزلة السلطان. وكلّ هذا يضعّف الاحتجاج بها. والدليل الأوّل من غير الأخبار بمجرّده لا يصلح حجّة في ذلك إلّا مع تحقّق الضرر
ليمكن الاحتجاج بخبر الإضرار(4)، لا بمجرد ما ادّعوه من الجواز مع الغبطة. وأيضاً فهذه الأخبار ليس فيها تقييد باشتراط طلاقه بالمصلحة والغبطة للمجنون.
ومن ثم ذهب ابن إدريس إلى عدم الجواز(5). وقبله الشيخ في الخلاف؛ محتجّاً بإجماع
ص: 209
...
------------------------------------------------------------------------------------
الفرقة، وبأصالة بقاء العقد وصحّته، وبقوله (علیه السلام): «الطلاق لمن أخذ بالساق»(1) والزوج هو الذي له ذلك دون غيره(2).
وزاد ابن إدريس الاحتجاج بقوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ»(3) فأضاف الطلاق إلى الزوج، فمن جعله لغيره يحتاج إلى دليل، وذكر حديث الساق، ثمّ أورد على نفسه إنّ هذا والٍ عليه وناظر في مصالحه، فله فعل ما يشاء ممّا هو راجع إلى مصالحه. وأجاب بالمعارضة بالصبي، فإنّه لا يطلّق عنه وليّه مع كونه ناظراً في مصالحه. وبأنّ الطلاق شرطه مقارنة نيّة المطلّق الذي هو الزوج، وهو مفقود في المجنون(4).
ولقد تمالأ عليه العلّامة في المختلف، وزاد في تضعيف كلامه بما لا يحتمله، وبالغ في إنكاره عليه(5)، مع سبق الشيخ إلى ذلك، ودعواه الإجماع عليه(6)، مع مخالفته هو نفسه في ذلك في النهاية وكتابي الأخبار(7).
والعجب هنا أنّ الشيخ فخر الدين ادّعى في شرحه الإجماع على جواز طلاق الوليّ عن
المجنون المطبق(8)، مع دعوى الشيخ الإجماع على عدمه وموافقة ابن إدريس له.
والحق أنّ الإجماعين ممنوعان. وتكلّف الاستناد في مثل ذلك على معلوميّة نسب المخالف في الحكم مشترك بين معظم الأحكام الشرعيّة. ومع هذا كلّه فاعتمادنا على العمل بالمشهور من الجواز.
ص: 210
الشرط الثاني: العقل
• فلا يصحّ طلاق المجنون، ولا السكران، ولا من زال عقله بإغماء أو شرب مرقد؛ لعدم القصد.
ولا يطلّق الوليّ عن السكران؛ لأنّ زوال عذره غالب، فهو كالنائم. ويطلّق عن
المجنون، ولو لم يكن له وليّ طلّق عنه السلطان أو من نصبه للنظر في ذلك.
---------------------------------------------------------------------------
والجواب عن حجة المانع بمنع الإجماع. والأصالة مقطوعة بالطلاق الصادر من الوليّ
المراعي للمصلحة أو الدافع للضرر النافذ تصرّفه فيما فيه مصلحته من غير الطلاق فاستناده ليس بجيد. والخبر - مع تسليم سنده - لا ينافي ذلك؛ لأنّ طلاق الوليّ كطلاقه، كما يجوز طلاق الوكيل بالإجماع؛ إذ لم يوجب أحد إيقاع الطلاق مباشرة لأجل ذلك.
وينبغي أن يجعل دلالته على عدم جواز طلاق الفضولي ونحوه.
والكلام في دلالة الآية(1) كالخبر.
واشتراط نية المطلق يعتبر فى مباشرته كالوكيل، وتجعل نيته كنيّة الزوج.
قوله: «فلا يصح طلاق المجنون، ولا السكران، ولا من زال عقله» إلى آخره.
لا خلاف في عدم صحة طلاق من ذكر مباشرةً. ويدل عليه - مع الإجماع - أنه مشروط
بالقصد، ولا قصد لهؤلاء.
ويدلّ عليه - مع ذلك - أخبار كثيرة، منها رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن طلاق السكران وعتقه، قال: «لا يجوز»(2). وسأل زكريا بن آدم الرضا (علیه السلام) عن طلاق السكران والصبي والمعتوه والمغلوب على عقله ومن لم يتزوج بعد فقال: «لا يجوز»(3) وغيرهما(4).
ص: 211
الشرط الثالث • الاختيار
فلا يصح طلاق المكره. ولا يتحقق الإكراه ما لم تكمل أُمور ثلاثة:
كون المكره قادراً على فعل ما توعد به.
وغلبة الظنّ أنّه يفعل ذلك مع امتناع المكره.
---------------------------------------------------------------------------------
والمراد بالسكران من بلغ بتناول المسكر حداً يرفع قصده. وقد قال بعض الفضلاء ف--ي حدّه: إذا اختلط كلامه المنظوم وانكشف سرّه المكتوم(1). والمقصود أن يصير مثل المجنون الذي لا تنتظم أُموره، أما ما دام في ابتداء نشاطه فهو كالعاقل، وإذا سقط كالمغشي عليه فكالنائم والمغمى عليه ولا اشتباه إذا بلغ هذا الحدّ.
ولا يصحّ طلاق الوليّ عنه، كما لا يصحّ عن الصبيّ والنائم والمغمى عليه؛ لاشتراك الجميع في أنّ لهم أمداً يرتقب، بخلاف المجنون، والمراد به المطبق كما استفيد من أدلّة الجواز ، فلو كان يعتريه أدواراً لم يجز الطلاق عنه حالة الدور؛ لأنّ ترقّب عقله أقرب من الصبيّ الممتنع الطلاق عنه. وإطلاق المصنّف وجماعة(2) المجنون منزّلٌ عليه، ولو أرادوا
العموم منعنا الحكم فيه. والمراد بقوله «ولو لم يكن له وليّ» الوليّ الخاصّ كالأب والجد، وإلّا فالسلطان وليّه على العموم، وكذا من نصبه.
قوله: «الاختيار، فلا يصح طلاق المكره - إلى قوله - مع الضرر اليسير».
التصرّفات القولية المحمول عليها بالإكراه باطلة عندنا وعند أكثر العلماء، سواء ذلك الطلاق والنكاح والبيع وسائر المعاملات وغيرها. والأصل فيه وراء الإجماع
ص: 212
وأن يكون ما توعد به مضرّاً بالمكره في خاصّة نفسه أو من يجري مجرى نفسه كالأب والولد، سواء كان ذلك الضرر قتلاً أو جرحاً أو شتماً أو ضرباً. ويختلف
----------------------------------------------------------------------------------------------
قوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم): «لا طلاق في إغلاق»(1) فسره علماء الغريب بالإكراه(2)، وقوله (صلّی الله علیه وآله و سلّم): «رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»(3) والمراد رفع أحكامه.
وروى زرارة في الحسن عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن طلاق المكره وعتقه، فقال: «لیس طلاقه بطلاق ولا عتقه بعتق»(4).
وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: «لو أنّ رجلاً مسلماً مرّ بقوم ليسوا بسلطان فقهروه حتى يتخوّف على نفسه أن يعتق أو يطلق ففعل، لم يكن عليه شيء»(5).
وقد جرت عادة الفقهاء بذكر حدّ الإكراه في هذا المحلّ، مع الاحتياج إليه فيما قبله من
العقود وغيرها.
وقد أشار المصنّف إلى أمور يتحقّق معها الإكراه، ويظهر من جملتها حدّه. وجملة ذلك
امور ثلاثة:
كون المكره غالباً قادراً على ما يهدّده به بولاية أو تغلب، وكون المكره مغلوباً عاجزاً
عن الدفع بفرار أو مقاومة أو استعانة بالغير.
وأن يعلم أو يغلب ظنه أنه لو امتنع مما يطلبه منه وقع به المكروه.
وأن يكون ما توعد به مضراً بالمكره في خاصة نفسه أو من يجري مجرى نفسه من أبيه
ص: 213
بحسب منازل المكرهين في احتمال الإهانة. ولا يتحقق الإكراه مع الضرر اليسير.
--------------------------------------------------------------------------------------
وولده وغيرهما من قتل أو جرح أو ضرب شديد أو حبس أو شتم أو إهانة واستخفاف إذا كان المطلوب منه وجيهاً يغض ذلك منه، ويختلف الضرب والشتم وما يجري مجراهما من
الإهانة باختلاف طبقات الناس وأحوالهم. أمّا التخويف بالقتل والقطع فلا يختلف.
ولم يذكر المصنّف من وجوه الإكراه التوعّد بأخذ المال والأصحّ تحقّقه به، واختلافه باختلاف حال الناس في اليسار وضدّه كالأخيرين، فإنّ منهم من يضرّ بحاله أخذ عشرة دراهم ومنهم من لا يضرّه أخذ مائة.
ومن العلماء من جعل أخذ المال من قبيل الأوّل، فلا يختلف الحال فيه باختلاف الناس
ومن وجعل الكثير منه والقليل محققاً للإكراه(1). وما ذكرناه أظهر.
والعبارة الجامعة لذلك كلّه أنّه حمل القادر على فعل أو توعّده بما يكون مضراً
بالمحمول ظلماً، مع رجحان إيقاعه به لو لم يفعل مطلوبه وعجز عن دفعه.
و تحرير المبحث يتمّ بأمور:
الأوّل: يستثنى من الحكم ببطلان فعل المكره ما إذا كان الإكراه بحقّ؛ فإنّه صحيح كإكراه الحربي على الإسلام والمرتدّ؛ إذ لو لم يصح لما كان للإكراه عليه معنى وله موارد كثيرة ذكرناها فيما سلف من هذا الكتاب(2).
والعبارة الجامعة لها - مع السابقة - أن يقال: ما لا يلزمه في حال الطواعية لا يصحّ منه إذا أتى به مكرهاً، وما يلزمه في حال الطواعية يصحّ مع الإكراه عليه.
ولا يخلو الحكم بإسلام الكافر مع إكراهه عليه من غموض من جهة المعنى وإن كان الحكم به ثابتاً من فعل النبيّ (صلّی الله علیه و آله وسلّم) فما بعده(3)؛ لأنّ كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عما في الضمير منزلة الإقرار، والظاهر من حال المحمول عليه بالسيف أنّه كاذب، لكن لعلّ الحكمة
ص: 214
...
----------------------------------------------------------------------------
فيه أنّه مع الانقياد ظاهراً وصحبة المسلمين والاطّلاع على دينهم يوجب له التصديق القلبي تدريجاً، فيكون الإقرار اللساني سبباً في التصديق القلبي.
الثاني: إنّما يُمنع(1) وقوع الطلاق بالإكراه إذا لم يظهر ما يدلّ على اختياره.
أمّا إذا ظهر بأن خالف المكره وأتى بغير ما حمله عليه حكم بوقوع الطلاق؛ لأنّ مخالفته
له تشعر باختياره فيما أتى به. وذكروا لذلك صوراً:
منها: ما يظهر فيه الاختيار.
ومنها: ما يلتبس أمره.
فمنها: أن يكرهه على طلقة واحدة فيطلق ثلاثاً، فإنّه يشعر برغبته واتّساع صدره للطلاق فيقع الجميع لا اثنتان مع احتماله؛ لأنّ صيغته الأولى يحكم عليها بالإكراه لعدم المعارض،
فتلغو ويقع ما بعدها. ووجه وقوع الجميع أن إيقاع الأخيرتين قرينة اختياره في الأُولى.
ولو أوقع الثلاث بصيغة واحدة، فإن كان يعتقد عدم صحة ما زاد على الواحدة بذلك فهو كما لو أوقع واحدة خاصة، بل أولى؛ لأنّ التلفظ بالثلاث على هذا الوجه مختلف في أنه يسد مسد الواحدة أم لا كما سيأتي(2). فقد أتى بالمحمول عليه على أدنى مراتبه.
وإن كان يعتقد وقوع الثلاث بهذا اللفظ كالمخالف وقع عليه الثلاث، لدلالته على الاختيار. ولا يحتمل هنا إلغاء واحدة كما احتمل في السابق المترتب؛ لأنّ هذا لفظ واحد مخالف للمكره عليه ابتداء فوقع صحيحاً، بخلاف الثلاث المترتبة، فإنّ الأوّل منها عين المكره عليه. ومنها ما لو انعكس بأن أكرهه على ثلاث طلقات فطلّق واحدةً، فقيل: تقع الواحدة؛ لأنها غير ما أكرهه عليه(3)، والأقوى هنا عدم الوقوع؛ لأنّ الواحدة بعض ما أكرهه عليه ولأنه قد قد يقصد دفع مكروهه بإجابته إلى بعض مطلوبه، ولا يقصد إيقاع الواحدة.
ص: 215
...
---------------------------------------------------------------------------
ومنها: لو أكرهه على طلاق زوجة فطلّق زوجتين، فإن وقع ذلك بلفظ واحد -كما لو قال له: طلّق زوجتك زينب، فقال لها ولفاطمة: أنتما طالقتان - وقع عليهما؛ لأن ذلك خلاف
المكرَه عليه وقد عدل عنه إلى غيره، فلا مانع من صحته.
وإن قال زينب طالق وفاطمة طالق طلّقت فاطمة ولم تطلّق زينب؛ لأنّها مكره عليها بخلاف الأُخرى. ومنهم من لم يفصل بين العبارتين وأطلق الحكم بوقوع الطلاق عليهما(1). والفرق متجه.
ومنها: لو أكرهه على طلاق زوجتين فطلق واحدة عكس السابقة، قيل: يقع(2). والوجه عدم الوقوع كما قلناه فيما لو أكرهه على طلقات فطلق واحدة.
ومنها: لو أكرهه على طلاق واحدة معيّنة فطلق غيرها. ولا شبهة هنا في الوقوع؛ لأنّ
ذلك مباين لما أكرهه عليه بكل وجه.
ومنها: لو أكرهه على طلاق إحدى زوجتيه لا على التعيين فطلّق واحدة بعينها، قيل: يقع الطلاق؛ لأنه مختار في تعيينها(3)، ولأنّه لمّا عدل عن الإبهام إلى التعيين فقد زاد ع-ل-ى م-ا أكرهه عليه؛ لأنّ الإكراه على طلاق إحداهما لا على طلاق هذه، وطلاق هذه طلاق
إحداهما مع زيادة، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالكلّي ليس أمراً بجزئي معين(4).
ويحتمل قويّاً عدم الوقوع؛ لأنّ متعلّق الإكراه وإن كان كليّاً لكنه يتأدى في ضمن طلاق كلّ واحدة بعينها وبطلاق واحدة غير معيّنة، فكلّ واحد من الأفراد داخل في المكره عليه
و مدلول عليه بالتضمّن.
نعم، لو صرّح له بالحمل على طلاق واحدة مبهمة بأن يقول: إحداكما طالق، مثلاً -فعدل
ص: 216
...
--------------------------------------------------------------------------
عنه إلى طلاق معينة فلا شبهة هنا في وقوع الطلاق على المعينة؛ لأنّه غير المكره عليه جزماً.
ومنها: لو أكرهه على أن يطلق بكناية من الكنايات فطلّق باللفظ الصريح أو بالعكس عند القائل بصحته، أو عدل من صريح مأمور به إلى صريح آخر، فإنّه يقع الطلاق خصوصاً الأوّل؛ لأنه قد حمله على طلاق فاسد فعدل إلى صحيح، وعند مجوّزه عدل إلى غير الصيغة المكرَه عليها.
الثالث: لا يعتبر في الحكم ببطلان طلاق المكره التورية وإن كان يحسنها عندنا؛ لأنّ المقتضي لعدم وقوعه هو الإكراه الموجب لعدم القصد إليه، فلا يختلف الحال بين التورية وعدمها، ولكن ينبغي التورية للقادر عليها، بأن ينوي بطلاق فاطمة المكره عليها غير زوجته ممّن يشاركها في الاسم، أو ينوي طلاقها من الوثاق، أو يعلّقه في نفسه بشرط، ولو كان جاهلاً بها، أو أصابته دهشة عند الإكراه كسل السيف مثلاً - عذر إجماعاً.
الرابع: لو قصد المكره إيقاع الطلاق ففي وقوعه وجهان، من أن الإكراه أسقط أثر اللفظ
ومجرّد النية لا يعمل، ومن حصول اللفظ والقصد. وهذا هو الأصحّ.
الخامس: لو قال: طلّق زوجتي وإلا قتلتك، أو غير ذلك مما يتحقق به الإكراه فطلق
ففي وقوع الطلاق وجهان، أصحهما الوقوع؛ لأنّه أبلغ في الإذن.
ووجه المنع أنّ الإكراه يسقط حكم اللفظ، فصار كما لو قال لمجنون طلقها، فطلق. والفرق بينهما أن عبارة المجنون مسلوبة أصلاً، بخلاف عبارة المكره، فإنّها مسلوبة لعارض تخلف القصد، فإذا كان الأمر قاصداً لم يقدح إكراه المأمور.
السادس لو أكره الوكيل على الطلاق دون الموكل ففي صحته وجهان أيضاً، من تحقق
اختيار الموكل المالك للتصرّف، ومن سلب عبارة المباشر.
السابع: لو توعده بفعل مستقبل كقوله: إن لم تفعل لأقتلنّك أو أضر بنك غداً، ففي عدّه إكراها نظر، من حصول الخوف بإيقاع الضرر، ومن سلامته منه الآن، والتخلّص من الضرر
ص: 217
الشرط الرابع • القصد
وهو شرط في الصحة مع اشتراط النطق بالصريح. فلو لم ينو الطلاق لم يقع كالساهي والنائم والغالط. ولو نسي أنّ له زوجةً فقال: نسائي طوالق، أو زوجتي
----------------------------------------------------------------------------------------
يحصل بإيقاعه عند خوف وقوعه في الحال. وهذا قوي(1).
نعم، لو كان يحصل الإكراه في الآجل، على أنه إن لم يفعل الآن أوقع به المكروه ف--ي
الآجل وإن فعله ذلك الوقت، ورجح وقوع المتوعد به اتجه كونه إكراها؛ لشمول الحدّ له. الثامن: لا يحصل الإكراه بأن يقول: طلق امرأتك وإلا قتلت نفسى أو كفرت أو تركت الصلاة ونحوها، ولا بأن يقول وليّ القصاص لمن هو عليه: طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك؛ لأنّ ذلك حقه فلا يعد استيفاؤه ضرراً بالمأمور.
التاسع: لو تلفّظ بالطلاق ثمّ قال: كنتُ مكرهاً، وأنكرت المرأة، فإن كان هناك قرينة تدلّ على صدقه - بأن كان محبوساً، أو في يد متغلّب ودلّت القرينة على صدقه - قبل قوله بيمينه، وإلا فلا.
ولو طلّق فى المرض ثمّ قال: كنت مغشيّاً على أو مسلوب القصد، لم يقبل قوله إلا ببينة تقوم على أنّه كان زائل العقل في ذلك الوقت؛ لأنّ الأصل في تصرفات المكلّف الصحة إلى أن يثبت خلافها وإنّما عدلنا في دعوى الإكراه عن ذلك بالقرائن، لظهورها وكثرة وقوعها ووضوح قرائنها، بخلاف المرض.
العاشر: جميع ما ذكرناه آت فى غير الطلاق من النكاح والبيع والعتق وسائر التصرفات.
ولكن جرت العادة بالبحث عنه هنا كما أسلفناه(2).
قوله: «القصد وهو شرط في الصحّة مع اشتراط النطق بالصريح» إلى آخره.
القصد معتبر في صحة التصرّفات القولية من الطلاق وغيره إجماعاً.
ص: 218
طالق، ثم ذكر لم يقع به فُرقةٌ.
--------------------------------------------------------------------
ويدلّ عليه في الطلاق بخصوصه صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق»(1)، وقول الباقر (علیه السلام): «لا طلاق على سنّة وعلى طهر من غير جماع إلا بنية. ولو أنّ رجلاً طلّق ولم ينو الطلاق لم يكن طلاقه طلاقاً»(2). والمراد به أن يكون قاصداً بلفظ الطلاق - مثلاً - معناه، ولا يكفى القصد إلى لفظه من غير قصد معناه.
ثمّ عدم القصد قد يكون متخلّفاً عنهما معاً ، كالنائم تجري كلمة الطلاق على لسانه، ومثله الساهي، وقد قال (صلّی الله علیه وآله وسلّم): «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»(3). ولو استيقظ النائم وقد جرى لفظ الطلاق على لسانه فقال: أجزت ذلك الطلاق أو أوقعته، فهو لغو.
وقد يكون القصد متخلّفاً عن المعنى دون اللفظ كالغالط ، بأن سبق لسانه إلى لفظ الطلاق محاورته وكان يريد أن يتكلّم بكلمة أخرى، فإنّه لا يقع طلاقه؛ لعدم القصد إلى معناه.
وهل يقبل دعوى سبق اللسان؟ ظاهر العبارة يدلّ عليه. ووجهه أنّ ذلك أمر باطنى لا يعلم إلا من قبله، فيرجع إليه فيه؛ ولأن الأصل عدم القصد. ويحتمل عدم القبول؛ لأنّ الأصل في الأفعال والأقوال الصادرة عن العاقل المختار وقوعها عن قصد. و يمكن حمل عدم الوقوع في كلام المصنّف عليه في نفس الأمر لا في الظاهر، وأمّا في الظاهر فإن وجد قرينة تدلّ عليه قوي القبول وإلا فلا.
ومن هذا الباب ما لو نسي أن له زوجة فقال: نسائي طوالق، أو زوجتى طالق، ثم ذكر بعد التلفظ بذلك أنّ له زوجةً، فإنّه لا يقع في نفس الأمر ؛ لأنه غير قاصد لطلاق زوجته من اللفظ
أصلاً، وأمّا في الظاهر فيحكم عليه به.
ص: 219
• ولو أوقع وقال: «لم أقصد الطلاق» قبل منه ظاهراً، ودين بنيته باطناً وإن
تأخر تفسيره، ما لم تخرج من العدة؛ لأنه إخبار عن نيته.
--------------------------------------------------------------------------------------
ويظهر من المصنّف وأكثر الأصحاب قبول قوله في عدم القصد.
ولو كان اسم امرأته ما يقارب حروفه حروف طالق ك طالب وطارق وطالع، فقال: أنت طالق، ثمّ قال: أردت أن أقول: طالب أو نحو ذلك فالتفّ الحرف بلساني، قبل قوله؛ لقوة
القرينة وظهورها هنا، بخلاف السابق.
ولو قال لها وهو يحلّ وثاقها عنها: أنت طالق، وقال: أردت عن الوثاق، ففي قبول قوله ظاهراً وجهان كالسابق. ووجه المنع أنّ التلفظ بكلمة الطلاق كالمستنكر في حالة النكاح فإذا نطق بها بعد قبول التأويل.
وفي معنى الساهي من يحكي لفظ الغير مثل أن يقول قال فلان: «زوجتي طالق». وكذا
الفقيه إذا كان يكرّر لفظ الطلاق في تصويره وتدريسه. ومن صور سبق اللسان ما إذا طهرت امرأته من الحيض أو ظنّ طهارتها فأراد أن يقول:
أنت الآن ،طاهرة، فقال: طالقة.
قوله: «ولو أوقع وقال: لم أقصد الطلاق قبل منه ظاهراً» إلى آخره.
إطلاقه القبول يشمل ما لو أوقع لفظاً صريحاً مجرّداً عن قرينة عدم القصد إلى الطلاق وغيره، وما إذا كانت المرأة في العدّة الرجعية والبائنة، وما لو صادقته المرأة على ذلك
و عدمه.
والوجه في الجميع ما أشار إليه من أنّ ذلك إخبار عن نيته، ولا يمكن الاطلاع عليها إلا
من قبله، فكان قوله مقبولاً كنظائره من الأمور التي لا تعلم إلا من المخير. ويشكل ذلك على إطلاقه بما قدمناه من أنّ الظاهر من حال العاقل المختار القصد إلى الفعل، فإخباره بخلافه منافٍ للظاهر. ولو كان الأصل مرجحاً عليه هنا لزم مثله في البيع وغيره من العقود والإيقاعات مع الاتفاق على عدم قبول قوله فيه.
واختصاص الطلاق بذلك مشكل، بل الأمر فيه أشدّ؛ لقول النبي (صلّی الله علیه وآله و سلّم»: «ثلاثة جدهنّ جدّ
ص: 220
• وتجوز الوكالة في الطلاق للغائب إجماعاً، وللحاضر على الأصح.
--------------------------------------------------------------------------------
وهز لهنّ جدّ : النكاح والطلاق والرجعة»(1)؛ ولأنّ حق الغير متعلّق به فلا يقبل في حقه.
ولو فرّق بين الطلاق وغيره من العقود بأنّ القبول فيه مقيد بالعدة - وما دامت المرأة فيها فهي في علاقة الزوجية فلم تخرج عنه رأساً، بخلاف النكاح والبيع وغيرهما، فإن أمره يثبت بالعقد فلا يقبل من العاقد خلافه - لا ينقض ذلك بالعدّة البائنة، فإنّ الزوجية زائلة معها بالكليّة، وإنّما فائدتها استبراء الرحم من أثر الزوج وذلك أمر خارج عن الزوجيّة و من ثمّ تثبت العدّة البائنة للوطء بالشبهة مع انتفاء الزوجية أصلاً.
وربما خصّه بعضهم بوقوعه في العدة الرجعية. وهو كالمستغنى عنه أيضاً؛ لأنّ الزوج له الرجعة فى العدّة الرجعية بكلّ لفظ دلّ عليها، فدعواه عدم القصد حينئذ يقوم مقام الرجعة كما لو أنكر الطلاق، بل أقوى؛ لأنّ إنكار الطلاق قد يستند إلى عدم التفطن إليه ولو ذكره لما رجع، بخلاف دعوى عدم القصد إليه؛ لأنّه صريح في إرادة نقضه وعود الزوجيّة المقتضي للرجعة، فقبول قوله حينئذ من حيث إنه رجعة لا من حيث الرجوع إليه في القصد.
ويمكن أن يكون مستند حكمهم بذلك وتخصيص الطلاق بذلك رواية منصور بن يونس في الموثق عن الكاظم (علیه السلام) في حديث طويل محصله : أنه طلق امرأته ولم يكن له في طلاقها نية وإنّما حمله عليه بعض أقاربه، فقال له (علیه السلام): «ما بينك وبين الله فليس بشيء، ولكن إن قدموك إلى السلطان أبانها منك»(2).
والأقوى عدم القبول إلا مع قيام القرينة على صدقه كالأمثلة السابقة(3)، أو كونها في عدة رجعيّة فيجعل ذلك بمنزلة الرجعة. نعم، لو صادقته الزوجة على ذلك لم يبعد القبول؛ لأنّ الحق منحصر فيهما فيدينان بما يتفقان عليه، ويوكل أمرهما إلى الله تعالى. قوله: «تجوز الوكالة في الطلاق للغائب إجماعاً، وللحاضر على الأصح».
ص: 221
• ولو وكلها في طلاق نفسها قال الشيخ: لا يصح، والوجه الجواز.
--------------------------------------------------------------------------------
القول بجواز الوكالة فيه مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب، ويدلّ عليه صحيحة سعيد الأعرج عن الصادق (علیه السلام) في رجل جعل أمر امرأته إلى رجل فقال: اشهدوا أني قد جعلت أمر فلانة إلى فلان فيطلقها، أيجوز ذلك للرجل؟ قال: «نعم»(1)، وترك الاستفصال يفيد العموم، وغيرها من الأخبار(2)، ولأنه فعل قابل للنيابة؛ إذ لا يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه، ومن ثم وقع من الغائب إجماعاً فكذا من الحاضر؛ لاشتراكهما في المقتضي.
وذهب الشيخ(3) وأتباعه(4) إلى المنع من توكيل الحاضر فيه؛ استناداً إلى رواية زرارة عن الصادق (علیه السلام) قال: «لا تجوز الوكالة في الطلاق»(5) فحملها الشيخ على الحاضر؛ جمعاً بين الروايات وإلا فلا دلالة لها على الاختصاص. وضعف سندها بجماعة يمنع من جعلها معارضة للصحيح وتخصيصه بها. وعلى قول الشيخ تتحقق الغيبة بمفارقة مجلس الطلاق وإن كان في البلد.
قوله: «ولو وكلها في طلاق نفسها قال الشيخ: لا يصح والوجه الجواز».
ما دلّ على جواز النيابة فيه مطلقاً يشمل استنابتها كغيرها. واستند الشيخ في تخصيصها بالمنع(6) إلى أنّ القابل لا يكون فاعلاً، وظاهر قوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم): «الطلاق بيد من أخذ بالساق»(7).
ص: 222
• تفريع على الجواز: لو قال: «طلقى نفسك ثلاثاً» فطلقت واحدةً، قيل: يبطل، وقيل: يقع واحدةً . وكذا لو قال: «طلّقي واحدة»، فطلّقت ثلاثاً، قيل: يبطل، وقيل : يقع واحدةً، وهو أشبه.
--------------------------------------------------------------------------
فإنّه يقتضي عدم صحّة التوكيل مطلقاً، خرج منه غير المرأة بدليل من خارج فتبقى هي على أصل المنع.
ولا يخفى ضعف الدلالة، فإنّ المغايرة بين القابل والفاعل يكفي فيه الاعتبار، وهما مختلفان بالحيثية والخبر - مع تسليمه - لا يفيد الحصر. وعلى تقدير تسليم إفادته فما أخرج غيرها من الوكلاء عنه يخرجها؛ لتناوله لها. وأما الاستدلال على الجواز بتخيير النبيّ (صلّی الله علیه وآله و سلّم) نساءه(1) فضعيف؛ لأن ذلك من خصائصه. وقد قيل: يجب عليه طلاق من يختار مفارقتها. وقد تقدم الكلام فيه(2).
قوله: «تفريع على الجواز: لو قال: «طلّقي نفسك ثلاثاً، فطلّقت واحدةً» إلى آخره.
هنا مسألتان:
الأولى: لو قال: «طلّقي نفسك ثلاثاً» فاقتصرت على واحدة هل تصح الواحدة أم
تبطل؟ قولان(3).
وتحرير المبحث أنّه إما أن يقصد بقوله «طلّقي ثلاثاً» الثلاث المرسلة بلفظ واحد، أو يريد بها الثلاث الصحيحة الشرعية، وعلى تقدير إرادة الأوّل إما أن نقول: إن الثلاث المرسلة تصح منها واحدة أو يبطل الجميع.
فإن أراد الأوّل وقلنا ببطلانه مطلقاً فلا شبهة في بطلان ما فعلته من الواحدة؛ لأنّه وكلها
ص: 223
...
----------------------------------------------------------------------
في طلاق فاسد فطلّقت طلاقاً صحيحاً.
وإن قلنا بصحة واحدة منها احتمل أن تصح الواحدة التي أتت بها؛ لأنّ قوله «طلقي ثلاثاً على هذا التقدير في قوة «طلقي نفسك واحدة» لأنّ المعتبر منها هو الواحدة. ولأنّ
الواحدة مدلول عليها من الإذن في الثلاث تضمناً، فلا مانع من صحّتها.
ووجه البطلان أنّ التوكيل وقع في المجموع من حيث هو مجموع، والواحدة غيره. والوكالة تتبع غرض الموكل، وجاز تعلّق غرضه بهذه الصيغة بعينها، بل لو لم يعلم الغرض فالواجب اتباع مدلول لفظه وأيضاً فإنّ الصحيح من الثلاث واحدة على خلاف فيها، والتي أتت بها طلقة صحيحة بالإجماع، فلا تكون هي التي وكل فيها. وهذا أقوى.
وإن قصد بقوله «طلّقي ثلاثاً» الطلاق الصحيح فوقوع الثلاث كذلك يتوقف على تخلل الرجعة بينها. فإن وكلها في الرجعة أو قلنا: إنّ التوكيل في الطلقات يستلزم التوكيل في الرجعة؛ لأنّها لا تكون صحيحة إلا بها، فالتوكيل فيها يقتضي الإذن في تحصيل كلّ ما تتوقف عليه الصحة، فطلقت واحدة احتمل صحتها لدخولها في ضمن ما وكل فيه كما مرّ، ولأن صحة الثلاث تتوقف على سبق صحة الواحدة، فلو اشترطت صحة الواحدة بوقوع الثلاث لزم الدور، ولأنّ الحكم بتوقف الثانية على الرجوع في الأول يستلزم صحة الأولى، فإذا أوقعتها واقتصرت استصحب حكم الصحة، ويحتمل البطلان؛ لأنّ الموكل فيه هو المجموع ولم يحصل ، والغرض المتعلّق بالثلاث - وهو البينونة التامة - لا يحصل بالواحدة.
ولو قلنا: إنّ التوكيل في الطلاق لا يقتضي التوكيل في الرجعة ولم يصرح بها لم يكن التوكيل في الثلاث صحيحاً، فيحتمل قوياً صحته في الواحدة؛ إذ لا مانع منها، ويقع حينئذ منها لو أوقعتها، وعدمه؛ لأنّ التوكيل وقع في مجموع ولم يحصل.
والفرق بين الوكالة على هذا التقدير والوكالة في الثلاث المرسلة على القول بوقوع واحدة أن الواحدة هناك وقعت في ضمن لفظ واحد لم يقع مدلوله، وما وقع منه مختلف فيه، بخلاف الموكّل فيه هنا، فإنّه أمور متعدّدة لا بد على تقدير وقوعها صحيحةً من صحّة كلّ
ص: 224
...
-------------------------------------------------------------------
واحدة منها قبل أن تقع الأخرى، والواحدة صحيحة على كلّ تقدير.
الثانية: لو عكس فقال: «طلّقي نفسك واحدةً» فطلّقت ثلاثاً، فإن أوقعت الثلاث مرسلةً وقلنا بصحة الواحدة ففي صحتها هنا وجهان نعم؛ لأنها فعلت ما وكّلها فيه؛ لأنّ الفرض أنّه لم يقع إلا واحدة، فكأنّها لم تطلّق إلا واحدة كما أمرها، ولا؛ لأن الواحدة الموكّل فيها منفردةً
صحيحة بالإجما، بخلاف ما لو أوقعتها، فإنّ فيها خلافاً، فلا تكون فعلت ما وكلها فيه. ويمكن أن يقال: إنّ توكيلها في واحدة يقتضي إيقاع واحدة صحيحة أعم من أن تقع على وجه متفق عليه أو مختلف فيه، إذا كان الحاكم يحكم بصحتها، ولا نسلّم أن توكيلها في طلقة واحدة يدلّ على إيقاعها منفردة، بل على إيقاع واحدة في الجملة أعم من كونها منفردةً أو مجامعة لغيرها، فيكون ما فعلته من الواحدة في ضمن الثلاث المرسلة - حيث يحكم بصحتها - فرداً من أفراد ما وكلت فيه، فيصحّ.
وإن أوقعت ثلاثاً متعاقبةً فلا إشكال في صحة واحدة وهي الأولى؛ لأنّها بإيقاعها قد امتثلت عين ما وكّلت فيه، والباقي وقع فضولاً إن خللت بينها رجعتين، وباطلة محضاً إن لم ترجع.
وعلى التقديرين فالأخيرتان باطلتان، ولا يمنع بطلانهما من صحة الأولى التي حكم
بصحتها و طابقت مقتضى الوكالة.
واعلم أنّ الشيخ فخر الدين نزّل المسألتين على وقوع الطلقات الثلاث مرسلة ولم يتعرّض لحكم المتعاقبة. وحكم بالبطلان في الصورتين؛ للمخالفة في الأولى بإيقاع واحدة إجماعيّة مع كون الوكالة في واحدة مختلف فيها، والثانية بالعكس(1). وفي ترجيح المصنّف صحّة الواحدة في الثانية دون الأولى ما يؤذن بإرادة المرتبة(2)؛ إذ لا وجه للفصل بينهما على تقدير الإرسال.
ص: 225
الرکن الثانی فی المطلّقۀ
• وشروطها أربعة(1):
الأوّل: • أن تكون زوجةٌ ، فلو طلّق الموطوءة بالملك لم يكن له حكم، وكذا لو طلق أجنبيّةً وإن تزوّجها، وكذا لو علّق الطلاق بالتزويج لم يصح، سواء عيّن الزوجة كقوله: «إن تزوّجت فلانة فهى طالق»، أو أطلق كقوله: كلّ من أتزوّجها.
--------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وشروطها أربعة».
لا منافاة بين قوله «إنّها أربعة» وعدّه في التفصيل خمسة؛ لأنّ الخامس - وهو التعيين -
ذكره على وجه وجه التنبيه على الخلاف فيه ثمّ اختار عدم كونه شرطاً، فيرجع الأمر إلى الأربعة، وكلامه في قوّة قوله: واشترط بعضهم خامساً. والأشبه عدم اشتراطه.
قوله: «أن تكون زوجةً، فلو طلّق الموطوءة بالملك لم يكن له حكم، وكذا لو طلق أجنبيّةً وإن تزوجها» إلى آخره.
لمّا كان حلّ النكاح أمراً مستفاداً من الشرع، متلقّى في موضع الإذن كان زواله أيضاً موقوفاً على حكم الشارع به فما لم يعلم حكمه بالزوال فالحكم بالحلّ مستصحب. وقد ثبت بالنصّ والإجماع أنّ طلاق الزوجة الدائمة موجب لرفع نكاحها(2)، فإلحاق غيرها بها - من الأمة والأجنبيّة - غير صحيح. فإذا أوقعه على الموطوءة بالملك لم يفد حكماً، وبقيت محلّلة بأصل الملك، وكذا لو أوقعه على أجنبيّة، سواء علّقه بتزويجها أم لا.
ص: 226
الثاني: • أن يكون العقد دائماً. فلا يقع الطلاق بالأمة المحللة، ولا المستمتع بها ولو كانت حرّة.
-------------------------------------------------------------------------------------
وخالف فيه العامّة، فحكم بعضهم بوقوعه على الأجنبية وإن لم يعلّقه على تزويجها(1). وتظهر الفائدة في انتقاص عدد طلقاتها المحرّمة على تقدير تزويجها وآخرون(2) جوّزوا تعليقه على نكاحها عامةً أو خاصةً على اختلاف آرائهم.
واحتج المانع منهم(3) بما روي أنّ عبد الرحمن بن عوف قال: دعتني أُمِّي إلى قريب لها فراودتني في المهر، فقلت: إن نكحتها فهي طالق ثمّ سألت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: «انكحها فإنّه لا طلاق قبل النكاح»(4).
وأخبار الأصحاب عن زين العابدين والباقر والصادق (علیهم السلام) به كثيرة(5).
قوله: «أن يكون العقد دائماً فلا يقع الطلاق بالأمة المحلّلة» إلى آخره.
الحكم في هذين موضع وفاق. والتقريب فيه كما مرّ في السابقة، ولأنّ التحليل نوع إباحةٍ، فمتى شاء الزوج تركها بغير طلاق، فلا حاجة إليه والمتمتّع بها تبين بانقضاء المدة وبإسقاطه لها كما مرّ(6). وقد روى محمّد بن إسماعيل - في الصحيح - عن الرضا (علیه السلام) قال قلت: وتبين بغیر طلاق؟ قال: «نعم»(7).
ص: 227
الثالث • أن تكون طاهرةً من الحيض والنفاس.
ويعتبر هذا في المدخول بها الحائل الحاضر زوجها.
-------------------------------------------------------------
والاعتماد على الاتّفاق وإلا فتعدّد الأسباب ممكن.
قوله: «أن تكون طاهرةً من الحيض والنفاس. ويعتبر هذا في المدخول بها الحائل
الحاضر زوجها».
اتّفق العلماء من الأصحاب وغيرهم على تحريم طلاق الحائض، وفي معناها النفساء. واستدلوا عليه بقوله تعالى: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(1). قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم) - لمّا طلّق عبد الله بن عمر امرأته حائضاً لأبيه: «مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثمّ تطهر ثم إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء»(2) وأراد به قوله تعالى: (فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
واتّفق أصحابنا على بطلان الطلاق على تقدير وقوعه، وأخبارهم به كثيرة، فمنها صحيحة الحلبي قال، قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): الرجل يطلّق امرأته وهي حائض، قال:
«الطلاق على غير السنّة باطل»(3).
وروى الفضلاء؛ زرارة ومحمّد بن مسلم وبكير، وبريد، وفضيل، وإسماعيل الأزرق ومَعْمَر بن يحيى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام) أنهما قالا: «إذا طلّق الرجل في دم النفاس أو طلّقها بعد ما يمسّها فليس طلاقه إياها بطلاق»(4).
واستثني من هذا العامّ ثلاثة غير المدخول بها، والغائب زوجها، والحامل على القول
بأنها تحيض؛ لصحيحة محمد بن مسلم وزرارة وغيرهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام)
ص: 228
• لا الغائب عنها مدّةً يعلم انتقالها من القرء الذي وطئها فيه إلى آخر، فلو طلّقها وهما في بلد واحد، أو غائباً دون المدّة المعتبرة وكانت حائضاً أو نفساء، كان الطلاق باطلاً، علم بذلك أو لم يعلم.
أمّا لو انقضى من غيبته ما يعلم انتقالها فيه من طهر إلى آخر ثمّ طلّق صحّ ولو اتّفق فى الحيض.
وكذا لو خرج في طهر لم يقربها فيه جاز طلاقها مطلقاً. وكذا لو طلّق التي لم يدخل بها وهي حائض كان جائزاً.
ومن فقهائنا من قدّر المدة التي يسوغ معها طلاق الغائب بشهر؛ عملاً برواية يعضدها الغالب في الحيض، ومنهم من قدّرها بثلاثة أشهر؛ عملاً برواية جميل عن أبي عبد الله (علیه السلام). والمحصل ما ذكرناه ولو زاد عن الأمد المذكور.
---------------------------------------------------------------------
قال: «خمس يطلّقهنّ أزواجهنّ متى شاؤوا الحامل المستبين حملها، والجارية التي لم تحض والمرأة التي قعدت عن المحيض، والغائب عنها زوجها، والتي لم يدخل بها»(1).
قوله: «لا الغائب عنها مدّةً يعلم انتقالها من القرء - إلى قوله - والمحصل ما ذكرناه».
قد عرفت أن طلاق الحائض إذا كان زوجها غائباً جائز في الجملة للنصوص الصحيحة(2) والإجماع.
ولكن اختلف الأصحاب في أنه هل يكفي في جوازه مجرد الغيبة أم لا بدّ معها من أمر آخر؟ ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في ذلك، فإنّ منها ما هو مطلق في تجويزه
ص: 229
...
----------------------------------------------------------------------------
له كالأخبار السابقة وغيرها ممّا هو في معناها(1)، وبعضها مقيد بمدّة(2). فذهب المفيد(3) وعلي بن بابويه(4)، وابن أبي عقيل(5) وأبو الصلاح(6) وغيرهم(7) إلى جواز طلاقها حيث لا يمكنه استعلام حالها من غير تربّص؛ لما مرّ، ولصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: سألته عن الرجل يطلق امرأته وهو غائب، قال: «يجوز طلاقه على كل حال، وتعتد امرأته من يوم طلّقها»(8).
وصحيحة إسماعيل الجعفي عن الباقر (علیه السلام) قال: «خمس يطلّقهن الرجل على كل حال الحامل، والتي لم يدخل بها زوجها والغائب عنها زوجها، والتي لم تحض، والتي قد يئست من المحيض»(9). وغيرهما من الأخبار(10).
وذهب الشيخ في النهاية وابن حمزة إلى اعتبار مضي شهر منذ غاب(11)؛ لموثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال: «الغائب إذا أراد أن يطلق امرأته تركها شهراً»(12).
ص: 230
ولأنّ الحاضر يجب عليه استبراؤها مدّة تنتقل فيها من الطهر الذي واقعها فيه إلى غيره وأقلّ ما يحصل ذلك في شهر غالباً، فإذا غاب ولم يعلم انتقالها واشتبه عليه حالها ك-ان انتظاره هذه المدّة موجباً لانتقالها إلى طهر آخر بحسب الغالب في عادات النساء. والأخبار السابقة مطلقها يجب حمله على المقيد؛ حذراً من التنافي.
وذهب ابن الجنيد والعلّامة في المختلف إلى اعتبار مضيّ ثلاثة أشهر(1)؛ لصحيحة جميل بن درّاج عن الصادق (علیه السلام) قال : «الرجل إذا خرج من منزله إلى السفر فليس له أن يطلّق حتى تمضي ثلاثة أشهر»(2).
وروى إسحاق بن عمار قال قلت لأبي إبراهيم : الغائب الذي يطلق كم غيبته؟ قال:
«خمسة أشهر ستة أشهر». قال: حدّ دون ذلك، قال: «ثلاثة أشهر»(3).
وذهب المصنّف وأكثر المتأخّرين - وقبلهم الشيخ في الاستبصار(4) - إلى اعتبار مضيّ مدّة يعلم انتقالها من الطهر الذي واقعها فيه إلى آخر بحسب عادتها، ولا تتقدّر بمدّة غير ذلك، وهو الذي جعله المصنّف المحصل في المسألة.
ووجه ذلك الجمع بين الأخبار، بتنزيل اختلافها كذلك على اختلاف عادة النساء في الحيض، فمن علم من حال امرأته أنّها تحيض في كلّ شهر حيضة جاز له أن يطلّق بعد شهر ومن يعلم أنّها لا تحيض إلا بعد كلّ ثلاثة أشهر أو خمسة لم يجز له أن يطلقها إلا بعد مضى
هذه المدّة، وهكذا.
وهذا القول لا بأس به؛ لما فيه من الجمع بين الأخبار المعتبرة المختلفة ظاهراً، إلا أنه لا يخلو من إشكال، من حيث إنّ الأخبار المعتبرة الصحيحة بين مطلق في عدم التربّص
ص: 231
...
---------------------------------------------------------------------------------
ولا شيء من عادات النساء بمتروك أصلاً، وبين مقيد بثلاثة أشهر، وهو مخالف للغالب من عادات النساء. وأيضاً فليس في هذه الأخبار سؤال عن واقعة مخصوصة حتّى يتوجه حملها على كون تلك المرأة معتادة بتلك العادة، وإنّما وقع السؤال في كل حديث عن مطلق النساء على وجه القاعدة الكلّيّة، فحملها على العادات المختلفة بعيد. وحديث الشهر أقرب إلى الغالب إلا أنه ليس كالسابق في وضوح السند.
وبالجملة فأظهر الأقوال من جهة النقل ما دلّ على اعتبار ثلاثة أشهر؛ لصحة روايته وحمل الأحاديث المطلقة المشاركة لها في صحة السند عليه؛ جمعاً بين المطلق والمقيد. وهو مع ذلك موافق للحكم بالتربّص للمجهولة الحال وهي المسترابة والمرضع مع أنّ الغالب من حال الغائب عن زوجته أن يكون حالها مجهولاً وحملها ممكناً في وقته، ومع جهله بحالها تصير في معنى المسترابة. وهذا هو الأقوى، إلا أن يعلم عادة المرأة وانتقالها بحسبه من طهر إلى آخر فيكفي تربصه ذلك المقدار كما في الحاضر؛ لأنّ حكم الغائب أخف من حكمه شرعاً، فمع إمكان إلحاقه به لا يزيد عليه، ومع الجهل يجب التربص ثلاثة؛ لما ذكرناه.
وهذا اختيار الشيخ فخر الدين في شرحه(1). وهو أيضاً جامع بين الأخبار مع زيادة في الاعتبار.
إذا تقرّر ذلك فنقول: إذا طلّق الغائب زوجته فلا يخلو إما أن يطلقها بعد مضي المدّة المعتبرة أو قبلها. وعلى التقديرين إمّا أن يوافق فعله كونها جامعة لشرائطه في الواقع، بأن يكون قد حاضت بعد طهر المواقعة وطهرت فوقع الطلاق حال الطهر، أو لا يوافق، بأن تبيّن وقوعه في طهر المواقعة أو حالة الحيض، أو يستمر الاشتباه.
وبيان الحكم ينتظم في مسائل:
الأولى: أن يطلّقها مراعياً للمدّة المعتبرة ثمّ تظهر الموافقة، بأن كانت قد انتقلت من
ص: 232
...
-------------------------------------------------------------------------
طهر المواقعة إلى آخر وهنا يصح الطلاق إجماعاً؛ لاجتماع الشرائط المعتبرة في صحته ظاهراً وفى نفس الأمر.
الثانية: أن يطلّقها كذلك، ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضاً حال الطلاق وهنا يصحّ الطلاق أيضاً؛ لأنّ شرط صحته للغائب مراعاة المدّة المعتبرة وقد حصل، والحيض هنا غير مانع؛ لعدم العلم به، وهو مما قد استثني من صور المنع من طلاق الحائض بالنص(1) والفتوى. وفي رواية أبي بصير، قلت: الرجل يطلق امرأته وهو غائب، فيعلم أنّ-ه ي-وم طلقها كانت طامثاً، قال: «يجوز»(2). والمراد من هذه الرواية أنّه لم يكن عالماً بالحيض حال الطلاق ثمّ علم، لعطفه العلم على الطلاق بالفاء المفيدة للتعقيب. ولا خلاف في هذه الصورة أيضاً.
الثالثة: الصورة بحالها في أنّه طلّق بعد المدة المعتبرة ولكن ظهر بعد ذلك كونها باقية
في طهر المواقعة لم تنتقل منه إلى حيض ولا إلى طهر آخر، وهو صحيح صحيح أيضاً كالسابقة؛ لعين ما ذكر فيها، وهو وقوعه على الوجه المعتبر شرعاً، ولأن الطلاق إذا حكم بصحته في حالة الحيض بالنص والإجماع فلأن يحكم بصحته في حالة الطهر أولى؛ لما قد عرفت من أن شرط الطلاق في غير الغائب أمران: وقوعه في طهر، وكون الطهر غير طهر المواقعة، فإذا اتّفق وقوعه في حالة الحيض تخلّف الشرطان؛ لعدم طهر آخر غير طهر المواقعة وعدم الخلو من الحيض، وإذا اتفق وقوعه في حالة الطهر فالمتخلف شرط واحد وهو كون الطهر غير طهر المواقعة، فإذا كان تخلّف الشرطين في الغائب غير مانع فتخلّف أحدهما أولى بعدم المنع.
ص: 233
....
--------------------------------------------------------------------------
وربما قيل هنا بعدم الوقوع؛ لانتفاء شرط الصحة وهو استبراء الرحم، خرج منه حالة الحيض للرواية فيبقى الباقي، وللمنع من وجود الشرط، وأن الإذن في الطلاق - استناداً إلى الظنّ - لا يقتضي الحكم بالصحة إذا ظهر بطلان الظن.
وجوابه أنّ الشرط المعتبر في استبراء الرحم للغائب إنّما هو مراعاة المدّة المعتبرة وهو حاصل، وموضع النصّ والفتوى - وهو حالة الحيض - منبه عليه. وظهور بطلان الظن غير
مؤثر فيما حكم بصحته.
والحاصل أنّ الشرط المعتبر حاصل والمانع - وهو ظهور الخطأ - غير معلوم المانعية،
وقد تخلّف فيما هو أولى بالحكم - أو مساو - في المنع.
وكون الحكمة في الانتظار المدّة المقرّرة هو استبراء الرحم غير لازم؛ لأنها مستنبطة لا منصوصة فلا يلزم اطرادها، وإنما المنصوص اعتبار انقضاء المدّة المعتبرة(1)، واستنبط معها(2) الاكتفاء بظنّ الانتقال من طهر إلى آخر، وكلاهما متحقّق.
الرابعة: أن يطلقها مراعياً للمدّة المعتبرة ويستمرّ الاشتباه، فلا يعلم كونها حائضاً حال الطلاق أو طاهراً طهر المواقعة أو غيره. وهنا يصحّ الطلاق قولاً واحداً؛ لوجود المقتضي للصحة، وهو استبراؤها المدّة المعتبرة مع باقي الشرائط، وانتفاء المانع؛ إذ ليس ثُمَّ إِلَّا اشتباه الحال، وهو غير صالح للمانعيّة، وكون انتقالها من طهر المواقعة إلى آخر شرطاً في صحّة الطلاق مخصوص بالحاضر، وأمّا الشرط في طلاق الغائب فهو مضي المدّة المعتبرة مع عدم العلم بكونها حائضاً حال الطلاق أو باقية في طهر المواقعة، فمتى انتفى العلم بذلك حصل الشرط. الخامسة: أن يطلقها قبل مضي المدة المعتبرة ولكن ظهر بعد الطلاق وقوعه في طهر
ص: 234
...
--------------------------------------------------------------------------
لم يقربها فيه. وفي صحّة الطلاق حينئذ وجهان، من حصول شرط الصحة في نفس الأمر وظهور الحال، ومن عدم اجتماع الشرائط المعتبرة في الطلاق حال إيقاعه المقتضي لبطلانه. ويمكن أن يجعل ظهور اجتماع الشرائط بعد ذلك كاشفاً عن صحته، خصوصاً مع جهله ببطلان الطلاق من دون مراعاة الشرط؛ لقصده حينئذ إلى طلاق صحيح ثم ظهر اجتماع شرائطه. والأظهر الصحّة.
السادسة: أن يطلّقها قبل الاستبراء وتبيّن عدم الانتقال، أو يستمرّ الاشتباه، فيبطل الطلاق عند كلّ من اعتبر المدّة؛ لوجود المقتضي للبطلان، وهو عدم التربّص به المدّة المعتبرة، وعدم انكشاف حصول ما يقتضي الصحة، بخلاف السابق.
السابعة: لو طلّقها بعد المدّة المعتبرة ولكن اتفق له مخبر يجوز الاعتماد عليه شرعاً بأنها حائض بسبب تغير عادتها، ففي صحة الطلاق حينئذٍ وجهان أجودهما العدم. وكذا لو أخبره ببقائها في طهر المواقعة، أو بكونها حائضاً حيضاً آخر بعد الطهر المعتبر في صحة الحيض؛ لاشتراك الجميع في المقتضي للبطلان. وصحة طلاقه غائباً مشروط بعدم الظنّ بحصول المانع.
الثامنة: لو كان خروج الزوج في طهر آخر غير طهر المواقعة صحّ طلاقها من غير تربّص ما لم يعلم كونها حائضاً. ولا يشترط هنا العلم أو الظنّ بعدم الحيض بخلاف ما سبق. والفرق أنّ شرط الصحة هنا موجود وهو استبراؤها بالانتقال من طهر إلى آخر، وإنّما الحيض بعد ذلك مانع من صحة الطلاق، ولا يشترط في الحكم بصحة الفعل العلم بانتفاء موانعه، بل يكفي عدم العلم بوجودها بخلاف السابق، فإنّ شرط صحّة الطلاق مضى المدّة المعتبرة المشتملة على العلم بانتقالها من طهر إلى آخر، والجهل بالشرط يقتضي الجهل بصحّة المشروط.
التاسعة: النفاس هنا كالحيض في المنع والاكتفاء بطهرها منه. فلو غاب وهي حامل ومضت مدّة يعلم بحسب حال الحمل وضعها وطهرها من النفاس جاز طلاقها، كما لو انتقلت
ص: 235
...
--------------------------------------------------------------------------
من الحيض. ويكفي في الحكم بالنفاس ظنّه المستند إلى عادتها وإن كان عدمها ممكناً كما قلناه في الحيض، ومثله ما لو كان حاضراً ووطئها قبل الوضع، فإنّه يكتفي بنفاسها في الاستبراء.
العاشرة: لو وطئها حاملاً ثم غاب وطلّق قبل مضي مدّة تلد فيها غالباً وتنفسُ فصادف الطلاق ولادتها وانقضاء نفاسها ، ففي صحته الوجهان الماضيان في الحيض(1). والحكم فيهما واحد.
واعلم أنّ المراد بالعلم في هذه المواضع كلّها معناه العام، وهو الاعتقاد الراجح الشامل للظنّ المستند إلى عادتها في الحيض والطهر والحمل. وينبّه عليه إطلاقهم العلم ثم ظهور خلافه، كما قال المصنف: «أما لو انقضى من غيبته ما يعلم انتقالها من طهر إلى آخر ثمّ طلّق صحّ ولو اتّفق في الحيض». والمراد بقوله «ولو اتفق في الحيض» ما يشمل الحيض المتعقّب للطهر الذي جامعها فيه وغيره. ونبّه بقوله «اتّفق» على أنّه لم يكن معلوماً له حال الطلاق وإنّما اتّفق ذلك فى الواقع وإن انكشف بعد الطلاق.
وقوله «وكذا لو خرج في طهر لم يقربها فيه جاز طلاقها مطلقاً» أي سواء مضت مدّة يعلم انتقالها فيها من ذلك الطهر إلى آخر أم لا، لكن بشرط أن لا يعلم أنها حائض كما نبهنا عليه؛ لأنّ الحيض مانع مطلقاً، إلا على تقدير وقوعه في نفس الأمر ولم يظهر في حق الغائب، كما فصلناه. فقوله «مطلقاً» منزل على ما ذكرناه لا على ما يشمل كونها حائضاً مع العلم به. وقوله «ولو زاد الأمد المذكور يريد به ما لو كان عادتها أن تحيض في كلّ أربعة أشهر مرّةً، فإنّه على ما اختاره من أنّ المعتبر في صحة طلاق الغائب العلم بانتقالها من طهر إلى آخر يعتبر في صحة طلاقها في هذه الصورة مضيّ الأربعة الأشهر، كما يعتبر مضي المدّة القليلة لو كانت تحيض فيها، وذلك أزيد ممّا ورد في النصوص من اعتبار مضيّ ثلاثة أشهر(2).
ص: 236
• ولو كان حاضراً وهو لا يصل إليها بحيث يعلم حيضها فهو بمنزلة الغائب.
-----------------------------------------------------------------------------
وبقي في هذه المسألة مباحث شريفة حرّرناها في موضع آخر برسالة مفردة من أراد
استقصاء البحث فيها فليراجعها(1).
قوله: «ولو كان حاضراً وهو لا يصل إليها بحيث يعلم حيضها فهو بمنزلة الغائب».
أقسام المطلّق بالنسبة إلى الحضور والغيبة وحكمهما أربعة، ففي حكم الغائب الحاضر الذي لا يمكنه معرفة حالها، وفي حكم الحاضر الغائب الذي يطلع على حالها بورود الأخبار عليه ممّن يعتمد عليه في وقت الحاجة.
ويدلّ على حكم من هو بمنزلة الغائب صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأة سراً من أهلها وهي في منزل أهلها وقد أراد أن يطلقها وليس يصل إليها فيعلم طمئها إذا طمئت ولا يعلم بطهرها إذا طهرت، قال فقال: «هذا مثل الغائب عنه أهله يطلّقها بالأهلّة والشهور». قلت: أرأيت إن كان يصل إليها الأحيان والأحيان لا يصل إليها فيعلم حالها كيف يطلقها؟ فقال: «إذا مضى له شهر لا يصل إليها فيه يطلقها إذا نظر إلى غرّة الشهر الآخر بشهود»(2). الحديث. وفي هذا الخبر دلالة على الاكتفاء في الغيبة بشهر، وهو صحيح السند أولى بالحجّة للقول من خبر إسحاق بن عمّار(3).
وأنكر ابن إدريس إلحاق غير الغائب به؛ محتجاً بأصالة بقاء الزوجيّة، وبأنّ حمله عليه قياس(4). وقد عرفت أن مستنده الخبر الصحيح، مع اشتراكهما في العلة، وهو يرفع الأصل. ولا يحوج إلى القياس.
ص: 237
الرابع: • أن تكون مستبرأةٌ، فلو طلّقها في طهر واقعها فيه لم يقع طلاقه. ويسقط اعتبار ذلك في اليائسة، وفيمن لم تبلغ المحيض، وفي الحامل والمسترابة بشرط أن يمضى عليها ثلاثة أشهر لم تردماً معتزلاً لها. ولو طلّق المسترابة قبل مضي ثلاثة أشهر من حين المواقعة لم يقع الطلاق.
------------------------------------------------------------------------------
قوله: «أن تكون مستبرأةٌ فلو طلقها، فلو طلقها في طهر واقعها فيه لم يقع طلاقه - إلى
قوله -لم يقع الطلاق».
قد تقدّم(1) ما يدلّ على اشتراط استبراء المرأة بالانتقال من الطهر الذي واقعها فيه إلى غيره في صحّة الطلاق، وأنّ ذلك هو العدّة التي أمر الله تعالى بالطلاق لها في قوله: (فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(2) وعلى سقوط اعتبار ذلك في اليائسة والتي لم تبلغ المحيض والحامل بقوله (علیه السلام): «خمس يطلقن على كل حال»(3).
وأمّا المسترابة وهي التي في سنّ من تحيض ولا تحيض، سواء كان لعارض من رضاع أو مرض أو خلقي. وأطلق عليها اسم الاسترابة؛ تبعاً للنصّ(4)، وإلّا فقد يحصل لها مع انقطاع حيضها في هذا السنّ استرابة بالحمل وقد لا يحصل.
ويدلّ على حكمها صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري قال: سألت الرضا (علیه السلام) المسترابة من المحيض كيف تطلّق؟ قال: «تطلّق بالشهور»(5).
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (علیه السلام) في المرأة التي يستراب بها التي مثلها تحيض ومثلها لا تحيض وقد واقعها زوجها كيف يطلّقها؟ قال: «يمسك عنها ثلاثة أشهر ثمّ يطلّقها»(6).
ص: 238
الخامس: • تعيين المطلّقة. وهو أن يقول: «فلانة طالق»، أو يشير إليها بما يرفع الاحتمال فلو كان له واحدة فقال: «زوجتي طالق صحّ؛ لعدم الاحتمال ولو كان له زوجتان أو زوجات فقال: «زوجتي طالق»، فإن نوى معيّنةً صحّ، ويقبل تفسيره وإن لم ينو قيل يبطل الطلاق لعدم التعيين. وقيل: يصح وتستخرج ،بالقرعة، وهو أشبه.
--------------------------------------------------------------------------------------
ولا يلحق بالمسترابة من يعتاد الحيض في كلّ مدّة تزيد عن ثلاثة أشهر؛ فإنّ تلك لا استرابة فيها، بل هي من أقسام ذوات الحيض يجب استبراؤها بحيضة وإن توقّف على ستة أشهر وأزيد.
قوله «تعيين المطلّقة» إلى آخره.
اختلف الأصحاب في أن تعيين المطلّقة بالنيّة هل هو شرط في صحّة الطلاق أم لا؟ فذهب جماعة - منهم المرتضى(1)، والمفيد(2)، وابن إدريس(3)، والشيخ في أحد قوليه(4)؛ والمصنّف في أحدهما(5)، والعلّامة في أحدهما(6)، والشهيد في أحدهما(7)، وجماعة آخرون(8) - إلى اشتراطه إمّا لفظاً كقوله «فلانة» باسمها المميّز لها عن غيرها، أو بالإشارة إليها الرافعة للاشتراك، أو بذكر الزوجة حيث لا غيرها، أو نية كقوله «زوجتی» وله زوجات ونوی واحدةً معيّنةً . فلو لم يعيّن لفظاً ولا قصداً بطل؛ لأصالة بقاء النكاح، فلا يزول إلّا بسبب
ص: 239
...
-------------------------------------------------------------------------------
معلوم السببيّة، ولأنّ الطلاق أمر معيّن فلا بدّ له من محلّ معيّن، وحيث لا محلّ فلا طلاق. وقال الشيخ في المبسوط : لا يشترط(1)، واختاره المصنّف هنا والعلّامة في أكثر كتبه(2)، والشهيد في الشرح(3): لأصالة عدم الاشتراط، وعموم مشروعيّة الطلاق ومحلّ المبهم جاز أن يكون مبهماً، وكما أنّ كلّ واحدة بخصوصها زوجة فإحداهما أيضاً زوجة فيصحّ طلاقها؛ للعموم(4).
إذا تقرّر ذلك فحيث ينوي واحدة بعينها يؤمر بالتبيين على الفور؛ لزوال الزوجيّة عنها، ويمنع من الاستمتاع بهما إلى أن يبيّن. ولو أخّر أثم؛ لأنّ الحق لهما في ذلك فعليه بيانه، إذا لم يعلم من غيره. ويحتمل الفرق بين البائن والرجعي؛ لأنّ الرجعية بمنزلة الزوجة، وله وطؤها بنية الرجوع والأخرى على الحلّ.
وإن أرسل اللفظ ولم يرد واحدة بعينها وقلنا بصحّته فهل يرجع إلى تعيينه كالسابقة أو يقرع بينهما؟ جزم المصنّف (رحمه الله) بالقرعة؛ لأنّ المطلّقة مبهمة عنده كما هي مبهمة عندنا فتستخرج بالقرعة؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل(5).
وقيل: يرجع إلى تعيينه هنا أيضاً(6)؛ لأنّ الطلاق بيده وقد أرسله بينهما ولم يتعلّق
ص: 240
...
-----------------------------------------------------------------------------------------
بإحداهما بخصوصها، فيكون تعلّقه منوطاً به كأصله.
وتفترق المسألتان على الثاني - مع اشتراكهما في رجوع التعيين إليه - في أنّه إذا بيّن في الأولى فادّعت الأخرى عليه أنّك عنيتني سمعت الدعوى وأحلفته، فإن نكل حلفت وطلّقتا، بخلاف الثانية، فإنّ دعوى الأخرى غير مسموعة؛ لأنه اختيار تشة، وكأنّه طلّق
واحدةً ابتداءً.
وتشتركان أيضاً في وجوب الإنفاق عليهما إلى البيان أو التعيين وإن كانت إحداهما مطلّقةً؛ لأنّهما محبوستان عنده حبس الزوجات والنفقة واجبة لكلّ واحدة قبل الطلاق
فيستصحب. وإذا بيّن أو عيّن فلا يستردّ المصروف إلى المطلّقة؛ لما ذكر. وتفترقان في أن وقوع الطلاق يحصل في الأولى بصيغة الطلاق المبهمة وتحتسب عدّة التي تبيّن الطلاق فيها من وقت اللفظ. وأما إذا عيّن ولم يكن نوى من الابتداء معينة ففي وقوعه من وقت التلفّظ بالطلاق أو من حين التعيين؟ وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ(1) - أنّه يقع من وقت التلفّظ؛ لأنّه جزم بالطلاق فلا يجوز تأخيره، إلا أنّ محلّه غير معيّن فيؤمر بالتعيين، ولأنّ التعيين يبيّن التي يختارها للنكاح فيكون اندفاع نكاح الأخرى باللفظ السابق، كما أن التعيين فيما إذا أسلم على أكثر من أربع لما تبيّن به من يختارها للنكاح كان اندفاع نكاح الأخريات بالإسلام السابق.
والثاني: أنّه من وقت التعيين؛ لأنّ الطلاق لا ينزّل إلا في محلّ معيّن، ويعبّر عن هذا الخلاف بأنّ التعيين بيان موقع(2) أو إيقاع، أو بأنّ إرسال اللفظ المبهم إيقاع طلاق أو التزام طلاق في الذمة.
ورجّح العلّامة في القواعد والتحرير الثاني(3). ويشكل عليه الحكم بتحريمهما عليه
ص: 241
...
---------------------------------------------------------------------------------
قبل التعيين؛ لعدم وقوع الطلاق على واحدة حينئذ مع اتّفاقهم عليه. وفيما لو ماتنا أو إحداهما قبل التعيين فلوارثها(1) المطالبة به لتبيّن حكم الإرث ولا سبيل إلى إيقاع الطلاق بعد الموت، وإنّما يتضح حكمه على الأوّل.
ولو وطئ واحدة منهما قبل التعيين نظر، فإن كان قد نوى واحدة بعينها فهي المطلّقة، وقد تعيّنت بالنيّة المقترنة باللفظ والوطء لا يكون بياناً لذلك التعيين. وتبقى المطالبة بالبيان، فإنّ بيّن الطلاق في الموطوءة فعليه الحد إن كان الطلاق بائناً، والمهر لجهلها بأنّها المطلّقة. وإن بيّن في غير الموطوءة قُبِلَ. فلو ادعت الموطوءة أنه أرادها حلف، فإن نكل وحلفت حكم بطلاقها، وعليه المهر، ولا حد للشبهة، فإنّ الطلاق ثبت بظاهر اليمين.
ولو لم ينو واحدةً بعينها فهل يكون الوطء تعييناً؟ وجهان:
أحدهما: أن الوطء يعيّن الأخرى للطلاق؛ لأن الظاهر أنه إنما يطأ من تحلّ له، وصار
كوطء الجارية المبيعة في زمن الخيار، فإنه يكون فسخاً أو إجازة.
والثاني: أنه لا يكون تعييناً كما لا يكون بياناً، ولأن ملك النكاح لا يحصل بالفعل فلا يتدارك بالفعل، ويخالف وطء الجارية المبيعة بشرط الخيار، فإن ملك اليمين يحصل بالفعل ابتداءً فجاز أن يتدارك بالفعل.
وربما بني الوجهان على أنّ الطلاق يقع عند اللفظ أو عند التعيين. فعلى الأوّل الوطء
تعيين لا على الثاني: لأن الفعل لا يصلح موقعاً.
ثمّ إن جعلنا الوطء تعييناً للطلاق في الأخرى فلا مهر للموطوءة، وإلا فيطالب بالتعيين، فإن عيّن الطلاق في الموطوءة وجب المهر إن قلنا بوقوع الطلاق عند اللفظ، وإن قلنا بوقوعه عند التعيين ففي وجوب المهر وجهان من أنّها لم تكن مطلّقة وقته، ومن حصول ما
له صلاحيّة التأثير، ومن ثمّ حرم الوطء قبل التعيين.
هذا ما يتعلق بحكمه حال الحياة.
ص: 242
...
----------------------------------------------------------------------------------------
أمّا لو طراً الموت قبل البيان أو التعيين فله حالتان:
إحداهما أن تموت الزوجتان أو إحداهما ويبقى الزوج، فالمطالبة بحالها بالبيان أو التعيين لتبيين حال الميراث إن قلنا بوقوع الطلاق عند اللفظ ، وإلّا أشكل؛ لاستحالة وقوعه بعد الموت. ولو ماتت إحداهما لم يتعيّن الطلاق للأخرى. ويُوقف له من تركة كلّ واحدة منهما أو من تركة الميتة منهما ميراث زوج إلى أن يبيّن أو يعيّن، فإذا بيّن أو عيّن لم يرث من المطلّقة إن كان الطلاق بائناً، سواء قلنا إنّ الطلاق عند اللفظ أو التعيين؛ لأنّ الإيقاع سابق وإن كان الوقوع حينئذ، مع احتماله على القول بوقوعه بالتعيين، لموتها وهي زوجة، وأمّا الأخرى فيرث منها.
ثمّ إن كان قد نوى معيّنة وبيّن، فقال الورثة هي التي أردتها للطلاق ولا إرث لك. فلهم تحليفه، فإن حلف فذاك، وإن نكل حلفوا وحرم ميراثها أيضاً باليمين المردودة. وإن لم ينو معيّنةً وعيّن لم يتوجّه عليه لورثة الأخرى دعوى؛ لأن التعيين يتعلّق باختياره.
ويتفرّع على النزاع في الأولى أنه إذا حلّفه ورثة الأخرى التي عينها للنكاح أخذوا جميع المهر إن كان بعد الدخول، وإن كان قبله أخذوا نصفه، وفي النصف الآخر وجهان، من اعترافه لهم به وانتفائه بكونها مطلّقة قبل الدخول بزعمهم. ولو كذّبه ورثة التي عيّنها للطلاق وغرضهم استقرار جميع المهر إذا كان قبل الدخول فلهم تحليفه، وهم مقرون له بإرثٍ لا يدعيه، ففيه ما في نصف المهر.
الحالة الثانية: أن يموت الزوج قبل البيان أو التعيين، ففي قيام الوارث مقامه وجهان: أحدهما: نعم، كما يخلفه في سائر الحقوق كالردّ بالعيب وحق الشفعة وغيرهما، وكما
يقوم مقامه في استلحاق النسب.
والثاني المنع؛ لأنّ حقوق النكاح لا تورث، ولأنّه إسقاط وارث فلا يتمكّن الوارث منه،
كنفي النسب باللعان.
ص: 243
...
--------------------------------------------------------------------------------
والأقوى(1) الفرق بين البيان والتعيين، فيقبل في الأوّل مع دعواهم العلم بالحال دون الثاني؛ لأنّ البيان إخبار وقد يعرفه الوارث قبل الموت، والتعيين اختيار وشهوة فلا يخلفه الوارث فيه، كما لو أسلم الكافر على أكثر من أربع ومات قبل الاختيار. وإن لم يدع الوارث العلم فالأقوى القرعة.
والفرق ثبوت الطلاق في المنويّة واشتباهها فتتوجه القرعة للإشكال، بخلاف الثاني؛ لعدم وقوع الطلاق قبل التعيين على واحدة سواء جعلنا وقوعه بعد التعيين باللفظ أو بالتعيين، فلا وجه للقرعة؛ إذ لا إشكال. وفي القواعد حكم بالقرعة في الثانية أيضاً(2). وهو بعيد.
وممّا يتفرع على ذلك أنه لو لم نقل بقيامه مقامه أو قال: لا أعلم ولم نقل بالقرعة، أوقف(3) ميراث زوجةٍ بينهما حتى يصطلحا أو تصطلح ورثتهما بعد موتهما. وإن ماتنا قبل موت الزوج أوقف، من تركتهما ميراث زوج، فإن توسّط موته موتهما أُوقف من تركة الأولى ميراث زوج حتّى يحصل الاصطلاح.
وإن قلنا يقوم مقامه، فإن مات الزوج قبلهما فتعيين الوارث كتعيينه، وإن ماتت الزوجتان ثمّ مات الزوج، فإذا بين الوارث إحداهما فلورثة الأخرى تحليفه أنه لا يعلم أنّ مورّثه طلّق مورّثتهم. وإن توسّط موته موتهما وبيّن الوارث الطلاق في الأولى جرينا على قوله ولم يحلّفه؛ لأنه يقرّ على نفسه ويضر بها. وإن بين الطلاق في الأخرى فلوارث الأولى تحليفه؛ لأنه يروم الشركة فى تركتها، فيحلف أنه لا يعلم أنّ مورّثه طلّقها، ولوارث الثانية تحليفه؛ لأنّه يروم حرمانه من ميراث الزوج، فيحلف على البتّ أنّ مورّثه طلّقها؛ لأنّ يمين الإثبات يكون على البتّ.
ص: 244
• ولو قال: هذه طالق أو هذه، قال الشيخ (رحمه الله): يعيّن للطلاق من شاء.
وربما قيل بالبطلان؛ لعدم التعيين.
• ولو قال: هذه طالق أو هذه وهذه طلّقت الثالثة، ويعين من شاء من الأُولى أو
الثانية. ولو مات استخرجت واحدة بالقرعة.
وربما قيل بالاحتمال في الأولى والأخيرتين جميعاً، فيكون له أن يعين
للطلاق الأولى أو الأخيرتين معاً.
والإشكال في الكلّ ينشأ من عدم تعيين المطلقة.
---------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو قال: هذه طالق أو هذه» إلى آخره.
هذه المسألة متفرعة على اشتراط تعيين المطلّقة وعدمه، فإن اشترطناه بطل هنا وسقط البحث وإن جوّزناه قال الشيخ يتخيّر في تعيين من شاء منهما(1)، كما لو قال: إحداكما طالق؛ لاشتراكهما في إيقاع الطلاق على واحدة منهما مبهمة.
وفيه نظر؛ لأنّ الثانية لم يقع بها طلاق بصيغته الشرعية. ومجرّد عطفها على الأولى غير كافٍ في تشريكها معها في الصيغة، وسيأتي استشكال المصنّف في نظير المسألة لذلك(2).
ويتّجه على هذا أنّه إن عيّن الأولى للطلاق طلقت، وإن عيّن الثانية لم تطلق؛ لما ذكر. وإنّما يتم ما ذكره بغير إشكال لو قال: هذه طالق أو هذه طالق، فإنّه يتّجه التخيير في تعيين أيّتهما شاء على القول بعدم اشتراط التعيين.
قوله: «ولو قال: هذه طالق أو هذه ،وهذه طلقت الثالثة، ويعين من شاء من الأولى أو الثانية» إلى آخره.
إذا قال: هذه طالق أو هذه وهذه ولم نشترط التعيين واكتفينا في صحّة طلاق المعطوفة بتماميّة الصيغة في المعطوف عليها؛ نظراً إلى تشاركهما في الحكم، فلا يخلو إمّا أن يقصد
ص: 245
...
---------------------------------------------------------------------------------
بالثالثة العطف على الثانية، أو على الأولى وإن بعد، أو على المطلقة المبهمة وهي إحداهما. أو يسرد الكلام سرداً بغير قصد واحد منهما(1).
ففي الأوّل يتخيّر بين الأولى والأخيرتين، بمعنى كون ما قبل «أو» قسماً وما بعده قسماً فإن اختار الأولى بطل في الأخيرتين. وإن اختار الثاني وقع عليهما وبطل في الأولى خاصّة.
وفي الثاني بالعكس، بمعنى أنّه تصير الأولى والثالثة قسماً، والثانية قسماً، فإن اختار
الأولى للطلاق طلّقت الثالثة معها، وإن اختار الثانية طلّقت خاصة.
وهذا القسم وإن كان ضعيفاً من حيث العربيّة للبعد بين المعطوف والمعطوف عليه
والفصل، إلا أنّه مع قصده يصحّ.
وفي الثالث: وهو أن يقصد عطف الثالثة على المطلّقة منهما تطلّق الثالثة قطعاً، ويتخيّر
معها إحدى الأخيرتين إمّا الأولى أو الثانية، وهذا هو الذي اقتصر على نقله المصنّف.
وإن أطلق ولم يقصد واحداً منها والظاهر أنه مسألة الكتاب؛ إذ لا إشكال في اتّباع
القصد، فقال الشيخ:
تكون الثالثة معطوفة على إحداهما، أعني المطلّقة؛ لأنّه عدل من لفظ الشك إلى العطف
فلا تشارك الثالثة في الشكّ، وتكون معطوفةً على المبهمة(2).
وقيل: تكون معطوفة على الثانية لقربها ، وهو اختيار ابن إدريس(3)، ولا يخلو من قوّة. فعلى الأول تطلّق الثالثة؛ لأنها معطوفة على المطلقة، ويقع الترديد بين الأولى والثانية، كما ذكرناه مع التصريح بذلك، وعلى الثاني للثالثة حكم الثانية إن طلّقت طلّقت، وإلا فلا، فيكون الترديد بين الأولى وحدها وبين مجموع الثانية والثالثة.
فإن مات قبل التعيين وقلنا بقيام القرعة مقام التعيين أُقرع، واختلفت كيفيّة القرعة على
ص: 246
...
--------------------------------------------------------------------------
القولين. فعلى قول الشيخ من أنّ الثالثة معطوفة على المطلّقة فالثالثة مطلّقة قطعاً، ويقرع بين الأولى والثانية، فيكتب لهما رقعتان في كلّ واحدة اسم واحدة، فأيّتهما خرجت للطلاق تبعتها الثالثة. وعلى قول ابن إدريس يجتزئ برقعتين أيضاً، فإن شاء أن يجعل في إحداهما الأولى وفي الأخرى الثانية ويجعل الثالثة تابعة للثانية في الحكم، فإن خرج للطلاق الأولى تعيّنت الثانية والثالثة للزوجية، وإن خرج للطلاق الثانية تبعتها الثالثة وتعيّنت الأولى للزوجية. وإن شاء أن يكتب اسم الثالثة مع الثانية في رقعتها؛ لأنّها معها قسم.
واختار العلّامة هنا قولاً ثالثاً، وهو أنه مع عدم القصد تصير الثالثة محتملة للأمرين السابقين، فتتوقف القرعة حينئذ على ثلاث رقاع(1) في إحداها اسم الأولى، وفي الأخرى الثانية والثالثة، وفي الثالثة اسم الثالثة، ثمّ يخرج على الطلاق، فإن خرجت الأولى حكم بطلاقها وبقاء الثانية، لكن تبقى الثالثة محتملة لمصاحبة كلّ منهما، فيحتاج إلى إخراج رقعة أُخرى ليظهر بها أمر الثالثة، فإن ظهرت الرقعة التي فيها اسمها حكم بأنّها معطوفة ع--ل-ى المطلقة فطلقت مع الأولى، وإن خرجت الرقعة التي فيها الثانية والثالثة حكم بعطفها عليها، وهي باقيةٌ على النكاح. ولو خرج أولاً رقعة الثانية والثالثة حكم بطلاقهما معاً وبقاء الأولى على النكاح ولم يفتقر إلى إخراج غيرها.
وإن خرج أولاً رقعة الثالثة حكم بطلاقها، وبقي الاشتباه بين الأولى والثانية فيخرج أُخرى، فإن خرجت الأولى صح طلاقها وبقيت الثانية زوجة.
وإن خرجت رقعة الثانية والثالثة حكم بطلاق الثانية أيضاً وبقيت الأولى على النكاح.
وإنما كتبت الثانية والثالثة في رقعة؛ لأنّه كلّما طلّقت الثانية طلّقت الثالثة قطعاً؛ لأنّها إمّا معطوفة عليها أو على المطلّقة، وكلاهما حاصل مع خروج الثانية للطلاق، فلا يتصوّر طلاق
الثانية دون الثالثة، فلذلك كتب معها.
ص: 247
• ولو نظر إلى زوجته وأجنبيّة فقال: «إحداكما طالق»، ثمّ قال: أردت الأجنبيّة، قبل. ولو كان له زوجة وجارة كلّ منهما سعدی فقال: «سعدی طالق»، ثمّ قال: أردت الجارة، لم يقبل؛ لأنّ «إحداكما» تصلح لهما، وإيقاع الطلاق على الاسم يصرف إلى الزوجة. وفي الفرق نظر.
------------------------------------------------------------------------------------
واستحبّوا(1) مع ذلك أن يوضع مع الرقاع رقعة خالية يسمونها المبهمة - بالكسر - ليزيد
الإبهام في الرقاع في جميع صور القرعة.
واعلم أنّ الإشكال السابق في صحة طلاق الثانية(2) آتٍ هنا فيها وفي الثالثة؛ لعدم تمام
صيغتهما المعتبرة شرعاً. والوجه عدم صحة طلاقهما بذلك مطلقاً، وتوقف تصوير على قوله: أو هذه طالق وهذه طالق، ونحو ذلك.
قوله: «ولو نظر إلى زوجته وأجنبية فقال: إحداكما طالق» إلى آخره.
توجيه الفرق أنّ «إحداكما» يتناولهما تناولاً واحداً، ولم يوجد منه تصريح باسم زوجته، ولا وصف لها ولا إشارة بالطلاق إليها. وفي الثانية صرّح باسم زوجته، وهو وإن كان مشتركاً بينها وبين غيرها اشتراكاً لفظيّاً بحيث يصلح الخطاب لكلّ واحدة، إلا أن المشترك لا يحمل على معنييه معاً بل على أحدهما ويتخصص بالقرينة، وهي هنا موجودة في الزوجة؛ لأنّ الطلاق من شأنه أن يتعلق بالزوجة، ولأن الأصل في أقوال المسلم حملها على الصحة، وذلك إنّما يتمّ بانصرافه إلى الزوجة؛ إذ لو انصرف إلى الأجنبية كان لغواً، بخلاف «إحدا كما» فإنه لكونه لفظاً متواطئاً صريح في إرادة الكلّي الصالح لهما.
ووجه ما أشار إليه المصنف من النظر أنّ التسمية أيضاً محتملة، والأصل بقاء النكاح، وهو أخبر بقصده فيرجع فيه إليه، وعدم المواجهة بالطلاق لغير الزوجة مشترك بين الصيغتين، وهذا هو الذي اختاره الشيخ في المبسوط(3).
ص: 248
• ولو ظنّ أجنبيّةً زوجته فقال: «أنت طالق لم تُطلّق زوجته؛ لأنّه قصد المخاطبة.
• ولو كان له زوجتان زينب وعمرة، فقال: «يا «زينب»، فقالت عمرة: لبيك فقال: «أنت طالق طلّقت المنوية. ولو قصد المجيبة ظنّاً أنّها زينب قال الشيخ تُطلق زينب وفيه إشكال؛ لأنه وجه الطلاق إلى المجيبة لظنّها زينب، فلم تطلّق المجيبة؛ لعدم القصد، ولا زينب؛ لتوجّه الخطاب إلى غيرها.
-----------------------------------------------------------------------------
والمشهور ثبوت الفرق، فإنّ القائل إحداكما لا يفهم أحدٌ من كلامه تخصيص الزوجة، بل إنما يفهم الترديد بينها وبين الأجنبية، بخلاف الثاني؛ فإنّه لا يتبادر إلى الذهن من اللفظ المشترك إلا زوجته فكان ذلك قرينة التخصيص، فلا يقبل منه إرادة غيرها.
قوله: «ولو ظنّ أجنبيّةً زوجته فقال: «أنت طالق»، لم تُطلّق زوجته؛ لأنه قصد المخاطبة». المراد أنّه قصد طلاق المخاطبة ليس إلا، وإن كان يعتقد أنّها زوجته، فلا تُطلق زوجته؛ لعدم توجّه الخطاب إليها وإن نواها؛ لأنّ النية مع عدم اللفظ المطابق لها غير كافٍ وإن كان اللفظ في نفسه صالحاً للزوجة، إلا أن الصارف عنها وقوعه بالصيغة الخاصة وهو الخطاب الذي لا يصلح للزوجة؛ لعدم كونها مخاطبةً. ولو فرض أنه قصد زوجته دون المخاطبة صح وإن أتى بصيغة الخطاب، كما سيأتي في المسألة الثانية(1).
قوله: «ولو كان له زوجتان زينب وعمرة» إلى آخره.
إذا نادى إحدى زوجتيه ليواجهها بالطلاق أو قصده بعد ندائها فأجابته غير المناداة فواجهها بالطلاق، فإما أن يقصد به المجيبة مع علمه أنها غير المناداة، أو لا معه، أو يقصد به المناداة من غير قصد إلى المجيبة مع علمه بأنها غيرها، أو لا معه، أو يقصد بالطلاق المجيبة مقيدة بكونها المناداة؛ لظنّه أنّها هي.
فعلى الأوّل يقع الطلاق بالمجيبة بغير إشكال، وكذا على الثاني، لتطابق النية واللفظ.
ص: 249
...
---------------------------------------------------------------------------
وفي الثالث يقع بالمناداة بغير إشكال. ولا يقدح فيه صيغة الخطاب؛ لأنه مع علمه بكونها غير حاضرة يصرف إلى الحاضر في الذهن وكذا على الرابع لوجود المقتضي وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلا إجابة تلك، وهو غير صالح للمانعية؛ إذ الاعتبار بالقصد مع عدم منافاة
اللفظ له، وهو هنا كذلك. وربما احتمل هنا ضعيفاً أنّها لا تطلق من حيث إنّه لم يذهب وهمه إلى المجيبة، وقد وقع الطلاق على مشار إليها بقوله «أنت طالق»، والمخاطبة غير مقصودة والأخرى غير مخاطبة. وقد عرفت جوابه.
والخلاف في الخامس، وهو قصد طلاق المجيبة ظنّاً أنّها المناداة، فقال الشيخ: تُطلّق المناداة(1)؛ لأنّها هي المقصودة بالطلاق، وقصد المجيبة وقع غلطاً، وصيغة الخطاب غير مؤثرة مع غيبة المقصودة؛ لما مرّ، ولأنّ المناداة مقصودة بالقصد الأوّل والمجيبة مقصودة بالقصد الثاني، والأوّل أقوى.
واستشكل المصنّف ذلك من حيث إنّه إنما قصد طلاق المجيبة مقيدة بكونها المناداة، فلم يتمّ شرط الطلاق في المجيبة لعدم قصدها، ولا في المناداة لعدم توجه الخطاب إليها، كما علّل في خطاب الأجنبية ظانًاً أنّها زوجته، ولأنّه لمّا ظنّ أنّ المجيبة هي المناداة فقصدها بالطلاق قصداً محضاً يغلب الملفوظ به على المنوي؛ لأنّ النيّة وقعت على هذه الملفوظ بها، وأما المناداة فهي وإن كانت منوية إلا أنه قد وجد المنافي وهو تغيير النية إلى المجيبة، فضعفت النيّة الأولى فبطل الطلاق بها، وبالمجيبة؛ لأنها غير مقصودة بالقصد الأول.
و بما نبّه عليه المصنّف من البطلان بالإشكال أفتى العلّامة(2)، وهو الوجه. ويحتمل طلاق المجيبة؛ لأنّها زوجة ومقصودة بقصد غالب. وقد ظهر جوابه من تعليل البطلان.
ص: 250
الركن الثالث • في الصيغة
والأصل أنّ النكاح عصمة مستفادة من الشرع لا تقبل التقايل، فيقف رفعها على موضع الإذن فالصيغة المتلقاة لإزالة قيد النكاح «أنت طالق»، أو «فلانة»، أو «هذه»، وما شاكلها من الألفاظ الدالّة على تعيين المطلقة.
فلو قال: «أنت الطلاق» أو «طلاق» أو «من المطلقات» لم يكن شيئاً ولو نوى به الطلاق. وكذا لو قال: «مطلقة». وقال الشيخ (رحمه الله): الأقوى أنّه يقع إذا نوى الطلاق وهو بعيد عن شبه الإنشاء.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «في الصيغة، والأصل أن النكاح عصمة مستفادة من الشرع» إلى آخره. أشار بما ذكره من الأصل إلى تمهيد قاعدة يرجع إليها في صيغ الطلاق المعتبرة في إزالة
النكاح لشدّة ما قد وقع من الاختلاف في تعيينها.
وحاصل الأصل في ذلك أن النكاح بعد وقوعه وتحقّقه شرعاً يجب استصحاب حكمه والعمل بمقتضاه إلى أن يثبت المزيل له شرعاً، فكلّ ما ادّعي أنّ له أثراً في إزالة قيد النكاح من الصيغ يعرض على قانون الشرع، فإن دلّ منه دليل معتمد على كونه مزيلاً لذلك الحكم الذي قد ثبت استصحابه، حكم له بالإزالة، وما وقع الشكّ فيه يبقى النكاح معه على أصله.
وقد ثبت بالنصّ(1) والإجماع أنّ قوله «أنتِ طالق» مشيراً إلى شخص معيّن صريح فيه موجب لرفع النكاح فأمّا قوله «أنتِ الطلاق» أو «طلاق» فإنّه كناية لا صريح؛ لأنه مصدر والمصادر غير موضوعة للأعيان، وإنّما تستعمل فيها على سبيل التوسّع، والكنايات لا يستعملها الأصحاب في الطلاق.
وأمّا قوله «أنت من المطلّقات» فإنّه إخبار لا إنشاء؛ لأن نقل الإخبار إلى الإنشاء على
خلاف الأصل، فيقتصر فيه على محلّ النص أو الوفاق، وهما منتفيان هنا.
ص: 251
...
---------------------------------------------------------------------------
ومثله «أنت مطلّقة»، لكن في هذه قال الشيخ في المبسوط : إنه يقع بها الطلاق مع النيّة(1). وهو اعتراف بكونها كنايةٌ؛ لأنّ الصريح لا يتوقّف على النيّة. ويلزمه القول في غيرها من الكنايات أو فيما أدّى معناها، كقوله من المطلقات بل مع التعبير بالمصادر؛ لأنّها أبلغ وإن كانت مجازاً؛ لأنّهم يعدلون باللفظ إليه إذا أرادوا المبالغة، كما قالوا في «عدل» إنّه أبلغ من «عادل» ونحوه.
وردّه المصنّف بأنّه بعيد عن شبه الإنشاء؛ لأنّه إخبار بوقوع الطلاق فيما مضى كما
ذكرناه، والإخبار غير الإنشاء.
وفيه نظر؛ لأنّ المصنّف - على ما تكرّر منه فيما سبق مراراً(2) - و غیره(3) يجعلون اللفظ الماضي أنسب بالإنشاء، بل قد جعله في النكاح صريحاً في الإنشاء(4)، فما الذي عدا فيما بدا؟ وقولهم: إنّ نقل الإخبار إلى الإنشاء على خلاف الأصل مسلّم لكن يطالبون بالفارق بين المقامين والموجب لجعله منقولاً في تلك المواضع دون هذه، فإن جعلوه النصّ فهو ممنوع بل ورد في الطلاق ما هو أوسع كما ستراه. وإن جعلوه الإجماع فالخلاف في المقامين موجود في صيغ كثيرة.
ثمّ تخصيص الشيخ الجواز ببعض الكنايات دون بعض أيضاً ليس بالوجه؛ إذ لا فرق بين «أنت مطلقة» الذي ادّعى وقوعه بها وبين قوله من «المطلقات»، بل مع التعبير بالمصدر؛ لأنه وإن شاركهما في كونه كنايةٌ إلا أنّه أبلغ، وقد ذكر بعض العلماء أنه صريح(5).
ص: 252
• ولو قال: «طلّقت فلانة»، قال: لا يقع. وفيه إشكال ينشأ من وقوعه عند سؤاله «هل طلّقت امرأتك ؟ فيقول: نعم.
--------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو قال: طلقت فلانة، قال: لا يقع» إلى آخره.
ممّا اختلفوا في وقوع الطلاق به قوله: «طلّقت فلانة» فقال الشيخ: لا يقع به(1)؛ لما تقدّم من أنّه إخبار لا إنشاء، مع حكمه بأنّه لو قال: «أنت مطلّقة» وقع مع النيّة(2)، فهلّا يكون هنا كذلك، بل هذه أشبه بما اتفقوا على وقوعه به في أبواب العقود من وقوعها بلفظ الماضي ك زوّجت وبعت» وغيرهما ممّا جعلوه صريحاً في معناه، ولعلّ ما هنا كذلك؛ لأنّ «طلّقت» ألصقُ بحال من أنشأ طلاقها الآن من قوله: «هي طالق».
والمصنّف (رحمه الله) استشكل القول بعدم وقوعه بقوله طلّقت فلانة بوجه آخر وهو أن الشيخ(3) وغيره(4)؛ حكموا بوقوع الطلاق بقوله «نعم» عند سؤاله هل طلّقت امرأتك؟ و وقوعه بذلك فرع وقوعه بقوله «طلّقت فلانة» لأن قوله «نعم» تابع للفظ السؤال ومقتض لإعادته على سبيل الإنشاء، فكأنّه قال: «طلّقتها»، فإذا وقع باللفظ الراجع إلى شيء وهو فرعه لزم وقوعه باللفظ الأصلي المرجوع إليه وهو طلقتها.
وقول المصنّف ينشأ من وقوعه عند سؤاله إلى آخره، يقتضي اختيار وقوعه بذلك وأنّه أمر مفروغ منه، وسيأتي حكمه به بخصوصه(5).
والأصل في وقوعه به رواية السكوني عن الصادق (علیه السلام)، عن أبيه، عن عليّ (علیه السلام) في الرجل يقال له: هل طلّقت امرأتك؟ فيقول: نعم. قال: «قد طلقها حينئذ»(6).
ص: 253
• ولا يقع الطلاق بالكناية • ولا بغير العربية مع القدرة على التلفظ باللفظة المخصوصة.
---------------------------------------------------------------------------
ولمانع أن يمنع من الأصل؛ لضعف السند(1)، وإن جاز في الفرع؛ لأنّه صريح في الإنشاء في نظائره، فلو عكس الحكم كان أولى إلّا أنّ الشيخ تبع النصّ كعادته وإن ضعف مستنده. ومع ذلك كان يلزمه الحكم في الفرع لما ذكره المصنّف وما ذكرناه.
واعلم أنّ الخلاف في وقوعه إنشاء كما يظهر من التعليل، أمّا وقوعه إقراراً فلا شبهة فيه حيث لا تدلّ القرينة على إرادة الإنشاء وأنّه لم يسبق منه غير ذلك. وتظهر الفائدة فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أوقعنا به الإنشاء لزم ذلك شرعاً، وإن جعلناه إقراراً بنينا على الظاهر خاصةً، وكان حكم المقرّ بالنسبة إلى نفس الأمر - حيث لم يقع غير ذلك كأنه لم يطلق.
قوله «ولا يقع الطلاق بالكناية».
الكناية في الطلاق هي اللفظ المحتمل للطلاق وغيره كأطلقتك، وأنت خليّة، وبريّة، وبائن، ونحو ذلك، ويقابله الصريح، وهو ما لا يحتمل ظاهره غير الطلاق. وهو عند العامّة لفظ الطلاق والسراح والفراق وما اشتقّ منها(2)، وأطبقوا على وقوعه بالكناية مع نيّة الطلاق(3). وأطبق أصحابنا على عدم وقوعه به مطلقاً، يعني بجميع ألفاظ الكناية، ولكن اختلفوا في كلمات مخصوصة هي من جملتها. وقد تقدّم بعضها(4)، وسيأتي منها بعض آخر(5). والفرق بينها وبين غيرها لا يخلو من تكلّف.
قوله: «ولا بغير العربيّة مع القدرة على التلفظ باللفظة المخصوصة».
هذا هو المشهور بين المتأخّرين ومنهم ابن إدريس(6)؛ لأنّ اللفظ العربي هو الوارد في
ص: 254
• ولا بالإشارة إلا مع العجز عن النطق.
ويقع طلاق الأخرس بالإشارة الدالة. وفي رواية يلقي عليها القناع، فيكون ذلك طلاقاً. وهي شاذّة.
----------------------------------------------------------------------------------------
القرآن والمتكرّر في لسان أهل الشرع والأصل عصمة الفروج واستصحاب حكم العقد إلى أن يثبت المزيل شرعاً.
وذهب الشيخ في النهاية(1)، وجماعة(2) إلى الاجتزاء بما دلّ على قوله «أنت طالق» من اللغات وإن قدر على العربيّة؛ لأنّ المقصود بالذات هو المعاني والألفاظ وضعت للدلالة عليها، وهو حاصل بأيّ لغة اتّفق؛ لأنّ شهرة استعمالها في معناها عند أهل تلك اللغات شهرة العربية عند أهلها، ولرواية جعفر عن أبيه، عن عليّ (علیه السلام) قال: «كلّ طلاق بكل لسان فهو طلاق»(3).
وهذه الرواية هي معتمد الشيخ مع ضعف سندها، وإلا فما ذكروه من دلالة اللغات على المعنى المقصود آتٍ في غيره من العقود ولا يقولون به وظاهرهم أنه حينئذ صريح لاكناية،
فلا يتوقّف على النية.
وذهب بعض العامة إلى أنه كناية(4).
ولا إشكال في الاجتزاء بالترجمة مع العجز عن العربية.
قوله: «ولا بالإشارة إلا مع العجز عن النطق» إلى آخره.
المعتبر من الطلاق ما وقع بالقول؛ لأنّ ذلك هو المعهود من الشارع، فلا يكفي الفعل - كالإشارة - من القادر على النطق إجماعاً؛ لأصالة بقاء النكاح، ولأنّ عدوله من العبارة إلى الإشارة يوهم أنّه غير قاصد إليه. وبعض من جوزه بالكناية جعل الإشارة للقادر كناية يقع بها مع النيّة؛ لحصول الإفهام بها في الجملة(5).
ص: 255
...
------------------------------------------------------------------
ولو تعذّر النطق كفت الإشارة به كالأخرس، كما يقع بها جميع العقود وعبارات العبادات والأقارير والدعاوي حتى لو أشار بالطلاق أو البيع أو غيرهما في الصلاة صح ولم تبطل الصلاة على الأصح. ويعتبر في صحته بإشارته أن تكون مفهمة لمن يخالطه ويعرف إشارته إن لم يتفق فهمها على العموم. ويعتبر فهم الشاهدين لها لقيامها مقام النطق.
ولو عرف الأخرس الكتابة كانت كتابته من جملة الإشارة، بل أقوى؛ لأنّها أضبط وأدلّ على المراد. ولا يعتبر ضميمة الإشارة إليها، بل يكفي أن يفهم أنّه نوى به الطلاق. وقدّمها ابن إدريس على الإشارة حيث يمكن(1)؛ لما ذكرناه من قوّتها.
وتؤيّده رواية ابن أبي نصر قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن الرجل تكون عنده المرأة فصمت فلا يتكلّم، قال: «أخرس؟» قلت: نعم، قال: «فيُعلم منه بغض لامرأته وكراهة لها؟» قلت: نعم، أيجوز له أن يطلّق عنه وليه؟ قال: «لا، ولكن يكتب ويشهد على ذلك». قلت: أصلحك الله لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال: «بالذي يعرف به من فعله مثل ما ذكرت من كراهته لها أو بغضه لها»(2).
واعتبر جماعة من الأصحاب - منهم الصدوقان(3) - فيه إلقاء القناع على المرأة يُري أنّها قد حرمت عليه؛ لرواية السكوني عن الصادق (علیه السلام) قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ويضعها على رأسها ثمّ يعتزلها»(4). وكذا روى أبو بصير عن الصادق (علیه السلام)(5).
ص: 256
• ولا يقع الطلاق بالكتابة من الحاضر وهو قادر على التلفظ. نعم، لو عجز عن النطق فكتب ناوياً به الطلاق صح. وقيل: يقع بالكتابة إذا كان غائباً عن الزوجة. وليس بمعتمد.
---------------------------------------------------------------------------------------
ومنهم من خيّر بين الإشارة وبين إلقاء القناع ومنهم من جمع بينهما(1).
والحقُّ الاكتفاء بالإشارة المفهمة، وإلقاء القناع مع إفهامه ذلك من جملتها. وضعف سند الرواية يمنع من جعلها أصلاً. نعم، مع إفادة إلقاء القناع إرادة الطلاق يدخل في أفراد الإشارة، وتكون الرواية شاهداً.
قوله: «ولا يقع الطلاق بالكتابة من الحاضر وهو قادر على التلفظ» إلى آخره.
اتّفق الأصحاب على عدم وقوع الطلاق بالكتابة للحاضر القادر على التلفظ. واختلفوا في وقوعه من الغائب، فذهب الأكثر - ومنهم الشيخ في المبسوط والخلاف مدّعياً فيه الإجماع(2) - إلى العدم أيضاً؛ عملاً بالأصل واستصحاب حكم الزوجية إلى أن يثبت المزيل وبأنّ الأسباب يتساوى فيها الحاضر والغائب، ومن ثم استويا في وقوعه باللفظ. ولحسنة زرارة قال قلت لأبي جعفر (علیه السلام): رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه ثمّ بدا له فمحاه، قال: «ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتى يتكلّم به»(3).
وذهب الشيخ في النهاية(4)، وأتباعه(5) إلى وقوعه من الغائب؛ لصحيحة أبي حمزة الثمالي قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام)(6) عن رجل قال لرجل : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها،
ص: 257
...
----------------------------------------------------------------------------
أو: اكتب إلى عبدي بعتقه، يكون ذلك طلاقاً أو عتقاً؟ فقال: «لا يكون طلاقاً ولا عتقاً حتى ينطق به لسانه أو يخطّه بيده وهو يريد الطلاق أو العتق، ويكون ذلك منه بالأهلة والشهور ويكون غائباً عن أهله»(1).
وأُجيب بحمله على حالة الاضطرار ويكون لفظة «أو» للتفصيل لا للتخيير(2). وفيه نظر؛ لأنّ الرواية صريحة في أنّ المطلق يقدر على التلفّظ؛ لأنّه قال «اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها» إلى آخره فلا وجه لحمله على حالة الاضطرار؛ لأنّ من قدر على هذا اللفظ قدر على قوله «هي طالق، ولا يمكن العذر بفقد شرط آخر؛ لأنّ الشرائط معتبرة في الكتابة كاللفظ.
ومع ذلك ففي هذه الرواية ترجيح على السابقة بصحة سندها، وبأنّها مقيّدة بالنيّة والغيبة وتلك مطلقة فيهما فجاز كون منعه من وقوع الطلاق لعدم النية بالكتابة، أو لعدم العلم بالنيّة أو تحمل على حالة الحضور جمعاً، على أنه مع ثبوت المرجّح لا ضرورة إلى الجميع. وأمّا ما قيل من أنّ الغيبة والحضور لا تأثير لهما في السببيّة(3) فهو مصادرة محضة؛ لأنّ الخصم يدّعي الفرق، ويحتج عليه بالخبر الصحيح، وهو الفارق بين الكتابة واللفظ المشترك في السببية بين الغائب والحاضر، فكيف يدعى عدم تأثير الغيبة والحضور؟ وبذلك انقطع الأصل الذي ادعوه، وتثبت سببية الطلاق.
وأمّا دعوى ترجيح الأولى بموافقة الأصل والشهرة في العمل ففيه أنّ الصحيح مقدّم
على الحسن، فلا تعارض. ثمّ إنّ المقيّد مقدّم على المطلق، والجمع بينهما واجب فلا تعارض. ثمّ إنّ الطلاق المدعى وقوعه بالكتابة يدخل في عموم الطلاق، والأصل فيه الصحة. وأمّا الشهرة فحالها في الترجيح وعدمه معلوم.
ص: 258
• ولو قال: «خليّة» أو «بریّة» أو «حبلك على غاربك» أو «الحقى بأهلك» أو
«بائن)» أو «حرام» أو «بتّة» أو «بتلة» لم يكن شيئاً، نوى الطلاق أو لم ينوه.
----------------------------------------------------------------------------
وممّا يؤيّد الصحّة أنّ المقصود بالعبارة الدلالة على ما في النفس، والكتابة أحد الخطابين كالكلام، والإنسان يعبّر عمّا في نفسه بالكتابة كما يعبر بالعبارة. نعم، هي أقصر مرتبة من اللفظ ، وأقرب إلى الاحتمال ، ومن ثمّ منع من وقوع الطلاق بها للحاضر ؛ لأنّه مع الحضور لا حاجة إلى الكتابة ، بخلاف الغيبة؛ للعادة الغالبة بها فيها.
واعلم أنّه على القول بوقوعه بها يعتبر القصد بها إلى الطلاق، وحضور شاهدين يريان
الكتابة.
وهل يشترط رؤيته حال الكتابة، أم تكفي رؤيتهما لها بعدها فيقع حين يريانها؟ وجهان، والأوّل لا يخلو من قوّة؛ لأنّ ابتداءها هو القائم مقام اللفظ لا استدامتها. وإنّما تعلم النيّة بإقراره، ولو شكّ فيها فالأصل عدمها. وحينئذ فتكون الكتابة كالكناية، ومن ثمّ ردّهاالأصحاب مطلقاً؛ اطّراداً للقاعدة، مع أنهم نقضوها في مواضع كما ترى.
ولا فرق في الغائب بين البعيد بمسافة القصر وعدمه مع احتمال شموله للغائب عن
المجلس؛ لعموم النصّ(1). والأقوى اعتبار الغيبة عرفاً.
ولتكن الكتابة للكلام المعتبر في صحّة الطلاق، كقوله: «فلانة طالق»، أو يكتب إليها:
«أنت طالق». ولو علقه بشرط كقوله: «إذا قرأت كتابي فأنت طالق»، فكتعليق اللفظ.
قوله «ولو قال: خليّة أو برية، أو حبلك على غاربك» إلى آخره.
هذه الكلمات كلّها كنايات عن الطلاق وليست صريحةً فيه؛ لاحتمالها له ولغيره، فإنّه يحتمل أن تكون خليّة من شيء آخر غير النكاح، أو برية كذلك، إلى آخر الألفاظ، فلذلك لم يقع بها الطلاق عند أصحابنا؛ خلافاً للعامّة أجمع حيث حكموا بوقوعه بها مع نيّته(2).
ص: 259
...
--------------------------------------------------------------------
وإليه أشار بقوله «نوى الطلاق أو لم ينوه» إذ لا خلاف في أنّه لو لم ينو بها الطلاق لم يقع بخلاف اللفظ الصريح. وهذه النية أمر آخر غير القصد الذي تقدّم اعتباره في الصيغة الصريحة(1)؛ لأنّ المراد بالنيّة هنا قصد إيقاع الطلاق، وهناك قصد لفظه لمعناه.
وتحقيق الفرق أنّه لمّا كان المعنى في اللفظ الصريح متّحداً اكتفي بقصد اللفظ للمعنى، بمعنى كون المتلفّظ قابلاً للقصد وإن لم يصرّح بالقصد، ولهذا حكم عليه به بمجرّد سماع لفظه، وإنّما احترزوا باشتراط القصد عن مثل الساهي والنائم إذا أوقعا لفظاً صريحاً، فإنّه لا يعتد به؛ لعدم القصد إلى مدلوله بخلاف الكناية، فإنّ ألفاظها لما كانت مشتركة بين
المقصود منها - وهو الطلاق - ونحوه لم يحمل عليه بمجرد قصده إلى المعنى لاشتراكه بل لابد من القصد إلى بعض معانيه وهو الطلاق مثلاً، وهذا القصد على خلاف الأصل؛ لأنّ-ه للفظ المشترك بأحد معانيه، فلا بد من العلم به وإلا لم يحكم عليه بالطلاق ولا غيره، بخلاف الصريح، فإنّ الأصل فيه إذا وقع من العاقل الخالي عن الموانع أن يكون قاصداً
تخصيص به مدلوله، فهذا هو الفارق بين القصدين فتدبّره فإنّه من مواضع الاشتباه على كثير.
واعلم أنّه قد دلّ على عدم الاكتفاء ببعض هذه الألفاظ المعدودة في الكناية حسنة محمّد بن مسلم أنه سأل أبا جعفر عن رجل قال لامرأته: أنت عليّ حرام، أو بائنة، أو بتّة أو بريّة، أو خليّة، قال: «هذا كلّه ليس بشي»(2).
ومعنى «خليّة وبريّة» أي من الزوج. ومعنى «حبلك على غاربك» أي خليّت سبيلك كما يخلى البعير في الصحراء وزمامه على غاربه - وهو ما تقدّم من الظهر وارتفع من العنق(3) - ليرعى كيف شاء. والحقى - بكسر أوله وفتح ثالثه ، وقيل : عكسه(4) - أي الحقى بأهلك لأنّى
ص: 260
• ولو قال : «اعتدّي» ونوى به الطلاق، قيل: يصحّ، وهي رواية الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام). ومنعه كثير، وهو الأشبه.
----------------------------------------------------------------------------
طلّقتك. وبائن أي مفارقة وحرام عليه الاستمتاع بها. وبتّة أي مقطوعة الوصلة. وتنكير «البتة» جوّزه الفرّاء(1)، والأكثر على أنّه لا يستعمل إلا معرّفاً باللام. وقال الجوهري، تقول: لا أفعله بتةٌ، أو لا أفعله البتّة، لكلّ أمر لا رجعة فيه، ونصب على المصدر(2). وبتلة أي متروكة النكاح.
قوله: «ولو قال: «اعتدّي» ونوى به الطلاق، قيل: يصحّ» إلى آخره.
القائل بوقوعه بقوله «اعتدي» ابن الجنيد(3)؛ استناداً إلى حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الطلاق أن يقول لها: اعتدّي، أو يقول لها: أنت طالق»(4). وحسنة محمّد بن مسلم - السابقة(5) - عن أبي جعفر (علیه السلام)، وفيها - بعد قوله «هذا كلّه ليس بشيء» - «إنّما الطلاق أن يقول لها في قبل العدّة بعد ما تطهر من حيضها قبل أن يجامعها: أنت طالق أو اعتدي، يريد بذلك الطلاق، ويُشهد على ذلك رجلين عدلين».
وروى الشيخ في التهذيب عن عليّ بن الحسن الطاطري قال: الذي أُجمع عليه في الطلاق أن يقول: أنت طالق أو اعتدّي، وذكر أنّه قال لمحمّد بن أبي حمزة: كيف يشهد على قوله: اعتدي؟ قال، يقول: «اشهدوا اعتدّي»(6).
وأنت خبير بأنّ الأصحاب يُثبتون الأحكام بما هو أدنى مرتبة من هذه الروايات وأضعف
ص: 261
...
-------------------------------------------------------------------
سنداً، فكيف بالحسن الذي ليس في طريقه خارج عن الصحيح سوى إبراهيم بن هاشم، وهو من أجلّ الأصحاب وأكبر الأعيان(1)، وحديثه من أحسن مراتب الحسن؟! ومع ذلك ليس لها معارض في قوتها حتى يرجّح عليها بشيء من وجوه المرجّحات.
نعم نقل الشيخ عن الحسن بن سماعة أنّه قال:
ليس الطلاق إلا كما روى ابن بكير بن أعين أن يقول لها وهي طاهر من غير جماع: أنت طالق، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى(2)؟
ولا يخفى عليك أنّ هذا الكلام لا يصلح للمعارضة أصلاً؛ لأنّه من قول ابن بكير وحاله معلوم(3)، والراوي الحسن بن سماعة شيخ الواقفية ووجههم(4)، فأين هذا من حديث سنده عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، والثلاثة الأول ع--ن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم؟!
ومن العجب عدول الشيخ (رحمه الله) عن مثل ذلك مع تعلّقه في وقوع الطلاق بقوله «نعم» في جواب السؤال برواية السكوني(5)، وبوقوعه بغير العربيّة برواية حفص عن أبيه(6) وهما عامّيّان(7) كالسكوني(8)، وتركه هذه الأخبار المعتبرة الأسناد.
وأعجب منه جمعه بينها وبين كلام ابن سماعة - حذراً من التنافي بحمل الأخبار على
ص: 262
...
-----------------------------------------------------------------
أن يكون قد تقدّم قول الزوج أنت طالق ثم يقول: اعتدّي. قال:
لأنّ قوله لها «اعتدي» ليس له معنى؛ لأنّ لها أن تقول: من أيّ شيء أعتد؟ فلا بدّ أن يقول: «اعتدّي لأنّي قد طلّقتك» فالاعتبار بالطلاق لا بهذا القول، إلّا أنّه يكون هذا القول كالكاشف لها عن أنّه لزمها حكم الطلاق، وكالموجب عليها ذلك. ولو تجرّد ذلك من غير أن يتقدّمه لفظ الطلاق لما كان به اعتبار على ما قاله ابن سماعة»(1). هذا آخر كلام الشيخ.
ولا يخفى عليك ما في هذا الجمع والحمل؛ لأنّ مرجعه إلى أنّ الطلاق لا يقع إلا بقوله «أنت طالق»، وأنّ «اعتدّي» إخبار عن سبق قوله «أنت طالق»، والحال أنّ الامام (علیه السلام) في الخبرين جعل قوله «أنت طالق» معطوفاً على «اعتدي» أو معطوفاً عليه، ووقوع الطلاق بكلّ واحدة من الصيغتين صريحاً، فكيف يخص وقوعه بإحداهما؟!
وقوله «إنّه لا معنى لقوله: اعتدّي» غير واضح؛ لأنه إذا جعل كناية عن الطلاق يكون دالاً على إنشاء الطلاق به، فإذا قالت له: من أيّ شيءٍ أعتدّ؟ يقول لها: إنّ قولي «اعتدّي» طلاق، غايته أنّها ما فهمت مراده من قوله «اعتدّي»، فسؤالها عنه لا يوجب أن لا يكون لها معنى مع جعل الشارع معناه الطلاق، ويكون ذلك كسؤالها له بعد قوله «أنت طالق» بقولها: عن أيّ شيء طالق؟ عن وثاق الجلوس في البيت أو وثاق النكاح، أو غير ذلك؟ وأيضاً فقوله في رواية محمد بن مسلم «أو اعتدّي يريد بذلك الطلاق» صريح في أنّه كناية، من حيث إنّه قيد وقوع الطلاق به بإرادة الطلاق ولم يقيد ذلك في قوله «أنت طالق» لأنّه لفظ صريح، وهذا شأن الكنايات عند من يوقع بها الطلاق، فإنّه يشترط فيه النية دون الصريح.
ولا يقال: إنّه يمكن حمله على التقيّة، حيث إنّه مذهب جميع العامّة(2)؛ لأنّ في الخبر
ص: 263
...
--------------------------------------------------------------------
ما ينافي ذلك، وهو قوله «إنّه لا يقع الطلاق بقوله أنت حرام، أو بائنة، أو بتّة، أو بتلة، أو خليّة» فإنّ الطلاق يقع عند المخالف بجميع ذلك مع النيّة، فلا يمكن حمل آخره على التقيّة مع منافاة أوّله لها.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ حكمه بوقوع الطلاق بقوله «اعتدّي» مع النيّة - وهو كناية قطعاً - يدلّ على وقوعه بغيره من الكنايات التي هي أوضح معنى من قوله «اعتدّي» مثل قوله: «أنت مطلّقة» أو «طلّقتك» أو «من المطلّقات» أو «مسرّحة» أو «سرّحتك» أو «مفارقة» أو فارقتك» أو «من المسرّحات» أو «من المفارقات»، إلى غير ذلك من الكنايات التي هي أوضح دلالة على الطلاق من قوله «اعتدّي»؛ بل قيل: إنّ الفراق والسراح وما اشتقّ منهما ومن الطلاق صريح لا كناية؛ لورودها في القرآن مراداً بها الطلاق(1) كقوله تعالى: (وَسَرِ حُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً)(2) (أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَنِ)(3) (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(4) (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِّن سَعَتِهِ)(5). فوقوع الطلاق بقوله «اعتدّي» يدلّ بمفهوم الموافقة على وقوعه بجميع هذه الألفاظ وما في معناها، وتبقى الكنايات التي لا تدخل في مفهوم الموافقة، بل إمّا مساويةً لقوله «اعتدّي» أو أخفى مردودة؛ لعدم الدليل، ومنها قوله في الخبر : «خليّة ، وبريّة ، وبتّة، وبتلة» ونحوها. وحينئذ نكون قد أعملنا الأخبار المعتبرة(6) مؤيّداً بعموم الآيات والأخبار الدالّة على الطلاق من غير تقييد بصيغة(7).
ص: 264
ولو خيّرها وقصد الطلاق، فإن اختارته أو سكتت ولو لحظةً فلا حكم. وإن اختارت نفسها في الحال قيل: تقع الفرقة بائنةً، وقيل: تقع رجعيّةً، وقيل: لا حكم له، وعليه الأكثر.
----------------------------------------------------------------
ولا يضرّنا مفهوم الحصر في قوله (علیه السلام): «إنّما الطلاق أن يقول: أنت طالق»(1) لوجهين:
أحدهما: أنّ الحصر في الصيغتين بطريق المطابقة، وفي غيرها بطريق الالتزام، فلا منافاة.
والثاني: إمكان حمله على مجرّد التأكيد بقرينة قوله في رواية الحلبي: «الطلاق أن يقول لها»(2) من غير أداة الحصر. ولا يرد على هذا حصر المبتدأ في خبره؛ لأنّ ذلك غير مطّرد كما هو محقّق في محلّه. وقد وقع استعمال «إنّما» في الكلام الفصيح مجرّداً عن الحصر، وتقدّم مثله في أخبار(3). ولو قيل بهذا القول لكان في غاية القوّة. وتوهّم أنّه خلاف الإجماع قد تكلّمنا عليه غير مرّة.
قوله: «ولو خيّرها وقصد الطلاق» إلى آخره.
اتّفق علماء الإسلام ممّن عدا الأصحاب على جواز تفويض الزوج أمر الطلاق إلى المرأة وتخييرها في نفسها ناوياً به الطلاق، ووقوع الطلاق لو اختارت نفسها، وكون ذلك بمنزلة توكيلها في الطلاق، وجعل التخيير كناية عنه أو تمليكاً لها نفسها. والأصل فيه أنّ النبي (صلّى الله عليه وآلیه وسلّم) خير نساءه بين المقام معه وبين مفارقته لما نزل قوله تعالى: (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزوجك)(4) الآية، والتي بعدها.
ص: 265
...
------------------------------------------------------------------
وأمّا الأصحاب فاختلفوا، فذهب جماعة - منهم ابن الجنيد(1)، وابن أبي عقيل(2)، والسيّد المرتضى(3)، وظاهر ابني بابويه(4) - إلى وقوعه به أيضاً إذا اختارت نفسها بعد تخييره لها على الفور مع اجتماع شرائط الطلاق من الاستبراء وسماع الشاهدين ذلك وغيره. وذهب الأكثر - ومنهم الشيخ(5) والمتأخّرون(6) - إلى عدم وقوعه بذلك. ويظهر من المصنّف التردّد فيه إن لم يكن ميله إلى الأوّل؛ لأنّه نسب الحكم بعدم صحّته إلى الأكثر ساكتاً عليه. ووجه الخلاف اختلاف الروايات الدالّة على القولين إلا أنّ أكثرها وأوضحها سنداً ما دلّ على الوقوع أورد الشيخ في التهذيب منها ستّة أخبار أكثرها من الموثّق وفيها الحسن أو الصحيح، وذكر أنّه ذكر طرفاً من الأخبار الدالّة على الوقوع به(7):
فمنها صحيحة حمران قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «المخيرة تبين من ساعتها من غير طلاق ولا ميراث بينهم؛ لأنّ العصمة قد بانت منها ساعة كان ذلك منها ومن الزوج»(8).
وموثّقة محمّد بن مسلم وزرارة عن أحدهما (علیه السلام) قال: «لا خيار إلا على طهر من غير جماع بشهود»(9).
ورواية زرارة أيضاً عن أبي جعفر (علیه السلام) قال قلت له: رجل خيّر امرأته، فقال: «إنّما الخيار
ص: 266
...
-----------------------------------------------------------------
لهما ما داما في مجلسهما، فإذا تفرّقا فلا خيار لها»(1) الحديث.
وحجّة المانع أربع روايات بعضها ضعيف السند وبعضها من الموثّق:
منها رواية العيص بن القاسم عن الصادق (علیه السلام) قال: سألته عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها بانت منه؟ قال: «لا، إنّما هذا شيء كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة أمر بذلك ففعل، ولو اخترن أنفسهنّ لطلّقن وهو قول الله تعالى: «يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوَةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً»(2).
ورواية محمّد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنّي سمعت أباك يقول: «إنّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) خيّر نساءه فاخترن الله ورسوله، فلم يمسكهنّ على طلاق، ولو اخترن أنفسهن لبنّ. -فقال: - إنّ هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة وما للناس والخيار؟ إنّما هذا شيء خصّ
الله به رسوله (صلّی الله علیه وآله وسلّم)(3).
وأجاب المانعون(4) عن الأخبار الدالّة على الوقوع بحملها على التقيّة. ولو نظروا إلى أنّها أكثر وأوضح سنداً وأظهر دلالة لكان أجود. ووجه الأول واضح. والثاني أنّ فيها الصحيح أو الحسن والموثّق، وليس فيها ضعيف، بخلاف أخبار المنع فإنّ فيها الضعيف والمرسل والمجهول. وأمّا الثالث فلأنّ نفي البينونة في الأوّل أعمّ من نفي الوقوع؛ لجواز وقوعه رجعيّاً، فلا دلالة له على منعه مطلقاً، فإذا حملت أخبار الوقوع على كونه رجعيّاً لم يتعارض على تقدير أن تكون مكافئة فكيف وحالها ما رأيت؟
ص: 267
...
-----------------------------------------------------------------
وأمّا حمل العلّامة في المختلف لأخبار الوقوع على ما إذا طلّقت بعد التخيير(1) فغير سدبد؛ لأنّ ذلك يقتضي كون تخييرها وكالة، ومعها لا يشترط فيه وقوعه في المجلس ولا على الفور، خلاف ما دلّت عليه تلك الأخبار. وهذا واضح.
إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ القائلين بوقوعه به اختلفوا في أنّه هل يقع طلاقاً رجعيّاً، أو بائناً؟ فقال ابن أبي عقيل: يقع رجعيّاً(2)؛ لرواية زرارة - السابقة - عن أبي جعفر (علیه السلام)، وفي آخرها: قلت: أصلحك الله، فإن طلّقت نفسها ثلاثاً قبل أن يتفرّقا من مجلسهما، قال: «لا يكون أكثر من واحدة، وهو أحقّ برجعتها قبل أن تنقضي عدّتها، فقد خيّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءه فاخترنه، فكان ذلك طلاقاً». فقلت له: لو اخترن أنفسهنَّ لَبِنَّ؟ قال فقال: «ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لو اخترن أنفسهنّ أكان يمسكهنّ؟»(3).
وقيل: تكون بائنة(4)؛ لرواية زرارة عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «إذا اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطّاب»(5). ورواية يزيد الكناسي عن الباقر (علیه السلام) قال: «لا ترث المخيّرة من زوجها شيئاً في عدّتها؛ لأنّ العصمة قد انقطعت فيما بينها وبين زوجها من ساعتها، فلا رجعة له عليها، ولا ميراث بينهما»(6).
وفصّل ابن الجنيد فقال: إن كان التخيير بعوض كان بائناً كالطلاق به، وإلّا كان رجعيّاً(7). وفيه جمع بين الأخبار ويمكن الجمع بينهما بحمل البائن على تخيير من لا عدّة لها كغير
ص: 268
...
---------------------------------------------------------------------
المدخول بها واليائسة والرجعي على ما(1) لها عدّة رجعيّة؛ لأنّ التخيير جائز للجميع على القول به.
وبقي هنا أُمور يتوقّف عليها البحث:
الأوّل: مقتضى النصوص وفتوى المجوّزين أنّ الطلاق يحصل بقولها: اخترت نفسي، أو اخترت الفراق، أو الطلاق، أو نحو ذلك ممّا يدلّ على إرادته، وفي الاكتفاء بقولها: اخترت، مجرّداً بقصد الطلاق وجهان، من أنّه كناية فيقع بالنيّة، ومن كونه أعمّ من اختيار الفراق بخلاف قولها: اخترت نفسي ونحوه، فإنّ فيه إشعاراً بالفراق وإن احتمل غيره، فكان كناية يقع بالنيّة. فإن قلنا بوقوعه حينئذ صدقت في دعواها إرادة الفراق وإن كذّبها الزوج؛ لأنّ ذلك لا يعلم إلّا من قبلها.
ولو قالت: اخترت الأزواج فكاختيار نفسها؛ لأنّها لا تصلح للأزواج إلا بمفارقته. ويحتمل عدم وقوعه بذلك؛ لأنّ الزوج من جملة الأزواج، وهي لا تصلح إلا لواحد، فهو كما لو قالت اخترتك وفيه أنّ الكناية محتملة، وإنّما تفيد مع النيّة، والفرض كونها حاصلة هنا واللفظ ظاهر في إرادة الفراق.
الثاني: مقتضى الرواية(2) اشتراط وقوع الاختيار من المرأة في المجلس. وبمضمونها
أفتى ابن أبي عقيل، فقال:
والخيار عند آل الرسول (علیهم السلام) أن يخيّر الرجل امرأته ويجعل أمرها إليها في أن تختار نفسها أو تختاره بشهادة شاهدين في قبل عدتها، فإن اختارت نفسها في المجلس فهي تطليقة واحدة(3).
ص: 269
...
---------------------------------------------------------------
ومقتضى إطلاقه أنّه لا فرق بين طول المجلس وقصره، ولا بين تخلّل كلام أجنبي بين التخيير والاختيار وعدمه.
ويشكل بأنّه إن جعل بمنزلة عقد التمليك لم تكن العبرة بالمجلس بل بالمفارقة(1). وإن جعل بمنزلة التوكيل لم يكن المجلس أيضاً معتبراً، بل يجوز مع التراخي. ولكن مقتضى الرواية أنه حكم برأسه وللمجلس فيه أثر. ويمكن أن يجعل المجلس كناية عن اتّصال قبولها بتخييره، فيعتبر الاتصال العرفي، والمجلس كناية عنه.
وبهذا صرّح ابن الجنيد فقال:
وإذا أراد الرجل أن يخيّر امرأته اعتزلها شهراً، وكان على طهر من غير جماع في مثل الحال التي لو أراد أن يطلّقها فيه طلّقها، ثم خيّرها فقال لها: قد خيّرتك وقد جعلت أمرك إليك. ويجب أن يكون ذلك بشهادة. فإن اختارت نفسها من غير أن تتشاغل بحديث من قول أو فعل كان يمكنها أن لا تفعله صح اختيارها. وإن اختارت بعد فعلها ذلك لم يكن اختيارها ماضياً(2).
وهذا مبنيّ على أنّه بمنزلة التمليك، فيعتبر فيه اتّصال الإيجاب بالقبول.
ويمكن الجمع بجعل المجلس غير قادح في الاتّصال المعتبر، كما لا يقدح الفصل القليل والتنفّس والسعال. وقد تقدّم في النكاح أنّ الفصل بما يكون من متعلّقات العقد لا يقدح(3). وأنّه في التذكرة اكتفى بوقوع القبول في المجلس(4)، فيكون ما هنا كذلك.
الثالث: موضع الخلاف ما لو جعل التخيير على الوجه المدلول عليه بلفظه، بأن يريد منها أن تتخيّر بلفظه أو ما أدّى معناه، أما لو كان مراده من التخيير توكيلها في الطلاق إن شاءت،
ص: 270
...
-----------------------------------------------------------------------
كان ذلك جائزاً بغير خلاف عند من جوّز وكالة المرأة فيه، ولم يشترط المقارنة بين الإيجاب والقبول كغيره من الوكالات، وكان فرضها حينئذ إيقاعه بلفظ الطلاق المعهود وما أداه.
والعامّة لم يفرّقوا بين قوله: «اختاري نفسك» وبين قوله: «طلقي نفسك» في أنّه تمليك للطلاق أو توكيل فيه، وأنه يتأدّى باختيارها الفراق بلفظ الطلاق وبلفظ الاختيار وما أدى معناهما، بناءً على أنّ جميع ذلك كناية عن الطلاق أو طلاق صريح، وأنه يقع بالأمرين(1).
الرابع: يشترط في هذا التخيير ما يشترط في الطلاق من استبراء المرأة، وسماع شاهدين نطقهما وغير ذلك. وهل يكفي سماعهما نطقها خاصة أو يعتبر سماعهما نطقهما معاً؟ ظاهر الرواية(2) والفتوى الأول(3)، وأنّ الفراق يقع بمجموع الأمرين، فيعتبر سماعهما من الشاهدين. وينزّل حينئذ منزلة الخلع حيث يقع البذل(4) من جانبها والطلاق من جانبه، وإن اختلفا في كون الطلاق هنا من جانبها. ويحتمل الاكتفاء بسماع اختيارها؛ لأنّ الفراق إنّما حصل به ولهذا لو ردّته أو اختارته لم يقع، فيكون ذلك بمنزلة تفويض الطلاق إليها، فلا يشترط إلا سماع ما دلّ على الطلاق، لا سماع ما هو بمنزلة الوكالة فيه.
الخامس: يجوز له الرجوع في التخيير ما لم تتخيّر مطلقاً، وهو الظاهر من رواية زرارة «إنّما الخيار لهما ما داما في مجلسهما»(5)، ولأنّه إن كان تمليكاً فالرجوع فيه قبل القبول جائز، وإن كان توكيلاً فكذلك بطريق أولى.
ومقتضى قوله «إن الخيار لهما ما داما في المجلس» جواز فسخه لكلّ منهما في المجلس
ص: 271
• ولو قيل: هل طلّقت فلانة؟ فقال: «نعم» وقع الطلاق.
------------------------------------------------------------------------------------------
وإن وقع التخيير من كلّ منهما، وهو يشكل من جانبها مطلقاً؛ إذ لا خيار لها في الطلاق مطلقاً. ومن جانبه لو كان بائناً، إلا أنّ الأمر فيه أسهل؛ لإمكان تخصيصه بالرجعي. وهذا يؤيد كون المجلس كناية عن زمان الإيجاب والقبول أعني تخييره لها واختيارها، فإذا انقضى ذلك
فقد انقضى المجلس الذي هو عبارة عنهما، فليس لها الاختيار حينئذ. وهو واضح. السادس: قال ابن الجنيد لو جعل الاختيار إلى وقت بعينه فاختارت قبله جاز
اختيارها، وإن اختارت بعده لم يجز(1).
وهذا القول يشكل على إطلاقه باشتراطه اتّصال اختيارها بقوله، فلا يناسبه توقيته بمدّة تزيد على ذلك، إلا أن يتكلّف توقيته بمدّة يسيرة لا تنافيه، بحيث يمكن فيه فرض وقوع اختيارها أو بعضه خارج الوقت المحدود مع مراعاة الاتّصال. ولا يخلو من تكلف. نعم، من جعله توكيلاً جوّز توقيته بمدّة مخصوصة، ومنع من اختيارها بعدها، كما لو وكّلها في الطلاق في وقت معين. وجوّز حينئذ تراخي جوابها إلى آخر المدة، بخلاف ما إذا جعل تمليكاً.
قوله: «ولو قيل: هل طلّقت فلانة؟ فقال: نعم، وقع الطلاق».
المراد أنّه يقع إنشاء كما نبه عليه سابقاً(2). وبهذا صرّح الشيخ في النهاية(3) وأتباعه(4). والمستند رواية السكوني عن الصادق (علیه السلام) عن أبيه، عن عليّ (علیه السلام) في الرجل يقال له: طلّقت امرأتك؟ فيقول: نعم، فقال: «قد طلّقها حينئذ»(5)، ولأنّ قوله «نعم» صريح في إعادة السؤال على سبيل الإنشاء، والصريح في الصريح صريح، ولأنّ «نعم» في الجواب تابع للفظ السؤال، فإذا كان صريحاً كان الجواب صريحاً فيما السؤال صريح فيه. ولهذا إذا قيل
ص: 272
...
---------------------------------------------------------------------
لزيد: في ذمّتك مائة؟ فقال: نعم، كان إقراراً وحكم عليه بها.
ويشكل بضعف السند، وبأنّه لا يلزم من تضمّن «نعم» مقتضى السؤال أن يكون بمنزلة لفظه، ولأنّ الأصل ممنوع على ما مرّ، فإنه لو قال: طلقت فلانة، لا يقع عند الجماعة(1). فكذا ما دلّ عليه، ولأنّ صحّته كذلك تقتضي صحّة سائر العقود به، وهم لا يقولون به، وإنّما خصّوا الطلاق بالرواية لا بما تكلّف من الجواب، ومن ثمّ لم يجيزوا البيع والنكاح وغيرهما بذلك. والرواية ضعيفة، فالقول بالمنع في الجميع أوضح، وإن جوزنا وقوعه بقوله «طلّقت فلانة»؛ للفرق بين الملفوظ والمقدّر في صيغ العقود والإيقاعات.
واحتج العلّامة(2) وغيره(3) للمنع برواية البزنطي في جامعه عن محمّد بن سماعة، عن محمّد بن مسلم، عن الباقر (علیه السلام) في رجل قال لامرأته أنت عليّ حرام، أو بائنة، أو بتّة، أو خليّة، أو بريّة، فقال: «هذا ليس بشيء، إنّما الطلاق أن يقول لها في قبل عدّتها قبل أن يجامعها: أنت طالق، ويُشهد على ذلك رجلين عدلين»(4). وهذه الرواية أوضح دلالة على تخصيص «أنت طالق» من بين الصيغ المتنازع في وقوعه بها. وهي سالمة من إضافة ما تقدّم في رواية محمّد بن مسلم أيضاً «أو يقول لها: اعتدّي».
ولو صحّت لكانت أجود في الدلالة على نفي تلك الأقوال، مع أنّ راوي الخبر - وهو
محمّد بن مسلم - روى الزيادة وهي قوله «أو اعتدّي».
واعلم أنّا حيث لا نحكم بوقوع الطلاق به إنشاء لا نوقعه إقراراً إذا علمنا أنه لم يقع
منه
ص: 273
• ولو قيل: هل فارقت أو خلّيت، أو أبنت؟ فقال: نعم، لم يكن شيئاً.
• ويشترط في الصيغة تجريدها عن الشرط والصفة في قول مشهور، لم أقف
فيه على مخالف منّا.
----------------------------------------------------------------------------------
غيره، أمّا مع الشكّ فيحكم بكونه إقراراً، إلا أنّ ذلك خارج عن موضع النزاع، وأطلق ابن إدريس كونه إقراراً بطلاق شرعي(1). وقيّده العلّامة بقصد الإقرار، فيقبل منه ويدين بنيّته(2). ولا إشكال مع القصد إنّما الكلام مع الجهل بحاله. والوجه ما قلناه من الحكم بكونه إقراراً إلا مع العلم بانتفاء سابق.
ويرجع في ذلك إلى القرائن المفيدة لكونه يريد الإنشاء أو الإقرار وحيث يحكم عليه بالإقرار - بأن لم يصحّحه إنشاء، ولم يدلّ دليل على نفي الإقرار - لو ادّعى إرادة الإنشاء بذلك فالأجود قبول قوله.
قوله: «ولو قيل: هل فارقت أو خليت، أو أبنت؟ فقال: نعم، لم يكن شيئاً».
وذلك لأنّ «نعم» غايتها أن تفيد جعل ما ذكر في لفظ السؤال إنشاء، وذلك غير كافٍ في إنشاء الطلاق لو صرّح به؛ لأنّه كناية عن الطلاق ولم نقل بوقوعه به، فكيف مع الإتيان بلفظ يدلّ عليه خاصةً؟ ويأتي عند القائل بوقوعه بالكناية مطلقاً مع النية صحّته هنا مع نيّته لو أقمنا «نعم» مقام «طلّقتُ».
قوله: «ويشترط في الصيغة تجريدها عن الشرط والصفة في قول مشهور، لم أقف فيه على مخالف منا».
نبّه بقوله «على(3) قول مشهور على ضعف مستنده، فإنّه ليس عليه نصّ، وإنّما أوردوا عليه أدلّةٌ ظاهريّة، كقولهم: إنّ النكاح أمر ثابت متحقّق فلا يزول إلا بسبب متحقّق
ص: 274
...
----------------------------------------------------------------------
ووقوعه مع الشرط مشكوك فيه. وقولهم: إنه مع عدم الشرط إجماعي، ولا دليل على صحّته بالشرط. ونحو ذلك فإنّ هذا كلّه يندفع بعموم الأدلّة الدالّة على ثبوت حكم الطلاق حيث يقع(1)، أعمّ من كونه منجّزاً أو معلّقاً على شرط.
وقول المصنف «لم أقف فيه على مخالف» يخرج به عن دعوى الإجماع عليه، فإنّ عدم الوقوف على المخالف لا يكفي في تحقق الإجماع الذي يصير حجّة من حيث دخول المعصوم في جملة أقوالهم؛ لجواز أن يكون هناك قائل بوقوعه كذلك ولم يقف المصنّف على قوله. و من الأصحاب من اعتد بمثل ذلك في ثبوت الإجماع وحجيته، بل صرّح ابن إدريس هنا بثبوت الإجماع(2).
وما ذكره المصنّف أسد وأسلم من التحكمات في الدعاوي. وسيأتي أنّ الظهار يصحّ تعليقه على الشرط(3)، وبه نصوص(4)، تفيده، وذلك يؤنس بقبول مثل هذه الأحكام التعليق في الجملة. واختلفوا في وقوع الإيلاء معلّقاً، ومن جوزه كالشيخ(5) والعلّامة في المختلف(6) - احتجّ عليه بعموم القرآن الدالّ(7) على وقوعه من غير تقييد السالم عن المعارض، وهذا الدليل وارد هنا وعموم «المؤمنون عند شروطهم»(8) يشمل الجميع.
وفي تعليقه حكمة لا تحصل بالمنجز، فإنّ المرأة قد تخالف الرجل في بعض مقاصده
ص: 275
• ولو فسّر الطلقة باثنتين أو ثلاث قيل: يبطل الطلاق. وقيل: تقع واحدة
بقوله: طالق، ويلغو التفسير. وهو أشهر الروايتين.
---------------------------------------------------------------------------------
فتفعل ما يكرهه وتمتنع عمّا يرغب فيه، ويكره الرجل طلاقها من حيث إنّه أبغض المباحات إلى الله تعالى، ومن حيث إنّه يرجو موافقتها فيحتاج إلى تعليق الطلاق بفعل ما يكرهه أو ترك ما يريده، فإما أن تمتنع وتفعل فيحصل غرضه، أو تخالف فتكون هي المختارة للطلاق. وقد تقدّم(1) في خبر من علّق طلاق المرأة على تزويجها وسؤاله النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأجابه بأنه «لا طلاق قبل النكاح» ولم يجبه بأنّ الطلاق المعلّق على شرط باطل.
والمراد بالشرط المعلق عليه هو ما يحتمل وقوعه وعدمه كدخول الدار، وبالصفة ما
لا بدّ من وقوعه عادةً، كطلوع الشمس
قوله: «ولو فسّر الطلقة باثنتين أو ثلاث قيل: يبطل الطلاق» إلى آخره.
اتّفق الأصحاب على أنّ الطلاق بالعدد بلفظ واحد - كالثلاث - لا يقع مجموعه، وأنّه يشترط لوقوع العدد تخلّل الرجعة، ولكن اختلفوا في أنّه هل يقع باطلاً من رأس، أو يقع منه واحدة ويلغو الزائد؟ فذهب الأكثر - ومنهم الشيخ(2)، وتلميذه القاضي(3)، والمرتضى في أحد قوليه(4)، وابن إدريس(5)، والمصنف، وباقي المتأخرين(6) - إلى الثاني؛ لوجود المقتضي، وعدم صلاحية التفسير للمانعيّة، مع انحصارها فيه لتأكيد الطلاق به والواحدة موجودة في الثلاث ضرورة تركبها عنها وعن وحدتين. والمنافاة بين الكل والجزء منتف. ولأنّ الواحدة تحصل بقوله فلانة طالق، وقوله « ثلاثاً» هو الملغى لفقد شرط صحة الزائد عن الواحدة وهو الرجعة.
ص: 276
...
-------------------------------------------------------------------
وبه مع ذلك روايات كثيرة، منها: صحيحة جميل بن درّاج عن أحدهما (علیه السلام): أنّه سئل عن الذي طلّق في حال طهر في مجلس ثلاثاً، قال: « هي واحدة»(1). وصحيحة الحلبي وعمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الطلاق ثلاثاً في غير عدّة إن كانت على طهر فواحدة، وإن لم تكن على طهر فليس بشيءٍ»(2). وفي معناهما كثير(3).
وذهب المرتضى في قول آخر(4)، وابن أبي عقيل(5) وابن حمزة(6) إلى الأول؛ لصحيحة أبي بصير عن الصادق قال: «من طلّق ثلاثاً في مجلس فليس بشيء، من خالف كتاب الله ردّ إلى كتاب الله»(7).
وأجيب بالقول بموجبها، فإنّا نقول: إن الثلاث ليس بشيء، وهو لا ينافي وقوع الواحدة. فإنّها أمر آخر غير الثلاث(8).
وحملها الشيخ على الوقوع في الحيض بقرينة ذكر طلاق ابن عمر(9)، وكان قد طلّق امرأته في الحيض(10)، وتؤيّده صحيحة الحلبي عن الصادق (علیه السلام) قال: «من طلّق امرأته ثلاثاً
ص: 277
...
-----------------------------------------------------------------
في مجلس وهي حائض فليس بشيء، وقد ردّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طلاق ابن عمر؛ إذ طلّق امرأته ثلاثاً وهي حائض»(1)، والمطلق يحمل على المقيّد.
واحتجّوا أيضاً بأنّ المقصود غير واقع ، والصالح للوقوع غير مقصود؛ لأنّه غير مريد
للواحدة المقيّدة بقيد الوحدة.
وأجيب عنه بأنّ قصد الثلاث يستلزم قصد كل واحدة(2).
وأورد شيخنا الشهيد (رحمه الله) على الاستدلال بالروايات الأول:
أنّ السؤال عمّن طلّق ثلاثاً في مجلس، وهو أعمّ من أن يكون تلفّظ بالثلاث أو تلفّظ لكلّ واحدة مرّةً، والثاني لا نزاع فيه فَلِمَ قلتم إنه غير مراد؟ وبتقدير عدم تعيينه للإرادة يكون أعم من كلّ واحد، والعام لا يستلزم الخاص(3).
وجوابه: أنّ لنا الاستدلال بعمومه الشامل للقسمين، فإنّ «مَنْ» من صيغ العموم فيتناول من طلّق ثلاثاً مرسلة وبثلاثة ألفاظ، وقد حكم على هذا العامّ بوقوع واحدة فيتناول بعمومه موضع النزاع كما هو شأن كلّ عامّ وعدم استلزام العامّ للخاصّ أمر أخر غير دلالة الحكم على العامّ الحكم على كلّ واحد من أفراده واعلم أنّه قد وردت أخبار كثيرة بوقوع الثلاث بكلمة واحدة(4) كما يذهب إليه العامّة(5)، وفي طريقها ضعف، فلذلك أعرض عنها الأصحاب.
وروى ابن أبي عمير عن أبي أيّوب الخزّاز قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فجاء رجل فسأله فقال رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فقال: «بانت منه». قال: فذهب ثمّ جاء رجل آخر من
ص: 278
• ولو كان المطلّق مخالفاً يعتقد الثلاث لزمته.
-----------------------------------------------------------------------
أصحابنا فقال: رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فقال: «تطليقة». وجاء آخر فقال: رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فقال: «ليس بشيء». ثمّ نظر إليّ فقال: «هو ما ترى». قال، قلت: كيف هذا؟ قال، فقال: «هذا يرى أن من طلّق امرأته ثلاثاً حرمت عليه، وأنا أرى أن من طلّق امرأته على السنة ثلاثاً فقد بانت منه، ورجل طلق امرأته ثلاثاً وهي على طهر فإنّما هي واحدة، ورجل طلق امرأته على غير طهر فليس بشيء»(1). وفي هذا الخبر إشارة إلى الجمع بين الأخبار السابقۀ(2).
قوله: «ولو كان المطلق مخالفاً يعتقد الثلاث لزمته».
هكذا وردت النصوص عن أئمة الهدى (علیهم السلام)(3) وقد تقدّم بعضها.
وروى إبراهيم بن محمد الهمداني - في الصحيح - قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (علیه السلام) مع بعض أصحابنا، فأتاني الجواب بخطّه (علیه السلام): «فهمت ما ذكرت من أمر ابنتك فزوّجها، فأصلح الله لك ما تحبّ صلاحه. فأما ما ذكرت من حنثه بطلاقها غير مرّة فانظر يرحمك الله فإن كان ممن يتولانا ويقول بقولنا فلا طلاق عليه؛ لأنّه لم يأت أمراً ،جهله وإن كان ممّن لا يتولانا ولا يقول بقولنا فاختلعها منه، فإنّه إنّما نوى الفراق بعينه»(4).
وروى عليّ بن أبي حمزة أنّه سأل أبا الحسن (علیه السلام) عن المطلّقة على غير السنّة أ يتزوجها الرجل؟ فقال: «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوّجوهم فلا بأس بذلك»(5).
وروى عبد الأعلى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن الرجل يطلّق امرأته ثلاثا،
ص: 279
• ولو قال: «أنت طالق للسنّة» صحّ، إذا كانت طاهراً. وكذا لو قال «للبدعة». ولو قيل لا يقع كان حسناً؛ لأن البدعي لا يقع عندنا، والآخر غير مراد.
-------------------------------------------------------------------------
قال: «إن كان مستخفّاً بالطلاق ألزمته ذلك»(1). وغير ذلك من الأخبار(2).
ولا فرق في الحكم على المخالف بوقوع ما يعتقده من الطلاق بين الثلاث وغيرها ممّا لا يجتمع شرائطه عندنا ويقع عندهم كتعليقه على الشرط، ووقوعه بغير إشهاد، ومع الحيض، وباليمين، وبالكناية مع النية، وغير ذلك من الأحكام التي يلتزمها. وظاهر الأصحاب الاتفاق على الحكم.
قوله: «ولو قال: أنت طالق للسنّة صحّ» إلى آخره.
لما كان الطلاق البدعي لا يقع عندنا كان تفسير الطلاق به في قوة التفسير بالطلاق الفاسد، فكأنّه قال: أنت طالق طلاقاً باطلاً، فقال الشيخ في الخلاف: يصحّ الطلاق بقوله: أنت طالق، وتلغو الضميمة(3).
والوجه ما اختاره المصنّف من البطلان؛ لأنّ هذا اللفظ مصرّح بأنّه لا يريد بطلاقه إلا الباطل، فلا يكون الطلاق المجرّد عن الضميمة مراداً، ولا المراد واقعاً، فيبطل ومثله القول في كلّ ضميمة منافية للصحة متّصلة باللفظ كقوله: طلاقاً محرماً وفاسداً، ونحو ذلك. وهو اختيار الشيخ في موضع آخر من الخلاف(4).
والفرق بين قوله «للبدعة»، وقوله «ثلاثاً»، مع اشتراكهما في البدعية أنّ البدعيّة في الثلاث لاحقةً للجملة لا لكلّ واحد من أفرادها، ومن ثمّ حكمنا بعدم وقوع الثلاث البدعيّة وأجزنا الواحدة؛ لأنّها ليست بدعة، بخلاف أنت طالق للبدعة، فإنّ الحكم هنا على طلقة واحدة موصوفة بالمبطل، فلم يبق للصحّة محلّ.
ص: 280
• إذا قال: «أنت طالق فى هذه الساعة إن كان الطلاق يقع بك»، قال الشيخ (رحمه الله): لا يصحّ؛ لتعليقه على الشرط. وهو حقّ إن كان المطلِّق لا يعلم. أمّا لو كان يعلمها على الوصف الذي يقع معه الطلاق ينبغي القول بالصحّة؛ لأنّ ذلك ليس بشرط، بل أشبه بالوصف وإن كان بلفظ الشرط.
-------------------------------------------------------------------------
والعامّة لمّا حكموا بصحّة الطلاق البدعي مع الإثم(1) لم تكن هذه الضميمة عندهم منافية للصحّة، فيقع صحيحاً مقيّداً بها، فإن كانت المرأة على حالة يكون طلاقها بدعة - كما لو كانت حائضاً - وقع الطلاق في الحال، وإلّا توقّف على اتّصافها بها، ولا يضرّ التعليق عندهم(2).
وينبغي تقييد البطلان عندنا بكون المطلق عالماً بالحكم، فلو لم يكن عالماً ببطلان الطلاق البدعي لم يبطل مطلقاً، بل ينظر إن أراد به المنجز وقع في الحال، وإن أراد المعلّق على وصف البدعة بطل مطلقاً؛ لأنّ المعلّق لا يشترط في الحكم ببطلانه العلم به، بخلاف وصف البدعة.
قوله: «إذا قال: أنت طالق في هذه الساعة» إلى آخره.
وجه البطلان الذي حكم به الشيخ النظر إلى صورة الشرط(3)، فإنّ الأصحاب لمّا حكموا ببطلان الطلاق المعلَّق على الشرط شمل ذلك كلّ ما كان مشتملاً عليه، ولا شبهة في أنّ قوله إن كان الطلاق يقع بك» شرط لغةً وعرفاً، فيدخل في العموم.
وردّه المصنّف رحمه الله بأنّ التعليق على الشرط باطل لا من حيث اشتماله على
الشرط مطلقا، بل من حيث عدم تنجيزه وإيقاعه في الحال، والتنجيز لا ينافيه مطلق الشرط بل الشرط الذي لا يعلم وقوعه حال الطلاق، فإذا علم أنها حال الطلاق جامعة لشرائط صحته من الخلوّ من الحيض، وكونها في طهر لم يقربها فيه - فقد علم بصلاحيّتها لوقوع الطلاق
ص: 281
• ولو قال: «أنت طالق أعدل «طلاق» أو «أكمله» أو «أحسنه» أو «أقبحه» أو أحسنه وأقبحه»، صحّ، ولم تضرّ الضمائم. وكذا لو قال «مل» مكة أو «ملء الدنيا».
---------------------------------------------------------------
بها، فإذا علّقه على وقوعه بها فقد علّقه على أمر يعلم حصوله حال الطلاق، فلم يناف ذلك تنجيزه، بخلاف ما لو جهل حالها، وكذا القول في كلّ شرط يعلم وقوعه حالته، كقوله: إن كان اليوم الجمعة فأنت طالق، وهو عالم بأنّه الجمعة، فإنّ الطلاق يقع؛ لأنّ الشرط حينئذ في قوّة الوصف، فكأنّه قال: أنت طالق في هذا الوقت الذي يقع فيه الطلاق بك، وقوله «إن كان اليوم الجمعة» في قوّة أنت طالق في هذا اليوم الذي يقع الطلاق فيه، وذلك غير منافٍ له.
قوله: «ولو قال: أنت طالق أعدل طلاق» إلى آخره.
وجه عدم قدح الضمائم أنّها غير منافية؛ لأنّ وصف الطلاق الصحيح بالعدل والكمال والحسن والقبح أمر اعتباري، فقد يعتبر المطلق كون الفراق مصلحة تامّة - لسوء خلقها وعشرتها ونحوه - فيصفه بصفات الكمال من العدل والحسن وغيرهما بالنسبة إلى حاله وقد يصفه بصفات القبح بالنسبة إليها، وقد يصفه بجمعه للشرائط المعتبرة فيه على وج-ه كامل بالأكملية، أو بعدم أخذ شيءٍ منها أو عدم منافرتها أو منافرة أهلها أو بواسطة تمامية شرائطه فيصفه بالأحسنية، ويمكن لذلك أن يصفه بالأقبحيّة من حيث إنه لم يبق فيه شبهة، أو بهما معاً لذلك، أو لغير ذلك من الاعتبارات التي لا تنافي صحّته، فيتم الطلاق بقوله أنت طالق. ولا تضرّ الضمائم.
والعامّة نزلوا أوصاف الحسن على طلاق السنّة، وأوصاف القبح على طلاق البدعة وجعلوه كما لو قال أنت طالق للسنة أو للبدعة». فيقع فيهما، ولكن بشرط كونها صالحةً لذلك الطلاق وقت إيقاعه، وإلّا كان معلّقاً على حصول الوصف(1). ولو فسّره بخلاف ذلك قبل.
ص: 282
• ولو قال «لرضى فلان» فإن عنى الشرط بطل، وإن عنى الغرض لم يبطل. وكذا لو قال: «إن دخلت الدار» بكسر الهمزة، لم يصحّ. ولو فتحها صحّ إن عرف الفرق فقصده.
--------------------------------------------------------------------
وأما قوله «ملء مكّة»، أو «الدنيا»، أو «البيت»، أو «الصحراء»، فإنّ ذلك كلّه يقع على وجه المبالغة والتجوّز في تفخيم شأنه، وإن كان الطلاق ليس بجسم يشغل المكان ويملوه، فلا يكون منافياً له.
وقد تنقدح في هذا الأخير المنافاة؛ لأنّه وصف الطلاق بوصف لا يمكن حصوله
للطلاق؛ لأنّه لا يقبله، فيكون وصفاً منافياً لصحّته كقوله طلاقاً آثماً، أو بدعيّاً. ويضعف بالفرق بين الوصف المبطل والوصف المجامع له عرفاً على وجه المبالغة،
غايته أنّه مجاز، وذلك غير قادح في أصله.
قوله: «ولو قال: لرضى فلان فإن عنى الشرط بطل» إلى آخره.
إذا قال: «أنت طالق لرضى فلان» فظاهره التعليل برضاه، أي أنّ علّة طلاقه لها كونه رضي لفلان، ومع ذلك يحتمل أن يكون شرطاً أي إن رضي. فإن قصد الأوّل وقع الطلاق؛ لأنه منجز، غايته أنّ الباعث عليه رضى فلان فلا تقدح الضميمة؛ إذ لا بدّ من باعث عليه من رضی فلان وغيره وضميمة البواعث غير منافية له. وإن قصد التعليق لم يقع بناء على بطلان المعلّق على الشرط ولا إشكال فيهما مع القصد، أمّا إذا لم يعلم ما قصد ففي حمله على أيهما وجهان، من ظهوره في الغرض فيحمل عليه، ومن الشكّ في وقوعه بشرطه؛ لاحتمال الصيغة الأمرين، فلا يقع والأوّل أظهر.
ولو قال: «إن دخلت الدار فأنت طالق» بكسر الهمزة من «إن» لم يصحّ؛ لأنّه صريح في التعليق على شرط. وإن فتحها صحّ؛ لأنّه يكون تعليلاً بتقدير اللام، و «أن» مصدريّة هي وما بعدها في معنى مصدر هو الدخول، والمعنى لدخولك الدار، كما في قوله تعالى: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ)(1). ولا فرق في ذلك بين كونه صادقاً وكاذباً. هذا إذا عرف الفرق بين الأمرين
ص: 283
• ولو قال: «أنا منك طالق لم يصحّ؛ لأنّه ليس محلاً للطلاق.
• ولو قال: «أنت طالق نصف طلقة» أو «ربع طلقة» أو «سدس طلقة» لم يقع؛
لأنّه لم يقصد الطلقة.
--------------------------------------------------------------------
وقصده، ولو لم يعرفه ففي حمله على أيهما وجهان، والأظهر هنا التعليق؛ لأنّ الظاهر قصده له وأنّه لا يفرّق بين «إن» و «أن». ولو كان عارفاً واشتبه قصده فالأمران متكافئان.
قوله: «ولو قال: أنا منك طالق لم يصح؛ لأنه ليس محلاً للطلاق».
الظاهر من دليل الكتاب والسنة(1) أنّ المرأة محلّ النكاح والطلاق، قال تعالى: (وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)(2) (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ)(3) (وَالْمُطَلَّقْتُ يَتَرَبَّصْنَ)(4)، فيعتبر في صحّة الطلاق تعليقه بمحلّه، فلو قال: أنا منك طالق، لم يقع؛ لأنّه خصّص الطلاق بغير محلّه فيمتنع الصرف إليه.
وللعامّة في ذلك خلاف، فمنهم من وافقنا على ذلك(5)، ومنهم من جعله كناية فيقع به مع نيّته. ووجّهوه بأنّ النكاح يقوم بالزوجين جميعاً، ومن به قوام النكاح يجوز إضافة الطلاق إليه من مالكه كالزوجة، وبأنّ الزوج محلّ النكاح كالزوجة، وأنّه معقود عليه في حقها(6).
ويضعّف بأنّه لو كان كذلك لم تفتقر إضافة الطلاق إليه إلى النيِة كإضافة الطلاق إليها. وبأنّها لا تستحق من بدن زوجها ومنافعه شيئاً، وإنّما المستحق الزوج.
قوله «ولو قال أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة أو سدس طلقة» إلى آخره.
وجه عدم الوقوع ما أشار إليه المصنف من أنّ الطلاق لا يقع إلّا إذا كان تاماً، فإذا قصد
ص: 284
• ولو قال: «أنت طالق ثمّ قال: أردت أن أقول: طاهر قبل منه ظاهراً، ودين
في الباطن بنيته.
• ولو قال: «يدك طالق» أو «رجلك»، لم يقع. وكذا لو قال «رأسك» أو
«صدرك» أو «وجهك». وكذا لو قال «ثلثك» أو «نصفك» أو «ثلثاك».
------------------------------------------------------------
بعضه - سواء كان معيّناً كنصف طلقة، أو مبهماً كجزء وسهم منها - لم يقع؛ لأنه لم يقصد الطلقة التي هي أقلّ ما يقع وتحصل بها البينونة.
وخالف في ذلك العامة، فحكموا بوقوعه بجميع الأجزاء، ويكون المراد واحدة، إمّا
بإلغاء الضميمة، أو بطريق السراية إلى الباقي(1).
ويضعف الأوّل بأنّ الضميمة إنّما تلغى إذا لم تكن منافية وإرادة البعض تنافي الحمل على الكل. والسراية تحكّم.
قوله: «ولو قال: أنت طالق ثمّ قال أردت أن أقول: طاهر» إلى آخره.
وجه القبول كون الغلط في مثل ذلك محتملاً؛ لتقارب حروف الكلمتين والتفاف اللسان فيه، والمرجع إلى قصده، ولا يعلم إلا من قبله، فيرجع إليه فيه ظاهراً، ويُديّن في الباطن بنيّته، بمعنى أنّه لا يحل له فيما بينه وبين الله تعالى إلا مع صدقه فيما ادّعاه، وإن كنا في الظاهر نقبل ذلك منه. ثمّ إن وافقته المرأة أو سكتت فلا يمين عليه، ولو كذّبته توقّف تقديم قوله على اليمين.
قوله: «ولو قال: يدك طالق، أو رجلك، لم يقع» إلى آخره.
محلّ الطلاق ذات الزوجة واللفظ المطابق لها أنت، أو هذه، أو زوجتي، أو فلانة، وما شاكل ذلك. وأمّا الأجزاء فظاهر الأصحاب الاتفاق على أنّه لا يقع بتعليقه بها، سواء كانت معينة كيدها ورجلها ورأسها أم مبهمةً كنصفها. وظاهرهم عدم الفرق بين الجزء الذي يعبّر به عن الجملة كالوجه وغيره.
ص: 285
• ولو قال: «أنت طالق قبل طلقة» أو «بعدها» أو «قبلها» أو «معها» لم يقع شيء، سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن ولو قيل: يقع طلقة واحدة بقوله «طالق مع طلقة» أو «بعدها» أو «عليها» ولا يقع لو قال «قبلها طلقة» أو «بعد طلقة»،
كان حسناً.
-----------------------------------------------------------------------
ولم يذكر وا حكم ما إذا علّق بجملة البدن كقوله: بدنك، وجسدك، وشخصك، وجنّتك، مع أنّهم ذكروا خلافاً في وقوع العتق بذلك بناءً على أنّه المفهوم عرفاً من الذات، وإن كان للتحقيق العقلي حكم آخر، وينبغي أن يكون هنا كذلك.
والعامّة أطبقوا على وقوعه معلّقاً بجميع الأجزاء كما يقع العتق كذلك، ثم يسري إلى المجموع(1) كما يسري العتق إليه بالنص(2)؛ لجامع اشتراكهما في زوال الملك بالصريح والكناية. والمصنّف نبّه بالأمثلة على خلافهم.
قوله: «ولو قال: أنت طالق قبل طلقة، أو بعدها» إلى آخره.
وجه البطلان في الجميع أنّه لم يقصد الطلاق مطلقاً، بل إنّما قصد طلاقاً موصوفاً بكونه قبل أو بعد، أو مع طلاق آخر، فلا يقع الموصوف؛ لعدم صحّة المتعدد بلفظ واحد عندنا، بل لا بد من تخلّل الرجعة وغير الموصوف بذلك - وهو الطلقة الواحدة - غير مقصود؛ لأنّ الكلام جملة واحدة.
والأقوى ما اختاره المصنّف من التفصيل، وهو الصحة مع قوله قبل طلقة، أو بعدها، أو معها، أو عليها، والبطلان مع قوله قبلها، أو بعد طلقة. أمّا الأوّل؛ فلأنّ القصد إلى الاثنتين يقتضي القصد إلى الواحدة، فإذا بطلت الثانية لفقد شرطها تبقى الأولى؛ لعدم المقتضي له، إذ ليس إلّا توهّم كونه لم يقصد إلّا الطلاق الموصوف
ص: 286
• ولو قال: «أنت طالق نصفي طلقة» أو «ثلاثة أثلاث طلقة»، قال الشيخ (رحمه الله): لا يقع. ولو قيل: يقع بقوله «أنت طالق» وتلغو الضمائم - إذ ليست رافعة للقصد كان حسناً . ولا كذا لو قال: «نصف طلقتين».
-------------------------------------------------------------------------------
بذلك، وهو ممنوع، بل هو قاصد إلى كلّ واحد منهما، فتقع الواحدة بقوله «أنت طالق وتلغو الضميمة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، أو اثنتين.
وأمّا البطلان في الثاني؛ فلأنّه شرط في الطلقة الملفوظة كونها واقعة بعد طلقة أو أن يكون قبلها طلقة، ولم يقع ذلك، فكأنّه قد علّق الطلاق الملفوظ على أمر لم يقع، ولأنّه قصد طلاقاً باطلاً؛ لأنّ الطلاق المسبوق بآخر هو طلاق المطلقة من غير رجعة، وهو باطل، بخلاف شرطه أن يكون بعده أو معه، فإنّ الطلاق الواحد لا مانع منه، وإنّما المانع من المنضم إليه.
ونبّه بقوله «سواء كان مدخولاً بها أو لم تكن» على خلاف العامّة، حيث حكموا بوقوع واحدة مطلقاً، و ، ووقوع الاثنين إن كان مدخولاً بها؛ لأنّ غير المدخول بها تبين بالواحدة فلا تقبل الطلقة الأخرى، سواء كانت هي المصرحة أم المنضمة، بخلاف المدخول بها، فإنّها تقبل التعدّد مطلقاً(1).
قوله: «ولو قال: أنت طالق نصفي طلقة» إلى آخره.
وجه ما اختاره الشيخ من عدم الوقوع مع تجزئته(2) أنّ الطلاق أمر واحد لا يقبل التجزئة، فإذا تلفّظ بطلاق متجزئاً فكأنّه قصد إلى طلاق غير صحيح، فتكون الضميمة منافية، كما لو قال نصف طلقة.
وقول المصنّف إنّه «يقع بقوله طالق وتلغو الضمائم» إنّما يتمّ إذا كانت الضميمة غير منافية، أمّا المنافية فالمصنّف قد وافق على بطلان الطلاق بها غير مرّة، وكأنّه يدفع المنافاة بذلك، من حيث إنّ نصفي طلقة وثلاثة أثلاث طلقة في معنى طلقة واحدة، فلذلك لا يجعلها
ص: 287
فرع • قال الشيخ (رحمه الله): إذا قال لأربع أوقعت بينكنّ أربع طلقات».
وقع بكل واحدة طلقة. وفيه إشكال؛ لأنّه اطراح للصيغة المشترطة.
--------------------------------------------------------------------------
منافية. لكن لا يخلو من إشكال؛ لما ذكرناه من عدم قبول الطلاق لذلك(1).
وهذا بخلاف ما لو قال: نصف طلقتين، فإنّه لا يقع وإن قلنا بوقوعه بقوله «نصفي طلقة»؛ لأنّ نصفي الواحدة عبارة عن تمامها بخلاف نصف الاثنتين، فإنّه أعمّ من كونها واحدةً أو نصف كلّ واحدة منهما، فلا يكون اللفظ دالاً على إرادة طلقة كاملة.
ولو قيل بوقوعه بذلك أيضاً؛ معلّلاً بما ذكره المصنّف في الأول بتمام اللفظ بقوله «أنت» طالق وتلغو الضميمة؛ إذ ليست رافعة للقصد، أمكن. ووجهه أنّها إنّما ترفع القصد إلى الطلاق الكامل مع إرادة نصف كلّ واحد من الاثنين، أمّا مع صلاحيّته لذلك وللواحد عرفاً فلا، وإن كان بحسب التحقيق لا يدلّ عليه.
والشافعيّة مع قولهم بأنّه لو قال: «أنت طالق نصف طلقة» تقع واحدة (2)اختلفوا في أنّه إذا قال «نصف طلقتين» هل تقع واحدة أو اثنتان؟(3) نظراً إلى ما ذكرناه من أن نصف الاثنتين عرفاً واحدة، ومن أنّه حقيقة نصف كلّ واحدة فيكون بمنزلة ما لو قال: نصف طلقة ونصف طلقة، فإنّه يقع اثنتان.
قوله: «قال الشيخ رحمه الله: إذا قال لأربع أوقعت بينكن أربع طلقات» إلى آخره. وجه ما ذهب إليه الشيخ(4) أنّ إيقاع أربع طلقات عليهنّ يقتضي أن يكون قد أوقع على كلّ واحدة طلقة، وقد وقع ذلك بصيغة الماضي الدالة على الإنشاء كما ذكر في النكاح وغيره(5). فيقع. ولكن فيه عدول عن الصيغة المشترطة وهي قوله «طالق والشيخ وإن لم يلتزم الصيغة
ص: 288
• ولو قال: «أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً» صحت واحدة إن نوى بالأوّل الطلاق
وبطل الاستثناء.
-----------------------------------------------------------------------
إلا أنّه وقف معها في مواضع كما عرفته فيما سلف(1).
والأصل في هذا أنّ الشيخ جرى في المبسوط مع الشافعيّة في فروعهم، ومن جملتها أنّه لو قال لأربع «أوقعت بينكنّ طلقة»، قالوا: يقع بكلّ واحدة طلقة؛ لأنّ كل واحدة يخصّها منها ربع ويسري إلى الباقي(2)، وهم لا يلتزمون في الطلاق لفظاً خاصاً(3). وقالوا لو قال لهنّ «أوقعت بينكنّ أربع طلقات»، وقع بكلّ واحدة واحدة أيضاً؛ لأنّه يكون قد أوقع بكلّ واحدة طلاقاً تامّاً(4) ، فوافقهم الشيخ على هذا القسم؛ نظراً منه إلى أنّ المعتبر عندنا وقوع طلقة تامّة(5)، وخالفهم في الأوّل. وبقي الكلام معه من حيث الصيغة الخاصة، وقد خالفها في تجويزه الطلاق بقوله «أنت مطلقة»(6)، وبقوله «يا مطلّقة» بالنداء(7)، وبقوله «نعم» في جواب السؤال عن طلاقها(8) وغير ذلك(9)، فليكن هذا منه، ولعلّه أقوى منه دلالة وألصق بصيغة الإنشاء. والمصنّف لمّا ردّ ذلك كلّه في غير ما ورد عليه النصّ واتّبع المتّفق عليه لزمه مثله هنا. نعم، لو وقع ذلك على وجه الإقرار حكم بطلاق الأربع.
قوله: «ولو قال: «أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً»، صحّت واحدة» إلى آخره.
لمّا كانت الثلاث المرسلة إنّما تقع منها واحدة عند المصنّف كان قوله «أنت طالق ثلاثاً»
ص: 289
• ولو قال: «أنت طالق غير طالق فإن نوى الرجعة صحّ؛ لأنّ إنكار الطلاق رجعة، وإن أراد النقض حكم بالطلقة. ولو قال: «طلقة إلّا طلقة»، لغا الاستثناء، وحكم بالطلقة بقوله «طالق».
-----------------------------------------------------------------
موجباً لوقوع واحدة وإلغاء الباقي، فإذا عقّبه بالاستثناء المستغرق يكون الاستثناء لاغياً كما في غيره من صيغ الأقارير ونحوها، فتبقى الواحدة بحالها. وأولى منه بالصحة ما لو قال: «ثلاثاً إلّا اثنتين»، أو إلا واحدةً.
ونبّه بذلك على خلاف العامة القائلين بوقوع الثلاث لولا الاستثناء، فإنّهم يحكمون مع الاستثناء بصحته مراعى بقواعده المقرّرة، فيبطلون المستغرق ويثبتون الثلاث، والباقي بعد الاستثناء غير المستغرق كواحدة بقوله إلا اثنتين واثنتين بقوله: إلّا واحدةً وهكذا(1).
وقول المصنّف «إن نوى بالأوّل الطلاق» لا خصوصيّة له بهذه المسألة؛ لأنّ القصد معتبر في جميع الصيغ. وليس هذه كالكناية المفتقرة إلى نيّة زائدة كما سبق(2)، بل هي من الألفاظ الصريحة. نعم، اعتبر القائلون بصحّة الاستثناء أن يكون قصده مقترناً بأوّل اللفظ ، فلو بدا له الاستثناء بعد تمام المستثنى منه لم يؤثر الاستثناء؛ لوقوعه بعد لحوق الطلاق، فيلغو.
قوله: «ولو قال: أنت طالق غير طالق فإن نوى الرجعة صحّ» إلى آخره.
إذا قال: «أنت طالق غير طالق» فإن كان الطلاق رجعيّاً وقصد الرجعة بقوله: غير طالق، وقلنا: إنّ إنكار الطلاق رجعة، صحّ الطلاق والرجوع. وإن أراد النقض بجعل «غير» بمنزلة «إلا» كان كالاستثناء المستغرق، فيبطل النقض وتصحّ الواحدة. وكذا لو كان بائناً، أو لم نقل إن إنكار الطلاق يفيد الرجعة. وسيأتي الكلام فيه(3).
ص: 290
• ولو قال «زينب» طالق، ثمّ قال: أردت عمرة وهما زوجتان قبل.
• ولو قال: «زينب طالق، بل عمرة» طلّقتا جميعاً؛ لأنّ كلّ واحدة منهما
مقصودة في وقت التلفّظ باسمها. وفيه إشكال ينشأ من اعتبار النطق بالصيغة.
----------------------------------------------------------------------
ولو قال: «طلقة إلا طلقة»، فهو استثناء مستغرق فيبطل الاستثناء لاستغراقه، وتقع(1) الطلقة بغير إشكال؛ إذ لا فرق في بطلان الاستثناء المستغرق بين تعدّد أفراد المستثنى منه واتّحادها.
قوله: «ولو قال: زينب طالق، ثمّ قال: أردت عمرة، وهما زوجتان قبل».
وجه القبول - مع كونه رجوعاً عما ثبت ظاهراً من الحكم بطلاق زينب - أنّ المرجع في تعيين المطلّقة إلى قصده، والاسم كاشف عنه، والغلط فيه ممكن، ولا يعلم إلا من قبله فيقبل؛ لأنّ سبق اللسان من اسم إلى آخر واقع كثيراً، فكان كدعواه الغلط في الانتقال من لفظ إلى آخر يقاربه في حروفه ك«طاهر وطالق وطارق ونحوها».
وقيّد بكونهما زوجتين ليحترز عمّا لو ادّعى قصد أجنبيّة وغلط في تسميّة زوجته، فإنّه لا يقبل؛ لأنّ ذلك خلاف الظاهر، فإنّ الأصل في الطلاق أن يواجه به الزوجة أو يعلق بها، فدعواه إرادة الأجنبية غير مسموعة.
قوله: «ولو قال: زينب طالق بل عمرة، طلّقتا جميعاً» إلى آخره.
وجه الحكم بطلاقهما وقوع الصيغة تامّة في المعطوف عليها، والأخرى معطوفة عليها، فيقتضي اشتراكهما في الحكم المذكور، بمعنى أنّه يقدّر في المعطوف مثل حكم المعطوف عليه، فتكون الصيغة في «عمرة» في حكم المذكورة.
والمصنّف استشكل ذلك من حيث إنّ المعتبر في الطلاق النطق بالصيغة تامّة، ولا يكفي تقديرها وإن اكتفى به في إثبات الحكم الذي لا يتوقف على صيغة مخصوصة، بل على مجرّد الدلالة على معناه.
ص: 291
الركن الرابع الإشهاد
• ولا بدّ من حضور شاهدين يسمعان الإنشاء، سواء قال لهما: «اشهدا» أو لم يقل. وسماعهما التلفّظ شرط في صحة الطلاق، حتى لو تجرّد عن الشهادة لم يقع، ولو كملت شروطه الأُخر.
-----------------------------------------------------------------------------
ولا فرق في ذلك بين كون الثانية معطوفة ب«الواو» و «بل»؛ لاشتراكهما في المقتضي
للفساد، وهو عدم تمامية الصيغة في المعطوفة.
وربما فرّق بينهما وحكم بصحته في المعطوفة ب«الواو»؛ نظراً إلى أنّ الواو تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون قوله: «طالق» في الأوّل مراداً في الثانية، بخلاف المعطوفة ب«بل»؛ لأنّها تفيد الإضراب عن الأولى وإثباته للمعطوفة، وإذا بطل حكم «طالق» في الأولى لم يكن مؤثّراً في الثانية.
والأقوى توقّف الثانية على الصيغة التامّة مطلقاً، وإلا اختصّ الطلاق بالأُولى. نعم، لو وقع ذلك على وجه الإقرار حكم بطلاقهما؛ لأنّه أقرّ بطلاق المذكورة أولاً ثم رجع مستدركاً وأقرّ بطلاق الثانية، فلا يقبل رجوعه عن الأوّل، ويؤاخذ بالثاني ، كما لو قال له عليّ درهم بل دينار.
قوله: «ولا بدّ من حضور شاهدين يسمعان الإنشاء، سواء» إلى آخره.
أجمع الأصحاب على أنّ الإشهاد شرط في صحّة الطلاق. ويدلّ عليه - وراء الإجماع - قوله تعالى: بعد ذكر الطلاق (وَ أَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(1) الآية، وإن كانت محتملة للإشهاد على الرجعة لقربها إلا أنّ الأخبار خصّصته به روی محمّد بن مسلم وزرارة في الحسن عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إنّ الطلاق لا يكون بغير شهود»(2). وروى أبو الصبّاح الكناني
ص: 292
• وكذا لا يقع بشاهد واحد ولو كان عدلاً، ولا بشهادة فاسقين، بل لا بدّ من حضور شاهدين ظاهرهما العدالة. ومن فقهائنا من اقتصر على اعتبار الإسلام فيهما. والأوّل أظهر. ---------------------------------------------------------------------------------------------
عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «من طلّق بغير شهود فليس بشيء»(1).
وعن محمّد بن مسلم قال: قدم رجل إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) بالكوفة فقال: إنّي طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أجامعها، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أشهدت
رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟» فقال: لا، فقال: «اذهب فإنّ طلاقك ليس بشيء»(2).
والأخبار في ذلك مستفيضة(3).
والمعتبر سماع الشاهدين لإنشاء الطلاق، سواء قال لهما: «اشهدا» أم لا؛ لأنّ الشهادة لا يشترط في ثبوتها في نفسها طلبها من الشهود. وفي حسنة ابن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل كانت له امرأة طهرت من محيضها فجاء إلى جماعة فقال: فلانة طالق يقع عليها الطلاق ولم يقل : اشهدوا؟ قال: «نعم»(4). ومثله روى صفوان بن يحيى في الحسن عنه (علیه السلام)(5).
وكما يعتبر سماعهما الإنشاء إذا كان لفظاً تعتبر رؤيتهما إشارة الأخرس وكتابة العاجز أو الغائب؛ لعموم قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا)(6) الشامل للسماع والرؤية. وتعبير المصنّف بالسماع مبنيّ على الغالب من وقوعه باللفظ.
قوله: «وكذا لا يقع بشاهد ولو كان عدلاً» إلى آخره.
ص: 293
...
------------------------------------------------------------------------------
لمّا كان الحكم بالصحة معلّقاً على الشاهدين العدلين كما صرّحت به النصوص من الكتاب والسنّة - لم يكن العدل الواحد كافياً ولا الفاسقان؛ لقوات العدد المعتبر في الأوّل والوصف في الثاني.
وهل المعتبر في العدالة هنا ظهورها بترك المعاصي والقيام بالواجبات مع الإيمان الخاص كما اعتبر في غيره من الشهادات(1)، أم يكفي الإسلام وإن انتفى الإيمان الخاصّ والعدالة بالمعنى المشهور؟ الأشهر الأوّل؛ لأنّ الظاهر من الآية اعتبار أمر آخر مع الإسلام لقوله : (ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(2) فإنّ الخطاب للمسلمين، فيستفاد اعتبار إسلام الشاهدين من قوله «منكم» ويبقى الوصف بالعدالة زائداً، فلا بدّ من مراعاته. إلا أنّه لا يتعين اعتبار العلم بما ذكروه من الملكة المقرّرة في الشهادة وغيرها؛ لجواز إرادة من لا يظهر فسقه، إذ لا واسطة بين العدل والفاسق، ولا يصحّ الحكم على المجهول بالفسق وإلى هذا ذهب جمع من أصحابنا، منهم ابن الجنيد(3)، والشيخ في أحد قوليه(4). وأمّا المصنّف وباقي المتأخّرين(5) فهم على أصلهم في العدالة المعتبرة في الشهادة.
والقول بالاكتفاء فيهما هنا بالإسلام للشيخ في النهاية(6)، وجماعة، منهم القطب الراوندي(7)، إمّا بناءً على أنّ الأصل في المسلم العدالة، أو لخصوص رواية أحمد بن أبي نصر البزنطي الحسنة قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل طلق امرأته بعدما غشيها بشهادة عدلین، قال: «ليس هذا طلاقاً». فقلت: جعلت فداك كيف طلاق السنّة؟ فقال: «يطلّقها إذا
ص: 294
...
-------------------------------------------------------------------------------
طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله تعالى في كتابه، فإن خالف ذلك يردّ إلى كتاب الله تعالى». فقلت له: فإن طلّق على طهر من غير جماع بشاهد وامرأتين، فقال: «لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، وقد تجوز شهادتهنّ مع غيرهن في الدم إذا حضرنه». فقلت: فإن أشهد رجلين ناصبيّين على الطلاق أيكون طلاقاً؟ فقال: «من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن تعرف منه خيراً»(1).
وهذه الرواية واضحة الإسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق ولا يرد أنّ قوله «بعد أن تعرف منه خيراً» ينافي ذلك؛ لأنّ الخير قد يُعرف من المؤمن وغيره، وهو نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم، فلا ينافيه - مع معرفة الخير منه بالذي أظهره من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرها من أركان الإسلام - أن يعلم منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح؛ لصدق معرفة الخير منه معه. وفي الخبر - مع تصديره باشتراط شهادة عدلين ثمّ اكتفاؤه بما ذكر - تنبيه على أنّ العدالة هي الإسلام، فإذا أُضيف إلى ذلك أن لا يظهر الفسق كان أولى.
إذا تقرّر ذلك فالمعتبر شهادة شاهدين خارجين عن المطلّق. ثمّ إن كان هو الزوج فواضح. وإن كان وكيله ففي الاكتفاء به عن أحدهما وجهان، من تحقّق اثنين خارجين عن المطلّق، ومن أنّ الوكيل نائب عن الزوج، فهو بحكم المطلّق، فلا بد من اثنين خارجين عنهما.
وفيه أنّ أحدهما - أعنى الزوج والوكيل - خارج؛ لأنّ اللفظ لا يقوم باثنين، فأيّهما اعتبر
اعتبرت شهادة الآخر.
ويتفرّع على المشهور من اعتبار عدالة الشاهدين - بمعنى ملكة التقوى والمروءة - أنّ المعتبر ثبوتها ظاهراً لا في نفس الأمر؛ لأنّه لا يطلع عليه إلّا الله والشاهد، فلو اعتبر ذلك في حقّ غيرهما لزم التكليف بما لا يطاق. وحينئذ فلا يقدح فسقهما في نفس الأمر في صحة
ص: 295
• ولو شهد أحدهما بالإنشاء ثمّ شهد الآخر به بانفراده لم يقع الطلاق. أمّا لو شهدا بالإقرار لم يشترط الاجتماع ولو شهد أحدهما بالإنشاء والآخر بالإقرار لم يقبل.
---------------------------------------------------------------------------
الطلاق مع ظهور عدالتهما. ولا يشترط حكم الحاكم بها، بل ظهورها عند المطلّق ومن يترتّب عليه الطلاق حكماً.
وهل يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة إليهما حتى لا يصحّ لأحدهما أن يتزوّج بها،أم لا؛ نظراً إلى حصول شرط الطلاق، وهو العدالة ظاهراً؟ وجهان.
وكذا لو علم الزوج فسقهما مع ظهور عدالتهما، ففي الحكم بوقوع الطلاق بالنسبة إليه - حتى تسقط عنه حقوق الزوجية ويستبيح أختها والخامسة - الوجهان. والحكم بصحته
فيهما لا يخلو من قوّة.
قوله: «ولو شهد أحدهما بالإنشاء ثم شهد الآخر به بانفراده لم يقع الطلاق» إلى آخره.
لما كان سماع الشهادتين شرطاً في صحّة الطلاق كغيره من الشروط المعتبرة فيه كان المعتبر اجتماعهما في السماع على الإنشاء الواحد، فلو تعدّد الإنشاء وسمع كل واحد إنشاء لم يقع؛ لفقد شرط الصحة في كلّ منهما. وأولى بعدم الوقوع ما لو سمع الإنشاء شاهد واحد ثمّ أقرّ به عند آخر، أو لم يسمع الإنشاء شاهد ثمّ أشهدهما على الإقرار؛ لأنّ الإقرار إخبار عما وقع سابقاً، فإذا لم يصح السابق لفقد شرطه لم يصح الإقرار. هذا إذا علم استناد الإقرار به إلى ما أوقعه منه بغير إشهاد.
أمّا لو أطلق الإقرار به شمع وصحّت الشهادة عليه وحكم بوقوعه صحيحاً؛ لأنّ الطلاق منزل على الصحيح، سواء شهد على إقراره الواحد شاهدان أو شهدا على إقراره في وقتين؛ لأنّ صحّة الإقرار لا يشترط فيها الإشهاد وإنّما المعتبر ثبوته شرعاً، وهو يحصل مع تعدّده وشهادة كلّ واحد على واحد من الإقرارين؛ لأنّ مؤدّاهما واحد، كما لو أقرّ بغيره من الحقوق.
ص: 296
• ولا تقبل شهادة النساء في الطلاق لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال.
-----------------------------------------------------------------------------
ويدلّ على اشتراط سماع الشاهدين إنشاء الطلاق الواحد حسنة أحمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع وأشهد اليوم رجلاً ثمّ مكث خمسة أيام ثم أشهد آخر، فقال: «إنّما أمر أن يشهدا جميعاً»(1).
ولا ينافي ذلك ما رواه محمّد بن إسماعيل بن بزيع - في الصحيح - عن الرضا (علیه السلام) قال: سألته عن تفريق الشاهدين في الطلاق، فقال: «نعم، وتعتد من أوّل الشاهدين». وقال: «لا يجوز حتى يشهدا جميعاً»(2)؛ لأنّ هذا محمول على تفريقهما في أداء الشهادة لا في تحمّلها؛ جمعاً. ويؤيده قوله: (وتعتدّ من أوّل الشهادتين؛ لأنّه يكون قد وقع بهما، فإذا شهد أولهما بوقت كان الآخر شاهداً به كذلك وإن تأخّر فى الأداء. وقوله: «لا يجوز حتّى يشهدا جميعاً» يجوز أن يريد به ما ذكرناه من الإشارة إلى أنّ الشرط تحمّلهما الشهادة جميعاً، أي مجتمعين في وقت واحد، فيكون ذلك استدراكاً لما يتوهّم من خلافه في أوّل الكلام. وهذا هو الظاهر. وأن يريد أنّه لا يثبت حتّى يشهدا جميعاً بوقوعه منه؛ لأنّ الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين.
قوله: «ولا تقبل شهادة النساء في الطلاق لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال».
قد تقدّم ما يدلّ من الأخبار على أنّ شهادة النساء لا تقبل في الطلاق، وإنّما تعتبر شهادة عدلين ذكرين(3)، ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)(4)، فَإِنَّه يدلّ على اعتبار ذكوريّتهما؛ لأنّه حقيقة فيه، ودخول الإناث بالتبعيّة على خلاف الأصل، والأخبار(5) قد بينت المراد من الآية وخصّصت ذلك. والخناثي بحكم النساء في الشهادة.
ص: 297
• ولو طلق ولم يُشهد ثمّ أشهد كان الأوّل لغواً، ووقع حين الإشهاد إذا أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء.
-----------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو طلّق ولم يُشهد ثمّ أشهد كان الأول لغواً» إلى آخره.
المراد أنّه أتى باللفظ المعتبر في الطلاق قاصداً به إنشاءه، فلو قصد الإخبار لم يقع وإن أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء، كقوله: اشهد أنّ فلانة طالق، قاصداً الإشهاد لا الإنشاء. والمائز حينئذ بين العبارتين القصد، ويمكن علم الشاهدين به بإخباره عنه وبالقرائن الدالة على أحدهما.
والأصل في هذه المسألة صحيحة أحمد بن محمّد قال: سألته عن الطلاق، فقال: «على طهر»، وكان عليّ (علیه السلام) يقول: «لا طلاق إلا بالشهود»، فقال له رجل: فإن طلّقها ولم يشهد ثمّ
أشهد بعد ذلك بأيام فمتى تعتد؟ فقال: «من اليوم الذي أشهد فيه على الطلاق»(1).
والمصنّف (رحمه الله) قيّد الرواية بقوله «إذا أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء». وهو قيد حسن؛ لأنّ الرواية قاصرة عن إفادة الحكم مطلقاً.
ص: 298
• ولفظه يقع على البدعة والسنة.
فالبدعة ثلاث طلاق الحائض بعد الدخول مع حضور الزوج معها، ومع غيبته دون المدّة المشترطة. وكذا النفساء، أو في طهر قربها فيه. وطلاق الثلاث من غير رجعة بينها. والكلّ عندنا باطل لا يقع معه الطلاق.
----------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولفظه يقع على البدعة والسنّة فالبدعة ثلاث» إلى آخره.
المشهور في كلام الأصحاب وغيرهم انقسام الطلاق إلى السنّي والبدعي. والمراد بالبدعي المحرّم إيقاعه نسبة إلى البدعة، وهي تقابل السنّة النبويّة، وبالسنّي ما يجوز بالمعنى الأعمّ نسبة إلى السنة النبويّة، ويعبر عنه بالشرعي، سواء كان مع ذلك واجباً كطلاق المؤلى والمظاهر، فإنّه يؤمر بعد المدة بأن يفي، أو يطلّق، فالطلاق واجب تخييراً، أو محبوباً(1) كالطلاق مع الشقاق وعدم رجاء الوفاق، وإذا لم تكن عفيفة يخاف منها إفساد الفراش، أم مكروهاً كالطلاق عند التيام الأخلاق وسلامة الحال. روي أنّه (صلّی الله علیه وآله وسلّم) قال: «أبغض المباحات إلى الله تعالى الطلاق»(2). وعنه (علیه السلام) قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس لم ترح رائحة الجنّة»(3).
ص: 299
...
------------------------------------------------------------------------------
وللتحريم أسباب ثلاثة:
أحدها: الحيض مع الدخول، وحضور الزوج أو حكمه، وكون المرأة حائلاً. وفي معناه النفاس.
وثانيها: عدم استبرائها بطهر آخر غير ما مسّتها فيه. وهذان سببان للتحريم عند جميع العلماء. وثالثها: طلاقها أزيد من واحدة بغير رجعة متخلّلة بین الطلقات، أعمّ من إيقاعها بلفظ واحد أو مترتبة. وتحريم هذا النوع مختص بمذهبنا، ووافقنا أبو حنيفة(1) ومالك(2) في بدعيّة الجمع بين الطلقات بلفظ واحد. واتفق الجمهور على صحة طلاق البدعة مع الإثم. وأصحابنا على بطلانه إلا فيما زاد على الواحد، فإنّه مع وقوعه مترتّباً يقع واحد إجماعاً. ومع وقوعه بلفظ واحد يقع واحد على ما سبق من الخلاف(3). وحكم المصنّف ببطلان الجميع يظهر في الأولين، أما الأخير فالبطلان يتعلّق بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكلّ واحد من أفراده؛ لئلا ينافي حكمه بصحة الواحدة فيما سبق(4).
واعلم أنّ حكمهم ببطلان الطلاق البدعي لا يلائم تقسيمهم الطلاق إليه وإلى السنّي؛ لأنّ مورد القسمة ينبغي أن يكون الطلاق الصحيح كما هو المستعمل في سائر الأحكام المقسّمة وإنّما يحسن تقسيمه إليهما عند العامّة القائلين بصحّته فيهما.
ثم حصرهم الطلاق البدعي في الثلاثة المذكورة مع الحكم ببطلانها يقتضي كون الطلاق الباطل أعمّ من البدعي، فإنّ طلاق من لم يُشهد عليه شاهدين، ومن طلّق بالكناية وشبه ذلك خارج عن البدعة مع كونه باطلاً. وينبغي أن يكون الطلاق أزيد من مرّة مترتّباً بدون الرجعة من قسم الباطل لا من أقسام البدعة، وتخصيص البدعة بالثلاث المرسلة التي يراها العامّة
ص: 300
● والسنّة تنقسم أقساماً ثلاثة: بائن، ورجعي، وطلاق العدة.
----------------------------------------------------------------------------
وحرّمها قوم منهم؛ لأنّ الطلاق الثاني المرتب يستند بطلانه إلى فقد شرط وهو تعلّقه بغير الزوجة، وأمّا كون التلفّظ بالصيغة حينئذٍ محرّماً فلا دليل عليه. ومجرّد التشريع بذلك أو تقييده باعتقاد الشرعيّة(1) يشترك فيه جميع الأقسام المحكوم ببطلانها خارجاً عن الثلاثة.
وبقي في عبارة المصنّف بحث آخر، وهو أنّه قيّد هنا بدعيّة طلاق الحائض بكونها مدخولاً بها، والزوج حاضراً معها أو غائباً دون المدّة المشترطة، ولم يذكر اشتراط كونها حائلاً كما صنع فيما سبق(2). وفي باب الحيض اقتصر على الشرطين أيضاً(3). وهو أجود من التقييد بكونها حائلاً أيضاً؛ لأنّه لا يرى جواز حيض الحامل فلا يفتقر إلى الاحتراز عنه. ولكنه في شرائط الطلاق في أوّل الكتاب ذكره شرطاً وجرى فيه على مذهب غيره، فلذلك كان ما هنا أجود.
قوله: «والسنّة تنقسم أقساماً ثلاثة بائن، ورجعي، وطلاق العدّة».
جعل طلاق العدّة قسيماً للرجعي غير جيد؛ لأنّ طلاق العدّة من جملة أقسام الرجعي وداخل فيه، فلا يجعل قسيماً له المقتضي لخروجه عنه. وكان الأولى تقسيم طلاق السنّة إلى بائن ورجعي، ثمّ تقسيم الرجعي إلى طلاق العدة وغيره، كما صنع في التحرير(4). وفي القواعد قسّم الطلاق الشرعي - وهو طلاق السنّة بالمعنى الأعمّ - إلى طلاق عدّة وسنّة بالمعنى الأخص(5). والمراد به أن يطلّق على الشرائط، ثم يتركها حتى تخرج من العدّة، سواء كانت العدة رجعيّة أم بائنة، ثمّ يتزوّجها بعقد جديد. وهذه القسمة وإن لم تكن متداخلة إلا أنّها غير حاصرة، فإنّ الطلاق الشرعي أعمّ منهما. ثم بعد ذلك قسّمه إلى البائن والرجعي واقتصر
ص: 301
● فالبائن ما لا يصح للزوج معه الرجعة.
وهو ستّة: طلاق التي لم يدخل بها. واليائسة. ومن لم تبلغ المحيض، والمختلعة والمبارئة ما لم ترجعا في البذل والمطلّقة ثلاثاً بينها رجعتان.
------------------------------------------------------------------------------------
عليهما. وهو جيّد. وكذلك فعل في الإرشاد، إلا أنّه قدّم التقسيم إلى البائن والرجعي على السنّي والعدّي(1). والحكم فيهما واحد.
والتحقيق أنّ الطلاق العدّي من أقسام الرجعي كما ذكرناه، فلا يجعل قسيماً له. والطلاق السنّي بالمعنى الأخصّ بينه وبين كلّ واحد من البائن والرجعي عموم وخصوص من وجه. يختصّ البائن عنه بما إذا لم يتزوّجها بعد العدّة مع كونه بائناً، ويختصّ السنّى عنه بما إذا كان رجعياً فلم يرجع وتزوّجها بعد العدّة، ويتصادقان فيما إذا كان الطلاق بائناً وتزوجها بعد العدّة. ويختصّ العدّي عنه بما إذا رجع في العدّة، ويختصّ السنّي عنه بما إذا كان الطلاق بائناً وتزوّج بعد العدّة، ويتصادقان فيما إذا كان الطلاق رجعيّاً ولم يرجع فيه إلى أن انقضت العدّة ثم تزوّجها بعقد جديد. فالأجود في التقسيم أن يقسم الطلاق السنّي إلى البائن والرجعي، والقسمة حاصرة غير متداخلة. ويقسّم أيضاً إلى طلاق العدّة وطلاق السنّة بالمعنى الأخصّ وغيرهما، لا أن يقتصر عليهما.
وما ذكرناه من أنّ الطلاق السنّي بالمعنى الأخصّ أعمّ من البائن والرجعي هو مدلول فتاوى الأصحاب أجمع، وسيأتي بيانه في عبارة المصنّف(2)، ولكن الظاهر من الأخبار(3) اختصاصه بالطلاق الرجعي، وعلى هذا فيكون من أقسامه كطلاق العدة.
قوله: «فالبائن ما لا يصحّ للزوج معه الرجعة وهو ستّة» إلى آخره.
المعتبر في الدخول الموجب للعدّة القدر الموجب للغسل، وهو غيبوبة الحشفة أو قدرها
ص: 302
● والرجعي هو الذي للمطلق مراجعتها فيه، سواء راجع أو لم يراجع.
-----------------------------------------------------------------------
في قبل أو دبر، والمراد بمن لم تبلغ المحيض من لا يمكن حيضها، وهي من نقص سنّها عن التسع، فمن أكملتها تلزمها العدّة وإن لم تكن ممّن تحيض عادة.
وتقييد المختلعة وأختها بمدة لم ترجعا في البذل يقتضي أن عدّتهما(1) قد تكون بائنة وقد تكون رجعيّةً، فتبتدئ على البينونة وتستمر كذلك إلى أن ترجع في البذل فتصير حينئذ رجعيّةً إلى آخر العدة، سواء رجع أم لا، وسواء علم برجوعها أم لا؛ لأنّ العدة الرجعية لا يشترط في تحققها علم الزوج بجواز الرجوع بل المعتبر جواز رجوعه شرعاً.
وتظهر الفائدة فيما لو رجع المخالع بعد رجوعها وواقعها ثم طلّقها على الشرائط، فيكون الطلاق حينئذٍ طلاق عدّة وإن كانت في الأصل بائنة، فيترتّب عليه حكم الطلاق العدّي. وعلى هذا لا يضرّ أيضاً تقسيم الطلاق الرجعي إلى العدّي وغيره بسبب هذا الفرد الذي ابتدأت عدّته على البينونة؛ لأنّ جعله رجعيّاً عديّاً إنّما هو بعد رجوعها في البذل، وقد صار بذلك رجعياً كما قررناه.
وللأصحاب خلاف في أنّ رجوع المخالع بعد رجوعها في البذل ووطئه هل يصيّر الطلاق طلاق عدّة أم لا؟ لما ذكرناه من الوجه في الطرفين. والأقوى أنّه حينئذ طلاق عدّة لاجتماع شرائطه.
قوله: «والرجعي هو الذي للمطلق مراجعتها فيه، سواء راجع أو لم يراجع».
المراد أنّ الطلاق الرجعى ما كان قابلاً للرجوع فيه شرعاً وإن لم يحصل الرجوع، وذلك ما عدا الأقسام الستّة، ومنه طلاق المختلعة بعد رجوعها في البذل، فيكون طلاقها تارةً من
أقسام البائن وتارةً من أقسام الرجعي.
ص: 303
• وأمّا طلاق العدّة فهو أن يطلّق على الشرائط ثمّ يراجعها قبل خروجها من عدّتها ويواقعها ثمّ يطلّقها في غير طهر المواقعة، ثمّ يراجعها ويواقعها ثمّ يطلّقها في طهر آخر، فإنّها تحرم عليه حتّى تنكح زوجاً غيره فإن نكحت وخلت ثمّ تزوّجها فاعتمد ما اعتمده أولاً، حرمت في الثالثة حتّى تنكح زوجاً غيره. فإن نكحت ثمّ خلت فنكحها ثمّ فعل كالأوّل، حرمت في التاسعة تحريماً مؤبّداً. ولا يقع الطلاق للعدّة ما لم يطأها بعد المراجعة.
-----------------------------------------------------------------------------
قوله: «وأمّا طلاق العدّة فهو أن يطلق على الشرائط» إلى آخره.
هذا هو القسم الثالث من أقسام الطلاق على ما اعتبره المصنّف من التقسيم وفائدة ذكره من بين أقسام الطلاق الرجعي ما يترتّب عليه من الأحكام الخاصة، وهي التحريم في التاسعة مؤبّداً، والافتقار بعد كلّ ثلاث إلى المحلّل إجماعاً، وجملة ما يعتبر فيه مع الطلاق الرجوع في العدّة والمجامعة ثمّ الطلاق بعد ذلك في أي وقت شاء ممّا يصحّفيه الطلاق.
وبهذه الكيفيّة وردت الأخبار الكثيرة الصحيحة، فمنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) أنّه قال: «كلّ طلاق لا يكون على السنّة أو على طلاق العدّة فليس بشيء - إلى أن قال - وأمّا طلاق العدّة التي قال الله تعالى: (نَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العِدَّةَ)(1)، فإذا أراد الرجل منكم أن يطلّق امرأته طلاق العدّة فلينتظر بها حتّى تحيض وتخرج من حيضها ثمّ يطلّقها تطليقةً من غير جماع ويُشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه، ذلك إن أحبّ، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها، و تكون معه حتّى تحيض، فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع ويُشهد على ذلك، ثمّ يراجعها أيضاً متى شاء قبل أن تحيض ويُشهد على رجعتها ويواقعها،
ص: 304
• ولو طلّقها قبل المواقعة صحّ ولم يكن للعدّة.
• وكلّ امرأة استكملت الطلاق ثلاثاً حرمت حتّى تنكح زوجاً غير المطلّق سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن راجعها أو تركها.
----------------------------------------------------------------------------
وتكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة، فإذا خرجت من حيضها طلّقها الثالثة بغير جماع ويُشهد على ذلك، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره»(1).
قوله: «ولو طلّقها قبل المواقعة صحّ ولم يكن للعدّة».
لأنّ شرط طلاق العدّة المواقعةُ بعد الرجعة ولم تحصل، فيكون طلاق سنّة بالمعنى الأعمّ.
قوله: «وكلّ امرأة استكملت الطلاق ثلاثاً حرمت حتّى تنكح زوجاً غير المطلّق، سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن، راجعها أو تركها».
هذا هو المعروف في المذهب، ودلّت عليه الأدلّة من الكتاب(2) والسنّة(3)، قال الله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا) يعني الثالثة (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(4)، وهو شامل بإطلاقه لطلاق العدّة وغيره. وفي بعض الأخبار أنّ طلاق السنّة بالمعنى الأخصّ لا يحرّم في الثالثة(5). وهو شاذّ. والمراد بقوله راجعها أو تركها أي تركها حتّى انقضت عدّتها ثمّ تزوّجها بعقد جديد ثمّ طلّقها.
ص: 305
مسائل ستّ:
الأولى: • إذا طلّقها فخرجت من العدّة ثم نكحها مستأنفاً ثمّ طلّقها وتركها حتّى قضت العدّة، ثمّ استأنف نكاحها ثمّ طلّقها ثالثةً، حرمت عليه حتّى تنكح زوجاً غيره، فإذا فارقها واعتدّت جاز له مراجعتها. ولا تحرم هذه في التاسعة، ولا يهدم استيفاء عدّتها تحريمها في الثالثة.
------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا طلّقها فخرجت من العدّة، ثمّ نكحها مستأنفاً» إلى آخره.
هذا هو الطلاق المعبّر عنه بطلاق السنّة بالمعنى الأخصّ، وهو يشارك طلاق العدّة في تحريم الثالثة إلى أن تنكح زوجاً غيره، ويفارقه في أنّ هذا لا يحرم مؤبّداً مطلقاً. أمّا الثاني فهو محلّ وفاق، ولا يوجد ما ينافيه.
وأمّا الأول فيدلّ عليه عموم قوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(1) وخصوص رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن طلاق السنّة، قال: «طلاق السنّة إذا أراد أن يطلّق الرجل امرأته ثم يدعها إن كان قد دخل بها حتّى تحيض ثمّ تطهر، فإذا طهرت طلّقها واحدة بشهادة شاهدين ثم يتركها حتى تعتدّ ثلاثة قروء، فإذا مضى ثلاثة قروء فقد بانت منه بواحدة وكان زوجها خاطباً من الخطاب إن شاءت تزوّجته وإن شاءت لم تفعل فإن تزوّجها بمهر جديد كانت عنده على ثنتين باقيتين وقد مضت الواحدة، فإن هو طلّقها واحدةً أُخرى على طهر بشهادة شاهدين ثم تركها حتّى تمضى أقراؤها من قبل أن يراجعها فقد بانت باثنتين وملكت أمرها وحلّت للأزواج. وكان زوجها خاطباً من الخطاب إن شاءت تزوّجته وإن شاءت لم تفعل. فإن هو تزوّجها تزويجاً جديداً بمهر جديد كانت معه على واحدة باقية وقد مضت ثنتان فإن أراد أن يطلقها طلاقاً لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره تركها حتّى إذا حاضت وطهرت أشهد على طلاقها
ص: 306
...
-----------------------------------------------------------
تطليقةً واحدةً ثمّ لا تحل له حتّى تنكح زوجاً غيره»(1).
ونبFه بقوله «ولا يهدم عدّتها تحريمها في الثالثة» على ما روي في شواذ الأخبار عن عبد الله بن بكير، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «الطلاق الذي يحبّه الله والذي يطلّق الفقيه - وهو العدل بين المرأة والرجل - أن يطلّقها في استقبال الطهر بشهادة شاهدين وإرادة من القلب، ثمّ يتركها حتّى تمضي ثلاثة قروء، فإذا رأت الدم في أوّل قطرة من الثالثة - وهي آخر القرء؛ لأنّ الأقراء هي الأطهار - فقد بانت منه، وهي أملك بنفسها، فإن شاءت تزوّجته وحلّت له بلا زوج. فإن فعل هذا بها مائة مرّة هدم ما قبله وحلّت بلا زوج. وإن راجعها قبل أن تملك نفسها ثمّ طلّقها ثلاث مرّات يراجعها ويطلّقها لم تحلّ له إلّا بزوج»(2).
وهذه الرواية - مع شذوذها - رواها عبد الله بن بكير، وهو فطحي المذهب(3) لا يعتمد على روايته، خصوصاً مع مخالفتها لغيرها(4)، بل للقرآن الكريم(5). ومع ذلك ففيها قادح آخر، وهو أنّ عبد الله كان يفتي بمضمونها وروجع في أمرها فقال: هذا ممّا رزق الله من الرأي(6).
قال الشيخ (رحمه الله):
ومَن هذه حالته يجوز أن يكون أسند ذلك إلى زرارة نصرة لمذهبه الذي كان أفتى به. وأنّه لما رأى أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه أسنده إلى من رواه عن أبي جعفر (علیه السلام)، وليس عبد الله بن بكير معصوماً لا يجوز عليه هذا، بل وقع منه من العدول عن اعقتاد مذهب الحقّ إلى اعتقاد مذهب الفطحيّة ما هو معروف من مذهبه والغلط في ذلك أعظم
ص: 307
...
---------------------------------------------------------------------
من إسناد فتيا يعتقد صحّته لشبهة إلى بعض أصحاب الأئمّة. وإذا كان الأمر على ما قلناه لم يعترّض بهذه الرواية لما ذكر في غيرها(1).
والعجب مع هذا القدح العظيم من الشيخ في عبد الله بن بكير أنّه قال في كتاب الرجال: إنّ العصابة أجمعت على تصحيح ما يصحّ عنه، وأقرّوا له بالفقه والثقة(2). وذكره غيره من علماء الرجال كذلك(3). وهذا الخبر ممّا صحّ عن عبد الله بن بكير؛ لأنّ الشيخ في التهذيب رواه عن محمّد بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عنه، عن زرارة(4)، والجميع ثقاة. وكيف كان فهو بالإعراض عنه حقيق؛ لما ذكرناه من شذوذه، ومخالفته للقرآن بل لسائر علماء الإسلام.
واعلم أنّ تعريف المصنّف وغيره(5) الطلاق السنّة بالمعنى الأخصّ يقتضي اختصاصه بذات العدّة، وأنّه يشمل العدّة البائنة والرجعيّة. وفي كثير من الأخبار كالذي أسلفناه(6) - ما يدلّ على اختصاصه بالعدّة الرجعيّة ثم لا يراجع فيها(7). والوجه لحوق أحكامه لكلّ طلاق لا يلحقه، رجعة، سواء كان ذلك لعدم العدّة أم لكونها بائنة أم رجعيّةً ولم يرجع، فإنّه لا تحرم به في التاسعة مؤبداً؛ لاختصاص ذلك الحكم بطلاق العدّة، ولصدق عدم الرجعة في جميع ما ذكرناه. وبقي للطلاق أقسام أخر خارجة عن الأمرين يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى(8).
ص: 308
المسألة الثانية • إذا طلّق الحامل وراجعها جاز أن يطأها ويطلّقها ثانيةً للعدّة جماعاً. وقيل: لا يجوز للسنّة. والجواز أشبه.
--------------------------------------------------------------------------
وقول المصنّف فإذا فارقها واعتدّت جاز له مراجعتها یرید به تزويجها بعقد جدید وأطلق عليه اسم المراجعة من حيث اللغة؛ لأنّه رجوع إلى النكاح الذي كان فعل سابقاً وإن لم يكن ذلك مراجعةً اصطلاحاً.
قوله: «إذا طلّق الحامل وراجعها جاز أن يطأها ويطلّقها ثانية» إلى آخره.
اتّفق العلماء على جواز طلاق الحامل مرّةً بشرائطها؛ لوجود المقتضي وانتفاء المانع منه كغيرها. واختلف الأصحاب في جواز طلاقها ثانياً بسبب اختلاف الروايات في ذلک، فذهب الصدوقان إلى المنع منه إلا بعد مضي ثلاثة أشهر، سواء في ذلك طلاق العدّة وغيره(1). وذهب ابن الجنيد إلى المنع من طلاق العدّة إلّا بعد شهر، ولم يتعرّض لغيره(2). والشيخ أطلق جواز الطلاق للعدّة، ومنع من طلاقها ثانياً للسنّة(3). وابن إدريس(4)، والمصنّف وباقي المتأخّرين(5) جوّزوه بها مطلقاً كغيرها.
وأمّا الأخبار ففى كثير منها أنّ طلاق الحامل واحدة من غير فرق بين طلاق العدّة وغيره(6). وفي بعضها النهي عمّا زاد على واحدة كذلك(7). وفي بعض آخر التصريح بجواز تعدّده ثلاثاً
ص: 309
...
---------------------------------------------------------------------
وتحرم به أعمّ من كونه مع تخلّل الوطء وعدمه(1). وفي رابع بجواز تعدّده مصرّحاً بتخلّل الوطء المفيد لكونه طلاق عدّة(2). وفي خامس النهي عن الثاني بعد الوطء إلى أن يمضي شهر(3).
وقد اختلفوا في طريق الجمع بينها، فابن الجنيد خصص أخبار الجواز بطلاق العدّة(4)؛ نظراً إلى تصريح بعضها به، وخصّ ذلك البعض بوقوع الطلاق بعد شهر؛ جمعاً بينه وبين الرواية التي دلّت على النهي عنه قبله. ولم يتعرّض لطلاق السنّة، إلّا أنّ مفهومه اختصاص الجواز بطلاق العدّة.
وأمّا الشيخ (رحمه الله) فجمع بينها بحمل أخبار النهي عن الزائد عن واحد - وما في معناه - على طلاق السنّة، وأخبار الجواز على طلاق العدّة؛ لتصريح بعضها به(5).
وفيه نظر؛ لأنّ الأخبار الدالّة على جواز طلاقها متعدّدة منها ما هو مطلق في الجواز كإطلاق الأخبار الأخرى في النهي، كرواية إسحاق بن عمّار عن الكاظم بطرق متعدّدة ومتون متقاربة، منها: سألته عن الحامل يطلّقها زوجها ثم يراجعها ثم يطلّقها ثمّ يراجعها ثمّ يطلّقها الثالثة، قال: «تبيّن منه ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره»(6). فهذه شاملة لطلاق العدّة وغيره، بأن يراجعها ثمّ يطلّقها في طهر آخر أو فيما دونه، وكلاهما خارجان عن العدّي والسنّي بالمعنى الأخصّ.
ص: 310
...
------------------------------------------------------------------------
ومنها ما هو مصرّح بجواز تعدّده مع كونه ليس عديّاً ولا سنّياً كذلك، كرواية إسحاق بن عمّار أيضاً عنه أنّه سأله عن رجل طلّق امرأته وهي حامل ثمّ راجعها ثمّ طلّقها ثمّ راجعها ثمّ طلّقها الثالثة في يوم واحد تبيّن منه؟ قال: «نعم»(1). فهذه صريحة في جواز تعدّد طلاقها للسنّة بالمعنى الأعمّ فكيف يجمع بينها بالمنع منه؟ مع أنّ الأخبار الدالّة على كون الطلاق عديّاً ليس فيه ما يدلّ على اختصاصه به بل بمجرّد فرضه، كما في رواية يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر عن طلاق الحبلى، فقال: «يطلّقها واحدة للعدّة بالشهور والشهود». قلت: فله أن يراجعها؟ قال: نعم، وهي امرأته». قلت: فإن راجعها ومسّها ثمّ أراد يطلّقها تطليقة أخرى، قال: «لا يطلّقها حتّى يمضي لها بعد ما مسّها شهر». قلت: فإن طلّقها ثانيةً وأشهد ثمّ راجعها وأشهد على رجعتها ومسّها ثمّ طلّقها التطليقة الثالثة وأشهد على طلاقها لكلّ عدّة شهر، هل تبين منه كما تبين المطلّقة على العدّة التي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره؟ قال: «نعم». قلت: فما عدّتها؟ قال: «أن تضع ما في بطنها ثمّ قد حلّت للأزواج(2).
وأيضاً كان عليه أن يقيد الجواز بكون الطلاق بعد شهر كما ذكره في هذه الرواية، وهي أوضح سنداً من غيرها، فلا يحصل بالجمع الذي ذكره الشيخ إعمال الأخبار كلّها؛ لأنّ هذا الخبر لا يوافق حمله. وجمع ابن الجنيد أبعد(3)؛ لما ذكرناه.
ثم ليس في كلامه تبيين مراده من الطلاق السنّي الذي منعه هل هو السنّي بالمعنى الأعمّ أو الأخصّ؟ فإن أراد الأوّل كما فهمه عنه بعضهم(4) - ففيه أنّ في بعض ما ذكرناه من
ص: 311
...
------------------------------------------------------------------------------
الروايات تصريحاً بجواز المتعدّد الذي ليس بعدي وهو سنّي بالمعنى الأعمّ، فكيف يجمع بينها بحمل أخبار النهي عن الزائد على السنّي؟! وأيضاً فإنّ الطلاق العدّي سنّي بهذا المعنى، فإطلاق المنع منه يتناول العدّي. وحمله على أنّ المراد به ما عدا العدّي من أفراده خلاف الظاهر وخلاف ما يقتضيه الجمع.
وإن أراد به السنّي بالمعنى الأخصّ - كما فهمه جلّ المتأخّرين، ولأنّه الظاهر الاستعمال في النصوص - ففيه أنّ أخبار الجواز شاملة للعدّي وغيره كما بيّنّاه، والسنّي بالمعنى الأخصّ لا يتحقّق في الحامل؛ لأنّه لا تصير كذلك إلّا بعد الوضع والعقد عليها ثانياً وحينئذ فلا تكون حاملاً، والكلام في الطلاق الواقع بالحامل ثانياً.
ولا يمكن الحكم بتميزه بالنيّة، بمعنى أنّه إذا نوى أن يطلّقها وهي حامل ولا يراجعها إلى أن تضع ثم يتزوّجها فيصير حينئذ منهياً عنه؛ لأنّ النيّة لا تؤثّر بنفسها في تحقّق الطلاق العدّى والسنّى معاً، بل يتوقّفان على شرط متأخّر عنهما، وهو إمّا الرجعة في العدّة والوطء فيصير حينئذ الطلاق السابق عديّاً، أو الصبر إلى أن تضع وتجديد العقد فيصير الطلاق الواقع بها حاملاً سنّيّاً، وبعد الوضع لا تصير حاملاً، ولا يظهر النهي عن طلاق الحامل كذلك. إلا أن يقال: إن تجديد نكاحها بعد الوضع يكون كاشفاً عن جعل الطلاق السابق سنيّاً، فيلحقه حينئذ النهى.
وهذا أيضاً في غاية البعد بل الفساد؛ لأنّ خبر النهي إنّما دلّ عليه وهي حامل، وهو رواية منصور الصيقل عن أبي عبد الله (علیه السلام) في الرجل يطلّق امرأته وهي حبلى، قال: «يطلّقها»، قلت: فيراجعها؟ قال: «نعم، يراجعها»، قلت: فإنّه بدا له بعد ما راجعها أن يطلقها قال: «لا حتّى تضع»(1) فكيف يحمل هذا النهي على ما بعد الوضع، مع أنّه حال الحمل لا يحكم بكونه
ص: 312
...
-------------------------------------------------------------------------------
سنّيّاً أو عديّاً حتّى يقال يتعلّق به النهي أو الإذن. وأيضاً فإنّ طلاق العدّة الذي أُذن فيه لا يظهر بمجرّد الطلاق ولا بالنيّة بل بالرجوع في العدّة والوطء، فوقوع الطلاق مراعى بذلك من غير أن يحكم بصحّته حال وقوعه وعدمه لا دليل عليه، بل هو دوري؛ لأنّ جواز الرجعة متوقّف على صحّته، فلو توقّفت صحّته عليها دار. والحقّ الإعراض عن هذه التكلّفات التي لا يدلّ عليها دليل، والرجوع إلى حكم الأصل من جواز طلاق الحامل كغيرها مطلقاً بشرائطه، وعدم الالتفات إلى هذه الأخبار الضعيفة الأسناد المتناقضة الدلالة، وما فيها من الصحيح ليس فيه ما ينافي الجواز، أو حمل أخبار النهي عن الزائد على الكراهة، وجعله قبل شهر آكد من غير أن يفرّق بين كون الواقع طلاق عدّة أو سنّة بمعنييه. وقد ظهر بذلك أنّ القول بجواز طلاقها مطلقاً هو الأقوى.
واعلم أنّه قد ظهر أنّ القول بجواز طلاقها ثانياً للعدّة وفاقيّ في الجملة؛ لأنّ المتأخّرين جوّزوه مطلقاً، والشيخ خصّ الجواز به(1)، وابن الجنيد قيّده بوقوعه بعد شهر(2)، وابنا بابويه أطلقا جوازه بعد ثلاثة أشهر(3). وبذلك ظهر صحّة ما ادّعاه المصنّف من جوازه إجماعاً وإن كان بعضهم يشترط في صحّته شرطاً زائداً؛ لأنّ ذلك لا ينافي الحكم بجوازه في الجملة، وبهذا يظهر أنّ ما قيل من أنّ دعوى المصنّف الإجماع، مخصوصة بما بعد عصري الصدوقين وابن الجنيد(4)؛ لأنّهما مخالفان في جوازه [ضعيف](5)؛ لأنّك قد عرفت أنّهما لا يخالفان في جوازه وإنّما يشترطان فيه شرطاً آخر كما لا يخفى.
ص: 313
الثالثة • إذا طلّق الحائل ثمّ راجعها، فإن واقعها وطلّقها في ظهر آخر صحّ إجماعاً. وإن طلّقها في طهر آخر من غير مواقعة فيه روايتان إحداهما لا يقع الثاني أصلاً، والأخرى: يقع. وهو الأصحّ. ثمّ لو راجع وطلّقها ثالثاً في طهر آخر حرمت عليه. ومن فقهائنا من حمل الجواز على طلاق السنّة والمنع على طلاق العدّة. وهو تحكّم.
وكذا لو أوقع الطلاق بعد المراجعة وقبل المواقعة في الطهر الأول فيه روايتان أيضاً، لكن هنا الأولى تفريق الطلقات على الأطهار إن لم يقع وطء.
------------------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا طلّق الحائل ثمّ راجعها» إلى آخره.
اعلم أنّ طلاق الحائل ثانياً لا يخلو إمّا أن يقع بعد المواقعة الواقعة بعد الرجعة أو قبلها. والأوّل يصحّ إجماعاً. والثاني إمّا أن يقع في طهر آخر غير الطهر الذي طلّقها فيه، أو فيه. وفي صحّة الطلاق في كلّ منهما قولان أظهرهما بين الأصحاب الصحّة.
والمستند فيهما عموم ما دلّ على وقوع الطلاق بالزوجة مطلقاً من الكتاب(1) والسنّة(2) الشامل لموضع النزاع؛ لأنّها بعد الرجعة تصير زوجةً، ولوجود المقتضي للصحّة، وهو وقوع الطلاق من أهله في محلّه، فإنّ محلّه المرأة الطاهر من الحيض المطلّقة في طهر لم يقربها فيه بجماع، والأصل عدم اعتبار أمر آخر، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلا عدم المواقعة بعد الرجعة، وكون ذلك مانعاً يحتاج إلى دليل.
ويدلّ على الأوّل بخصوصه صحيحة عبد الحميد بن عواض ومحمّد بن مسلم قالا: سألنا أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل طلّق امرأته وأشهد على الرجعة ولم يجامع، ثمّ طلّق في طهر آخر على السنّة، أ تثبت التطليقة الثانية وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال: «نعم، إذا هو
ص: 314
...
-----------------------------------------------------------------------------------
أشهد على الرجعة ولم يجامع كانت التطليقة ثانية»(1).
وصحيحة أحمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن رجل طلّق امرأته بشاهدين ثمّ راجعها ولم يجامعها بعد الرجعة حتّى طهرت من حيضها، ثمّ طلّقها على طهر بشاهدين، أتقع عليها التطليقة الثانية وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال: «نعم»(2).
وخالف في ذلك ابن أبي عقيل فقال:
لو طلّقها من غير جماع بتدنيس مواقعة بعد المراجعة لم يجز له ذلك؛ لأنّه طلّقها من غير أن ينقضي الطهر الأوّل، ولا ينقضي الطهر الأوّل إلا بتدنيس المواقعة بعد المراجعة، وإذا جاز أن يطلّق التطليقة الثانية بلا طهر جاز أن يطلّق كلّ تطليقة بلا طهر، ولو جاز ذلك لما وضع الله الطهر(3).
وإنّما ذكرنا عبارته لاشتمالها على الاستدلال على حكمه، وبه يظهر ضعف قوله مع شذوذه، فإنّا لا نسلّم أنّ الطهر لا ينقضي بدون المواقعة؛ للقطع بأنّ تخلّل الحيض بين الطهرين يوجب انقضاء الطهر السابق، سواء واقع فيه أم لا. ثمّ لا نسلّم اشتراط انقضاء الطهر في صحّة الطلاق مطلقاً، وإنّما الشرط انقضاء الطهر الذي واقعها فيه، وهو منتف هنا؛ لأنّ الطلاق الأوّل وقع بعده في طهر آخر؛ لأنّه الفرض، فلا يشترط أمر آخر.
واحتجّوا له أيضاً - وإن لم يذكره - برواية أبي بصير عن الصادق (علیه السلام) قال: «المراجعة في الجماع وإلا فإنّما هي واحدة»(4). ويمكن الاحتجاج له أيضاً بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
ص: 315
...
--------------------------------------------------------------------------
قال، قال أبو عبد الله (علیه السلام) في الرجل يطلّق امرأته: «له أن يراجع»، وقال: «لا يطلّق التطليقة الأخرى حتّى يمسّها»(1).
ووجه الاستدلال بهما - وإن لم يذكر اشتراط طهر آخر مع المواقعة أنّ ذلك أمر معلوم من قواعد الطلاق لا خلاف فيه - أنّ الطهر الذي حصلت فيه المواقعة لا يصحّ فيه الطلاق فاشتراط المواقعة بعد الرجعة يقتضي اشتراط طهر آخر لمن أراد الطلاق ثانياً.
وأُجيب بأنّ الأخبار قد تعارضت ظاهراً فلا بدّ من الجمع بينها. وقد جمع الشيخ في كتابي الحديث بينها بحمل النهي عن تكرار الطلاق بدون تخلّل الوطء على طلاق العدة؛ لأنّه مشروط بالرجعة والوطء، وحمل أخبار الجواز على طلاق السنّة بالمعنى الأعمّ(2).
والمصنّف (رحمه الله) نسب هذا الجمع إلى التحكّم. ووجهه أنّ كلّاً من الأخبار ورد في الرجل يطلّق على الوجه المذكور ويجيب الإمام بالجواز أو النهي من غير استفصال فيفيد العموم من الطرفين، ولأنّ شرط الطلاق العدّي الوطء بعده وبعد الرجعة منه في العدّة، وها هنا يشترط في جواز الطلاق ثانياً سبق الوطء، وسبقه ليس بشرط في طلاق العدّة إنّما الشرط تأخّره، فيلزم الشيخ أخذ غير الشرط مكانه على أنّ رواية أبي بصير معارضة بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال: «نعم»(3).
وللشيخ أن يجيب بأنّ الباعث على الجمع التعارض فلا يضرّه عمومها من الطرفين على تقدير تسليمه؛ لأنّ تخصيص العام لأجل الجمع جائز [و](4) خير من اطراح أحد الجانبين.
ص: 316
...
---------------------------------------------------------------------------
والوطء الذي جعل معتبراً في الطلاق ثانياً يجعل الطلاق السابق عدّيّاً، وليس الحكم مختصّاً بالطلاق الثاني بل بهما معاً، بمعنى أنّ من أراد طلاق المرأة للعدّة أزيد من مرّة فليس له ذلك فلا يتحقّق إلّا بالمراجعة والوطء ثمّ الطلاق ليصير الأوّل طلاق عدّة، وإذا أراد الطلاق كذلك ثالثاً لم يكن له ذلك إلّا بعد المراجعة والوطء ليصير الثاني عدّيّاً أيضاً ويصير الثالث بحكمها لتحرم في الثالثة عليه قطعاً، بخلاف ما لو طلّقها على غير هذا الوجه، فإنّ فيه أخباراً كثيرة تؤذن بعدم التحريم تقدّم بعضها(1)، وذكر الشيخ في التهذيب منها جملة متفرّقة في مواضع(2).
ويؤيّد هذا التأويل قوله في رواية محمّد بن مسلم: «ثمّ طلّق في طهر آخر على السنّة»(3) فإنّه صريح في إرادة طلاق السنّة المقابل لطلاق العدّة في اصطلاحهم وإن كان أعمّ منه بحسب الواقع.
ويؤيّد إرادة العدّي الذي يوجب التحريم بغير إشكال رواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «الذي يطلّق ثمّ يراجع ثمّ يطلّق فلا يكون بين الطلاق والطلاق جماع فتلك تحلّ له قبل أن تزوّج زوجاً غيره، والتي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره هي التي تجامع فيما بين الطلاق والطلاق»(4). وهذا الخبر هو الذي جعله الشيخ موجباً للجمع بينها بما ذكره.
ويؤيّده أيضاً رواية أبي بصير - في الحسن - قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الطلاق الذي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره، فقال: «أخبرك بما صنعت أنا بامرأة كانت عندي فأردت أن أُطلّقها فتركتها حتّى طمئت وظهرت طلقتها من غير جماع وأشهدت على ذلك شاهدين، ثم تركتها حتّى إذا كادت أن تنقضي عدّتها راجعتها ودخلت بها وتركتها حتّى طمئت
ص: 317
...
-------------------------------------------------------------------
وطهرت ثمّ طلّقتها على طهر من غير جماع بشاهدين، ثم تركتها حتّى إذا كان قبل أن تنقضي عدّتها راجعتها ودخلت بها حتّى إذا طمئت وطهرت طلّقتها على طهر بغير جماع بشهود وإنّما فعلت ذلك لأنّه لم يكن لي بها حاجة»(1). وهذا صريح في أنّ من أراد طلاقها للعدّة يفعل كذلك، فلا ينافي أنّ من لم يرد هذا النوع من الطلاق لا يجوز له، فتبقى الأخبار التي دلّت على جوازه(2) لا معارض لها.
لكن يبقى في هذا الجواب أنّ في أخباره دلالة على أنّ غير طلاق العدّة لا يحرم في الثالثة(3)، والشيخ وغيره من الأصحاب لا يقولون به، وقد أنكره هو فيما سلف أشدّ إنكار(4). وهنا ذكر هذه الأخبار لأجل الجمع، ولم يتعرّض لما يلزم منها، بل اقتصر على أنّها مختصّة بطلاق العدة. وهو جيد لو لا ما اشتملت عليه من الحكم الذي لا يطابق المذهب.
ولو جمع بينها بحمل أخبار النهي عن الطلاق ثانياً من غير جماع على الكراهة، بمعنى استحباب توسّط الجماع بين الطلاقين، والأخبار المجوّزة على أصل الإباحة مع إبقاء الطرفين على العموم، كان أولى. ووجه أولويّة الجماع البعد عن مذهب المخالفين المجوّزين لتعدّد الطلاق كيف اتّفق ليصير الأمران على طرفي النقيض، حيث إنّ ذلك معدود عند أصحابنا من طلاق البدعة كما سلف(5). ثمّ لو لم يظهر الوجه في الجمع لكان متعيّناً؛ حذراً من اطراح أحدهما رأساً، أو الجمع بما لا يقتضيه أصول المذهب كما جمع به الشيخ(6).
ص: 318
...
-----------------------------------------------------------------------------------------
والحمل على الجواز والاستحباب سالم عن ذلك وموجب لإعمال الجميع نظير ما ذكره المصنّف وغيره(1) من أولويّة تفريق الطلقات على الأطهار.
فهذا ما يتعلّق بالقسم الأوّل من شقي المسألة، وهو إيقاع الطلاق في طهر آخر غير الذي
طلّقها فيه أوّلاً.
وأمّا الثاني - وهو إيقاع الطلاق الثاني بعد المراجعة في الطهر الذي طلّقها فيه أولاً - فقد
ذكر المصنّف وغيره(2) أنّ فيه روايتين أيضاً.
إحداهما: رواية إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن (علیه السلام) قال، قلت له: رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها بشهود ثمّ طلّقها ثم بدا له فراجعها ثمّ طلّقها بشهود تبين منه؟ قال: «نعم». قلت:
كلّ ذلك في طهر واحد، قال: «تبين منه»(3). وهذه صريحة في الجواز.
والأخرى رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (علیه السلام) - وهي التي سبقت(4) - وأنّه لا يطلّقها ثانياً حتّى يمسّها.
ودلالتها على اعتبار طهر آخر بالالتزام كما ذكرناه، حيث إن مسّها يوجب توقّف الطلاق على طهر آخر.
وجعلها في مقابلة تلك الروايات الدالّة على عدم اعتبار المسّ(5) أولى، مع أنّ العلّامة في المختلف وولده في الشرح وغيرهما لم يذكروها هناك، مع أنّها أقوى دلالة على ذلك المطلوب، وذكروها إحدى الروايتين هنا، وفي الحقيقة هي تصلح للدلالة من الطرفين كما ذكرناه.
وفي قول المصنّف بعد نقل الروايتين في المسألة «لكن الأولى هنا تفريق الطلقات على
ص: 319
...
-------------------------------------------------------------------------------
الأطهار، وقوله في المسألة السابقة إنّ وقوع الطلاق هو الأصحّ» إشارة إلى الفرق بين الروايتين هنا وفي السابقة. وهو كذلك؛ لأنّ الدالّ على صحّته في السابقة صحيحتان(1). وعلى العدم رواية أبي بصير(2)، وهي ضعيفة سنداً ودلالةً.
أمّا الأول؛ فلأنّ في طريقها عبد الكريم، وهو مشترك بين الضعيف والثقة(3)، وكذلك أبو بصير كما حقّقناه سابقاً(4)، وإن كان المشهور خلافه.
وأمّا الثانى: فلأنّ دلالتها ظاهرة فى أنّ المراجعة تتوقّف على الجماع لا الطلاق واشتراط المراجعة بالجماع منفيّ بالإجماع، مع أنّها معارضة بصحيحة عبد الحميد الطائي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال: «نعم»(5).
ومثلها صحيحة محمّد بن مسلم عنه (علیه السلام)(6). وأمّا خبر عبد الرحمن بن الحجّاج فهو وإن كان صحيحاً إلا أنّهم لم يتعرّضوا له في تلك المسألة وإنّما ذكرناه نحن، ومع ذلك فلا يعارض الصحيحتين. ويمكن الجمع بينهما بما ذكرناه، وبأنّ هذا الخبر إنّما دلّ على النهي عن الطلاق قبل المسيس، والنهي بمجرّده لا يفيد البطلان في غير العبادات، فلا تعارض، فلذلك كان القول بجواز الطلاق من دون الوطء أصحّ.
وأمّا الثانية فالأمر فيها بالعكس، فإنّ الخبر الدالّ على الجواز(7) ليس من الصحيح
ص: 320
...
---------------------------------------------------------------------------------------
لكنّه من الموثّق، والصحيح أرجح منه، فكان العمل بمقتضاه أولى، ولكنه ليس بمتعيّن؛ لأنّه لا يدلّ على البطلان كما ذكرناه. ويمكن حمله على الكراهة؛ لمعارضة ما تقدّم له في المسألة الأولى. وإذا حمل لأجلها على شيءٍ سقطت دلالته على الثانية، وتبقى موثّقة إسحاق بن عمّار لا معارض لها. ويؤيّدها عموم ما دلّ على جواز تطليق الزوجة من الكتاب(1) والسنّة(2)، فإنّ المراجعة في مجلس الطلاق زوجة قطعاً، ومع ذلك فلا قائل بالمنع من الطلاق في المسألتين سوى ابن أبي عقيل في الأولى صريحاً وفي الثانية لزوماً(3)، وهو غير قادح في الإجماع على الجانب الآخر على قواعد الأصحاب كما علم غير مرّة.
وأمّا موافقة الشيخ له في المنع من طلاق العدّة(4)؛ فغير قادح في المخالفة؛ لأنّ الطلاق المتعدّد الذي نجوّزه في المجلس الواحد بتخلّل الرجعة لا يقول أحد إنّه طلاق عدّة.
ثمّ تنبّه لأُمور:
الأوّل: أنّ ما ذكره المصنّف من قوله بعد نقل الروايتين «والأولى» إلى آخره أجود من قول العلّامة في القواعد: إنّه يجوز تعدّد الطلاق في الطهر الأول على أقوى الروايتين(5)؛ لما عرفت من أنّ رواية الجواز ليست أقوى من رواية المنع؛ لأنّها صحيحة وتلك موثّقة تعدّ من قسم الضعيف. وزاده ولده في الشرح إشكالاً بقوله:
وإنّما كانت الأولى أقوى من حيث السند ومن حيث اعتضادها بعموم القرآن والأخبار الصحاح(6).
ص: 321
...
----------------------------------------------------------------------------------------------------
فإنّ السند فيها أضعف قطعاً لا أقوى. وأمّا الدلالة فقد ذكرنا ما فيها.
الثاني: الأولويّة المذكورة من حيث دلالة الأخبار الصحيحة على جواز الطلاق بعد الطهر من غير جماع(1) كما ذكرناه، بخلاف تعدّد الطلاق في الطهر الواحد، ومع ذلك ففيها دلالة على جواز الطلاق ثانياً في الطهر الأوّل؛ لأنّ «الأولى» لا تمنع من نقيضه. وقال فخر الدين أيضاً: إنّ وجه الأولويّة ارتفاع الخلاف فيه . ولا يخفى ما فيه(2)؛ لأنّ الخلاف لا يرتفع بذلك؛ لما عرفت من أنّ ابن أبي عقيل لا يجوز الطلاق إلا بعد المواقعة، وليس الخلاف هنا إلّا معه.
وأمّا الشيخ فلا يمنع من أصل الطلاق المتعدّد، سواء تفرّقت على الأطهار أم لا، وإنّما يمنع من نوع خاصّ منها كما عرفت فليس الخلاف في المسألتين على وجه يتحقّق ثمرته إلا مع ابن أبي عقيل، ولا خروج من خلافه إلّا بالجماع بعد الرجعة ثم الطلاق في طهر آخر. وبهذا يظهر أنّ الأولويّة المحضة إنّما هي تفريق الطلقات على الأطهار مع مراعاة الجماع بعد الرجعة كما حكاه الباقر عن فعله(3). الثالث: حيث يجوز الطلاق ثانياً في العدّة من غير وقاع تكون الطلقة رجعيّة أيضاً كالأولى وإن كان واقعاً بعد الرجعة السابقة من غير مسيس؛ لأنّ الرجعة ترفع أثر الطلاق السابق وتصير الزوجة مدخولاً بها كما كانت قبل الطلاق، كما دلّت عليه الأخبار السابقة حيث جوّز طلاقها ثانياً وثالثاً مع تفريق الطلقات على الأطهار، والأخبار التي دلّت على اعتبار الوقاع(4) ليست منافيّة لذلك؛ لأنّها جعلت الوقاع معتبراً في الطلاق الثاني لا في جواز الرجعة بعده وعدمها، وإن كان جواز الرجعة مترتّباً على صحّة الطلاق
ص: 322
• أمّا لو وطئ لم يجز الطلاق إلّا في طهر ثان إذا كانت المطلّقة ممّن يشترط فيها الاستبراء.
الرابعة: • لو شكّ المطلّق في إيقاع الطلاق لم يلزمه الطلاق لرفع الشكّ، وكان النكاح باقياً.
---------------------------------------------------------------------------------------------
إلّا أنّ ذلك أمر آخر غير الحكم بكون الطلاق بائناً أو رجعيّاً.
وإنّما يرتفع حكم الدخول السابق بانقضاء العدّة في الرجعيّ أو بالطلاق البائن مطلقاً، فإذا جدّد العقد عليها بعد ذلك اعتبر الدخول بعده في جعل الطلاق المتعقّب له رجعيّاً، حتّى لو فرض كون الطلاق بعوض وكانت بائنة قبل أن ترجع في البذل لم يزل حكم الزوجيّة الذي منه كونه مدخولاً بها - إلى أن تنقضي العدّة، فلو رجعت في البذل فرجع في الطلاق عاد حكمها السابق وصارت مدخولاً بها. وهذا ممّا لا خلاف فيه ولكنّه محلّ توهم.
قوله: «أمّا لو وطئ لم يجز الطلاق إلا في طهر ثان» إلى آخره.
قد سبق أنّ التي لا يشترط فيها الاستبراء الصغيرة التي لا تبلغ المحيض واليائسة والحامل(1). وهذا الحكم منفي في اليائسة؛ إذ لا عدّة لها، فبقي الوصف مخرجاً للحامل والصغيرة. ويمكن فرضه في اليائسة، بأن يتجدّد اليأس بعد الرجوع والوطء فيسقط اعتبار الطهر الثاني فيها أيضاً؛ لعدم إمكانه.
قوله: «لو شكّ المطلّق في إيقاع الطلاق لم يلزمه الطلاق لرفع الشك، وكان النكاح باقياً». إذا شكّ الرجل في طلاق امرأته لم يحكم بوقوع الطلاق؛ لأنّ الأصل عدمه وبقاء النكاح، كما أنّه يستصحب أصل التحريم عند الشكّ في النكاح، وأصل الطهارة عند الشكّ في الحدث، وبالعكس.
ولو شكّ في عدده بعد علمه بأصله أخذ بالأقلّ واستصحب حكم الأصل في الزيادة، كما يستصحب عند الشكّ في أصل الطلاق؛ خلافاً لمالك حيث ذهب هنا إلى الأخذ بالأكثر،
ص: 323
...
------------------------------------------------------------------------------
كما إذا تحقّق النجاسة في ثوبه ولم يعرف قدرها، فإنّه يأخذ بالأكثر ويغسل جميع ما يقع فيه الاشتباه ولو في جميع الثوب(1).
وردّ بالفرق بين الأمرين، فإنّه ليس للنجاسة قدر معلوم حتّى يستصحب أصل العدم فيما عداه، وقد تيقّن النجاسة فيجب استصحابها إلى أن يتيقّن الطهارة، بخلاف ما هنا، فإنّ قدر الطلاق من واحدة أو اثنتين معلوم فيستصحب أصل العدم فيما عداه. ووزان النجاسة في مسألتنا أن يتحقّقها فى طرف من الثوب ويشكّ في إصابتها طرفاً آخر، وحينئذ فلا يجب غسل الموضع المشكوك فيه.
ولو دار الشك بين طلاق امرأتين من نسائه وجب اجتنابهما إلى أن يتذكّر، لتحريم إحداهما قطعاً واشتباهها بمحصور، حتّى لو اشتبهت في الأربع وجب اجتنابهن، وتكون مسألة الطلاق هنا كما قاله مالك في الأوّل على وزان النجاسة.
وليس كذلك ما لو دار الاشتباه بين زوجتي رجلين بأن أرادا طلاقهما ولم يوقعا إلا واحداً ثمّ اشتبهت المطلّقة وبدا لهما في طلاق الأخرى، فإنا لا نحكم بطلاق واحدة منهما، بخلاف ما لو اتّحد الشخص وتعدّدت المنكوحة.
والفرق أنّ الشخص الواحد يمكن حمله على مقتضى الالتباس وربط بعض أمره ببعض. والرجلان يمتنع الجمع بينهما في توجيه الخطاب. ومعلوم أنّ أحدهما لو انفرد بما قال لم يحكم بوقوع طلاقه، فيستحيل أن يتغيّر حكمه بمقالة تصدر من غيره.
وهذا كما إذا سمعنا صوت حدث بين اثنين ثمّ قام كل واحد منهما إلى الصلاة لم يكن للآخر أن يعترض عليه، ولو أنّ الواحد صلّى صلاتين وتيقّن الحدث في إحداهما ثمّ التبست عليه يُؤمر بقضاء الصلاتين إن اختلفتا عدداً، وإلا فالعدد المطلق بينهما، فعلم أنّه إذا كان الشخص واحداً لم يمتنع توجيه الخطاب عليه بمؤاخذة تتعلّق بواقعتين.
ص: 324
الخامسة • إذا طلّق غائباً ثم حضر ودخل بالزوجة ثمّ ادّعى الطلاق، لم تقبل دعواه ولا بيّنته؛ تنزيلاً لتصرّف المسلم على المشروع، فكأنّه مكذَّب لبيّنته. ولو كان أولد لحق به الولد.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
واعلم أنّه على تقدير عدم الحكم بالطلاق مع الشكّ في العين أو العدد لا يخفى طريق الورع والأخذ بالاحتياط في ذلك، فينبغي مع وقوع الشكّ في أصل الطلاق وهو رجعيّ والعدّة باقية أن يراجعها ليكون على يقين من الحلّ، وإن طاب نفساً بالإعراض عنها طلّقها؛ ليحصل الحلّ لغيره يقيناً. ولو كان الشكّ في العدد بين اثنين وثلاث ينبغي أن لا ينكحها حتّى تنكح زوجاً غيره وإن كان الشك فى أنّه أوقع الثلاث أو لم يوقع شيئاً طلّقها ثلاثاً؛ لتحلّ لغيره يقيناً، أو أوقع واحدةً ثم لا يرجع فيها، إلى غير ذلك من صور الشكّ.
قوله: «إذا طلّق غائباً، ثمّ حضر ودخل بالزوجة، ثمّ ادّعى الطلاق» إلى آخره.
الأصل في هذه المسألة رواية سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل طلّق امرأته وهو غائب وأشهد على طلاقها ثمّ قدم وأقام مع المرأة أشهراً لم يعلمها بطلاقها. ثمّ إنّ المرأة ادّعت الحبل، فقال الرجل: قد طلّقتك وأشهدت على طلاقك، قال: «يلزم الولد ولا يقبل قوله»(1).
ويؤيّدها ما ذكره المصنّف من أنّه بفعله «مكذِّب لبيّنته» فلا تسمع، وبأنّ تصرّف المسلم
يُبنى على الصحّة، فإذا ادّعى بعد ذلك ما يخالفه لا يزول ما قد ثبت سابقاً.
ويشكل الأخير بأنّ تصرّفه إنّما يحمل على المشروع حيث لا يعترف بما ينافيه، ولهذا لو وجدناه يجامع امرأةً واشتبه حالها لا يحكم عليه بالزنى، فإذا أقرّ أنّه زان يحكم عليه بمقتضاه.
وأمّا تكذيب فعله بيّنته فإنّما يتمّ مع كونه هو الذي أقامها، فلو قامت الشهادة حسبة وورّخت بما ينافي فعله قبلت وحكم بالبينونة. ويبقى في إلحاق الولد بهما أو بأحدهما ما قد علم من اعتبار العلم بالحال وعدمه. وهذا كله إذا كان الطلاق بائناً أو رجعيّاً وانقضت العدّة، وإلّا قبل وحُسبت من الثلاث، فيكون الوطء رجعة.
ص: 325
السادسة • إذا طلّق الغائب وأراد العقد على رابعة أو على أخت الزوجة صبر تسعة أشهر؛ لاحتمال كونها حاملاً. وربما قيل سنّة احتياطاً؛ نظراً إلى حمل المسترابة. ولو كان يعلم خلوّها من الحمل كفاه ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر.
----------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا طلّق الغائب وأراد العقد على رابعة» إلى آخره.
وجوب التربّص تسعة أشهر ذكره الشيخ في النهاية(1). والمستند حسنة حمّاد بن عثمان قال قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): ما تقول في رجل له أربع نسوة طلّق واحدة منهنّ وهو غائب عنهنّ متى يجوز له أن يتزوّج؟ قال: «بعد تسعة أشهر، وفيها أجلان فساد الحيض وفساد الحمل»(2).
وعلى مدلول الرواية اقتصر ابن إدريس فلم يعدّ الحكم إلى التزويج بأخت المطلّقة؛ محتجّاً بأنّ ذلك قياس لا يجوز عندنا. وكذا التعليل المستنبط. وأوجب في تزويجه بالأخت أن يصبر إلى أن تنقضي عدّتها بحسب ما يعلمه من عادتها(3). وأراد بالعلم هنا ما سبق نظيره في العلم بانتقالها من طهر إلى آخر بحسب عادتها، وهو الظنّ الغالب(4).
وردّ عليه في المختلف بأنّه لا فرق بين الأمرين، وكما تحرم الخامسة كذا تحرم الأخت في العدّة، وكما أوجبنا الصبر تسعة أشهر في الخامسة استظهاراً، كذا يجب في الأخت. وبأنّ العلم بانقضاء العدّة يوجب جواز تزويج الخامسة كما يجوز تزويج الأُخت، وإنّما يجب الصبر مع الاشتباه(5).
ولابن إدريس أن يقول: إنّه لم يلتزم بحكم الخامسة إلّا من حيث الإجماع الذي يفهمه في المسألة ونظائرها، فلا يمكنه المخالفة، ويرجع في غير المجمع عليه إلى حكم الدليل، ولمّا لم يذكر الشيخ الأخت تبعاً للرواية اقتصر ابن إدريس على موافقته في موضع الوفاق خاصةً، فلا يضرّه ما ذكر من اشتراكهما في الموجب، فإنّه يمنع الاشتراك؛ لأنّ ما ذكروه من
ص: 326
...
-------------------------------------------------------------------------------
حكم الخامسة أمر مبني على الاستظهار لا على الدليل القطعي، فلا يلزم مثله فيما ناسبها.
وأمّا إيراده عليه بأنّه مع العلم بانقضاء العدّة لا فرق بين الأمرين فليس بشيء؛ لأنّ هذا الذي اعتبره إنّما هو العلم بالمعنى الأعمّ، وهو لا يدفع الاشتباه والحكم بالاستظهار في موضع النصّ.
ويؤيّد ما ذكره ابن إدريس من جواز الرجوع إلى ما يعلم من العادة صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا طلّق الرجل امرأته وهو غائب فليشهد عند ذلك، فإذا مضى ثلاثة أشهر فقد انقضت عدّتها»(1). وهذه شاملة للأخت وغيرها. واعتبار الثلاثة أشهر مبنيّ على الغالب من أنّ كلّ شهر يحصل فيه حيضة للمرأة فتنقضي العدّة بثلاثة أشهر غالباً، وهو كالظنّ الغالب بعادتها. ولو فرض اشتباه عادتها كانت الثلاثة الأشهر عدّة لمن في معناها وهي المسترابة. فالجمع بين هذه الرواية والسابقة يحصل بالاقتصار بالسابقة على ما دلّت عليه خاصّة والعمل في غيره بما دلّت عليه الثانية، مع أنّ هذه أصحّ سنداً من الأُولى.
وأمّا القول بالتربّص سنّۀ فهو خارج عن الأمرين، وقياس على عدّة المسترابة. وسيأتي ما فيها(2).
وبهذا القول عمل العلّامة في القواعد مقتصراً عليه(3) (وبالتسعة عمل في المختلف والتحرير مقتصراً عليها)(4). والأقوى الاكتفاء بالتسعة وعدم الفرق بين تزويج الخامسة والأخت وموضع الاشتباه ما إذا كان الطلاق رجعيّاً، فلو كان بائناً جاز تزويجها مطلقاً كما تقدّم في النكاح(5).
ص: 327
و فیه مقاصد:
[المقصد] الأول في طلاق المريض
• يكره للمريض أن يطلّق، ولو طلّق صحّ. وهو يرث زوجته ما دامت في العدّة الرجعيّة، ولا يرثها في البائن ولا بعد العدّة. وترثه هي سواء كان طلاقها بائناً أو رجعياً - ما بين الطلاق وبين سنّة ما لم تتزوّج أو يبرأ من مرضه الذي طلّقها فيه.
فلو برى ثمّ مرض ثمّ مات لم ترثه إلّا في العدّة الرجعيّة.
---------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «يكره للمريض أن يطلّق، ولو طلّق صحّ - إلى قوله - طلّقها فيه».
طلاق المريض كطلاق الصحيح في الوقوع ولكن يزيد عنه بكراهته مطلقاً، واختصاص كراهة طلاق الصحيح بموارد مخصوصة كما سبق(1). ووجه الكراهة النهي عنه في كثير من الأخبار، بل إطلاق عدم جوازه، روى زرارة - في الحسن - عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «ليس للمريض أن يطلّق، وله أن يتزوّج»(2). وروى عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن المريض أ له أن يطلّق امرأته في تلك الحال؟ قال: «لا»(3). ومثله روى عبيد بن زرارة
ص: 328
عنه (علیه السلام)(1). ووجه حملها على الكراهة الجمع بينها وبين ما دلّ على جوازه في أخبار كثيرة(2) يأتي بعضها(3).
ثمّ إن كان الطلاق رجعيّاً توارثا ما دامت في العدّة إجماعاً؛ لأنّ المطلّقة رجعيّاً بمنزلة الزوجة، وإن كان بائناً لم يرثها الزوج مطلّقاً كالصحيح، وترثه هي في العدّة وبعدها - وكذا في الرجعيّة بعدها - إلى سنة من حين الطلاق ما لم تتزوّج بغيره أو يبرأ من مرضه الذى طلّق فيه هذا هو المشهور بين الأصحاب خصوصاً المتأخّرين منهم.
وذهب جماعة(4) - منهم الشيخ في النهاية(5) - إلى ثبوت التوارث بينهما في العدّة مطلقاً، واختصاص الإرث بعدها بالمرأة منه دون العكس إلى المدّة المذكورة.
وحجّة المشهور أنّ الطلاق البائن موجب لانقطاع العصمة منافٍ للميراث وقد حصل خرج من ذلك إرثها منه بالنصّ والإجماع فيبقى الباقي، ولأنّ المقتضي لإرثها تهمته بمنعها من الإرث كما سيأتي(6)، وهو منتف من جانبه.
ومن الأخبار موثّقة زرارة قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن رجل يطلّق امرأته قال: «ترثه ويرثها ما دامت له عليها رجعة»(7). وقيد الرجعة لا يصلح في ميراثها إجماعاً، لثبوته مطلقاً، فيبقى في ميراثه، وللقرب، وإذا انتفى القيد انتفى الحكم تحقيقاً لفائدته.
ص: 329
• ولو قال: طلّقت في الصحّة ثلاثاً، قُبل منه ولم ترثه والوجه أنّه لا يقبل بالنسبة إليها.
--------------------------------------------------------------------------------------
وحسنة الحلبي أنّه سئل عن رجل يحضره الموت فيطلّق امرأته، هل يجوز طلاقه؟ قال: (نعم)، وإن مات ورثته، وإن ماتت لم يرثها»(1). وليس ذلك في الرجعي لاتّفاقهما في الحكم، فهو في البائن.
وحجّة الشيخ وأتباعه روايات تدلّ بظاهرها على ثبوت التوارث بينهما من غير تفصيل(2). والأخبار من الجانبين غير نقيّة، والأولى الرجوع إلى حكم الأصل والوقوف على موضع الوفاق، وهو دالّ على الأوّل.
قوله: «ولو قال: طلّقت في الصحة ثلاثاً، قبل منه ولم ترثه» إلى آخره.
وجه القبول أنّ إقرار المريض بما لَهُ أن يفعله مقبول - كما مرّ في بابه(3) - وإن كان على الوارث، وينزل ما أقرّ مريضاً بفعله حال الصحّة منزلة ما لو فعله حال الصحّة ولأنّ الحكم معلّق على إنشائه الطلاق مريضاً بالنص(4)، والإقرار ليس بإنشاء. وحينئذ فلا ترثه؛ لانتفاء المقتضي للإرث مع البينونة وهو طلاقها مريضاً.
ووجه ما اختاره المصنّف من عدم القبول بالنسبة إليها أنّ المانع من ترتّب حكم البينونة مع طلاقه مريضاً هو التهمة بفراره به من إرثها، وهو موجود مع الإقرار وحينئذ فيلغو قيد الصحّة ويحكم عليه بالطلاق البائن وترثه إلى المدّة المذكورة ولا يرثها. ولا يخلو من إشكال؛ للفرق بين الإقرار والإنشاء.
ص: 330
• ولو قذفها وهو مريض فلاعنها وبانت باللعان لم ترثه ؛ لاختصاص الحكم بالطلاق.
• وهل التوريث لمكان التهمة؟ قيل: نعم. والوجه تعلّق الحكم بالطلاق في المرض لا باعتبار التهمة.
وفي ثبوت الإرث مع سؤالها الطلاق تردّد أشبهه أنه لا إرث وكذا لو خالعته أو بارأته.
----------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو قذفها وهو مريض فلاعنها وبانت باللعان لم ترثه؛ لاختصاص الحكم بالطلاق».
لمّا كان هذا الحكم ثابتاً مع الطلاق البائن على خلاف الأصل اقتصر فيه على مورده، فلا يتعدّى إلى غيره من الأسباب التي تحصل بها البينونة في حال المرض، كاللعان المسبّب القذف في حال المرض؛ لأنّه قياس محض لا نقول به وللعامّة القائلين بالقياس مع اتّحاد العلّة هنا وجهان(1).
ولو استند اللعان حال المرض إلى القذف حال الصحة فلا خلاف في عدم الإرث لانتفاء التهمة التي هي علّة الإلحاق بالطلاق. ومثله ما لو كان الفسخ لعيب في المرض، فأولى بعدم الإرث هنا؛ لرجحان كون الفسخ بسبب العيب لا بالتهمة، بخلاف القذف والطلاق. وتردّد فيه العلّامة في القواعد(2)، ولا وجه له على أصله.
قوله: وهل التوريث لمكان التهمة؟ قيل: نعم. والوجه تعلّق الحكم بالطلاق في المرض لا باعتبار التهمة» إلى آخره.
اختلف الأصحاب في أن ثبوت الإرث للمطلّقة في المرض هل هو مترتّب على مجرّد الطلاق فيه، أو معلّل بتهمته في إرادة حرمانها من الإرث فعوقب بنقيض قصده، كما لو قتل
ص: 331
...
-----------------------------------------------------------------------------------------
مورّثه استعجالاً للإرث، فإنّه يحرم الميراث؟ فذهب الشيخ في كتابي الفروع والأكثر إلى الأوّل(1)؛ لإطلاق النصوص بكون الطلاق في تلك الحالة مقتضياً لذلك(2)، ولأنّ العلّة مستنبطة لا منصوصة فلا تعتبر.
وذهب في الاستبصار إلى الثاني(3): الرواية زرعة عن سماعة قال: سألته عن رجل طلّق امرأته وهو مريض، قال: «ترثه ما دامت في عدّتها، وإن طلّقها في حال إضرار فهي ترثه إلى سنة، فإن زاد على السنة يوم واحد لم ترثه»(4).
وروى محمّد بن القاسم الهاشمي قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لا ترث المختلعة والمبارئة والمستأمرة في طلاقها من الزوج شيئاً إذا كان منهنّ في مرض الزوج وإن مات؛ لأنّ العصمة قد انقطعت منهنّ ومنه»(5). وهذه ظاهرة في اعتبار التهمة؛ لأنّ المذكورات لا يتهم المطلّق فيهن من حيث إنّ الطلاق مستند إلى مطالبتهنّ وبذل المال. والعلّة على هذا منصوصة، وفيه مع ذلك الجمع بين الأخبار. ورجّحه العلّامة في المختلف والإرشاد(6).
وفيه نظر؛ لضعف طريق الخبرين وقطع الأوّل، فلا يصلحان لإثبات الحكم.
إذا تقرّر ذلك فيتفرّع على القولين ما لو سألته الطلاق؛ لانتفاء التهمة بسؤالها، وما لو خالعها إن قلنا إن الخلع طلاق أو أتبع بالطلاق؛ لاستناد السبب إليها ببذل المال فانتفت
ص: 332
...
-----------------------------------------------------------------------------------------------
التهمة. ولو لم نجعله طلاقاً فأولى بعدم ثبوت الميراث؛ لأنّ الحكم في النصّ معلّق على الطلاق إمّا مع التهمة أو بدونها، وهما منتفيان مع الخلع ولو سألته الطلاق فلم يجبها في الحال ثمّ طلّقها بعد ذلك تحقّقت التهمة. وكذا لو سألت طلاقاً رجعيّاً فطلق بائناً، أو علّقت السؤال بصفة فطلّق بدونها.
وكما لا يلحق بالطلاق غيره من أنواع الفسخ لا يلحق بالمرض ما أشبهه من الأحوال المخوفة على الأصحّ فيهما؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع اليقين. وألحق ابن الجنيد غير الآمن على نفسه غالباً، والمأخوذ للقود أو لحدّ يخاف مثله عليه بالمرض(1). ونفى العلّامة عنه البأس(2). والأقوى المشهور.
وأولى بعدم ترتّب الحكم ما لو كان الفرار بالفسخ من جهتها، كما لو أرضعت زوجها الصغير في مرض موتها لينفسخ نكاحه فلا يرثها. ولبعض العامّة هنا قول بإرثه قياساً على إرثها بفراره(3). وهو بعيد.
فرع: لو طلّق إحدى امرأتيه ونوى معيّنةً ثمّ مرض مرض الموت فعين واحدة منهما قبل منه ولم ترث ولو كان قد أبهم ابتداءً وعيّن في المرض واحدة بنى على أنّ الطلاق يقع بالتعيين أو بيان لمحلّ الطلاق الواقع بالصيغة، فإن قلنا بالثانى لم ترث قطعاً، وإن قلنا بالأول ورثت؛ لوقوع الطلاق في المرض.
ويحتمل على هذا القول عدم الإرث؛ لوجود سببه حال الصحّة وإن لم يتمّ إلا في المرض.
ثمّ عُد إلى عبارة المصنّف.
واعلم أنّه اختار أوّلاً تعلّق الحكم بالطلاق لا باعتبار التهمة بقوله «والوجه» إلى آخره
ص: 333
فروع:
الأوّل: • لو طلّق الأمة مريضاً طلاقاً رجعياً فأعتقت في العدّة ومات في مرضه ورثته في العدّة، ولم ترثه بعدها؛ لانتفاء التهمة وقت الطلاق. ولو قيل: ترثه كان حسناً.
ولو طلّقها بائناً فكذلك. وقيل: لا ترث؛ لأنّه طلّقها في حال لم يكن لها أهليّة الإرث.
وكذا لو طلّقها كتابيّةً ثمّ أسلمت.
------------------------------------------------------------------------------------
ثمّ عطف عليه حكم ما لو سألته الطلاق أو خالعها أو بارأها بالواو وحكم فيه بعدم الإرث وهو متفرّع على اعتبار التهمة التي قد نفاها أوّلاً؛ إذ لو جعلنا العلّة الطلاق في المرض مجرّداً لحكمنا بتوريث المذكورات كغيرهنّ من المطلّقات، ورجوعه عن الأول مع اتّصال المسألتين بعيد.
وكان حقّ المسألة الأخيرة تفريعها على السابقة بالفاء والحكم فيها بالإرث ويمكن التخلص من الإشكال في الخلع بأن يكون الوجه فيه جعله فسخاً لا طلاقاً، فنفي الإرث فيه مع حكمه سابقاً بترتّب الحكم على الطلاق سهل. أمّا الحكم في الباقيتين فمشكل.
قوله: «لو طلّق الأمة مريضاً طلاقاً رجعيّاً» إلى آخره.
هذه من المسائل المتفرّعة على أنّ المقتضي للميراث هل هو الطلاق في المرض مطلقاً، أو هو مع قيد التهمة بالفرار من الإرث؟ فعلى الثاني لا إرث هنا؛ لانتفاء التهمة؛ لأنّ الأمة والكتابيّة لا ترث وقت الطلاق. وعلى الأوّل ،ترث لوجود المقتضي له وهو الطلاق في المرض وانتفاء المانع؛ إذ ليس هناك إلا كونهما غير وارثتين حال الطلاق، وهو لا يصلح للمانعيّة؛ لأنّ المعتبر استحقاق الإرث حال الحكم به، والمفروض أنّها حينئذ حرّة مسلمة.
ص: 334
الثاني: • إذا ادّعت المطلّقة أنّ الميت طلّقها في المرض، وأنكر الوارث وزعم أنّ الطلاق في الصحّة، فالقول قوله؛ لتساوي الاحتمالين، وكون الأصل عدم الإرث إلا مع تحقّق السبب.
---------------------------------------------------------------------------------
وقيل: لا ترث وإن انتفت التهمة(1)؛ لما أشار إليه المصنّف من أنّه طلّقها في حال لم يكن لها أهليّة الإرث والمفروض كون الطلاق بائناً، فلم يصادف وقت الإرث أهليّتها له للبينونة ولا وقت الطلاق؛ لوجود المانع وهو الرق أو الكفر.
واستدلّ عليه فخر الدين أيضاً بأنّ النكاح الحقيقيّ لم يوجب لهما الميراث فكيف الطلاق؟!(2) وفيه نظر؛ لمنع أنّ النكاح لا يوجب الميراث، بل هو موجب له مطلقاً، ولكن الكفر والرق مانعان من الإرث؛ إذ الإسلام والحريّة شرط فيه، وتخلّف الحكم عن السبب لوجود مانع أو فقد شرط لا يقدح في سببيّته، فإذا فقد المانع أو وجد الشرط عمل السبب عمله، كما حقق في الأصول(3)، والأمر هنا كذلك. والأقوى ثبوت الإرث مع زوال المانع في العدة الرجعية، وفي البائن مع زوال المانع قبل القسمة خاصّةً.
واعلم أنّ ميل المصنّف هنا إلى ثبوت الإرث رجوع إلى جعل الطلاق بمجرّده سبباً في
الإرث كما اختاره أولاً، خلاف ما رجع إليه ثانياً، وهذا عجيب منه.
قوله: «إذا ادّعت المطلّقة أنّ الميّت طلّقها في المرض، وأنكر الوارث وزعم أنّ الطلاق
في الصحّة» إلى آخره.
لما كان إرث المطلّقة بائناً على خلاف الأصل ومتوقّفاً على شرط وهو وقوع طلاقها في مرض موت الزوج، فلا بدّ في الحكم بثبوته من العلم بسببه وإلّا فالأصل عدم إرثها. فإذا اتفقت هي والوارث على كونها مطلّقة قبل موت الزوج، وادّعت وقوع الطلاق في مرض
ص: 335
الثالث: • لو طلّق أربعاً في مرضه وتزوّج أربعاً ودخل بهنّ ثمّ مات فيه، كان الربع بينهنّ بالسوية. ولو كان له ولد تساوين في الثمن.
---------------------------------------------------------------------------------------
موته وأنكر الوارث، فقد حصل الشكّ في وجود المقتضي للإرث مع الاتّفاق على اتّصافها بالبينونة الموجبة لانتفائه، فيقدّم قول الوارث؛ لما ذكر من أصالة عدم إرث البائنة إلا مع اتّصافها بوصف وهو كون طلاقها وقع في المرض، ولم يثبت.
وتعليل المصنّف الحكم بتقديم قول الوارث ب«تساوي الاحتمالين» يعني وقوع الطلاق في المرض وعدمه لا يخلو من نظر؛ لأنّه إما أن يعلم له مرض مات فيه، أو لا يعلم ذلك بأن احتمل موته فجأةً. وفي الأوّل الأصل استمرار الزوجيّة إلى حين المرض والطلاق حادث فالأصل عدم تقدّمه، وذلك يقتضي ترجيح وقوعه في المرض بأصلين. ومع الوارث أصالة عدم إرث البائنة في حال الحياة إلا مع العلم بسببه. وهنا الاحتمالان غير متساويين، وفي ترجيح قول الوارث نظر لما ذكر من معارضة الأصلين، فإذا تساقط مع أصل يبقى المرجّح بالأصل الآخر.
وأمّا الثاني وهو أن لا يعلم له مرض مات فيه فترجيح قول الوارث واضح؛ إذ لا معارض لأصله، ومع ذلك فالاحتمالان غير متساويين أيضاً، فينبغي ملاحظة ذلك.
قوله: «لو طلّق أربعاً في مرضه وتزوّج أربعاً ودخل بهنّ» إلى آخره.
وجه التقييد بالدخول بالجديدات ما سيأتي(1) - إن شاء الله تعالى - من أنّ نكاح المريض مشروط بالدخول، فلو مات قبله فلا إرث للزوجة. وحينئذ فإذا دخل بالأربع ورثنه بالزوجيّة المقتضية له، وورث المطلّقات أيضاً؛ لكون طلاقهنّ في المرض المقتضي لثبوت الإرث وإن خرجن عن الزوجيّة. ولمّا كان سبب الإرث في الجميع الزوجية اشتركن في سهمها - وهو الربع أو الثمن - بالسوية كاشتراك الزوجات الأربع فيه ولا يرث ما زاد عن الأربع بالزوجيّة إلا هنا.
ص: 336
المقصد الثاني • فيما يزول به تحريم الثلاث إذا وقعت الثلاث على الوجه المشترط حرمت المطلّقة حتّى تنكح زوجاً غير المطلق.
--------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «فيما يزول به تحريم الثلاث - إلى قوله غير المطلّق».
لا فرق بين وقوع الطلقات الثلاث في نكاح واحد وأكثر، ولا بين كونه قبل الدخول وبعده. والأصل فيه قوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(1) والمراد الطلقة الثالثة.
وروي أنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلّقني فبت طلاقي فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك»(2).
والتحريم بالثلاث مشروط بكون الزوجة حرّة كما مرّ(3). وسيأتى التنبيه عليه بحكمه بتحريم الأمة باثنتين(4). وإنّما أطلق الحكم تبعاً للآية الدالّة على التحريم بالثلاث، وحملاً على الغالب والفرد الأشرف والمعتق بعضها بحكم الحرّة هنا.
والمراد بوقوع الثلاث على الوجه المشترط ، وقوعها صحيحة؛ إذ لا يشترط لتحريمها الثالثة سوى ذلك، بخلاف تحريمها في التاسعة فإنّه مشروط بأمر زائد على الصحّة وهو کونها عِدّيّة كما تقرّر.
ويجوز أن يريد بالوجه المشترط ما يشمل التقييد بكونها غير عدّيّة كما احتيج إليه في
ص: 337
ويعتبر في زوال التحريم شروط أربعة:
• أن يكون الزوج بالغاً. وفي المراهق تردّد أشبهه أنّه لا يحلّل.
---------------------------------------------------------------------------------------
تقييد الآية؛ لأنّه حكم بكون غاية التحريم على المطلّق ثلاثاً أن تنكح زوجاً غيره الشامل للثلاث الأولى وغيرها، ومع كون الطلاق عديّاً لا يُغيّا التحريم في التاسعة - التي هي ثلاث بالنسبة إلى زوال حكم ما قبلها بالمحلّل - بنكاح غير المطلّق؛ لاستمرار التحريم حينئذ. فینبغی(1) تقدير العبارة على هذا إذا وقعت الثلاث على الوجه المشترط وهو كونها صحيحة، أو غير عِدّيّة بالنسبة إلى الثلاث الثالثة - حرمت المطلّقة حتّى تنكح زوجاً غيره. وفي القسم الثاني وهو كونها عدّيّة لا يتغيّا التحريم بذلك، لتحريمها حينئذٍ مؤبداً. وهذا الاعتبار أكثر فائدة.
قوله: «أن يكون الزوج بالغاً. وفي المراهق تردد أشبهه أنه لا يحلّل».
ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ الصغير الذي لم يقارب البلوغ ولا يشتهي الجماع لا يحلّل. واختلفوا في المراهق - وهو المقارب للبلوغ بحيث يمكن بلوغه بغير السن وهو ابن عشر سنين فصاعداً - هل يحلل أم لا؟ فذهب الشيخ في كتابي الفروع(2) وابن الجنيد(3) إلى الاكتفاء به؛ لعموم قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )(4) الصادق بالصغير والكبير.
وذهب المصنّف وأكثر المتأخّرين إلى المنع؛ لأنّ الصبي لا اعتبار بأفعاله؛ لرفع القلم عنه(5)، ولقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخبر السابق(6): «حتّى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» والعسيلة لذّة الجماع على ما فسره به أهل اللغة(7)، وقيل: الإنزال(8)، وكلاهما لا يتحقّق في
ص: 338
...
----------------------------------------------------------------------------------------
غير البالغ. ولقول الرضا (علیه السلام) حين سئل عن رجل طلّق امرأته الطلاق الذي لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره فتزوّجها غلام لم يحتلم قال: «لا، حتّى يبلغ»(1).
وفيه نظر؛ لأنّ رفع القلم عن الصبيّ لا ينافي اعتداد المكلّف بفعله وترتّب الأثر عليه، كما يجب عليها الغسل بوطئه، وخصوصاً مع دخوله في إطلاق الآية. والمراهق له لذّة الجماع. وكذلك المرأة تلتذّ به، فيتناوله الخبر والرواية الأخيرة في طريقها ضعف وجهالة(2) فلا تصلح دليلاً، ويمكن مع ذلك حملها على الأكمليّة. ولعلّ التخفيف في هذا الباب مطلوب؛ لما فيه الغضاضة والعار، وإن كان النكاح مبنياً على الاحتياط.
واتّفق العامّة على الاكتفاء بالمراهق، وإنّما اختلفوا فيما دونه(3)، بل قيل: إنّ الصحابة اتّفقوا عليه أيضاً. ولا فرق على القولين في المحلّل بين الحر والعبد والعاقل والمجنون.
ثمّ إن اعتبرنا البالغ وكان عاقلاً فأمر الطلاق إليه. وإن كان مجنوناً توقّف طلاق وليّه عنه على المصلحة كما مرّ(4).
ثمّ البالغ العاقل لا يوثق بطلاقه؛ لأنّه بيده ولا يصحّ اشتراطه عليه كما سبق(5)، فأسلم طريق في الباب وأدفعه للعار والغيرة أن تتزوّج من عبد مراهق إن اكتفينا به، أو مكلف للزوج أو غيره، ويستدخل حشفته ثمّ يملك ببيع أو هبة ويفسخ نكاحه ويحصل التحليل، ويتعلّق بأصل آخر وهو إجبار العبد على النكاح، وقد تقدّم البحث فيه(6)، فإن لم نجز امتنع
ص: 339
• وأن يطأها في القبل وطاً موجباً للغسل. وأن يكون ذلك بالعقد لا بالملك ولا بالإباحة. وأن يكون العقد دائماً لا متعة.
------------------------------------------------------------------------------
ذلك. وإنّما كان أسلم الطرق لأنّه لا يوثق بطلاق الزوج والبالغ قد يحبلها فيطول الانتظار. أمّا إنّه أدفعُ للعار والغيرة فظاهر.
قوله: «وأن يطأها في القبل وطأ موجباً للغسل» إلى آخره.
أشار بذلك إلى جملة من شرائط التحليل، وهي أمور خمسة:
الأوّل: أن يطأها المحلّل. فلا يكفي العقد المجرّد ولا الخلوة إجماعاً، إلا من سعيد بن المسيب حيث اكتفى بالعقد(1)؛ عملاً بظاهر قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(2) والنكاح حقيقة في العقد.
وحجّة الباقين - وراء الإجماع - خبر العسيلة الدالّ على اشتراط الوطء، وهو مروي من الجانبين، مع أنّه يمكن استفادته من الآية بحمل النكاح على الوطء على القول بأنّه حقيقة فيه، وأنّ العقد مستفاد من قوله تعالى: (زَوْجًا).
الثاني: كونه في القبل فلا يكفي في الدبر، وهو مستفاد أيضاً من ذوق العسيلة، فإنّه منتف من الجانبين(3) في غير القبل، ولأنّه المعهود. هذا إذا قلنا بجوازه وإلا فلا إشكال في خروجه؛ لأنّ الأحكام لا تتناوله.
الثالث: كون الوطء موجباً للغسل. وحده تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها؛ لأنّ ذلك هو مناط أحكام الوطء كلّها. والمعتبر في مقدار الحشفة من الباقي حشفة العضو المخصوص ولو كان الباقي منه أقلّ من ذلك لم يحصل به التحليل وإن أوقب. ولو كانت بكراً فأقلّ الإصابة الاقتضاض بآلته ذلك المقدار. ولا فرق بين أن يحصل مع ذلك انتشار
ص: 340
• ومع استكمال الشرائط يزول تحريم الثلاث.
وهل يهدم ما دون الثلاث؟ فيه روايتان أشهر هما أنّه يهدم. فلو طلّق مرّة فتزوّجت المطلّقة ثمّ تزوّج بها الأول بقيت معه على ثلاث مستأنفات، وبطل حكم السابقة.
------------------------------------------------------------------------------------
العضو وعدمه، حتّى لو حصل إدخال الحشفة بالاستعانة كفى على ما يقتضيه إطلاق النص والفتوى مع احتمال العدم؛ نظراً إلى جعل ذوق العسيلة غاية.
الرابع: أن يكون ذلك بالعقد لا بالملك؛ لقوله تعالى: (حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(1) فإنّ النكاح حقيقة في العقد. ولو أريد به هنا الوطء كما زعم بعضهم(2) - لأمكن استفادته من لفظ «الزوج» فلا يكفي الوطء بملك اليمين ولا بالتحليل.
الخامس كون العقد دائماً فلا يكفي المتعة؛ لمفهوم قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا)(3) والطلاق مختصّ بالدائم.
وروی هشام بن سالم - في الموثّق - عن أبي عبدالله (علیه السلام) في رجل تزوّج امرأةٌ ثمّ طلّقها فبانت ثم تزوّجها رجل آخر متعةً هل تحلّ لزوجها الأوّل؟ قال: «لا، حتّى تدخل فيما
خرجت منه»(4).
وروى عبد الله بن مسكان عن الصيقل عن أبي عبد الله (علیه السلام) مثله، وزاد فيه قوله: «لأنّ الله تعالى يقول: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِن طَلَّقَهَا)، و المتعۀ لیس فیها طلاق»(5).
قوله: (ومع استكمال الشرائط يزول تحريم الثلاث» إلى آخره.
المراد بهدم الطلقات السابقات أنّ الزوج إذا طلّق الزوجة طلقة أو طلقتين، ثم خرجت من عدّته وتزوّجت بغيره تزويجاً يفيد التحليل على تقدير الحاجة إليه، ثمّ طلّقها أو مات عنها ورجعت إلى الأوّل بعقد جديد بقيت معه على ثلاث طلقات كأنّه لم يطلّقها فيما سبق
ص: 341
...
--------------------------------------------------------------------------------
ولم تعدّ الطلقة السابقة ولا الطلقتان ومن منع الهدم هنا(1) عدّ الطلقة السابقة على نكاح الثاني والطلقتين من الثلاث، وبقيت معه بعد تزويجه ثانياً على طلقتين أو طلقة كما كانت قبل أن تتزوّج بغيره، فإذا أكملها ثلاثاً حرمت عليه حتّى تنكح زوجاً غيره. وعلى الأول لا اعتبار بما سبق، ولا تحرم عليه إلا بثلاث طلقات مستأنفات.
إذا تقرّر ذلك فقد اختلف الأصحاب وغيرهم من العلماء في هذه المسألة، فذهب الشيخ(2) وأتباعه(3) وابن إدريس(4)، والمصنّف وأكثر المتأخّرين إلى الأول. واستندوا في ذلك إلى رواية رفاعة بن موسى النخاس قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل طلّق امرأته تطليقةً واحدة فتبين منه، ثمّ تزوّجها آخر فيطلّقها على السنّة فتبين منه، ثمّ يتزوّجها الأول على كم هي عنده؟ قال: «على غير شيء». ثمّ قال: «يا رفاعة كيف إذا طلّقها ثلاثاً ثمّ تزوّجها ثانية استقبل الطلاق، فإذا طلّقها واحدةً كانت على اثنتين؟!»(5). وروى عبد الله بن عقيل بن أبي طالب قال: اختلف رجلان في قضيّة عليّ (علیه السلام) وعمر في امرأة طلّقها زوجها تطليقة أو اثنتين فتزوّجها آخر فطلّقها أو مات عنها فلما انقضت عدّتها تزوّجها الأوّل، فقال عمر : هي على ما بقي من الطلاق، فقال علي (علیه السلام): «سبحان الله أيهدم ثلاثاً ولا يهدم واحدة؟!»(6).
وفي طريق الروايتين ضعف، إلا أنّ مضمونهما مشهور بين الأصحاب، حتّى أن المخالف غير معلوم.
ونقل عن بعض الأصحاب عدم الهدم(7). وحجّته قوله تعالى: (الطَّلَقُ مَرَّتَانِ) إلى قوله
ص: 342
...
----------------------------------------------------------------------------------
فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(1) الشامل لما لو تخلّل نكاح زوج قبل الثالثة وعدمه.
وللروايات الصحيحة المستفيضة بذلك، كصحيحة الحلبي قال: سألت أباعبد الله (علیه السلام) عن رجل طلّق امرأته تطليقةً واحدة ثمّ تركها حتّى مضت عدتها فتزوّجت زوجاً غيره، ثمّ مات الرجل أو طلّقها فراجعها زوجها الأول، قال: «هي على تطليقتين باقيتين»(2).
وصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (علیه السلام) في امرأة طلّقها زوجها واحدةً أو اثنتين ثمّ تركها حتّى تمضي عدّتها فتزوّجها غيره، فيموت أو يطلّقها فيتزوّجها(3) الأول قال: «هي عنده على ما هي عليه من الطلاق»(4). وصحيحة جميل بن درّاج عنه (علیه السلام)، وإبراهيم بن عبد الحميد عن الكاظم قال: «إذا طلّق الرجل المرأة فتزوّجت ثمّ طلّقها زوجها فتزوّجها الأوّل، ثمّ طلّقها فتزوّجت رجلاً ثمّ طلّقها فتزوّجها الأوّل، ثمّ طلّقها هكذا ثلاثاً لا تحلّ له أبداً»(5). وفي معناها غيرها مما هو صريح في عدم الهدم(6).
ويؤيّده أنّ الطلاق الأول والثاني لا يؤثّران في التحريم المحوج إلى زوج فالنكاح الثاني والدخول فيه لا يهدمانهما، بخلاف ما إذا طلّقها ثلاثاً فنكحت زوجاً آخر؛ لأنّ دخول الثاني أفاد حلّ النكاح ولا يمكن بناؤه على العقد الأوّل وهنا يمكن بناؤه عليه، فيبنى كما لو عادت قبل أن تتزوّج.
ص: 343
• ولو طلّق الذمّية ثلاثاً فتزوّجت بعد العدّة ذمّيّاً ثمّ بانت منه وأسلمت حلّ للأوّل نكاحها بعقد مستأنف. وكذا كلّ مشرك.
--------------------------------------------------------------------------------
ولا يخفى عليك قوة دليل هذا الجانب، لضعف(1) مقابله، إلا أنّ عمل الأصحاب عليه، فلا سبيل إلى الخروج عنه.
والشيخ (رحمه الله) حمل الروايات الدالّة على عدم الهدم على أحد أُمور ثلاثة: أن يكون الزوج لم يدخل بها، أو يكون غير بالغ، أو تكون متعةً، فإنّ الثلاثة لا تحلّل ولا تهدم الأقل من الثلاث(2). وما أشبه هذا الحمل بأصل الحجّة.
وفي المختلف نفى البأس عن هذا الحمل؛ نظراً إلى اعتضاده بأصالة الإباحة، وأنّه قد وردت أخبار صحاح في أنّ الخروج من العدّة يهدم طلاق الزوج نفسه فالأولى غيره، وإن كنا لا نعمل بتلك الأخبار(3) . ولا يخفى عليك ما في هذا كلّه من التكلف. وفي التحرير تردّد فى الحكم لذلك(4)؛ وعذره واضح.
واعلم أنّ في نسبة المصنف رواية الهدم إلى الأشهريّة إشارة إلى ما ذكرناه، فإنّ الجانب الآخر أصحّ طريقاً، ولكن هذه أشهر بين الأصحاب. ولم ينسب المسألة إلى قولين؛ لما أشرنا إليه من عدم تعيّن المخالف، فكان نسبته إلى الروايتين أولى.
قوله: «ولو طلّق الذمّية ثلاثاً فتزوّجت بعد العدّة ذمّيّاً» إلى آخره.
الغرض من ذلك أنّ الإسلام ليس شرطاً في المحلّل؛ لإطلاق قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(5)، فلو كان كافراً صحّ. ولا فرق بين كون مطلق الذمّيّة مسلماً وكافراً، ويتصوّر طلاق المسلم للذمّيّة ثلاثاً على تقدير رجوعها في طلاقها في العدّة؛ لأنّه ليس ابتداء نكاح
ص: 344
• والأمة إذا طلّقت مرّتين حرمت حتّى تنكح زوجاً غيره، سواء كانت تحت حرّ أو عبد.
-----------------------------------------------------------------------------------
فلا يمنع منه، أو على القول بجواز نكاحها ابتداء، أو على تقدير طلاقها مرتين قبل إسلامه ووقوع الثالثة في الإسلام، فإذا حلّلها الذمّي صحّ نكاحه وأفاد تحليله الحلّ لزوجها المسلم إذا أسلمت أو جوّزنا للمسلم نكاح الكتابيّة ابتداء. ولو كان الزوج كافراً وترافعوا إلينا حكمنا بحلّها له، سواء كان ذمّيّاً أم لا. وكذا لو أسلم الزوج وقد حلّلها كافر مثلها؛ لأنّ أنكحة الكفّار مستقرّة(1) على حالها كما تقدّم في بابه(2).
قوله: «والأمة إذا طلقت مرتين حرمت حتّى تنكح زوجاً غيره» إلى آخره.
الاعتبار في عدد الطلقات المحرمة بدون المحلّل عندنا بالمرأة، فالحرة تحرم بثلاث وإن كان زوجها عبداً، والأمة باثنتين وإن كان حراً. وعند بعض العامّة أنّ الاعتبار بالرجل، فالحرّ لا تحرم عليه الزوجة بدون ثلاث وإن كانت أمة، والعبد تحرم عليه باثنتين وإن كانت حرّة(3).
لنا: قوله تعالى: (الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَنٍ)(4)، وهو للحرّة؛ لقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا اتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)(5) الآية، وليس الإيتاء للأمة بل لمولاها، والآية الثانية مبنيّة لمن تقع عليها الطلقات الثلاث وعارضوا ذلك بقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا) وهو خطاب للأزواج، والآخذ إنّما هو الحر لا العبد.
وأجيب بمنع كونه خطاباً للأزواج بل لمن الأداء من ماله الشامل للأزواج وغيرهم. بخلاف قوله تعالى: (اتَيْتُمُوهُنَّ) فإنّ الضمير للنساء، ولقوله : «طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان»(6).
ص: 345
• ولا تحلّ للأوّل بوطء المولى. وكذا لا تحلّ لو ملكها المطلّق لسبق التحريم على الملك.
-------------------------------------------------------------------------------------
ومن طريق الخاصّة صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)قال: «طلاق المرأة إذا كانت عند مملوك ثلاث تطليقات، وإذا كانت مملوكة تحت حرّ تطليقتان»(1). وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام)قال: «طلاق الحرّة إذا كانت تحت العبد ثلاث تطليقات، وطلاق الأمة إذا كانت تحت الحرّ تطليقتان»(2). وغير ذلك من الأخبار.
قوله: «ولا تحلّ للأوّل بوطء المولى» إلى آخره.
قد عرفت أنّ شرط المحلّل كونه مالكاً للنكاح بعقد الدوام بدليل «الزوج والطلاق» في آية التحليل(3)، فلا يكفى الوطء بملك اليمين. فإذا طلّقها الزوج طلاقاً محرّماً لم تحلّ له بوطء المولى. وكذا لا يزول التحريم بملك المطلّق لها؛ عملاً باستصحاب الحرمة إلى أن يحصل المحلّل وهو وطء المحلّل المنفى هنا.
وروى عبد الملك بن أعين قال: سألته عن الرجل زوّج جاريته رجلاً فمكثت معه ما شاء ثمّ طلّقها ورجعت إلى مولاها ،فوطئها، أتحلّ لزوجها إذا أراد أن يراجعها؟ قال: «لا حتّى تنكح زوجاً غيره»(4). وروى بريد في الصحيح(5) والحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) في الأمة يطلّقها تطليقتين ثمّ يشتريها، هل يحلّ له أن يطأها؟ قال: «لا، حتّى تنكح زوجاً غيره»(6) وغيرهما من الأخبار الكثيرة(7).
ص: 346
• ولو طلّقها مرّةً ثمّ أُعتقت ثم تزوّجها أو راجعها بقيت معه على واحدة؛ استصحاباً للحال الأولى، فلو طلّقها أخرى حرمت عليه حتّى يحلّلها زوج.
---------------------------------------------------------------------------------
ويظهر من ابن الجنيد حلّها بالشراء(1)، وفي بعض الأخبار(2) ما يدلّ عليه. والمذهب هو الأول.
قوله: «ولو طلّقها مرّةً ثمّ أعتقت ثمّ تزوّجها» إلى آخره.
هذا الحكم ذكره الشيخ في النهاية(3)، وتبعه عليه جماعة(4)، منهم المصنّف والعلّامة(5).
و مستنده صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) له قال: المملوك إذا كان تحته مملوكة فطلّقها ثمّ أعتقها صاحبها كانت عنده على واحدة(6). وصحيحة الحلبي عن الصادق (علیه السلام) في العبد تكون تحته الأمة فطلّقها تطليقةً ثمّ أعتقا جميعاً، كانت عنده على تطليقة واحدة(7). وغير ذلك من الروايات(8)، ولأنّه بعد الطلاق الأوّل قد تعلّق به حكم التحريم بعد طلقة أخرى، فلا يسقط هذا الاعتبار بالإعتاق المتجدّد.
وقد تقدّم البحث على نظير هذه المسألة في نكاح المشركات إذا أسلم العبد وعنده أربع وأُعتق(9)، وفي باب القسم بين الزوجات إذا أُعتقت الأمة في أثناء القسمة(10). ومضمونهما أنّه متى كان العتق قبل استيفاء حقّ العبوديّة يلتحق بالأحرار في الحكم، وهو مخالف لما هنا وذلك هو الموافق للظاهر كما تحقّق في موضعه. ومن ثمّ ذهب ابن الجنيد هنا إلى أنّ الأمة
ص: 347
• والخصي يحلّل المطلقة ثلاثاً إذا وطئ وحصلت فيه الشرائط. وفي رواية لا يحلّل.
• ولو وطئ الفحل قبلاً فأكسل حلّت للأول؛ لتحقّق اللذّة منهما.
--------------------------------------------------------------------------------------
إذا أعتقت قبل وقوع الطلاق الثاني بها انتقل حكم طلاقها إلى حال الحرائر، ولم تحرم إلا بالثالثة(1). وهذا هو الموافق لما سلف إلّا أنّه لا سبيل هنا إلى ردّ الروايات الصحيحة.
وأمّا تعليلهم بأنّه بعد الطلاق الأوّل قد تعلّق به حكم التحريم بعد طلقة أخرى فليس بجيّد؛ لأنّ حكم التحريم لا يتعلّق قبل الطلاق الثاني على التقديرين، وإنّما يتعلّق بعده على تقدير مصادفتها أمة إجراء لحكم الإماء عليها، فإذا أعتقت قبل الطلاق الثاني لم يصادف التحريم محلّاً وهو كونها أمةً، فيتوقّف على إكمال الثلاث وكيف كان فالعمل بالمشهور متعيّن؛ للروايات الصحيحة.
قوله: «والخصيّ يحلّل المطلقة ثلاثاً» إلى آخره.
لما كان تزويج الخصيّ صحيحاً ووطؤه ممكناً - لبقاء آلة الجماع - أمكن جعله محلّلاً. لصدق كونه زوجاً ناكحاً إلى غير ذلك من شرائطه. وفوات فائدة التولّد من جماعه لا يقدح هنا؛ لأنّ المعتبر مجرّد الوطء الموجب للغسل كما تقرّر، وهو حاصل والرواية المذكورة بكونه لا يحلّل رواها الشيخ عن محمّد بن مضارب قال: سألت الرضا (علیه السلام) عن الخصي يحلّل؟ قال: «لا يحلّل»(2). وهي مطرحة لضعف الطريق والموجوء في معنى الخصي. أمّا المجبوب فإن بقي منه مقدار الحشفة صحّ تحليله وإلا فلا. وقد تقدّم(3).
قوله «و ولو وطئ قبلاً فأكسل حلّت للأول؛ لتحقّق اللذّة منهما».
الإكسال في الجماع عدم إنزال الماء معه، قال الجوهري: أكسل الرجل في الجماع إذا
ص: 348
• ولو تزوّجها المحلّل فارتد فوطئها في الردّة لم تحلّ؛ لانفساخ عقده بالردّة.
--------------------------------------------------------------------------------------
خالط أهله ولم ينزل(1). والحاصل أنّ إنزال الماء ليس بشرط في تحقّق التحليل؛ لصدق الجماع الموجب للغسل بدونه وقول المصنّف «التحقّق اللذّة منهما» إشارة إلى أنّ المعتبر الجماع الموجب للذّة كما ورد في الخبر النبوي: «حتّى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته»(2) وهي لذّة الجماع، والأصل عدم اعتبار أمر آخر. ولا فرق في عدم اشتراط الإنزال بين الفحل وغيره، وإنّما خصّه؛ لأنّه قابل لذلك دون الخصيّ.
قوله: «ولو تزوّجها المحلّل فارتد فوطئها في الردّة لم تحلّ: لانفساخ عقده بالردة».
المراد أنّه ارتد قبل الدخول المفيد للتحليل وهو الوطء في القبل ووطئ في زمن الردّة(3)؛ إذ لو كان الارتداد بعده لتحقّق التحليل بوطئه قبل الردّة. ووجه عدم الحلّ بوطئه حينئذٍ انفساخ العقد وإن بقي أثره بعوده إليها لو رجع في العدّة بالعقد السابق. وبهذا يفرق بينه وبين سائر أسباب التحريم، فإنّها لا توجب اختلال النكاح ويتصوّر ثبوت العدّة مع عدم الدخول قبلاً بأن يكون قد وطئها في الدبر ، فإنّه لا يكفي في التحليل ويوجب العدّة. وكذا لو خلا بها عند جماعة من الأصحاب(4)، فإنّهم يوجبون بها العدّة، ولا يكفي في التحليل. وألحق ابن الجنيد بالخلوة التذاذه بما ينزل به الماء(5). أمّا لو لم يحصل منه ما يوجب العدّة قبل الارتداد بانت منه به وصار كالأجنبي لا أثر لوطئه، وأغنى عن بيان حكمه ما سبق من اشتراط استناد الوطء إلى العقد(6). وكذا الحكم لو كان المرتد الزوجة فوطئها في زمان ردّتها ثم رجعت إلى الإسلام.
ص: 349
فروع:
الأوّل: • لو انقضت مدّة فادّعت أنّها تزوّجت وفارقها وقضت العدّة وكان ذلك ممكناً في تلك المدّة، قيل: يقبل؛ لأنّ في جملة ذلك ما لا يعلم إلا منها، كالوطء. وفي رواية: إذا كانت ثقةً صُدّقت.
--------------------------------------------------------------------------------------
و ما نزلنا به العبارة أجود ممّا فهمه العلّامة في التحرير بقوله:
إنّ هذا غير متصوّر؛ لأنّ الردّة إن كانت قبل الوطء انفسخ النكاح وصار وطء أجنبي لا يحلّل قطعاً، وإن كانت بعده حلّت بالأوّل(1).
وأنت قد عرفت أنّ هناك قسماً ثالثاً فرضت فيه المسألة.
وأمّا ما تكلّفه بعضهم من أنّ المراد الوطء بعد الارتداد في غير عدّة، وأنّ الغرض الفرق بين الوطء الذي سبقه عقد ثمّ طرأ عليه الفسخ قبل الوطء، وبين الوطء الذي لم يسبقه عقد، وهو المستفاد ممّا سبق من اشتراط استناد الوطء إلى العقد، فإنّ الأوّل يصدق عليه أنّه وطئ زوجته عند من لم يشترط بقاء المعنى المشتق منه في صحّة الاشتقاق كما هو مذهب الأصحاب، فإنّ المصنّف وغيره(2) بهذا يفرّق(3) بين هذا الوطء والوطء الذي لم يصادف زوجته لا حقيقةً ولا مجازاً.
فهذا التكلّف ليس بشيء؛ لأنّ الشرط السابق محصله اشتراط استناد الوطء إلى العقد، فمتى لم يكن مستنداً إليه لم يؤثّر في الحلّ، سواء تجرّد عن العقد أصلاً أم كان بعده وبعد البينونة، وسواء كانت بردّة أم طلاق أم غيرهما من أسبابها. ولا وجه حينئذ لفرض المسألة في الارتداد بخصوصه وعدم اشتراط بقاء المعنى في صحّة الاشتقاق لا يفيد هنا إجماعاً. كما يظهر ذلك فيمن عقد عليها دائماً ثمّ طلّقها قبل الدخول ووطئها بعد ذلك على وجه محلّل بأن كان لشبهة أم غير محلّل. قوله: «لو انقضت مدّة فادّعت أنّها تزوّجت وفارقها وقضت العدّة» إلى آخره.
ص: 350
...
---------------------------------------------------------------------------------
القول بقبول قولها مع إمكان صدقها مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب وعليه العمل؛ لأنّها مؤتمنة في انقضاء العدّة والوطء ممّا لا يمكن إقامة البينة عليه، وربما مات الزوج أو تعذّر مصادقته بغيبة ونحوها، فلو لم يقبل منها ذلك لزم الإضرار بها والحرج المنفيّان(1).
والرواية التي أشار إليها هي صحيحة(2) حماد عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فبانت منه فأراد مراجعتها فقال: إنّي أُريد مراجعتك فتزوّجي زوجاً غيري فقال: قد تزوّجت زوجاً غيرك وحلّلت لك نفسي، أ يصدّق قولها ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال: «إذا كانت المرأة ثقةً صُدّقت في قولها»(3). والمراد بالثقة من تسكن النفس إلى خبرها وإن لم تكن متصفةٌ بالعدالة المعتبرة في قبول الشهادة. ويمكن حمل الرواية على استحباب مراعاة الثقة في قبول خبرها.
وكما يقبل قولها في حقّ المطلّق يقبل في حقّ غيره. وكذا الحكم في كلّ امرأة كانت مزوّجةً وأخبرت بموته أو فراقه وانقضاء العدّة في وقت محتمل. ولا فرق بين أن تعيّن الزوج وعدمه، ولا بين إمكان استعلامه وعدمه، وإن كان طريق الورع غير خفيّ بسؤال المعلوم والتوقّف مع ظنّ كذبها.
ولو كذبها المطلق لم يكن له نكاحها. ولو قال بعد ذلك تبيّنت صدقها، لم يمنع من نكاحها؛ لأنّه ربما انكشف له خلاف ما ظنّه. ولو عيّنت الزوج فكذّبها في أصل النكاح احتمل تصديقها في التحليل وإن لم يثبت
ص: 351
الثاني: • إذا دخل المحلّل فادّعت الإصابة، فإن صدّقها حلّت للأول، وإن كذّبها قيل: يعمل الأوّل بما يغلب على ظنّه من صدقها أو صدق المحلّل. ولو قيل: يعمل بقولها على كل حال كان حسناً؛ لتعذّر إقامة البيّنة لما تدّعيه.
الثالث: • لو وطنها محرّماً كالوطء في الإحرام أو في الصوم الواجب، قيل: لا تحلّ؛ لأنّه منهيّ عنه، فلم يكن مراداً للشارع. وقيل: تحلّ؛ لتحقّق النكاح المستند إلى العقد الصحيح.
------------------------------------------------------------------------------------
عليه موجب الزوجيّة؛ لوجود المقتضي لقبول قولها مع عدم تكذيبه، وهو إمكان صدقها مع تعذّر إقامة البيئة على جميع ما تدّعيه ومجرّد إنكاره لا يمنع صدقها في نفس الأمر. وعدمه؛ نظراً إلى تقديم قوله لأنّه منكر، واستصحاباً للأصل، ولإمكان إقامة البيئة على أصل التزويج.
وفيه: أنّه لا منافاة بين الأمرين؛ لأنّا لا نقبل قولها إلا في حقّها خاصة، والأصل لو عارض لقدح في أصل دعواها مطلقاً.
قوله: «إذا دخل المحلّل فادّعت الإصابة، فإن صدّقها حلّت» إلى آخره.
القول الأول للشيخ في المبسوط(1). ووجهه تعذّر إقامة البيّنة، والظنّ مناط الأحكام الشرعيّة غالباً فيرجع إليه. والأقوى ما اختاره المصنّف؛ لما ذكره من تعذّر إقامة البيّنة، مع أنّها تُصدّق في شرطه - وهو انقضاء العدّة - فكذا في سببه، ولأنّه لولاه لزم الحرج والضرر كما أشرنا إليه سابقاً(2). وإنّما يقبل قولها فيما يتعلّق بها من حلّ النكاح ونحوه لا في حقه. فلا يلزمه إلا نصف المهر، حتّى لو أنكر أصل العقد لم يلزمه المهر وإن قبل قولها في التزويج.
قوله: «لو وطئها محرّماً كالوطء في الإحرام» إلى آخره.
إذا وطئها المحلّل وطاً محرّماً - كوطئها في إحرام أحدهما، أو صوم أحدهما الواجب
ص: 352
...
----------------------------------------------------------------------------------
کرمضان، أو حيضها، أو على ظنّ أنّها أجنبيّة، أو بعد ما حرمت عليه بالظهار، أو في العدّة عن وطء شبهة وقع في نكاحه إيَّاها، أو وطئها لدون تسع سنين - ففى إفادته الحلّ قولان:
أحدهما: العدم، ذهب إليه الشيخ(1) وابن الجنيد(2)؛ لأن الوطء المذكور منهي عنه فلا يكون مراداً للشارع، حيث علّق عليه الحلّ بقوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(3) وقوله (علیه السلام): «حتّى يذوق عسيلتك»(4) فإنّ المراد به الوطء المحلّل؛ لأنّ الله ورسوله لا يبيحان المحرّم، ولأنّ النهي يدلّ على فساد المنهي عنه، فلا يترتّب عليه أثره، ولأنّ الإباحة تعلّقت بشرطين: النكاح والوطء. وإذا كان النكاح محرّماً لم يفد الحلّ للأوّل، فكذا الوطء.
ويضعّف بأنّ الوطء بالنسبة إلى حلّها للأوّل من قبيل الأسباب، والحال لا يفترق فيها بين إباحتها وعدمه. والآية والرواية لا تقتضيان إباحة الوطء بل تعليق الحلّ عليه، وأحدهما غير الآخر. ونمنع دلالة النهي على فساد غير العبادة وإلحاق إباحة الوطء بإباحة النكاح قياس، ولأنّ النكاح إذا أطلق لا يُحمل إلا على الصحيح، وذلك يقتضي كونه جائزاً، بخلاف الوطء.
والثاني: الإباحة به(5)؛ لتناول قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) له حيث جعل نهاية التحريم نكاح الغير وقد حصل، وهو أعمّ من المباح وغيره كما مرّ. وهذا هو الأقوى. وفي إلحاق الوطء المحرّم بعارض في ضيق وقت الصلاة ونحوها بالأوّل وجهان من اشتراكهما في المقتضي، ووجود الفارق حيث إنّ تحريم الوطء هنا ليس لكونه وطاً، بل لتضمّنه ترك الواجب، بخلاف المتنازع والأقوى الفرق لو قيل به في الأوّل.
ص: 353
المقصد الثالث • في الرجعة
• تصحّ المراجعة نطقاً كقوله: «راجعتك». وفعلاً كالوطء. ولو قبل أو لامس بشهوة كان ذلك رجعةً، ولم يفتقر استباحته إلى تقدّم الرجعة؛ لأنّها زوجة.
------------------------------------------------------------------------------
قوله: «في الرجعة».
هي لغةً: المرّة من الرجوع(1). وشرعاً ردّ المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدّة كما يؤخذ ممّا سيأتي(2). ولو أردت بيان المرأة الرجعيّة قلت: هي المطلّقة بعد الدخول بلا عوض ولا استيفاء عدد والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ )(3) أي في العدّة (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً )(4)، أي رجعة، وقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسان)(5) وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(6) أي قاربن بلوغ الأجل وهو انقضاء العدّة. وأمّا الأخبار فيها فكثيرة(7).
قوله: «تصحّ المراجعة نطقاً كقوله: راجعتك. وفعلاً كالوطء» إلى آخره.
الرجعة تصحّ بالقول إجماعاً، أو بالفعل عندنا وعند بعض العامّة(8).
والأوّل: إمّا صريح في معناها كقوله «راجعتك» و «رجعتك» و «ارت-جعتك» مطلقاً. وأصرح منه إضافة قوله «إلى نكاحي»، ونحوه. ودونه كقوله «رددتك» و «أمسكتك»، فقيل بالاكتفاء بهما أيضاً(9)؛ لورودهما في القرآن كناية عنها في قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
ص: 354
...
-----------------------------------------------------------------------------
بِرَبِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)(1) وقوله: ﴿فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ)(2). وقيل: إنّهما كناية فيفتقران إلى نيّتها(3) لاحتمالهما غيرها كالإمساك باليد أو في البيت ونحوه. وهو أولى. ودون ذلك كله «تزوّجتك» و «أعدتك إلى النكاح» و «رفعت تحريم نكاحك» و«أعدت حلّه»، ونحو ذلك. وفي الاكتفاء به قولان(4) من أنّ المعتبر في الرجعة ما يدلّ على إرادة النكاح وكلّ ذلك دالّ عليها، ولأنّها تصحّ بالفعل فلا تعتبر صيغة معيّنة. وهذا قوي(5). ووجه العدم أنّ الأسباب الشرعيّة تتوقّف على وضع الشارع. وفيه: تضييق لم يثبت، والمعلوم توقّف أصلها لا اللفظ الدالّ عليها.
والثاني: كإشارة الأخرس وسيأتي، وكالوطء ومقدّماته من النظر والتقبيل واللمس بقصد الرجوع أو مع عدم قصد غيره، لدلالته على الرجعة كالقول، وربما كان أقوى منه. ولا تتوقّف إباحته على تقديم رجعة؛ لأنّها زوجة فيباح الفعل بذلك وتحصل به الرجعة.
ويشترط وقوعه بالقصد، فلو وقع سهواً أو بظنّ كونها الزوجة لم يفد الرجعة قطعاً. ولو أوقعه بقصد عدم الرجعة أو لا بقصدها - إن اعتبرناه - فَعَلَ حراماً؛ لانفساخ النكاح بالطلاق وإن كان رجعيّاً؛ لأنّ فائدة الرجعي جواز الرجوع فيها لا بقاؤه بحاله، وإلا لم تبن بانقضاء العدة، لكن لا حدّ عليه وإن كان عالماً بالتحريم؛ لعدم خروجها عن حكم الزوجة رأساً، ولقيام الشبهة، بل التعزير على فعل المحرّم إلا مع الجهل بالتحريم.
ثمّ إن لم يراجعها فعليه مهر المثل؛ لظهور أنّها بانت بالطلاق؛ إذ ليس هناك سبب غيره. وإن راجعها بعد ذلك ففي سقوطه وجهان، من وقوع الوطء في حال ظهور خلل النكاح
ص: 355
• ولو أنكر الطلاق كان ذلك رجعة؛ لأنّه يتضمّن التمسك بالزوجيّة.
-----------------------------------------------------------------------------
وحصول الحيلولة بينهما، ومن ارتفاع الخلل أخيراً وعودها إلى صلب النكاح الأوّل، ومن ثمّ لو طلّقها ثانياً(1) كان طلاق مدخول بها؛ نظراً إلى الدخول الأوّل، ولأنّ الرجعة - كما علم من تعريفها - ردّ نكاح زال بطلاق يملك الزوج رفعه في العدّۀ.
ومثله ما لو ارتدّت المرأة بعد الدخول فوطئها الزوج في مدّة العدّة وعادت إلى الإسلام أو أسلم أحد المجوسيين أو الوثنيين ووطئها ثمّ أسلم المتخلف قبل انقضاء العدّة. وأولى هنا بعدم ثبوت المهر؛ لأنّ أثر الطلاق لا يرتفع بالرجعة بل يبقى نقصان العدد، فيكون ما بعد الرجعة وما قبل الطلاق بمثابة عقدين مختلفين، وأثر الردّة وتبديل الدين يرتفع بالاجتماع في الإسلام، فيكون الوطء مصادفاً للعقد الأوّل. ولو قيل بوجوب المهر هنا وبعدمه في تبديل الدين كان حسناً.
قوله: «ولو أنكر الطلاق كان ذلك رجعة؛ لأنّه يتضمّن التمسّك بالزوجيّة».
المشهور بين الأصحاب أنّ إنكار الطلاق من الأقوال المفيدة للرجعة لدلالته على التمسّك بالزوجيّة، ولأنّه أبلغ من الرجعة بألفاظها المشتقّة منها وما في معناها، لدلالتها على رفعه في غير الماضي ودلالة الإنكار على رفعه مطلقاً. وهذا آتٍ في إنكار كلّ ما يجوز فيه الرجوع والفسخ من العقود. وقد تقدّم الخلاف في كونه رجوعاً في الوصيّة(2) من حيث إنّه أعمّ من قصد الرجوع، ومن الجائز أن يكون الباعث على الإنكار عدم التفطّن إلى وقوع ما أنكره ولو ذكره لم يرجع وظاهرهم الاتّفاق على كونه هنا رجوعاً، ولعلّ الوجه في اختصاصه بذلك ورود النص الصحيح به هنا دون غيره، فيبقى ما عداه على ما يقتضيه النظر، ففي رواية أبي ولاد الصحيحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن امرأة ادّعت على زوجها أنّه طلّقها تطليقةً وأشهد لها شهوداً على ذلك، ثمّ أنكر الزوج بعد ذلك، فقال: «إن كان أنكر
ص: 356
• ولا يجب الإشهاد في الرجعة، بل يستحبّ.
----------------------------------------------------------------------------------
الطلاق قبل انقضاء العدّة فإنّ إنكاره الطلاق رجعة وإن كان أنكر الطلاق بعد انقضاء العدّة فإنّ على الامام أن يفرّق بينهما»(1) الحديث.
وبهذا يندفع ما قيل إنّ الرجعة مترتّبة على الطلاق وتابعة له، وإنكار المتبوع يقتضي إنكار التابع، فلا يكون رجعة وإلا لكان الشيء سبباً في النقيضين؛ لأنّ الشارع إذا جعل إنكار الطلاق رجعةً فقد قطع التبعيّة المذكورة، أو يجعل الإنكار كناية عن الرجعة ولا يراد منه حقيقته، فإنّ المقصود حينئذٍ من إنكار الطلاق إعادة النكاح المتحقق في الرجعة بكلّ لفظ دلّ عليه وهذا منه.
قوله: «ولا يجب الإشهاد في الرجعة، بل يستحبّ».
الإشهاد على الرجعة غير واجب عندنا؛ للأصل، ولكن يستحبّ؛ لحفظ الحقّ ودفع النزاع، ولأنّه لا يقبل قوله فيها على بعض الوجوه كما سيأتي(2) - وربما كان محقّاً، ولقول الباقر (علیه السلام) في حسنة محمّد بن مسلم «الطلاق لا يكون بغير شهود، والرجعة بغير شهود له رجعة، ولكن يشهد فهو أفضل»(3)، وقول الصادق (علیه السلام) في حسنة الحلبي في الذي يراجع ولم يشهد: قال : «يشهد أحبّ إليّ، ولا أرى بالذي صنع بأساً»(4).
وأوجبه بعض العامّة فيها(5) للأمر به في قوله تعالى: (وَ أَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ)(6) بعد قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْفَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)(7) وليس الأمر متعلّقاً بقوله (فَارِقُوهُنَّ)
ص: 357
• ولو قال: «راجعتكِ إذا شئتِ» أو «إن شئتِ» لم يقع ولو قالت: «شئت». وفيه تردّد.
• ولو طلّقها رجعيّةً فارتدّت فراجع لم يصحّ، كما لا يصحّ ابتداء الزوجيّة. وفيه تردّد ينشأ من كون الرجعيّة زوجة . ولو أسلمت بعد ذلك استأنف الرجعة إن شاء.
---------------------------------------------------------------------------------
إجماعاً؛ لأنّ المراد به ترك الرجعة وهو غير متوقّف على الإشهاد، فيكون للرجعة؛ لأنّها أقرب إليه من الطلاق وقد تقدّم جملة من الروايات عن أئمتنا أنّ الأمر متعلّق بالطلاق(1) وإن بعد. ومنهم من حكم بالاستحباب أيضاً، وحمل الأمر عليه(2) كما في قوله تعالى: (وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ )(3).
قوله: «ولو قال: راجعتك إذا شئتِ، أو إن شئت لم يقع ولو قالت: شئت، وفيه تردّد».
القول بعدم جواز تعليق الرجعة على الشرط هو المشهور بين الأصحاب، ذكره الشيخ في المبسوط(4) ، وأتباعه(5) والمتأخّرون. والمصنّف تردّد فيه من عدم الجزم بها حيث علّقها على الشرط، وأنّها إعادة للنكاح فلا يقبل التعليق كابتدائه، ولأنّها إيقاع فلا يقبله كالطلاق. ومن عموم قوله (علیه السلام): «المؤمنون عند شروطهم»(6) وأصالة الصحة، ويمنع من عدم الجزم مطلقاً، أو من اشتراطه على خلاف هذا الوجه
والأشهر عدم الوقوع حتّى عند من يجوز تعليق الطلاق(7)؛ إلحاقاً لها بالنكاح.
قوله: «ولو طلّقها رجعيّةً فارتدّت فراجع لم يصحّ» إلى آخره.
مبنى الحكم على أنّ الطلاق هل رفع حكم الزوجيّة رفعاً متزلزلاً يستقرّ بانقضاء العدّة،
ص: 358
• ولو كان عنده ذمّيّة فطلقها رجعيّاً ثمّ راجعها في العدّة، قيل: لا يجوز؛ لأنّ الرجعة كالعقد المستأنف والوجه الجواز؛ لأنّها لم تخرج عن زوجيّته، فهي كالمستدامة.
--------------------------------------------------------------------------
أو أنّ خروج العدّة تمام السبب في زوال الزوجية؟
ويؤيّد الأوّل تحريم وطئها لغير الرجعة، ووجوب المهر بوطئها على قول، وتحريمها. اذا أكمل العدد.
ويؤيّد الثاني عدم وجوب الحدّ بوطئها ووقوع الظهار واللعان والإيلاء بها، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس، فهي بمنزلة الزوجة. وإلى هذا أشار المصنّف بكونها زوجةٌ. ولما كان ابتداء نكاح المرتدّة ممتنعاً بني على أنّ الرجعة هل هي نكاح مبتدأ، أو استدامة وإزالة لما كان طرأ عليه من السبب الذي لم يتمّ؟
واحتجّ على عدم الجواز أيضاً بأنّ الرجوع تمسّك بعصم الكوافر، وهو منهي عنه نهي فساد؛ لقوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)(1). وأنّ الرجعة إثبات لما صار بالقوة بالفعل، فإنّ الطلاق أزال قيد النكاح بالفعل، والرجعة سبب فاعل لحصوله بالفعل، فكان كالمبتدا، وشرط تحقّق الأثر من الفاعل قبول المحلّ وبالارتداد زال القبول وبأنّ المقصود من الرجعة الاستباحة، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة، فإنّه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة معها ما دامت مرتدّة. وبأنّها جارية إلى البينونة وانقطاع ملك النكاح والرجعة لا تلائم حالها.
ويتفرّع على ذلك أيضاً ما لو طلّق المرتدّة في زمن العدّة، فإن جعلنا النكاح مرتفعاً زمن العدّة لم يقع كما لا يقع بالأجنبيّة، وإلا وقع. ويمكن الفرق بين الرجعة والطلاق بأنّ الطلاق محرم للنكاح كالردّة فلا ينافي العدة، فيقع مراعى برجوعها إلى الإسلام.
قوله: «ولو كان عنده ذمّيّة فطلّقها رجعيّاً، ثمّ راجعها في العدّة» إلى آخره.
البحث في هذه كالسابقة، ويزيد هنا أنّ الذمّيّة لا تحرم استدامة نكاحها فإذا لم نجعل الطلاق مزيلاً للنكاح الأوّل رأساً جازت الرجعة بخلاف المرتدّة؛ لتحريم نكاحها حينئذ.
ص: 359
• ولو طلّق وراجع، فأنكرت الدخول بها أوّلاً وزعمت أنّه لا عدّة عليها ولا رجعة، وادّعى هو الدخول، كان القول قولها مع يمينها؛ لأنّها تدّعي الظاهر.
-------------------------------------------------------------------------------------
والأقوى جواز الرجعة هنا؛ لأنّ العائد بالرجعة هو النكاح الأوّل، فكان في حكم المستدام، وأثره لم يزل بالكلّيّة، بل يتوقّف على انقضاء العدّة، ومن ثمّ جاز وطؤها بنيّة الرجعة بغير لفظ يدلّ عليه، ولا شيء ممن ليست بزوجة يجوز وطؤها كذلك. ولأنّ النكاح لو زال لكان العائد بالرجعة إمّا الأوّل أو غيره، والأوّل يستلزم إعادة المعدوم، والثاني منتف إجماعاً وإلا لتوقّف على رضاها. فالنكاح الأوّل باقٍ غايته أنّه متزلزل، واستدامته غير متنعة بالذميّة. هذا إذا منعنا ابتداء نكاحها وإلا سقط التفريع.
قوله: «ولو طلّق وراجع فأنكرت الدخول بها أولاً» إلى آخره.
الأولى التعليل بأنّها تدّعى ما يوافق الأصل؛ لأنّ الأصل عدم الدخول، وأمّا الظاهر فقد يتخلّف مع الخلوة حيث لا نجعلها موجبةً للدخول. وعلى كلّ حال لا شبهة في تقديم قولها مع يمينها، فإذا حلفت بطلت رجعته في حقها، ولا نفقة لها ولا سكني، ولا عدّة عليها، ولها أن تنكح في الحال، وليس له أن ينكح أختها ولا أربعاً سواها خاصةً لاعترافه بأنّها زوجة. ولو كانت دعواه أنّي طلّقتها بعد الدخول فلي الرجعة، فالحكم كذلك، إلّا أن نكاح أختها هنا والأربع سواها متوقّف على مضي زمان تنقضي به عدّتها.
وعلى التقديرين فهو مقرّ لها بكمال المهر، وهي لا تدّعي إلا النصف، فإن كانت قد قبضت المهر فليس له مطالبتها بشيء، وإن لم تكن قبضته فليس لها إلّا أخذ النصف. فإذا أخذته ثمّ عادت واعترفت بالدخول فهل لها أخذ النصف الآخر، أم لا بدّ من إقرار مستأنف من جهة الزوج؟ وجهان. وينبغي أن يأخذ الحاكم النصف الذي لا تدّعيه الزوجة(1) من يده أو يدها؛ لأنّه مال لا يدّعيه أحد وحفظ مثله وظيفة الحاكم.
ولو انعكس الحكم فادّعت المرأة الدخول وأنكر الزوج فالقول قوله؛ عملاً بالأصل. فإذا حلف فلا رجعة له ولا سكنى ولا نفقة لها، وعليها العدّة، ويرجع عليها بنصف الصداق إن
ص: 360
• ورجعة الأخرس بالإشارة الدالّة على المراجعة. وقيل: بأخذ القناع عن رأسها. وهو شاذ.
• وإذا ادّعت انقضاء العدّة بالحيض في زمان محتمل فأنكر فالقول قولها مع يمينها.
ولو ادّعت انقضاءها بالأشهر لم يقبل، وكان القول قول الزوج؛ لأنّه اختلاف في زمان إيقاع الطلاق.
وكذا لو ادّعى الزوج الانقضاء فالقول قولها؛ لأنّ الأصل بقاء الزوجيّة أوّلاً.
ولو كانت حاملاً فادّعت الوضع قبل قولها، ولم تكلّف إحضار الولد.
----------------------------------------------------------------------------
كانت قبضته، وإلا رجعت هي بالنصف. ولو عادت وكذّبت نفسها لم تسقط العدّة. ولا فرق بين أن يكون الاختلاف في الدخول قبل جريان الخلوة وبعدها على الأقوى، وإن كانت الخلوة ترجّح جانب من يدّعي الدخول فيتعارض الأصل والظاهر؛ لأنّ الأصل أقوى.
قوله: «ورجعة الأخرس بالإشارة الدالّة على المراجعة» إلى آخره.
رجعة الأخرس كغيرها من عقوده وإيقاعاته - تكون بالإشارة المفهمة لها، وهذا هو المشهور بين الأصحاب. والقول بأنّها تكون بأخذ القناع لابني بابويه(1)؛ أخذاً من طلاقه بوضع القناع على رأسها المرويّ ثمّ بطريق السكوني(2)، فيكون ضدّ العلّامة علامة الضدّ. والأصل ممنوع والقياس باطل. نعم، لو أفاد ذلك الرجعة كان من جملة إشاراته الدالّة عليها، لا أنّه سبب برأسه.
قوله: «وإذا ادّعت انقضاء العدّة بالحيض في زمان محتمل» إلى آخره.
سيأتي أنّ العدة تكون بالحيض وبوضع الحمل وبالأشهر(3)، فإذا اختلفا بعد الطلاق
ص: 361
...
--------------------------------------------------------------------------------
فادّعت المرأة انقضاء العدّة لتمنعه من الرجعة وادّعى هو بقاءها، فإن كانت من ذوات الحيض وادّعت انقضاءها في زمان يحتمل انقضاؤها فيه شرعاً وإن بعد عادةً فالقول قولها مع يمينها؛ لأنّ النساء مؤتمنات في أرحامهنّ وقد قال تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ)(1)، ولولا أنّ قولهنّ مقبول لم يأثمن بالكتمان؛ لأنّه لا اعتبار بكتمانهنّ حينئذ، نظير قوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَدَة)(2). وروى زرارة في الحسن عن الباقر (علیه السلام) قال: «العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت»(3).
وسيأتي أنّ أقلّ المدّة المحتملة لانقضاء عدّة الحرّة بالحيض ستّة وعشرون يوماً ولحظتان(4). ولا فرق في ذلك بين مستقيمة الحيض والطهر زيادة على ذلك وغيرها؛ لعموم النصّ(5)، وإمكان تغير العادة.
وينبغي استفصالها مع التهمة وسؤالها كيف الطهر والحيض؟ وفي بعض الأخبار أنّه لا يقبل منها غير المعتاد إلا بشهادة أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها(6). وقربه الشهيد في اللمعة(7). ولا بأس به مع التهمة وإن ضعف مأخذه(8).
ص: 362
...
-------------------------------------------------------------------------------
وحيث لا يقبل منها إمّا لدعواها انقضاءها قبل وقت الإمكان، أو لكونه خلاف المعلوم من عادتها، فجاء وقت الإمكان نظر إن كذّبت نفسها أو قالت غلطتُ، وابتدأت دعوى الانقضاء صدّقت بيمينها. وإن أصرّت على الدعوى الأُولى ففي تصديقها الآن وجهان، من فساد الدعوى الأولى فلا يترتّب عليها أثر ولم تدع غيرها، ومن أنّ إصرارها عليها يتضمّن دعوى الانقضاء الآن والزمان زمان الإمكان.
وإن كانت من ذوات الحمل فادّعت وضعه صُدّقت أيضاً بيمينها مع إمكانه؛ لما تقدّم(1). ويختلف الإمكان بحسب دعواها، فإن ادّعت ولادة ولد تامّ فأقلّ مدّة تُصدّق فيها ستّة أشهر ولحظتان من يوم النكاح لحظة لإمكان الوطء ولحظة للولادة، فإن ادّعت أقلّ من ذلك لم تصدّق. وإن ادّعت سقطاً مصوّراً أو مضغة أو علقةً اعتبر إمكانه عادةً.
وربما قيل: إنّه مائة وعشرون يوماً ولحظتان في الأوّل، وثمانون يوماً ولحظتان في الثاني، وأربعون يوماً ولحظتان في الثالث؛ لقوله (علیه السلام): «يجمع أحدكم في بطن أمه أربعون يوماً نطفةً، وأربعون يوماً علقةً، وأربعون يوماً مضغة، ثمّ تنفخ فيه الروح»(2).
وحيث قدّم قولها في ذلك لم تكلّف إحضار الولد؛ لعموم الأدلّة(3)، ولجواز موته وتعذّر إحضاره.
وإن ادّعت الانقضاء بالأشهر فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنّ هذا الاختلاف راجع في
ص: 363
• ولو ادّعت الحمل فأنكر الزوج وأحضرت ولداً فأنكر ولادتها له فالقول قوله لإمكان إقامة البيئة بالولادة.
• وإذا ادّعت انقضاء العدّة فادّعى الرجعة قبل ذلك، فالقول قول المرأة.
----------------------------------------------------------------------------------
الحقيقة إلى وقت الطلاق، والقول قوله فيه كما يقدّم قوله في أصله. ولأنّه مع دعوى بقاء العدّة يدّعي تأخّر الطلاق والأصل فيه معه؛ لأصالة عدم تقدّمه في الوقت الذي تدّعيه. هذا إذا لم يتّفقا على وقت الإيقاع، وإلّا رجع إلى الحساب.
ولو انعكس الفرض فادّعت بقاء العدّة لتطالب بالنفقة وادّعى الانقضاء، قدّم قولها في الجميع. أمّا في الأوّلين فظاهر، وأمّا في الأخير؛ فلأنّ الأصل حينئذ معها؛ لأصالة عدم تقدّم الطلاق وبقاء الزوجيّة الثابتة أولاً إلى أن يظهر زوالها.
قوله: «ولو ادّعت الحمل فأنكر الزوج وأحضرت ولداً فأنكر ولادتها له» إلى آخره.
ما تقدّم من تقديم قولها في الوضع حكم ما لو اتّفقا على الحمل وأنّه منه، فيرجع إليها في ولادته؛ للآية(1) والخبر(2). أمّا لو ادّعت الحمل والوضع وأنكره الزوج فالقول قوله؛ لأصالة عدم الحمل. ولا فرق في تقديم قوله بين أن تُحضر ولداً وتدّعي ولادته وعدمه؛ لإمكان إقامتها البيّنة على ولادته فلا يلحق به بمجرد دعواها لجواز التقاطها له، وإنّما يلزمه الاعتراف بما يعلم ولادته على فراشه لا بما تدّعى المرأة ولادته كذلك. وحينئذ فلا يحكم بانقضاء العدّة بذلك، بل يفتقر إلى مضى مدّة الأقراء أو الأشهر، ويرجع إليها فيهما كالأول وإن كُذبت في الآخر. ويأتي في إصرارها على هذه الدعوى مع مضي زمن يمكن فيه انقضاؤها بغيرها ما سبق.
قوله: «وإذا ادّعت انقضاء العدّة، فادّعى الرجعة قبل ذلك، فالقول قول المرأة» إلى آخره.
المراد في الأوّل أنّهما اتّفقا على انقضاء العدّة ولكن ادّعى الزوج الرجعة قبل انقضائها
ص: 364
ولو راجعها فادّعت بعد الرجعة انقضاء العدّة قبل الرجعة فالقول قول الزوج؛ إذ الأصل صحّة الرجعة.
--------------------------------------------------------------------------------
و أنكرت هي . ووجه تقديم قولها حينئذ أنّ الأصل عدم تقدّم الرجعة في الوقت الذي يدّعيه.
وفى الثاني: أنّهما اتّفقا على حصول الرجعة ولكن اختلفا في وقوعها في العدّة أو بعدها، فادّعى وقوعها فيها وأنكرت المرأة. وقد حكم المصنف والعلّامة(1) تبعاً للشيخ(2) أنّ القول قول الزوج؛ لاتّفاقهما على حصول رجعة ثمّ هي تدّعي فسادها بوقوعها بعد العدّة وهو يدّعي صحّتها ومدّعي الصحّة مقدّم. ويؤيد ذلك أصالة بقاء الزوجية؛ لأنّها كانت مستمرّةً في زمن العدّة الرجعيّة حيث إنّها بحكم الزوجة، والأصل عدم زوال ذلك المعلوم.
ويشكل الفرق بين المسألتين؛ لأنّ تقديم قولها في الأوّل يوجب وقوع الرجعة فاسدة؛ لكونها بعد انقضاء العدة، ومدّعي الصحّة مقدّم، غايته أنّ معها أصالة عدم تقدّمها لكن ذلك لا يعارض دعوى الصحّة؛ لأنّها أقوى، ومن ثمّ قدّم مدعي العقد الصحيح والإيقاع الصحيح مع معارضة أصل عدم جمعه للشرائط وأصالة بقاء الملك على مالكه وغير ذلك من الأصول. ولو نظر إلى أصالة عدم تقدّم ما هو حادث اتّجه تقديم قولها في الموضعين؛ لأصالة عدم تقدّم الرجعة فيهما.
ويمكن الفرق بين المسألتين بأنّ الزوجين في الثانية متّفقان على وقوع رجعة وإنّما اختلافهما في صحّتها وفسادها، فلذلك قدّم [قول](3) مدّعي الصحّة، بخلاف الأولى، فإنّهما لم يتصادقا على الرجعة وإنّما ادّعاها الزوج في وقت ليس له إنشاؤها، فلا يقبل إقراره بها. وقوله في الأولى: «فالقول قول «المرأة» يريد به في عدم الرجعة قبل انقضاء العدّة أعمّ من وقوعها وعدمه أو في عدم الرجعة أصلاً، فيتم الفرق.
ص: 365
...
-----------------------------------------------------------------------------------
والتحقيق في هذه المسألة وراء هذا كلّه أن نقول على تقدير اتّفاقهما على الرجعة في الجملة فهذا الاختلاف لا يخلو إمّا أن يقع في عدّة يرجع إليها فيها كالعدّة بالحمل والأقراء، أو لا كالعدّة بالأشهر. ثمّ إمّا أن يتّفقا على وقت أحدهما ويختلفا في الآخر، أو يطلقا الدعوى مجرّدةً عن التوقيت ثمّ إمّا أن يكون هذا الاختلاف قبل أن تنكح زوجاً آخر أو بعده. فهنا صور يظهر بتحريرها حكم المسألة.
الأولى: أن يتّفقا على وقت انقضاء العدّة كيوم الجمعة، فقال الزوج راجعت يوم الخميس وقالت بل راجعت يوم السبت، فالقول قولها مع يمينها. ولا فرق هنا بين العدد؛ لأنّ وقت انقضاء العدّة متّفق عليه والاختلاف في أنّه هل راجع قبله؟ والأصل أنّه ما راجع سابقاً؛ لأنّ الرجعة أمر حادث والأصل عدم تقدّمها في كلّ وقت يحصل فيه الاختلاف وأيضاً فالزوج يدّعي بعد انقطاع سلطنته أنّه راجع قبله فلا يسمع قوله، كما لو ادّعى الوكيل بعد العزل أنّه تصرّف قبله، أو الولي بعد زوال ولايته أنّه زوج المولى عليه أو باع ماله ونحو ذلك.
وفى هذه الصورة وجهان آخران دون ما ذكرناه في القوة:
أحدهما: تقديم قول الزوج؛ لأنّ الرجعة تتعلّق به وهو أعلم بفعله، ولأنّه يستبقي النكاح فالأصل فيه معه.
ويضعّف الأوّل بأنّ الرجعة ممّا يمكن فيها إقامة البيّنة فلا يقبل فيها قول مدّعي الفعل. كاعتداد المرأة بالأشهر بخلاف عدّتها بما لا يمكن فيه إقامة البيّنة أو يتعسّر. والثاني بأنّ النكاح قد انقطع بانقضاء العدّة، وإنّما يدّعي هو إحداث سبب يقتضي بقاءه وهو الرجعة وهي تنكره والأصل عدمه.
وثانيهما: تقديم قول المبتدئ بالدعوى وقد صادقه الآخر فيها، فإذا قالت مثلاً: انقضت عدّتي يوم الجمعة، وصادقها الزوج وقال: رجعت يوم الخميس، فهي المصدّقة؛ لأنّ قولها فی انقضاء العدّة مقبول متفق عليه، وإذا حكم به لم يلتفت إلى ما يلحقه من دعوى الرجعة
ص: 366
...
---------------------------------------------------------------------------------
بعد ذلك. وإن قال الزوج أولاً: راجعتك يوم الخميس فهو المصدق؛ لاستقلاله بالرجعة المتّفق عليها القاطعة للعدّة، وإذا صحّحنا الرجعة منه لم يعتبر قولها إنّك راجعت يوم السبت. فإن تساوق كلامهما سقط هذا الوجه وبقي ما سبق. وهذا الوجه أضعف من السابق.
الثانية: أن يتّفقا على وقت الرجعة كيوم الجمعة وقالت: انقضت عدِتي يوم الخميس، وقال الزوج بل يوم السبت، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنّ وقت الرجعة متّفق عليه، والأصل أنّ العدّة لم تنقض قبله.
وفي هذه الصورة الوجهان الآخران:
فالأوّل: تقديم قول المرأة مع يمينها؛ لأنّها المصدّقة فى انقضاء العدّة، وقد ادّعت أنّه انقضى قبل أن يراجع. وهذا الوجه أقوى، حيث تكون العدّة ممّا يقبل قولها فيها، بأن ترتّبت على الحيض أو الوضع؛ لأنّ الرجوع إليها في ذلك يقتضي ترتّب أثره عليه وأهمه حكم الرجعة. ولو ترتّبت على الأشهر اتّجه تقديم قوله لأصالة عدم انقضائها.
والثاني: تقديم قول السابق بالدعوى كما سبق(1).
الثالثة: أن لا يتّفقا على وقت أحدهما، بل يقتصر الزوج على أنّ الرجعة سابقة. والزوجة على أنّ انقضاء العدّة سابق. وهنا ينبغي أن يكون موضوع فتوى المصنّف وتوجيه ما علّل به الحكم في المسألتين. والوجه في الأولى ما اختاره من تقديم قول الزوجة مطلقاً؛ لأنّ المفروض انقضاء العدّة قبل النزاع، والأصل عدم تقدّم الرجعة في وقت العدّة. ولا يقدح فيه كونها بعدّة غير صحيحة؛ لأنّ القدر المتّفق عليه بينهما تلفظه بالرجوع وأمّا اجتماع شرائطه المقتضية لعود الزوجيّة فأمر خارج عن النزاع والفرق بينه وبين تنازعهما في الصحّة والفساد لا يخلو من إشكال. وفي الثانية تقديم قولها مع كون العدّة ممّا يرجع إليها فيها وقوله فيما إذا كانت بالأشهر لما ذكرناه هذا كلّه إذا كان الاختلاف قبل أن تتزوّج بغيره.
ص: 367
...
---------------------------------------------------------------------------------------
الرابعة: أن يقع النزاع بعد ما نكحت غيره. فإذا نكحت ثمّ جاء الأول وادّعى الرجعة - سواء عذرهما في النكاح لجهلهما بالرجعة، أم نسبهما إلى الخيانة والتلبيس - نظر إن أقام عليها بيّنة فهي زوجة الأوّل، سواء دخل بها الثاني أم لم يدخل، ويجب لها مهر المثل على الثاني إن دخل بها.
وإن لم تكن بيّنة وأراد التحليف سمعت دعواه على كلّ منهما، فإن ادّعى عليها فأقرت له بالرجعة لم يقبل إقرارها على الثاني. وفي غرمها للأوّل مهر المثل لتفويت البضع عليه قولان تقدّم البحث فيهما في النكاح(1). وإن أنكرت فهل تحلف؟ فيه وجهان مبنيان على أنّها هل تغرم له لو أقرّت أم لا ؟ فإن لم نقل بالغرم فلا وجه للتحليف؛ لأنّ الغرض منه الحمل على الإقرار ولا فائدة فيه. فإن قلنا بالتحليف فحلفت سقطت دعوى الزوج. وإن نكلت حلف وغرمها مهر المثل، ولا يحكم ببطلان النكاح الثاني وإن جعلنا اليمين المردودة كالبيّنة؛ لأنّها إنّما تكون كذلك في حقّ المتداعيين خاصةً. وربما احتمل بطلان النكاح على هذا التقدير لذلك. وهو ضعيف.
فإذا انقطعت الخصومة معها بقيت على الزوج الثاني. ثمّ إن أنكر صُدِّق بيمينه؛ لأنّ العدّة قد انقضت، والنكاح وقع صحيحاً في الظاهر، والأصل عدم الرجعة. وإن نكل ردّت اليمين على المدعي، فإن حلف حكم بارتفاع النكاح الثاني، ولا تصير المرأة للأوّل بيمينه. ثمّ إن قلنا إن اليمين المردودة كالبيّنة فكأنّه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح، فلا شيء لها عليه إلا مهر المثل مع الدخول وإن قلنا إنّها كالإقرار فإقراره عليها غير مقبول، ولها كمال المسمّى إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله. والأقوى ثبوت المسمّى كملاً مطلقاً وإن جعلناها كالبيّنة؛ لما ذكرناه من أنّها إنّما تكون كالبيّنة فى حق المتنازعين خاصةً.
وإذا انقطعت الخصومة بينهما فله الدعوى على المرأة إن لم يكن سبق بها. ثمّ ينظر إن بقي
ص: 368
• ولو ادّعى أنّه راجع زوجته الأمة فى العدّة فصدّقته، فأنكر المولى وادّعى خروجها قبل الرجعة، فالقول قول الزوج. وقيل: لا يكلّف اليمين؛ لتعلّق حقّ النكاح بالزوجين وفيه تردّد.
-------------------------------------------------------------------------------
النكاح الثانى - بأن حلف - فالحكم كما ذكر فيما إذا بدأ بها، وإن لم يبق - بأن أقرّ الثاني للأوّل بالرجعة، أو نكل فحلف الأول - فإن أقرّت المرأة سُلّمت إليه، وإلا فهي المصدّقة باليمين، فإن نكلت وحلف المدّعي سُلّمت إليه. ولها على الثاني مهر المثل إن جرى دخول، وإلا فلا شيء عليه كما لو أقرّت بالرجعة. وكلّ موضع قلنا لا تسلّم المرأة إلى الأوّل لحقّ الثاني - وذلك عند إقرارها ، أو نكولها ويمين الأول - فإذا زال حقّ الثاني بموت وغيره سُلّمت إلى الأوّل، كما لو أقرّ بحريّة عبد في يد غيره ثم اشتراه فإنّه يحكم عليه بحريّته.
قوله: «ولو ادّعى أنّه راجع زوجته الأمة في العدّة، فصدّقته» إلى آخره.
القول بعدم تكليفه اليمين للشيخ في المبسوط(1). ووجهه ما أشار إليه المصنّف من أنّ الرجعة تفيد استباحة البضع وهو حق يتعلّق بالزوجين فقط، فمع تصادقهما على صحّتها شرعاً لم يعتبر رضى المولى، ولا يفتقر إلى اليمين على الزوج للمرأة لمصادقتها، ولا للمولى: لعدم اعتبار رضاه. والمصنّف تردّد في ذلك التفاتاً إلى أنّ حقّ المولى إنّما يسقط زمن الزوجيّة لا مع زوالها، وهو الآن يدّعي عود حقّه والزوج ينكره فيتوّجه اليمين وبهذا يظهر منع تعلّق الحق بالزوجين فقط، فإنّ ذلك إنّما هو في زمن الزوجيّة؛ إذ قبلها الحقّ منحصر في المولى وكذا بعدها، والنزاع هنا في ذلك، فالقول باليمين أجود، بل يحتمل تقديم قول المولى؛ لقيامه في ذلك مقام الزوجة وقولها مقدّم على الوجه المتقدّم، فلا أقلّ من توجه اليمين على الزوج.
ص: 369
المقصد الرابع في جواز استعمال الحيل
• يجوز التوصّل بالحيل المباحة دون المحرّمة في إسقاط ما لولا الحيلة لثبت. ولو توصّل بالمحرّمة أثم وتمّت الحيلة.
فلو أنّ امرأة حملت ولدها على الزنى بامرأة لتمنع أباه من العقد عليها، أو بأمة يريد أن يتسرّى بها، فقد فعلت حراماً، وحرمت الموطوءة على قول من ينشر الحرمة بالزني.
أمّا لو توصّل بالمحلل -كما لو سبق الولد إلى العقد عليها في صورة الفرض - لم يأثم.
--------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «يجوز التوصّل بالحيل المباحة دون المحرّمة» إلى آخره.
هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه، والغرض منه التوصل إلى تحصيل أسباب يترتب عليها أحكام شرعيّة، وتلك الأسباب قد تكون محلّلة وقد تكون محرّمة، والغرض من تعليم الفقيه الأسباب المباحة، وأمّا المحرّمة فيذكرونها بالعرض ليعلم حكمها على تقدير وقوعها. فمن ذلك الحيل على إسقاط الربا والشفعة، وهي مذكورة في بابهما (1). وكذلك الحيل على التخلّص من الرضاع المحرم، ونحو ذلك. ومما ذكره هنا من الحيل المحلّلة ما إذا خافت المرأة من تزويج زوجها بامرأة معينة فحملت ولدها على العقد عليها قبله، أو شراء أمة فاشتراها كذلك ووطئها، تمت الحيلة. ولو زنى بها وقلنا إن الزنى ينشر الحرمة سابقاً حرمت أيضاً على أبيه، وتمت الحيلة المحرمة.
ومن قبيل الحيلة المحرمة ما لو كرهت المرأة زوجها وأرادت انفساخ العقد بينهما
ص: 370
•ولو ادّعي عليه دين قد برئ منه بإسقاط أو تسليم، فخشي من دعوى الإسقاط أن تنقلب اليمين إلى المدّعي لعدم البينة فأنكر الاستدانة وحلف جاز بشرط أن يوري ما يخرجه عن الكذب. وكذا لو خشي الحبس بدين يدعى عليه فأنكر.
• والنية أبداً نية المدعي إذا كان محقّاً، ونيّة الحالف إذا كان مظلوماً في الدعوى.
___________________________________________
فارتدت انفسخ النكاح وبانت منه إن كان قبل الدخول و لو كان بعده وقفت البينونة على انقضاء العدّة قبل ،رجوعها، فإن أصرّت إلى انقضائها بانت منه، فإذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل وتمّت الحيلة.
قوله: «ولو ادّعى عليه دين قد برئ منه بإسقاط أو تسليم» إلى آخره.
التورية في الصورتين شرط في الإنكار والحلف، وهي في الحلف آكد والمراد بالتورية أن يعدل بمدلول اللفظ إلى أمر غير ما يدلّ عليه ظاهراً، بأن يقول: «ما استدنت منك» ويقصد نفيها في مكان مخصوص أو زمان غير الذي كانت الاستدانة فيه، أو نوعاً من المال غير الذي دفع(1) ، أو غير ذلك. وكذلك ينوي إذا حلف وإنّما جاز ذلك لمكان الضرورة، حيث إنّه بريء من الدين في نفس الأمر وغير مخاطب بأدائه مع الإعسار.
قوله: «والنيّة أبدأ نيّة المدّعى إذا كان محقاً، ونيّة الحالف إذا كان مظلوماً في الدعوى».
يعني أنّ المدعي إذا كان محقّاً فأنكر المدّعى عليه وحلف مورّياً بما يخرجه عن الكذب لم ينفعه ذلك، بل وقعت اليمين على طبق ما يريده المدّعي، وترتب على المنكر الوعيد الذي ورد فيمن حلف بالله كاذباً(2)، بخلاف ما إذا كان مظلوماً كالمثالين السابقين، فإنّ التورية تصرف اللفظ عن ظاهره وترفع عنه الإثم والكذب. وكذا القول في غير وقت اليمين من المحاورة الواقعة بينهما في الصورتين، فإنّ التورية تنفع المظلوم دون الظالم.
ص: 371
• ولو أكرهه على اليمين أنّه لا يفعل شيئاً محلّلاً، فحلف ونوى ما يخرج به عن الحنث جاز، مثل أن يورّي أنّه لا يفعله بالشام، أو بخراسان، أو في السماء، أو تحت الأرض.
• ولو أجبر على الطلاق كرهاً فقال: «زوجتى طالق ونوى طلاقاً سالفاً، أو قال: «نسائي طوالق» وعنى نساء الأقارب جاز.
• ولو أُكره على اليمين أنه لم يفعل، فقال: ما فعلت كذا، وجعل «ما» موصولة لا نافية، صحّ.
_____________________________________
قوله: «ولو أكرهه على اليمين أنه لا يفعل شيئاً محلّلاً» إلى آخره.
سيأتي في كتاب الأيمان أن المكره لا تنعقد يمينه(1) ، فإذا أكرهه على الحلف على أن لا يفعل شيئاً له فعله جاز له فعله وإن لم يور. والمطابق من المثال أن يحمله على الحلف على ذلك لا على وجه الإكراه، فيوري بما ذكر ونحوه من المخصّصات الزمانية والمكانية والحاليّة، فيخرج به حينئذ عن الحنث وهو الإثم في مخالفة مقتضى اليمين.
قوله: « ولو أجبر على الطلاق كرهاً فقال: زوجتي طالق» إلى آخره.
الكلام في هذا المثال كالسابق، فإنّ طلاق المكره لا يقع وإن لم يور. وقد اتّفق مثل ذلك للعلامة في كتبه(2)، وتنبّه له في التحرير فاستدرك الحكم بعدم وقوعه وإن لم ينو شيئاً(3) كما ذكرناه.
قوله: «ولو أكره على اليمين أنّه لم يفعل، فقال: ما فعلت كذا» إلى آخره.
الإشكال في هذا المثال كالسابق وزيادة أن الحلف على الماضي وهو غير منعقد عندنا، سواء جعل «ما» موصولة أو نافية.
ص: 372
• ولو اضطر إلى الإجابة ب-«نعم» فقال وعنى الإبل، أو قال «انعام» وعنى نعام البرّ - قصداً للتخلّص - لم يأثم.
_______________________________________
واعلم أنه على تقدير الافتقار إلى العدول عن جعل «ما» نافيةً إلى جعلها موصولةً إنّما تظهر فائدته لمن لا يعرف العربية، أو مع عدم ظهور الإعراب في متعلّق اليمين بأن كان مقصوراً ، أما لو ظهر فيه الإعراب وكان المحلوف له ممّن يفهم ذلك لم تظهر التورية؛ لأنّ متعلّق اليمين مع النفي منصوب ومع جعلها موصولة مرفوع خبر عنه، مثلاً لو اتّهمه بفعل شيءٍ بالأمس وحمله على اليمين فقال: ما فعلت بالأمس شيئاً، كانت «ما» نافيةً، ولو أراد جعلها موصولةً فالعبارة الصحيحة أن يقول: ما فعلت شيء، ف-«ما» مبتدأ بمعنى الذي، و «فعلت» صلتها وعائدها محذوف وهو ضمير المفعول، و «شيء» خبر عن الموصول المبتدأ، فلا يظهر العدول إلّا مع جهل من حمله على الحلف بالحال. ولو أراد التورية لكونه خبراً عن الفعل فيما مضى وقد وقع منه وأنكره لمصلحة - وهو معذور في الإنكار - فالتورية لأجل الخبر لا لأجل اليمين.
قوله: «ولو اضطرّ إلى الإجابة ب-«نعم» فقال وعنى الإبل، أو قال «نعام» وعنى نعام البرّ - قصداً للتخلّص لم يأثم».
هذا أيضاً من ضروب التورية بأن يأتي باللفظ المشترك ويقصد من معانيه غير ما يراد منه في تلك المحاورة، فإنّه يخرج بذلك عن الكذب وإن لم يكن يميناً.
ويستفاد من تقييده بالاضطرار ومن الأمثلة السابقة أنّ التورية لا تصح من غير ضرورة؛ لأنّ إطلاق اللفظ محمول على حقيقته المتبادرة منه، فصرفه إلى مجازه أو نحوه يوهم الكذب.
وقيل: تجوز التورية مطلقاً ما لم يكن ظالماً؛ لأنّ العدول عن الحقيقة سائغ، والقصد مخصّص(1). وهذا هو الأظهر، لكن ينبغي قصره على وجه المصلحة، كما روي عن بعض السلف الصالح أنّه كان إذا ناداه أحد ولا يريد الاجتماع به يقول لجاريته: قولي له : اطلبه
ص: 373
• وكذا لو حلف ما أخذ جملاً ولا ثوراً ولا عنزاً، وعنى بالجمل السحاب، وبالثور القطعة الكبيرة من الأقط، وبالعنز الأكمة، لم يحنث.
• ولو اتهم غيره فى فعل فحلف ليصدقنّه، فطريق التخلّص أن يقول: فعلت ما فعلت، وأحدهما صدق.
_______________________________________
في المسجد، وكان آخر يخط دائرة في الأرض ويضع فيها إصبع الجارية ويقول لها: قولي له: ليس ها هنا واقصدي داخل الدائرة.
قوله: «وكذا لو حلف ما أخذ جملاً ولا ثوراً ولا عنزاً» إلى آخره.
هذا من أقسام التورية بصرف اللفظ المشترك إلى بعض معانيه التي هي خلاف الظاهر في تلك المحاورة. وهو قصد صحيح بطريق الحقيقة وإن كانت مرجوحة بحسب الاستعمال، حتّى لو فرض بلوغها حدّ المجاز - من حيث تبادر الذهن إلى غيرها -كان قصدها صارفاً عن الكذب؛ لأنّ استعمال المجاز أمر شائع وإن كان إطلاق اللفظ لا يحمل عليه عند التجرّد عن القرينة، فإنّ المخصّص هنا هو النيّة فيما بينه وبين الله تعالى للسلامة من الكذب حيث لا يكون ظالماً في الدعوى عليه بذلك، وإلّا لم تنفعه التورية كما مرّ(1).
قوله: «ولو اتهم غيره في فعل فحلف ليصدّقنّه ، فطريق التخلّص أن يقول: فعلت ما فعلت، وأحدهما صدق».
المراد أنّ المتهم بالفعل حلف أنّه يصدّق من اتّهمه به في ذلك ويبقي الأمر مبهماً، بأن اتهمه في سرقة - مثلاً - فحلف المتهم بالسرقة ليصدقنّه في حال هذه السرقة، فيقول: «سرقت ما سرقت(2)» فيبرٌ من اليمين؛ لأنه صادق في أحد الخبرين. وهذا يتمّ إذا لم يقصد التعيين والتعريف، وإلا لم يبر بذلك، بل بالصدق في ذكر أحدهما خاصة . والظاهر من إطلاق اللفظ هو إرادة التعيين، فلا يكفي صدقه في أحد الإخبارين إلّا مع قصده ذلك.
ص: 374
•ولو حلف ليخبرنّه بما في الرمانة من حبة فالمخرج أن يعد العدد الممكن فيها. فذلك وأمثاله سائغ.
_______________________________________
قوله: «ولو حلف ليخبرنه بما في الرمانة من حبّة» إلى آخره.
المراد أنّه حلف ليخبرنّه بعدد حبّات الرمانة قبل كسرها، وإلا فلو أطلق أمكن البرّ بكسرها وعدّ ما فيها من الحبّات، ولم يفتقر إلى الحيلة. وهكذا عبّر به جماعة من الفضلاء، لا كما أطلق المصنف.
ويمكن مع الإطلاق أن يتمّ المثال بالإخبار بذلك وإن كان له طريق آخر إلى التخلّص. وقد يتعيّن الطريق المذكور مع الإطلاق، لضيق الوقت الذي عيّنه للإخبار، وطريق التخلّص حينئذ أن يبتدئ من عدد يتيقّن أنّ الحبّات التي في الرمّانة لا تنقص عنه، ويذكر الأعداد بعدها على الولاء، بأن يقول فيها مائة حبّة مائة وواحدة مائة واثنتان وهكذا، إلى أن ينتهي إلى العدد الذي يتيقّن أنه لا يزيد عليه، فيكون مخبراً عن ذلك العدد.
ومثله ما لو حلف ليخبرنّه عن عدد ما في هذا البيت من الجوز، أو يكون قد أكل تمراً - مثلاً - لا يعلم قدره وحلف ليخبرنه بعدد ما أكل، ونحو ذلك.
وفي هذا الفرض مناقشتان:
إحداهما: مثل ما تقدّم في السابق، وهو أنّ هذا إنّما يكفي الاقتصار عليه حيث لا يقصد التعيين والتعريف، أمّا لو قصده لم يبرّ بهذا المقدار من الإخبار؛ لأنّه لا يحصل به التعريف، بل يحتمل قوياً أن لا يكون الإطلاق منزلاً عليه أيضاً إلّا مع قصده بالخصوص؛ لأنّه خلاف الظاهر والمتبادر إلى الفهم.
والثانية: أنه قد تحقّق في الأصول أن الخبر لا يشترط في تحقّقه الصدق، بل لو أخبر خبراً كاذباً صدق عليه الخبرية(1) ؛ لأنّ المراد منه القضية التي تحتمل الصدق والكذب. وعلى هذا لا يفتقر في البرّ من يمينه إلى تعداد ما ذكر، بل يكتفي بذكر أيّ عدد شاء لصدق الخبريّة.
ص: 375
...
_____________________________________
سواء كان مطابقاً للواقع أم لا، اللهمّ إلا أن يقصد الخبر المطابق أو يكون الإطلاق متبادراً إليه
فيتم ما ذكروه .
ويمكن تمثيل هذه الفروض في التعليقات التي تترتّب عليها الأحكام الشرعيّة كالطلاق عند العامة والظهار عندنا، بل هي في ذلك أظهر من اليمين؛ لأنّ انعقاد اليمين بذلك مشروط بكونه راجحاً أو متساوي الطرفين، وقد لا يتّفق في هذه الأمثلة ذلك، فلا تنعقد اليمين.
ومثاله في التعليقات أن يقول الرجل لزوجته: «إن لم تصدقيني في حال هذه السرقة»، أو: «إن لم تخبريني بعدد حبّات هذه الرمانة قبل كسرها فأنتِ عليّ كظهر أُمّي»، ونحو ذلك. فطريق تخلّصها من الظهار إخباره بما ذكر من الطريق. وأشار بقوله: «فذلك وأمثاله سائغ» إلى أنّ فروع الباب لا تنحصر في ذلك. والضابط تحصيل الحيلة المخرجة من الكذب أو المحصلة للمطلوب.
وفروع الباب كثيرة فلنشر إلى بعضها للتمرين.
منها: لو قال لها: «إن أكلت هذه الرمانة فأنت عليّ كظهر أُمّي»، فطريق التخلّص على تقدير أن لا تترك أكلها أن تبقي منها حبّة فصاعداً، فيصدق عدم أكلها. ومثله لو قال: «إن أكلت هذا الرغيف» فأبقت منه بقيّة تحسّ ولو أبقت فتاتاً يدق مدركه وقع لصدق أكله؛ نظراً إلى العرف ويحتمل مثله في إبقاء حبّة واحدة من الرمانة، إلا أن العرف فيها غير منضبط؛ إذ يصدق قول من فعل ذلك ما أكلت الرمانة بخلاف الفتات المذكور.
ومنها: ما لو قال لها وهي صاعدة في السلّم: «إن نزلتِ فأنتِ على كظهر أُمّى». و «إن صعدت فأنتِ عليّ كظهر أُمّي». فالحيلة في التخلّص بالطفرة إن أمكنها. أو بالحمل فيُصعد بها أو يُنزل، وينبغي أن يكون الحمل بغير أمرها. وبأن يضجع السلّم على الأرض وهي عليه فتقوم من موضعها. وبأن يكون بجنبه سلّم آخر فتنقل إليه وإن مضى في نصب سلّم آخر زمان وهي واقفة، إلا أن يضيف إلى ذلك قوله: «وإن وقفت في
ص: 376
...
________________________________________
السلّم أيضاً فأنتِ عليّ كظهر أمّي»، فيقع مع المكث لا مع المبادرة إلى ما سبق.
ومنها: ما إذا أكلا تمراً أو مشمشاً وخلط النوى ثمّ قال: «إن لم تميّزي نوى ما أكلتِ عن نوى ما أكلتُ فأنتِ عليّ كظهر أُمّي». أو خلطت دراهمها بدراهمه فقال: «إن لم تميّزي دراهمكِ من دراهمي كذلك». فيحصل الخلاص عن ذلك بأن تبدّدها بحيث لا يبقى منها اثنان، فإذا فعلت ذلك فقد ميّزت، إلّا أن يريد التميّز الذي يحصل به التعيين والتنصيص(1) كما تقدّم(2) فلا يحصل الخلاص بذلك. وينبغي أن يحمل اللفظ عند الإطلاق على هذا؛ لأنّ المتبادر إلى الفهم عرفاً ذلك كما مرّ(3) . وإنّما يجتزأ بالحيلة الأولى مع إرادة المعنى اللغوي أو إرادته بخصوصه.
ومنها: ما لو كان في فيها تمرة فقال لها الزوج: «إن ابتلعتها فأنت عليّ كظهر وإن قذفتها فأنت على كظهر أُمّي، وإن أمسكتها فأنت عليّ كظهر أُمّي». فالحيلة في تخلّصها منها جميعاً بأن تأكل بعضها وتقذف بالبعض الآخر. ولو قال: «إن أكلتها فأنت عليّ كظهر أُمّي، وإن لم تأكليها فأنت عليّ كظهر أُمّي». لم تتخلّص بما ذكر من الحيلة. وفي التخلّص منه بالابتلاع وجهان، من حيث إنّه يصدق أن يقال: ابتلع وما أكل، ومن عدم انضباط العرف.
ومنها: لو قال لها: «كلّ كلمة كلّمتني بها إن لم أقل لك مثلها فأنتِ علي كظهر أُمّي»، فقالت له المرأة: «أنت علي كظهر أُمّي». فإن لم يقل ذلك وقع الظهار بالأول، وإن قاله وقع بالثاني، فطريق تخلصه أن يقول لها: «أنت تقولين: أنت علي كظهر أُمي»، أو يقول ذلك مجرّداً عن «أنت تقولين» بغير قصد الظهار مصرحاً بعدم القصد متّصلاً به.
ص: 377
المقصد الخامس • في العدد
والنظر في ذلك يستدعي فصولاً:
____________________________________________
ومنها: لو كان في يدها كوز ماء فقال: «إن قلبت هذا الماء أو تركته أو شربته أو شربه غيرك فأنتِ علي كظهر أمّي». فيحصل الخلاص بأن تضع به خرقة فتبلّها به.
ومنها: لو كانت في ماء راكد فقال لها: «إن مكثت فيه أو خرجت منه فأنتِ عليّ كظهر أُمّي». فالطريق أن يحملها إنسان في الحال. ولو كان الماء جارياً لم يقع، سواء مكثت أم خرجت؛ لأنّ ذلك الماء قد فارقها بجريانه إلّا أن يدلّ العرف على إرادة ما يعمّ ذلك من الماء فيكون كالراكد وقس على هذه الفروض ما يرد عليك بضرب من النظر مراعياً للعرف والوضع.
قوله: «في العدد».
هو جمع عدّة مأخوذ من العدد؛ لاشتماله عليه غالباً، والعدّة الاسم من الاعتداد، يقال: أنفذت عدّة كتب إلى جماعة، وقد يجعل مصدراً ويقول: اعتدّت المرأة اعتداداً ويقال: عدّة(1) .
وشرعاً اسم لمدة معدودة تتربّص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو التفجّع على الزوج وشرّعت؛ صيانة للأنساب وتحصيناً لها من الاختلاط والأصل فيها - قبل الإجماع - الآيات كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَتْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ )(2)(وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(3) (وَالذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)(4) وغير ذلك من الأدلة(5).
ص: 378
[الفصل] الأوّل:
•لا عدة على مَنْ لم يدخل بها، سواء بانت بطلاق أو فسخ، عدا المتوفّى عنها زوجها فإنّ العدة تجب مع الوفاة ولو لم يدخل.
والدخول يتحقّق بإيلاج الحشفة وإن لم ينزل ولو كان مقطوع الأنثيين؛ لتحقّق الدخول بالوطء. أمّا لو كان مقطوع الذكر سليم الأنثيين قيل: تجب العدّة؛ لإمكان الحمل بالمساحقة. وفيه تردّد؛ لأن العدّة تترتب على الوطء. نعم، لو ظهر حمل اعتدت منه بوضعه؛ لإمكان الإنزال.
___________________________________________
واعلم أنّ المدة المستدلّ بمضيّها على براءة الرحم تتعلّق تارة بالنكاح ووطء الشبهة وتشتهر باسم العدّة، وأخرى بملك اليمين إما حصولاً في الابتداء أو زوالاً في الانتهاء و تشتهر باسم الاستبراء.
والنوع الأوّل منه ما يتعلّق بفرقة بين الزوجين وهو حيّ كفرقة الطلاق واللعان والفسوخ، و تشمله عدة الطلاق؛ لأنّه أظهر أسباب الفراق، وحكم العدّة عن وطء الشبهة حكمها، وإلى
ما يتعلق بفرقة تحصل بموت الزوج وهي عدة الوفاة. وسنذكر تفصيلها (1).
قوله: «لا عدة على مَنْ لم يدخل بها، سواء بانت بطلاق أو فسخ» إلى آخره.
إنّما تجب العدّة في غير الوفاة بعد الدخول فلا تجب بدونه، قال تعالى: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)(2). ولمّا كان الأصل في هذه العلة(3) طلب براءة الرحم لم تجب بالفراق عن مطلق النكاح، بل اعتبر جريان سبب شغل(4) الرحم ليحتاج إلى معرفة براءته.
ص: 379
...
_____________________________________
ثم لا يعتبر تحقّق الشغل ولا توهّمه، فإنّ الإنزال ممّا يخفى ويختلف في حق الأشخاص بل في الشخص الواحد باعتبار ما يعرض له من الأحوال فيعسر تتبّعه ويقبح، فأعرض الشارع عنه واكتفى بسبب الشغل وهو الوطء، وناطه بتغيب قدر الحشفة.
وهذا صنعه في تعليق الأحكام بالمعاني الخفيّة، ألا ترى أنّ الاعتقاد الصحيح الذي هو المطلوب وبه تحصل النجاة لما كان أمراً خفياً - لكونه في الضمير - علّقت الأحكام بالكلمة الظاهرة، حتّى لو توفّرت القرائن الدالّة على أن الباطن مخالف للظاهر - كما إذا أكره على الإسلام بالسيف - لا يبالي بها ويُدار الحكم على الكلمة، وأن مناط التكليف - وهو العقل والتمييز - لمّا كان خفيّاً يحصل بالتدريج ويختلف بالأشخاص والأحوال أعرض عن تتبّعه ومعرفة كماله وعقله بالسنٍ أو الاحتلام. وكما اكتفى في الترخص بالسفر المخصوص وأعرض عن المشقة التي هي الحكمة فيه.
إذا عرفت ذلك فالمعتبر من الوطء تغيّب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في قبل أو دبر. وفي حكمه دخول منيّه المحترم فرجاً، فيلحق به الولد إن فرض وتعتدٌ بوضعه، وظاهر الأصحاب عدم وجوبها بدون الحمل هنا فلو دخل الخصيّ بما ذكر وجبت العدّة وإن بعد احتمال العلق(1) منه، كما بعد في مدخل الحشفة بغير إنزال وإن كان فحلاً؛ لوجود المقتضي الذي جعله الشارع سبباً لها.
وأما المجبوب وهو مقطوع الذكر سليم الأنثيين فلا يوجد منه الدخول، فلا يجب على زوجته إذا كانت حائلاً عدّة على أصحّ القولين(2)؛ لانتفاء المقتضي لها وهو الوطء. والقول بوجوب العدة للشيخ (رحمه الله) فى المبسوط ؛ محتجاً بإمكان المساحقة(3) .وضعفه ظاهر،
ص: 380
•ولا تجب العدّة بالخلوة منفردةً عن الوطء على الأشهر. ولو خلا ثم اختلفا في الإصابة فالقول قوله مع يمينه.
الفصل الثاني • في ذات الأقراء
وهي المستقيمة الحيض. وهذه تعتدّ بثلاثة أقراء، وهي الأطهار على أشهر الروايتين إذا كانت حرّة، سواء كانت تحت حرّ أو عبد.
_____________________________________
فإن مجرّد الإمكان غير كافٍ في الوطء الكامل فكيف في غيره؟! نعم، لو ظهر بها حمل لحقه
الولد واعتدت حينئذٍ بوضعه.
والممسوح الذي لم يبق له شيء لا يتصوّر منه دخول، ولو أتت زوجته بولد لا يلحقه على
الظاهر، فلا يجب على زوجته منه عدّة. وربما قيل: إنّ حكمه حكم المجبوب. وهو بعيد.
واعلم أنّه لا فرق بين وطء الصبي القاصر عن سنّ من يصلح للولادة له وغيره؛ لوجود المقتضي وهو الوطء الذي جعل مناطاً لها، كوطء الكبير بتغيب الحشفة خاصةً من غير إنزال، ويتغلب جانب التعبد هنا؛ نظراً إلى تعليق الحكم بالوجه(1) المنضبط.
قوله: «ولا تجب العدّة بالخلوة منفردةً عن الوطء على الأشهر» إلى آخره.
قد تقدّم الكلام في ذلك وأن ابن الجنيد أوجبها بالخلوة(2) وقدم قول مدّعى الإصابة إذا لم يكن هناك ما يوجب تكذيبه. والعمل على المشهور فيهما؛ تمسّكاً بأصالة العدم. ولا فرق في الخلوة بين التامّة وهي التي تكون في منزل الزوج، وغيرها كالواقعة في منزل أهلها.
قوله: «في ذات الأقراء وهي المستقيمة الحيض» إلى آخره.
القرء - بالفتح والضمّ - تجمع على أقراء وقروء وأقرؤ. وقال بعض أهل اللغة: إنّه بالفتح
ص: 381
...
______________________________________
الطهر، ويجمع على فعول كحرب وحروب وضرب وضروب، والقرء بالضمّ الحيض، ويجمع على أقراء كقفل وأقفال(1) . والأشهر عدم الفرق بين الضمّ والفتح، وأنّه يقع على الحيض والطهر جميعاً بالاشتراك اللفظي أو المعنوي. والمراد في قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك»(2) الأوّل، كما أن الطهر هو المراد في قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) لا بن عمر وقد طلق امرأته في الحيض: «إنّما السنة أن تستقبل بها الطهر ثم تطلقها في كلّ قرء طلقة»(3). وفي قول الأعشى:
مورثة عزاً وفي الحيّ منعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والكناية راجعة إلى الغزوة المذكورة في البيت السابق وهو قوله:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة***تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا (4)
والذي يضيع في غيبة الزوج طهر المرأة أمّا الحيض فيستوي فيه حال الحضور والغيبة.
ويقال: أقرأت المرأة فهى مقرئ إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت(5).
وقد قيل: إنّ اللفظين مأخوذان من قولهم: قرأت الطعام في الشدق وقرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقد تحذف الهمزة فتقول: قرئت الماء(6). وزمان الطهر يجمع الدم في الرحم وزمان الحيض يجمع شيئاً منه ويرسل شيئاً إلى أن يدفع الكلّ فيحصل معنى الجمع فيهما.
وقيل: الأصل فيه الضمّ، يقال: ما قرأت فلانة جنيناً، أي لم يضمّ رحمها على ولد، ومنه سمّي القرآن قرآناً؛ لأنّه يضمّ السور والآيات(7)، وهو مقارب للجمع؛ إذ يجوز أن يقال فيه: جمع السور والآيات.
ص: 382
...
_______________________________________
وقيل: أصله الوقت الذي يأتي فيه الشيء، يقال: أقرأت حاجتك إذا دنت، وأقرأت الريح إذا هبت لوقتها، وأقرأت المرأة إذا دنى وقت حيضها أو طهرها(1).
ثم في كيفيّة وقوع الاسم عليهما أوجه:
أحدها: أنّه حقيقة في الطهر مجاز في الحيض، فإنّ الطهر هو الذي يجمع الدم في الرحم ويحسبه. وقد قيل: إنّه مأخوذ من قولهم: أقرأت النجوم إذا تأخر مطرها، وأيّام الطهر هي التي يتأخّر فيها خروج الدم(2).
والثاني: عكسه؛ لأنّ المرأة لا تسمّى من ذوات الأقراء إلا إذا حاضت.
وثالثها: أنّه مشترك بينهما كسائر الأسماء المشتركة. وهو الأشهر. والحامل على أحد الأوّلين أنّ المجاز خير من الاشتراك. ويرجح الأخير نص أهل اللغة على ثبوت الاشتراك(3). ولا رجحان للمجاز عليه بعد ثبوته.
ثمّ إن جعلناه مأخوذاً من الانتقال أو الوقت أو الجمع فالاشتراك معنوي.
وإن جعلناه مقولاً عليهما لا باعتبار ذلك، أو أن كلّ واحد باعتبار غير الآخر فهو لفظي.
إذا تقرّر ذلك فنقول: اتّفق العلماء على أنّ أقراء العدة أحد الأمرين، واختلفوا في أيّهما المراد من الآية(4) ، فذهب جماعة من الفقهاء(5) وأكثر أصحابنا إلى أنّه الطهر لقوله تعالى: (تَلَثَةَ قُرُوءٍ) فأثبت الهاء في العدد وهو مختصب بالمذكر، والطهر مذكر دون الحيض. ولقوله تعالى: (نَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(6) أي في زمان عدّتهنَّ، واللام بمعنى «في» كقوله
ص: 383
...
____________________________________
تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيِّمَةِ)(1)، أي فيه، وحذف لفظ الزمان؛ لأنّ العدة تستعمل مصدراً والمصادر يعبّر بها عن الزمان، يقال: آتيك خفوق النجم، أي زمان طلوعه وإشراقه(2)، وفعلت كذا مقدم الحجيج أي زمان قدومهم(3) . وإذا كان المعنى فطلّقوهنّ في زمان عدّتهنّ، كانت الآية إذناً في الطلاق في زمان العدّة، ومعلوم أنّ الطلاق في الحيض محرّم إجماعاً فينصرف الإذن إلى زمان الطهر.
وروي عن النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه قرأ: «القبل عدتهنّ»(4) وقبل الشيء أوله، والطلاق المأذون فيه هو الطلاق في الطهر فيكون ذلك أوّل العدّة. وفي الحديث النبوي(5) السابق تصريح به. ومن طريق الخاصة رواية زرارة ومحمد بن مسلم في الحسن عن الباقر(علیه السلام) قال: «القرء ما بين الحيضتين»(6) وقال: «الأقراء هي الأطهار»(7) وغيرهما من الأخبار الكثيرة(8)، وهي الروايات التي ذكر المصنّف أنّها أشهر الروايتين في ذلك وأراد بهما الجنس.
وقيل: إنّه الحيض؛ لقوله تعالى: (يَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآبِكُمْ إِنِ أَرْ تَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ص: 384
...
________________________________________
ثَلَتَةُ أَشْهُرٍ)(1) فنقلها عمّا يئست منه إلى بدله والبدل غير المبدل، ولمّا كان اليأس من الحيض دلّ على أنّه القرء، ولقوله (صلى الله عليه و آله و سلم) للمرأة في الرواية السابقة(2): «دعى الصلاة أيام أقرائك» والمراد به الحيض.
ومن طريق الخاصّة رواية الحلبي عن أبي(علیه السلام) قال: «عدّة التي تحيض ثلاثة أقراء، وهي ثلاثة حيض»(3) . ورواية أبي بصير قال: «التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة أقراء، وهي ثلاثة ثلاثة حيض»(4). ورواية عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله(علیه السلام) عن أبيه قال:«قال عليّ(علیه السلام): إذا طلق الرجل المرأة فهو أحق بها ما لم تغتسل من الثالثة»(5) . وغيرها من الروايات الكثيرة (6).
والأوّل أشهر بين الأصحاب. والشيخ (رحمه الله) حمل هذه على التقيّة(7). وهو بعيد؛ لأنّ العامة مختلفون في ذلك(8)، فلا وجه لتقيّة قوم دون قوم. وجمع المفيد (رحمه الله) بينها بوجه أظهر ممّا ذكره الشيخ، وهو أنّه إذا طلقها في آخر طهرها اعتدّت بالحيض، وإن طلقها في أوّله اعتدت بالأقراء التي هي الأطهار(9). واستوجهه الشيخ في التهذيب(10). وكيف كان فالمذهب هو الأول.
ص: 385
...
_______________________________________
بقي تنقيح العبارة يتوقّف على أمور:
الأوّل: هذه العدّة بالأقراء ثابتة للمطلّقة، والمفسوخ نكاحها بسبب من قبلها، أو قبله، والموطوءة بشبهة، وكان على المصنّف التنبيه على ذلك، فإنّه اقتصر على اعتدادها بما ذكر ولم يذكر سببه، وإن تعرّض في بعض المسائل للمطلّقة فإن ذلك غير كافٍ. وأيضاً فالأمر غير مختصّ بالطلاق، ولكن أشرنا فيما سبق إلى أنّه ربما عنون البحث بعدّة الطلاق وألحق به باقي الأسباب.
وسيأتي في ذات الشهور جعلها عدّة للطلاق والفسخ، وكان ينبغي تقديمه في أوّل هذا الفصل وإحالة الباقي عليه. ومع ذلك فما ذكره غير حاصر.
الثاني: إن جعلنا القرء الحيض فالمعتبر منه ما يحكم بعدده شرعاً من العادة للمعتادة حيث ينقطع عليها أو يتجاوز العشرة، والعدد الذي ينقطع عليه إن وقع في العشرة. وفي حكمه النفاس، فيعد قرءاً كالحيض، ويمكن فرضه فيما لو طلّقها بعد الوضع وقبل أن ترى دماً، فيحتسب النفاس قرءاً.
وإن جعلناه الطهر فالمراد به المدّة التي بين حيضتين، أو حيض ونفاس، أو نفاسين. ويمكن فرضه في نفاس حمل لا يعتبر وضعه في العدّة كأحد التوأمين إذا طلّقها بينهما قبل النفاس من الأوّل. وإنّما يعتبر جميع المدّة في غير الطهر الأول، فيما إذا لم تبلغ المدّة ثلاثة أشهر، كما سيأتي.
الثالث: المراد بمستقيمة الحيض معتادته وقتاً وعدداً وإن استحيضت بعد ذلك، فإنّها ترجع في الحيض إلى عادتها المستقرّة وتجعل ما سواها طهراً. وفي حكمها معتادته وقتاً خاصّةً؛ لأنّها بحسب أوّله مستقيمة العادة وإنما تلحق بالمضطربة في آخره، وحيث كان
ص: 386
•ولو طلّقها وحاضت بعد الطلاق بلحظة احتسبت تلك اللحظة قرءاً، ثمّ أكملت قرءين آخرين فإذا رأت الدم الثالث فقد قضت العدّة.
________________________________________
القرء هو الطهر فالمعتبر الدخول في حيض متيقّن؛ ليعلم انقضاء الطهر الثالث، وهو يحصل في معتادة أوله بحصوله فيه. أمّا معتادته عدداً خاصةً فكالمضطربة بالنسبة إلى الحكم به ابتداء، وسيأتي حكمها في العبارة(1).
الرابع: الاعتداد بثلاثة أقراء مختصّ بالحرّة، سواء كان من تعتدٌ بسبب وطئه حرّاً أم عبداً. وهو موضع وفاق. ولو كانت أمةً فعدتها قرءان، وسيأتي(2). وفي إلحاق المعتق بعضها بالحرّة أو الأمة نظر من تغليب الحرّية، وأصالة بقاء العدّة إلى أن يعلم الانتقال، وبقاء التحريم إلى أن يعلم الحلّ، ومن أصالة البراءة من الزائد واستصحاب عدمه إلى أن يثبت الناقل بحريتها أجمع. ولم أقف فيه لأصحابنا على شيء يعتد به. والشافعية جزموا بالثاني(3).
الخامس: لا فرق بين مجيء الحيض الموجب لانقضاء العدّة طبيعياً - وهو الذي ينوب كلّ شهر هلالي مرّة غالباً - وغيره، حتّى لو استعجلته بالدواء في غير وقته المعتاد احتسب لها وانقضت به العدة للعموم(4) .
قوله: «ولو طلّقها وحاضت بعد الطلاق بلحظة احتسبت تلك اللحظة قرءاً» إلى آخره.
الوجه في احتساب ما بقي من الطهر الأوّل قرءاً النصّ، وهو كثير منه رواية زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام)، قلت له: أصلحك الله رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع بشهادة عدلين، فقال: «إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للأزواج»(5).
ص: 387
•هذا إذا كانت عادتها مستقرّةً بالزمان. وإن اختلفت صبرت إلى انقضاء أقلّ الحيض أخذاً بالاحتياط.
____________________________________________
ولا يمكن الحكم بانقضائها برؤية الدم في الثالثة إلّا إذا جعلنا بقية الطهر قرءاً، ثمّ يحتسب ما بين الحيضتين قرءين فتمت الثلاثة بدخول الحيضة الثالثة.
وأمّا ما قيل من أنّ الوجه فيه: أنّ بعض القرء مع قرءين تامين يسمّى الجميع ثلاثة قروء كما يقول القائل: خرجت من البلد لثلاث مضين مع وقوع خروجه في الثالثة، وقال تعالى:(الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتْ) والمراد شوّال وذو القعدة وبعض ذي الحجّة .
ففيه: أنّ ذلك مجاز لا يترتب عليه الحكم الشرعي بمجرّده. ثمّ هو منقوض بما لو تم الأوّلان وأُضيف إليهما بعض الثالث، بأن طلّقها قبل الحيض بلا فصل واتّصل بآخره، فإنّ القرء الأوّل إنّما يحتسب بعد الحيض، فيكمل الأوّلان قرأين ويعتبر كمال الثالث إجماعاً، ولو اعتبر ما ذكره في هذا التعليل لأمكن بدخول الطهر الثالث. وأما إطلاق أشهر الحجّ على شهرين وبعض الثالث فهو عين المتنازع، وقد تقدّم أنّ الأصحّ كون مجموع ذي الحجّة من أشهر الحجّ. وتظهر فائدته في استدراك بعض الأفعال فيه.
قوله: «هذا إذا كانت عادتها مستقرةً بالزمان» إلى آخره.
هذا استدراك على قوله «إنّ العدّة تنقضي برؤية الدم الثالث». فإنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كانت عادتها مستقرةً بحيث يكون أوّل الحيض منضبطاً كما قرّرناه سابقاً، وذلك في المعتادة وقتاً وعدداً وفي المعتادة وقتاً خاصّةً، أمّا لو اختلفت عادتها - بأن لم تكن مستقرةً وقتاً، بل كانت تراه تارةً في أوّل الشهر وتارةً في وسطه وأخرى في آخره مثلاً - فإنّها بالنسبة إلى الحكم بأوّله كالمضطربة كما تقدّم تحقيقه في بابه. وحينئذٍ فلا يحكم بانقضاء العدّة إلّا مع
ص: 388
•وأقل زمان تنقضي به العدّة ستة وعشرون يوماً ولحظتان، لكن الأخيرة ليست من العدة، وإنّما هي دلالة على الخروج منها. وقال الشيخ (رحمه الله): هي من العدّة؛ لأنّ الحكم بانقضاء العدة موقوف على تحققها. والأوّل أحقّ.
___________________________________
العلم بكونه حيضاً، وذلك بعد مضيّ ثلاثة أيام من أوّله. هذا إذا أوجبنا عليها العبادة إلى أن تمضي ثلاثة أيام. ولو حكمنا لها بالحيض من حين رؤية الدم إما مطلقاً أو مع ظنّه حكم بانقضاء العدة برؤيته.
ويمكن أن يريد المصنّف وجوب الصبر إلى مضيّ الثلاثة وإن حكمنا بتحيضها من أوّله، لما ذكره من الأخذ بالاحتياط في العدة، بخلاف ترك العبادة، فإنّ الأمر فيه أسهل وحقّ الله مبني على التخفيف، بخلاف حقّ الآدمي، وفي العدّة يجتمع الحقان. ولكن هذا آت في تحيضها برؤيته، فإنّه يشتمل على الحقّين أيضاً. وكيف كان فالاحتياط في العدة أقوى.
واعلم أن قوله «وإن اختلفت» يشمل ما عدا المعتادة وقتاً وعدداً معاً، فإنّ الاختلاف فيما عداها متحقبق. ولكن الأجود تقييد الاختلاف بكونه بواسطة الوقت؛ لما ذكرناه. وبقي حكم المبتدئة والمضطربة، وسيأتي الكلام فيه(1) .
قوله: «وأقلّ زمان تنقضي به العدّة ستة وعشرون يوماً» إلى آخره.
حيث جعلنا الأقراء هي الأطهار، وكان تمام الطهر محسوباً بقرء، فأقلّ زمان يمكن فيه انقضاء العدة ستة وعشرون يوماً ولحظتان، وذلك بأن يكون الباقي من الطهر الذي طلقت فيه لحظةً بعد تمام صيغة الطلاق، ثمّ تحيض ثلاثة أيام، ثمّ تطهر عشرة، ثمّ تحيض ثلاثة أيام ثمّ تطهر عشرة، ثمّ تطعن في الدم الثالث المستقر عادة. وهذا مبنيّ على الغالب وإلّا فقد يتفق أقل من ذلك بأن يطلّقها بعد الولادة وقبل رؤية دم النفاس - وقد أسلفنا أنه محسوب هنا بحيضة وأقله لحظة(2) - فإذا رأت بعد الطلاق بلحظة لحظةً نفاساً ثم انقطع عشرة، ثمّ رأت
ص: 389
...
___________________________________________
ثلاثة ثمّ انقطع عشرة، ثمّ رأت الدم الثالث انقضت عدتها بذلك، وهو ثلاثة وعشرون يوماً وثلاث لحظات.
إذا تقرّر ذلك فقد اختلفوا في اللحظة الأخيرة هل هي من العدّة، أو دليل على انقضائها قبلها؟ فالأصحّ - وهو الذي اختاره المصنّف - الثاني؛ لأن العدّة ثلاثة قروء وهي الأطهار، وبتمامها تتم العدّة، ولا شبهة في أنّها تتم عند ابتداء الدم، وابتداؤه كاشف عن تمامها قبله وموجب لظهور آخره حيث إنّه لا حد له بحسب الزمان، فلا يعد زمان الحيض من العدة. وحينئذ فأقلّها بالحقيقة ستة وعشرون يوماً ولحظة لا غير.
وقال الشيخ (رحمه الله): هي من العدة لتوقف الانقضاء عليها (1). فكانت كغيرها من الأجزاء. وربما بني على أنّ القرء هو الانتقال من الطهر إلى الحيض فيكون الحصول في الحيض من العدة.
ويضعّف الأوّل بأنّه لا يستلزم كونها منها، وإنّما هي كاشفة عن سبق انتهاء الطهر الثالث
الذي هو غاية العدّة. والثاني بما تحقّق من أن القرء هو الطهر لا الانتقال المذكور.
وتظهر فائدة التعليلين فيما لو كانت غير مستقيمة الحيض فتوقف ظهوره على مضيّ ثلاثة أيام، فيكون جملتها من العدة كاللحظة على الأوّل، وكاشفة عن كون اللحظة الأولى منها من العدة خاصة على الثاني؛ لأنّ مضيّ الثلاثة يوجب تحقّق الحيض من أولها، والانتقال يحصل بلحظة منها. وربما قيل: إن مجموع الثلاثة منها على التقديرين. وهو ضعف في ضعف.
وتظهر الفائدة في جواز الرجوع في اللحظة المذكورة أو الثلاثة، وفيما لو تزوجت بغيره فيها، وفيما لو مات الزوج فيها. فعلى المختار يصح النكاح دون الرجعة وينتفي الإرث بالموت، وعلى قول الشيخ يثبت نقيض الأحكام.
ص: 390
•ولو طلّقها فى الحيض لم يقع.
ولو وقع في الطهر ثمّ حاضت مع انتهاء التلفظ بحيث لم يحصل زمان يتخلل الطلاق والحيض، صحّ الطلاق لوقوعه في الطهر المعتبر. ولم تعتدّ بذلك الطهر؛ لأنّه لم يتعقب الطلاق، وتفتقر إلى ثلاثة أقراء مستأنفة بعد الحيض.
فرع : • لو اختلفا فقالت: كان قد بقي من الطهر جزء بعد الطلاق، وأنكر فالقول قولها؛ لأنّها أبصر بذلك، والمرجع في الحيض والطهر إليها.
____________________________________
قوله: «ولو طلقها في الحيض لم يقع» إلى آخره.
قد عرفت أنّ المعتبر وقوع الطلاق في الطهر(1)، وأنّ بقاء جزء منه بعد الطلاق كافٍ في احتسابه قرءاً وإن قلّ. فإذا طلّق في الطهر فإن بقي بعد الطلاق جزء من الطهر اجتمع الأمران صحّة الطلاق، واحتساب الطهر. وإن اتّصل الحيض بالطلاق - بمعنى أنّه بعد تمام صيغة الطلاق بغير فصل خرج الدم - حصل شرط الطلاق وهو وقوعه في الطهر فوقع صحيحاً، ولم يحتسب بذلك الطهر بل يعتبر ثلاثة أطهار بعد الحيض وتبين بدخول الحيضة الرابعة.
وزعم بعض العامة أنّ الطلاق المقارن للحيض كالواقع فيه(2). والمصنّف نبه على خلافه وبيان فساده بقوله «لوقوعه في الطهر المعتبر».
ولو صادف الحيض جزءاً من صيغة الطلاق انتفى الأمران وحكم ببطلانه لوقوع بعضه في الحيض، وللشيخ (رحمه الله) في المبسوط في هذا المقام عبارة موهمة(3)، وعليها مناقشات وأجوبة، ولا طائل تحت الجميع.
قوله: «لو اختلفا فقالت: كان قد بقي من الطهر جزء بعد الطلاق» إلى آخره.
إذا ادّعت بقاء جزء من الطهر بعد الطلاق فقد ادّعت قصر العدّة، وإنكاره لذلك طلباً
ص: 391
الفصل الثالث في ذات الشهور
•التي لا تحيض وهي في سن من تحيض تعتدّ من الطلاق والفسخ مع الدخول بثلاثة أشهر، إذا كانت حرّة.
_____________________________________
لطولها ليرجع فيها. والمذهب أنّ القول قولها في ذلك وإن كان معه أصالة بقاء العدّة واستصحاب حكم الزوجيّة؛ لأنّ المرجع في الحيض والطهر إليها؛ لما سلف من الآية (1)والرواية(2)، وهما مقدّمان على دليل الاستصحاب.
ويبقى الكلام في النفقة لبقية ما يدّعيه من مدّة العدة وهي تنكره كما أسلفناء في نظيره(3). فإن كان قد دفعها إليها فليس له انتزاعها لاعترافه بعدم استحقاقه. وإن لم يكن دفعها لم يكن لها المطالبة به لذلك. ويحتمل جواز أخذها منها في الأوّل؛ لما تقدّم من أنّ شرط استحقاق المطلقة رجعيّاً النفقة بقاؤها على الطاعة كالزوجة(4) ، وبادّعائها البينونة لا يتحقّق التمكين من طرفها، فلا تستحقّ نفقة على القولين فله المطالبة بها حينئذٍ، ولا تكون كالمال الذي لا يدّعيه أحد، لأنّ مالكه هنا معروف. ويمكن الفرق بين عدم التمكين المستند إلى دعوى البينونة وبينه على تقدير الاعتراف ببقاء العدة بالنسبة إليه؛ لأنّها بزعمها ليست ناشزاً في الأول، بخلاف الثاني والأجود الأول.
قوله: «التي لا تحيض وهي في سن من تحيض تعتد من الطلاق والفسخ» إلى آخره.
لا فرق فيمن لا تحيض وهي في سنّ الحيض بين كون انقطاعه لطبيعة أو لعارض من حمل ورضاع ومرض وغيرها عندنا، فتعتدّ بثلاثة أشهر؛ لعموم قوله تعالى: (وَالَّشِى
ص: 392
•وفي اليائسة والتي لم تبلغ روايتان إحداهما: أنّهما تعتدّان بثلاثة أشهر. والأُخرى: لا عدة عليهما. وهو الأشهر.
_______________________________________
يَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَابِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَتَةُ أَشْهُرٍ وَالَّتِي لَمْ يَحِضْنَ)(1) أي فعدتهنّ كذلك. ويشمل أيضاً من بلغت التسع وإن لم يكن مثلها تحيض عادة؛ لأنّ سنّ الحيض هو التسع - كما مرّ في بابه(2) - وإن لم تحض فيه عادةً.
ويدلّ عليه - مع عموم الآية - رواية الحلبي في الحسن عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر»(3). وفي معناها غيرها(4) . وفي معنى الطلاق والفسخ وطء الشبهة.
وبالجملة ما عدا الوفاة - وما في معناها - من أنواع الفراق كذات الأقراء.
قوله: «وفي اليائسة والتي لم تبلغ روايتان» إلى آخره.
اختلف الأصحاب في الصبيّة التي لم تبلغ التسع واليائسة إذا طلّقت بعد الدخول - وإن كان قد فعل محرماً في الأولى - أو فسخ نكاحها كذلك أو وطئت بشبهة هل عليهما عدّة أم لا؟ فذهب الأكثر - ومنهم الشيخان (5)والمصنّف والمتأخرون - إلى عدم العدّة. وقال السيد المرتضى(6) وابن زهرة (رحمهما الله): عليهما العدة(7).
والروايات مختلفة أيضاً وأشهرها بينهم ما دلّ على انتفائها، فمنها حسنة زرارة عن
ص: 393
...
__________________________________________
الصادق(علیه السلام) في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من المحيض قال: «ليس عليهما عدة وإن دخل بهما»(1) .
وموثقة عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق(علیه السلام) قال: «ثلاثة يتزوجن على كلّ حال التي لم تحض ومثلها لا تحيض»، قال قلت وما حدّها؟ قال: «إذا أتى لها أقل من تسع سنين، والتي لم يدخل بها، والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض»، قلت وما حدها ؟ قال: «إذا كان لها خمسون سنة»(2) .
وصحيحة حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن التي يئست من المحيض
والتي لا تحيض مثلها، قال: «ليس عليها عدّة»(3).
وحسنة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) يقول في التي يئست من المحيض يطلّقها زوجها قال: «بانت منه ولا عدة عليها»(4).
وحسنة محمد بن مسلم أيضاً عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «التي لا تحبل مثلها لا عدة عليها»(5).
ويؤيّده من جهة الاعتبار انتفاء الحكمة الباعثة على الاعتداد فيهما، وهو استعلام فراغ الرحم من الحمل، كما تُنبه عليه رواية محمّد بن مسلم السابقة، وانتفاؤها عن غير المدخول بها، وهما في معناها.
ص: 394
..
______________________________________
احتج المرتضى (رضي الله عنه) بقوله تعالى: (وَالَّتى يَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآبِكُمْ إِن أَرْ تَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَتَةُ أَشْهُرٍ وَالَّتِي لَمْ يَعِضُنَ) قال: وهذا صريح في أنّ الآيسات من المحيض واللائي لم يبلغن عدتهن الأشهر على كل حال.
ثمّ أورد على نفسه بأنّ في الآية شرطاً وهو قوله تعالى: (إن أَرْتَبْتُمْ) وهو منتف عنهما.
وأجاب بأنّ الشرط لا ينفع أصحابنا؛ لأنّه غير مطابق لما يشترطونه، وإنّما يكون نافعاً لهم لو قال تعالى: إن كان مثلهنّ تحيض في الآيسات، وفي اللائي لم يبلغن المحيض، إذا كان مثلهنّ تحيض وإذا لم يقل تعالى ذلك بل قال (إنِ ارْتَبْتُمْ) وهو غير الشرط الذي شرطه أصحابنا فلا منفعة لهم به.
ولا يخلو قوله تعالى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) من أن يراد به ما قاله جمهور المفسرين وأهل العلم بالتأويل من أنّه تعالى أراد به إن كنتم مرتابين في عدّة هؤلاء النساء غير عالمين بمبلغها .
ووجه المصير إلى هذا التأويل ما روي في سبب نزول هذه الآية أنّ أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله، إنّ عِدَداً من عِدَدِ النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال، فأنزل الله تعالى: (وَالَّتِي يَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ - إلى قوله : - وَأُوْلَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(1)، فكان هذا دالاً على أن المراد بالارتياب ما ذكرناه لا الارتياب بأنّها آيسةً أو غير آيسة؛ لأنّه تعالى قد قطع في الآية على اليأس من المحيض، والمشكوك في حالها والمرتاب في أنّها تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة.
ويدلّ أيضاً على أنّ المراد الارتياب في العدة ومبلغها قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فإنّ المرجع في وقوع الحيض منها أو ارتفاعه إليها، وهي المصدّقة على ما تخبر به فيه، ومعرفة الرجال به مبنية على إخبار النساء، فإذا أخبرت بأنّ حيضها قد ارتفع قطع عليه، ولا معنى للارتياب مع
ص: 395
...
________________________________________
ذلك حيث إنّ المرجع فيه إليهنّ». فلو كانت الريبة في الآية منصرفة إلى اليأس من المحيض لكان حقّه أن يقول: «إن ارتين» لأنّ المرجع «إليهن» فيه، فلما قال: «إن ارتبتم» علم أنّه يريد الارتياب في العدة(1).
وأُجيب بأنّ الريبة المشترطة عائدة إلى اليأس من المحيض وعدم المحيض، والقطع في علمه تعالى باليأس لا يستلزم انتفاء الريبة عندنا؛ لأنه تعالى علام الغيوب(2). وسبب النزول لا يجب أن يكون عاماً في الجميع، فجاز أن يقع السؤال عن الصغار والكبار اللاتي لم يحضن أو أيسن مع أنّ مثلهن تحيض، فإنّه لا يمكن الحوالة في عدّتهنّ على الأقراء فوجب السؤال. وصرف الريبة إلى العدّة والعلم بقدرها غير مناسب؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة قبل ورود الشرع بها غير معلومة، فلا يكون التعليم في هذه الصورة مشروطاً بالريبة دون غيرها؛ لعدم الأولوية.
ثمّ لو كان المراد ما ذكره لقال: «إن جهلتم» ولم يقل: «إن ارتبتم» لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك، فإنّ أُبيّاً لم يشك في عدتهن وإنّما جهل حكمه. وإنما أتى بالضمير مذكراً لكون الخطاب مع الرجال لقوله تعالى: (وَالَّتِي يَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآبِكُمْ)(3)، ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهن إلى رجالهنّ أو إلى العلماء فكان الخطاب لهم لا للنساء؛ لأنّهنّ يأخذن الحكم مسلّماً.
والحقّ أنّ الآية محتملة للأمرين، والاستناد إليها في الحكم غير بيّن، وإن كانت الدلالة على مذهب المرتضى أوضح. والاعتماد في الحكم المشهور على الروايات الكثيرة المعتبرة الأسناد ووجوب الجمع بينها وبين الآية يعيّن المصير إلى ما ذكروه في الجواب - وإن كان خلاف الظاهر - مراعاة للجمع.
ص: 396
وحد اليأس أن تبلغ خمسين سنةً. وقيل: في القرشية والنبطية ستين سنة.
__________________________________________
وأما الرواية الواردة بوجوب العدة عليهما موافقةً لمذهب المرتضى فهي رواية أبي بصير قال: «عدّة التي لم تبلغ المحيض ثلاثة أشهر، والتي قد قعدت عن المحيض ثلاثة أشهر»(1). وهي موقوفة ضعيفة السند بجماعة من رواتها، فلا تصلح معارضاً للأخبار المتقدمة(2). وقد أخطأ من نسب إلى المرتضى الاحتجاج بالرواية(3)؛ لأنّه لا يعتبر الأخبار الصحيحة الواردة بطريق الآحاد فكيف بمثل هذه الرواية الواهية السند غير المسندة إلى إمام؟! وإنّما استناده إلى الآية(4) . نعم، هذه الرواية موافقة لمذهبه لا أنها تدخل في حجّته.
قوله: «وحدّ اليأس أن تبلغ خمسين سنةً. وقيل: في القرشية والنبطية ستين سنة».
التحديد بالخمسين مطلقاً قول الشيخ في النهاية(5) وجماعة (6)منهم المصنّف (رحمه الله). والمستند رواية عبد الرحمن بن الحجاج السابقة(7) عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال، قلت: وما حدّها- یعنی اليائسة- ؟ قال: «إذا كان لها خمسون سنة». ورواه أيضاً أحمد بن محمد بن أبي نصر عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المرأة التي تيأس من المحيض حدّها خمسون سنة»(8).
والقول بالتفصيل لابن بابويه(9)، وتبعه عليه المتأخرون بعد المصنّف (رحمه الله).
ص: 397
...
__________________________________________
ومستنده صحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إذا بلغت المرأة خمسين سنةً لم تر حمرة إلا أن تكون امرأة من قريش»(1).
وللمصنّف (رحمه الله) في باب الحيض من هذا الكتاب قول آخر وهو أنّ حدّه ستون سنةً مطلقاً(2) . واختاره العلامة في المنتهى(3). وهو في رواية عبد الرحمن بن الحجّاج أيضاً عن أبي عبد الله(علیه السلام) ، قلت: متى تكون التي يئست من المحيض ومثلها لا تحيض؟ قال: «إذا بلغت ستين سنةً فقد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض»(4).
وفي سند الروايات ضعف، والتفصيل جامع بينها إلّا في النبطية، فإنا لم نقف على رواية تدلّ على إلحاقها بالقرشيّة، لكن حكمها مشتهر بين الأصحاب وربّ مشهور لا أصل له.
ويمكن ترجيح رواية الستين باستصحاب حكم الحيض إلى أن يحصل الاتّفاق على عدمه، ورواية الخمسين بأصالة عدم سقوط الواجب من العبادات وغيرها من الأحكام في غير موضع اليقين وهو الحيض المتيقّن.
والمختار التفصيل بالخمسين مطلقاً في غير القرشيّة؛ لصحة روايته، وإرسالها مقبول من ابن أبي عمير. والمراد بها المنتسبة بالأب إلى قريش وهو نضر بن كنانة، وهو الجد الثاني عشر للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على أصحّ الأقوال، سمّي بذلك لجمعه القبائل، والتقرش: التجمع(5). وقيل: سُمّي باسم دابة في البحر عظيمة لا تذر شيئاً إلا أنت عليه تُسمّى قريشاً لشدتها وشوكتها(6). وقلّ من يضبط نسبه الآن إليها غير الهاشميّين، فمع اشتباه نسب المرأة الأصل عدم كونها من قريش.
ص: 398
•ولو كان مثلها تحيض اعتدت بثلاثة أشهر إجماعاً. وهذه تراعي الشهور والحيض، فإن سبقت الأطهار فقد خرجت [ من ] العدة، وكذا إن سبقت الشهور.
_______________________________________
قوله: «ولو كان مثلها تحيض اعتدت بثلاثة أشهر إجماعاً» إلى آخره.
اعلم أنّ الأصل فى عدة الحائل الأقراء؛ لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ)(1) ، وشرط اعتدادها بالأشهر فقدها كما ينبّه عليه قوله تعالى: (وَالَّتِي يَسْنَ مِنَ الْمَحِيض - إلى قوله - وَ الَّتي لَمْ يَحِضْنَ)(2).
ولا يشترط في اعتدادها بالأشهر يأسها من الحيض عندنا، بل متى انقطع عنها ثلاثة أشهر فصاعداً اعتدت بالأشهر كما يتّفق ذلك للمرضع والمريضة؛ لقول الباقر(علیه السلام) في حسنة زرارة: «أمران أيهما سبق بانت المطلقة المسترابة تستريب الحيض إن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت منه، وإن مرّت بها ثلاث حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض»(3).
والمراد من قول المصنّف «وهذه تراعي الشهور والحيض» إلى آخره أنّ مع سبق الأشهر بغير حيض أصلاً تعتدّ بالأشهر، ومع مضيّ ثلاثة أطهار قبل مضيّ ثلاثة أشهر خالية من الحيض تعتدّ بالأطهار. أمّا لو فرض رؤيتها في الثلاثة أشهر حيضاً ولو مرّةً واحدة لم تعتدّ بالأشهر بل بالأطهار إن تكرّر لها ذلك بأن كانت تحيض في كل ثلاثة أشهر مرّةً. ولو فرض أنّ حيضها إنّما يكون فيما زاد على ثلاثة أشهر ولو ساعةً وطلّقت في أوّل الطهر فمضت الثلاثة من غير أن ترى الدم فيها اعتدّت بالأشهر. وإلى هذا أشار في الرواية بقوله: «إن مرّت ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت منه».
ص: 399
...
---------------------------------------------------------------------------------------------
وقوله «وإن مرت بها ثلاث حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض» قال ابن أبي عمير : قال جميل تفسير ذلك - يعني ما ورد في خبر زرارة - إن مرت بها ثلاثة أشهر إلا يوماً فحاضت، ثمّ مرّت بها ثلاثة أشهر إلا يوماً فحاضت فهذه تعتدّ بالحيض على هذا
الوجه، ولا تعتدّ بالشهور، وإن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض لم تحض فيها فقد بانت(1). ويشكل على هذا ما لو كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر - مثلاً - مرّةً، فإنّه على تقدير طلاقها في أوّل الطهر أو ما قاربه بحيث يبقى لها منه ثلاثة أشهر بعد الطلاق تنقضي عدتها بالأشهر كما تقرّر ، لكن لو فرض طلاقها في وقت لا يبقى من الطهر ثلاثة أشهر تامة كان اللازم من ذلك اعتدادها بالأقراء، فربما صارت عدتها سنة(2) وأكثر على تقدير وقوع الطلاق في وقت لا يتم بعده ثلاثة أشهر بيضاً، وإلا اجتزئ بالثلاثة على تقدير سلامتها، فتختلف العدة باختلاف وقت الطلاق الواقع بمجرد الاختيار(3) مع كون المرأة من ذوات العادة المستقرة في الحيض.
ويقوى الإشكال لو كانت لا ترى الدم إلا في كلّ سنة أو أزيد مرّةً، فإنّ عدّتها بالأشهر على المعروف في النصّ(4) والفتوى، ومع هذا فيلزم مما ذكروه هنا من القاعدة أنه لو طلقها في وقت لا يسلم بعد الطلاق لها ثلاثة أشهر طهراً أن تعتدّ بالأقراء وإن طال زمانها، وهذا بعيد ومناف لما قالوه من أن أطول عدة تفرض عدة المسترابة وهي سنة أو تزيد ثلاثة أشهر كما سيأتي(5).
ص: 400
. أما لو رأت في الثالث حيضاً وتأخرت الثانية أو الثالثة صبرت تسعة أشهر؛ لاحتمال الحمل، ثم اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر. وهي أطول عدّة. وفي رواية عمّار تصبر سنة، ثمّ تعتد بثلاثة أشهر. ونزلها الشيخ في النهاية على احتباس الدم الثالث. وهو تحكّم.
---------------------------------------------------------------------------------------------------
ولو قيل بالاكتفاء بثلاثة أشهر - إمّا مطلقاً أو بيضاً - هنا كما لو خلت من الحيض ابتداءً كان حسناً. وقد ذكر المصنّف والعلّامة في كتبه(1) أنّ من كانت لا تحيض إلا في كل خمسة أشهر أو ستة أشهر عدتها بالأشهر وأطلق. وزاد في التحرير: أنها متى كانت لا تحيض في كلّ
ثلاثة أشهر فصاعداً تعتد بالأشهر(2). ولم تعتد بعروض الحيض في أثنائها كما فرضناه. وروى محمد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهما أنه قال في التي تحيض في كلّ
لا ثلاثة أشهر مرّةً أو في ستة أو في سبعة، والمستحاضة، والتي لم تبلغ المحيض، والتي تحيض مرة وترتفع مرّةً، والتي لا تطمع في الولد والتي قد ارتفع حيضها وزعمت أنها لم تيأس والتي ترى الصفرة من حيض ليس بمستقيم، فذكر: «أنّ عدة هؤلاء كلّهنَّ ثلاثة أشهر»(3). وهي تؤيد ما ذكرناه.
قوله: «أما لو رأت في الثالث حيضاً وتأخرت الثانية» إلى آخره. هذه المسألة شعبة من السابقة ومتفرعة على القاعدة، لكن ورد لها في النصوص حكم
خاص، فلذلك أفردها هو وغيره(4).
وحاصلها أنها إذا ابتدأت العدة بالأشهر فرأت في الشهر الثالث حيضاً بطلت العدة
ص: 401
...
------------------------------------------------------------------------------------------------------
بالأشهر؛ لفقد شرطها وهو خلوها من الدم، ولكن تحسب الماضي قرءاً؛ لأن القرء نهايته الحيض. ولا تتركب العدّة هنا من الأقراء والأشهر؛ لاختصاصها بمن طرأ يأسها على أقرائها كما سيأتي(1).
والأصل فيه أنّ الواجب الواحد لا يؤدى ببعض الأصل وبعض البدل الاضطراري المشروط بتعذر الأصل إلا بنص شرعي، ولم يرد هنا، فتعين بطلان ما مضى من الأشهر واستئناف العدة بالأقراء إن أمكن. فإذا فعلت ذلك فإن كملت لها ثلاثة أقراء ولو في أزيد من ثلاثة أشهر اعتدت بها. وإن فرض بعد ذلك انقطاع الدم عنها في الحيضة الثانية أو الثالثة فقد استرابت بالحمل، وقد حكى المصنف فيها قولين أحدهما - وهو الذي اختاره وقبله ابن إدريس(2) والأكثر - أنها تصبر مدة ت-ع-ل-م ب--راءة
- رحمها من الحمل، وهو تسعة أشهر من حين الطلاق؛ لأنّه أقصى الحمل عند أكثرهم. ثم إن ظهر فيها حمل اعتدت بوضعه، وإن لم يظهر حمل علم براءة الرحم ظاهراً، واعتدت بثلاثة أشهر بعدها وكانت بمنزلة الثلاثة الأقراء؛ لأنّها حينئذ ممن لا تحيض. والأصل في هذا القول رواية سورة بن كليب قال: سئل أبو عبد الله عن رجل طلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع بشهود طلاق السنّة، وهي ممن تحيض، فمضى ثلاثة أشهر فلم تحض إلا حيضةٌ واحدةٌ، ثم ارتفعت حيضتها حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى ولم تدر ما رفع حيضتها، قال: «إن كانت شابةً مستقيمة الطمث فلم تطمث في ثلاثة أشهر إلا حيضةٌ ثم ارتفع حيضها فلا تدري ما رفعها فإنّها تتربّص تسعة أشهر من يوم طلقها ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر ثم تتزوج إن شاءت»(3).
وهذه الرواية مع اشتهار العمل بمضمونها مخالفة للأصل في اعتبار الحمل بتسعة أشهر
ص: 402
...
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
من حين ،الطلاق، فإنّه لا يطابق شيئاً من الأقوال المتقدمة(1) في أقصى الحمل؛ لأنّ مدّته معتبرة من آخر وطء يقع بها لا من حين الطلاق، فلو فرض أنه كان معتزلاً لها أزيد من ثلاثة أشهر تجاوزت مدته أقصى الحمل على جميع الأقوال، وقد يكون أزيد من شهر فيخالف
القولين بالتسعة والعشرة.
وأيضاً فاعتدادها بثلاثة أشهر بعد العلم ببراءتها من الحمل غير مطابق لما سلف من الأصول(2)؛ لأنه مع طروء الحيض قبل تمام الثلاثة إن اعتبرت العدة بالأقراء وإن طالت كما
ال يقتضيه الضابط السابق - لم يتم الاكتفاء بجميع ذلك، وإن اعتبر خلوّ ثلاثة أشهر بيض بعد النقاء فالمعتبر بعد العلم بخلوها من الحمل حصول الثلاثة كذلك ولو قبل العلم؛ لأن ع--دة الطلاق لا يعتبر فيها القصد إليها بخصوصها بل لو مضت المدة وهي غير عالمة بالطلاق كفت فكيف هنا ؟؟ وبهذا يظهر ضعف ما قيل: إنّه إنّما لم يكتف بالتسعة مع العلم بعدم الحمل؛ لأنّها لم تكن للاعتداد بل للاعتبار بكونها حاملاً أم لا.
وأيضاً ليس في الرواية ما يدل على أنه لمكان الحمل، بل في التقييد بالتسعة ما يشعر به،
وفي تقييدها بكونها من حين الطلاق ما قد يقتضي خلافه. ثم على تقدير بنائه على احتمال الحمل لو ظهر لها في أثناء المدة عدم الحمل قبل بلوغ ينبغي الاكتفاء من حين العلم بالاعتداد ثلاثة تفريعاً على اعتبارها بعد التسعة
التسعة ينبغى الموجبة للعلم بانتفاء الحمل. ويمكن قصر الرواية على موردها من بقاء الاحتمال إلى إكمال التسعة، فمع العلم بانتفائه قبلها يرجع إلى القاعدة السابقة مع أنه يمكن أن لا يعلم انتفاء الحمل بمضي التسعة بناءً على القول بكون أقصاه ما يزيد عليها وفرض الاشتباه، ولكن هنا يكتفى بالثلاثة بعد التسعة مطلقاً؛ لأنّ أقصى الحمل لا يزيد على السنة عندنا، فيعلم
عدمه بمضيها.
ص: 403
...
-----------------------------------------------------------------------------------------------
ووجه انتفاء اعتبار الثلاثة حينئذ بعد العلم أن الحكم بها على خلاف الأصل كما بيناه
فيقتصر به علی مورده
والقول الثاني: أنّها تصبر سنةّ(1)؛ لأنّها أقصى ما قيل في مدة الحمل(2)، فلا تزول الريبة
بدونه. ثمّ إن ظهر حمل اعتدت بوضعه وإلا اعتدت بعدها بثلاثة أشهر.
ومستند هذا القول رواية عمار الساباطي قال: سئل أبو عبد الله عن رجل عنده امرأة شابة وهي تحيض في كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر حيضةً واحدةً كيف يطلقها زوجها؟ فقال: «أمر هذه شديد، هذه تُطلق طلاق السنّة تطليقةً واحدةً على طهر من غير جماع بشهود ثمّ تترك حتى تحيض ثلاث حيض متى حاضتها فقد انقضت عدتها». قلت له: فإن انقضت سنة ولم تحض فيها ثلاث حيض، قال: « يتربص بها بعد السنة ثلاثة أشهر ثم انقضت عدتها». قلت: فإن ماتت أو مات زوجها، قال: «فأيهما مات ورثه صاحبه ما بينه وبين خمسة عشر شهراً»(3). وهذه الرواية كما ترى ليس فيها تعرّض لكون المحتبس هو الدم الثالث، بل تضمّنت أنّها لم تحض في السنة ثلاث حيض أعم من أن تكون حاضت فيها مرة أو مرتين، فلذلك نسب
المصنّف تنزيل الشيخ لها على احتباس الدم الثالث(4) إلى التحكم؛ لأنه لا دليل عليه.
وأجاب عنه فخر الدین (رحمه الله):
بأنّ الرواية مطلقة ليس فيها ما ينافيه، والأدلّة غيرها تنفى ما عدا هذا التأويل فينزل عليه، ولأن التحكم القول من غير دليل، وإبطال دلالة أمر معين وعدم الوقوف على غيره
يوجب الحكم بالبطلان فإن عدم وجدان واحد لا يدلّ على العدم(5).
ص: 404
...
------------------------------------------------------------------------------------------------
وفيه نظر؛ لأنّ التحكّم إنّما نشأ من إطلاق الرواية الشامل لاحتباس الحيضة الثانية والثالثة، فتنزيلها على بعض ما دلّت عليه يحتاج إلى دليل موجب له. وقد تقدم في الخبر الأوّل أنّ المرأة إذا ارتفع حيضها بعد أن حاضت في الثلاثة مرة فإنّها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد بثلاثة، وفي الروايات السابقة وغيرها(1) ما يدلّ على أنّ هذه تعتدّ بالأقراء وإن طالت أو بالأشهر على ما بيّناه، فوقعت هاتان الروايتان(2) مخالفتين(3) لإطلاق تلك الروايات(4)، فجمع الشيخ في الاستبصار بينها بالاعتماد على الخبر المشتمل ع-ل-ى التربّص تسعة ثمّ الاعتداد بثلاثة(5)؛ لأنّ التسعة أشهر أقصى الحمل فيعلم حينئذ أنّها ليست حاملاً، ثمّ تعتد بعد ذلك عدتها وهي ثلاثة أشهر، وحمل خبر عمّار على الفضل بأن تعتدّ إلى خمسة عشر شهراً(6)، وتلك الأخبار(7) مثل خبر محمّد بن مسلم(8) على أنّها تعتد بثلاثة أشهر إذا مرت لا ترى فيها الدم. وبهذا يظهر أنّ الأدلّة لا توجب الحصر فيما ذكره الشيخ في
خبر عمّار
ويظهر من الشيخ في النهاية(9) تنزيل الخبرين على معنى آخر، بحمل الخبر السابق على احتباس الحيضة الثانية فتصبر إلى التسعة والثاني على احتباس الثالثة فتصبر إلى السنة، ثمّ تعتد بثلاثة أشهر فيهما.
ص: 405
...
------------------------------------------------------------------------------------------
وهذا التنزيل - مع ما فيه من الجمع بينهما - يوافق ظاهر هما؛ لأنّه قال في الخبر الأوّل: «إنّها لم تطمث في الثلاثة أشهر إلا مرّةً ثم ارتفع حيضها وهو صريح في احتباس الثانية، وأوجب التربّص تسعة أشهر... إلى آخره، وقال في الثاني: «إنّه انقضت سنة ولم تحض فيها ثلاث حيض»، وهذا وإن كان شاملاً لنفي الثانية والثالثة إلا أنّ طريق الجمع بينهما بحمله على احتباس الثالثة، وبقرينة قوله: «لم تحض فيها ثلاث حيض»، فإنّها لو لم تحض إلا مرّةً لقال: لم تحض فيها حيضتين أو إلّا حيضة.
فهذا وجه مصير الشيخ إلى ما ذكره من التنزيل. ومع ذلك لا يسلم عن التحكم؛ لأن الفرق بين احتباس الثانية والثالثة لا مدخل له في هذه الأحكام، فإن احتمال الحمل يوجب فساد اعتبار الاثنتين كما يوجب فساد الواحدة وأقصى الحمل مشترك بين جميع أفراد النساء بالتسعة أو السنة أو غيرهما، فالفرق بين جعل مدة التربّص للعلم بالبراءة من الحمل تسعةً تارةً وسنةً أُخرى يرجع إلى التحكم. وعلى تقدير الاعتناء برواية عمار فما ذكره الشيخ في الاستبصار من الجمع(1) أدخل في الحكم.
واعلم أنّ طريق الروايتين قاصر عن إفادة مثل هذا الحكم، خصوصاً رواية سورة بن كليب، لكن الشهرة مرجّحة لجانبها على قاعدتهم. ولو قيل بالاكتفاء بالتربص مدّة يظهر فيها انتفاء الحمل(2) - كالتسعة - من غير اعتبار عدة أُخرى كان وجهاً. والحكم فيها مخصوص بالحرة بقرينة جعل عدّتها ثلاثة أشهر بعد التربّص ومراعاة ثلاثة أقراء، فلو كانت أمةً اعتبر في الأمرين عدتها.
والتقييد في كلام المصنّف وغيره(3) برؤية الحيض في الثالث أخذوه من قوله في الرواية
ص: 406
• ولو رأت الدم مرّةً ثمّ بلغت اليأس أكملت العدة بشهرين.
_________________________________________
الأولى: «فمضى ثلاثة أشهر فلم تحض إلّا حيضة واحدة» مع أنها ليست صريحةً في ذلك كما لا يخفى. وعلى هذا فلو رأت في الشهر الأول أو الثاني واحتبس ففي إلحاقه بما ذكروه نظر من مساواته له في المعنى بل أولى بالاسترابة بالحمل، ومن قصر الحكم المخالف على مورده، فردّه إلى تلك القاعدة(1) أولى؛ لصحة طريقها. إلا أن يقال في تلك بوجوب مراعاة الأقراء هنا مطلقاً، فتكون عدّتها في المثال أطول فيقتصر على العدة المذكورة هنا؛ نظراً إلى الأولوية المذكورة، فلا يكون ذلك قياساً ممنوعاً.
قوله: «ولو رأت الدم مرّةً ثمّ بلغت اليأس أكملت العدة بشهرين».
وجهه حكم الشارع عليها بوجوب العدة قبل اليأس وقد كانت حينئذٍ من ذوات الأقراء. فإذا تعذر إكمالها بها(2) لليأس المقتضي انتفاء الحكم بالحيض مع تلبسها بالعدّة أكملت بالأشهر؛ لأنها بدل عن الأقراء كما مرّ (3)، فيجعل لكلّ قرء شهر ، ولا توجد عدة ملفقة من الأمرين إلا هذه. وباليأس من عود الحيض فارقت من احتبس حيضها قبل تمام(4) العدّة العارض حيث إن عوده ممكن.
والأصل في حكم هذه المسألة رواية هارون بن حمزة عن أبي عبد الله(علیه السلام) في امرأة طلّقت وقد طعنت في السنّ فحاضت حيضةٌ واحدة ثمّ ارتفع حيضها، فقال: «تعتدّ بالحيض
و شهرين ،مستقبلين، فإنّها قد يئست من المحيض»(5).
ص: 407
•ولو استمرّ بالمعتدّة الدم مشتبهاً رجعت إلى عادتها في زمان الاستقامة واعتدّت به ولو لم تكن لها عادة اعتبرت صفة الدم، واعتدّت بثلاثة أقراء ولو اشتبه رجعت إلى عادة نسائها. ولو اختلفن اعتدت بالأشهر.
______________________________________
ولو فرض يأسها بعد أن حاضت مرتين فمقتضى ذلك إكمال العدة بشهر ، ولكن الجماعة اقتصروا على مدلول الرواية.
قوله: «ولو استمرّ بالمعتدّه الدم مشتبهاً رجعت إلى عادتها» إلى آخره.
المراد باستمراره تجاوزه العشرة، فإنّ ذات العادة حينئذ ترجع إلى عادتها وتجعل الباقي استحاضة، فيلحق ما يحكم به حيضاً في العادة حكم الحيض هنا، وتجعل الباقي طهراً إلى
وقت العادة من الشهر الآخر، وتنقضي بذلك العدّة كالمستقيمة الحيض.
وتقييده بكون الدم مشتبهاً في هذه الصورة باعتبار احتماله الحيض فيما زاد على العادة قبل التجاوز، وإن كان باعتبار التجاوز صار غير مشتبه حيث علم أن الحيض منه هو ما وقع في زمن العدة وما زاد استحاضة، فلا اشتباه فيه حينئذٍ.
ولو لم تكن لها عادة مع فرض استمراره وتجاوزه العشرة رجعت إلى التمييز وجعلت ما كان أقرب منه إلى صفة الحيض حيضاً بشرائطه والباقي طهراً. فإن اتّفق لها تمييز عملت عليه وانقضت العدة بذلك أيضاً. ولا فرق هنا بين المبتدئة والمضطربة.
فإن اشتبه دم الحيض منه - بأن فقدت التمييز - فقد قال المصنف (رحمه الله) وقبله الشيخ(1) وبعده العلّامة في كتبه(2) : إنّها ترجع إلى عادة نسائها. وهذا يتمّ في المبتدئة كما تقرّر في بابه(3) ، أمّا المضطربة فلا ترجع إلى النساء بل تنتقل عند فقد التمييز إلى
ص: 408
...
_____________________________________________
الروايات، وليس لحكم الحيض في العدة أمر يقتضي هذا الحكم، فالأجود الرجوع إلى ما تقرر في بابه.
ومحصّله أنّه مع انضباط الحيض والطهر - بانقطاع الدم على ما دون العشرة أو عادة أو تمييز أو رجوع المبتدئة إلى أهلها - عملت عليه ورتبت حكم العدّة على ما يحكم به طهراً. فإن لم يتّفق ذلك - بأن فقدت المبتدئة الأهل بعد فقد التمييز، أو كانت مضطربة وفقدت التمييز - اعتدّت بالأشهر، وذلك في موضع الأخذ بالروايات. وإنّما حكم هنا باعتدادها بالأشهر دون أن ترجع إلى تعيين الحيض بالرواية التي قد توجب نقصاناً عن الثلاثة أشهر لورود النص هنا برجوعها إلى الأشهر، ففي رواية الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تظهر ثلاثة أشهر، وعدّة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء»(1). ومثلها رواية أبي بصير عنه(علیه السلام)(2).
وليس فيها اعتبار الرجوع إلى النساء مطلقاً، فلا أقل من أن ترجع إلى قاعدة الحيض لا أن يحدث هنا حكم آخر. ويمكن أن يكون حكمة العدول عن الروايات إلى الأشهر انضباط العدة بذلك دون الروايات من حيث إنّها تتخيّر في تخصيص العدد بما شاءت من الشهر، وذلك يوجب كون العدة بيدها زيادةً ونقصاناً، وذلك غير موافق لحكمة العدة.
واعلم أنّ عبارات الأصحاب قد اضطربت في حكم المضطربة في هذا الباب، فقال الشيخ في النهاية ما يقارب عبارة المصنّف هنا من الرجوع إلى عادة الحيض، فإن لم تعرفها فإلى صفة الدم، ومع الاشتباه إلى عادة نسائها (3).
ص: 409
•ولو كانت لا تحيض إلا في ستة أشهر أو خمسة اعتدت بالأشهر.
___________________________________________
وقال ابن إدريس بعد نقله كلام الشيخ:
الأولى تقديم العادة على اعتبار صفة الدم؛ لأنّ العادة أقوى، فإن لم تكن لها نساء لهنّ عادة رجعت إلى اعتبار صفة الدم (1).
فقدم الرجوع إلى النساء على التمييز. وكلّ منهما لم يفرّق بين المبتدئة والمضطربة.
وعبارة العلّامة في القواعد (2)والتحرير (3)مثل عبارة المصنّف والشيخ (4)من غير فرق أيضاً بين المبتدئة والمضطربة. وقال في الإرشاد والمضطربة ترجع إلى أهلها أو التمييز، فإن فقدت اعتدّت بالأشهر(5). فجعل الرجوع إلى الأهل حكم المضطربة ولم يذكر المبتدئة، وكان حقّه العكس، وزاد عطفه التمييز على الأهل ب-«أو» المقتضي للتخيير.
فتلخص في المسألة مذاهب متعدّدة، وليس لها هنا بخصوصها أصل يرجع إليه، وما تقدّم من حكم الحيض (6)ينافي الجميع. والمعتبر من النساء الأقارب من الطرفين أو أحدهما ثمّ الأقران، ومع اختلافهنّ إذا تعددن ما سلف في باب الحيض(7).
قوله: «ولو كانت لا تحيض إلا في ستة أشهر أو خمسة اعتدت بالأشهر».
هكذا اتفقت عبارة المصنّف وجماعة من الأصحاب (8)، ولا وجه للتخصيص بالخمسة والستة، بل الضابط أنّها متى سلم لها ثلاثة أشهر بعد الطلاق لا ترى فيها حيضاً اعتدت بالأشهر.
ص: 410
• ومتى طلقت في أوّل الهلال اعتدّت بثلاثة أشهر أهلة. ولو طلّقت في أثنائه اعتدّت ،بهلالين، وأخذت من الثالث بقدر الفائت من الشهر الأول. وقيل: تُكمله ثلاثين وهو أشبه .
_____________________________________________
وقد دلّ على ذلك رواية زرارة عن الباقر (علیه السلام) قال:«أمران أيهما سبق بانت المطلقة المسترابة تستريب الحيض إن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت به، وإن مرّت بها ثلاث حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض»(1).
وفي رواية أُخرى لزرارة عن أحدهما: «أي الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدّتها إن مرت ثلاثة أشهر لا ترى فيها دماً فقد انقضت عدّتها، وإن مرّت ثلاثة أقراء فقد انقضت عدتها»(2).
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهما السلام) أنّه قال في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّةً أو في ستة أشهر أو في سبعة أشهر: «إنّ عدتها ثلاثة أشهر»(3). وغير ذلك من الأخبار الدالّة على اعتبار سلامة ثلاثة أشهر (4).
لكن يبقى في ذلك ما أسلفناه من أنّ الروايات تقتضي اشتراط سلامة الثلاثة بعد الطلاق من الحيض(5)، فلو وقع الطلاق في أثناء الطهر بحيث لم يبق بعده ثلاثة وإن كان أصله أكثر لا تعتدّ بالأشهر. وعبارة الأصحاب بخلاف ذلك من حيث الإطلاق.
قوله: «ومتى طلقت في أوّل الهلال اعتدت بثلاثة أشهر أهلة». إلى آخره.
المعتبر في الأشهر حيث تكون مرادةٌ للشارع بالهلالية، وعليه تدور المواقيت الشرعيّة.
ص: 411
...
_________________________________________
ثمّ إن انطبق وقوع الطلاق على أوّل الشهر الهلالي فلا إشكال. وإن وقع في أثنائه وانكسر ذلك الشهر اعتبر بعده شهران بالهلالي. وفي إكمال المنكسر ثلاثين، أو جبره بقدر ما فات منه قولان(1) أصحّهما - وهو الذي اختاره المصنّف - الأوّل: لأنّه لمّا لم يتّفق في الشهر الأول كونه هلاليّاً - لأن المراد العدّة بين الهلالين - انتقل إلى الشهر العرفي وهو الثلاثون.
ووجه الثاني أنّ إطلاق الشهر محمول على الهلالي، فإذا فات بعضه أكمل من الرابع بمقدار ما فات فلو فرض كونه تسعة وعشرين يوماً وطلقها وقد مضى منه عشرون يوماً تحتسب بتسعة وتقضي عشرين يوماً من الرابع.
وفي المسألة قول ثالث، وهو انكسار الجميع(2)، فيسقط اعتبار الأهلة فيها ؛ لأنّ المنكسر أولاً يتمّم بما يليه فينكسر أيضاً، والأصحّ ما تقدّم؛ لأنّ الشهرين المتوسّطين يصدق عليهما الاسم بالأهلة فلا يعدل عن ذلك؛ لأنّه الأصل.
وهذا البحث آت في جميع الآجال من السلم والدين المؤجّل والعدة وغيرها. وقد تقدم البحث فيه في السلم مستوفى(3).
واعلم أنّ انطباق الطلاق ونحوه من العقود على أوّل الشهر يتصوّر بأن يبتدئ باللفظ قبل الغروب من ليلة الهلال بحيث يقترن الفراغ منه بأوّل الشهر، لا بابتدائه في أوّل الشهر؛ لأنّه إلى أن يتمّ لفظه يذهب جزء من الشهر وينكسر. ومن جوّز تعليق الطلاق(4) فرضه بأن يعلّقه على انسلاخ الشهر أو بأوّل الشهر الذي يليه ولو وقع في أثناء النهار أو الليل أدخل الباقي منه في الحساب من الساعات وما دونها. وكذا القول في غيره.
ص: 412
تفريع • لو ارتابت بالحمل بعد انقضاء العدّة والنكاح لم يبطل. وكذا لو حدثت الريبة بعد العدة وقبل النكاح.
أما لو ارتابت به قبل انقضاء العدة لم تنكح، ولو انقضت العدّة. ولو قيل بالجواز ما لم يتيقّن الحمل كان حسناً.
وعلى التقديرات لو ظهر حمل بطل النكاح الثاني؛ لتحقق وقوعه في العدّة.
__________________________________________
قوله: «لو ارتابت بالحمل بعد انقضاء العدة والنكاح لم يبطل. وكذا لو حدثت الريبة بعد العدّة وقبل النكاح» إلى آخره.
الارتياب بالحمل يحصل بوجود علامة تفيد الظنّ به كثقل وحركة ونحوهما، فإذا حصل لها ذلك بعد انقضاء العدّة والنكاح لم يؤثّر؛ للحكم بالانقضاء وصحّة النكاح شرعاً فلا يعارض الظن الطارئ. وكذا لو كان بعد انقضاء العدّة وقبل النكاح للحكم بانقضائها شرعاً فلا ينتقض بالشكّ، فيجوز لها النكاح؛ لترتبه على الحكم بانقضاء العدة وقد حصل.
أمّا لو حصلت الريبة قبل انقضاء العدّة فقد قال الشيخ في المبسوط : لا يجوز لها أن تنكح بعد انقضاء العدة إلى أن يتبيّن الحال(1) ؛ لأنّ النكاح مبني على الاحتياط. ورجح المصنّف والعلّامة(2) الجواز ؛ لوجود المقتضي وهو خروج العدة، وانتفاء المانع؛ إذ الريبة لا توجب بذاتها الحكم بالحمل، والأصل عدمه، ومن ثم سقطت نفقتها ورجعتها في الرجعية.
وعلى كل حال لو ظهر حمل محقّق بعد النكاح الثاني حكم ببطلانه؛ لتحقّق وقوعه في العدّة لأنّها في الحامل وضع الحمل، بل هي الأصل لدلالتها على براءة الرحم يقيناً. بخلاف غيرها من الأشهر والأقراء، فإن دلالته ظنّيّة، وإنّما اكتفى الشارع بها لتعذّر تحصيل
ص: 413
الفصل الرابع • في الحامل
وهى تعتدّ في الطلاق بوضعه ولو بعد الطلاق بلا فصل سواء كان تامّاً أو غير تام، ولو كان علقةً، بعد أن يتحقق أنّه حمل ولا عبرة بما يشكّ فيه.
__________________________________________
اليقين كلّ وقت فجعلت بدلاً عن اليقين(1) فإذا حصل الأصل بطل البدل الاضطراري، فبطل النكاح المرتب عليه.
قوله: «في الحامل وهي تعتدّ في الطلاق بوضعه» إلى آخره.
إنّما تنقضي عدّة الحامل إذا وضعت الحمل التام، قال تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(2). ويتحقّق بوضعه بعد الطلاق بتمامه، سواء كان حيّاً أم ميتاً ، تامّاً أو غير تام، إذا تحقّق أنّه مبدأ نشوء آدمى؛ لعموم الآية، ويتحقّق ذلك في مسائل:
إحداها: اعتبار خروجه بأجمعه ، فلا تنقضي بخروج بعضه؛ لأنّه لا تحصل به براءة الرحم، ولا وضع الحمل المضاف إليها. فإذا خرج بعضه منفصلاً أو متّصلاً ولم يخرج الباقي بقيت الرجعة في الرجعية. ولو مات أحدهما ورثه الآخر.
وكذلك يبقى سائر أحكام الجنين كنفي توريثه، وسراية العتق إليه من الأُمّ على القول بها، وإجزائه عن الكفّارة، ووجوب الغرم عند الجناية على الأُمّ، وتبعيته للأُمّ في البيع عند الشيخ(3) ، وفي الهبة وغيرها على قول (4).
الثانية: تنقضي بانفصاله حيّاً وميتاً؛ لصدق وضع الحمل. ويعتبر تحقّق كونه حملاً، فلا يكفي وضعه نطفةً مع عدم استقرارها إجماعاً. ومعه وجهان، من الشكّ في كونه قد صار
ص: 414
...
________________________________________
حملاً، وحكم الشيخ بانقضاء العدّة بها(1) وأطلق. وهو بعيد مطلقاً، والوجهان آتيان في العلقة، وهي القطعة من الدم التي لا تخطيط فيها. ووافق المصنّف وجماعة(2) الشيخ(3) عليها. وهو قريب مع العلم بأنّها مبدأ نشوء آدمي وإلّا فلا ولو أسقطت مضغة كفت، والعلم بها أقرب.
الثالثة: إذا لم تظهر الصورة والتخطيط بكلّ واحدة منهما، ولكن قالت القوابل وأهل الخبرة من النساء: إنّ فيه صورة خفيّة وهي بيّنة لنا وإن خفيت على غيرنا حكم بها، وتنقضي بها العدّة ويثبت النسب وسائر الأحكام. ولو لم يكن فيه صورة ظاهرة ولا خفيّة تعرفها القوابل، ولكن قلن إنّه أصل الآدمي ولو بقي لتصوّر وتخلّق، ففي الاكتفاء به قولان (4). ويظهر من المصنّف الاكتفاء به كما قطع به الشيخ (رحمه الله)(5) لعموم (أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(6). وخصوص رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن(علیه السلام) قال: سألته عن الحبلى إذا طلّقها زوجها فوضعت سقطاً تمَّ أو لم يتم، أو وضعته مضغةً، قال: «كلّ شيء وضعته يستبين أنّه حمل تمَّ أو لم يتمّ فقد انقضت عدتها وإن كانت مضغة»(7).
الرابعة : لا فرق في توقّف انقضاء العدة على وضع الحمل بين طول مدّته وقصرها، فقد
ص: 415
ولو طلّقت فادعت الحمل صبر عليها أقصى الحمل، وهو تسعة أشهر، ثمّ لا تقبل دعواها. وفي رواية سنة. وليست مشهورة.
____________________________________________
تكون لحظةً وقد تكون سنةً كما سبق(1) ؛ لعموم الآية وخصوص الرواية. ولا فرق فيها بير الحرّة ،والأمة، بخلاف الاعتداد بغيره.
وقال ابن بابويه وابن حمزة: تعتدّ بأقرب الأجلين، فإن مضت ثلاثة أشهر ولم تضع خرجت من العدة، وإن وضعت قبل ثلاثة أشهر خرجت أيضاً من العدة(2). وزاد أنّها تبين بمضيّ ثلاثة أشهر لكن ليس لها أن تتزوج إلا بعد وضع الحمل (3).
والمعتمد الأول للآية والرواية.
الخامسة: يشترط في الحمل كونه منسوباً إلى من العدّة منه إما ظاهراً أو احتمالاً. فلو انتفى عنه شرعاً لم يعتد به. وإمكان تولّده منه، بأن يكون فحلاً أو مجبوباً له بقية أو لا معها؛ لما تقدّم من لحوق الحمل به(4) فلو انتفى عنه شرعاً - بأن ولدته تاماً لدون ستة أشهر من يوم النكاح، أو لأكثر وبين الزوجين مسافة لا تقطع في تلك المدة - لم تنقض به العدة. وكذا لا يلحق بالممسوح على الأظهر وإن أمكنت المساحقة في حقّه، لفقد آلات التولد.
قوله: «ولو طلّقت فادعت الحمل صبر عليها أقصى الحمل» إلى آخره.
لما كان المرجع في العدة شرعاً إليها وكان من جملة متعلقاتها الحمل، رجع إليها فيه إذا ادّعته إلى أن تنقضي مدة يعلم انتفاؤه وهو تسعة أشهر على أشهر الأقوال، مع أن المصنّف فيما سبق اختار كون أقصاه عشرة (5).
ص: 416
...
___________________________________________
ومستند الاكتفاء بتسعة أشهر هنا رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن(علیه السلام) قال، قلت له: المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها زوجها ويرتفع حيضها كم عدتها؟ قال: «ثلاثة أشهر». قلت: فإنّها ادّعت الحبل بعد ثلاثة أشهر ، قال: «عدتها تسعة أشهر». قلت: فإنّها ادعت الحبل بعد تسعة أشهر، قال: «إنّما الحبل تسعة أشهر». قلت: تتزوج؟ قال: «تحتاط ثلاثة أشهر». قلت: فإنّها ادعت الحبل بعد ثلاثة أشهر، قال: «لا ريبة عليها تتزوج إن شاءت»(1). مع أنّه قد تقدّم أنّها إذا ارتابت بالحمل تعتد بثلاثة أشهر بعد التسعة (2)فمع دعواها الحبل أولى.
والقول بوجوب تربّصها سنة للشيخ في النهاية(3) ، ووافقه عليه العلّامة في القواعد والمختلف(4)، مع أنهما لا يقولان بأنّ أقصى الحمل سنة إلا هنا.
والمستند صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا إبراهيم(علیه السلام) يقول: «إذا طلق الرجل امرأته فادعت حبلاً انتظر تسعة أشهر، فإن ولدت وإلا اعتدت ثلاثة أشهر ثم قد بانت»(5) وهذه الرواية تدلّ على وجوب التربّص سنة كما سبق في المسترابة(6) ، لا على أنّ أقصى الحمل سنة كما اختاره في القواعد(7) . وعلّل في المختلف بأن الحمل قد يكون سنةً فوجب الصبر إلى أن يتيقن الخروج.
وبالجملة فالقول بوجوب التربص بها سنةً قوي؛ للرواية الصحيحة وقيام الاحتمال. وأما كون مجموع ذلك عدة أو تختصّ العدّة بثلاثة أشهر بعد التسعة - كما ذكروه ووردت
ص: 417
•ولو كان حملها اثنين بانت بالأوّل ولم تنكح إلا بعد وضع الأخير. والأشبه أنّها لا تبين إلا بوضع الجميع.
___________________________________
به الروايات (1)- فلا يخلو من إشكال كما قرّرناه سابقاً (2).
وابن إدريس أنكر الزيادة على التسعة مع الريبة ودعوى الحمل؛ استناداً إلى أن ذلك أقصى الحمل فلا وجه للزيادة عليها باستئناف عدة أخرى (3).
وعذره واضح حيث لا يعتبر الأخبار الواردة في ذلك. والمصنّف وافقه هنا مع دعواها الحمل دون ما لو استرابت وقوفاً مع تلك الأخبار(4) ، ومن ثم خصّ الحكم هناك بانقطاع الدم بعد رؤيته في الثالث(5) ، ومقتضى حكمه هنا اختصاص ذلك الحكم بمورد الرواية خاصةً. وفي الفرق بين المقامين إشكال والروايات السابقة قاصرة عن إفادة الحكم والروايات هنا منها ما هو مؤيد لتلك ومنها ما هو مخالف كما رأيته.
قوله: «ولو كان حملها اثنين بانت بالأوّل ولم تنكح إلّا بعد وضع الأخير» إلى آخره.
القول ببينونتها بالأوّل وتوقف تزويجها على وضع الأخير للشيخ في النهاية(6)؛ استناداً إلى رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل طلق امرأته وهي حبلى وكان في بطنها اثنان فوضعت واحداً وبقي واحد، قال: «تبين بالأوّل ولا تحلّ للأزواج حتى تضع ما في بطنها»(7)، ولأن الحمل صادق على الواحد حالة الانفراد فكذا عند الاجتماع للاستصحاب.
ص: 418
...
_________________________________________
وما اختاره المصنّف من توقّف انقضاء العدّة على وضع الجميع ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف؛ مدعياً فيهما إجماع أهل العلم عدا عكرمة من العامّة(1)، مع أن ابن الجنيد قبله ذهب إلى انقضاء العدة بوضع أحدهما مطلقاً(2). وتبعه على مذهبه في النهاية تلميذه القاضي(3) وابن حمزة (4).
والأصحّ توقف انقضاء العدة على وضع جميع ما في بطنها وإن تعدّد؛ لأنّ الحمل اسم للجميع فقبله يصدق انتفاء وضعه، وإذا صدق انتفاء وضع الحمل كذب وضع الحمل؛ لاستحالة اجتماع النقيضين على الصدق وصدق اسم الحمل على الواحد لا يقتضي البينونة به مع الاجتماع؛ لأنّه تعالى جعل أجل الحوامل أن يضعن حملهنّ(5)، وهو لا يصدق ما دام في الرحم منه شيء، وبهذا فارق المنفرد. ولأنّ العدّة موضوعة لاستبراء الرحم وخلوّه من ولد مظنون فكيف تنقضي العدّة مع بقاء ولد موجود؟! والرواية ضعيفة السند بجماعة.
وتظهر فائدة القولين في الرجعة وموت الزوج قبله والنفقة عليها وغير ذلك من توابع العدة، فعلى قول الشيخ ينتفي جميع ذلك إلا تحريم التزويج، وعلى القول المشهور تصح رجعتها بين التوأمين، وترثه لو مات بينهما، وتلحقها أحكام المعتدة مطلقاً.
واعلم أنّ التوأمين يتحققان بولادتهما فيما دون ستة أشهر، ومتى ولدت الثاني لستة أشهر فصاعداً فهو حمل آخر لا يرتبط بحكم الأوّل، فتنقضي عدتها بوضع الأول. وفي جواز تزويجها قبل وضع الثاني مع كونه لاحقاً بالأوّل نظر، من الحكم بالبينونة المجوّزة للتزويج، ومن إمكان اختلاط النسب حيث تلده لوقت يحتمل كونه لهما. وقد تجوّز العلّامة
ص: 419
•ولو طلق [الحائل ] طلاقاً رجعياً ثم مات في العدة استأنفت عدة الوفاة. ولو كان بائناً اقتصرت على إتمام عدة الطلاق.
________________________________________
في القواعد حيث جعل أقصى المدّة بين التوأمين ستة أشهر (1)، والصواب أن المعتبر في كونهما توأمين ولادتهما لأقل من ستة، وقد تنبه له في التحرير فجعل المعتبر ولادتهما لأقلّ من ستة أشهر(2).
قوله: «ولو طلّق [الحائل] طلاقاً رجعياً ثم مات في العدة استأنفت» إلى آخره.
الوجه في ذلك أن المطلقة بائناً صارت بمنزلة الأجنبية، وأما الرجعية فهي بمنزلة الزوجة، ومن ثمّ يبقى التوارث بينهما ويقع عليها الظهار والإيلاء وغيرهما من أحكام الزوجة، فإذا مات المطلق استأنفت لموته عدة الوفاة ولا تبني على ما مضى من عدة الطلاق.
وقد روي ذلك في أخبار كثيرة منها حسنة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (علیهما السلام) فى رجل طلق امرأته طلاقاً يملك الرجعة ثم مات عنها، قال: «تعتد بأبعد الأجلين أربعة أشهر وعشراً»(3). وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله(علیه السلام) في رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثم مات عنها قبل أن تنقضي عدتها قال: «تعتد أبعد الأجلين عدة المتوفى عنها زوجها»(4) وغيرهما من الأخبار الكثيرة(5) .
ولا إشكال في ذلك على تقدير زيادة عدّة الوفاة على عدة الطلاق كما هو الغالب. أما لو انعكس كعدة المسترابة ففي الاجتزاء فيها بعدّة الوفاة وهي أبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشرة ومن مدة يعلم فيها انتفاء الحمل، أو وجوب إكمال عدّة المطلقة بثلاثة أشهر
ص: 420
فروع:
الأوّل: • لو حملت من زنى ثمّ طلّقها الزوج اعتدت بالأشهر لا بالوضع.
ولو وطئت بشبهة ولحق الولد بالواطئ لبعد الزوج عنها ثمّ طلّقها الزوج اعتدت بالوضع من الواطئ ثم استأنفت عدة الطلاق بعد الوضع.
_____________________________________________
بعد التسعة أو السنة، أو وجوب أربعة أشهر وعشرة بعدها، أوجه، من إطلاق الحكم بانتقالها إلى عدّة الوفاة، ولا دليل فيها على اعتبار ما زاد عن أبعد الأجلين، ثمّ يتّجه فيها الاكتفاء بأربعة أشهر وعشرة ما لم يظهر الحمل؛ لأصالة العدم، ومن أنّ انتقالها إلى عدّة الوفاة انتقال إلى الأقوى والأشدّ فلا يكون سبباً في الأضعف. ووجه الثالث أن التربّص بها مدة يظهر فيها عدم الحمل لا يحتسب من العدّة كما سبق(1)، وإنّما يعتبر بعدها، ومن ثم وجبت للطلاق ثلاثة أشهر ، فتجب للوفاة أربعة أشهر وعشرة.
والحق الاقتصار في الحكم المخالف للأصل على مورده والرجوع في غيره إلى ما تقتضيه الأدلّة، وغايتها هنا التربّص بها إلى أبعد الأجلين من الأربعة أشهر وعشرة والمدّة التي يظهر فيها عدم الحمل، ولا يحتاج بعدها إلى أمر آخر. ودعوى الانتقال هنا إلى الأقوى مطلقاً ممنوع، وإنّما الثابت الانتقال إلى عدة الوفاة كيف اتّفق.
قوله: «لو حملت من زنى ثمّ طلّقها الزوج اعتدت بالأشهر - إلى قوله - بعد الوضع».
وطء الزني لا حرمة له، سواء حملت منه أم لا. ثم إن فرض انتفاؤه عن الفراش لكونه غائباً عنها على وجه ينتفي عنه فطلّقها، اعتدّت من الطلاق بما كانت تعتدّ به لولا الزني، فإن لم يكن لها مع الحمل حيض اعتدت بالأشهر، وإن قلنا بجواز حيضها ووقع اعتدت بالأقراء وبانت بانقضائها وإن لم تضع وجاز لها التزويج حينئذٍ وإن كانت حاملاً. وإطلاق اعتدادها مع الحمل بالأشهر مبني على الغالب، أو على أن الحامل لا حيض لها.
ولو لم تحمل من الزنى اعتدّت للطلاق بالأقراء، واعتبار الزنى ساقط على التقديرين.
ص: 421
...
___________________________________________
وكذا القول فيما لو زنت وهي خالية من بعل وإن حملت فيجوز لها التزويج قبل الوضع ولو لم تحمل فظاهر الفتوى أنّ الحكم كذلك. وقرّب في التحرير أنّ عليها مع عدم الحمل العدّة(1) . ولا بأس به؛ حذراً من اختلاط المياه وتشويش الأنساب.
وأما الموطوءة بالشبهة فعليها العدّة منه، سواء حملت أم لا، وسواء لحق الولد به أم لا. ثمّ إن فرض طلاق الزوج لها اجتمع عليها عدّتان، ولا تتداخلان عندنا؛ لأنّهما حقّان مقصودان لآدميين كالدينين، فتداخلهما على خلاف الأصل.
ثمّ إمّا أن يتقدّم وطء الشبهة على طلاق الزوج، أو يتأخّر عنه، أو يقارنه. وعلى التقادير: إما أن تحمل من وطء الشبهة أو لا. فإن حملت قدّمت عدة الحمل، سواء كان الطلاق متقدّماً أم متأخّراً؛ لأن عدة الحمل لا تقبل التأخّر.
ثمّ إن كان المتقدم وطء الشبهة - وهي مسألة الكتاب - اعتدت بالوضع من الواطئ ثمّ استأنفت عدة الطلاق بعد الوضع بالأقراء أو الأشهر حسب ما يتفق. ثم إن تأخّر النفاس عن
الوضع ولو لحظةً حسب بحيضة للعدّة الثانية، وإن قارن الوضع كان ابتداء العدة بعده.
وإن كان المتقدّم الطلاق انقضت عدة الوط بالوضع وعادت إلى بقية عدة الطلاق بعد الوضع.
ولو لم تحمل من وطء الشبهة وكان المتقدّم هو الطلاق أتمّت عدّته؛ لتقدّمها وقوتها فإنّها تستند إلى عقد جائز وسبب مسوّغ، فإذا فرغت منها استأنفت عدّة الثاني. وللزوج مراجعتها في عدته إن كان الطلاق رجعيّاً. فإن راجعها انقطعت عدته وشرعت في عدة الوطء بالشبهة، وليس للزوج الاستمتاع بها إلى أن تنقضي.
وهل له تجديد نكاحها إن كان الطلاق بائناً؟ فيه وجهان:
أحدهما نعم كما يجوز له رجعتها؛ لأنّها في عدته. ثمّ متى نكحها تسقط عدته وتفسخ عدّة الثاني.
ص: 422
الثاني: • إذا اتّفق الزوجان في زمان الطلاق واختلفا في زمان الوضع كان القول قولها؛ لأنه اختلاف في الولادة، وهي فعلها.
ولو اتفقا في زمان الوضع واختلفا في زمان الطلاق فالقول قوله؛ لأنّه اختلاف في فعله.
وفي المسألتين إشكال؛ لأنّ الأصل عدم الطلاق وعدم الوضع، فالقول قول .
_______________________________________________
والثاني: لا ؛ لأنه نكاح لا يتعقبه الحلّ، ويخالف الرجعة، فإنها إمساك بحكم الدوام فلا يشترط أن يستعقب الحلّ، كما أنّ ابتداء نكاح المحرمة والمعتدة لا يجوز، فإذا عرض الإحرام والعدّة في الدوام لم يرتفع النكاح.
ويضعف بأنّه لا يلزم من عدم تعقب الحلّ لعارض العدة بطلان العقد، كما يتّفق ذلك في العقد على الحائض والصغيرة التي لا يباح وطؤها.
ولو كان المتقدم هو الوطء بالشبهة، فإن قلنا: إنّ عدّته من حين الوطء، أو كان بعد الشروع فيها إن قلنا إنّها من حين انجلاء الشبهة ففي الاستمرار على عدة الواطئ ثمّ الاعتداد بها للطلاق بعدها تقديماً للسابق، أو تقديم عدة الطلاق ثمّ تعود إلى بقيّة عدّة الشبهة؛ لقوة سبب عدة الطلاق، وجهان أجودهما الأول. وإن كان قبل الشروع في عدة الشبهة قدّمت عدّة الطلاق؛ لقوتها كما لو اقترنا.
ثمّ إن قلنا بتقديم عدة الوطء فللزوج الرجعة في الطلاق الرجعي إذا اشتغلت بعدته. وهل له الرجعة قبل ذلك؟ وجهان، أجودهما المنع، فلا يجوز تجديد نكاحها في عدّة الشبهة إذا كان الطلاق بائناً؛ لأنّها في عدّة الغير.
وإن قلنا بتقدم عدّة الطلاق فتشرع فيها كما طلّقها، فإذا أتمّت عادت إلى بقيّة عدة الشبهة. وللزوج الرجعة في عدّته إن كان الطلاق رجعيّاً. وهل له تجديد النكاح إذا كان بائناً؟ الوجهان السابقان.
قوله: «إذا اتفق الزوجان في زمان الطلاق - إلى قوله - فالقول قول من ينكر هما».
إذا ولدت المرأة وطلقها زوجها ثم اختلفا فقال الزوج طلقتك بعد الولادة فأنت في العدّة
ص: 423
من ینکرها.
_______________________________________________
ولي الرجعة، وقالت المرأة بل طلّقتني قبل الولادة وانقضت عدّتي بالوضع، أو انعكس فقال: طلّقتك قبل الولادة وقد انقضت عدّتك فلا نفقة لك عليّ، وقالت: بل بعدها فالعدّة باقية ولي النفقة. نظر إن اتّفقا على وقت الولادة كيوم الجمعة وقال: طلقتك يوم السبت، فقالت: بل يوم الخميس فهو المصدّق بيمينه؛ لأنّ الطلاق بيده فيصدّق في وقته كما يصدق في أصله، ولأنّ الأصل عدم الطلاق يوم الخميس وإن انعكس قدم قوله أيضاً للعلة الأولى وإن عارضتها الثانية.
وإن اتّفقا على وقت الطلاق كيوم الجمعة واختلفا في وقت الولادة فقال: ولدت يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت، فهي المصدّقة بيمينها؛ لأنّ القول في أصل الولادة قولها فكذلك في وقتها، ولأن الأصل عدم الولادة يوم الخميس. ولو انعكس قدم قولها أيضاً للعلّة الأولى.
هكذا أطلق الشيخ(1) وجماعة(2). والمصنف استشكل في حكم المسألتين على الإطلاق. و محصّل الاشكال أن مجرّد كون الفعل من المدّعي مع معارضة الأصل غير كافٍ في تقديم قوله؛ لأنّ الأصل قاعدة يرجع إليها في الأحكام الشرعيّة، بخلاف تقديم قول مدعى الفعل. وحينئذ فاللازم تقديم قول من يدّعي تأخر الفعل من الطلاق والوضع، سواء كان المدّعي هو الفاعل أم غيره، فيقدّم قوله في الأولى دون عكسها، وقول المرأة في الثانية دون عكسها. وهذا هو الوجه.
ولو لم يتّفقا على الوقتين بل ادّعى أحدهما تقدّم الولادة والآخر العكس تعارض الأصل في عدم تقدّم كلّ منهما، ويبقى معه - على تقدير كونه المدعي لتأخر الطلاق - بقاء سلطنة
ص: 424
الثالث: • لو أقرّت بانقضاء العدّة ثمّ جاءت بولد لستة أشهر فصاعداً منذ طلقها، قيل: لا يلحق، والأشبه التحاقه ما لم يتجاوز أقصى الحمل.
__________________________________________
النكاح فيقدم قوله بيمينه ومعها - على تقدير دعواها تأخره - أصالة بقاء حقوق الزوجية من النفقة وشبهها.
ولو ادّعت تقدّم الطلاق فقال: لا أدري لم يقنع منه بذلك، بل إمّا أن يحلف يميناً جازمة على أنّ الطلاق لم يتقدّم، أو ينكل فتحلف هي ويجعل الزوج بقوله: لا أدري منكراً، فيعرض عليه اليمين، فإن أعاد كلامه الأوّل جعل ناكلاً فتحلف. ولو لم يفعل ذلك لم يعجز المدّعى عليه في الدعاوي كلّها عن الدفع بهذا الطريق. وإذا حلفت المرأة فلا عدّة عليها ولا رجعة للزوج، وإن نكلت فعليها العدّة لا للنكول، بل لأنّ الأصل بقاء النكاح وآثاره، فيعمل بهذا الأصل إذا لم يظهر دافع.
وإن جزم الزوج بتقدّم الولادة وقالت هي: لا أدري فله الرجعة، ولا يقنع منها بقولها: لا أدري والورع أن لا يراجعها. وكذا الحكم لو قالا جميعاً: لا ندري السابق منهما. وليس لها أن تنكح حتى تمضي ثلاثة أقراء.
قوله: «لو أقرّت بانقضاء العدة، ثم جاءت بولد لستة أشهر» إلى آخره.
القول بعدم لحوقه بالمطلق للشيخ في المبسوط (1)؛ لأنّ قول المرأة مقبول في انقضاء العدة بما يمكن صدقه كما مرّ(2)، والحكم بانقضائها يقتضي انتفاء الولد؛ إذ لو كان لاحقاً به لما انقضت العدّة قبل وضعه، مضافاً إلى إمكان تجدّده بعدها؛ لأنّ التقدير مضيّ أقلّ الحمل من حين الطلاق، وأصالة عدم التقدّم، فلا يقبل منها دعوى ما ينافي إقرارها السابق، ولأنّ إقرارها بانقضاء العدة صحيح ظاهراً، فلا يبطل بأمر محتمل.
ووجه ما اختاره المصنّف من التحاقه به ما لم يتجاوز أقصى الحمل أنّها كانت فراشاً
ص: 425
...
_______________________________________________
والولد يمكن أن يكون منه، ولا معارض له يساويه؛ لأنّ الفرض أنها لم تتزوج بحيث يمكن إلحاقه بالثاني فيكون للأوّل، كما لو لم تخبر بانقضاء العدة، فإنّه يلحق به إجماعاً فكذا هنا؛ لأنّ إخبارها لا يرفع الحق الثابت للفراش المشترك بين الأبوين والولد.
وإطلاقه مجيء الولد للمدة المذكورة منذ طلاقهما يشمل ما لو كانت العدّة رجعيّةً وبائنةً. وهو أحد القولين في المسألة. وفي قول آخر يفرّق بين العدّتين، فيخص توقيته بالطلاق بالبائنة، وأمّا الرجعيّة فتحتسب المدة من حين انقضاء العدة؛ لأنّ المعتدة رجعية بمنزلة الزوجة، ومن ثمّ يبقى التوارث وغيره من أحكامها، فيبقى الفراش معها. والأوّل اختيار الشيخ في المبسوط(1) والعلّامة في القواعد(2)، والثاني اختياره في التحرير(3). ووجه الأوّل أن الطلاق هو المزيل للنكاح فيحرم وطؤها بغير الرجعة، فتكون كالبائنة في النكاح.
واعلم أن إطلاق المصنّف وغيره احتساب المدة من حين الطلاق يستلزم كون أقصى الحمل أكثر ممّا فرض أنّه أقصاه، لتقدّم العلوق على الطلاق؛ لأنّ المعتبر كونه في الفراش وهو متقدم على الطلاق، وأيضاً فإن الطلاق لا يصح إلا فى وقت متأخّر عن الوطء بمقدار ما ينتقل من الطهر الذي أتاها فيه إلى غيره أو ما يقوم مقامه من المدة، وذلك يوجب زيادة الأقصى بكثير. فينبغي أن يقال: إن المعتبر هو آخر أوقات إمكان العلوق في زمن الفراش قبل الطلاق. وهذا هو المراد، ولكن إطلاقهم فيه تساهل.
وحيث يلحق به الولد يحكم ببقاء عدتها إلى حين وضعه وإن كان قد حكم بالبينونة ظاهراً، فلو كانت العدّة رجعيّة فله الرجعة زمن الحمل؛ لأن ذلك لازم لحوق الولد به.
ثمّ على تقدير ولادته لأزيد من أقصى الحمل إنّما ينتفي عنه حيث لا يدّعي ما يوجب
ص: 426
الفصل الخامس في عدة الوفاة
•تعتد الحرّة المنكوحة بالعقد الصحيح أربعة أشهر وعشراً إذا كانت حائلاً، صغيرةً كانت أو كبيرة، بالغاً كان زوجها أو لم يكن، دخل بها أو لم يدخل. وتبين بغروب الشمس من اليوم العاشر ؛ لأنّه نهاية اليوم.
________________________________________________
إلحاقه به، فلو كان الطلاق رجعيّاً فادعت أنّ الزوج راجعها، أو أنه جدد نكاحها، أو أنّه وطئها بشبهة وأنها ولدت على الفراش المجدّد، نظر إن صدقها الزوج ألزم موجب إقراره، فعليه المهر في التجديد والنفقة والسكنى في الرجعة والتجديد، ويلحقه الولد بالفراش.
وإن أنكر استحداث فراش فهو المصدّق بيمينه وعليها البينة. وإذا نكل حلفت وثبت النسب إلّا أن ينفيه باللعان. فإن لم تحلف أو نكلت فهل يحلّف الولد إذا بلغ ؟ فيه وجهان أجودهما ذلك إن فرض علمه وإن بعد.
وإن سلّم الفراش الجديد ولكن أنكر ولادتها وادّعى أنها التقطته أو استعارته صدّق بيمينه، وعليها البينة على الولادة. فإن نكل حلفت وثبتت الولادة والنسب بالفراش إلّا أن ينفيه باللعان، وتنقضي العدّة بوضعه. وإن حلف الرجل على النفي ولم يثبت ما ادّعته - لأنّها تزعم أنّ الولد منه - فكان كما لو نفى الرجل حملها باللعان، فإنه وإن انتفى الولد تنقضي العدّة بوضعه؛ لزعمها أنّه منه.
وإن ادّعت على الوارث بعد موت الزوج أنّ الزوج قد كان راجعها أو جدد نكاحها، فإن كان واحداً فالحكم كما لو ادّعت على الزوج، إلّا أن الوارث يحلف على نفي العلم، وإلا أنّه إذا ثبت النسب لم يكن له نفيه باللعان. وإن كان اثنان وادّعت عليهما، فإن صدقاها، أو كذبا وحلفا، أو نكلا فحلفت فكما مرّ. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر وحلف ثبت المهر والنفقة بنسبة حصّة المصدق، ولا يثبت النسب إلا أن يكون المصدّق عدلين.
قوله: «تعتدّ الحرّة المنكوحة بالعقد الصحيح أربعة أشهر وعشراً» إلى آخره.
ص: 427
...
___________________________________________
إذا مات زوج المرأة لزمتها عدة الوفاة بالنصّ(1) والإجماع، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)(2). وكانت العدة في ابتداء الإسلام سنةً على ما قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا وَصِيَّةٌ لأَزْوَجِهِم مَّتَنَعًا إِلَى الْحَوْلِ )(3) ثم نسخت. ويستوي في عدّة الوفاة الكبيرة والصغيرة، وذات الأقراء وغيرها، والمدخول بها وغيرها الدائم والمستمتع بها؛ أخذاً بعموم الآية الشامل لذلك كلّه.
وإنّما خصّص الله تعالى غير المدخول بها بفرقة الطلاق فقال: «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»(4)، ولأنّ عدّة الوفاة لو شرط فيها الدخول لم يؤمن أن تنكر الدخول حرصاً على الأزواج، وليس هنا من ينازعها، فيفضي الأمر إلى اختلاط المياه، و في المطلقة صاحب الحقّ حيّ ينازع فلا يتجاسر(5) على الإنكار. وأيضاً ففرقة الموت لا اختيار فيها فأمرت بالتفجّع وإظهار الحزن لفراق الزوج، ولذلك وجب فيه الحداد وفرقة الطلاق تتعلّق باختيار المطلق وقد جفاها بالطلاق فلم يكن عليها إظهار التفجع والحزن وأيضاً فالمقصود الأعظم في عدة الطلاق تعرف براءة الرحم، ولذلك اعتبرت بالأقراء، وفي عدّة الوفاة المقصود الأعظم حفظ حقّ الزوج ورعاية حرمة النكاح، ولذلك اعتبرت بالشهور التي لا تقوى دلالتها على البراءة.
وأما ما روي في شواذّ أخبارنا من عدم وجوب العدّة على غير المدخول بها (6)فهو - مع
ص: 428
...
_______________________________________
ضعف سنده - معارض بما هو أجود سنداً وأوفق لظاهر القرآن(1) وإجماع المسلمين.
إذا تقرر ذلك فهنا مباحث :
الأوّل: الحكم باعتدادها بالمدة المذكورة مختصّ بالزوجة الحرّة الحائل، فلو كانت أمةً أو حاملاً فاعتدادها على وجه آخر يأتي(2). وعموم الآية(3) وإن كان متناولاً لهما إلا أنّه مخصوص بدليل من خارج سنشير إليه إن شاء الله تعالى (4).
الثاني: العشرة المعتبرة في العدة هي عشر ليالٍ مع أيامها، وإن كانت الأيام غير داخلة في لفظة العشر المجرّدة عن التاء على المشهور في اللغة ، ودخولها معها ثابت بالإجماع. وقد قال بعض أهل العربية: إنّ دلالة الهاء على المذكر وعدمها على المؤنث حيث يكون العدد مفسّراً(5) ، فيقال: عشرة أيام وعشر ليال، ومنه قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَنِيَةَ أَيَّامٍ)(6). أما مع إطلاق العدد وعدم التفسير فلا يدلّ على ذلك، وجاز تناوله للمذكر والمؤنث. كما روي من قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) :«من صام رمضان وأتبعه بست من شوّال فكأنما صام الدهر »(7).
الثالث: تعتبر مدّة العدّة بالهلال ما أمكن، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي وكان الباقي منه أكثر من عشرة أيام فتعتدّ ما بقي، وتحسب ثلاثة أشهر عقيبه بالأهلة،وتكمل ما بقي من شهر الوفاة ثلاثين من الشهر الواقع بعد الثلاثة، وتضم إليها عشرة أيام، فإذا انتهت
ص: 429
•ولو كانت حاملاً اعتدت بأبعد الأجلين، فلو وضعت قبل استكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام صبرت إلى انقضائها.
_________________________________________
إلى الوقت الذي مات فيه الزوج يوم مات فقد انتهت العدّة. وإن كان الباقي أقلّ من عشرة أيام فتعده، وتحسب أربعة أشهر بالأهلة عقيبه، وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس. وإن كان الباقي عشرة بلا زيادة ولا نقصان اعتدت بها، وتضمّ إليها أربعة أشهر بالأهلة. وفي عد المنكسر ثلاثين، أو الاكتفاء بإكمال ما فات منه خاصّة، ما تقدم في نظائره من الخلاف(1) .
وإن انطبق الموت على أوّل الهلال حسبت أربعة أشهر بالأهلة، وضمّت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس ولو كانت محبوسةً لا تعرف الهلال ولا تجد من يخبرها ممن يعتد بقوله، اعتدت بالأيام وهي مائة وثلاثون يوماً.
قوله: «ولو كانت حاملاً اعتدت بأبعد الأجلين» إلى آخره.
ما تقدم (2)من اعتداد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً حكم الحائل إجماعاً، وأمّا إذا كانت حاملاً فعندنا أن عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل، وانقضاء أربعة أشهر وعشر.
والوجه في ذلك - بعد إجماع أصحابنا عليه - الجمع بين عموم الآيتين في قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)(3) وقوله: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(4)، فقد دخلت الحامل تحت عامين فامتثالها للأمر فيهما يحصل باعتدادها بأبعد الأجلين، مع أن ظاهر آية «وَأُوْلاتُ الْأَحْمَالِ» ورودها فى المطلقات فلا معارض لعموم الأخرى. ويبقى فيها أنّه مع مضي المدّة من غير أن تضع لو انقضت عدتها للوفاة - مع أنّها لا تقضي في الطلاق بدون الوضع - لزم أن تكون عدّة الوفاة أضعف من عدة الطلاق، والأمر بالعكس كما يظهر من زيادة مدتها حيث تعتبر المدّة ومن
ص: 430
ويلزم المتوفى عنها الحداد، وهو ترك ما فيه زينة من الثياب والادهان المقصود بهما الزينة والتطيب ولا بأس بالثوب الأسود و الأزرق؛ لبعده عن شبه الزينة.
_______________________________________________
شدّة أمرها وكثرة لوازمها، فتكون مراعاة الوضع على تقدير تأخره عن الأربعة الأشهر والعشر أولى منه في الطلاق الثابت بالإجماع.
ويدلّ عليه بالخصوص الروايات الواردة بذلك عن أهل البيت(علیهم السلام)، كرواية زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «عدّة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين؛ لأنّ عليها أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وليس عليها في الطلاق أن تحدّ»(1). وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنّه قال في المتوفى عنها زوجها: «تنقضي عدتها آخر الأجلين»(2).
وخالف في ذلك العامة، فجعلوا عدّتها وضع الحمل كالطلاق ولو بعد لحظة من موته(3)، وجعلوا آية (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ)(4) عامة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، ومخصصة للآية، الأخرى(5). ورووا أن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال السبيعة الأسلمية وقد ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر:«حللت فانكحي من شئت»(6). وقد عرفت ما في الآية، والرواية لم تثبت.
قوله: «ويلزم المتوفى عنها الحداد - إلى قوله - بائنة كانت أو رجعيّة».
الحداد فعال من الحد، وهو لغةً: المنع، يقال: أحدّت المرأة تحد إحداداً، وحدت تحدّ حداداً، أي منعت نفسها من التزين(7).
ص: 431
ويستوي في ذلك الصغيرة والكبيرة، والمسلمة والذمية. وفي الأمة تردّد أظهره أنه لا حداد عليها.
ولا يلزم الحداد المطلقة، بائنةً كانت أو رجعيّةٌ.
_______________________________________
والأصل في وجوب الحداد على المرأة في عدة الوفاة - وراء الإجماع - قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا تحدّ المرأة فوق ثلاث إلا على زوج، فإنّها تحدّ أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار»(1). وعن أُمّ سلمة (رضي الله عنها) أنّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب ولا تكتحل»(2).
والعصب: ضرب من برود اليمن، ويقال: هو ما صبغ غزله قبل أن ينسج(3). والنبذ: الشيء اليسير، يقال: ذهب ماله وبقي نبذ منه، وأصاب الأرض نبذ من مطر أي شيء يسير (4)، وأدخل فيه الهاء؛ لأنّه نوى القطعة. وقوله «من قسط أو أظفار» قد يروى هذا على الشك والتخيير، ويروى «من قسط وأظفار»(5) وهما نوعان من البخور (6). والمعنى لا تمسّ طيباً إلا إذا طهرت من الحيض تمسّ يسيراً منهما لقطع الروائح الكريهة.
والممشقة: المصبوغة بالمشق - بكسر الميم - وهو المغرة بفتحها (7)، ويقال : شبه المغرة وهي الطين الأحمر(8)، وقد تحرّك الغين.
ص: 432
...
_____________________________________
ومن طريق الخاصّة صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها، قال: «لا تكتحل للزينة، ولا تطيب ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، ولا تبيت عن
بيتها، وتقضي الحقوق، وتمتشط بغسلة، وتحج وإن كانت في عدّتها»(1).
إذا تقرّر ذلك فالمراد من الحداد ترك لبس ما فيه زينة في الثوب واستعماله في البدن كلبس الثوب الأحمر والأخضر ونحوهما من الألوان التي يتزين بها عرفاً، دون الأسود والأزرق الذي لا يتخذ عادة إلا لمصيبة أو دفع وسخ، إلّا أن يعتاد للزينة بحسب المكان والوقت. ومثله المنقوش والفاخر والتحلّي بلؤلؤ ومصوغ من ذهب وفضة ومموه بهما وغيرهما مما يعتاد التحلّي به. والتطيب في الثوب والبدن ولو بالادهان. والخضاب بالحنّاء ونحوه فيما ظهر من البدن كالرأس واليدين والرجلين، وبالسواد في الحاجبين، والإسفيداج في الوجه. والاكتحال بالإثمد وما فيه زينة لغير ضرورة، ومعها فتكتحل ليلاً وتمسحه نهاراً.
ولا بأس بتجميل فراش تفرشه (2)ونطع ووسادة ونحوها، وتجميل أثاث وهو متاع البيت من الفرش والستور وغيرها؛ لأن الإحداد في البدن لا في الفراش والمكان.
وكذا يجوز التنظيف والغسل وقلم الظفر وإزالة الوسخ والامتشاط والحمام والاستحداد؛ لأنّ جميع ذلك ليس من الزينة المعتادة وكذا لا بأس بتزيين أولادها وخدمها.
بقي في المقام أمور:
الأوّل: الحكم مختص بالزوجة فلا يتعدّى إلى غيرها من أقارب الميت وبناته ولا إلى إمائه وإن كنّ موطوءات أو أمّهات أولاد؛ للأصل، ولأنّ الإحداد إظهار الحزن على الزوج وما فات من عصمة النكاح، وهو مفقود فيمن ذكر.
الثاني: لا فرق في الزوجة بين الكبيرة والصغيرة، والمسلمة والكافرة، المدخول بها
ص: 433
...
___________________________________________
وغيرها؛ لعموم الأدلة(1) . والتكليف في الصغيرة متعلّق بالوليّ، فعليه أن يجنبها ما تتجنّبه الكبيرة من الأمور المعتبرة في الحداد. ومثلها المجنونة.
وهل يفرّق فيه بين الحرّة والأمة؟ قال الشيخ في المبسوط : لا؛ لعموم الأدلة(2). والأقوى ما اختاره المصنّف من عدم وجوبه على الأمة؛ لصحيحة زرارة عن الباقر(علیه السلام): «إنّ الحرّة والأمة كلتاهما إذا مات زوجها سواء في العدة، إلا أنّ الحرّة تحد والأمة لا تحدّ»(3). وهو خيرة الشيخ أيضاً في النهاية (4).
الثالث: الحكم مختص بالمعتدة للوفاة، فالمطلقة لا حداد عليها.
أمّا الرجعيّة فلبقاء أحكام الزوجية فيها وتوقع الرجعة، بل الأولى لها التزين بما يتوقع به رغبة الزوج في رجعتها. ويؤيّده رواية زرارة عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المطلقة تكتحل و تختضب وتطيب وتلبس ما شاءت من الثياب؛ لأنّ الله تعالى يقول:(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (5)لعلّها أن تقع في نفسه فيراجعها»(6).
وأما البائن؛ فلأنّها مجفوة(7) بالطلاق فلا يلائمها التكليف بما يقتضي التفجع على الزوج والحزن، بخلاف المتوفى عنها زوجها.
الرابع: لو تركت الواجب عليها من الحداد عصت. وهل تنقضي عدتها، أم يجب عليها
ص: 434
...
______________________________________
الاستئناف بالحداد؟ قولان(1) أشهرهما الأول؛ للأصل، وعدم المنافاة بين المعصية لله تعالى وانقضاء العدّة، فتدخل في عموم الأدلة الدالة على انقضاء العدّة بعد المدة المضروبة(2). ولعموم قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (3).
وقال أبو الصلاح(4)، والسيد الفاخر شارح الرسالة(5) :
لا يحتسب من العدّة ما لا يحصل فيه الحداد من الزمان، للإخلال بمراد الشارع فلم يحصل الامتثال ويجب الاستئناف وهو نادر
الخامس: لا يجب الحداد على غير الزوج من الأقارب ولا يحرم، سواء زاد على ثلاثة أيام أم لا: للأصل. وحرّم بعض العامّة الحداد على غير الزوج زيادة على ثلاثة أيام(6): لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً»(7).
ويمكن أن يستدل به على كراهة ما زاد على الثلاثة؛ للتساهل في أدلة الكراهة كالسنة
بخلاف التحريم؛ لتوقفه على ثبوت الخبر.
ص: 435
•ولو وطئت المرأة بعقد الشبهة ثمّ مات اعتدت عدة الطلاق، حائلاً كانت أو حاملاً، وكان الحكم للوطء لا للعقد؛ إذ ليست زوجةً.
تفريع : • لو كان له أكثر من زوجة فطلق واحدةً لا بعينها، فإن قلنا: التعيين شرط فلا طلاق، وإن لم نشترطه ومات قبل التعيين فعلى كل واحدة الاعتداد بعدة الوفاة؛ تغليباً لجانب الاحتياط، دخل بهنّ أو لم يدخل. ولو كنّ حوامل اعتددن بأبعد الأجلين.
وكذا لو طلّق إحداهنّ بائنا ومات قبل التعيين، فعلى كلّ واحدة الاعتداد بعدة الوفاة.
ولو عين قبل الموت انصرف إلى المعينة، وتعتد من حين الطلاق لا من حين الوفاة. ولو كان رجعيّاً اعتدت عدة الوفاة من حين الوفاة.
_____________________________________________
قوله: «ولو وطئت المرأة بعقد الشبهة ثمّ مات اعتدت عدة الطلاق» إلى آخره.
لما كان الحكم في النصوص معلقاً على الزوجة والمراد منها المنكوحة بالعقد الصحيح لم يتعد إلى غيرها؛ عملاً بالأصل، وإن كان بصورته كالمعقود عليها عقداً فاسداً أو وطئت بالشبهة. وإن وجبت العدّة فإنّما تجب للوطء، فلو فرض موته ثم علمها بالحال اعتدّت للوطء عدة الطلاق لا للعقد؛ إذ ليست زوجةً، ولا يترتب عليها حكم الزوجة من كمّيّة عدة الوفاة وما يتعلّق بها من الحداد للأصل، وانتفاء الحكمة المقتضية له. وأولى منها المعتدة لمجرّد وطء الشبهة من غير عقد.
قوله: «لو كان له أكثر من زوجة فطلق واحدة لا بعينها - إلى قوله - من حين الوفاة».
(أقول:)(1) إذا طلق إحدى زوجاته ومات قبل أن يعين المطلقة وقلنا بصحته، أو عينها في نفسه وأبهمها في اللفظ ومات قبل أن يعيّن، فإن لم يكن ممسوسات فعليهن الاعتداد بعدّة
ص: 436
...
__________________________________________
الوفاة؛ لأنّ كلّ واحدة يحتمل أن تكون مفارقة بالموت كما يحتمل أن تكون مطلقة، فلابد لكل واحدة من الاحتياط بعدة الوفاة؛ لأنّها هي الاحتياط هنا مطلقاً؛ إذ لا عدة على المطلقة.
وإن كن ممسوسات، فإن كن من ذوات الأشهر فكذلك؛ لأنّ كلّ واحدة بين أن يلزمها ثلاثة أشهر وبين أن يلزمها أربعة أشهر وعشر فيجب الأكثر. وإن كنّ حوامل اعتددن بأبعد الأجلين. وإن كنّ من ذوات الأقراء وكانت المطلقة واحدةً بعينها مبهمة في اللفظ، فعلى كلّ واحدة الاعتداد بأقصى الأجلين من عدة الوفاة، ومن ثلاثة من أقرائها؛ لأنها إن كانت مطلقة فعليها الأقراء، وإن كانت مفارقةً بالموت فعليها عدة الوفاة، فتطلب يقين البراءة.
تمّ الأقراء تحسب من وقت الطلاق، وعدة الوفاة من وقت الوفاة، حتّى لو مضى قرء من وقت الطلاق ثمّ مات الزوج فعليها الأقصى من عدة الوفاة، ومن قرءين من أقرائها حيث يعتبر الأقراء ولو مضى قرءان ثم مات الزوج فعليها الأقصى من عدة الوفاة ومن قرء.
وإن كان قد أبهم الطلاق ومات قبل التعيين فيبنى على أنّه لو عيّن وقع الطلاق من وقت التلفظ أو من وقت التعيين. وقد تقدّم الكلام فيه(1). فإن قلنا بوقوعه من وقت التلفّظ فالحكم كما ذكر فيما لو أراد واحدةً بعينها. وإن قلنا من وقت التعيين فوجهان:
أحدهما: أن عليها الاعتداد بأقصى الأجلين أيضاً، لكن الأقراء هنا تحسب من يوم الموت أيضاً؛ لأنّ بالموت حصل اليأس من التعيين.
والثاني: أنّ كلّ واحدة تعتد عدة الوفاة؛ لأنا نفرّع على أن الطلاق يقع بالتعيين فإذا لم يعيّن فكأنه لم يطلق. والأول أقوى.
ولو اختلف الحال فكانت واحدة ممسوسةً وأُخرى غير ممسوسة أو واحدة حاملاً والأخرى غير حامل، روعي في كلّ واحدة قضية الاحتياط في حقها كما تبين.
واعلم أنّ كلّ موضع نأمرها بالاعتداد من حين الطلاق فالمراد به في الطلاق البائن،
ص: 437
• والمفقود إن عرف خبره أو أنفق على زوجته وليه فلا خيار لها ولو جهل خبره ولم يكن من ينفق عليها، فإن صبرت فلا بحث، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أجلها أربع سنين وفحص عنه، فإن عرف خبره صبرت، وعلى الإمام أن ينفق عليها من بيت المال. وإن لم يعرف خبره أمرها بالاعتداد عدة الوفاة ثمّ تحلّ للأزواج.
____________________________________
أما لو كان رجعيّاً انتقلت إلى عدة الوفاة بموت الزوج، وهي في العدة كما سيأتي(1).
وقول المصنف «وتعتد من حين الطلاق لا من حين الموت» فيه اختيار أنّ طلاق غير المعينة يقع مع التعيين من حين الطلاق كما هو أحد القولين(2)، أو يختص بمن عينها في نفسه مع إبهامه لها في اللفظ، فإنّه لا إشكال في أن تبينها يوجب طلاقها من حين الطلاق.
وقوله «لا من حين الوفاة» لا فائدة فيه مع التعيين كما هو سياق العبارة؛ إذ لا خلاف في أنّه مع التعيين يقع الطلاق قبل الوفاة من حين التعيين أو حين الطلاق، وإنّما يحسن هذا التنبيه على تقدير اعتدادهنّ بالأقراء لو كان قد مضى منها قبل الوفاة قرء أو قرءان، فقد تقدّم أنّها مع بقاء الإيهام تعتدّ بأبعد الأجلين من تمام الأقراء وعدة الوفاة(3).
ولبعض العامة وجه أنّها تحسب من وقت الموت لا غير؛ لأنهما يشبهان الزوجين إلى حين الموت، فتكون الأقراء كلّها بعد الموت(4) .
ولو قال المصنف : وتعتد من حين الطلاق لا من حين التعيين - كما عبر الشيخ(5) - كان أجود.
قوله: «والمفقود إن عرف خبره أو أنفق على زوجته وليه فلا خيار لها» إلى آخره.
ص: 438
...
_____________________________________________
الغائب عن زوجته إن لم ينقطع خبره وكان يأتي كتابه أو يعرف مكانه فنكاحه على زوجته مستمر. وينفق الحاكم عليها من ماله إن كان له مال يصل إليه. وإلّا كتب إلى حاكم بلده ليطالبه بحقّها. فإن تعذر ذلك أنفق عليها من بيت المال إن لم يكن له من ينفق عليها.
وإن انقطع خبره وكان له من ينفق عليها وجب عليها التربص إلى أن يحضر أو تثبت وفاته أو ما يقوم مقامها. وإن لم يكن له وليّ ينفق عليها ولا متبرع فإن صبرت فلا بحث وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أجلها أربع سنين من حين رفع أمرها إليه، وبحث عنه في الجهة التي فقد فيها إن كانت معيّنة، وإلّا ففي الجهات الأربع حيث يحتمل كونه فيها، وأنفق عليها في هذه المدّة من بيت المال إن اتّفق. فإن لم يعرف خبره في هذه المدة أمرها الحاكم أن تعتدّ عدّة الوفاة، ثمّ تحلّ بعدها للأزواج.
وظاهر المصنف أنّه يأمرها بالاعتداد بغير ،طلاق، وهو الذي اختاره الشيخان(1) وجماعة(2). ووجهه أنّ الظاهر من حاله بعد البحث المذكور كونه قد مات فيحكم الحاكم بموته ويأمرها بالاعتداد كما يحكم به بمثل الشياع؛ لأنّ هذا البحث في معناه. ولأن العدّة عدة وفاة فلا وجه للطلاق، وإلا لكانت عدة طلاق.
ويؤيده رواية سماعة قال: سألته عن المفقود، وذكر أنّها تعتد - بعد تطلبه من الامام أربع سنين - أربعة أشهر وعشراً إذا لم يوجد له خبر، الحديث(3).
وذهب جماعة من المتقدمين والمتأخّرين(4) ، إلى أنّ الحاكم بعد ذلك يطلقها إن لم يكن
ص: 439
...
_____________________________________________
له ولي وإلّا أمره بالطلاق؛ لدلالة الأخبار الكثيرة عليه، كصحيحة عمر بن أذينة عن بريد بن معاوية العجلي قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام)عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ قال: «ما سكتت عنه وصبرت فخلّ عنها، وإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين، ثمّ يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه فيسأل عنه، فإن خبّر عنه بحياة صبرت، وإن لم يخبّر عنه بحياة حتى تمضي الأربع سنين دعا ولي الزوج المفقود فقيل له : هل للمفقود مال؟ فإن كان له مال أنفق عليها حتى تعلم حياته من موته، وإن لم يكن له مال قيل للولي أنفق عليها، فإن فعل فلا سبيل لها إلى أن تتزوّج ما أنفق عليها، وإن أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقةً في استقبال العدة وهي طاهر، فيصير طلاق الوليّ طلاق الزوج، فإن جاء زوجها قبل أن تنقضي عدتها من يوم طلقها الولي فبدا له أن يراجعها فهي امرأته، وهي عنده على تطليقتين، وإن انقضت العدة قبل أن يجيء ويراجع فقد حلّت للأزواج، ولا سبيل للأول عليها»(1). وروى الكليني في الحسن عن الحلبي عن الصادق(علیه السلام) أنه سئل عن المفقود، فقال: «المفقود إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب إلى الناحية التي هو غائب فيها، فإن لم يوجد له فيها أثر أمر الوالي وليه أن ينفق عليها، فما أنفق عليها فهي امرأته»، قال، فقلت: إنّها تقول: أريد ما تريد النساء، قال: «ليس لها ذلك ولا كرامة، فإن لم ينفق عليها وليه أمره أن يطلقها وكان ذلك عليها طلاقاً»(2).
ولأن الموت لم يثبت، والأصل بقاء الزوجية إلا بمزيل شرعي من موت أو طلاق، والموت لم يثبت بذلك إذ لم يشهد به أحد، فيبقى الطلاق وجاز؛ دفعاً للضرر (3)والحرج (4)مضافاً إلى النص.
ص: 440
...
_______________________________________
ويظهر من هذه الأخبار أنّ العدّة عدة الطلاق إلا أن القائلين بالطلاق صرحوا بأن العدة عدّة وفاة(1). ولا يخلو من إشكال. ورواية سماعة الدالة عليها موقوفة ضعيفة السند وتظهر الفائدة في مقدار العدة وفي الحداد والنفقة.
إذا تقرر ذلك فتنقيح المسألة يتم بأمور:
الأوّل: لا فرق في المفقود بين من اتّفق فقده في جوف البلد وفي السفر وفي القتال وما إذا انكسرت سفينته ولم يعلم حاله؛ لشمول النصّ لذلك كله وحصول المعنى، ولا تكفى دلالة القرائن على موته بدون البحث إلا أن ينضم إليها إخبار من يتآخم قوله العلم بوفاته، فيحكم بها حينئذ من غير أن يتربص به المدة المذكورة. ولا فرق حينئذ بين أن يحكم الحاكم بموته وعدمه، بل إذا ثبت ذلك عندها جاز لها التزويج، ولم يجز لغيرها أن يتزوجها إلّا أن يثبت عنده ذلك أيضاً. ولو حكم الحاكم بها كفى في حق الزوجين بغير إشكال.
الثاني : لو فقد في بلد مخصوص أو جهة مخصوصة بحيث دلّت القرائن على عدم انتقاله منها إلى غيرها كفى البحث عنه في تلك البلدة أو تلك الجهة، فإن لم يظهر خبره تربص به أربع سنين من غير بحث، فإذا مضت فعل بها ما تقرّر من الطلاق أو الأمر بالاعتداد ثمّ تزوجت إن شاءت. وكذا لو كان فقده في جهتين أو ثلاث أو بلدان كذلك اقتصر على البحث عنه فيما حصل فيه الاشتباه.
الثالث: يتخيّر الحاكم بين إرسال رسول إلى الجهة التي يعتبر البحث عنه فيها، وبين البعث إلى حاكم تلك الجهة ليبحث عنه فيها كما ذكر في الرواية. ويعتبر في الرسول العدالة ليركن إلى خبره حيث لا يظهر. ولا يشترط التعدّد؛ لأنّ ذلك من باب الخبر لا الشهادة وإلّا لم تسمع؛ لأنّها شهادة على النفي. ومثل هذا البحث لا يكون حصراً للنفي حتّى يقال: إنّه مجوّز للشهادة، وإنّما هو استعلام و تفحص عنه ممّن يمكن معرفته له عادة، لا استقصاء كلّي.
ص: 441
...
______________________________________________
الرابع: لو تعذر البحث عنه من الحاكم - إما لعدمه أو لقصور يده - تعيّن عليها الصبر إلى أن يحكم بموته شرعاً أو يظهر حاله بوجه من الوجوه؛ لأصالة بقاء الزوجيّة. وعليه يحمل ما روي عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) : «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه»(1). وعن علىّ(علیه السلام) أنّه قال: «هذه امرأة ابتليت فلتصبر»(2) .
و من العامة من أوجب ذلك مطلقاً؛ عملاً بهاتين الروايتين(3) .
الخامس: الحكم مختص بالزوجة فلا يتعدّى إلى ميراثه ولا عتق أُمّ ولده؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على مورده، فيتوقّف ميراثه وما يترتب على موته من عتق أُمّ الولد والمدبّر والوصية وغيرها إلى أن تمضي مدّة لا يعيش مثله إليها عادةً. وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث فيه(4).
والفرق بين الزوجة وغيرها - مع ما اشتهر من أنّ الفروج مبنيّة على الاحتياط وراء النص الدال على الاختصاص - دفع الضرر الحاصل على المرأة بالصبر دون غيرها من الورّاث ونحوهم، وأنّ للمرأة الخروج من النكاح بالجب والعنة لفوات الاستمتاع، وبالإعسار بالنفقة على قول لفوات المال، فلأن تخرج هاهنا وقد اجتمع الضرران أولى. ويدلّ على عدم الحكم بموته أنّها لو صبرت بقيت الزوجية، فزوالها على تقدير عدم دفع الضرر خاصةً فيتقيّد بمورده.
السادس: إذا لم نقل بالطلاق يتوقف اعتدادها على أمر الحاكم لها بها، فلا تعتدّ بما مضى قبل حكمه عملاً بأصالة بقاء الزوجية إلى أن يثبت المزيل، ولا ثبوت قبل أمره، كما لا تعتدّ بما مضى من المدة قبل رفع أمرها إليه كمدة العنة.
ص: 442
ولو جاء زوجها وقد خرجت من العدة ونكحت فلا سبيل له عليها. وإن جاء وهي في العدّة فهو أملك بها. وإن خرجت من العدة ولم تتزوج، فيه روايتان أشهر هما أنّه لا سبيل له عليها.
_________________________________________
ويحتمل الاكتفاء بمضيّها؛ لظاهر خبر سماعة «أنّها تعتد بعد تطلبه أربع سنين إلى آخره(1)، ولإشعار الحال بالوفاة ودلالته عليها.
السابع: لو أنفق عليها الوليّ أو الحاكم من ماله، ثم تبيّن تقدم موته على زمن الإنفاق أو بعضه، فلا ضمان عليها ولا على المنفق للأمر به شرعاً(2)، ولأنّها محبوسة لأجله، وقد كانت زوجةً ظاهراً، والحكم مبنيّ على الظاهر.
قوله: «ولو جاء زوجها وقد خرجت من العدّة ونكحت فلا سبيل له عليها إلى آخره.
إذا حضر المفقود بعد الحكم بوفاته ظاهراً فلا يخلو إمّا أن يكون حضوره بعد أن اعتدت وتزوجت بغيره، أو بعد العدّة وقبل التزويج، أو في أثناء العدّة. ففي الأوّل لا سبيل له عليها إجماعاً؛ للحكم شرعاً ببينونتها منه، وتعلّق حق الزوج الثاني بها بحكم الشارع فلا يزال. وفي الأخير هو أحق بها إجماعاً؛ لدلالة الأخبار(3) السابقة عليه، ولأنّ الحكم باعتدادها كان مبنيّاً على الظاهر، وقد تبيّن خلافه بظهور حياته فينتقض الحكم، ولأنّ المقصود من هذه الفرقة إزالة الضرر عنها وتمكينها من نكاح غيره، فإذا حضر الزوج زال الضرر فكان أولى بها.
وأما إذا كان حضوره بعد انقضاء العدّة وقبل التزويج ففي أولويّته بها أقوال أشهرها ما اختاره المصنّف من أنّه لا سبيل له عليها. وفي الخبر الصحيح السابق(4) ، تصريح به. وكذا في
ص: 443
...
______________________________________________
رواية سماعة؛ لأنّه قال فيها بعد ما نقلناه: «فإن قدم زوجها بعد انقضاء عدتها فليس له عليها رجعة، وإن قدم وهي في عدّتها الأربعة أشهر وعشراً فهو أملك برجعتها». ولأنّ الشارع حكم بالبينونة بانقضاء العدّة، فعود سلطنة الزوج يحتاج إلى دليل. وبهذا قال الشيخ في المبسوط(1)وأتباعه (2)والأكثر من المتقدّمين والمتأخّرين وهو الأقوى.
والقول الثاني: إنّه أولى بها كما لو جاء وهي في العدّة. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية(3) و الخلاف(4) ، وقواه فخر الدين(5) من المتأخرين. وادّعى الشيخ أنّ به رواية(6)، وتبعه المصنّف على ذلك، ولم نقف عليها بعد التتبع التام. وكذا قال جماعة(7) ممن سبقنا . ويمكن الاستدلال له بأنّها معتدة في الظاهر، وقد ظهر بطلان الحكم بها.
واختار العلّامة في المختلف قولاً ثالثاً مفصّلاً، بأن العدة إن كانت بعد طلاق الوليّ فلا سبيل للزوج عليها، وإن كانت بأمر الحاكم من غير طلاق كان أملك بها. والفرق أنّ الأوّل طلاق شرعي تعقبه العدّة وقد خرجت، فلا سبيل للزوج في الرجعة عليها بعدها، وعليه دلّت الروايات(8) وأمّا الثاني ؛ فلأنّ أمرها بالاعتداد كان مبنيّاً على الظن بوفاته، وقد ظهر بطلانه، فلا أثر لتلك العدّة والزوجية باقية؛ لبطلان الحكم بالوفاة.
ص: 444
...
_______________________________________________
وفيه: أن ذلك لو تم لاقتضى أولويته وإن نكحت غيره بعد العدة لاشتراكهما في المقتضي. وما ذكره فيه من الفرق - بأنّ الشارع قد حكم به ظاهراً ولم يلتفت إلى العقد الأوّل، بخلاف ما لو كان قبل التزويج - يضعف بأن حكم الشارع بالتزويج كحكمه بالعدّة مبني على الظاهر وقد ظهر خلافه. وعدم التفاته إلى العقد الأوّل مطلقاً ممنوع، بل مع بقاء الاشتباه أو ما هو أقوى منه، كما لو حكم بطلاق امرأة بشهود أو استناداً إلى قولها حيث يقبل فتزوجت بإذنه ثمّ ظهر فساد الدعوى، فإنّ النكاح الثاني ينقض وإن كان الشارع قد قطع التفاته حين النكاح عن الأول.
ثمّ تنبه لأمرين:
الأوّل: تعليق المصنّف الحكم على مجيء الزوج تبع فيه الرواية. ولا فرق بين مجيئه وعدمه في ذلك، وإنّما المعتبر ظهور حياته في الحالة المبحوث عنها؛ لأنّ الحكم باعتدادها للوفاة دليل على التفات الشارع إلى ظاهر حاله وأنّه قد مات، فإذا تبيّن خلاف ذلك انتفى. ويحتمل ضعيفاً تعليق الحكم على مجيئه؛ نظراً إلى ظاهر الرواية، ولأن حكمة ذلك إزالة الضرر عنها، وهو لا يزول بظهور حياته في بلاد بعيدة، خصوصاً مع دلالة القرائن على عدم مجيئه أو عدم قدرته عليه، وللحكم بارتفاع الزوجية فلا يزول إلا بدليل. وليس في الأخبار ما يدلّ على حكمه مع عدم مجيئه بالبينونة فيبقى على ما قد ثبت له من الحكم.
الثاني: ظاهر الأخبار أنّه لو عاد وهي في العدة لا يعود حكم الزوجيّة إلا بالرجعة؛ لأنّه قال في الخبر الصحيح: «فبدا له أن يراجعها فهي امرأته»(1) وهو مناسب للحكم بصحّة الطلاق، فإنّه لا يزول إلا بالرجعة. وخبر سماعة مع عدم تضمّنه الطلاق يدلّ على ذلك أيضاً
ص: 445
فروع:
الأول : • لو نكحت بعد العدّة ثمّ بان موت الزوج كان العقد الثاني صحيحاً ولا عدة، سواء كان موته قبل العدة أو معها أو بعدها؛ لأنّ عقد الأوّل سقط اعتباره في نظر الشرع، فلا حكم لموته كما لا حكم لحياته.
_______________________________________
حيث قال: «فهو أملك برجعتها»(1). ويحتمل عود الزوجيّة إليه قهراً، لتبيّن بطلان الطلاق والاعتداد بظهور حياته؛ لأنهما مبنيّان على الظاهر من موته وكلام الأصحاب موافق لهذا الاحتمال؛ لأنّهم يعبّرون بأنّه أحق بها وأملك بها كما عبر المصنف - ونحو ذلك، مع قبولها للتأويل بما يوافق الأوّل.
قوله: «لو نكحت بعد العدّة ثمّ بان موت الزوج كان العقد الثاني صحيحاً» إلى آخره.
لما كان حكم الشارع لها بالاعتداد والبينونة بها قاطعاً للنكاح السابق فاعتبار ما حكم به ،ثابت سواء تبيّن بعد ذلك موته أم لا، وسواء كان تبيّن موته قبل العدّة أو فيها أو بعدها؛ استصحاباً لما قد ثبت بحكم الشرع، وما خرج عن ذلك من الحكم بكونه أحقّ بها لو ظهر في العدة جاء بدليل ،خارج، فيبقى غيره على الأصل.
وربما قيل ببطلان العدّة لو ظهر موته فيها أو بعدها قبل التزويج؛ بناءً على أنّه لو ظهر حينئذ كان أحق؛ لأن الحكم بالعدّة والبينونة كان مبنياً على الظاهر، ومستند حكم الحاكم الاجتهاد وقد تبيّن خطوه ، فعليها تجديد عدّة الوفاة بعد بلوغها الخبر كغيرها، بل يحتمل العدّة ثانياً وإن نكحت لما ذكر. وسقوط حق الأوّل منها لو حضر وقد تزوّجت لا ينفي الاعتداد منه لو مات وهذا قول لبعض الشافعيّة(2). والمذهب هو الأول. والمصنّف نبّه بما ذكره من الحكم على خلافه.
ص: 446
الثاني: • :لا نفقة على الغائب في زمن العدّة ولو حضر قبل انقضائها؛ نظراً إلى حكم الحاكم بالفرقة. وفيه تردّد.
الثالث: • لو طلقها الزوج أو ظاهر واتفق فى زمان العدة صح؛ لأن العصمة باقية. ولو اتفق بعد العدة لم يقع ؛ لانقطاع العصمة.
______________________________________
قوله: «لا نفقة على الغائب في زمن العدة ولو حضر قبل انقضائها» إلى آخره.
وجه عدم النفقة أنّ العدّة عدّة وفاة وهي لا تستتبع النفقة، وإلّا فمجرد حكم الحاكم بالفرقة - كما علّل به المصنّف - لا يوجب سقوطها؛ لأنّ حكمه بها يحصل بالطلاق الرجعي مع بقائها. ولو علّل بإرادة فرقة لا يلحقها الرجوع انتقض هنا بما لو ظهر في العدّة.
والمصنّف تردّد في الحكم ممّا ذكرناه، ومن أنّها في حكم الزوجة ما دامت في العدّة، فتجب لها النفقة لو حضر قبل انقضائها، فلولا أنّها زوجة لما صحّ له ذلك إلّا بعقد جديد، وخصوصاً على القول بأنّ الوليّ يطلقها؛ لأنّ الظاهر أنّ الطلاق رجعي؛ لما ظهر من الروايات(1) أنّه يراجعها إذا حضر ، والطلاق الرجعي لا يسقط النفقة، ولأنّها محبوسة عليه في هذه الحالة فناسب وجوب نفقتها حال العدّة.
ولو كان حضوره بعد انقضاء العدّة فأولى بعدم الوجوب؛ للحكم بالبينونة.
ويحتمل وجوب قضاء نفقة زمن العدّة وإن انقضت؛ لأنّ نفقة الزوجة تُقضى، وقد ظهر الزوج في زمانها فلم تكن عدّة وفاة حقيقة. ولو قلنا بأنّه أحق بها بعد العدّة احتمل وجوب النفقة لما بعد العدة أيضاً، لما ذكر. والأقوى عدم وجوبها مطلقاً.
قوله: «لو طلّقها الزوج أو ظاهر واتفق في زمان العدة صحّ» إلى آخره.
لمّا كانت هذه الأحكام مشروطة بوقوعها على الزوجة أو المطلّقة رجعيّاً، فأوقعها الغائب عليها ثمّ حضر، نظر إن كانت وقت إيقاعها في زمان العدّة وقعت؛ لأنّها حينئذٍ في
ص: 447
الرابع: • إذا أتت بولد بعد مضيّ ستة أشهر من دخول الثاني لحق به. ولو ادّعاه الأوّل وذكر أنّه وطئها سراً لم يلتفت إلى دعواه. وقال الشيخ: يقرع بينهما. وهو بعيد.
___________________________________________
حكم الزوجة، ومن ثمّ كان أملك بها لو حضر فيها. وإن وقعت بعدها تبين بطلانها؛ لوقوعها على الأجنبية.
وهذا يتمّ في غير الطلاق. أمّا فيه فإن قلنا بأن الحاكم يأمرها بالاعتداد بغير طلاق اتجه الحكم فيه أيضاً؛ لوقوعه حينئذٍ بالزوجة في نفس الأمر. وإن قلنا إنّه يطلقها أشكل صحّة الطلاق بدون الرجعة؛ لأنه لا يقع عندنا كذلك وإن كان الطلاق رجعيّاً، خصوصاً على ما يظهر من الأخبار أنّ عودها إليه مع حضوره في العدّة يتوقف على الرجعة. ولو قلنا بعودها إليه بدونها وتبيّن بطلان الطلاق بحضوره كما تبيّن بطلان الاعتداد توجه وقوع الطلاق بها كما يقع الظهار. ومثله الإيلاء.
قوله: «إذا أتت بولد بعد مضي ستة أشهر من دخول الثاني لحق به» إلى آخره.
إذا تزوّجت بعد الاعتداد وأتت بولد في زمان يمكن أن يكون من الثاني ثمّ حضر المفقود ولم يدع الولد فهو للثاني ؛ لأنّه بمضيّ أربع سنين يتحقّق براءة الرحم من المفقود. وإن ادّعاه سئل عن جهة ادّعائه، فإن قال: إنّه ولدي لأنّ زوجتي ولدته على فراشي تبيّن بطلان هذه الجهة؛ لأنّ الولد لا يبقى في الرحم هذه المدّة. وإن قال: قدمت عليها في خلال هذه المدّة وأصبتها، وكان ما يقوله ممكناً، قال الشيخ: أقرع بينه وبين الثاني فيها(1)؛ لأنّها فراش لهما وإن كان فراش الأول قد زال، كما لو طلّقها فتزوجت وأتت بولد يمكن إلحاقه بهما، فإنّه يُقرع بينهما فيه على ما سبق من قوله (رحمه الله)(2). والأقوى ما اختاره المصنف (رحمه الله) من الحكم به للثاني مطلقاً؛ لأنّها فراش له الآن حقيقةً، وفراش الأوّل قد زال، والولد للفراش.
ومثله القول في المسألة المبنيّ عليها. وقد تقدّمت(3).
ص: 448
الخامس:• لا يرثها الزوج لو ماتت بعد العدّة، وكذا لا ترثه والتردّد لو مات أحدهما في العدّة. والأشبه الإرث.
--------------------------------------------------------------------------
قوله: «لا يرثها الزوج لو ماتت بعد العدّة وكذا لا ترثه. والتردّد لو مات أحدهما في العدة. والأشبه الإرث».
إذا مات المفقود أو زوجته بعد الحكم بالفرقة، فإما أن يكون موته في أثناء العدّة، أو بعدها قبل التزويج أو بعده. ففي الأخير لا توارث بينهما قطعاً؛ لانقطاع عصمة النكاح رأساً ؛ لما عرفت من أنّه لو حضر وقد تزوجت فلا سبيل له عليها.
وكذا لو كان ذلك بعد العدّة بناء على انتفاء سبيله عنها ببينونتها بانقضاء العدّة. وعلى القول بأنّه لو حضر حينئذ كان أحق بها(1) يحتمل ثبوت التوارث؛ لظهور كونه موجوداً في تلك الحال المقتضي لبقاء الزوجية في نفس الأمر، وكونه أحق بها على تقدير ظهوره دليل على أن الحكم بالبينونة مبنيّ على الظاهر ومستمر مع الاشتباه لا مع ظهور الحال.
والأقوى عدم الإرث وإن قلنا بذلك؛ لأنّ الشارع حكم بانقطاع العصمة بينهما بانقضاء العدة، وحكمه بكونه أولى بها على تقدير حضوره لدليل خارج لا يقتضي الحكم في غيره، بل يبقى على أصل النفى الحاصل بانقضاء العدة الموجب لرفع التوارث شرعاً.
وأمّا لو مات أحدهما وهي في العدّة ففي ثبوت الإرث قولان: أحدهما العدم؛ لأنّ العدة عدّة الوفاة، وهي تقتضي نفي الإرث والأقوى ما اختاره المصنّف من ثبوته حينئذ، لبقاء حكم الزوجيّة بما قد علم. ولأنّ العدّة في حكم الرجعيّة كما قد عرفت، وهي لا تقطع التوارث بين الزوجين. وجعلها عدّة وفاة مبنيّ على الظاهر وعلى وجه الاحتياط، وإلّا لم يجامع الطلاق، فإذا تبين خلاف الظاهر رجع حكم الطلاق الرجعي والزوجية من رأس.
ص: 449
الفصل السادس • في عدد الإماء والاستبراء
•عدّة الأمة في الطلاق مع الدخول قرءان ، وهما طهران . وقيل : حيضتان. والأوّل أشهر.
------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «في عدد الإماء والاستبراء».
الاستبراء لغةً : طلب البراءة(1). وشرعاً: التربّص بالمرأة مدة بسبب ملك اليمين حدوثاً أو زوالاً لبراءة الرحم، أو تعبّداً. هذا هو الأصل فيه، وإلّا فقد يجب الاستبراء بغير ذلك كأن وطئ أمة غيره بشبهةٍ. وخصّ بهذا الاسم؛ لأنّ التربّص مقدّر بما يدل على البراءة من غير تكرّر وتعدّد فيه، بخلاف التربص الواجب بسبب النكاح، فإنّه مأخوذ من العدد، لما يقع فيه من تعدّد الأقراء أو الشهور، فخصّ باسم العدة.
والأصل في الاستبراء ما روي أنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) قال في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع. ولا حائل حتى تحيض»(2). ويخالف العدة حيث اعتبر بالحيض واعتبرت هي بالطهر؛ لأنّ الأقراء تتكرّر في العدّة فتعرف بتخلّل الحيض براءة الرحم، وهاهنا لا تتكرّر فيعتمد الحيض. وإنّما ألحقت أُمّ الولد بالحرّة في الاعتداد من موت مولاها وعتقه لها دون غيرها من الإماء؛ لأنّ استبراء أُمّ الولد قضاء حق السيّد فأشبه العدة التي هي قضاء حقّ الزوج. ولأنّ الاستبراء فيها لاستباحة النكاح كالحرّة، وعند حدوث الملك يحلّ الوطء فيعتبر فيه ما يستعقب الحلّ وهو الحيض.
قوله: «عدّة الأمة في الطلاق مع الدخول قرءان - إلى قوله - تحت حرّ أو عبد».
عدّة الأمة على النصف من عدة الحرّة جرياً على الأصول المقرّرة من أنّ كلّ عدد يؤثّر الرق فيه بالنقصان يكون الرقيق على النصف ممّا عليه الحرّ، كالحدود وعدد المنكوحات
ص: 450
وأقلّ زمان تنقضي به عدّتها ثلاثة عشر يوماً ولحظتان. والبحث في اللحظة الثانية كما في الحرّة.
وإن كانت لا تحيض وهي في سنّ من تحيض اعتدت بشهر ونصف، سواء كانت تحت حرّ أو عبد.
--------------------------------------------------------------------------------------------------
والقسم، إلّا أنّ القرء لا يتبعض فكمّل كالطلاق. ووجه عدم تبعّضه أن القرء مفسّر إمّا بالانتقال أو بالطهر بين الدمين، والانتقال ليس شيئاً يتبعض، والطهر بين الدمين إنّما يظهر نصفه إذا ظهر كلّه بعود الدم فلا بدّ من الانتظار إلى أن يعود الدم، وهذا بخلاف الاعتداد بالأشهر، فإنّها تقبل التنصيف، فتعتدّ بنصف عدّة الحرّة وهو شهر ونصف.
والأصل فيه - بعد الإجماع عليه - ما روي عنه أنّه(صلی الله علیه و آله و سلم) قال: «يطلق العبد طلقتين وتعتدّ الأمة بقرءين»(1). وروى زرارة في الحسن عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن حرّ تحته أمة أو عبد تحته حرّة كم طلاقها وكم عدتها؟ فقال: «السنّة في النساء في الطلاق، فإن كانت حرّةً فطلاقها ثلاث وعدتها ثلاثة أقراء، وإن كان حرّ تحته أمة فطلاقها تطليقتان وعدتها قرءان»(2). وقد ظهر من الرواية أنّه لا فرق في الأمة بين كونها تحت حرّ أو عبد، وكذلك لا فرق فيها بين الفن والمدبّرة والمكاتبة وأم الولد إذا زوجها مولاها فطلٌقها الزوج.
ولو وطئت أمةً بنكاح فاسد أو بشبهة اعتدت بقرءين كما في الطلاق عن النكاح الصحيح(3).
ص: 451
...
--------------------------------------------------------------------------------------------
والمبعّضة كالحرّة عندنا؛ تغليباً لجانب الحرية.
ولو كانت الأمة حاملاً اعتدت من الطلاق وما في معناه بوضعه كالحرّة.
إذا تقرر ذلك فأقلّ ما تنقضي به عدّة الأمة ذات الأقراء ثلاثة عشر يوماً ولحظتان، بأن يأتيها الدم بعد طلاقها بلحظة، ثمّ تحيض ثلاثاً، ثمّ تطهر عشراً، ثمّ ترى الدم الثاني لحظة. وهذه اللحظة دالّة على انقضاء العدّة بتمام الطهر ، فالعدّة حقيقة ثلاثة عشر يوماً ولحظة، والأخيرة دالّة على انقضائها لا جزءاً منها كما مر فى الحرّة(1).
ويمكن انقضاء عدّتها بأقلّ من ذلك، كما إذا طلّقها بعد الوضع وقبل رؤيتها دم النفاس بلحظة، ثمّ رأته لحظةً وانقطع، وطهرت عشراً وجاءها دم الحيض، فتنقضي عدتها برؤيته، وذلك عشرة أيّام ولحظتان، ولو اعتبرنا لحظة الدلالة زادت لحظة أخرى.
واعلم أنّ الكلام في الشهر حيث تعتد به كما سبق في الحرّة(2)، فإن قارن الطلاق الهلال اکتفت بشهر هلالي - تمَّ أم نقص - وأكملته بخمسة عشر يوماً. وإن طلّقها في أثناء الشهر فعدتها خمسة وأربعون يوماً. وقد اختلفت عباراتهم في ذلك، فمنهم من عبر بشهر ونصف(3) كالمصنّف، ومنهم من عبّر بخمسة وأربعين يوماً(4) وأطلق. والمعتمد ما ذكرناه من التفصيل.
ص: 452
• ولو أعتقت ثمّ طُلقت فعدتها عدة الحرّة. وكذا لو طلقت طلاقاً رجعياً ثمّ أعتقت في العدة أكملت عدة الحرّة. ولو كانت بائناً أتمّت عدة الأمة.
-------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو أُعتقت ثمّ طُلقت فعدتها عدّة الحرّة» إلى آخره.
إذا أعتقت الأمة ثمّ طلقت، فإن وقع الطلاق بعد انقضاء العدّة فعليها الاعتداد بعدة الحرّة مطلقاً لأنّها صارت حرّة قبل الحكم عليها بالعدة. وإن وقع الطلاق في أثناء العدّة، فإن كانت رجعيّةً أكملت عدّة الحرّة؛ لأنّ الرجعية بمنزلة الزوجة، فكأنّه طلقها وهي حرّة. وإن كانت بائنة أكملت عدّة الأمة؛ لأنّها صارت أجنبية قبل الطلاق وطرأت الحرّية بعد الحكم عليها بعدّة الإماء، فلا يتغيّر الواجب(1).
واعلم أنّ الروايات في ذلك مختلفة، ففي صحيحة جميل عن أبي عبد الله(علیه السلام) في أمة كانت تحت رجل فطلقها ثمّ أعتقت قال: «تعتدّ عدّة الحرّة»(2).
وفي رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إذا طلق الرجل المملوكة فاعتدت بعض عدتها منه ثمّ أعتقت فإنّها تعتدّ عدّة المملوكة»(3). والجمع بينهما بحمل الأول على الرجعي والثاني على البائن؛ لمناسبة الحكم، وحذراً من اطراح بعضها، ولوجود التفصيل في رواية أبي أيوب الخزاز عن مهزم عن أبي عبد الله(علیه السلام) في أمّة تحت حرّ طلقها على طهر بغير جماع تطليقةً ثمّ أُعتقت بعد ما طلقها بثلاثين يوماً ولم تنقض عدتها، فقال: «إذا أُعتقت قبل أن تنقضي عدّتها اعتدت عدّة الحرّة من اليوم الذي طلقها، وله عليها الرجعة قبل انقضاء العدّة، فإن طلقها تطليقتين واحدةً بعد واحدة ثمّ أعتقت قبل انقضاء عدّتها فلا رجعة له عليها، وعدتها عدّة الأمة»(4).
ص: 453
• وعدة الذمّيّة كالحرّة في الطلاق والوفاة. وفي رواية تعتد عدّة الأمة. وهي شاذة.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وعدّة الذمية كالحرّة في الطلاق والوفاه. وفي رواية تعتدّ عدّة الأمة. وهي شاذة». المشهور بين الأصحاب أنّ عدّة الدمية الحرّة كعدّة المسلمة الحرة؛ لعموم الأدلة(1) المتناول للمسلمة وغيرها .
وروى يعقوب السراج - في الصحيح - عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال، قلت له: النصرانية مات عنها زوجها وهو نصراني ما عدّتها؟ قال: «عدّة الحرّة المسلمة أربعة أشهر وعشراً»(2).
ولكن ورد في رواية زرارة ما يدل على أنّها كالأمة. ونقله العلّامة عن بعض الأصحاب(3). ولم يعلم قائله. وما ذكره المصنّف من نسبة الخلاف إلى الرواية أولى.
والرواية رواها الكليني - في الصحيح - عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن نصرانيّة كانت تحت نصراني فطلقها هل عليها عدّة مثل عدة المسلمة؟ فقال: «لا» - إلى قوله - قلت : فما عدّتها إن أراد المسلم أن يتزوّجها؟ قال: «عدّتها عدة الأمة حيضتان أو خمسة
وأربعون يوماً»(4) الحديث. وحملت الرواية على أنّها مملوكة؛ إذ لم ينص على أنها حرّة.
واعلم أنّ فائدة إلحاقها بالأمة في الطلاق واضحةً. وأما في الوفاة فلا تظهر إلّا على تقدير كون عدة الأمة فيها على نصف عدّة الحرّة، وسيأتي الخلاف فيه(5).
ص: 454
• وعدة الأمة من الوفاة شهران وخمسة أيام. ولو كانت حاملاً اعتدّت بأبعد الأجلين ولو كانت أُمّ ولد لمولاها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وعدة الأمة من الوفاة شهران وخمسة أيام» إلى آخره.
اختلف الأصحاب في مقدار عدّة الأمة إذا كانت مزوّجة فمات زوجها مع اتّفاقهم على أنّها على نصف عدة الحرّة في الطلاق، فذهب الأكثر منهم إلى أنّها في الوفاة على النصف من عدّة الحرّة أيضاً، فهي شهران وخمسة أيام، وهو الذي قطع به المصنّف من غير أن ينقل خلافاً؛ لما رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - عن الصادق(علیه السلام) قال: «الأمة إذا توفّي عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام»(1).
وفي الصحيح عن الحلبي عنه(علیه السلام) قال: «عدّة الأمة إذا توفّي عنها زوجها شهران وخمسة أيام»(2). وفي الصحيح عن محمد بن قيس عن الباقر(علیه السلام) إلى أن قال: «فإن مات عنها زوجها فأجلها نصف أجل الحرّة شهران وخمسة أيام»(3). وغير ذلك من الأخبار الكثيرة(4).
ولأنّ الرقية مناط التنصيف في مطلق العقوبة وخصوصية الاعتداد كما في الطلاق، فناسب أن يكون في الوفاة كذلك.
وقال الصدوق وابن إدريس عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام(5)؛ لعموم قوله تعالى: (وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ)(6) الآية.
وخصوص صحيحة زرارة عن الباقر(علیه السلام) قال: «إنّ الأمة والحرّة كلتاهما(7) إذا مات عنها
ص: 455
...
--------------------------------------------------------------------------------------------------
زوجها في العدّة سواء، إلا أنّ الحرّة تحد والأمة لا تحدّ»(1).
وصحيحة زرارة عنه(علیه السلام) إلى أن قال: «يا زرارة كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرّة كانت أو أمةً أو على أي وجه كان النكاح منه متعةً أو تزويجاً أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر وعشراً»(2).
وأُجيب(3) عن الآية(4) بأنّها عامة وتلك الأخبار خاصة، والقرآن يجوز تخصيصه بالسنّة.
وعن الأخبار بأنّها قد تعارضت فيجب الجمع بينها بحمل الأخبار الأول على غير سير أُمّ الولد إذا كان قد زوّجها المولى بغيره فمات زوجها، والأخبار الدالّة على التسوية بينها وبين الحرّة على أُمّ الولد من موت زوجها.
ويؤيد ما ذكر من التفصيل صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الأمة إذا طلقت ما عدتها؟ قال: «حيضتان أو شهران». قلت: فإن توفّي عنها زوجها، فقال: «إنّ عليّاً (علیه السلام) قال في أُمهات الأولاد لا يتزوّجن حتّى يعتددن أربعة أشهر وعشراً وهنّ إماء»(5).
وصحيحة وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل كانت له أُمّ ولد فزوجها من رجل فأولدها غلاماً، ثمّ إنّ الرجل مات فرجعت إلى سيدها، أله أن يطأها؟
قال: «تعتدّ من الزوج أربعة أشهر وعشراً ثم يطؤها بالملك بغير نكاح(6)».
ص: 456
...
-----------------------------------------------------------------------------------------------
وهذا الجواب يرجع إلى اختيار قول ثالث بالتفصيل، وهو الذي اختاره الشيخ(1) وأتباعه (2) والمصنّف وباقي المتأخّرين. وأما أكثر المتقدّمين كالمفيد(3) وسلار(4) وابن أبي عقيل وابن الجنيد(5) _ فاختاروا الأوّل مطلقاً.
هذا كلّه إذا لم تكن حاملاً، وإلا اعتدّت بأبعد الأجلين من وضع الحمل وما قيل به من المدة(6). وهو موضع وفاق. وإنّما الخلاف في خصوصيّة المدّة التي تعتبر مع وضع الحمل.
واعلم أنّ سياق العبارة يقتضي كون الحكم في الأمة المزوّجة لا المنكوحة مطلقاً. وحينئذ فقوله «ولو كانت أُمّ ولد لمولاها» إلى آخره، المراد به إذا كانت أُمّ ولد له قد زوّجها الغيره فمات الزوج.
وأمّا إذا كان الميّت المولى، فإن كانت مزوّجة لم تعتدّ من موت المولى إجماعاً. وإن لم تكن مزوّجة ففي اعتدادها من موت المولى عدّة الحرّة، أم لا عدّة عليها بل يكفى استبراؤها لمن انتقلت إليه إذا أراد وطأها قولان: ذهب إلى الأوّل منهما جماعة منهم الشيخ(7)، وأبو الصلاح(8)، وابن حمزة(9)، والعلّامة في موضع من التحرير(10)، والشهيد في اللمعة(11).
ص: 457
...
---------------------------------------------------------------------------------------------
واستدلّ له في المختلف بموثقة إسحاق بن عمار عن الكاظم(علیه السلام) - قال: سألته عن الأمة يموت سيّدها، قال: «تعتد عدّة المتوفّى عنها زوجها»(1). وقال ابن إدريس:
لا عدّة عليها من موت مولاها؛ لأنها ليست زوجةً، وحكم العدّة مختصّ بالزوجة والأصل براءة الذمة من التكليف بذلك(2).
ونفى عنه في المختلف البأس(3).
ولو كانت الأمة موطوءة للمولى ثم مات عنها فظاهر الأكثر هنا أنّه لا عدّة عليها، بل تستبرئ بحيضة كغيرها من الإماء المنتقلة من مالك إلى آخر. وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى أنّها تعتد من موت المولى كالحرّة، سواء كانت أُمّ ولد أم لا(4). واستدلّ عليه برواية زرارة عن أبي جعفر(علیه السلام) : «فى الأمة إذا غشيها سيدها ثمّ أعتقها فإن عدّتها ثلاث حيض، فإن مات عنها فأربعة أشهر وعشراً»(5) وبموثقة إسحاق بن عمار السالفة(6)، وبحسنة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال قلت له: يكون الرجل تحته السرية فيعتقها، قال: «لا يصلح أن تنكح حتى تنقضي ثلاثة أشهر، وإن توفّي عنها مولاها فعدتها أربعة أشهر وعشراً»(7).
والعجب مع كثرة هذه الأخبار وجودة أسنادها أنه لم يوافق الشيخ على مضمونها أحد، وخصّوا أمّ الولد بالحكم، مع أنّه لا دليل عليها بخصوصها. وأعجب منه تخصيصه
ص: 458
•ولو طلّقها الزوج رجعيّةً ثمّ مات وهي في العدة استأنفت عدّة الحرّة. ولو لم تكن أُمّ ولد استأنفت للوفاة عدّة الأمة. ولو كان الطلاق بائناً أتمّت عدّة الطلاق حسب.
• ولو مات زوج الأمة ثمّ أُعتقت أتمّت عدة الحرة؛ تغليباً لجانب الحرّيّة.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
في المختلف الاستدلال على حكم أمّ الولد بموثّقة إسحاق، مع أنّها تدلّ على أنّ حكم الأمة الموطوءة مطلقاً كذلك، ومع ذلك فغيرها من الأخبار التي ذكرناها يوافقها في الدلالة، مع أنّ فيها ما هو أجود سنداً. وسيأتي أن المصنّف وغيره أوجبوا عدة الحرّة على الأمة المدبّرة بما هو أقلّ مستنداً مما ذكرناه هنا(1).
قوله: «ولو طلقها الزوج رجعيّةً ثم مات وهي في العدة» إلى آخره.
هذا متفرّع على الحكم السابق، وهو أنّ أُمّ الولد تعتد لوفاة زوجها عدّة الحرّة. ولا يتغيّر هذا الحكم بطلاقها رجعياً إذا مات في العدّة الرجعيّة؛ لأنّها بمنزلة الزوجة، كما لو مات زوج الحرّة المطلقة وهي في العدّة الرجعيّة، فإنّها تستأنف عدّة الوفاة. ولو لم تكن الأمة المزوّجة أُمّ ولد . ولد وقد طلّقها، فشرعت في عدّة الأمة للطلاق، ثمّ مات الزوج في العدّة، استأنفت عدّة الوفاة المقرّرة للأمة كما لو مات وهي في عصمته. ولو كان الطلاق بائناً أتمت عدة الطلاق خاصةً كالحرّة إذا طلقت بائناً ثم مات في العدّة؛ لانقطاع العصمة بينهما. وهو واضح.
قوله: «ولو مات زوج الأمة ثمّ أعتقت أتمّت عدة الحرة؛ تغليباً لجانب الحرية».
هذا الحكم ذكره الشيخ(2) وأتباعه(3) ومنهم المصنّف من بعده. وتوجيهه أنّها بعد العتق مأمورة بإكمال عدّة الوفاة، وقد صارت حرّةً فلا تكون مخاطبة بحكم الأمة، فيجب عليها إكمال عدّة الحرّة؛ نظراً إلى حالها حين الخطاب، ولا ينظر إلى ابتداء الخطاب بالعدة، فإنّها كلّ يوم مخاطبة بحكمها، وهو معنى قوله «تغليباً لجانب الحرّية».
ص: 459
•ولو كان المولى يطؤها ثم دبّرها اعتدت بعد وفاته بأربعة أشهر وعشرة أيام.
ولو أعتقها في حياته اعتدت بثلاثة أقراء.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو كان المولى يطؤها ثم دبرها اعتدت بعد وفاته» إلى آخره.
مستند الحكم رواية داود الرقي عن الصادق (علیه السلام)«في الأمة المدبّرة إذا مات مولاها أنّ عدّتها أربعة أشهر وعشراً من يوم يموت سيّدها إذا كان سيّدها يطؤها». قيل له: فالرجل يعتق مملوكته قبل موته بساعة أو بيوم ثمّ يموت، فقال: «هذه تعتدّ بثلاث حيض أو ثلاثة قروء من يوم أعتقها سيدها»(1).
وروى الحلبي - في الحسن - عنه(علیه السلام) قال، قلت له: الرجل يكون تحته السرية فيعتقها، فقال: «لا يصلح لها أن تنكح حتّى تنقضي عدّتها ثلاثة أشهر، وإن توفّي عنها مولاها فعدتها أربعة أشهر وعشراً»(2).
و نازع ابن إدريس في الأمرين:
أمّا الأوّل؛ فلأنّ من جعل عتقها بعد موته لا يصدق عليها أنّها زوجة، والعدّة مختصّة بها كما تدل عليه الآية(3).
وأمّا الثاني؛ فلأن المعتقة غير مطلّقة فلا يلزمها عدة المطلقة، والعدة أمر شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي، وهو منتفٍ(4).
وجوابه: أنّه منتف على أصله، وأمّا على أصول الأصحاب فقد عرفت المستند. وداود الرقي وإن كان فيه كلام إلّا أنّ توثيقه أرجح كما حقّق في فنّه(5)، فالرواية صحيحة. وهي مشتملة على الحكمين. والأخرى مؤيدة للثاني(6)، ودالّة على حكم ذات الشهور، كما دلّت
ص: 460
• وكلّ من يجب استبراؤها إذا ملكت بالبيع يجب استبراؤها لو ملكت بغيره من استغنام أو صلح أو ميراث أو غير ذلك. ومن يسقط استبراؤها هناك يسقط في الأقسام الأخر.
• ولو كان للإنسان زوجة فابتاعها بطل نكاحه ، وحلّ وطؤها من غير استبراء.
---------------------------------------------------------------------------------------
الأولى على حكم ذات الأقراء. وقد تقدّم في الأخبار السابقة(1) ما يدلّ على الحكم الثاني أيضاً. ويؤيّدهما معاً أنّها لا يمكنها أن تتزوّج في الحال؛ لوجوب مراعاة جانب المائز للحرّة والأمة، فلا بد لها من مدة، وليست أمةٌ حتّى يلحقها حكم الاستبراء، وإنّما هى حرّة فألحقت بالحرائر، وعدّتهنّ في الأمرين ما ذكر.
قوله: «وكلّ من يجب استبراؤها إذا ملكت بالبيع يجب استبراؤها» إلى آخره.
قد تقدّم البحث في هذه المسألة مستوفى في النكاح(2) والبيع(3)، ومن يفتقر إلى الاستبراء ومن لا يفتقر إليه، وتحقيق الخلاف في ذلك، وفي اختصاصه بالبيع أو عمومه لكلّ ملك زائل أو حادث، فلا وجه للإعادة في الإفادة.
قوله: «ولو كان للإنسان زوجة فابتاعها بطل نكاحه، وحلّ وطؤها من غير استبراء».
أمّا بطلان النكاح فلأنّها قد صارت مملوكة وهي تستباح بملك اليمين فيبطل العقد؛ لأنّ البضع لا يستباح بالسببين؛ لأنّ التفصيل في الآية(4) يقطع الاشتراك. وقد تقدم البحث فيه أيضاً في النكاح(5). وأمّا عدم وجوب استبرائها؛ فلأن المقصود منه مراعاة حق الماءين الزائل والحادث وهما لواحد.
ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة حيث أوجب الاستبراء، لتبدّل جهة الحلّ وتجدّد
ص: 461
•ولو ابتاع المملوك أمةً واستبرأها كفى ذلك في حقّ المولى لو أراد وطأها.
• وإذا كاتب الإنسان أمته حرم عليه وطؤها فإن انفسخت الكتابة حلّت، ولا يجب الاستبراء.
وكذا لو ارتدّ المولى أو المملوكة، ثمّ عاد المرتد لم يجب الاستبراء.
ولو طلّقت الأمة بعد الدخول لم يجز للمولى الوطء إلا بعد الاعتداد، وتكفي العدّة عن الاستبراء.
ولو ابتاع حربية فاستبرأها فأسلمت لم يجب استبراء ثانٍ وكذا لو ابتاعها واستبرأها محرماً بالحج كفى ذلك في استحلال وطئها إذا أحلّ.
-----------------------------------------------------------------------------------------------
الملك(1)، وليتميّز الولد في النكاح عن الولد بملك اليمين؛ لأنّه في النكاح ينعقد مملوكاً ثمّ يعتق بالملك وفي ملك اليمين ينعقد حراً. وهذا الأصل عندنا ممنوع، ومطلق تبدل الملك غير موجب له.
قوله: «ولو ابتاع المملوك أمةً واستبرأها كفى ذلك في حق المولى لو أراد وطأها».
لمّا كان المعتبر من الاستبراء ترك وطئها في المدة المعتبرة ليحصل الفرق بين الماءين لم يفترق الحال بين استبراء المالك لها وغيره، ومن ثمّ لو أخبر البائع باستبرائها وكان ثقةً قبل، واستبراء المملوك من هذا القبيل. ويشترط علم المولى به أو كون المملوك ثقة ليقبل خبره كغيره من المخبرين به.
قوله: «وإذا كاتب الإنسان أمته حرم عليه وطؤها» إلى آخره.
هنا مسائل تتعلق بتبدل الملك ويترتب عليه حكم الاستبراء:
الأولى: لو كاتب جاريته حرم عليه وطؤها؛ لأنّ الكتابة تقتضي نقلها عن ملكه وإن كان متزلزلاً. سواء جعلناها بيعاً للمملوك من نفسه أم عتقاً بشرط. فإذا انفسخت الكتابة لعجزها لم يلزمها الاستبراء؛ لما ذكرناه من أن الغرض الفرق بين الماءين المحترمين وهما من واحد
ص: 462
...
---------------------------------------------------------------------------------
هنا؛ لأنّه لا يحل لها التزويج بغيره زمن الكتابة كما سيأتي(1)، والمفروض عدم وطنها حالها لغيره. ولبعض العامة هنا قول بوجوب استبراتها(2)؛ لأنه زال ملك الاستمتاع بها وصارت إلى حالة لو وطئها لاستحقت المهر ثم عاد الملك فأشبه ما إذا باعها ثم اشتراها. والفرق بين الأمرين واضح؛ لأنّها بالبيع تباح للمشتري بخلاف الكتابة ومطلق تبدل الملك
لا يوجب الاستبراء.
الثانية: إذا حرمت على السيّد بارتداده أو ارتدادها ثمّ أسلم أو أسلمت لم يجب الاستبراء؛ لما ذكرناه من الوجه في السابق من عدم تعدّد الماء الموجب للاستبراء؛ خلافاً لبعض الشافعيّة حيث أوجبه بناءً على زوال ملكه بالردّة ثمّ عوده إليه بالإسلام، فعليه الاستبراء(3).
والأصل هنا كالسابق. ولا بدّ من تقييد ارتداده بكونه عن ملة ليتصوّر عود ملكها إليه بعوده إلى الإسلام، فلو كان عن فطرة انتقل ملكها إلى الوارث. ويأتي في عودها إليه - على تقدير قبول توبته - ما يعتبر في نقل الملك عنه ثمّ عوده إليه من اشتراط عدم وطء غيره ولو بإخبار الثقة.
الثالثة: لو زوّج المولى أمته ثمّ طلّقها الزوج بعد الدخول لم تحل للمولى إلّا بعد الاعتداد؛ للفرق بين الماءين المحترمين وإن كان الملك بالنسبة إلى المولى لم يتبدّل. لكن هنا تكفي العدة عن الاستبراء؛ لحصول الغرض منها وزيادة، فيدخل الأقلّ تحت الأكثر ولو طلّقها الزوج قبل الدخول حلّت للمولى من غير استبراء؛ خلافاً لبعض العامة حيث أوجبه، لزوال ملك الاستمتاع ثم عوده فكان كزوال الملك وعوده(4).
ص: 463
الفصل السابع في اللواحق
وفيه :مسائل:
الأولى: • لا يجوز لمن طلّق رجعيّاً أن يُخرج الزوجة من بيته إلّا أن تأتي بفاحشة، وهي أن تفعل ما يجب به الحد، فتخرج لإقامته. وأدنى ما تخرج له أن تؤذي أهله.
ويحرم عليها الخروج ما لم تضطر. ولو اضطرت إلى الخروج خرجت بعد انتصاف الليل، وعادت قبل الفجر.
-------------------------------------------------------------------------------------------
الرابعة: لا يشترط في صحّة الاستبراء كون الأمة محلّلة للمولى لو لا الاستبراء، بل يُكتفى به وإن كانت محرّمة عليه بسبب آخر ؛ لحصول الغرض المقصود منه وهو الفرق بين الماءين، فإذا زال ذلك السبب المحرّم الموجود حال الاستبراء حلّت للمولى بالاستبراء السابق. وتظهر الفائدة فيما لو اشترى مجوسيّةً أو مرتدّةً فمرت بها حيضة ثمّ أسلمت لم يجب استبراء ثانٍ واعتدّ بما وقع في حالة كفرها؛ لحصول الغرض المقصود منه. وكذا لو استبرأها وهي محرّمة عليه بسبب الإحرام فأحلّ خلافاً لبعض الشافعيّة حيث أوجب الاستبراء ثانياً: محتجاً بأنّ الاستبراء لاستباحة الاستمتاع، وإنما تعتدّ منه بما يستعقب حلّ الاستمتاع ولم يحصل هنا(1).
قوله: «لا يجوز لمن طلّق رجعيّاً أن يُخرج الزوجة من بيته» إلى آخره.
المطلقة رجعيّة تستحقّ السكنى كما تستحق النفقة زمن العدّة؛ لقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم)(2) وقال تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ)(3). والمراد بيوت أزواجهنّ، وأضافه إليهن بملابسة السكني. وإنما تستحقّ
ص: 464
...
-------------------------------------------------------------------------------------------------------
السكنى إذا استحقّت النفقة ، فلو كانت صغيرة أو أمةً غير مسلمة طول المدّة أو ناشزاً زمن الزوجيّة أو في أثناء العدّة فلا سكنى لها، كما لا نفقة لها. ولو عادت إلى الطاعة في العدّة عاد
حق السكني.
وكما يحرم عليه إخراجها من المسكن يحرم عليها الخروج أيضاً وإن اتّفقا عليه؛ لدلالة الآية على تحريمه من كلّ منهما ، فلو اتّفقا على الخروج منعهما الحاكم منه؛ لأنّ فيه حقّاً لله تعالى، كما أن في العدّة حقّاً له تعالى، بخلاف السكنى المستحقة بالنكاح، فإن حقّها مختصّ بالزوجين.
وذهب جماعة من الأصحاب - منهم أبو الصلاح(1) والعلّامة في التحرير(2) - إلى تقييد التحريم بعدم اتّفاقهما عليه، فلو خرجت بإذنه جاز. ويدلّ عليه حسنة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بإذن زوجها حتى تنقضي عدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر»(3).
والأجود التحريم مطلقاً؛ عملاً بظاهر الآية(4). ويستثنى منه ما دلّت الآية على
استثنائه، وهو أن تأتي بفاحشة مبينة فيجوز إخراجها حينئذ.
وقد اختلف في تفسير الفاحشة، فقيل: هي أن تفعل ما تستحق فيه الحد كالزني(5). وهو الظاهر من إطلاق الفاحشة عرفاً. وقيل: هي أعمّ من ذلك، حتّى لو آذت أهل الزوج واستطالت عليهم بلسانها فهو فاحشة يجوز إخراجها لأجله(6). وهو المرويّ عن ابن عبّاس
ص: 465
...
---------------------------------------------------------------------------------------------
في تفسير الآية(1). ورواه الأصحاب عن الرضا(علیه السلام) بسندين مقطوعين(2). واحتج عليه الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة(3)، مع أنه في النهاية اختار الأول ونسب الثاني إلى الرواية(4). واحتج أيضاً بأن النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) أخرج فاطمة بنت قيس لما بذت على بيت أحمائها وشتمتهم، فوردت الآية في ذلك(5).
وفيه أنّ المروي أنّ فاطمة بنت قيس كان زوجها قد بت طلاقها ولم يكن رجعياً(6)، وبها احتجّ الجمهور على استحقاق البائن السكنى كالرجعية.
إذا تقرّر ذلك فنقول: حيث تخرج لإقامة الحدّ قيل: تعاد إلى المسكن بعد الفراغ(7)؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على محلّ الضرورة، فلا تبيت(8) إلا فيه. وقيل: لا يجب ردّها إليه؛ لأنّ إخراجها مستثنى من النهي فوجوب ردّها يحتاج إلى دليل(9)، ولأنّ إخراجها لو كان لمجرّد الحدّ لفرّق فيه بين البرزة والمخدّرة، فتخرج الأولى دون الثانية، كما سيأتي إن شاء الله تعالى فى بابه(10). وفي هذا قوة.
وحيث تخرج لأذى أحمائها، أو لم نوجب في الأوّل إعادتها، ينقلها الزوج إلى منزل
ص: 466
...
------------------------------------------------------------------------------------------------
آخر، مراعياً للأقرب إلى مسكن العدّة فالأقرب. وموضع النقل في الثاني ما إذا كانت الأحماء معها في دار واحدة تسع لجميعهم، فلو كانت ضيّقة لا تسع لهم ولها نقل الزوج الأحماء وترك الدار لها. ولو كانت الأحماء في دار أخرى لم تنقل المعتدة من دارها بالبذاءة عليهم. وربما قيل بجواز إخراجها بأذاها لهم وإن كانوا جيراناً لإطلاق الآية(1). ولو كانت في دار أبويها لكون الزوج ساكناً معها(2)، فطلّقها فيها فبذت على الأبوين، ففي جواز نقلها عنهم وجهان، من عموم الآية(3) المتناول لذلك حيث نقول بتفسيرها بالأعم، ومن أنّ الوحشة لا تطول بينهم كما هي بينها وبين الأحماء.
نعم، لو كان أحماؤها في دار أبويها أيضاً وبذت عليهم أخرجوا دونها؛ لأنها أحق بدار الأبوين مع احتمال جواز إخراجها حينئذ؛ للعموم(4). هذا، وتحريم إخراجها وخروجها مشروط بحالة الاختيار ، فلو اضطرت إلى الخروج جاز، ووجب كونه بعد انتصاف الليل وتعود قبل الفجر على ما ذكره المصنّف وجماعة(5). وهو في موقوفة سماعة قال: سألته عن المطلّقة أين تعتدّ؟ قال: «في بيتها لا تخرج، فإن أرادت زيارةً خرجت بعد نصف الليل ولا تخرج نهاراً»(6). وإنّما يعتبر ذلك حيث تتأدى الضرورة به، وإلّا جاز الخروج مقدار ما تتأدى الضرورة من غير تقييد بالليل.
ص: 467
•ولا تخرج في حجة مندوبة إلا بإذنه. وتخرج في الواجب وإن لم يأذن. وكذا فيما تضطر إليه ولا وصلة لها إلا بالخروج.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا تخرج في حجة مندوبة إلّا بإذنه» إلى آخره.
لمّا كان جواز الخروج مقصوراً على الضرورة، ولا ضرورة إلى الحجّة المندوبة لم يجز لها الخروج إليها. وكذا ما أشبهها من الزيارات وفي معناها الحج الواجب الموسع كالنذر المطلق.
وأمّا حجّة الإسلام فيجوز لها أن تخرج إليها بناءً على مذهبنا من أنّها واجبة على الفور، ومَنْ جعلها على التراخي منعها من المبادرة إليها فيها(1).
وكذا يجوز لها الخروج لما تضطرّ إليه من حفظ المال والنفس ونحوهما، كما لو لم تكن الدار حصينةً وكانت تخاف من اللصوص، أو كانت بين قوم فسقة تخاف على نفسها منهم ولو على العرض أو كانت تتأذّى من الجيران أو من الأحماء تأذّياً شديداً ولم يمكن إخراجهم عنها بأن كانوا في مسكن يملكونه ونحو ذلك.
واعلم أنّه يستفاد من قوله «ولا تخرج في حجّة مندوبة إلا بإذنه» أن المنع من خروجها مقيّد بكونه بغير إذنه كما هو أحد القولين(2)، أو يختص الحكم بالحجّ.
وتدل على جوازه بالإذن رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سمعته يقول: « المطلقة تحجّ في عدتها إن طابت نفس زوجها»(3). وفي رواية سماعة السالفة(4): «ليس لها أن تحجّ حتّى تنقضي عدّتها». و طريق الجمع حمل النهي على ما لو لم يأذن
ص: 468
•وتخرج في العدة البائنة أين شاءت.
----------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وتخرج في العدة البائنة أين شاءت».
مذهب أصحابنا أنّ حقّ السكنى للمطلقة مختصّ بالرجعية دون البائن للأصل، ولقوله تعالى بعد قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ): (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا﴾(1) يعني الرجعة، ولأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يجعل لفاطمة بنت قيس لما بتها زوجها نفقة ولا سكني وقال: «إنّما النفقة والسكنى لمن يملك زوجها رجعتها بفرقة»(2).
والمعتمد من الدلالة على ذلك النقل المستفيض عن الأئمة(علیهم السلام)، منها صحيحة سعد بن أبي خلف قال: سألت أبا الحسن موسى(علیه السلام) عن شيء من الطلاق، فقال: «إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً لا يملك فيه الرجعة فقد بانت منه ساعة طلّقها، وملكت نفسها، ولا سبيل له عليها، وتذهب حيث شاءت، ولا نفقة لها». قال، قلت له: أليس الله يقول: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ)(3) قال، فقال: «إنّما عنى بذلك التي تطلق تطليقةً بعد تطليقة فتلك التي لا يُخرِجُ ولا تخرج حتّى تطلق الثالثة، فإذا طلقت الثالثة فقد بانت منه ولا نفقة لها»(4). ومنها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنّه سئل عن المطلقة ثلاثاً ألها النفقة والسكني؟ قال: «أحبلى هي؟ قلت: لا، قال: «فلا»(5). وغيرهما من الأخبار الكثيرة(6).
وأمّا الآية المذكورة فإنّها وإن كانت محتملة لهما إلا أنّها مخصوصة بالسنة، وبقرينة آخرها كما ذكرناه. وكذلك قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنَتُم)(7).
ص: 469
الثانية: • نفقة الرجعيّة لازمة في زمان العدّة وكسوتها ومسكنها يوماً فيوماً، مسلمةً كانت أو ذمّيّةً . أمّا الأمة، فإن أرسلها مولاها ليلاً ونهاراً فلها النفقة والسكنى ؛ لوجود التمكين التام. ولو منعها ليلاً أو نهاراً فلا نفقة؛ لعدم التمكين.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
وأما قصة فاطمة بنت قيس فقد روى الجمهور أن النبيّ (صلى الله عليه وآله و سلم) أمرها أن تعتد في بيت ابن أُمّ مكتوم لما آذت أحماءها بلسانها واستطالت عليهم(1)، فدلالتها مرتفعة من البين، لاختلاف النقل فيها بالنسبة إلى الحجة على الخصم.
قوله: «نفقة الرجعية لازمة في زمان العدة وكسوتها» إلى آخره.
ما تقدّم كان حكم الإسكان، وبيّن في هذه المسألة وجوب الإنفاق على الرجعيّة مطلقاً الذي من جملته الإسكان والكسوة. وإنّما خصّ الإسكان بالذكر؛ للأمر فيه بخصوصه في الآية(2)، ومن ثمّ قال بعض العامّة بوجوب الإسكان خاصّةً للبائن بخلاف النفقة(3)، فإنّها مختصة بالرجعيّة إجماعاً. وشرط وجوبها لها اجتماع الشرائط المعتبرة فيها حال الزوجيّة الصلاحية للاستمتاع وتسليم نفسها وغيرها؛ لأنّ المطلقة رجعيّة تبقى بحكم الزوجة، فيعتبر فيما يجب لها ما يعتبر في الزوجة. فلو كانت صغيرة لا تحتمل الجماع لم تستحق في العدة، كما لا تستحقها في النكاح ، وكذا لو طلقها وهي ناشزة لم تستحق النفقة والسكنى في العدة، كما لا تستحقها في صلب النكاح لتعديها. وكذا لو نشزت في العدة ولو بالخروج من مسكنها بغير إذنه تسقط نفقتها وسكناها. ولو عادت إلى الطاعة عاد الاستحقاق.
ولو كانت أمةً فقد مرّ أنّه ليس على السيد أن يسلّمها ليلاً ونهاراً، بل له أن يستخدمها نهاراً وعليه أن يسلّمها ليلاً(4). وكذلك الحال في زمان العدّة. فإن سلمها ليلاً ونهاراً ورفع اليد
ص: 470
•ولا نفقة للبائن ولا سكنى إلّا أن تكون حاملاً، فلها النفقة والسكنى حتّى تضع.
• وتثبت العدّة مع الوطء بالشبهة. وهل تثبت النفقة لو كانت حاملاً؟ قال الشيخ نعم وفيه إشكال ينشأ من توهّم اختصاص النفقة بالمطلقة الحامل دون غيرها من البائنات.
---------------------------------------------------------------------------------------
عنها فلها النفقة والسكنى كما تستحقّها والحال هذه في صلب النكاح، وإن كان يستخدمها نهاراً لم تستحقّ نفقةً ولا سكنى، لكن لو سلّمها ليلاً فللزوج أن يسكنها حالة فراغها من خدمة السيّد لتحصينها، ويجب عليها حينئذ الاستقرار فيما يسكنها فيه إلى الصباح إلا مع الضرورة كالحرّة.
قوله: «ولا نفقة للبائن ولا سكنى إلا أن تكون حاملاً، فلها النفقة والسكنى حتى تضع».
قد تقدّم القول في عدم وجوب النفقة للبائن(1)، وفي معناها أو من جملتها السكني. والغرض هنا استثناء الحامل من الحكم، فيجب الإنفاق عليها وإسكانها إلى أن تضع ؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(2) الشامل للبائن والرجعي، وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(علیه السلام) في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى، قال: «أجلها أن تضع حملها، وعليه نفقتها حتّى تضع حملها»(3). وفي حسنة الحلبي السابقة حيث سأله عن نفقة البائن وسكناها فقال: «أحبلى هى؟» قلت: لا، قال: «فلا»(4) ما ينبّه على ذلك. وقد تقدّم البحث في أنّ النفقة هل هي للحمل أو للحامل؟ وما يترتّب على الأمرين من الأحكام(5).
قوله: «وتثبت العدّة مع الوطء بالشبهة» إلى آخره.
ص: 471
فروع في سكنى المطلقة:
الأوّل: • لو انهدم المسكن أو كان مستعاراً أو مستأجراً فانقضت المدّة جاز له إخراجها، ولها الخروج؛ لأنّه إسكان غير سائغ. ولو طلقت في مسكن دون مستحقّها جاز لها الخروج عند الطلاق إلى مسكن يناسبها. وفيه تردّد.
-----------------------------------------------------------------------------------------
هذه المسألة متفرّعة على أنّ النفقة على الحامل هل هي لها أو للحمل؟ فقال الشيخ: هي للحمل(1)، فيجب على غير المطلّقة إذا كانت حاملاً حيث يلحق الولد بالواطئ؛ لأنّ نفقة ولده واجبة عليه وإن لم تكن أُمّه .زوجة. وعلى القول بأنّها للحامل(2) فلا نفقة هنا؛ لأنّ الموطوءة للشبهة ليست زوجةً. وقد تقدّم الكلام في توجيه القولين(3).
والمصنف (رحمه الله) استشكل وجوب النفقة هنا تفريعاً على كونها للحمل. ومنشأ الإشكال مما ذكر، ومن إمكان أن يقال: إنّ وجوب نفقة البائن على خلاف الأصل فيقتصر فيها على مورد النصّ وهو المطلقة الحامل، فلا يتعدّى إلى غيرها. وكون النفقة للحمل ليس المراد منه أنّها عليه حقيقة؛ لأنّه لا يحتاج إلى هذا الغذاء المخصوص والكسوة والمسكن الخاص، وإنّما المراد أنّها تجب للحامل لأجله. وحينئذ فيختص بمورد النص وهو المطلقة، وقد تقدم بعضه(4).
قوله: «لو انهدم المسكن أو كان مستعاراً أو مستأجراً» إلى آخره.
قد عرفت أنّ على المطلقة ملازمة مسكن الطلاق مع الاختيار، فلو عرض له انهدام لا يقبل الإصلاح وهي ساكنة فيه جاز إخراجها إلى غيره. وكذا لو كان مستعاراً ورجع المعير فيها، أو مستأجراً وانقضت مدّة الإجارة. لكن في هذين يجب على الزوج أن يطلبه من
ص: 472
...
-----------------------------------------------------------------------------------------------
المالك ولو بأجرة توصّلاً إلى تحصيل الواجب بحسب الإمكان، فإن امتنع أو طلب أزيد من أُجرة المثل نقلها إلى مسكن آخر.
وأوجب جماعةّ(1) تحرّي الأقرب إلى المسكن المنتقل منه فالأقرب؛ اقتصاراً في الخروج المشروط بالضرورة على موردها. وهو حسن.
ومتى نقلها ثمّ بذل المنزل الأوّل مالكه ففى وجوب ردّها إليه وجهان من أنّ جواز الخروج عنه مشروط بالضرورة وقد زالت ومن سقوط اعتباره حيث أذن في الخروج منه. والغرض الذاتي منه ملازمة المرأة للمسكن من غير أن تخرج، وهو حاصل في الثاني، وفي عودها إلى الأوّل منافاة للمقصود كانتقالها عنه. والمتجه عدم وجوب إعادتها إليه.
وإنّما يجب عليها الإقامة فى المسكن الذي طلقت فيه إذا كان لائقاً بها عادةً، فلو كان دون مستحقّها وكانت راضيةً به زمن الزوجيّة لم يجب عليها الرضى به بعد الطلاق، بل لها المطالبة بمسكن يليق بها، كما أنّه لو كان قد أسكنها زمن الزوجيّة في منزل رحب يزيد عن عادتها فله نقلها منه بعد الطلاق إلى منزل يليق بها. وعلى القول بوجوب تحرّي الأقرب فالأقرب لو كان المسكن خسيساً دون مسكن مثلها وأمكن جبره - بأن يضمّ إليه حجرة من الدار أو مَرْفِقاً بحيث يصير به صالحاً لمثلها - لم يجز إخراجها منه إلى غيره؛ لأنّ هذه الضميمة مع بقائها فيه أقرب إلى المقصود من مراعاة عدم الخروج.
والمصنّف تردّد في جواز خروجها إلى مسكن يليق بها إذا كانت وقت الطلاق في الأدون راضية به. ووجه التردّد مما ذكر، و من عموم النهي عن إخراجهنّ من بيوتهنّ وعن خروجهنّ منه(2) الشامل لموضع النزاع. والوجه هو الأول.
والمعتبر فيما يليق بها منه ما تقدّم بحثه في باب النفقات(3)، لكن يزيد هنا اعتبار انفرادها
ص: 473
...
------------------------------------------------------------------------------------------
عن الزوج، فلو كان بيتاً واحداً يليق بها لكنّ الزوج كان ساكناً معها قبل الطلاق وجب عليه الخروج عنها إن كان الطلاق بائناً حيث تجب لها السكني؛ لتحريم الخلوة بالأجنبيّة. وإن كان الطلاق رجعيّاً فظاهر الأصحاب عدم وجوب انفرادها؛ لأنّها بمنزلة الزوجة. ويشكل بأنّ التمتع بها بالنظر وغيره إنما يجوز بنيّة الرجعة لا مطلقاً، فهي بمنزلة الأجنبيّة في أصل تحريمه وإن كان حكمه أضعف فتكون الخلوة بها محرمة كغيرها.
والأصل في تحريم الخلوة بالأجنبية قول النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) :«لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان»(1). وهذه المسألة من المهمات، ولم يذكرها الأصحاب في باب النكاح، وأشاروا إليها في هذا الباب.
والمعتبر من الخلوة المحرّمة أن لا يكون معهما ثالث من ذكر أو أُنثى بحيث يحتشم جانبه ولو زوجة أخرى أو جارية أو محرم له. وألحق بعضهم بخلوة الرجل بالمرأة خلوة الاثنين فصاعداً بها دون خلوة الواحد بنسوة. وفرّقوا بين الأمرين بأنّ استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجل من الرجل(2). ولا يخلو ذلك من نظر.
وحيث يحرم عليه مساكنتها والخلوة بها يزول التحريم بسكني كلّ واحد منهما في بيت في الدار الواحدة بشرط تعدّد المرافق، فلو كانت مرافق حجرتها -كالمطبخ والمستراح والبئر والمرقى إلى السطح - متّحدة في الدار لم يجز بدون الثالث؛ لأنّ التوارد على المرافق يفضي إلى الخلوة وحكم السفل والعلو حكم الدار والحجرة. ولو كان البيت متّحداً، لكنّه واسع فبنى بينهما حائلاً جاز إن كان ما يبقى لها سكنى مثلها. ثمّ إن جعل باب ما يسكنه خارجاً عن مسكنها لم يفتقر إلى ثالث وإن جعله في مسكنها لم يجز إلّا به ؛ لإفضائه إلى الخلوة بها وقت المرور.
ص: 474
الثاني: • لو طلّقها ثم باع المنزل، فإن كانت معتدّة بالأقراء لم يصحّ البيع؛ لأنّها تستحقّ سكنى غير معلومة، فتتحقّق الجهالة. ولو كانت معتدة بالشهور صحّ؛ لارتفاع الجهالة.
-----------------------------------------------------------------------------------
قوله: «لو طلّقها ثمّ باع المنزل» إلى آخره.
إذا باع الزوج الدار التي استحقّت المطلقة سكناها، فإن كانت معتدة بالأقراء أو بوضع الحمل لم يصحّ البيع ما لم تنقض العدّة؛ لأنّ مدّة الأقراء والحمل مجهولة وإن كان لها عادة مستقيمة في الأقراء والحمل؛ لأن تغيّر العادة أمر ممكن، فهو كما لو باع داراً واستثنى منفعتها مدةً مجهولة. ولو كانت تعتدّ بالأشهر فقد قطع المصنّف بجواز البيع معللّاً بارتفاع الجهالة، كما لو باع الدار الموجودة مدّة معينة، لتعلّق حق الغير بالمنفعة مدة مضبوطة. هذا حاصل ما ذكروه من الفرق بين الأمرين.
ويشكل الحكم في كلّ منهما:
أمّا الأوّل؛ فلأن الاختلاف الحاصل أو الممكن مع اعتيادها استقامة الحيض قدر يسير قد لا تضرّ جهالته حيث تكون المنفعة في زمانه تابعة للمعلوم، كما جوّزوا تبعية المجهول للمعلوم في البيع حيث يكون المجهول تابعاً. نعم، هذا يجري على قول من لا يصحّح بيع المجهول مطلقاً(1)، والمصنّف منهم كما نبّه عليه في بابه(2)، فلذا أطلق هنا.
وأمّا الثاني فيمكن مساواته للأوّل في احتمال الجهالة؛ لأنّ المعتدّة بالأشهر قد تتوقع الحيض في أثنائها فتنتقل إليها كما سبق(3)، فيكون تقيّد عدّتها بالأشهر غير معلوم. وهذا الاحتمال لا يزول عندنا؛ لأنّ الصغيرة واليائسة لا عدّة عليهما، ومن هي في سن المحيض - بأن بلغت التسع ولم تكن يائسة - يمكن في كل وقت حيضها وإن لم يكن غالباً. ومع ذلك
ص: 475
...
-----------------------------------------------------------------------------------------
فيمكن طروء الموت في أثناء العدة فتبطل وترجع المنفعة إلى ملك الزوج إن كانت هي الميّتة أو إلى ورثته إن كان الميّت هو فلا وثوق بخروج المنفعة عن ملكه مدّة العدّة.
وبهذا يفرّق بين بيع العين المؤجرة مدّة معلومةٌ وبين بيع هذه الدار؛ لأن منافع العين المؤجرة ملك للمستأجر، ألا ترى أنه لو مات كانت لورثته، بخلاف المعتدة، فإنها لا تملك منفعة الدار ولهذا لو ماتت كانت منافعها بقيّة المدّة للزوج. ويمكن أن يلتزم هنا عود المنفعة إلى الزوج دون المشتري، وتكون المنفعة زمن العدّة مستثناة عن المشتري مطلقاً. ويبقى الإشكال الأول.
ولو قلنا بصحّة البيع لذات الأشهر فحاضت في أثنائها وانتقلت عدّتها إلى الأقراء، فإن انقضت عدّتها بها في مقدار الأشهر أو أقلّ فلا اعتراض للمشتري. وكان البحث في بقية الأشهر هل تنتقل منفعتها إلى المشتري أو إلى البائع؟ كما لو ماتت في أثنائها، والأظهر انتقالها إلى البائع؛ لأنها كالمستثناة له مدّةً معلومةٌ .
ولو انقضت(1) العدّة بالأقراء أكثر من الأشهر قدّمت الزوجة بالباقي ؛ لسبق حقّها. وفي تخيير المشتري في الفسخ والإمضاء حينئذ وجهان، من فوات بعض حقّه فكان كتبعّض الصفقة، ومن قدومه على ذلك، فإنّه كما يمكن بقاء استحقاقها طول المدّة باستمرارها على عدم الحيض يحتمل نقصانه عنها وزيادته بالتغيّر الطارئ. وتصحيح البيع للبناء على الغالب أو على أصالة عدم التغير لا يوجب تعيّنه.
والأقوى الفرق بين من يعلم بالحكم وغيره فيتخيّر الثاني دون الأوّل؛ لأنّ خيار تبعّض الصفقة مشروط بجهل ذي الخيار بما يقتضي التبعض.
وربما استثني من عدم صحّة بيع المسكن - حيث لا نصحّحه - ما لو بيع على المطلقة، لاستحقاقها حينئذٍ جميع المنفعة من حين الشراء وإن كان بعضه بالشراء وبعضه بالزوجيّة،
ص: 476
الثالث: • لو طلّقها ثمّ حجر عليه الحاكم قيل : هى أحق بالسكني؛ لتقدّم حقّها على الغرماء. وقيل: تضرب مع الغرماء بمستحقّها من أجرة المثل. أمّا لو حجر عليه ثمّ طلّق كانت أُسوةً مع الغرماء؛ إذ لا مزيّة.
----------------------------------------------------------------------------------------------
فإن ذلك لا يقدح، كما لو باع ما يملك وما لا يملك مع الجهل بقسط ما صحّ فيه البيع حالته.
وقد تقدّم البحث في نظير المسألة في كتاب السكنى إذا بيع المسكن مدة معلومة أو مجهولة كالمقترن بالعمر، وحققنا القول فيه، فليراجع ثُمَّ(1).
قوله: «لو طلقها ثمّ حجر عليه الحاكم قيل: هي أحقّ بالسكنى» إلى آخره.
إذا طلّقها وهي في مسكن مملوك للزوج ثمّ أفلس وحجر عليه، فإن كان المسكن هو المستثنى له في الدين فلا اعتراض عليها بوجه، بل تبقى فيه إلى انقضاء العدّة ثم ترجع منفعته إلى الزوج. وإن كان فاضلاً عنه بحيث يباع في الدين بقي لها فيه حقّ السكنى مقدّماً على الغرماء؛ لتقدّم حقّها في العين عليهم؛ لأنّ حقّهم لم يتعلّق بأعيان أمواله إلا بعد الحجر. وكذا لو مات وعليه ديون، فتقدّم به على الورثة؛ لأنّ حقها متعلّق بعين المسكن كحقّ المكتري والمرتهن. ويأتي في جواز بيع الحاكم رقبته لأجل الدين ما مرّ من التفصيل في بيع المطلّق له(2).
والقول بتقديمها على الغرماء هو المشهور بين الأصحاب وغيرهم، لم ينقل أحد فيه خلافاً، ولكن المصنّف نقل عن بعضهم أنّها تضرب مع الغرماء بأجرة المثل(3). ووجهه أن حقّها في السكنى تابع للزوجية السابقة، ولهذا كان مشروطاً بشروطها من بقائها على الطاعة والتمكين وغيره من الشرائط فلا يكون حقّها أزيد من حقّ الزوجة، والزوجة إنّما تستحق السكني يوماً فيوماً، وعلى تقدير الحجر عليه لا تستحقّ السكنى إلّا يوم القسمة خاصّةً،
ص: 477
الرابع: •لو طلّقها في مسكن لغيره استحقّت السكني في ذمته، فإن كان له غرماء ضربت مع الغرماء بأجرة مثل سكناها. فإن كانت معتدّة بالأشهر فالقدر معلوم. وإن كانت معتدّة بالأقراء أو بالحمل ضربت مع الغرماء بأجرة سكنى أقلّ الحمل أو أقلّ الأقراء، فإن اتّفق وإلّا أخذت نصيب الزائد. وكذا لو فسد الحمل قبل أقلّ المدّة رجع عليها بالتفاوت.
--------------------------------------------------------------------------------------
فإذا بقي من استحقاقها في السكنى شيء ضربت به مع الغرماء(1) كالدين؛ لأنّه متعلّق بذمة الزوج وإن اختصّ برقبة المسكن الخاصّ.
وجوابه: أنّ حقّ الزوجة في الإسكان والنفقة في مقابلة الاستمتاع، فكان متجدّداً بتجدّده، بخلاف حقّ المطلّقة، فإنّه ثابت بالطلاق لمجموع العدّة لا في مقابلة شيء وإن كان مشروطاً بشرائط نفقة الزوجة، ومن ثمّ وجب لها في البائن على بعض الوجوه.
هذا كلّه إذا تقدّم الطلاق على الحجر. أمّا لو حجر عليه أولاً ثمّ طلّقها ضاربت بأجرة المثل مع الغرماء؛ إذ لا مزية لها عليهم. وليس ذلك كدين يحدث بعد الحجر لا يزاحم صاحبه الغرماء؛ لأنّ حقها وإن كان حادثاً فهو مستند إلى سبب متقدّم وهو النكاح وأيضاً فإنّه حقّ يثبت لها بالطلاق من غير اختيارها، فأشبه ما إذا أتلف المفلس مالاً على إنسان فإنه يزاحم الغرماء.
قوله: «لو طلّقها في مسكن لغيره استحقّت السكنى في ذمته» إلى آخره.
ما سبق(2) حكم ما إذا كان المسكن ملكاً للزوج. أما لو طلّقها وهي في مسكن لغيره بعارية أو بأجرة ضاربت بالأجرة، سواء كان الطلاق قبل الحجر أم بعده؛ لأنّ حقها هنا مرسل غير متعلق بعين، بخلاف ما إذا كان المسكن له فإنّها تستحقّه بخصوصه فتقدّم به. وهذا الفرق يتمّ مع كون المسكن بإعارة مطلقاً أو بأجرة المثل من غير عقد.
ص: 478
...
------------------------------------------------------------------------------------------------
أمّا لو كان قد استأجره مدّة معيّنةً وأسكنها فيه لم يظهر الفرق بينه وبين ما يملك رقبته. وما يقال من تقديمها هنا بأقلّ المدّة أو غيره مشترك. واللائح من الفرق الذي ذكروه - من كون السكنى في ذمّته لا تتعلّق بعين مخصوصة - اختصاصه بما لو لم يكن المسكن مؤجراً مدّة معينةً؛ لأنّه لو كان كذلك فطلقها فيه اختصّت به ولم يجز إخراجها منه؛ لعدم المقتضي.
إذا تقرّر ذلك فمتى وقعت الحاجة إلى المضاربة بالحصّة، فإن كانت ممن تعتدّ بالأشهر فالقدر الذي تضارب به معلوم؛ لأنّه أجرة تمام ثلاثة أشهر. وإن كانت ممّن تعتدّ بالأقراء أو بوضع الحمل نظر إن لم يكن لها عادة في الأقراء أو في مدّة الحمل أخذت باليقين، فتضارب بأجرة أقلّ مدّةٍ يمكن انقضاء الأقراء فيها. وقد تقدّم(1) ما يعلم به الأقلّ. والحامل تضارب بأجرة ما بقي من أقلّ مدة للحمل وهي ستة أشهر من يوم العلوق؛ لأنّ استحقاق الزيادة
مشكوك فيه. وإن كان لها عادة غالبة فالأشهر أنّ حكمها كذلك. ولو قيل هنا بجواز الضرب بمقدار العادة الغالبة - وهي ما بقي من ثلاثة أشهر لذات الأقراء وتسعة أشهر للحامل - كان وجهاً؛ لأنّ الأصل والظاهر استمرار عادتها.
والفرق بين ما نحن فيه حيث بنينا المضاربة على الأخذ بالأقلّ أو بغالب العادة ولم نين الأمر في بيع المسكن على ذلك - بل قطع بالبطلان إذا كانت تعتدّ بالأقراء أو بوضع الحمل - أنّا وإن أخذنا بالظاهر هناك، فإنّ استحقاقها لجميع مدة العدّة ثابت، واحتمال الزيادة والنقصان ،قائم، وبذلك تطرّق الجهل إلى المبيع؛ إذ لا يدري المشتري متى يستحقّ المنفعة والجهالة تمنع صحّة البيع، وهنا الجهالة تقع في القسمة، فلا يدرى أنّ ما أخذه كلّ واحد هو قدر حصته أم لا، وهي لا تمنع صحّة القسمة، ولهذا لو قسم مال المفلس بين غرمائه فظهر غريم آخر لا تستأنف القسمة بل يرجع على كلّ واحد بالحصّة.
ص: 479
...
--------------------------------------------------------------------------------------------
وإذا ضاربت بأجرة مدّة وانقضت المدّة على وفق تلك المضاربة رجعت على المفلس بالباقي من الأجرة عند يساره كباقي ديون الغرماء بعد المضاربة. ولو امتدّت العدة وزادت على مدة المضاربة رجعت على الغرماء بأجرتها؛ لأنّه تبين استحقاقها الزيادة، فأشبه ما إذا ظهر غريم آخر. ولها أن ترجع به على المفلس إذا أيسر. ويحتمل عدم رجوعها على الغرماء بل على المفلس خاصّةً ؛ لأنّا قدرنا حقّها بما أعطيناها مع تجويز استحقاق الزيادة فلا يتغيّر الحكم، ويخالف الغريم الذي ظهر، فإنّا لم نشعر بحاله أصلاً. وربما فرّق بعضهم بين الحامل وذات الأقراء، فإنّ الحمل محسوس تقوم البينة عليه، والأقراء لا تعرف إلّا من قولها، فلو مكّنت من الرجوع لم يؤمن أن تدّعي تباعد الحيض طلباً للزيادة. ووجه المشهور أنها مصدّقة في ذلك شرعاً، فيكون قولها كقيام البيّنة.
ومتى ضاربت بالأجرة استؤجر بحصّتها المنزل الذي وجبت فيه العدة، فإن تعذّر اعتبر القرب كما تقدم.
ولو فرض انقضاء العدّة قبل تمام المدة التي بنت(1) عليها المضاربة؛ لفساد الحمل حيث أجلها بالأقلّ أو عجلت الأقراء حيث يعتبر الأغلب ، ردت الفضل على الغرماء ورجعت على الزوج المفلّس بما تقتضيه المحاصة للمدّة التي انقضت العدة فيها كما مرّ.
واعلم أنّه لا فرق في هذه المسائل بين أجرة المسكن والنفقة، فتضارب الغرماء عند إفلاس الزوج بالنفقة والسكنى جميعاً. بل المضاربة بالنفقة ثابتة على كل حال، بخلاف المسكن، فإنّها قد تختصّ به، فلذلك أفردوه بالذكر والقول في كيفية المضاربة والرجوع على ما مضى.
ص: 480
الخامس • لو مات فورث المسكن جماعة لم يكن لهم قسمته إذا كان بقدر مسكنها إلّا بإذنها أو مع انقضاء عدّتها؛ لأنّها استحقت السكني فيه على صفته.
والوجه أنّه لا سكنى بعد الوفاة ما لم تكن حاملاً.
--------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «لو مات فورث المسكن جماعة لم يكن لهم قسمته» إلى آخره.
إذا مات الزوج في خلال العدّة وقلنا بعدم سقوط حقّها من السكنى بموته إمّا مطلقاً على ما يقتضيه كلام الشيخ(1)، أو مع كونها حاملاً على قولٍ(2)، وكانت في مسكن مملوك للزوج، لم تقسّمه الورثة حتّى تنقضي العدّة إلا بإذنها أو مع انقضاء عدّتها؛ لسبق استحقاقها السكني فيه على صفته من غير أن يقسّم كالدار التي أجرها جماعة من إنسان. هذا إذا ترتب على قسمتها تغيير صورتها بإقامة الحدود والجدران.
أمّا لو أرادوا التمييز بخطوط ترسم من غير نقض وبناء فلا مانع منه بناء على جعل القسمة إفراز حق، وأمّا من جعلها بيعاً جاء فيه الحكم في بيع مسكن العدة على ما مرّ(3). ولو لم تكن حاملاً، أو قلنا إن المتوفّى عنها لا سكنى لها مطلقاً فلا مانع من قسمتها كغيرها من أمواله.
واعلم أنّ تنزيل هذه المسألة على أصولنا على القولين مشكل. أما على القول بعدم استحقاق المتوفّى عنها مطلقاً فظاهر؛ لأنّ حق المطلّقة بموت الزوج يسقط من السكنى والنفقة. وأمّا على القول بوجوب نفقتها إذا كانت حاملاً - كما ذهب إليه الشيخ(4) - فإنّما يجب من نصيب الحمل على ما صرح به الشيخ(5) والرواية(6) التي هي مستند الحكم، لا من مال الميّت مطلقاً ،
ص: 481
السادس: • لو أمرها بالانتقال فنقلت رحلها وعيالها ثمّ طلّقت وهي في الأوّل اعتدّت فيه.
ولو انتقلت وبقى عيالها ورحلها ثم طلقت اعتدت في الثاني.
ولو انتقلت إلى الثاني ثمّ رجعت إلى الأوّل لنقل متاعها ثمّ طلّقت اعتدّت في الثاني؛ لأنه صار منزلها.
ولو خرجت من الأوّل فطلّقت قبل الوصول إلى الثاني اعتدّت في الثاني لأنّها مأمورة بالانتقال إليه.
---------------------------------------------------------------------------------------------
والفرض في المسألة تعدّد الوارث، وحينئذٍ فلا تتقدم بحق السكنى على إرثهم من المسكن ؛ إذ لا حقّ لها في نصيبهم بل في نصيب الحمل منه خاصّةً، فلا يتم تقديمها بالمسكن مطلقاً، ولا تفريع عدم جواز القسمة بل غايته أن تطلب السكنى من حقّ ولدها كما تطلب النفقة، وذلك لا ينحصر في مسكن الطلاق، وإنّما هذا حكم مختصّ بالمطلقة حيث تستحقّ ذلك
على الزوج.
والأصل في هذه المسألة أن مذهب بعض الشافعيّة وجوب السكنى في عدّة الوفاة كما تجب في غيرها من العدد البائنة والرجعيّة، ولا يخصّون الحكم بالرجعية كما يذهب إليه أصحابنا، وجعلوا حقّ السكنى من التركة(1)، وعليه يتفرّع ما ذكر هنا. فتابعهم الشيخ(2) في العبارة من غير تقييد بما يناسب مذهبه. وقيدها المصنّف والعلّامة(3) بكونها حاملاً. وذلك يتمّ في استحقاق أصل السكنى لا في صفتها للفرق بين سكنى المطلقة والمتوفّى عنها الحامل على ما رأيت.
قوله: «لو أمرها بالانتقال فنقلت رحلها وعيالها» إلى آخره.
ص: 482
...
-----------------------------------------------------------------------------------------
قد عرفت(1) أنّ من استحقّت السكنى من المعتدّات تسكن في المسكن الذي كانت فيه الطلاق إلّا أن يمنع منه مانع. فلو انتقلت من مسكن إلى آخر ثمّ طلقها الزوج، فإن كان الانتقال بغير إذنه فعليها أن تعود إلى الأوّل مطلقاً. ولو أذن لها بعد الانتقال في أن تقيم في المنتقلة إليه كان كما لو انتقلت إليه بعد الطلاق بإذنه، فإن جوّزناه جاز هنا وإلا فلا. ولو انتقلت بإذنه ثمّ طَلَّق اعتدت في المنتقلة إليه، فإنّه المسكن عند الفراق. وإن خرجت من الأوّل ولم تصل إلى الثاني فطلقها فالأصح أنّها تعتدّ فى الثاني؛ لأنّها مأمورة بالمقام فيه ممنوعة من غيره.
ولا فرق بين كونه بعد الطلاق أقرب إليها من الأوّل وعدمه.
والاعتبار في الانتقال بالبدن لا بالأمتعة والخدم، حتّى لو كانت قد انتقلت إلى المسكن الثاني بنفسها ولم تنقل الرحل والأمتعة فمسكنها الثاني، ولو نقلت الأمتعة ولم تنتقل هي فالمسكن الأوّل، كما أنّ حاضر المسجد من هو بمكة لا من رحله وأمتعته بمكة. وعند أبي حنيفة الاعتبار بالأمتعة لا بالبدن(2)، فالحكم عنده على العكس.
ولو أذن لها في الانتقال ثمّ طلّقها قبل أن تخرج من المسكن لم يجز لها الخروج؛ لأنّ العدّة وجبت فيه. ولو انتقلت إلى المسكن الثاني ثمّ عادت إلى الأول لنقل متاع وغيره فطلقها فالمسكن الثاني وتعتدّ فيه، وهو كما لو خرجت عن المسكن لحاجة فطلّقها وهي خارجة. هذا إذا كانت قد دخلت الثاني دخول قرار.
أمّا إذا لم تدخله على وجه القرار بل كانت متردّدةً بينهما وتنقل أمتعتها، فإن طلّقها وهى في المسكن الثاني اعتدّت فيه. وإن طلقها وهي في الأوّل ففيه وجهان، وظاهر العبارة اعتدادها في الثاني مطلقاً؛ إذ لم يقيد الحكم يكون الانتقال على وجه القرار.
ص: 483
السابع: • البدوية تعتدّ في المنزل الذي طلّقت فيه، فلو ارتحل النازلون به رحلت معهم ؛ دفعاً لضرر الانفراد وإن بقي أهلها فيه أقامت معهم ما لم يتغلّب الخوف بالإقامة. ولو رحل أهلها وبقي من فيه مَنَعةٌ، فالأشبه جواز النقلة ؛ دفعاً الضرر الوحشة بالانفراد.
الثامن: • لو طلقها فى السفينة، فإن لم تكن مسكناً أسكنها حيث شاء، وإن كانت مسكناً اعتدت فيها.
------------------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «البدوية تعتدّ في المنزل الذي طلقت فيه» إلى آخره.
منزل البدوية وبيتها من صوف وشعر كمنزل الحَضَرية من طين وحجر، فإذا لزمتها العدّة فيه فعليها ملازمته .
ثمّ إن كانت البدوية من حيّ نازلين على ماء لا ينتقلون عنه ولا يظعنون إلّا لحاجة فهي كالحضرية من كل وجه. وإن كانت من حيّ ينتقلون عنه، فإن ارتحلوا جميعاً ارتحلت معهم للضرورة. وإن ارتحل بعضهم نظر إن كان أهلها ممّن لم يرتحل وفي الذين لم يرتحلوا قوّة وعدد فليس لها الارتحال. وإن كان أهلها ممّن يرتحل وفي الباقين قوّة وعدد فوجهان: أحدهما: أنه ليس لها الارتحال وتعتدّ هناك، لتيسره، فتدخل في عموم قوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ)(1). وأصحهما أنّها تتخير بين أن تقيم وبين أن ترتحل؛ لأنّ مفارقة الأهل عسرة موحشة، فتكون ضرراً يستثنى معه المفارقة للمنزل.
قوله: «لو طلقها في السفينة فإن لم تكن مسكناً أسكنها حيث شاء» إلى آخره.
إذا طلقها وهي في السفينة، فإن ركبتها مسافرةً ولم تكن منزل أمثالها فهو كما لو طلقها مسافرةً، فيُسكنها حيث شاء بعد قضاء وطرها الضروري من السفر.
ص: 484
التاسع: • إذا سكنت في منزلها ولم تطالب بمسكن فليس لها المطالبة بالأجرة؛ لأنّ الظاهر منها التطوع بالأجرة. وكذا لو استأجرت مسكناً فسكنت فيه لأنّها تستحق السكنى حيث يسكنها لا حيث تتخيّر.
-------------------------------------------------------------------------------------------
وإن كان مسكناً لها - بأن كان ملاحاً ولا منزل له سوى السفينة كانت السفينة في حقّه بمنزلة الدار للحضري. فإن اشتملت على بيوت متميّزة المرافق اعتدّت في بيت منها معتزلةً عن الزوج، وسكن الزوج بيتاً آخر، وكانت كدار فيها حجر منفردة المرافق. وإن كانت صغيرةً نظر إن كان معها محرم يدفع الخلوة المحرمة اعتدت فيها. ولو أمكن خروجه منها مع انتفاء الضرر بخروجه - بحيث يبقى فيها من يمكنه معالجتها - وجب، كما تقدّم في البيت الواحد(1). وحيث تعتدّ خارجها يجب تحرّي أقرب المنازل الصالحة لها إلى الشطّ، كما تقدّم في ضرورة الخروج من منزل الطلاق(2).
قوله: «إذا سكنت في منزلها ولم تطالب بمسكن» إلى آخره.
إذا طلّقها ووجب عليه السكني، فإن كانت في منزله فخرجت منه إلى مسكنها بغير إذنه فلا إشكال في عدم استحقاقها عليه أجرة المسكن، نوت الرجوع أم لم تنو. وإن كانت ساكنةً من قبل في مسكنها - مسامحة له حال الزوجية في المسكن، أو غير مسامحة - فطلقها واستمرت في مسكنها، فإن نوت التبرع فلا شبهة في عدم جواز رجوعها عليه بالأجرة فيما بينها وبين الله تعالى. وإن نوت الرجوع أو لم تنو شيئاً ففي صيرورة حق السكني في ذمته كنفقة الزوجة وجواز مطالبتها بها ، أو عدمه نظراً إلى ظاهر حالها من كونها متطوعةً بها، فلا يقبل منها دعوى نية الرجوع؛ إذ لا رجوع لها لو لم تنو، ويحمل الإطلاق على التبرع وجهان جزم
المصنّف بعدم رجوعها؛ عملاً بالظاهر.
ص: 485
...
-----------------------------------------------------------------------------------
وعلّل أيضاً بأنّها بسكناها في منزلها وعدم مطالبته مع تمكّنها من المطالبة تكون قاضية لدينه بغير إذنه فلا ترجع، كمن قضى دين غيره بغير إذنه ولا إذن شرعي هنا.
ويشكل بأنّ سكناها من جملة النفقات الواجبة، وهي على حدّ نفقة الزوجة التي تستقرّ في الذمة بفواتها ويجب قضاؤها، ولا يلزم من سكوتها أن تكون قاضية دينه بغير إذنه، وإلّا لم تستحقّ نفقةً إذا امتنع من الإنفاق عليها وهي زوجته فأنفقت على نفسها، فإنّها حينئذٍ تكون قاضية دينه بغير إذنه مع وجوب قضائها إجماعاً.
ودعوى كون الظاهر من حالها التبرّع متخلّف فيما إذا صرّحت بقصد الرجوع، اللهّم إلّا أن يجعل ذلك من قبيل نفقة الأقارب لا نفقة الزوجة؛ لخروجها عن الزوجيّة، وأن الغرض من سكناها تحصين مائه على موجب نظره واحتياطه ولم يتحقّق، فكانت بذلك مشبهة لنفقة الأقارب التي غايتها المعونة لا المعاوضة.
وقد يفرّق أيضاً بين السكنى والنفقة بأنّ السكنى لكفاية الوقت وقد مضى والمرأة لا تتملك المسكن ولها تملّك الانتفاع به، والنفقة عين تملك وتثبت في الذمّة.
وينتقض هذا الفرق بكسوة الزوجة على القول الأصح من أنّه إمتاع، وبسكناها، فإنّه لا يستلزم عدم قضائهما لها.
والأقوى ثبوت الأجرة عليه ما لم تتبرع؛ لأن حقّها ثابت لها فلا يسقط إلا بأدائه إليها أو إسقاطها صريحاً أو علم التبرع. وكذا القول فيما لو استأجرت مسكناً فسكنت فيه، إلا أنّ اللازم هنا أُجرة مثل مسكن يصلح لها عادةً لا أُجرة ما استأجرته. كل ذلك مع عدم خروجها بغير إذنه حيث يكون باذلاً لها السكنى ولو رجعت مع امتناعه إلى الحاكم فأمرها بالاستئجار، أو تعذر وامتنع الزوج فلا إشكال في الثبوت.
وتعليله عدم الاستحقاق بأنّها إنما تستحقّ حيث يسكنها لا حيث تتخيّر لا يتمّ إلّا مع بذله لها السكنى، أما مع سكوته عنها فلا، ومع ذلك لا يرد الأمر إلى تخييرها بل إلى حقها
ص: 486
المسألة الثالثة: • لا نفقة للمتوفّى عنها ولو كانت حاملاً. وروي أنّه ينفق عليها من نصيب الحمل. وفي الرواية بعد. ولها أن تبيت حيث شاءت.
------------------------------------------------------------------------------------------------
الكلي المستقرّ في ذمته بفواته وإن لم تطالب به، وتخيّرها في المسكن على هذه الحالة لا يسقط حقها. نعم، لا يوجب أجرة المسكن المعين، ونحن نقول بموجبه.
قوله: «لا نفقة للمتوفى عنها ولو كانت حاملاً» إلى آخره.
المشهور بين الأصحاب أن نفقة المعتدّة مختصة بالرجعية والبائن الحامل. وأما المتوفّى عنها، فإن كانت حائلاً فلا نفقة لها إجماعاً. وإن كانت حاملاً فلا نفقة لها في مال المتوفّى أيضاً كذلك.
وهل تجب في نصيب الولد؟ اختلف الأصحاب في ذلك بسبب اختلاف الروايات، فذهب الشيخ في النهاية(1) وجماعة من المتقدمين(2) إلى الوجوب. وللشيخ قول آخر بعدمه(3)، وهو مذهب المتأخرين؛ للأصل، وقوله : «إنّما النفقة للتي يملك زوجها رجعتها»(4).وألحق بها المطلقة البائن الحامل بدليل خارجي فيبقى الباقي.
ولحسنة الحلبي عن الصادق(علیه السلام) أنّه قال: «الحبلى المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها»(5). ورواية أبي الصباح الكناني عن الصادق(علیه السلام) قال في المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها هل لها نفقة؟ قال: «لا»(6).
ص: 487
...
--------------------------------------------------------------------------------------
ورواية زرارة عن أبي عبد الله(علیه السلام) في المرأة الحامل المتوفّى عنها زوجها هل لها نفقة؟ قال: «لا»(1) وغيرها من الأخبار(2).
واحتج الأولون بصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهما السلام) قال: «المتوفى عنها زوجها طيري ينفق عليها من ماله»(3). قال الشيخ (رحمه الله): الضمير في «ماله» راجع إلى الولد(4)؛ لأنّ الحائل لا نفقة لها إجماعاً، فالمراد ،الحامل، وإنّما قلنا برجوع الضمير إلى الولد لما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق (علیه السلام) قال: «المرأة الحبلى المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من مال ولدها الذي في بطنها»(5).
والمصنّف (رحمه الله) استبعد هذه الرواية من غير أن يستضعفها؛ لأنّ طريقها صحيح. ووجه البُعْد أنّ ملك الحمل مشروط بانفصاله حيّاً، فقبله لا مال له في الميراث ولا في غيره. مع أنّها معارضة بصحيحة محمد بن مسلم أيضاً عن أحدهما(علیهما السلام) قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها ألها نفقة ؟ قال: «لا ينفق عليها من مالها»(6). وترك الاستفصال يفيد العموم.
ونبّه بقوله «ولها أن تبيت حيث شاءت على خلاف بعض العامة حيث جعل سكناها من التركة وتعيينها إلى الوارث، حتّى لو لم تكن تركة فعين الوارث لها مسكناً لم يكن لها الامتناع(7).
ص: 488
المسألة الرابعة: • لو تزوّجت فى العدّة لم يصحّ، ولم تنقطع عدة الأوّل فإن لم يدخل [بها] الثاني فهي في عدة .الأول. وإن وطئها الثاني عالماً بالتحريم فالحكم كذلك، حملت أو لم تحمل. ولو كان جاهلاً ولم تحمل أتمّت عدّة الأوّل: لأنّها أسبق، واستأنفت أُخرى للثاني على أشهر الروايتين.
------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو تزوّجت في العدة لم يصح، ولم تنقطع عدة الأول لم يصحّ» إلى آخره.
لما كان العقد على ذات العدّة باطلاً، سواء علم بالحكم أم لم يعلم، فلا عدّة له من حيث العقد لفساده. ثم إن وطئ العاقد وكان عالماً فلا عدّة أيضاً؛ لأنّه زان ولا حرمة لمائه. فيكتفى بإكمال العدّة الأولى، سواء كانت عدة طلاق أم وفاة أم غيرهما من أسبابها. ولو كان جاهلاً فهو وطء شبهة يوجب العدّة أيضاً، فتجتمع عليها عدّتان، فلا تتداخلان على أصحّ القولين(1)؛ للأصل، ولأنّهما حقان مقصودان كالدينين، فإن لم تحمل أتمّت عدة الأوّل لسبقها واستأنفت أُخرى لوطء الشبهة بعد الفراغ من الأُولى.
والروايتان اللتان أشار إلى تعارضهما:
إحداهما رواية محمّد بن مسلم قال قلت: المرأة الحبلى يتوفّى عنها زوجها فتضع وتتزوج قبل أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، فقال: «إن كان الذي تزوجها دخل بها فرّق بينهما ولم تحل له أبداً، واعتدّت بما بقي عليها من عدة الأوّل، واستقبلت عدّة أُخرى من الأخير ثلاثة قروء، وإن لم يكن دخل بها فرّق بينهما وأتمّت باقي عدتها، وهو خاطب من الخطاب»(2). وهذه تؤيد الحكم بعدم التداخل وإن كانت موقوفة.
ص: 489
...
---------------------------------------------------------------------------------------
والرواية الأخرى الدالّة على تداخل العدتين والاكتفاء بواحدة تامة بعد وطء الأوّل رواها زرارة - في الصحيح - عن أبي جعفر(علیه السلام) في امرأة تزوجت قبل أن تنقضي عدتها، قال: «يفرق بينهما وتعتد عدة واحدة منهما جميعاً»(1). وروى زرارة أيضاً عن أبي جعفر(علیه السلام) في امرأة فقدت زوجها أو نعي إليها فتزوجت ثمّ قدم زوجها بعد ذلك فطلّقها قال: «تعتدّ منهما جميعاً ثلاثة أشهر عدة واحدة، وليس للآخر أن يتزوّجها أبداً»(2). وروى أبو العباس عن أبي عبد الله(علیه السلام) في المرأة تتزوّج في عدتها قال:«يفرّق بينهما وتعتد عدة واحدةً منهما جميعاً»(3).
فهذه الروايات كلّها دالّة على تداخل العدتين، وهي أوضح إسناداً من السابقة، ولكن عمل أكثر الأصحاب على عدم التداخل فمن ثمّ جعلها المصنّف (رحمه الله) أشهر الروايتين. والشيخ (رحمه الله) جمع بين الروايات بحمل هذه على عدم دخول الثاني؛ إذ ليس فيها تصريح بأنّه دخل، بخلاف الأولى، فإنّها صريحة فيه(4). وحكمه بتحريمها على الثاني مؤبداً لا يدلّ على دخوله أيضاً؛ لجواز استناد التحريم إلى علمه بالحال، فإنه يوجب التحريم وإن لم يدخل.
وفيه نظر؛ لأنّ قوله «تعتدّ منهما جميعاً» يدلّ على الدخول؛ إذ لولاه لكانت عدتها من الأوّل خاصةً. وقد تقدّم البحث في هذه المسألة في أسباب التحريم من كتاب النكاح(5)، وتقدمت الإشارة إليها في هذا الكتاب مرة أخرى(6)، فليراجع بحثها فيهما.
ص: 490
• ولو حملت وكان ما يدل على أنّه للأوّل اعتدت بوضعه له، وللثاني بثلاثة أقراء بعد وضعه. وإن كان هناك ما يدلّ على أنّه للثاني اعتدت بوضعه له، وأكملت عدّة الأوّل بعد الوضع. ولو كان ما يدلّ على انتفائه عنهما أتمت بعد وضعه عدة الأوّل، واستأنفت عدّة للأخير. ولو احتمل أن يكون منهما قيل: يقرع بينهما، ويكون الوضع عدة لمن يلحق به. وفيه إشكال ينشأ من كونها فراشاً للثاني بوطء الشبهة، فيكون أحق به.
------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو حملت وكان ما يدلّ على أنه للأوّل اعتدت» إلى آخره.
ما تقدّم من تقديم عدة الأوّل(1) حكم ما إذا لم تحمل، أما إذا حملت قدمت عدّة الحمل منه سابقاً كان الحمل أم لاحقاً، فإنّ عدّة الحمل لا تقبل التأخير. فإن كان الحمل من الأوّل ثم وطئت بالشبهة، فإذا وضعت انقضت العدة الأولى، وتعتدّ بالأقراء للثاني إن اتفقت، وإلّا فبالأشهر. وإن كان الحمل للثاني - ويعلم بوضعه لما زاد عن أكثر الحمل من وطء الأوّل، ولما بينه وبين الأقل من وطء الثاني اعتدت بوضعه للثاني، وأكملت عدّة الأوّل بعد ذلك.
ثمّ إن كانت الأولى بالأشهر فواضح. وإن كانت بالأقراء وعرض وطء الثاني في أثناء القرء لم يحتسب قرءاً، بل تكمله بعد الوضع إلى أن يبتدئ النفاس إن تأخّر عن الولادة. ولو اتصل بها سقط اعتبار ما سبق من الطهر واحتسب بما بعد النفاس وإن طال زمانه؛ لأنّها قد ابتدأت العدّة بالأقراء فلا ترجع إلى الأشهر لو فرض مضيّ ثلاثة بعد النفاس طهراً بسبب الرضاعة. نعم، لو فرض بلوغها بعد الولادة سن اليأس أتمّت العدة الأولى بالأشهر كما سبق نظيره(2).
ولو فرض انتفاء الحمل عنهما - بأن ولدته لأكثر من مدة الحمل من وطء الأول، ولأقلّ من ستة أشهر من وطء الثاني - لم يعتبر زمن الحمل من العدّتين، وأكملت الأولى بعد الوضع بالأقراء أو الأشهر على حسبهما، واعتدت بعدها للأخير كذلك.
ص: 491
...
---------------------------------------------------------------------------------
ولو احتمل أن يكون منهما كما لو ولدته فيما بين أقلّ الحمل وأقصاه بالنسبة إليهما - انقضت إحدى العدّتين بوضعه على كل حال واعتدّت بعد ذلك للآخر. ثمّ إن ألحق بالأوّل استأنفت عدة كاملة للثاني بعد الوضع، وإن الحق بالثاني أكملت عدة الأول، كما لو كان الحمل للثاني ابتداءً. ولكن إذا احتمل كونه منهما بمن يلحق منهما قولان:
أحدهما: أنّه يقرع بينهما فيه؛ لأنّها فراش لكلّ منهما في وقت إمكان حمله، فأشكل أمره، والقرعة لكلّ أمر مشكل(1). ولا فرق في ذلك بين أن يتداعياه وعدمه. وهذا القول للشيخ (رحمه الله)(2).
والثاني - وهو الذي اختاره الأكثر - أنّه للثاني؛ لأنّها فراش له بالفعل، والأول فراشه قد انقضى، وصاحب الفراش الثابت بالفعل حال الحمل أولى، لقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الولد للفراش»(3).
وهذا أقوى.
ثم تنبه لأُمور:
الأوّل: قول المصنف (رحمه الله) «لو تزوّجت في العدّة» إلى آخره يشمل عدّة الطلاق والوفاة وغيرهما، حتى عدّة الوطء للشبهة فتجتمع عدّتان .لها. والحكم في الجميع صحيح لكن مع الحمل لا يتمّ قوله «إنّها تعتدّ بوضعه للأوّل» في عدة الوفاة؛ لما عرفت من أن المعتبر فيها أبعد الأجلين(4)، فيحتاج مع ذلك إلى تأويل كون الوضع سبباً ناقصاً في الانقضاء، أو
على تقدير كونه أبعد الأجلين، أو يحتاج معه إلى اعتبار تمام الأمرين بضرب من النظر.
ص: 492
...
-------------------------------------------------------------------------------
الثاني: يفهم من قوله «ولم تنقطع عدّة الأوّل» إلى آخره أن زمن زوجيّة الثاني ظاهراً ووطئه محسوب من عدّة الأوّل وإن كانت فراشاً للثاني. ولا يخلو من إشكال؛ لأن الفراش ينافي الاعتداد المعتبر لبراءة الرحم، خصوصاً زمن الوطء بالفعل. ولو قيل بأن مدّة كونها فراشاً للثاني - وهو من حين العقد إلى حين العلم بالحال - لا يعتبر من عدّة الأوّل كان وجهاً. ولو فرض كون وطء الشبهة بغير عقد فالمستثنى من العدّة على هذا الوجه زمن الوطء فيبنى على العدة السابقة، كما عرفت من ذلك الأمر.
ويظهر كونها فراشاً للثاني مع جهله - وإن كان العقد فاسداً - من تعليل إلحاق الولد به، بل من ترجيحه على الأوّل بكونه فراشاً بالفعل. نعم لو قيل بأنّها لا تصير فراشاً إلا بالوطء خاصةً وإن وقع عقد لفساده شرعاً اتجه أيضاً. أما نفي فراشيّتها مطلقاً كما ذكره في التحرير؛ معللاً به عدم قطع العدة مطلقاً(1) فغير واضح.
الثالث: حيث تكون عدّة الأوّل رجعيّةً فله الرجعة في عدته، سواء اتّصلت أم انقطعت. فلو تخلّلها الحمل من الثاني فله الرجعة في زمان إكمالها بعد الحمل لا زمان الحمل؛ لأنّها حينئذٍ ليست في عدة رجعيّة. وعلى تقدير اتّصالها وتأخر عدة وطء الشبهة يجوز له الرجوع ولا يمنع من عدة الشبهة، بل تعجلها؛ لأنّها تشرع فيها من حين رجوعه؛ لانقطاع العدة الأولى التي كانت هي المانعة من اعتدادها للثاني. وقد تقدّم تحقيق ذلك فليراجع ثُمَّ(2). الرابع: قد تكون إحدى العدّتين بالأقراء والأخرى بالأشهر، كما لو طلّقها الأوّل ومضى عليها قرءان - مثلاً - ثم وطنت بالشبهة ولم تحمل، فإنّها تكمل الأوّلى بالأقراء، فلو فرض انقطاع دمها في زمن الثانية ثلاثة أشهر اعتبرت بالأشهر.
ولو فرض بلوغها سن اليأس بعد الحكم عليها بالاعتداد من الثاني وقبل الفراغ من عدّة الأول - بأن بقي لها منها قرء - أكملت عدّة الأوّل بشهر واعتدّت للثاني بثلاثة أشهر.
ص: 493
...
--------------------------------------------------------------------
وإن كانت يائسةً في جميع وقتها ؛ لسبق وجوبها قبل اليأس كما سبق وجوب إكمال الأولى قبله. ولا يأتي عندنا اعتداد اليائسة بجميع العدة في زمن اليأس إلا هنا. ولو اعتبرنا زمن استفراش الثاني لها قاطعاً لعدة الأوّل فاستدام فراشه إلى أن بلغت سن اليأس ثم فرّق بينهما أكملت عدّة الأوّل بالأشهر أيضاً ثمّ اعتدت للثاني بها.
الخامس: لو كان الطلاق رجعياً فمات أحدهما في زمن العدة ورثه الآخر وإن كان في المدة المتأخّرة منها. فلو كان الميت هو المطلق وجبت عليها عدة الوفاة. وفي تقديمها على عدة الشبهة لو كانت متأخّرةً عن عدة الطلاق وجهان من قوة عدة الوفاة بكونها للزوج فهي مستندة إلى عقد لازم بخلاف عدة الشبهة ومن سبق سببية عدة الشبهة على عدة الوفاة.
ولو مات في عدة الواطئ ولما تكمل عدة المطلّق ففي ثبوت التوارث بينهما نظر، من أنّها حينئذ بمنزلة الأجنبيّة، ومن عدم تخلّصها من عدته حتى قيل بجواز رجعتها في زمن الحمل لو كان عدّة للثاني، حيث يكون الطلاق رجعيّاً؛ لبقاء العدّة الرجعية وإن انقطعت بالحمل، ولكن لا يجوز له الوطء إلى أن تضع.
وبالجملة فصيرورتها أجنبيّة من المطلق مطلقاً ممنوع. والقول بثبوت التوارث وعدة الوفاة لا يخلو من قوّة، فتعتد للوفاة بعد وضع الولد الملحق بالواطئ، وتنقطع العدّة الرجعيّة كما لو مات في أثنائها.
السادس: قد عرفت أنّ الرجعية تستحقّ النفقة في العدة، وأن البائنة لا تستحقها إلّا إذا كانت حاملاً، وأن تلك النفقة هل هي للحامل أو للحمل؟ وأن المعتدة عن وطء الشبهة لا نفقة لها على الواطئ إلا إذا كانت حاملاً وقلنا: إن النفقة للحمل، وكذا المتوفى عنها زوجها، على الخلاف فيهما.
إذا تقرّرت هذه الجمل فنفقتها في زمن الحمل على المطلق مطلقاً وفي غير زمانه من عدته الرجعية، سواء اتصلت أم تفرّقت وأمّا عدّة الشبهة، فإن كانت بغير حمل فلا نفقة لها
ص: 494
الخامسة: • تعتد زوجة الحاضر من حين الطلاق أو الوفاة. وتعتدّ من الغائب في الطلاق من وقت الوقوع، وفى الوفاة من حين البلوغ، ولو أخبر غير العدل لكن لا تنكح إلّا مع الثبوت، وفائدته الاجتزاء بتلك العدة. ولو علمت الطلاق ولم تعلم الوقت اعتدّت عند البلوغ.
-----------------------------------------------------------------
فيها على الزوج ولا على الواطئ لأنها على تقدير عدم الحمل تكون متأخرة عن عدّة الزوج، فتكون بائنة من الزوج فلا نفقة عليه، وهي منفية عن الواطئ؛ لما تقدم.
وأمّا مع الحمل من الواطئ الموجب لقطع عدة الزوج (وتأخيرها فيها إلى عدة بعد الوضع)(1) ففي وجوبها على الزوج؛ لأنّها لم تخرج عن عدته الرجعية؛ لأنّا نفرضها كذلك، أو وجوبها عليه، حيث يجوز له الرجعة في زمان الحمل وإن لم نجوز الوطء؛ لأنّها حينئذٍ في حكم الرجعية، أو على الواطئ بناءً على وجوبها للحمل، أو عليهما بمعنى أنّه يجب على كلّ واحد نفقة تامة؛ لوجود السبب في كلّ منهما، أو انتفائها عنهما معاً؛ لأنّها ليست حينئذ في عدة رجعيّة، وواطئ الشبهة لا زوجيّة له توجب النفقة، ولا نقول إنّها للحمل، أو نقول إنّها له، بشرط كون الحامل زوجةً خمسة أوجه أجودها الأخير.
قوله: «تعتد زوجة الحاضر من حين الطلاق أو الوفاة» إلى آخره.
ما ذكره من الفرق بين المطلّق والمتوفّى بالنسبة إلى وقت اعتداد الزوجة هو المشهور بين الأصحاب، ذهب إليه الشيخان(2) وأكثر المتقدمين وجميع المتأخرين.
و مستنده الأخبار المستفيضة الصحيحة الدالة على ذلك، كصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (علیه السلام) قال: «إذا طلق الرجل المرأة وهو غائب فلا تعلم إلا بعد ذلك بسنة أو أكثر أو أقلّ، فإذا علمت تزوّجت ولم تعتدّ، والمتوفّى عنها زوجها وهو غائب تعتدّ [من] يوم يبلغها ولو كان قد مات قبل ذلك بسنة أو سنتين»(3).
ص: 495
...
----------------------------------------------------------------------------
وصحيحة زرارة عن الباقر(علیخ السلام) قال: إن مات عنها - يعني وهو غائب - فقامت البينة على موته فعدتها من يوم يأتيها الخبر أربعة أشهر وعشراً؛ لأنّ عليها أن تحدّ عليه في الموت»(1) الحديث.
وصحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق(علیه السلام) قال: «إذا طلق الرجل وهو غائب فليشهد على ذلك، فإذا مضى ثلاثة أقراء من ذلك اليوم فقد انقضت عدتها»(2). وفي معناها حسنة البزنطي عن أبي الحسن(علیه السلام) قال : «المتوفى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها؛ لأنها تريد أن تحدّ له(3) وغيرها من الأخبار(4).
وفيه: إشارة إلى الفرق بينهما بأن المتوفّى عنها زوجها عليها الحداد وهو لا يحصل قبل بلوغ الخبر، بخلاف المطلقة، فإنّ المقصود منها براءة الرحم وهو يحصل بمضي المدة علمت بالحال أم لم تعلم.
ويشكل الحكم على هذا التعليل في الأمة حيث لا نوجب عليها الحداد، فإنّ مقتضاه مساواتها للمطلقة ؛ لعدم المقتضي لجعل عدّتها من حين بلوغ الخبر. ويمكن القول بمساواتها للحرّة هنا، نظراً إلى إطلاق كثير من الأخبار اعتداد المتوفى عنها زوجها من حين بلوغ الخبر(5) الشامل لها. والتعليل في الأحكام الشرعية ضبطاً للقواعد الكلية لا يعتبر فيه وجوده في جميع أفرادها الجزئية كحكمة العدّة وغيرها من الأحكام وقد نبهنا على هذا
ص: 496
...
-----------------------------------------------------------------------------
البحث غير مرّة. ويمكن أن يكون من حكمة جعل العدّة من حين بلوغ الخبر - وراء الإحداد - إظهار التفجّع لموت الزوج والحزن، وهو يتحقّق في الحرّة والأمة. وأيضاً فإنّا وإن لم نوجب إحداد الأمة لكن نقول باستحبابه، وذلك كافٍ في الأمر بالعدّة عند بلوغ الخبر.
ووراء هذا القول المشهور للأصحاب أقوال أُخر.
منها قول ابن الجنيد بالتسوية بينهما في الاعتداد من حين الموت والطلاق إن علمت الوقت، وإلا حين يبلغها فيهما(1). وحجته عموم قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَتْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ)(2) وقوله تعالى: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَثَةُ أَشْهُرٍ )(3) وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )(4)الدال بظاهره على التسوية بينهما في التربص وكونه من حين الطلاق والوفاة ؛ لتعليق الحكم على وصفهنّ بالتطليق والوفاة عنهن الحاصل من حينهما.
وخصوص صحيحة الحلبي عن الصادق قال قلت له امرأة بلغها في زوجها بعد سنة أو نحو ذلك، قال، فقال: «إن كانت حبلى فأجلها أن تضع حملها، فإن كانت ليست بحبلى فقد مضت عدتها إذا قامت لها البينة أنه مات في يوم كذا وكذا، وإن لم يكن لها بينة فلتعتد من يوم سمعت»(5).
ورواية الحسن بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن المطلقة يطلقها زوجها فلا تعلم إلا بعد سنة، والمتوفى عنها زوجها فلا تعلم بموته إلا بعد سنة، قال: «إن جاء شاهدان عدلان فلا تعتدان وإلا تعتدان»(6).
ص: 497
...
------------------------------------------------------------------
ويمكن على هذا أن يجمع بين الأخبار بحمل السابقة على الاستحباب؛ حذراً من اطّراح هذين وفيهما الصحيح، ويؤيدّه ورود خبر آخر بالفرق بين المدّة القليلة والكثيرة على تقدير الوفاة فتعتد من حين الوفاة في الأوّل دون الثاني، وهو صحيحة منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول في المرأة يموت زوجها أو يطلّقها وهو غائب، قال:«إن كان مسيرة أيام فمن يوم يموت زوجها تعتدّ، وإن كان من بعد فمن يوم يأتيها الخبر؛ لأنّها لا بد من أن تحدّ له»(1). وبمضمونه أفتى الشيخ في التهذيب(2). وهو القول الثالث في المسألة.
و اختلاف هذه الأخبار المعتبرة الأسناد يؤذن بجواز العمل بكل منها - وذلك فيما يقتضي التحديد - على وجه الاستحباب والاحتياط.
وهذا أجود من جواب الشيخ عن الخبرين الأخيرين بشذوذهما ومخالفتهما لتلك الأخبار الكثيرة فيطرحان، أو على أنّ الراوي وَهَمَ فسمع حكم المطلقة فظنّ أنّه حكم المتوفّى عنها زوجها(3). نعم، لو تحقّق التعارض ولم يمكن الجمع أمكن ترجيح الأخبار السابقة بكثرتها وكون بعضها معللاً والمعلّل مقدّم على غيره عند التعارض، كما حقّق في محله.
وبقي في المسألة قول رابع لأبي الصلاح، وهو أنّها تعتد حين بلوغ الخبر مطلقاً؛ محتجّاً بأنّ العدّة من عبادات النساء، وافتقار العبادة إلى نيّة تتعلق بابتدائها(4).
وفي هذا القول - مع شذوذه - اطراح الأخبار من جميع الجهات. ونمنع كون مثل هذا من
العبادات المتوقّفة على النية، بل من العبادات مطلقاً.
ص: 498
...
------------------------------------------------------------------------------
بقي في المسألة أمور:
الأوّل: لا فرق في جواز الاعتداد بعدّة الوفاة مع بلوغها خبر موته بين كون المخبر مما(1) يفيد قوله ظنّ الموت وعدمه، ولا بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى؛ لصدق كونه مخبراً ومبلغاً للخبر ونحو ذلك ممّا ذكر في الأخبار. فإذا اعتدّت على هذا الوجه توقّف جواز تزويجها على ثبوت موته بالبيّنة أو الشياع وإن تأخّر عن العدّة زماناً طويلاً. وأمّا الطلاق فالمعتبر في خبره ما يثبت به في أي وقت اتّفق. ثم إن مضت مدّة بقدر العدة من حين ثبوت الطلاق جاز لها النكاح وإلّا انتظرت تمامها.
الثاني: لو بادرت فنكحت بالخبر قبل ثبوته وقع العقد باطلاً ظاهراً. ثم إن تبيّن بعد ذلك موته قبل العقد وتمام العدّة قبله ظهر صحته في نفس الأمر، ولم يفتقر إلى تجديده. ولا فرق مع ظهور وقوعه بعد العدّة بين كونه عالماً بتحريم الفعل قبله وعدمه، وإن أثم في الأول. ولو فرض دخول الزوج الثاني قبل العلم بالحال والحكم بالتحريم ظاهراً ثم انكشف وقوعه بعد الموت والطلاق وتمام العدة لم تحرم عليه بذلك وإن كان قد سبق الحكم به ظاهراً، لتبيّن فساد السبب المقتضي للتحريم.
الثالث: إنّما تعتدّ عند بلوغ خبر الطلاق - حيث تجهل وقته - على تقدير الجهل به بكلّ وجه بحيث يحتمل وقوعه قبل الخبر بغير فصل، أمّا لو فرض العلم بتقدمه مدّة - كما لو كان الزوج في بلاد بعيدة يتوقّف بلوغ الخبر على قطع المسافة بينها وبينه - حكم بتقدّمه في أقلّ زمان يمكن فيه مجيء الخبر، ويختلف ذلك بقرب البلاد وبعدها، وسرعة حركة المخبر وبطئها.
وبالجملة فكلّ وقت يعلم تقدّم الطلاق عليه يحتسب من العدّة. وإنّما أطلق المصنّف مع الجهل بالوقت الاعتداد من وقت الطلاق لإطلاق الحكم به في حسنة الحلبي عن
ص: 499
السادسة: • إذا طلقها بعد الدخول ثمّ راجع في العدة ثمّ طلق قبل المسيس لزمها استئناف عدة؛ لبطلان الأولى بالرجعة.
ولو خالعها بعد الرجعة قال الشيخ هنا: الأقوى أنّه لا عدة. وهو بعيد؛ لأنه خلع عن عقد تعقبه الدخول.
أما لو خالعها بعد الدخول وتزوّجها في العدّة وطلّقها قبل الدخول لم تلزمها العدّة؛ لأنّ العدّة الأولى بطلت بالفراش، والعقد الثاني لم يحصل معه دخول. وقيل: تلزمها العدة؛ لأنّها لم تكمل العدّة الأولى والأوّل أشبه.
----------------------------------------------------------------------------------------
أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن الرجل يطلّق امرأته وهو غائب عنها من أيّ يوم تعتد ؟ فقال: «إن قامت لها بينة عدل أنّها طلقت في يوم معلوم فلتعتدّ من يوم طلقت، وإن لم تحفظ في أيّ يوم وأيّ شهر فلتعتدّ من يوم يبلغها»(1). ولا تنافي هذه الرواية ما ذكرناه من التقييد؛ لأنّ من كان زوجها بعيداً عنها بمسافة تعلم تقدّم الطلاق عن بعض الأيّام والشهور وإن جهلت يوم وقوعه أو شهره في الجملة، والرواية مقيّدة بعدم العلم بذلك أصلاً.
قوله: «إذا طلقها بعد الدخول ثمّ راجع في العدة» إلى آخره.
إذا طلّقها طلاقاً رجعيّاً، ثمّ راجعها انقضت العدّة بالرجعة وعادت إلى النكاح الأوّل المجامع للدخول، وصارت كأنّها لم تطلق بالنسبة إلى كونها الآن منكوحة ومدخولاً بها، وإن بقي للطلاق السابق أثر ما من حيث عدّة في الطلقات الثلاث المحرّمة. فإذا طلقها بعد هذه الرجعة قبل المسيس لزمها استئناف العدّة؛ لأنّها بالرجعة عادت إلى النكاح الذي مسّها فيه، فالطلاق الثاني طلاق عن نكاح وجد فيه المسيس، سواء كان الطلاق الثاني باتناً أم رجعيّاً؛ لاشتراكهما في المقتضي للعدّة وهو كونه طلاقاً عن نكاح وجد فيه الوطء.
ص: 500
...
--------------------------------------------------------------------------------
وفي معنى الطلاق البائن الخلع، سواء جعلناه طلاقاً أم لا؛ لمشاركته للطلاق في اعتبار العدّة إذا وقع بمدخول بها.
وفي هذا الأخير قول للشيخ في المبسوط بعدم العدّة للخلع(1)؛ بناء على أنّ الطلاق بطل إيجابه العدة بالرجعة، ولم يمسها في النكاح المستجدّ والحلّ المستحدث، فأشبه ما إذا أبانها ثمّ جدد نكاحها وطلاقها.
وهو يضعّف بأنّ الرجعة إنّما أبطلت العدّة المسبّبة عن الطلاق بسبب عود الفراش السابق، وهو مقتضي لصيرورتها مدخولاً بها، وخلع المدخول بها يوجب العدّة، ولم يتجدد نكاح آخر لم يمسّها فيه، وإنّما عاد النكاح الممسوس فيه، بخلاف ما إذا أبانها ثمّ جدّد نكاحها ؛ لارتفاع حكم النكاح الأوّل بالبينونة، والنكاح بعده غير الأول، فإذا طلّقها بعده فقد وقع بغير مدخول بها في ذلك النكاح.
هذا كلّه إذا كان الطلاق الأول رجعيّاً. أمّا إذا كان بائناً - كما إذا خالعها بعد الدخول ثمّ تزوّجها في العدّة ثمّ طلّقها قبل الدخول - لم تلزمها هنا العدّة؛ لأن العقد الثاني لم يعد الفراش الأوّل وإنّما أحدث فراشاً آخر، والعدة الأولى بطلت بالفراش المتجدّد ولم يحصل فيه دخول، فإذا طلقها حينئذٍ فقد صدق أنّها مطلّقة عن نكاح غير مدخول بها فيه، فتدخل تحت عموم قوله تعالى: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)(2). والقول بلزوم العدّة للقاضي في المهذّب(3)؛ محتجّاً بما أشار إليه المصنّف من أنّها لم تكمل العدّة الأولى وقد انقطعت بالفراش الثاني فيجب العود إليها بعد الطلاق.
ص: 501
السابعة: • وطء الشبهة يسقط معه الحدّ، وتجب العدّة. ولو كانت المرأة عالمة بالتحريم وجهل الواطئ لحق به النسب ووجبت له العدة، وتحدّ المرأة ولا مهر.
ولو كانت الموطوءة أمةً لحق الولد وعلى الواطئ قيمته لمولاه حين سقط ومهر الأمة. وقيل: العُشر إن كانت بكراً، ونصف العشر إن كانت ثيباً. وهو المروي.
----------------------------------------------------------------------------
وضعفه واضح ممّا بيّناه، وإنّما يجب تجديد (العدّة لو وطئ بعد تجديد)(1) العقد عليها ثانياً؛ لأنّ هذا نكاح جديد لا يرتبط بحكم السابق.
قوله: «وطء الشبهة يسقط معه الحدّ ، وتجب العدّة» إلى آخره.
الشبهة في الوطء إن وقعت من الطرفين فالولد لهما، وعليها العدّة، ولها مهر المثل إن كانت حرّةً. وإن اختصّت بأحدهما لحق به النسب و وجبت العدّة عليها، سواء كانت هي المختصة بالشبهة أم هو ؛ مراعاة لحقّ الوطء الصحيح من طرف المشتبه عليه، ويختصّ الحدّ بالعالم منهما. ثم إن كانت هي العالمة فلا مهر لها وإلّا ثبت.
ولو كانت الموطوءة أمةً وكانا جاهلين لحق به الولد وعليه قيمته لمولاها حين سقط حيّاً؛ لأنّه عوض منفعتها الفائتة بالحمل وعقر الأمة. وإن كانت عالمةً دونه فكذلك، إلّا أنّ في ثبوت المهر لمولاها هنا خلافاً من حيث إنّها بغي، وكونه لمولاها ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(2). وقد تقدّم البحث فيه مراراً(3). وإن كان هو العالم دونها فعليه الحدّ، والولد رق المولاها، وعليه العقر(4). وحيث يثبت لها المهر فهل هو مهر المثل؛ لأنّه عوض البضع شرعاً
ص: 502
الثامنة: • إذا طلقها بائناً ثم وطئها لشبهة، قيل: تتداخل العدتان؛ لأنّهما لواحد. وهو حسن، حاملاً كانت أو حائلاً.
--------------------------------------------------------------------------
حيث لا مقدّر، أم هو عشر قيمتها إن كانت بكراً ونصفه إن كانت ثيباً؟ قولان(1) المروي منهما صحيحاً هو الثاني(2). وقد تقدّم البحث في هذا كله في نكاح الإماء(3).
قوله: «إذا طلقها بائناً ثم وطئها لشبهة، قيل: تتداخل العدنان» إلى آخره.
إذا اجتمعت على المرأة عدّتان، فإمّا أن تكونا لشخص واحد أو لشخصين. والثاني تقدّم البحث في بعض أقسامه(4)، وسيأتي بعض آخر(5). والأوّل إن كانتا من جنس واحد - بأن طلّق زوجته وشرعت في العدّة بالأقراء أو بالأشهر ثمّ وطئها في العدّة جاهلاً - تداخلت العدّتان على أصح القولين؛ لأنّهما لواحد؛ وقال الشيخ وابن إدريس: لا تتداخل العدتان عليها مطلقاً بل تأتي بكلّ منهما على الكمال(6)؛ لأنّهما حقّان مختلفان. وهو حقّ مع تحقّق الاختلاف، وهو منتف مع كونهما لواحد، لحصول الغرض بالواحدة. وقد تقدّم(7) في الأخبار الصحيحة ما يدلّ على تداخلهما مع اختلاف الشخص فمع اتحاده أولى.
ومعنى التداخل أنّه يدخل الأقلّ منهما تحت الأكثر، فلو كانتا بالأقراء أو الأشهر استأنفت العدّة من حين الوطء ودخل باقي العدة الأولى في الثانية. وعلى تقدير كون الأُولى
ص: 503
التاسعة • إذا نكحت فى العدّة الرجعيّة وحملت من الثاني اعتدّت بالوضع من الثاني وأكملت عدّة الأوّل بعد الوضع، وكان للأوّل الرجوع في تلك العدة دون زمان الحمل.
--------------------------------------------------------------------------
رجعيّة يجوز له الرجعة في تلك البقيّة لا بعدها. ويجوز تجديد النكاح في تلك البقية وبعدها إذا لم يكن عدد الطلاق مستوفى.
وإن كانت العدّتان من جنسين بأن كانت إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء - إمّا بأن طلقها وهى حائل ثمّ وطئها في آخر الأقراء وأحبلها، أو بأن طلّقها وهى حامل ثمّ وطئها قبل أن تضع - فعلى ما اختاره المصنّف من التداخل تدخل العدّة الأخرى في الحمل؛ لأنّهما من شخص واحد فأشبها المتجانسين، فتنقضي العدتان جميعاً بالوضع، وله الرجعة في الطلاق الرجعي إلى أن تضع إن كانت عدّة الطلاق بالحمل وطراً الوطء. وإن كانت عدّة الطلاق بالأقراء وحدث الحمل من الوطء ففي الاكتفاء بالوضع عنهما نظر، من أنّها في عدة الطلاق وإن وجبت عدّة أخرى، والوضع يوجب براءة الرحم من ماء الواطئ والزوج مطلقاً. ومن أنّ مقتضى القواعد الماضية حيث ابتدأت عدة الطلاق بالأقراء أن لا تكمل بغيرها، فتكون حينئذ العدة بالأقراء هى الأكثر. فتدخل عدّة الحمل فيها لا بالعكس. هذا إذا قلنا إن الحامل لا تحيض أو اتّفق لها ذلك، فيتوقّف الانقضاء على إكمال الأقراء بعد الوضع كما لو لم يحكم بالتداخل. ومثله ما لو كان وطء الشبهة عارضاً على عدّة الحمل وقد بقي للوضع أقل من ثلاثة أشهر؛ لأنّ الأكثر حينئذٍ هو عدّة الشبهة. ولو فرض رؤيتها الدم زمن الحمل أمكن الجمع بين العدّتين والاكتفاء بالوضع عنهما على تقدير مضيّ الأقراء حالة الحمل. وبالجملة لا بدّ من مراعاة أكثر العدتين عند اجتماعهما حيث نحكم بالتداخل.
قوله: «إذا نكحت في العدّة الرجعية وحملت من الثاني» إلى آخره.
هذا من جملة أقسام ما لو اجتمعت عدتان من شخصين وكانت إحداهما عدّة طلاق والأخرى عدة وطء شبهة. وقد تقدّم منه حكم ما لو كان المتقدّم وطء الشبهة(1)، وهذا حكم ما
ص: 504
...
-------------------------------------------------------------------------
لو كان المتقدّم عدة الطلاق. والحكم فيهما واحد وهو عدم تداخل العدّتين على أصح القولين. ثم إن لم يكن هناك حمل أكملت عدة الطلاق بالأقراء أو الأشهر ؛ لتقدّمها وقوتها ثم اعتدّت للثاني بعد الفراغ منها. وإن حصل هناك حمل فإن كان من الأوّل فكالأوّل، وإن كان من الثاني قدّمت عدّته ؛ لأنّها لا تقبل التأخّر وأكملت عدة الأوّل بعد الوضع، فإن كانت بالأقراء اعتدت النفاس حيضاً وأكملتها بعدها إن بقي منها شيء. ولا فرق في ذلك بين العدّة الرجعيّة والبائنة، إلّا أنّ الرجعية يجوز للزوج الرجوع فيها، سواء تقدمت أم تأخّرت؛ لأنّ ذلك من مقتضاها شرعاً.
تم إن كانت متقدّمةً على عدّة الشبهة فرجع فيها ابتدأت عدّة الشبهة بعد الرجوع ولا يجوز له الوطء إلى أن تنقضي العدّة الثانية. وقد تقدّم ذلك(1). وإن كان المتقدم هو عدّة الشبهة - كما لو ظهر منه حمل - فللزوج الرجوع في بقيّة عدته بعد الوضع دون زمان الحمل لأنّها حينئذ غير معتدّة منه. وربما قيل بجواز الرجوع في زمن الحمل أيضاً؛ لأنّها لم تخرج
بعد عن عدّته الرجعيّة، لكن لا يجوز الوطء إلى أن تخرج عدّة الشبهة والأصح الأول.
ولو كانت عدة الطلاق بائنة فالكلام في جواز تزويجها في العدة كالقول في جواز الرجوع. وقد تقدّم(2). وسيأتي البحث في هذه المسائل في مواضع متفرّقة(3).
* * *
تمّ المجلد الرابع من كتاب مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام. بحمد الله تعالى وحسن توفيقه. ويتلوه في المجلّد الخامس كتاب الخلع والحمد لله حق حمده وصلواته على سید رسله محمّد وعلى آله وصحبه على يد مصنّفه الفقير إلى عفو الله تعالی زین الدین بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي (عامله الله بلطفه وعفا عن سيئاته بمنه وكرمه وجوده)(4).
ص: 505
ص: 506
والنظر فى الصيغة والفدية والشرائط والأحكام.
----------------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الخلع والمباراة
الخلع - بضمّ الخاء - مأخوذ من الخلع بفتحها وهو النزع(1)؛ لأنّ كلّا من الزوجين لباس الآخر قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)(2) وكأنّه بمفارقة الآخر نزع لباسه. والأصل فيه قبل الإجماع آية: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا)(3) وقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَفْتَدَتْ بِهِ ی)(4).
ومن السنّة ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلّا أنّي أخاف الكفر، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم):«تردین علیه حديقته؟» قالت: نعم، فردت عليه الحديقة
ص: 507
...
-----------------------------------------------------------------------------
وطلّقها تطليقة(1). وفي رواية: «فتخالعا عليها»(2). ونقل أنه أوّل خلع جرى في الإسلام(3).
والمبارأة بالهمز، وقد تقلب ألفاً، وأصلها المفارقة، قال الجوهري، تقول: بارأت شريكي إذا فارقته وباراً الرجل امرأته(4).
والمراد هنا إبانتها بعوض مقصود لازم لجهة الزوج. ويفترقان باختصاص الخلع بكراهتها له خاصةً، والمباراة باشتراكهما في الكراهة وفي أُمور أُخر تأتي(5).
واعلم أنّ الفرقة الحاصلة على العوض تارةً تكون بلفظ الخلع أو المباراة فيلحقها حكمها، وتارةً تكون بلفظ الطلاق فتكون طلاقاً بعوض ليس بخلع، لكن جرت العادة بالبحث عنه في كتاب الخلع، لمناسبته له في كونه إبانة بعوض لكنّه يخالفه في بعض الأحكام، فإنّه طلاق محض تلحقه أحكام الطلاق بأسرها ويزيد عليه العوض، وله أحكام تخصّه زيادة على أصل الطلاق سيأتي إن شاء الله تعالى بيانها(6).
ثمّ الخلع يجري بين اثنين وفيه عوض ومعوّض ، وله صيغة خاصّة يعقد بها.وهو معاوضة؛ لاشتماله على افتدائها البضع بالمال فيلحقه أحكامها من اشتراط وقوعها بين اثنين ولو بالقوّة وصيغة صريحة فيه وأحكام تترتّب عليه، وقد عقدها المصنّف في أربعة مباحث.
ص: 508
•أمّا الصيغة فأن يقول : خلعتك على كذا، أو فلانة مختلعة على كذا. وهل يقع بمجرده؟ المروي نعم. وقال الشيخ: لا يقع حتّى يتبع بالطلاق.
__________________________________________
قوله: «أما الصيغة فأن يقول: خلعتك على كذا» إلى آخره.
لمّا كان الخلع من العقود أو الإيقاعات المفيدة لإبانة الزوجة على وجه مخصوص فلا بدّ له من صيغة تدلّ عليه مفيدة للإنشاء كنظائره من العقود أو الإيقاعات. واللفظ الصريح فيه قوله «خلعتك» أو «خالعتك على كذا»، أو «أنت أو فلانة مختلعة على كذا». أمّا الأوّلان فواقعان بصيغة الماضي التي هي صريحة في الإنشاء على ما تقرّر وتكرر. وأمّا الأخيران؛ فلأنّهما وإن لم يكونا باللفظ الماضي لكنّهما يفيدان الإنشاء، بل هما أصرح فيه من الماضي المفتقر في دلالته على الإنشاء إلى النقل إليه. ولكن مثل هذا لم يلتزمه الأصحاب في جميع العقود اللازمة، بل أمرهم فيه مضطرب من غير قاعدة يرجع إليها ولا دلالة عليه من النصوص توجبها.
وقد تقدّم في النكاح والطلاق(1) ما يخالف هذا وأنّه لا يقع بقوله «أنت مطلقة» ونحوه، واعتمدوا في التزامه على خبر لا يوجب ذلك الحصر كما بيّناه، ولو جوّزوا في جميع الأبواب الألفاظ المفيدة للمطلوب صريحاً من غير حصر كان أولى.
إذا تقرّر ذلك فهل يكفي في وقوعه من جانب الزوج الإتيان بهذه الصيغة ونحوها، أم لا بد من إتباعه بلفظ يفيد الطلاق كقوله بعد ذلك «فأنت طالق»، أو «فهي طالق»؟
ص: 509
...
----------------------------------------------------------------------------
قولان مشهوران للأصحاب منشؤهما اختلاف الروايات ظاهراً، والذي دلّت عليه الأخبار الصحيحة والنصوص الكثيرة(1) وذهب إليه محقّقو الأصحاب - كالمرتضى(2)، وشيخه المفيد(3)، وشيخه الصدوق(4)، وأكثر المتقدمين والمتأخرين - هو الأول.
ويدلّ عليه من الروايات صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام) عن المرأة تفادي زوجها أو تخلع منه بشهادة شاهدين على طهر من غير جماع هل تبين منه بذلك، أو هي امرأته ما لم يتبعها بطلاق؟ فقال: «تبين منه وإن شاءت أن يردّ إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت». فقلت: إنّه قد روي أنها لا تبين منه حتّى يتبعها بطلاق، قال:
«ليس ذلك إذا خلع». فقلت: تبين منه؟ فقال: «نعم»(5).
وصحيحة الحلبي أن الصادق(علیه السلام) قال: «خلعها طلاقها»(6).
وحسنة الحلبي أيضاً عنه (علیه السلام) إلى أن قال: «وكان الخلع تطليقة»(7).
وحسنة محمد بن مسلم عنه(علیه السلام) وفيه: «وكانت تطليقةً بغير طلاق يتبعها، وكانت بسائناً بذلك»(8). وغيرها من الأخبار(9).
ص: 510
...
-----------------------------------------------------------------------
وقال الشيخ (رحمه الله): لا يقع بمجرّده، ونقله عن جماعة من المتقدّمين(1). واحتجّ على ذلك برواية في طريقها ابن فضال وإبراهيم بن أبي سمّال وموسى بن بكر عن الكاظم(علیه السلام) قال: «المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في عدّة»(2).
ولا يخفى أنّ الراوي الأوّل فطحيّ(3)، والآخران واقفيّان ضعيفان(4)، فكيف تعارض الأخبار الصحيحة الكثيرة(5)؟! ومع ذلك فما تدلّ عليه من جواز إتباعها الطلاق ما دامت في العدّة لا يقولون به؛ لأنّهم يعتبرون إتباعه له بغير فصل، فما تدلّ عليه لا يقولون به، وما يقولون به لا يدلّ عليه. وأيضاً ليس فيها أنّ إتباعه بالطلاق متعيّن بحيث يقع بدونه لاغياً، وجاز حمل إتباعه به على وجه الأكمليّة.
وينبه على ذلك قوله(علیه السلام) في عدة أخبار : «ولو كان الأمر إلينا لم يكن الطلاق إلا للعدة»(6).
فإنّ ذلك محمول على الأكملية، للإجماع على جواز الطلاق لغير العدّة.
والشيخ (رحمه الله) حمل تلك الأخبار على التقيّة، واستشهد عليه بقوله(علیه السلام) : «ولو كان الأمر إلينا»(7) إلى آخره. وهذا الحمل إنّما يتجّه لو وجد لها معارض يصلح للاعتماد، وهو منتف من ذلك الجانب كما علمت ومن العجب أن تطرح تلك الأخبار الكثيرة الصريحة الدلالة لأجل هذا الخبر الضعيف الذي لا يدلّ على المطلوب. وأعجب منه
ص: 511
...
----------------------------------------------------------------------------
موافقة الشهيد (رحمه الله) له في اللمعة(1) مع جلالته واطّلاعه على نقد الأحاديث وسير الأدلة، مضافاً إلى ذهاب محققي الأصحاب إليه.
ثم تنبه لأُمور:
الأوّل: جعل المصنّف صيغة الخلع «خلعتك». إلى آخره من غير أن يذكر ما يدلّ على طلبها ذلك أو قبولها يقتضي أنّ الخلع منحصر في لفظه، ولا مدخل للفظها في حقيقته وإن كان مشروطاً، فيكون الخلع حينئذٍ من باب الإيقاعات حيث تتمّ صيغته بواحد.
وصرّح العلّامة(2) وغيره(3) باعتبار قبولها أو سبق سؤالها ذلك، وأنّه يشترط التطابق بينهما وعدم تخلّل زمان معتد به كما يعتبر ذلك بين الإيجاب والقبول.
وهذا هو الأجود. وحينئذٍ فيلحق بباب العقود، إلّا أن ما يعتبر من جانبها لا ينحصر في لفظ بل ما دلّ على طلب الإبانة بعوض معلوم، ولا وقوعه بلفظ الماضي وما في معناه، بل لو وقع بصيغة الأمر كقولها «اخلعني بكذا» أو «طلقني بكذا» أو نحو ذلك كفى. ولعلّ مثل ذلك هو الموجب لجعل المصنّف الخلع عبارة عن قول الزوج ذلك؛ لأنّه هو اللفظ الذي يعتبر مراعاته بما يعتبر في ألفاظ العقود والإيقاعات اللازمة. ولا يخفى ما فيه. ولعلّ السر في الفرق بين الصيغتين منه ومنها أنّه من جانبه لازم فلا بد له من صيغة خاصّة كنظائره من العقود والإيقاعات اللازمة، ومن جانبها جائز؛ لأنّ الواقع من جانبها هو بذل المال، ويجوز لها الرجوع فيه فيلحقه من طرفها حكم العقود الجائزة من عدم افتقارها إلى لفظ مخصوص. وما يعرض للزومه من جانبه من الجواز بعد رجوعها فهو حكم متأخّر عن وقت إيقاع الصيغة، فلا يعتبر ما كان لازماً حينئذٍ.
ص: 512
...
---------------------------------------------------------------------------------------
الثاني: قد علم ممّا قرّرناه أنّ حقيقة الخلع هو قول الزوج ذلك؛ لأنّه هو الموجب البينونتها، أو هو مع سؤال المرأة أو قبولها كما سيأتي تحقيقه(1)؛ لأنّ السبب لا يتمّ إلا بهما فيكون مركباً منهما. ويمكن مع ذلك أن يجعل سؤالها شرطاً في صحّته، وماهيته منحصرة في لفظ الزوج؛ لأنّه هو الخالع للباسها حقيقة. وأمّا جعل الخلع هو بذل المرأة لزوجها مالاً فديةٌ لنفسها - كما عرّفه به في التحرير(2)- ففي غاية الرداءة كما لا يخفى. وعلى تقدير جعله مركباً من اللفظين يعرّف بأنّه إزالة قيد النكاح بعوض مقصود لازم لجهة الزوج مستند إلى كراهة المرأة للزوج دونه، فإنّ الإبانة المذكورة لا تتحقّق إلّا باللفظين منهما. ويمكن أن يكون وجه جعل المصنّف الخلع هو قول الزوج ذلك ما في الأخبار السابقة(3) وغيرها(4) أنّه طلاق والطلاق منحصر في لفظ الزوج، وإن توقّف على أمر آخر من جهتها يجعل شرطاً فيه لا جزءاً منه. ولعلّ هذا أجود.
الثالث: وقع في عبارة الرواية الصحيحة ما حكيناه من قوله «ليس ذلك إذا خلع» بضمّ العين، وهو الموجود في نسخ التهذيب(5). والصواب إثبات الألف؛ لأنّه خبر «ليس فيكون منصوباً. وأما ما تكلّف لها شيخنا الشهيد (رحمه الله) في شرح الإرشاد من كون اسم «ليس» ضمير الشأن(6) فلا يناسب التركيب ولا يدفع الفساد؛ إذ لا يصلح الباقي للخبريّة مفرداً ولا جملة. وذكر أنّه وجده بخطّ بعض الأفاضل مضبوطاً «إذا خلع» بفتح الخاء واللام والعين بجعله فعلاً ماضياً، واستحسنه.
وليس بشيء أيضاً؛ لأنّ المسؤول عنه هو الخلع، وأنه هل يتبع بطلاق أم لا؟ فيبقى
ص: 513
• ولا يقع ب-«فاديتك» مجرّداً عن لفظ الطلاق ، ولا «فاسختك» ولا «أبنتك» ولا «بتتك» ولا بالتقايل.
---------------------------------------------------------------------------------
التقدير ليس ذلك الخلع الذي يتبع بالطلاق إذا خلع، وهو تركيب رديء ونقل عن بعض نسخ التهذيب أنّ فيها «خلعاً»(1) بالألف على القانون العربي. وهو الصواب. ومثل هذا السهو وقع في التهذيب كثيراً في نسخة الأصل، فلا وجه لمثل هذا الالتزام والتكلّف.
قوله: «ولا يقع بفاديتك مجرّداً عن لفظ الطلاق، ولا فاسختك ، ولا أبنتك ، ولا بتتك ولا بالتقايل».
إنّما لم يقع بهذه الألفاظ لأنّها ليست صريحة فيه، وإنّما هي كنايات عنه وهو لا يقع عندنا بالكنايات كالطلاق؛ تمسكاً بالزوجيّة إلى أن يرد دليل يثبت به زوالها شرعاً.
وخالف في ذلك العامّة فأوقعوه بجميع ذلك، وجعلوها كنايات تتوقّف على النية(2). وبعضهم جعل اللفظتين الأولتين صريحتين فيه؛ لورود الأولى في قوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا أفْتَدَتْ بِهِى) (3)ولأنّ الثانية أشدّ دلالة على حقيقته من لفظ الخلع بناءً على أنّه فسخ لاطلاق، وعلى تقدير كونه طلاقاً فهو كناية قطعاً(4).
ويضعف الأوّل بأنّ مجرّد وروده في القرآن أعم من كونه صريحاً، ولأنّه لم يتكرر ولا شاع في لسان حملة الشرع، فلم يلحق بالصريح ومثله ورود الإمساك في الرجعة والتسريح في الطلاق(5) وفك الرقبة في العتق(6)، فإنّها إطلاقات خفيّة لا تظهر في تلك المعاني إلا بانضمام القرائن.
ص: 514
• وبتقدير الاجتزاء بلفظ الخلع هل يكون فسخاً أو طلاقاً ؟ قال المرتضى: هو طلاق. وهو المرويّ. وقال الشيخ (رحمه الله) : الأولى أن يقال: فسخ وهو تخريج فمن قال هو فسخ لم يعتدّ به في عدد الطلقات.
--------------------------------------------------------------
قوله: «وبتقدير الاجتزاء بلفظ الخلع هل يكون فسخاً أو طلاقاً؟ قال :المرتضى: هو طلاق. وهو المروي» إلى آخره.
هذا الخلاف متفرّع على الخلاف السابق، فإنّا إن اعتبرنا إتباعه بالطلاق فالمعتبر في رفع النكاح هو الطلاق وإضافة الخلع إليه قليلة الفائدة؛ لأنّ تملّك المال يحصل بالطلاق في مقابلة العوض، بل بنيّته مع سؤال المرأة. وإن قلنا بوقوعه مجرّداً فهل يكون فسخاً ، أو طلاقاً بمعنى عدّه في الطلقات؟ قال المرتضى(1) وابن الجنيد(2) وأكثر المتأخّرين هو طلاق؛ لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما خلع عنده ثابت بن قيس امرأته قال: «هي واحدة»(3). وللتصريح به في الأخبار السابقة التي استدللنا بها على عدم اشتراط إتباعه بالطلاق حيث جعله نفسه طلاقاً. وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام) : «وكانت - يعني المختلعة - على تطليقتين باقيتين، وكان الخلع تطليقةٌ»(4). ولأنّ الفسخ لا يملكه الزوجان بالتراضي، بخلاف الطلاق؛ إذ ليس هناك قسم آخر، ولأنّه فرقة لا يملكها غير الزوج، والفسخ يملكه كلّ منهما.
وقال الشيخ تخريجاً على القول بتجرّده:
إنّه فسخ؛ لأنّه ليس بلفظ الطلاق، وهو لا يقع عندنا بالكنايات، ولأنّه لو كان طلاقاً لكان رابعاً في قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِی)(5)؛ لأن قبله (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)
ص: 515
•ويقع الطلاق مع الفدية بائناً، وإن انفرد عن لفظ الخلع.
----------------------------------------------------------------------
وبعده (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)(1) فذكر تطليقتين والخلع وتطليقة بعدها(2).
ولأنّه فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيّته فكان فسخاً كسائر الفسوخ.
والأصحّ الأوّل، للنصوص(3) الصحيحة الصريحة فيه مؤيدةً بغيرها . ويتفرّع على ذلك عدّه في الطلقات الثلاثة المحرّمة، فعلى القول بأنّه فسخ لا يعدّ فيها، ويجوز تجديد النكاح والخلع من غير حصر ولا احتياج إلى محلّل في الثالث، وبخلاف ذلك لو قيل: إنّه طلاق.
قوله: «ويقع الطلاق مع الفدية بائناً، وإن انفرد عن لفظ الخلع».
إذا وقع الطلاق مع الفدية - سواء كان بلفظ الخلع وقلنا: إنّه طلاق أو أتبع به، أم بلفظ الطلاق وجعله بعوض - فإنّه يقع بائناً لا رجعيّاً ؛ للنصوص(4) الدالة عليه. وقد تقدّم بعضها(5). ووجهه - وراء النصّ - أنّه حينئذ معاوضة محضة من الجانبين أو شبيهة بها كالبيع والنكاح ، ومن ثمّ اشترط وروده على عوض النكاح أو عوض جديد ، واشترط فيه قبولها باللفظ من غير فصل وتطابق اللفظين، فلو قالت: خالعني بخمسين، فخلعها بمائة لم يصحّ، كما لو باعه بمائة فقبل بخمسين والأصل في عقود المعاوضات اللزوم؛ لعموم الآية(6) وقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «المؤمنون عند شروطهم»(7). ويستثنى من ذلك ما
ص: 516
فروع:
الأول: ● لو طلبت منه طلاقاً بعوض فخلعها مجرّداً عن لفظ الطلاق لم يقع على القولين.
ولو طلبت خلعاً بعوض فطلّق به لم يلزم البذل على القول بوقوع الخلع بمجرده فسخاً، ويلزم على القول بأنه طلاق أو أنّه يفتقر إلى الطلاق.
-----------------------------------------------------------------------------------
إذا رجعت في البذل، فإنه ينقلب رجعياً. وسيأتي البحث فيه(1).
واعلم أنّه مع اشتراك الخلع والطلاق بعوض في هذا الحكم يفترقان بأنّ الخلع يختصّ بحالة كراهة الزوجة له خاصةً، كما انفردت المباراة بكون الكراهة منهما واشتراط كون العوض بقدر ما وصل إليها منه، بخلاف الطلاق بالعوض، فإنّه لا يشترط فيه شيء من ذلك، فكان التعبير به مع إفادته المقصود من الخلع أولى، خصوصاً مع اشتباه حالهما في الكراهة أو اختلافهما فيها.
قوله: «لو طلبت منه طلاقاً بعوض فخلعها مجرّداً عن لفظ الطلاق» إلى آخره.
إنّما لم يقع في الأوّل؛ لأنّه لم يأت بما طلبت فلا يستحق بما بذلت لأجله؛ لأنّها إنّما طلبت الطلاق وهو أمر تقع به البينونة وترتفع به الزوجية إجماعاً، ويقع به نقصان الطلاق فيكون جزءاً من المحرّم، بخلاف الخلع لما قد عرفت من الخلاف فيه، فإنّا إن قلنا: إنه فسخ فكونه خلاف ما طلبته واضح، وإن جعلناه طلاقاً فهو طلاق مختلف فيه وما طلبته لا خلاف فيه، فظهر أنّه خلاف مطلوبها على القولين.
وأمّا في الثاني - وهو ما لو طلبت منه خلعاً فطلق به - فإن جعلنا الخلع فسخاً فطلق لم يلزم البذل؛ لأنّه لم يأت بما طلبت، ويقع الطلاق رجعيّاً؛ إذ لا مانع من صحّته كذلك، فإنّه غير مشروط بالعوض ولا بالتماسها أو رضاها. وإن جعلنا الخلع طلاقاً أو مفتقراً إلى الطلاق
ص: 517
الثاني: • لو ابتدأ فقال: «أنت طالق بألف» أو «وعليك ألف» صحّ الطلاق رجعيّاً، ولم يلزمها الألف ولو تبرعت بعد ذلك بضمانها؛ لأنّه ضمان ما لم يجب. ولو دفعتها إليه كانت هبة مستأنفة، ولا تصير الطلقة بدفعها بائنة.
-------------------------------------------------------------------------
وأتبعه به لزم البذل، لإتيانه بما التمسته وزيادة كما علم من السابقة.
واعلم أنّ الخلع لا يتحقق عندنا إلا بعوض، فقوله «لو طلبت منه خلعاً بعوض» أراد به عوضاً معيناً ذكرته كألف - مثلاً - احترازاً مما لو أطلقت فقالت «خالعني» ولم تذكر العوض فإنّه لا يستحقّ عليها عوضاً بإيقاعه الخلع إلا إذا عيّن فيه عوضاً وقبلته بعد ذلك إن قلنا بالاكتفاء بقبولها.
قوله: «لو :ابتدأ فقال : أنت طالق بألف أو وعليك ألف - إلى قوله - بدفعها بائنة».
يعتبر في صيغة الخلع وقوعها على وجه المعاوضة بينه وبين الزوجة، ويتحقّق ذلك بأحد أمرين: [الأوّل: ] تقدم سؤالها ذلك بعوض معين كقولها «طلقني بألف» أو «اخلعني بألف» فيجيبها على ذلك. ويكفي في ظهور المعاوضة حينئذ إتيانه بالطلاق أو الخلع مقروناً بذلك العوض ومجرّداً عنه مع نيته، كقوله «أنت طالق بالألف» أو «عليها» أو «على العوض المذكور» أو «خلعتك عليها» أو «بها» أو «أنت طالق» أو «مختلعة» مجرداً ناوياً به کونه بذلك العوض؛ لظهور المعاوضة فيه مع تقدم ذكره من جانب الزوجة، كما لو قال: بعني كذا بكذا فقال: بعتك.
والثاني: ابتداؤه به مصرحاً بذكر العوض كقوله «أنت طالق بألف» أو «خلعتك بألف» أو عليها، ونحو ذلك، مع قبولها بعده بغير فصل يعتدّ به كغيره من المعاوضات. فلو تخلّف الأمران معاً - بأن ابتدأت السؤال بغير عوض كقولها «طلقني» أو «خالعني» فأجابها كذلك، أو أجابها بعوض ولم يجدد القبول في محلّه، أو ابتدأ ذاكراً للعوض صريحاً ولم يحصل منها القبول كذلك، أو أتى بلفظ لا يدلّ على العوض مع عدم تقدّم سؤالها به وإن قبلت - لم يلزم العوض، بل إن كان قد أتى بلفظ الطلاق وقع رجعياً وإن أتى بالخلع بطل.
ص: 518
...
------------------------------------------------------------------------------
إذا تقرّر ذلك فنقول: إذا ابتدأ الزوج فقال «أنت طالق وعليك ألف»، أو «ولي عليك ألف»، وقع الطلاق بغير عوض ولم تلزم الألف؛ لأنّها صيغة إخبار لا صيغة التزام؛ إذ لم يسبقه استيجاب يدلّ عليه، ولم يجعله عوضاً، بل جعله جملة معطوفة على الطلاق فلا يتأثر بها وتلغو في نفسها، كما لو قال «أنت طالق وعليك حجّ»، وإن قبلت؛ لأن قبولها إنّما وقع رضى بما فعل ولم يقع منه ما يقتضي المعاوضة، بخلاف ما إذا كانت قد قالت «طلقني ولك عليّ ألف»، أو «وعليّ ألف»، فأجابها بذلك، لوقوع الالتزام منها وهو الذي يتعلّق بها والزوج ينفرد بالطلاق، فإذا لم يأت بصيغة المعاوضة حمل كلامه على ما ينفرد به وكفاه نينه، حتى لو أطلق وقال: أنت طالق عقيب سؤالها بالعوض كفى ذلك ولزمها المال؛ لتحقّق المعاوضة ووقوعها من جانب من وظيفته التزامه فيها، ووقوع الجزاء منه به.
ولو ابتدأ فقال «أنت طالق بألف» أو «على ألف»، أو «خالعتك على ألف» أو «بألف»، فقد وقعت صيغة المعاوضة من جانبه، فإن لحقها القبول منها في محلّه صحّ ولزم المال، وإن تقدّم مع ذلك سؤالها به فقد تمّت المعاوضة من الجانبين.
ومما قرّرناه يظهر الفرق بين الصيغتين اللتين أتى بهما المصنّف وجعلهما غير ملزمتين للمال، فإنّ عدم لزومه في الأولى مشروط بعدم لحوق القبول منها؛ إذ الفرض كونها غير ملتمسة منه ذلك، بخلاف الثانية، فإنّها لا توجب التزام المال، سواء قبلت أم لا؛ لعدم دلالتها على المعاوضة وضعاً وإن قصده؛ إذ لا بد من التعبير باللفظ الدالّ على المعنى المطلوب كغيره من المعاوضات.
وعلى هذا فقوله «لم يلزمها الألف وإن تبرعت بعد ذلك بضمانها» يتمّ في الأمرين على تقدير عدم قبولها ذلك كما هو ظاهر العبارة؛ لأنّه لم يذكر ما يدلّ على قبولها لذلك، وتبرعها بالمال أمر آخر غير القبول المعتبر. ولا فرق حينئذ بين أن لا يقع قبول أصلاً أو يقع متراخياً عن لفظ الزوج. ولو فرض أنها قبلت صح في الأولى دون الثانية.
ص: 519
...
------------------------------------------------------------------------------
والشيخ في المبسوط فرّق بين العبارتين، فحكم في الثانية بما ذكره المصنّف؛ معللاً بما ذكره، وحكم في الأولى بصحته مع قبولها(1). وهو حسن.
والعلّامة تبع المصنّف في العبارتين وأجمل الحكم في الأمرين(2)، مع أنّه قال في القواعد - قبل ذكر ذلك - : ولو قال: خالعتك على كذا فلا بد من القبول إن لم يسبق السؤال(3). وذلك يدلّ على صحّة البذل في الأولى هنا إذا لحقها القبول؛ إذ لا فرق بين قوله: «علي كذا» و«بكذا» بل الباء أقعد في تحقيق المعاوضة، فإنّها هنا باء العوض. والوجه في عدم الصحة الأولى من المذكور ثانياً ما ذكرناه من عدم وقوع القبول المعتبر من جانب المرأة وإن وقع منها لفظ الضمان، فإنّه لا يعدّ قبولاً بل إتياناً بلفظ فاسد الوضع هنا، حيث إنه ضمان ما لم يجب.
وبهذا يندفع ما أورده شيخنا الشهيد في بعض حواشيه على القواعد من استشكاله الجمع بين عبارتيه، حيث دلّت الأولى على صحّة الخلع إذا ابتدأ الزوج بقوله: «خلعتك على كذا». ولحقه القبول ودلّت الثانية على عدم الصحة حيث قال:
لو ابتدأ فقال: «أنت طالق بألف»، صح الطلاق رجعياً ولم يلزمها الألف وإن تبرعت بعد ذلك بضمانها(4).
قال: إلا أن يراد بالثاني التراخي فالإشكال أقلّ(5).
ولا يخفى عليك أنه ليس في عبارته الثانية ما يدلّ على وقوع القبول منها لا على الفو ولا على التراخي، وإنما ذكر تبرّعها بدفع الألف أو بضمانها وهو أمر مباين للقبول.
ص: 520
...
------------------------------------------------------------------------------------
نعم، قد يتوهّم من عدم حكمهم بصحة البذل في المسألتين كون الوجه فيه عدم تقدّم طلبها على إيقاعه الصيغة، ويجعل تقدّمه شرطاً على كل حال؛ نظراً إلى أن الخلع أو الطلاق إذا تقدّم على طلبها بالعوض تكون فيه شائبة التعليق، من حيث إن وقوع الطلاق يترتّب على قبول المال أو بذله، كما يترتّب الطلاق المعلّق بالشرط عليه، بخلاف ما إذا تقدّم طلبها، فإنّ الواقع حينئذ يصير معاوضةً منجزة تشبه الجعالة؛ لأنّها تبذل المال في مقابلة ما يستقلّ به الزوج وهو الطلاق، فإذا أتى به وقع موقعه وحصل غرضها، كما أن في الجعالة يبذل الجاعل المال في مقابلة ما يستقلّ به فإذا فعله وقع موقعه وحصل الغرض من غير تعليق.
وجوابه: أنّ الصيغة الأولى وإن اشتملت على شائبة التعليق لكن لفظها خالٍ عنه، ومجرّد المعنى إنّما هو مقتضى المعاوضة فلا يقدح، كما يقال ذلك في كلّ معاوضة، فإنّ من ابتدأ البيع فقال: بعتك بكذا، معناه أنّك إن أعطيتني العوض المعيّن ملكتك المعوّض، وذلك لا يقدح في صحّة البيع، بخلاف ما لو صرّح بالشرط المذكور في متن العقد. وبالجملة فهذا الشرط المفهوم من اللفظ هو مقتضى الخلع أو الطلاق بالعوض وغير مصرّح به، فلا يقدح بحال.
بقي في المسألة مباحث:
الأوّل: قول المصنّف «ولو تبرعت بعد ذلك بضمانها» تبعَ فيه الشيخ في المبسوط(1)، وإطلاق الضمان على التزامها ذلك تجوّز(2)؛ لأنّ حقيقة الضمان التزام ما في ذمّة الغير، وهنا الألف غير ثابتة في ذمّة أحد، ولو ثبتت لثبتت في ذمتها ، فلا معنى لضمانها لها. وإنّما المراد من الضمان هنا غايته وهو التزامها لها في الذمة في الجملة، وذلك لا يصحّ أيضاً شرعاً، لا لأنّه ضمان ما لم يجب كما علّل. فإنّ ضمان ما لم يجب المانع من صحة الضمان المراد به
ص: 521
...
-----------------------------------------------------------------------
ضمان شخص مالاً عن آخر لم يجب المال في ذمّة ذلك المضمون، والضامن هنا هو المضمون، بل المراد أنّ التزامها لها بعد قوله ذلك على الوجه الذي فصّلناه لا يوجب لزومها لها؛ لأنّ ضمانها كذلك ليس من الأسباب المشغلة للذمّة بما ليس فيها، ولو فرض دفعها إليه على هذا الوجه كان ابتداء عطيّة يعتبر في صحتها ولزومها ما يعتبر في العطية.
ويظهر من المبسوط أنّ المراد بضمانها في هذه الصورة قبولها، وجعله ضماناً من حيث اشتماله على الرضى بالتزام المال. وعبر في المسألة الأولى - وهي قوله «أنت طالق على ألف» - بأنّها إذا ضمنت وقع الطلاق، وعلله بأنّ ضمانها وقع جواباً لكلامه(1). وتوجيه عدم صحّة الضمان على هذا في الصيغة الثانية أنها لم تشتمل على جعل الألف عوضاً، بل جعلها كلاماً مستأنفاً كما مرّ(2)، فإذا قبلتها على هذا الوجه كان قبول ما ليس بلازم ولا مرتبط بالطلاق الذي شرّع جعله بعوض، فكان قبولها لذلك التزاماً لما لم يجب وإن وقع مقارناً، بخلاف ضمانها في الأولى يعني قبولها، فإنّها دالّة على جعل الألف عوضاً وشرطاً في الطلاق، فإذا قبلته على هذا الوجه لزم.
الثاني: قد عرفت من تعليل المسألتين أن المانع من صحّة العبارة ولى - وهي قوله: أنت طالق بألف - إمّا عدم تقدّم سؤالها أو عدم القبول بعده ، وأن المانع من صحّة الثانية - وهي قوله: وعليك ألف - عدم تقدّم سؤالها ؛ لكونها غير صالحة بنفسها للمعاوضة.
ويتفرّع على ذلك ما لو قال الرجل بعد قبولها: قصدت في الثاني العوض، وأردت بقولي «ولي عليك ألف» ما يعنيه القائل بقوله «طلّقتك على ألف»، فإنّه لا يصدق؛ لأنّ ذلك خلاف مدلول اللفظ، فلا يكفي قصده في لزوم العوض. ولو وافقته المرأة فوجهان، من أنّ اللفظ لا يصلح للالتزام فلا يؤثّر مصادقتها على قصده، ومن أن الحق عليها، ومن الجائز أن يريد «لي عليك ألف عوضاً عنه»، ونحو ذلك. والأجود الأول. ويتفرع على
ص: 522
...
----------------------------------------------------------------------
الوجهين ما لو أنكرت، فإنّها تحلف على نفي العلم بقصده ذلك على الثاني دون الأول؛ لأنّها لو أقرت لم يؤثر.
ولو ادّعى أنّه كان جواباً لاستدعائها وقولها: «طلقني بألف»، فإن وافقته لزمها الألف لا من حيث قوله «وعليك ألف» بل لسبق الاستدعاء، فإنّه لو اقتصر معه على قوله «أنت طالق» لزمها الألف وإن أنكرت فالقول قولها، فإن حلفت فلا شيء عليها ووقع الطلاق بائناً لاعترافه بذلك، وإنّما أضاف إليه دعواه عليها العوض.
الثالث لو قال:«أنت طالق على أنّ عليك ألف»، فإن كان قد سبق منها التماسه بذلك وقع؛ لأنّه أدلّ على الالتزام بالعوض من الثاني. وإن لم يسبق التماس وقبلت ففي إلحاقه بالأولى أو الثانية وجهان من توهّم ظهورها في إرادة العوض، ومن كونها صيغة شرط في الطلاق، بمعنى كونه قد علّق طلاقها على شرط وهو أن يكون عليها ألف لا على وجه المعاوضة، والأقوى الأوّل ؛ لما ذكرناه من ظهور إرادة العوض، وكون الشرط أن يكون عليها ألف إذا التزمتها عوضاً عن الطلاق، فإذا قبلت وقع الطلاق ولزم العوض.
وفي المبسوط ساوى بين هذه الصيغة والصيغة الأولى وحكم بصحّة الطلاق ولزوم المال مع قبولها وجعل ضمانها كناية عنه. وعلّل الصحّة بأنّه قد علّق طلاقها بشرط أن يكون عليها ألف وإنّما يكون عليها ألف لضمانها ذلك، فإذا ضمن وقع الطلاق؛ لأنّ الصفة قد وجدت إذا كان ضمانها جواباً لكلامه.
ومحصّل كلامه أنّ هذا الشرط لا يقدح في الصحّة، وإنّما هو بمنزلة القيد والصفة لإيقاع الطلاق، فهو - كما أشرنا إليه سابقاً(1) - صيغة منجزة فيها شائبة الشرط من حيث تقييده الطلاق بقصد العوض. ويظهر منه أنّها إذا لم تقبل لا يقع الطلاق رجعياً، فإنّه قال:
فإذا ضمنت وقع الطلاق، ومقتضى الشرط أنّه لا يقع بدون الضمان أعني القبول.
ص: 523
...
-----------------------------------------------------------------------------
- قال: - والفرق بين قوله «أنت طالق على أنّ عليك ألفاً»، وبين قوله «أنت طالق وعليك ألف»، هو أنّه إذا قال: وعليك ألف لم يجعل الطلاق معلقاً به، وإنّما عطف به بعد وقوع الطلاق مجرّداً عن عوض، فلهذا وقع الطلاق ولم يجب عليها شيء، وليس كذلك قوله «على أن لي عليك ألفاً»؛ لأنّه ربط الطلاق بالألف وعلقه به، وجعل الصفة فيه حصول الألف عليها، فلهذا لم يقع الطلاق إلا بضمانها»(1). انتهى.
وهذا أيضاً صريح في أن الطلاق لا يقع بدون ضمانها رجعياً في هذه الصورة، وجعل الحكم فيما إذا قال «أنت طالق على ألف» مثل ذلك.
الرابع: المراد بقوله «صحّ الطلاق رجعيّاً» حيث لا يلزم العوض على تقدير كونها ذات عدّة تقبل الرجعة، فلو كانت المطلّقة كذلك غير مدخول بها أو صغيرة أو يائسة لم يكن الطلاق رجعيّاً كما لا يخفى. وكذا لو كان هذا الطلاق ثالثاً، فإنّه لا يلزم من عدم لزوم البذل كونه رجعيّاً. وقد عبّر بوقوع الطلاق على هذا التقدير رجعياً الشيخ(2)، وتبعه عليه المصنّف وغيره(3). وليس على إطلاقه كما لا يخفى.
ومن هنا يتوجّه أيضاً الفرق بين الصيغتين المذكورتين، وأنّ الحكم بكون الطلاق يقع رجعياً لا يتم إلّا على تقدير قوله «وعليك ألف»، حيث لم يربط العوض بالطلاق، أمّا إذا ربطه به وجعله عوضاً بقوله «على ألف»، أو «على أنّ عليك ألفاً»، أشكل - مع عدم قبولها - وقوع الطلاق حيث لم يقصده مجرّداً خصوصاً مع كونه غير رجعي، فإن الحكم بصحّته يوجب لزومه له مع كونه لم يقصده أصلا بدون العوض، فالحكم ببطلانه لو لم تقبل المرأة المال وتلتزمه - كما ذكره الشيخ - في غاية القوة، بخلاف قوله «وعليك ألف»، فإنّه قد قدم على الطلاق مجرّداً وعطف عليه التزام ما لا يلزم فلا يقدح فواته في صحّته كما قد تقرر.
ص: 524
الثالث: • إذا قالت: «طلقني بألف» كان الجواب على الفور، فإن تأخّر لم يستحقّ عوضاً، وكان رجعيّاً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا قالت: طلقني بألف كان الجواب على الفور» إلى آخره.
قد تقرّر أنّ الخلع يشبه عقود المعاوضات أو هو من جملتها؛ لاشتمالها على افتداء البضع بعوض مخصوص، وهو يقتضي لفظاً دالا على إرادتها بذل ما تجعله عوضاً، ولفظاً منه يدلّ على إبانتها بذلك، فكان ذلك كالإيجاب والقبول في العقود اللازمة ولو من طرف واحد، فإنّ ذلك لازم من طرفه إلى أن ترجع في البذل. فلا بدّ من وقوعها متعاقبين بحيث يدلّ على أنّ أحدهما جواب للآخر والتزام به فإن تقدّم التماسها فقالت: طلّقني بألفٍ مثلاً، اعتبر كون جوابه لها على الفور بحيث لا يتخلّلهما زمان طويل ولا كلام أجنبي يوجب رفع ارتباط أحدهما بالآخر. وإن تقدّم لفظه فقال: خالعتك على ألف مثلاً، اعتبر التزامها للألف وقبولها لها عقيب كلامه كذلك.
ومتى حصل التراخي بينهما طويلاً على الوجه الذي بيّنّاه لم يستحقّ عوضاً، ووقع الطلاق رجعيّاً، بمعنى كونه صحيحاً خالياً عن العوض. فإن كانت ذات عدّة يجوز الرجوع فيها كان رجعيّاً وإلا فلا كما قرّرناه سابقاً(1). وعلى تقدير كونه بائناً فالتقصير مستند إليه حيث أوقع الطلاق باختياره على وجه لا يسلم له العوض.
و ظاهر كلامه - كغيره(2) - أنه لا فرق في ذلك بين العالم بالحال والجاهل.
وهو يتمّ بغير إشكال على تقدير كون الطلاق رجعيّاً كما أطلقه. أمّا لو كان بائناً - كطلاق غير المدخول بها مع تصريحه بقصد العوض ولم يتعقّبه قبولها على الفور - فالحكم بصحّة الطلاق على هذا الوجه بغير عوض لا يخلو من إشكال؛ لعدم القصد إليه. نعم، يتّجه كلامه على إطلاقه على تقدير أن تقول: طلّقني بألف فتراخى ثمّ يقول: أنت طالق، ولا يذكر
ص: 525
...
------------------------------------------------------------------------------
العوض، فإنّه حينئذٍ طلاق مجرّد عن العوض، فلا يبعد القول بنفوذه كذلك. أمّا مع تصريحه بالعوض وجهله بالحال وتعذر الرجعة فهو محلّ إشكال وما وقفت هنا لأحد من المعتمدين على شيء يعتد به.
واعلم أنّه لا فرق مع تقدّم سؤالها بين قولها «طلقني» أو «خالعني بكذا»، أو «على كذا». أو «على أنّ عليّ كذا» أو «على أن أعطيك كذا». وفي معناها «إن طلّقتني»، أو «إذا طلقتني»، أو «متى ما طلقتني فلك كذا»، بخلاف قول الرجل «متى ما أعطيتني كذا»، أو «إن أعطيتني». أو غير ذلك من أدوات الشرط، فإنّه لا يقع. ولا فرق في جميع ذلك بين أن يعيد الرجل ذكر المال بعد صيغة الخلع أو الطلاق وعدمه؛ لانصراف الجواب إلى السؤال، كما إذا قال البائع «بعت بكذا»، فقال «اشتريت» واقتصر عليه، فإنّه يكفي.
ولو قالت «طلقني ولك على ألف»، فقال «أنت طالق». صحّ ذلك ولزمها الألف؛ لأنّ هذه الصيغة تصلح للالتزام كما قال تعالى: (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)(1) والإتيان بها عقيب سؤال الطلاق قرينة دالة عليه، بخلاف ما إذا قال الزوج:« أنت طالق ولي عليك كذا» فإنّه لا يصلح لالتزام المال كما مرّ(2). ويحتمل تساويهما في عدم الالتزام؛ نظراً إلى أن قولها «ولك عليّ كذا» بالوعد أشبه منه بالالتزام. وعلى هذا فإن اقتصر على قوله «أنت طالق»، وقع الطلاق رجعيّاً بشرطه. وإن قال «أنت طالق على ألف» أو «بها» ونحوه افتقر إلى قبولها بعده. وهذا أحوط وإن كان الأوّل أقوى.
ص: 526
•كلّ ما صحّ أن يكون مهراً صح فداءً في الخلع. ولا تقدير فيه، بل يجوز ولو كان زائداً عمّا وصل إليها من مهر وغيره.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «كلّ ما صحّ أن يكون مهراً صح فداءً في الخلع» إلى آخره.
عوض الخلع سبيله سبيل المهر فلا يتقدّر، ويجوز أن يكون قليلاً وكثيراً ، عيناً وديناً بعد أن يكون متموّلاً مع سائر شروط الأعواض كالقدرة على التسليم واستقرار الملك وغيرهما. ولا يتقدّر في جانب الكثرة بما وصل إليها من مهر وغيره، بخلاف عوض المباراة. والأصل في الفرق - قبل الإجماع - عموم قوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِى)(1).
وحسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله(علیه السلام) إلى أن قال : « فإذا فعلت ذلك حل له ما أخذ منها»(2).
وفي رواية سماعة: «فإذا هي اختلعت فهى بائن وله أن يأخذ من مالها ما قدر عليه»(3).
ولأنّ الكراهة لمّا كانت منها ناسب أن يجوز طلب ما شاء عوضاً عن الخلع، بخلاف ما إذا اشتركا في الكراهة.
ص: 527
•وإذا كان غائباً فلا بد من ذكر جنسه ووصفه وقدره. ويكفي في الحاضر المشاهدة. وينصرف الإطلاق إلى غالب نقد البلد، ومع التعيين إلى ما عيّن. ولو خالعها على ألف ولم يذكر المراد ولا قصد فسد الخلع.
----------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وإذا كان غائباً فلابد من ذكر جنسه ووصفه وقدره» إلى آخره.
هنا مسائل :
الأولى: يشترط العلم بالعوض لا من كل وجه، بل كونه بحيث يمكن تسليمه ويرفع معظم الغرر.
فإن كان غائباً فلا بد من ذكر ،جنسه ككونه فضةً أو ذهباً أو ثوب قطن أو كتان، ووضفه إن اختلفت أوصافه واختلفت قيمته باختلافها وقدره كقفيز حنطة موصوفة بصفاتها التي يختلف بها الثمن، ونحو ذلك.
وإن كان حاضراً اعتبر ضبطه إمّا بالوصف والقدر أو بالمشاهدة وإن لم يعلم مقدار وزنه أو كيله أو ذرعه لاغتفار ذلك في المهر، فيكتفى به فيما ناسبه في المعنى. وعلى هذا فلو بذلت له مالها في ذمّتها من المهر أو الأعمّ منه ومن غيره ولم يعلم قدره لم يصحّ؛ لأنّ هذا من الغائب الذي يعتبر معرفة مقداره. ولو أحضرت له أمتعةً مشاهدة لهما وبذلتها له صحّ وإن لم يعلم مقدار قيمتها. وحيث يعتبر العلم بالقدر أو الوصف أو المشاهدة فالمعتبر فيه علمهما معاً ، فلا تكفي معرفة أحدهما دون الآخر؛ لأنّ المعاملة واقعة من الطرفين.
الثانية: إذا بذلت له مائة دينار أو مائة درهم صحّ وانصرف إلى الموجود في نقد البلد ذلك الوقت إن اتّحد. ولو تعدّد وكان هناك نقد غالب حمل عليه؛ لأنّ المعاملات تنزّل على النقد الغالب، والخلع فيما يرجع إلى المال كسائر المعاملات.
ولا فرق في الغالب بين كونه ناقص الوزن عن الدراهم الشرعيّة وزائدة ولا بين كونه مغشوشاً وخالصاً. ولو تعدّد ولم يكن فيها غالب وجب التعيين، وبطل مع الإطلاق كغيره من المعاوضات؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ولو كان هناك غالب أو نقد متحد فعيّنا غيره صحّ؛ لأنّ المرجع في ذلك إليهما كما لو بذلت غير النقد.
ص: 528
•ولو كان الفداء مما لا يملكه المسلم - كالخمر - فسد الخلع. وقيل: يكون رجعيّاً. وهو حق إن أتبع بالطلاق، وإلا كان البطلان أحقّ.
ولو خالعها على خلّ فبان خمراً صحّ وكان له بقدره خلّ.
-----------------------------------------------------------------------------
الثالثة: لو خالعها على ألف وأطلق ولم يذكر المراد منها جنساً ولا وصفاً ولا قصده في النيّة لم يصحّ؛ للجهالة، وللاشتراك المانع من الحمل على بعضها دون بعض. وإن قصدت بها معيّناً جنساً ووصفاً كمائة دينار ووافقها على قصدها صحّ ولزمها ما قصداه، وإن لم يجز ذلك في غيره من المعاوضات كالبيع؛ لأنّ المقصود أن يكون العوض معلوماً عند المتعاقدين، فإذا توافقا على شيء بالنيّة كان كما لو توافقا بالنطق. هذا هو الذي اختاره المصنّف والعلّامة(1) وقبلهما الشيخ في المبسوط(2)، وهو الذي يقتضيه قوله «ولا قصد بطل الخلع» فإن مفهومه صحّته مع قصده. وسيأتي في مسائل النزاع ما ينبه عليه أيضاً(3).
ويحتمل فساد الخلع بإهمال ذكر الجنس والوصف وإن قصداه، كما لا يصحّ ذلك في غيره من عقود المعاوضات.
وعلى المشهور فلو قالت: «بذلت لك ما لي في ذمتك» أو «ما عندي» أو «ما أعطيتني من الأسباب» ونحو ذلك، مع علمهما بقدره ووصفه صحّ، ولو وقع البيع على مثل ذلك لم يصحّ، بل لا بدّ فيه من التلفّظ بما يعتبر تعيينه من الجنس والوصف والقدر، وهذا من الأمور المحتملة في هذا الباب من الغرر دون غيره من المعاوضات المحضة. وقد سبق في باب المهر ما ينبّه على لمّيّته(4).
قوله: «ولو كان الفداء ممّا لا يملكه المسلم - كالخمر - فسد الخلع» إلى آخره.
قد تقدّم أن شرط الفدية أن يكون مالاً مملوكاً للمرأة؛ لأنّه عوض عن حقّ البضع فلا بدّ
ص: 529
...
--------------------------------------------------------------------------------
من صلاحيّته للمعاوضة(1). فلو بذلت له خمراً أو خنزيراً، فإن كان عالماً بالحال فسد الخلع؛ لأنّ العوض جزء ماهيته عندنا فلا يتحقّق بدون العوض، وهو منتف هنا.
قال الشيخ: ويقع طلاقاً رجعيّاً(2)؛ لاشتماله على أمرين: الطلاق والعوض، فإذا بطل أحدهما يبقى الآخر كما لو اختلت إحدى الشرائط كما سبق(3).
ورده المصنّف بأنّه مع الاقتصار على الخلع لا يتحقّق صحّة الطلاق مع فساد العوض؛ لأنّ الخلع الذي يقوم مقام الطلاق أو هو الطلاق ليس إلّا اللفظ الدال على الإبانة بالعوض، فبدونه لا يكون خلعاً، فلا يتحقّق رفع الزوجيّة بائناً ولا رجعياً، وإنّما يتمّ إذا أتبعه بالطلاق ليكونا أمرين متغايرين لا يلزم من فساد أحدهما فساد الآخر، فيفسد حينئذ الخلع؛ لفوات العوض، ويبقى الطلاق المتعقّب له رجعياً : البطلان العوض الموجب لكونه بائناً. وهذا أقوى(4).
وإن كان جاهلاً بعدم ماليّته - كما لو ظنّه خلاً فبان خمراً، أو عبداً فظهر حراً - فقد حكم المصنّف بصحّته كما لو أمهرها ذلك فظهر كذلك ؛ لأنّ تراضيهما على المقدار من الجزئي المعين الذي يظنّان كونه متموّلاً يقتضي الرضى بالكلّي المنطبق عليه؛ لأنّ الجزئي مستلزم له، فالرضى به يستلزم الرضى بالكلّي، فإذا فات الجزئي لمانع صلاحيته للملك بقي الكلّي. ولأنّه أقرب إلى المعقود عليه.
ولم ينقلوا هنا قولاً في فساده ولا وجوب قيمته عند مستحلّيه كما ذكروه في المهر، مع أن الاحتمال قائم فيه، أما الأوّل فلفقد شرط صحّته و هو كونه مملوكاً. والجهل به لا يقتضي الصحّة كما لو تبين فقد شرط في بعض أركان العقد. وأمّا الثاني ؛ فلأن قيمة الشيء أقرب إليه عند تعذّره. ولأنّ المقصود من المعين ماليته، فمع تعذّرها يصار إلى القيمة؛ لأنّه لا مثل له
ص: 530
•ولو خالع على حمل الدابة أو الجارية لم يصحّ.
•ويصحّ بذل الفداء منها ومن وكيلها وممن يضمنه بإذنها. وهل يصح من المتبرّع؟ فيه تردّد والأشبه المنع.
-------------------------------------------------------------------------------
في شرع الإسلام، فكان كتعذر المثل في المثلي حيث يجب، فإنّه ينتقل إلى قيمته. ولو ظهر
مستحقاً لغيره فالحكم فيه مع العلم والجهل كما فصل.
قوله: «ولو خالع على حمل الدابة أو الجارية لم يصحّ».
لا فرق في ذلك بين كونه موجوداً في بطنها بالفعل وعدمه، كما لو خالعها على ما تحمله في المستقبل؛ لاشتراكهما في الجهالة المانعة، وزيادة الثاني بكونه معدوماً.
وخالف في ذلك بعض العامة فجوز الخلع في الموضعين(1)، واغتفر الجهالة في الأوّل، وجعل الثاني كالوصيّة. والأوّل محتمل ؛ لاحتمال هذا العقد من الغرر بما يقارب ذلك. أمّا الثاني فلا؛ إذ لا عوض أصلاً، ولا وثوق بالمتجدّد، بخلاف الموجود، فإنّ له ماليّة تقبل المعاوضة ولو بالتبعيّة في عقد يحتمل الغرر.
ومثله ما لو خالعها على ما في كفّها، فإنّه لا يصحّ عندنا، سواء علم أن في كفّها شيئاً متموّلاً وجهل مقداره أو عينه أو لم يعلم. ومن أجاز الأوّل صحّحه هنا مع العلم بوجود شيء في كفّها يصلح للعوض، أو ظهور وجوده فيه. فإن لم يظهر فيه شيء ففي وجوب مهر المثل كما لو ظهر فساد العوض، أو وقوع الطلاق رجعيّاً، أو لزوم ثلاثة دراهم؛ لأنّ المقبوض في الكفّ ثلاثة أصابع، وهي ما عدا الإبهام والمسبّحة، فيجب قدره من النقد الغالب، أوجه أبعدها الأخير.
قوله: «ويصحّ بذل الفداء منها ومن وكيلها وممن يضمنه بإذنها. وهل يصح من المتبرّع؟ فيه تردّد. والأشبه المنع».
الأصل في الفداء المبذول في هذا الباب أن يكون من المرأة لنسبته إليها في قوله
ص: 531
...
-------------------------------------------------------------------------
تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِی)(1). وبذل وكيلها في معنى بذلها؛ لأنّه يبذله من مالها بإذنها. وكذا بذله ممّن يضمنه في ذمته بإذنها، فيقول للزوج: طلّق زوجتك على مائة وعلي ضمانها. والفرق بينه وبين الوكيل أنّ الوكيل يبذل من مالها بإذنها، وهذا يبذل من ماله بإذنها ليرجع عليها بما يبذله بعد ذلك، فهو في معنى الوكيل الذي يدفع العوض عن الموكّل من ماله ليرجع به عليه، فدفعه له بمنزلة إقراضه لها وإن كان بصورة الضمان.
وأمّا بذله من المتبرّع عنها بأن يقول للزوج: طلق امرأتك بمائة من مالي بحيث يكون عوضاً للخلع، ففي صحّته قولان: أظهرهما بين الأصحاب - وهو الذي اختاره المصنّف والشيخ(2) وغيرهما من الأصحاب(3)- العدم، فلا يملك الزوج البذل، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به؛ لأنّ الخلع من عقود المعاوضات، فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب المعوّض، كالبيع لو قال: بعتك كذا بمائة في ذمة فلان، ولأنّه تعالى أضاف الفدية إليها في الآية المتقدّمة، وألحق بها بذل الوكيل والضامن بإذنها، فبقي المتبرّع على أصل المنع، ولأصالة بقاء النكاح إلى أن يثبت المزيل.
والقول بالصحّة لا يعلم قائله من الأصحاب، لكنّه مذهب جميع من خالفنا من الفقهاء إلّا من شدّ منهم(4).
ومبنى القولين على أن الخلع فداء(5) أو معاوضة، أو على أنّه طلاق أو فسخ فعلى الأولين يصحّ من الأجنبي لجواز الافتداء منه وبذل مال له ليطلّقها، كما يصحّ التزام المال ليعتق
ص: 532
...
--------------------------------------------------------------------------------
عبده، وقد يتعلّق به غرض بأن كان ظالماً بالإمساك وتعذر إزالة يده بالحجّة، أو كان يسيء العشرة ويمنع الحقوق فأراد المختلع تخليصها. وعلى تقدير كونه طلاقاً فالطلاق يستقلّ به الزوج فجاز أن يسأله الأجنبي على مال، كما إذا قال: ألقِ متاعك في البحر وعليّ كذا. وعلى القول بأنّه معاوضة فقد تقدّم ما يدلّ على منعه. وكذا على القول بأنّه فسخ(1)، فإنّ الفسخ من غير علة لا ينفرد به الرجل، فلا يصح طلبه منه.
وترجّح جانب الفداء الآية(2) الدالة عليه، إلّا أن مفهوم خطابها اختصاصها بها، لكن مفهوم الخطاب ليس بحجة.
وموضع الخلاف ما إذا قصد الخلع بالمال المبذول ليترتّب عليه أحكام الخلع من وقوع الفراق بائناً - إلّا أن يرجع الباذل - ووقوع اللفظين متلاحقين كغيره من عقود المعاوضات، أمّا لو وقع ذلك من الأجنبي على وجه الجعالة فلا إشكال في الصحّة؛ لأنّه عمل محلل يتعلّق به غرض صحيح للعقلاء، فتصح الجعالة عليه، ولا يلحقها حينئذٍ حكم الخلع، فلا يشترط فورية الجواب، ولا يقع بائناً من حيث العوض، بخلاف خلع الأجنبي، فإنه كخلع الزوجة في الألفاظ والأحكام، فله أنّ يرجع في البذل ما دامت في العدة، فللزوج حينئذ أن يرجع في الطلاق. وليس للزوجة هنا رجوع في البذل؛ لأنّها لا تملكه، بخلاف ما لو كان الباذل وكيلها أو الضامن له عنها، فإنّ أمر الرجوع فيهما بيدها.
ويتفرّع على جوازه أيضاً من الأجنبي ما لو قال الزوج «هي طالق بألف في ذمتك» فقبل، فإنه يلزم كالزوجة بخلاف ما لو قال «هي طالق وعليك ألف».
وعلى تقدير كونه وكيلاً من جانب الزوجة يتخيِّر بين أن يخلع استقلالاً وبين أن يكون نائباً عنها، فإن صرّح بالاستقلال فذلك، وإن صرّح بالوكالة فالزوج يطالب الزوجة بالمال. وإن لم يصرّح ونوى الوكالة كان الخلع لها لكن تتعلّق العهدة به ظاهراً، فيطالب بالعوض ثمّ
ص: 533
• أمّا لو قال: «طلّقها على ألف من مالها وعلى ضمانها» أو «على عبدها هذا وعلي ضمانه» صح، فإن لم ترض بدفع البذل صح الخلع وضمن المتبرع. وفيه تردّد.
-----------------------------------------------------------------------------------
هو يرجع على الزوجة. وعلى هذا فيجوز أن يوكّل الأجنبي الزوجة حتّى تختلع عنه. وحينئذ فتتخيّر الزوجة بين أن تختلع استقلالاً أو بالوكالة كما لو كان هو وكيلاً.
وقول الزوجة للأجنبي «سل زوجي يطلقني على كذا» توكيل، سواء قالت «عليّ» أم لم تقل. وقول الأجنبي لها «سلي زوجك يطلقك على كذا» يحتمل الأمرين، فإن لم يقل «عليّ» لم يكن توكيلاً، فلو اختلعت كان المال عليها. وإن قال «علي» كان توكيلاً، فإن أضافت إليه أو نوت ثبت على الأجنبي.
ولو قال أجنبي لأجنبي: سل فلاناً يطلّق زوجته بكذا كقوله للزوجة: سلي زوجك فيفرّق بين أن يقول: عليّ أو لا يقول.
ولو اختلع الأجنبي وأضاف العقد إليها مصرحاً بالوكالة ثمّ بان أنه كاذب لم يقطع الطلاق على القولين؛ لأنّه مرتبط بالمال، وهو لم يلتزمه في نفسه، وكذب في إضافة الالتزام إليها. فأشبه ما إذا كان الخطاب معها فلم تقبل.
قوله: «أما لو قال: طلقها على ألف من مالها وعلىّ ضمانها» إلى آخره.
هذه من شعوب بذل الأجنبي لكنه يختصّ عنه بكون البذل من مالها بغير إذنها، فيشابه الأجنبي من حيث التبرّع، ويشابه الوكيل من حيث جعله ذلك من مالها، ومنهما يتفرّع الإشكال؛ إذ يحتمل الصحّة؛ لأنّ الفدية من مالها فلم يخرج عن وضع الخلع، غاية ما في الباب أنّها إذا لم تجز ذلك يلزمه الضمان؛ نظراً إلى التزامه ذلك. ويحتمل العدم؛ لأنّ مرجعه إلى التبرع، حيث لا تجيز بذل مالها. ولأنّ ضمانه لذلك ضمان ما لم يجب فلا يصحّ، لكن قد ورد صحّة ضمان ما لم يجب في مواضع(1) المسيس الحاجة ك-«ألقِ متاعك في البحر وعلي
ص: 534
•ولو خالعت في مرض الموت صحّ، وإن بذلت أكثر من الثلث وكان من الأصل. وفيه قول: أنّ الزائد عن مهر المثل من الثلث. وهو أشبه.
----------------------------------------------------------------------------
ضمانه» حذراً من غرق السفينة، وقد تمسّ الحاجة هنا إلى مثل ذلك. وعدم الصحّة لا يخلو
من قوّة.
قوله: «ولو خالعت في مرض الموت صحّ» إلى آخره.
لمّا كان تصرّف المريض في مرض الموت مقصوراً على ثلث ماله حيث يكون متبرّعاً به، وكان مهر المثل هو عوض البضع شرعاً كقيمة المثل في المقوّمات - ومن ثم لو تصرّف فيه متصرّف على وجه يضمنه كوطء الشبهة والمكره، يجب عليه مهر المثل - فبذلها فدية للطلاق يتقدّر نفوذها من الأصل بمهر المثل؛ لأنّ العائد إليها البضع فيعتبر قيمته شرعاً، كما لو اشترت شيئاً بثمن مثله، فإن بذلت أكثر من ذلك كان مقدار مهر المثل من الأصل والزائد من الثلث.
هذا هو المشهور بين الأصحاب والمعمول به بينهم ذكر ذلك الشيخ في المبسوط(1) ولم ينقل فيه هذا القول وتبعه الباقون(2). نعم، نقل قولاً أن الجميع يعتبر من الثلث(3)؛ لأن العائد إليها غير متموّل بالنسبة إلى الورثة، والحجر على المريض إنّما هو لحقّ الورثة. وهو قول موجّه. والمصنّف (رحمه الله) نقل هنا قولاً أنّ الجميع يكون من الأصل وإن زاد عن الثلث(4). وهو قول نادر غير موجّه.
والأقوى العمل على المشهور.
وعليه، فلو كان مهر مثلها أربعين ديناراً فبذلت مائةٌ مستوعبة صحّ للزوج ستون،
ص: 535
•ولو كان الفداء رضاع ولده صحّ مشروطاً بتعيين المدة. وكذا لو طلّقها على نفقته بشرط تعيين القدر الذي يحتاج إليه من المأكل والكسوة والمدة. ولو مات قبل المدّة كان للمطلّق استيفاء ما بقي، فإن كان رضاعاً رجع بأجرة مثله، وإن كان إنفاقاً رجع بمثل ما كان يحتاج إليه في تلك المدة مثلاً أو قيمة. ولا يجب عليها دفعه دفعةً، بل إدراراً في المدة كما كان يستحقّ عليها لو بقي.
---------------------------------------------------------------------------------
أربعون في مقابلة مهر المثل، وعشرون بالمحاباة هي ثلث باقي التركة، ويرجع إلى الورثة أربعون ضعف ما نفذت فيه المحاباة هذا إذا لم تبرأ من مرضها، ولو برئت لزم الجميع كباقي
المنجّزات.
وأمّا مرض الزوج فلا يؤثّر في الخلع، بل يصحّ خلعه في مرض الموت وإن كان بدون مهر المثل؛ لأنّ البضع لا يبقى للوارث وإن لم يجر ،خلع ، فلا وجه للاعتبار من الثلث، ولأنّه لو طلقها بغير عوض في مرض الموت لا يعتبر فيه البضع من الثلث، فكذا إذا نقص عن مهر المثل.
قوله: «ولو كان الفداء رضاع ولده صح مشروطاً بتعيين المدة» إلى آخره.
عوض الخلع كما يجوز أن يكون عيناً يجوز أن يكون منفعة، ويشترط في المنفعة أن تكون معلومةٌ مستجمعةً للشرائط المذكورة في الإجارة. فإذا خالع زوجته على إرضاع ولده مدةٌ معلومةٌ جاز. وكذا لو خالعها على حضانته، سواء كان الولد منها أم من غيرها. والكلام في الجمع بينهما واستتباع أحدهما الآخر إذا أفرد كالكلام في الإجارة.
وكذا يجوز جعل النفقة عوضاً مضافةً إلى الرضاع، كما لو جعلها بعد مدّته أو منفردة فيعتبر تعيين ما ينفق عليه كلّ يوم من الإدام والطعام، وما يكسوه في كل فصل أو سنة، أو يضبط المؤونة في جملة السنة، وتوصف بالأوصاف المشروطة في السلم. ثمّ الزوج في الطعام والشراب مخيّر بين أن يستوفي بنفسه ويصرفه إلى الولد وبين أن يأمرها بالصرف إليه.
ص: 536
• ولو تلف العوض قبل القبض لم يبطل استحقاقه، ولزمها مثله أو قيمته إن لم يكن مثليّاً.
----------------------------------------------------------------------------
ثمّ الولد إن عاش إلى استيفاء العين والمنفعة فذاك، وإن خرج زهيداً وفضل من المقدّر شيء فهو للزوج، وإن كان رغيباً واحتاج إلى زيادة فهو على الزوج.
وإن مات قبل تمام المدّة انفسخ العقد فيما بقي منها دون ما مضى، فيستوفي الزوج الطعام والكسوة لما بقي ، ويرجع بأجرة مثل الرضاع والحضانة فيها . وامتناع الولد من الارتضاع والتقام الثدي كالموت. وحيث يرجع بأجرة الرضاع أو بقيمة النفقة أو مثلها فهل يتعّجل الاستحقاق، أو يكون منجماً كما كان فيه ؟ وجهان ، أصحّهما الثاني ؛ لأنّ الواجب كان حكمه كذلك . ووجه الأوّل أن التدرّج كان بحسب حالة الصبي وقد زالت.
قوله: «ولو تلف العوض قبل القبض لم يبطل استحقاقه» إلى آخره.
أمّا عدم البطلان بتلف العين(1) فلأصالة الصحّة، وبطلان البيع بذلك خرج بنص خاصّ(2)، فيبقى الباقي على أصل الصحّة . وأمّا ضمانها له بالمثل أو القيمة فلعموم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(3) ويدها آخذة للعين ولم تؤدّها إلى مالكها، فتكون ضامنةً لها بمثلها إن كانت مثليّةً أو قيمتها يوم التلف إن كانت قيمية.
ولا فرق في ذلك بين تلفه باختيارها أو بآفة من الله سبحانه أو بإتلاف أجنبي، لكن في الثالث يتخيّر الزوج بين الرجوع عليها وعلى الأجنبي، فإن رجع عليها رجعت على الأجنبي إن أتلفه على وجه مضمون.
ص: 537
• ولو خالعها بعوض موصوف فإن وجد ما دفعته على الوصف وإلا كان له رده والمطالبة بما وصف.
•ولو كان معيّناً فبان معيباً ردّه وطالب بمثله أو قيمته، وإن شاء أمسكه مع الأرش.
وكذا لو خالعها على عبد على أنّه حبشي فبان زنجياً، أو ثوب على أنّه نقيّ فبان أسمر . أمّا لو خالعها على أنّه إبريسم فبان كتاناً صحّ الخلع، وله قيمة الإبريسم، وليس له إمساك الكتان ؛ لاختلاف الجنس.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو خالعها بعوض موصوف فإن وجد ما دفعته على الوصف» إلى آخره.
وذلك؛ لأنّ الموصوف أمركلّي لا ينحصر فيما دفعته، وإنّما يتأدى به الأمر الكلي الثابت في الذمّة على تقدير مطابقته له، فإذا ظهر بخلافه فله ردّه والمطالبة بما وصف؛ لأنّه حقه. ويفهم من قوله «فله ردّه»(1) أنّ له الرضى به أيضاً. وهو يتمّ مع كونه موافقاً في الجنس وناقصاً في الوصف ليكون الفائت متمحّضاً لحقه، أو مع كونها عالمةً بحاله، أمّا لو كانت جاهلة به وهو زائد عن الموصوف ولو من وجه أو مغاير له لم يملكه بقبوله بدون رضاها؛ لأنّه غير الحق، فيتوقّف تعينه عوضاً على تراضيهما به.
قوله: «ولو كان معيّناً فبان معيباً ردّه وطالب بمثله أو قيمته» إلى آخره.
إذا كان العوض معيّناً فظهر معيباً فله الأرش؛ لأنّه نقص حدث قبل القبض فكان مضموناً عليها كما تُضمن الجملة. وذكر المصنّف وغيره(2) أنّ له ردّه والمطالبة بمثله إن كان مثليّاً أو قيمته إن كان قيميّاً ؛ لأنّ فوات الجزء الموجب للعيب أو الوصف كتبعّض الصفقة، فيتخيّر بين ردّه وأخذ عوضه وبين إبقائه مع أرشه.
وهذا بخلاف البيع، فإنّه مع ردّه لا يرجع إلى عوضه، بل يوجب انفساخ البيع.
ص: 538
• ولو دفعت ألفاً وقالت: طلقني بها متى شئت، لم يصح البذل. ولو طلق كان رجعيّاً والألف لها.
--------------------------------------------------------------------------
والفرق أنّ الطلاق المترتّب على العوض قد وقع قبل الردّ، والأصل فيه اللزوم، وليس هو كغيره من عقود المعاوضات القابلة للتفاسخ مطلقاً، بل يقف فسخه على أمور خاصّة بدليل خاصّ لا مطلقاً، فلا وسيلة إلّا إلى تحصيل المطلوب من العوض بما ذكر.
و مثله ما لو خالعها على عبد معيّن على أنّه من جنس خاصّ فبان من غيره؛ لأنّ الفائت الوصف الموجب للعيب على تقدير كونه أنقص، وأمّا الجنس وهو كونه عبداً فواحد وكذا لو خالعها على ثوب على أنّه نقي اللون فظهر أسمر ؛ لاشتراك الجميع في أصل الجنس، والاختلاف في الأوصاف الموجبة لاختلاف القيمة، فينجبر بالأرش أو البدل.
أمّا لو بذلت له شيئاً فظهر من خلاف جنس المعيّن - كما لو خالعها على أن الثوب إبريسم فظهر قطناً أو كتاناً - لم يثبت الأرش، لفوات الحقيقة بأسرها، بل له قيمة ما عيّنّاه؛ لأنّها أقرب إلى حقيقته. ولا يبطل الخلع؛ لوجود العوض فيه في الجملة. وليس للزوج إمساك الثوب المخالف لجنس ما عيناه، كما لو عقد على عين فبانت غيرها؛ لأنّ اختلاف الأجناس كاختلاف الأعيان، مع احتمال البطلان هنا لتبين عدم وجود العوض الذي عيناه، بخلاف ما لو فاتت صفته خاصّةً، ولكنّهم نظروا إلى وجود الماليّة للمبذول في الجملة، وفوات الجنس يجبر بالقيمة كما يجبر بها فوات الوصف.
وللنظر في هذه المطالب مجال إن لم تكن إجماعيّة؛ إذ لا نص فيها، وإنّما هي أحكام اجتهادية. ولو قيل في فوات الوصف يتعيّن أخذه بالأرش كان حسناً.
قوله: «ولو دفعت ألفاً وقالت: طلقني بها متى شئت لم يصح البذل. ولو طلّق كان رجعياً والألف لها».
وجه البطلان أنّ المعتبر في البذل الصحيح كونه في مقابلة الطلاق الواقع على الفور، فإذا جعلته في مقابلة الواقع مطلقاً فكأنها قد جعلته في مقابلة طلاق باطل، فيبطل البذل.
ص: 539
• ولو خالع اثنتين بفدية واحدة صح وكانت بينهما بالسوية. ولو قالتا: طلّقنا بألف، فطلق واحدةً كان له النصف. ولو عقب بطلاق الأخرى كان رجعياً، ولا عوض له ؛ لتأخّر الجواب عن الاستدعاء المقتضى للتعجيل.
----------------------------------------------------------------------------------------
وعلّله الشيخ في المبسوط بأنّه سلف في طلاق، وبأنه عوض على مجهول(1).
وفي الكلّ نظر ؛ لأنّ هذه الصيغة كما تناولت الطلاق الباطل مع التراخي تناولت الفوري بعد هذه الصيغة فلا يلزم من بطلان التراخي ولا من اشتمالها على الباطل وغيره بطلان مدلولها أجمع. وكذا القول في كونه سلفاً في طلاق؛ لأنّ المشيئة تشمل ما لو أوقعه في الحال. وأما كونه عوضاً على مجهول فظاهر المنع. نعم، لو قيل بأنّ اللفظ يتمّ بقولها مع دفع الألف: طلقني بها، ويكون قولها: متى شئت مانعاً من الفوريّة المعتبرة في الجواب فيكون البطلان مستنداً إلى تخلّل كلام لا يتعلّق بالعقد أمكن، إلا أن منع مثل هذا لا يخلو من نظر.
ثمّ على تقدير بطلان البذل إن كان الواقع خلعاً بطل من رأس. وإن كان طلاقاً وقع رجعياً من حيث خلوّه من البذل. ويأتي فيه ما تقدّم من الإشكال على تقدير كونه بائناً بغير هذا الاعتبار وجهل المطلّق بالحال(2).
قوله: «ولو خالع اثنتين بفدية واحدة صحّ وكانت بينهما بالسوية» إلى آخره.
إذا خالع اثنتين فصاعداً على عوض معيّن فالأظهر عندنا الصحّة؛ لأنّ العوض - وهو المجموع - معلوم في مقابلة جملة معلومة. ولا عبرة بجهالة ما يخص كلّ واحدة على تقدير التقسيط؛ لأنّ ذلك أمر متجدّد وراء الصفقة الواقعة في العقد، كما لا يقدح في الصحّة بيع جملة من الأمتعة بثمن واحد معلوم وإن جوّز ظهور بعضها مستحقاً، فلو فرض عروض ذلك واحتيج إلى التقسيط لا يقدح في صحة البيع السابق.
ص: 540
...
---------------------------------------------------------------------------
وهل يقسط في الخلع على رؤوسها أو على مهر المثل؟ وجهان، اختار الشيخ(1) والمصنّف والأكثر الأول؛ لأنّ البذل ذكر في مقابلتهما.
ووجه توزيعه على مهر أمثالهما أنّ ذلك هو الملحوظ في قيمة البضع حيث يفتقر إلى تقويمه، ومن ثمّ اعتبر في خلع المريضة مهر مثلها، كما إذا باع عبيداً صفقةً واحدةً، فإنّ الثمن يوزّع على قيمة العبيد حيث يحتاج إلى التوزيع، فإن استوت المهور استوين فيه، وإن تفاوتت تفاوتن.
وتوقّف في المختلف بين الوجهين(2). وله وجه. وأغرب القاضي ابن البراج حيث جعل العوض مقسوماً عليهما على قدر ما تزوّجهما به من المهر(3). ولعله تجوّز به في اعتبار مهر المثل، كما أطلق المتقدّمون الأرش أنّه تفاوت ما بين قيمة العين صحيحةً ومعيبةً ، وأرادوا نسبة ذلك من الثمن لا نفس التفاوت؛ حذراً من اجتماع العوض والمعوض لواحد، بل الزيادة عليهما.
هذا إذا قالتا : طلّقنا بألف أو خالعنا بها، ففعل ذلك بهما. ومثله ما لو ابتدأهما بذلك فقبلتا.
أمّا لو قالتا: طلقنا بألف فطلق واحدةً خاصّةً كان له النصف بناءً على قسمة المال بينهما بالسوية. وعلى القول الآخر يلزمها حصّتها من المسمّى إذا وزّع على مهر مثلهما. ولا يضرّ اختلاف السؤال والإيقاع؛ لأنّ كلّ واحدة مقصودة بنفسها منفردة، كما لو قال رجلان: ردّ عبدينا بكذا، فردّ أحدهما دون الآخر. وهذا بخلاف ما لو قالت الواحدة: طلقني ثلاثاً بألف مثلاً، فطلّق واحدة؛ لأنّ المرأة الواحدة يتعلّق غرضها بالعدد.
وقد ينقدح إرادة كلّ واحدة طلاقهما معاً ولا تريد الانفراد، فلا يكون الاقتصار على إحداهما مطابقاً للسؤال، لكن ظاهرهم عدم الالتفات إلى هذا الاحتمال؛ لأنّه خلاف الظاهر.
ص: 541
•ولو خلعها على عين فبانت مستحقةٌ قيل: يبطل الخلع ولو قيل: يصحّ وتكون له القيمة أو المثل إن كان مثليّاً كان حسناً.
---------------------------------------------------------------------------
وفي التحرير استشكل في ثبوت النصف لو اقتصر على طلاق الواحدة(1). ووجهه ما ذكرناه.
وفرّق بعضهم بين هذه الصورة وبين ما لو ابتدأهما فقال خالعتكما بألف، أو: أنتما طالقتان بكذا، فقبلت إحداهما وحدها، فإنّه لا يقع هنا شيء؛ لأنّ القبول لم يوافق الجواب(2)،
كما لو قال: بعتكما هذا العبد بألف فقال أحدهما قبلت والفرق لا يخلو من نظر.
ثمّ على تقدير وقوعه على واحدة منهما لو عقّب بطلاق الأخرى لم يستحق العوض، لتأخّر الجواب عن الاستدعاء، ووقع الطلاق رجعياً من هذه الحيثية، كما تقدّم(3).
قوله: «ولو خلعها على عين فبانت مستحقة، قيل: يبطل الخلع» إلى آخره.
القول ببطلان الخلع للشيخ فى المبسوط(4)؛ نظراً إلى أنّ العوض لازم لماهيّته، وبطلان اللازم يستلزم بطلان الملزوم. ولأنّ الطلاق بغير عوض غير مقصود، وبالعوض غير صحيح، والقيمة غير مرادة.
ووجه ما اختاره المصنّف من الصحة ولزوم المثل أو القيمة أن المعاوضة هنا ليست حقيقية كما في البيع، والأصل في العقود الصحّة، فلا يؤثر بطلان غير(5) العوض في بطلانه، وفواته ينجبر بضمانها مثله إن كان مثليّاً وقيمته إن لم يكن كذلك. والأقوى الأوّل.
ص: 542
• ويصحّ البذل من الأمة، فإن أذن مولاها انصرف الإطلاق إلى الافتداء بمهر المثل. ولو بذلت زيادةً عنه قيل: يصحّ، وتكون لازمةً لذمتها تتبع بها بعد العتق واليسار، وتتبع بأصل البذل مع عدم الإذن ولو بذلت عيناً فأجاز المولى صحّ الخلع والبذل، وإلا صح الخلع دون البذل، و لزمها قيمته أو مثله تتبع به بعد العتق.
------------------------------------------------------------------------------------
ونبه بقوله «فبانت مستحقةً» على أنه لو كان عالماً باستحقاقها ابتداء بطل الخلع؛ لأنّه لم يقصد إلى عقد صحيح، بخلاف ما إذا جهل. وعلى التقديرين فلو أتبعه بالطلاق وق-ع رجعياً كما سلف غير مرّة(1).
قوله: «ويصح البذل من الأمة فإن أذن مولاها انصرف الإطلاق» إلى آخره.
يشترط في قابل الخلع وباذل المال أن يكون مطلق التصرّف فيه صحيح الالتزام. والمحجورون أنواع ذكر المصنّف بعضها، فمنهم المحجور بسبب الرق، فإذا كانت الزوجة المختلعة أمةٌ لم يخل إمّا أن تختلع بغير إذن السيّد، أو بإذنه. فإن اختلعت بإذنه فإمّا أن يبين العوض، أو يطلق الإذن فإن بينه نظر إن كان عيناً من أعيان ماله نفذ الخلع واستحق الزوج تلك العين. وإن قدر ديناً بأن قال: اختلعي نفسك بألفٍ مثلاً ففعلت، تعلّق الإذن بالألف بذمّة المولى، أو يكسبها إن كان لها كسب، أو ما في يدها إن كان مأذوناً لها في التجارة، كمهر العبد في النكاح المأذون فيه.
ولو لم تكن ذات كسب ولا ذات يد تعلّق بذمّتها تتبع به بعد العتق واليسار. وقد تقدّم البحث فيه(2)، وأنّ الأقوى تعلّقه بذمة المولى مطلقاً. وإن زادت على ما قدر قيل: يصحّ وتكون لازمةً لذمتها تتبع به إذا أعتقت وأيسرت(3)؛ إذ لا سبيل إلى نفوذه؛ لكونه بغير إذن المولى. ولا إلى البطلان لأنّ ذمتها قابلة للتعلّق.
ص: 543
•ويصحّ بذل المكاتبة المطلقة، ولا اعتراض للمولى. وأمّا المشروطة فكالقنّ.
----------------------------------------------------------------------------
وإن أطلق فقال: اختلعي بما شئت اختلعت بمهر المثل والزيادة عليه - إن فرضت - كالزيادة على المأذون فيه يتعلّق بذمتها.
وإن اختلعت بغير إذنه نظر، إن اختلعت بعين مال السيد فالخلع على عين مستحقة، فعلى ما اختاره المصنّف يلزمها مثله أو قيمته تتبع به. وعلى الآخر يبطل، ويقع الطلاق رجعياً إن أتبع به، خصوصاً مع علم الزوج أن المال للسيد، وأنّه لا إذن منه فلا يكون طامعاً في شيء.
وإن اختلعت على دين حصلت البينونة، وتبعت به بعد العتق واليسار والفرق بين الدين والعين المبذولة بغير إذنه أنّه مع الدين يكون قد أقدم على ثبوت العوض في ذمتها وهي قابلة له وإن لم يكن معجلاً، بخلاف العين، لانحصار العوض فيها، فإذا لم تصحّ توجّه بطلانه، لخلوّه عن العوض إن لم نقل بلزوم بدله(1) لها فيلحق بالدين. ولا يخفى ضعفه.
فرع : لو اختلع السيد أمته التي هي تحت حرّ أو مكاتب على رقبتها ففي صحّته وجهان: أحدهما: أنّه تحصل الفرقة ويرجع إلى قيمتها؛ لأنّه خلع على بذل لم يسلم له، فإنّ البذل هو تملك الرقبة، وفرقة الطلاق وتملك الرقبة لا يجتمعان ، فإذا لم يسلم البذل أشبه ما إذا خالعها على خمر أو مغصوب.
والثاني : أنّه لا يصح الخلع أصلاً؛ لأنّه لو حصلت الفرقة لقارنها ملك الرقبة، فإنّ العوضين يتساوقان والملك في المنكوحة يمنع وقوع الطلاق. ولعلّ هذا أجود.
قوله: «ويصح بذل المكاتبة المطلقة، ولا اعتراض للمولى. وأما المشروطة فكالقن».
أمّا مساواة المشروطة للقنّ فواضح؛ لأنّها لا تخلص من محض الرق إلّا بأداء جميع المال، فهي قبله بحكم القنّ. وأمّا المطلقة فقد أطلق الشيخ في المبسوط بأنّ بذلها
ص: 544
...
-------------------------------------------------------------------------------
صحيح من غير اعتراض للمولى(1)، وتبعه عليه المصنّف والجماعة(2). ولا يخلو من إشكال لما سيأتي في الكتابة من أنّ المكاتب مطلقاً ممنوع من التصرّف المنافي للاكتساب ومسوّغ فيه من غير فرق بين المطلق والمشروط(3). وما يبذله من المال في مقابلة البضع إن كان اكتساباً - من حيث إنّ العائد إليها البضع - فيبقى صحّته فيهما مقيداً بكون المبذول بقدر مهر المثل، وإن كان غير اكتساب كما هو الظاهر - لم يصحّ فيهما.
ولو قيل بأنّ اختلاع المكاتبة مطلقاً كاختلاع الأمة كان وجهاً، لكن لا أعلم به قائلاً من أصحابنا، فينبغي التوقّف إلى أن يظهر الحال أو وجه الفرق الذي ادّعوه.
ص: 545
ويعتبر في الخالع شروط أربعة: البلوغ، وكمال العقل، والاختيار، والقصد.
فلا يقع مع الصغر ، • ولا مع الجنون • ولا مع الإكراه، ولا مع السكر ولا مع الغضب الرافع للقصد.
•ولو خالع ولي الطفل بعوض صح إن لم يكن طلاقاً، وبطل مع القول بكونه طلاقاً.
_____________________________________
قوله: «ولا مع الجنون».
أي الجنون حالة إيقاعه الخلع، سواء كان مطبقاً أم أدواراً. وكذا القول في غيره من الموارد والمعتبر من الجنون ما يزول معه العقل، ويعلم باختلال نظم الكلام ومخالفة الأفعال لأفعال العقلاء.
قوله: «ولا مع الإكراه»
قد تقدّم تحقيق الإكراه وما يتفرّع عليه في الطلاق(1). ولو ظهرت قرينة الرضى بعد الإكراه بأن يخالف ما أكره عليه كمّيّةً أو كيفيّة - بأن أكرهه على خلعها بمائة فخلعها بمائتين، أو بذهب فخلعها بفضّة، ونحو ذلك - لم يكن ذلك إكراها. ولو ادّعى الإكراه رجع إلى القرينة مع عدم البيّنة وإلّا لم تقبل؛ لأصالة الصحّة.
قوله: «ولو خالع وليّ الطفل بعوض صحّ إن لم يكن طلاقاً» إلى آخره.
إذا خالع الوليّ زوجة الطفل، فإن جعلناه طلاقاً أو يفتقر إلى أن يتبع بالطلاق لم يصحّ
ص: 546
•ويعتبر في المختلعة أن تكون طاهراً طهراً لم يجامعها فيه، إذا كانت مدخولاً بها، غير يائسة، وكان حاضراً معها • وأن تكون الكراهة من المرأة.
------------------------------------------------------------------------
مطلقاً؛ لما تقدّم من أنّ الولي ليس له أن يطلق عن الصبيّ وإن وجد مصلحة(1). وإن جعلناه فسخاً روعي في صحّته المصلحة؛ لأنّه حينئذ بمنزلة المعاوضة عنه، وهي جائزة معها. ولا فرق حينئذٍ بين خلعه بمهر المثل وأقلّ؛ لأنّ المصلحة هي المسوّغة للفعل، وليس على حدّ المعاوضات المحضة المالية حتى يتقيّد بمهر المثل مع احتماله؛ إلحاقاً له بغيره من المعاوضات. وقد تقدّم ما يرشد إليه(2).
قوله: «ويعتبر في المختلعة أن تكون طاهراً» إلى آخره.
الضابط أنّه يعتبر فيها ما يعتبر في الطلاق وإن جعلناه فسخاً؛ لقول الصادق(علیه السلام) :«لا اختلاع إلا على طهر من غير جماع»(3). وكلّ خبر دلّ على أنّه طلاق(4) لزم منه اعتبار شرائطه.
قوله: «وأن تكون الكراهة من المرأة».
مذهب الأصحاب أنّ الخلع مشروط بكراهة المرأة له ، فلو خالعها وأخلاقهما ملتئمة ولا كراهة منها لم يقع. وأخبارهم به مستفيضة، منها حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «لا يحلّ خلعها حتى تقول لزوجها: والله لا أُبرّ لك قسماً، ولا أُطيع لك أمراً، ولا أغتسل لك من جنابة، ولأوطئن فراشك، ولآذنننّ(5) عليه بغير إذنك، وقد كان الناس يرخّصون فيما دون هذا، فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حلّ له ما أخذ منها.
ص: 547
•ولو قالت: لأُدخلن عليك من تكره، لم يجب خلعها، بل يستحب. وفيه رواية بالوجوب.
--------------------------------------------------------------------------------------
وكانت عنده على تطليقتين»(1). وفي معناها أخبار كثيرة(2).
وفي حديث جميلة بنت عبد الله بن أبي زوجة ثابت بن قيس التي كانت أصل مشروعية الخلع ما يدل على وروده في كراهتها، لكنه لا يدلّ على انحصار صحّته في تا الحالة، بخلاف أخبارنا. وفي بعض ألفاظ حديثها أنّها كانت تبغضه وكان يحبها(3)، فأتت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء، والله! ما أعتب عليه في دين ولا خلق، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً، إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدّهم سواداً، وأخصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً. فنزلت الآية، وهي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهى)(4) وكان قد أصدقها حديقةٌ ، فقال ثابت: يا رسول الله تردّ عليّ الحديقة، فقال: «ما تقولين؟» فقالت نعم وأزيده، قال: «لا، حديقته «فقط» فاختلعت منه بها(5). وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «لا، حديقته فقط» موافقة لمطلوب الزوج لا للنهي عن بذل الزيادة.
قوله: «ولو قالت: لأُدخلن عليك من تكره لم يجب خلعها» إلى آخره.
الأصحّ أنّ الخلع لا يجب على الزوج مطلقاً ؛ للأصل، ولأن الله تعالى رفع فيه الجناح(6)
ص: 548
•ويصحّ خلع الحامل مع رؤية الدم كما يصح طلاقها ولو قيل إنّها تحيض. وكذا التي لم يدخل بها ولو كانت حائضاً. وتخلع اليائسة وإن وطئها في طهر المخالعة.
---------------------------------------------------------------------------
الموهم لكونه محرّماً ، ورفع الجناح يرفع التحريم، ولا يدلّ على ما سواه، بل يُشعر بعدم رجحانه. وفي حسنة الحلبي السابقة(1) ونظائرها(2) دلالة على إثبات حلّه مع كراهتها خاصّةً.
والقول بوجوبه - إذا قالت له ذلك - للشيخ في النهاية(3)، وتبعه تلميذه القاضي(4) وجماعة(5)؛ استناداً إلى أنّ ذلك منها منكر، والنهي عن المنكر واجب، وإنّما يتمّ بالخلع فيجب.
وجوابه منع انحصار النهي في الخلع، بل تأدّيه بالطلاق المجرّد عن البذل أقرب إليه وأنسب بمقام الغيرة والنخوة من مراجعتها على بذل المال الحقير. ويمكن أيضاً تأديه بالضرب وغيره مما يدفع به المنكر. والأقوى حينئذٍ استحباب فراقها، أمّا كونه بطريق الخلع فغير واضح إلّا من حيث جعله بعض أفراد الفرقة. وقال في المختلف الظاهر أنّ مراد الشيخ بذلك شدّة الاستحباب(6). وفيه نظر لا يخفى.
قوله: «ويصحّ خلع الحامل مع رؤية الدم كما يصح طلاقها» إلى آخره.
إذا جعلنا الخلع طلاقاً فما يعتبر في الطلاق ويرخّص فيه من طلاق الحائض في المواضع الثلاثة آتٍ هنا. وإن جعلناه فسخاً يستتبع الطلاق فكذلك بطريق أولى، وإن لم نقل بافتقاره إلى الطلاق فغايته إلحاقه به أمّا زيادته عليه في الشرائط فلا؛ إذ لا دليل عليه.
ص: 549
•ويعتبر في العقد حضور شاهدين دفعةً، ولو افترقا لم يقع.
• وتجريده عن شرط.
--------------------------------------------------------------------------------------
وخالف في ذلك بعض الأصحاب، فحكم بعدم جواز خلع الحامل إن قلنا إنّها تحيض إلّا في طهر آخر غير طهر المواقعة بخلاف الطلاق(1). ويمكن الاحتجاج له بعموم الخبر السابق(2)، مع القول بأنّه فسخ لا طلاق فلا يلحقه ما دلّ على استثناء الحامل في الطلاق.
وكيف كان فالمذهب هو المشهور، ورجحان كونه طلاقاً كافٍ في مشاركته له في الحكم.
قوله: «ويعتبر في العقد حضور شاهدين دفعة، ولو افترقا لم يقع».
المراد سماعهما صيغة العقد، سواء حضرا دفعة أم لا، وإن كانت العبارة غير مساعدة. والتعبير بالعقد يشمل استدعاء المرأة وخلع الزوج. وبناؤه على القول بكونه طلاقاً واضح. وعلى القول الآخر يمكن استفادته من عموم الأخبار الدالّة على اعتبار الشاهدين فيه(3). ولمّا كانت ماهيته لا تتحقّق بدون الإيجاب الواقع منه والاستدعاء منها أو القبول تناولهما الاشتراط.
واعلم أنّ إثبات هذا المطلوب من النصوص على القول بكونه فسخاً لا يخلو من إشكال، ولعلّ الاستناد إلى الإجماع أسهل.
قوله: «وتجريده عن شرط».
الكلام في اشتراط تجريده عن الشرط كالكلام في الطلاق من أنّه مذهب الأصحاب ودليله غير صالح. وعموم الأدلّة(4) الدالّة على مشروعيته يتناول المشروط. وورود النصّ
ص: 550
•ويصحّ الخلع من المحجور لتبذير أو فلس.
----------------------------------------------------------------------------
بجواز تعليق الظهار على الشرط(1) يؤنس بكونه غير مناف للصحة في الجملة، إلا أنّ الخلاف هنا غير متحقّق، فإن تم فهو الدليل.
قوله: «ويصحّ الخلع من المحجور لتبذير أو فلس».
المعتبر في المخالع كونه ممن ينفذ طلاقه، فلا يصحّ خلع الصبي والمجنون، ويصحّ من المحجور عليه للسفه والفلس، سواء أذن الوليّ أم لم يأذن، وسواء كان العوض بقدر مهر المثل أم ،دونه، فإنّ ذلك لا يزيد على الطلاق مجاناً ، وطلاقهما مجانّاً نافذ. ولكن لا يجوز للمختلع تسليم المال إلى السفيه، بل إلى الولي. فإن سلّمه إلى السفيه وكان الخلع على عين أخذها الولي من يده. فإن تلفت في يد السفيه قبل علم الوليّ بالحال رجع على المختلع بمثلها أو قيمتها؛ لحصول التلف قبل قبض المستحق للقبض. ولو علم فتركها في يده حتّى تلفت مع تمكّنه من قبضها ففي ضمان الوليّ أو الدافع وجهان أجودهما الثاني، وإن أثم الوليّ بتركها في يده.
وإن كان الخلع على دين رجع الوليّ على المختلع بمثله؛ لأنّه لم يجر قبض صحيح تحصل به البراءة، ويستردّ المختلع من السفيه ما سلّمه إليه. فإن تلف قبل ردّه ففي ضمانه له وجهان تقدّما في بابه(2). ولا ضمان هنا على الولي وإن أمكنه انتزاعه منه بغير إشكال؛ لأنّه ليس عين الحق.
هذا كلّه إذا كان التسليم إلى السفيه بغير إذن الولىّ. فإن كان بإذنه ففي الاعتداد به وجهان من أنّه تسليم مأذون فيه ممن له الولاية فكان مبرئاً، ومن الشكّ في نفوذ مثل هذه الإذن؛ إذ ليس للوليّ أن يفوّض إلى السفيه الأمر في ماله، إلّا أن يفرض مراعاته له بحيث لا يخرج
ص: 551
•ومن الذمّي والحربي. ولو كان البذل خمراً أو خنزيراً صح ولو أسلما أو أحدهما قبل الإقباض ضمنت القيمة عند مستحلّيه.
•والشرط إنّما يبطل إذا لم يقتضه العقد ، فلو قال : فإن رجعتِ رجعت ، لم يبطل بهذا الشرط ؛ لأنّه مقتضى الخلع . وكذا لو شرطت هي الرجوع في الفدية.
---------------------------------------------------------------------------------------
عن يده، فيتّجه البراءة. وهذا التفصيل حسن وأطلق في القواعد البراءة مع إذنه(1). ولا يخلو من إشكال.
قوله: «و من الذمي والحربي. ولو كان البذل خمراً أو خنزيراً صح» إلى آخره.
المعتبر في العوض كونه قابلاً لملك المتعاوضين فلا عبرة بعدم قبول ملكية غيرهما. فلو كان الزوجان ذمّيّين صح بذلها له خمراً أو خنزيراً؛ لصحة ملكهما عندهما. وأولى منهما الحربيان.
ثمّ إن تقابضا كافرين فلا كلام. وإن أسلما أو أحدهما قبل التقابض ضمنت قيمته عند مستحليه؛ لأنّها أقرب شيء إليه، كما لو جرى العقد على عين فتعذّر تسليمها. وينزل التعذّر الشرعي منزلة الحسّي؛ إذ لو كانت هي المسلمة امتنع منها إقباضه، وإن كان هو المسلم امتنع منه قبضه و زالت ماليته لكن له أخذ قيمته منها إلزاماً لها بما تنتحله، فينزل تعذر قبضه منزلة المعدوم. ويحتمل سقوط حقّه منه لو كان هو المسلم. وقد تقدّم نقل المصنّف له قولاً فيما لو أسلمت قبل قبض المهر وكان خمراً(2).
ولو كان الإسلام قبل قبض البعض لحق كل جزء حكمه، فيجب بقدر الباقي من القيمة. ولو ترافعا إلينا قبل الإسلام والتقابض ألزمها الحاكم القيمة أيضاً لتعذّر حكم الحاكم بالأصل، كما تعذّر إقباض المسلم له وقبضه.
قوله: «والشرط إنّما يبطل إذا لم يقتضه العقد» إلى آخره.
ص: 552
•أمّا لو قال: «خالعتك إن شئت» لم يصحّ ولو شاءت؛ لأنّه شرط ليس من مقتضاه. وكذا لو قال: «إن ضمنت لي ألفاً»، أو « إن أعطيتني» وما شاكله. وكذا متى أو مهما أو أي وقت أو أي حين.
---------------------------------------------------------------------------
الضابط في كلّ شرط لا يصحّ تعليق العقد عليه هو الشرط الخارج عن مقتضى العقد، فلو شرط ما هو مقتضاه - بمعنى أنّ مضمونه يتناوله العقد وإن لم يشرط - لم يضر، وكان ذلك بصورة الشرط لا بمعناه، كقوله : إن رجعتِ في البذل رجعتُ في الطلاق، فإنّ ذلك أمر ثابت مترتّب على صحّة الخلع شرط أم لم يشرط وكذا قولها على أن لي الرجوع فيه في العدّة، ونحو ذلك.
وقد يشكل الحكم في كلّ منهما من حيث اشتمالهما - للاشتراط المذكور - على تخلّل كلام بين الإيجاب والقبول في الأوّل على تقدير تأخر القبول، وتخلّله الاستدعاء والإيجاب في الثاني على تقدير تقدّم الاستدعاء، وقد تقدّم اعتبار الفورية بينهما(1)، إلّا أن يدعى اغتفار مثل ذلك إمّا لقلّته أو لكونه من مقتضيات العقد ولوازمه، فلا يضرّ ذكره وإن أوجب الفصل بين المقصود بالذات من اللفظين. وهذا الأخير هو الوجه. وكذا القول في تخلّل الكلام الواقع من هذا القبيل بين الإيجاب والقبول، وقد قدّمنا الإشارة إلى مثله في النكاح(2).
قوله: «أما لو قال: خالعتك إن شئت، لم يصحّ ولو شاءت» إلى آخره.
هذه جملة من أمثلة الشرط المقتضي للبطلان عند الأصحاب. وضابطه أن يكون أمراً متوقعاً بعد الصيغة علّقت عليه يمكن وجوده وعدّمه وإن أمكن وجوده بعدها بغير فصل، كما في قوله «إن شئت» فقالت «شئت» مقارناً للإيجاب، أو «إن ضمنت لي ألفاً» فقالت «ضمنتها كذلك». وكذا في تعليقه(3) على إعطائها بجميع تلك الأدوات.
ص: 553
...
---------------------------------------------------------------------------
والفرق بينها وبين قوله «خالعتك بألف» من غير أن يتقدّم سؤالها - مع كونه في المعنى مشروطاً بقبولها الذي هو بمعنى الضمان على ما قرر سابقاً - أن الصيغة في نفسها هنا جازمة وإن توقّفت على شرط آخر كتوقّف الإيجاب الجازم على القبول، وذلك لا يقتضي جعله في نفس اللفظ معلّقاً عليه، حتّى لو قال في البيع «بعتك بكذا» فقبل صح وإن كانت صحّته في نفسه موقوفة على القبول بخلاف ما لو قال: بعتك بكذا إن قبلت فقال: قبلت: لوجود التعليق المنافي للجزم بالصيغة.
وفي هذه التعاليق أمر آخر زائد على تعليقه على القبول وهو أنّ المشيئة المعلّق عليها قد تقع مقارنةً وقد تقع متأخرةً، فيكون قد علّق اللفظ على أمر قد يقع مطابقاً وقد لا يقع، فيرجع إلى تعليقه على أمر مبطل من حيث هو كلّي وإن كان بالنظر إلى بعض أفراده موافقاً.
وفي التعليق على الإعطاء مانع آخر، وهو أنّه غير مشروط بكونه عوضاً في الخلع، بل متى حصل الإعطاء المملّك كفى في تأدي الشرط وإن لم يكن على وجه العوض، بل على قصد عدمه، والمال المعلّق عليه صحّة الخلع هو المجعول عوضاً، ومن ثمّ صحّحوا قوله: خالعتك بألف، دون وعليك ألف، ونحوه.
وفي الحقيقة هذه الأحكام كلّها راجعة إلى صور الشروط المرتبطة بالألفاظ، وإلّا فالمعنى متحد وإثبات الأحكام بمثل هذه الاعتبارات لا يخلو من تكلّف.
وبقي البحث في تعليق الاستدعاء على الشرط، وقد تقدّم القول بجوازه(1). وفي التحرير: لو قالت: «إن طلقتني واحدةً فلك عليّ ألف» فطلقها فالأقرب ثبوت الفدية(2). وهو تعليق ،محض، إلّا أن يقال بأنّ الاستدعاء يتوسّع فيه، ومن ثمّ لم يختصّ بلفظ، بخلاف الخلع الواقع من الزوج، وفي الحقيقة كلّ لفظ يتقدّم منهما فهو معلّق على الآخر، ومن ثمّ قلنا: إنّه مع
ص: 554
...
------------------------------------------------------------------------
تأخير القبول من جانبها يكون في الخلع شائبة الشرط. إلا أنّهم اعتبروا في نفس الخلع - الذي هو عبارة عن اللفظ الواقع من الزوج - تجرّده عن صورة الشرط، بخلاف اللفظ الواقع منها. ولو جعلنا الخلع عبارة عن العقد المركّب منهما أشكل الفرق. وعلى ما ذكره في تعريف الخلع في التحرير من أنّه عبارة عن بذل المرأة المال للزوج فدية لنفسها(1)، يقوى الإشكال، خصوصاً في حكمه الذي حكيناه عنه.
ص: 555
و هی مسائل:
الأولى: • لو أكرهها على الفدية فعل حراماً. ولو طلّق به صحّ الطلاق، ولم تسلم له الفدية، وكان له الرجعة.
الثانية: • لو خالعها والأخلاق ملتئمة لم يصحّ الخلع، ولا يملك الفدية. ولو طلقها والحال هذه بعوض لم يملك العوض، وصحّ الطلاق، وله الرجعة.
------------------------------------------------------------------------------------
قوله: «لو أكرهها على الفدية فعل حراماً - إلى قوله - وكان له الرجعة».
يتحقّق إكراهه عليها بتوعده إيَّاها إن لم تبذلها بما لا تحتمله أو لا يليق بجانبها من ضرب وشتم ونحوه، لا بتقصيره في حقوقها الواجبة لها من القسم والنفقة فافتدت منه لذلك على الأقوى. إلّا أنّ يظهر لها أنّ ذلك طلباً لبذلها فيكون إكراها لصدق تعريفه عليه حينئذٍ. وقد تقدّم البحث في ذلك في باب الشقاق من النكاح(1).
ولو حملها على ذلك بفعل ما لا يحرم عليه كإغارتها - أو ترك ما لا يجب فعله لم يعدّ ذلك إكراهاً إجماعاً.
وحيث يتحقّق الإكراه على البذل، فإن كان الواقع خلعاً بطل، وإن قلنا إنّه طلاق فلا يكون رجعيّاً لأنّ ما هيّته لا تتحقّق بدون صحّة البذل عندنا. وإن كان طلاقاً بعوض وقع رجعيّاً من حيث فساد البذل. ولو كان بائناً من حيثية أُخرى بانت منه بغير عوض، وكان التقصير من جانبه.
قوله: «لو خالعها والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع» إلى آخره.
ص: 556
الثالثة : • إذا أتت بالفاحشة جاز عضلها لتفدي نفسها . وقيل : هو منسوخ . ولم يثبت.
-----------------------------------------------------------------------------------
أمّا بطلان الخلع فلما تقدّم من اشتراط صحّته بكراهتها له، فبدون الكراهة يقع باطلاً؛ لفقد شرطه(1). والتئام أخلاقهما كناية عن عدم الكراهة وإلّا فإنّها أمر نفسى يمكن مجامعتها لالتئام الأخلاق ظاهراً، بأن تكتم الكراهة وتحسن معه الخلق، ولكن لمّا كان ذلك على خلاف الغالب لم يعتبره؛ إذ ما يضمره الإنسان يظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه. ولو فرض عدم ظهور كراهتها مع وقوعها في نفس الأمر لوجب الحكم بفساده؛ لأنّ العبرة بظهور الشرط لا بحصوله في نفس الأمر. وأمّا بالنسبة إليه فيما بينها وبين الله تعالى، فيحتمل وقوعه فيلحقها حكم المطلقة بالنسبة إليها وإن كانت بالنسبة إليه زوجة. لكن الأقوى فساده مطلقاً لما تقرّر من دلالة النصوص على أن المعتبر إظهارها الكراهة بالقول(2).
هذا بالنسبة إلى الخلع. وأمّا الطلاق بعوض فمقتضى كلام المصنّف والجماعة كونه كذلك؛ لاشتراكهما في المعنى، بل عده في المبسوط خلعاً صريحاً حيث قسمه إلى واقع بصريح الطلاق وإلى واقع بغيره، وجعل الأوّل طلاقاً وخلعاً، وجعل الخلاف في الثاني هل هو طلاق أم لا ؟(3) وهذا إن كان إجماعاً فهو الحجّة في حكمه وإلّا فلا يخلو من إشكال؛ لأنّ النصوص إنّما دلّت على توقّف الخلع على الكراهة، وظاهر حال الطلاق بعوض أنّه مغاير له وإن شاركه في بعض الأحكام.
قوله: «إذا أتت بالفاحشة جاز عضلها لتفدي نفسها . وقيل: هو منسوخ. ولم يثبت».
الأصل في هذه المسألة قوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضٍ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن
ص: 557
...
-----------------------------------------------------------------------------------
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)(1). وقضيّة الاستثناء جواز عضلهنّ مع إتيانهن بفاحشة مبينة ليفتدين أنفسهنّ.
وأصل العضل التضييق والمنع تقول: أردت أمراً فعضلتني عنه، أي منعتني وضيّقت عليّ، وأعضل بي الأمر إذا ضاق، قاله الهروي(2) وغيره(3). والمراد هنا مضارة الزوجة المذكورة وسوء العشرة معها ليضطرّها إلى الافتداء منه بمالها.
واختلف في الفاحشة المستثناة بسببها، فقيل: هي الزنى(4)، وقيل : ما يوجب الحد مطلقاً(5)، وقيل: كلّ معصية(6) . وكون الحكم على خلاف الأصل ينبغي معه الاقتصار على محلّ الوفاق وهو الأول؛ لأنّه ثابت على جميع الأقوال وهذا العضل للافتداء في معنى الإكراه عليه كما تقدّم(7)، فلذلك كان حكمها على خلاف الأصل.
وقيل: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). وأنّه كان قبل نزول الحدود للرجل أن يعضل الزانية لتفتدي نفسها، فلمّا نزلت الحدود حرم أخذ المال بالإكراه(8).
ص: 558
...
------------------------------------------------------------------------------------
ويضعّف بعدم المنافاة بين الأمرين. والأصحّ عدم النسخ والأكثر على عدمه.
وعلى القول الأوّل فهل يتقيّد جواز العضل ببذل قدر مخصوص كمقدار ما وصل إليها؟ ظاهر المصنّف والأكثر عدمه؛ لإطلاقهم الجواز إلى أن تفتدي نفسها لإطلاق الآية(1)، ولعدّهم هذا خلعاً وهو غير مقيّد.
ورجّح الشهيد في بعض تحقيقاته تقييده بما وصل إليها منه من مهر وغيره؛ حذراً من الضرر العظيم، واستناداً إلى قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) لجميلة بنت عبد الله بن أبي - وقد قالت: وأزيده - «لا، حديقته فقط» وفي بعض ألفاظ الرواية: «أما الزيادة فلا ، ولكن حديقته» وحمل كلام الأصحاب على غير صورة العضل، أو على ما إذا بذلت الزائد من قبل نفسها(2).
وفي الاحتجاج من الجانبين معاً نظر؛ لأنّ الاستثناء في الآية(3) وقع من إذهاب الأزواج لبعض ما آتوهنّ لا بجميعه، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في اللفظ، والجميع غير داخل فيه فإطلاق الاستثناء لا يفيد فلا حجّة فيها للفريقين.
وأمّا الخبر فلا دلالة فيه أيضاً على موضع النزاع؛ لأنّ المرأة المذكورة ليست من هذا الباب، ولا عضلها زوجها، وإنّما كان يود لو رضيت عنه، وإنّما هي الكارهة له على أصل قاعدة الخلع كما أشرنا إليه سابقاً(4). وتقييده(صلی الله علیه و آله و سلم) بالحديقة لكون الزوج طلبها وإلا لجازت الزيادة إجماعاً.
وأما حمله كلام الأصحاب بجواز أخذ الزيادة في غير صورة العضل ففيه أنّهم أطلقوا جواز أخذ الفدية مع العضل الشامل لأخذ الزائد، مع أنك قد عرفت أنّ التقييد بقدر
ص: 559
الرابعة • إذا صح الخلع فلا رجعة له، ولها الرجوع في الفدية ما دامت في العدة، ومع رجوعها يرجع إن شاء.
-------------------------------------------------------------------------------------
ما أخذت منه لا دليل عليه من الآية، وهو ظاهر، ولا من الخبر؛ لخروجه عن محلّ النزاع، وليس ذلك من باب الخلع ولا المباراة ليبحث عن تقييده بذلك وشبهه.
وأمّا حديث الإضرار فحسن لكنّه غير مقيد بكون البذل بمقدار ما وصل إليها، بل بما يحصل معه الإضرار وعدمه.
والأظهر الاقتصار في تقدير العضل على بعض ما وصل إليها مطلقاً، عملاً بظاهر الآية(1)، ووقوفاً فيما خالف الأصل على محلّ اليقين.
واعلم أنّ القول الذي حكاه المصنّف من كون الآية منسوخة تبع فيه الشيخ في المبسوط (2)، وهو قول بعض العامّة(3)، وأما أصحابنا فلا نعرف ذلك لهم، ولم ينقله أحد من الأصحاب عنهم، ولكن الشيخ يحكي في المبسوط أقوالهم ويختار منها ما يرجّح عنده، وقد نقل القول بكونها منسوخة بقوله «وقيل» وهو ضعيف المستند.
قوله: «إذا صحّ الخلع فلا رجعة له، ولها الرجوع في الفدية» إلى آخره.
متى صحّ الخلع فهو فرقة بائنة، سواء جعلناه طلاقاً أم فسخاً؛ لأنّها بذلت المال لتملك البضع، فلا يكون للزوج ولاية الرجوع إليه، كما أن الزوج إذا بذل المال صداقاً ليملك البضع لا يكون للمرأة ولاية الرجوع إلى البضع بغير سبب عارض يوجبه كالعيب(4).
وقد صرّح به في أخبار كثيرة، منها صحيحة ابن بزيع قال: «تبين منه وإن شاءت أن يردّ
ص: 560
...
---------------------------------------------------------------------------------
إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت»(1). وهي دالّة على الأمرين معاً، أعني كونه بائناً وجواز رجوعها في البذل، فيرجع هو حينئذ في الطلاق والمراد بقوله «وتكون امرأته» أنّ طلاقها حينئذ يصير رجعياً، والرجعية بمنزلة الزوجة؛ للإجماع على أنها لا تصير امرأته بمجرّد رجوعها.
ويؤيده رواية أبي العبّاس عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المختلعة إن رجعت في شيء من الصلح يقول: لأرجعنّ في بضعك»(2). فهذه صريحة في صيرورتها بعد رجوعها رجعيّة.
وظاهر الخبرين تلازم الحكمين، فلو كانت العدّة بائنة - كما لو كانت الطلقة ثالثة - لم يجز لها الرجوع في البذل؛ لعدم إمكان رجوعه في البضع. ويؤيده أنّ الخلع عقد معاوضة كما سلف(3)، والأصل في عقود المعاوضات أن لا يرجع أحدهما في عوضه مع عدم رجوع الآخر، سواء كان ذلك مفوضاً إليهما أم إلى أحدهما؛ لأنّه على تقدير اختصاصه بأحدهما يترتّب على رجوعه في عوضه رجوع العوض الآخر إلى صاحبه، فلو جوّزنا رجوعها هنا من دون أن نجوّز رجوعه كان ذلك على خلاف الأصول الممهِّدة. وأيضاً فالدليل على رجوعها هو الخبران المتقدّمان، وهما دالان على إمكان رجوعه في البضع.
وإلى مثل هذا نظر ابن حمزة، فاشترط في جواز رجوعها تراضيهما معاً عليه(4)، بناءً على أنّه عقد معاوضة فيعتبر في فسخه رضاهما. ونفى عن قوله في المختلف البأس(5).
والوجه اشتراط إمكان رجوعه في صحّة رجوعها وإن لم يعتبر رضاه؛ إذ لا دليل على جواز رجوعها مطلقاً. ودعوى الشهيد في الشرح الاتّفاق على أن البذل غير لازم من جهتها
ص: 561
...
--------------------------------------------------------------------------
في زمان العدّة(1) إن تمَّ فهو مقيد بذلك؛ لأنّ جواز رجوعها مع عدم جواز رجوعه موضع الخلاف، فكيف يدعى الإجماع عليه ؟!
وظاهر الشيخ(2) وصريح العلّامة(3) التلازم بين صحّة رجوعها وجواز رجوعه. ويتفرّع على ذلك ما لو رجعت ولم يعلم حتّى انقضت العدّة، فيحتمل صحّة رجوعها حينئذ على القولين. أمّا على القول بعدم التلازم بين الرجوعين فظاهر. وأما على الآخر؛ فلأن الشرط ثبوت رجوعه شرعاً أعم من أن يرجع أم لا، ومتى كانت العدّة رجعيّةً كان رجوعه جائزاً، سواء علم أم لم يعلم، كما لو طلق رجعيّاً ولم يعلم بجواز الرجوع فيها فترك إلى أن انقضت العدّة، فإنّ ذلك لا يخرج العدّة عن كونها رجعيّة. ولأنّ رجعتها شرط في جواز رجوعه والشرط لا يتوقّف وجوده على وجود المشروط بالفعل وإلّا دار.
ووجه الاشتراط أنّه لو صحّ رجوعها من غير علمه لزم الإضرار به بالعود عليه بالبذل مع فوات البضع ، وهو منفي بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) :«لا ضرر ولا ضرار»(4). ولأنّها معاوضة يعتبر فيها علم المتعاوضين كسائر المعاوضات.
وفي الاستدلال من الجانبين نظر، أمّا الأول؛ فلأنّ ظاهر الخبرين الدالين على جواز رجوعها كون الزوج عالماً به خصوصاً الثاني. والدور إنّما يلزم لو توقّف رجوعها على رجوعه بالفعل، أما إذا توقّف على جوازه بالقوّة بمعنى تمكنه من الرجوع بعد رجوعها فلا؛ لأنّ مرجع الشرط حينئذٍ إلى كون العدّة رجعيّة والزوج عالماً بالحال، وهذا لا يقدح تقدّمه في الوجود على صحّة رجعتها.
ص: 562
...
---------------------------------------------------------------------------
ويجوز أن نجعلهما مقترنين بالزمان، فيكون دور معية، وهو غير محال.
وأمّا الضرر فيندفع بأنه قادر على دفعه بالرجعة في الأوقات المحتملة إلى آخر زمان العدّة. وبتقدير جهله بآخرها لا يمنع رجوعه في أوقات احتمالها، فإن طابق العدّة وسبق رجوعها صحّ وإلّا لغا، مع أنّ الضرر إذا حصل من قبل مَنْ يتوجه عليه لا يقدح، وهو هنا كذلك، حيث دخل على جواز رجوعها على هذا الوجه.
وأمّا حديث المعاوضة(1) فلا يقدح؛ إذ ليست على قاعدة واحدة يجب اطّرادها. ولأنّه لو اختار عدم الرجوع بعد رجوعها وقعت المعاوضة خالية من العوض الآخر.
إذا تقرّر ذلك فنقول: حيث ترجع المرأة في العوض تصير العدّة رجعية، سواء رجع أم لا. وهل يترتّب عليها أحكام الرجعيّة مطلقاً، كوجوب النفقة والإسكان وتجديد عدّة الوفاة لو مات فيها ونحو ذلك؟ وجهان، من أن جواز رجوعه يقتضي ذلك؛ إذ لا نعني بالعدّة الرجعيّة إلّا ما يجوز للزوج الرجوع فيها، ومن أنّها ابتدأت على البينونة وسقوط هذه الأحكام، فعودها بعد ذلك يحتاج إلى دليل، والأصل يقتضي استصحاب الحكم السابق، ولا يلزم من جواز رجوعه على هذا الوجه كونها رجعيّةً مطلقاً ؛ لجواز أن يراد بالرجعيّة ما يجوز للزوج الرجوع فيها مطلقاً كما هو الظاهر، وأمّا قبل رجوعها فلا شبهة في انتفاء أحكام الرجعية عنها.
ومما يتفرع على ذلك جواز تزويجه أختها ورابعة، فأما بعد رجوعها فهو منتف؛ لأنّها صارت حينئذ في حكم الزوجة كما صرّح به في الخبر الصحيح(2). وأمّا قبله ففي جوازه وجهان، من تحقّق البينونة حينئذ، ومن أنّه بتزلزله في حكم الرجعي؛ ولأنّه على تقدير تقدّم ذلك ثم رجوعها يصير جامعاً بين الأختين وأزيد من العدد الشرعي.
فإن جوزنا له فعل ذلك فهل لها الرجوع بعده؟ وجهان من أنّه حينئذ لا يمكنه الرجوع،
ص: 563
...
--------------------------------------------------------------------------
وهو شرط في جواز رجوعها على ما مرّ(1)، ومن وجود المقتضي لرجوعها، وهو كونها في عدّة خلع والمانع إنّما جاء من قبله، ولم يثبت ذلك في حقّها، ولأنّ هذا العارض من قبله يمكنه إزالته بأن يطلق الأخت والرابعة بائنة، فله الرجوع حينئذ، لزوال المانع.
والقول بجواز تزويجه في الموضعين قبل رجوعها لا يخلو من قوة ويدلّ عليه - مضافاً إلى ما سلف - صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن رجل اختلعت منه امرأته أ يحل له أن يخطب أختها من قبل أن تنقضي عدّة المختلعة؟ قال: «نعم، قد برئت عصمتها منه، وليس له عليها رجعة»(2). وهذه الرواية وإن لم تكن صريحة في تزويجها بالفعل؛ لأنّ الخطبة لا تستلزم العقد، إلّا أنّها ظاهرة فيه، وتعليلها مرشد إليه. ويترتّب على الجواز حكم رجوعها قبل أن يطلقها بائناً وعدمه، ومن اعتبر التلازم بين الأمرين لم يجوّز رجوعها حينئذٍ إلّا أن يبينهما(3) في العدّة. وكذا على قول ابن حمزة من اشتراط تراضيهما في جواز رجوعها(4).
بقي في المسألة بحث آخر وهو أنها لو رجعت في البعض خاصة هل يصح الرجوع ،ويترتّب عليه صحّة رجوعه ؟ لم أقف فيه على شيء يعتدّ به. وفيه أوجه كلّ منها محتمل :
أحدها: جواز الرجوع، ويترتّب عليه رجوعه. أما الأوّل فلما اتفق عليه الأصحاب من أنّ البذل غير لازم من جهتها، فكما يصحّ لها الرجوع في الجميع يصح في البعض؛ لأن الحقّ لها فلها إسقاط بعضه كما لها إسقاط الجميع، فإنّ عدم الرجوع في قوّة الإسقاط؛ إذ لا يلزم منه رجوع العوض الآخر، بل جوازه.
وأما الثاني؛ فلأنه مترتب على رجوعها وقد حصل. وفي رواية أبي العبّاس ما يرشد
ص: 564
الخامسة : • لو خالعها وشرط الرجعة لم يصحّ. وكذا لو طلّق بعوض.
-------------------------------------------------------------------------------
إليهما؛ لأنّه قال: «المختلعة إن رجعت في شيء من الصلح يقول: لأرجعن في بضعك»(1).
وهو صريح في الاكتفاء بالبعض وترتب رجوعه عليه.
والثاني: المنع فيهما. أمّا الأول؛ فلأن جوازه يقتضى صيرورة الطلاق رجعيّاً، وإنّما يصير رجعياً إذا لم يشتمل على عوض، والعوض باقي في الجملة؛ إذ لا فرق فيه بين القليل والكثير، ومن ثم لو جعل ابتداء ذلك القدر الباقي بل أقلّ منه كفى في البينونة، فالجمع بين كون الطلاق رجعيّاً وبقاء العوض في مقابله متنافيان. وفي صحيحة ابن بزيع ما يرشد إليه؛ لأنّه قال: «وإن شاءت أن يردّ إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت»(2). وهي العمدة في الباب؛ لصحّتها، وظاهرها اعتبار ردّ الجميع؛ لأنّ «ما» من صيغ العموم فلا يترتب الحكم بالبعض.
وثالثها: جواز رجوعها دونه. أما الأوّل فلما تقرّر من أنّ البذل من جهتها جائز، فتتخيّر في الرجوع. وأمّا الثاني؛ فلأن بقاء شيء من العوض مانع من رجوعه، وهو حاصل هنا.
وأضعفها الأخير لما يظهر من تلازم الأمرين حيث لا يكون المانع من قبله، وهو هنا ليس كذلك، ولأنّ هذا لو صحّ لزم الإضرار به، بأن ترجع في أكثر البذل وتُبقي منه شيئاً يسيراً لتمنعه من الرجوع، وهو منفي، ولا وسيلة له إلى إسقاطه، بخلاف ما تقدّم والوسط لا يخلو من قوّة.
قوله: «لو خالعها وشرط الرجعة لم يصح وكذا لو طلّق بعوض».
لأنّ ذلك شرط مناف لمقتضى العقد وللمشروع، فإنّ من حكم الخلع والطلاق بعوض أن يكون بائناً، فاشتراط الرجعة فيه ينافي موضوعه الشرعي، فلا يكون اشتراطه سائغاً، فيبطل ويترتّب عليه بطلان الخلع. وأما الطلاق فينبغي أن يقع رجعياً إن خلا من موجبات البينونة والا اتّجه بطلانه أيضاً. وكذا لو أتبع الخلع بالطلاق.
وخالف في ذلك بعض الشافعيِّة، فأبطل الشرط وحكم بالبينونة بمهر المثل؛ لأنّ الشرط
ص: 565
السادسة • المختلعة لا يلحقها طلاق بعد الخلع؛ لأنّ الثاني مشروط بالرجعة. نعم، لو رجعت في الفدية فرجع جاز استئناف الطلاق.
السابعة • إذا قالت: طلقني ثلاثاً بألف» فطلقها، قال الشيخ: لا يصح؛ لأنّه طلاق بشرط. والوجه أنّه طلاق في مقابلة بذل، فلا يعدّ شرطاً.
فإن قصدت الثلاث ولاء لم يصح البذل وإن طلقها ثلاثاً مرسلاً؛ لأنّه لم يفعل ما سألته . وقيل : يكون له الثلث لوقوع الواحدة.
-------------------------------------------------------------------------
جزء من العوض فيفسد العوض، وتحصل البينونة بمهر المثل(1). ولهم قول آخر بعدم الصحّة ووقوع الطلاق رجعیّاً(2)، كما أشرنا إليه.
قوله: «المختلعة لا يلحقها طلاق بعد الخلع» إلى آخره.
عدم صحّة طلاق المختلعة على أصولنا واضح؛ لأنّ شرطه أن يقع بالزوجة وهي بعد الخلع بائنة، سواء جعلناه طلاقاً أم فسخاً. نعم لو رجعت في البذل فرجع في الخلع أو الطلاق فلا شبهة في جواز طلاقها حينئذ؛ لأنّها صارت زوجة.
ونبّه بأصل الحكم على خلاف بعض العامة حيث جوّز طلاق المختلعة ما دامت في العدّة(3). ووافقنا أكثرهم على ما ذكرناه.
وكما لا يصحّ طلاقها فكذا ظهارها والإيلاء منها؛ لاشتراك الجميع في المقتضي وهو خروجها عن الزوجية، وهذه الأحكام معلّقة عليها.
قوله: «إذا قالت: طلّقني ثلاثاً بألف. فطلقها - إلى قوله - وفيه تردّد».
إذا قالت له: «طلقني ثلاثاً بألف» أو «على ألف» فلا يخلو إما أن تريد الثلاث على الولاء، بمعنى أن يأتى بصيغة الطلاق ثلاث مرات من غير أن يتخلّلها رجعة، أو تريد بها المرسلة، وهي أن يقول لها: «أنت طالق ثلاثاً» أو تريد بها الثلاث التي يتخلل بينها رجعتان. فإن أرادت أحد المعنيين الأولين لم يصحّ؛ إذ لا يقع الثلاث الولاء شرعاً، ولا المرسلة
ص: 566
أمّا لو قصدت الثلاث التي يتخلّلها رجعتان صحّ. فإن طلق ثلاثاً فله الألف . وإن طلّق واحدةً قيل له ثلث الألف ؛ لأنّها جعلته في مقابلة الثلاث ، فاقتضى تقسيط المقدار على الطلقات بالسوية . وفيه تردّد، منشؤه جعل الجملة في مقابلة الثلاث بما هي، فلا يقتضي التقسيط مع الانفراد.
--------------------------------------------------------------------------
كما سلف(1)، فيكون طلباً لباطل شرعاً، ولا ينصرف إلى الواحدة؛ لأن المقصود غيرها.
وربما احتمله بعضهم؛ حملاً للبذل على الصحيح، فيكون له الألف(2). وهو ضعيف جداً.
لكن إن قلنا بوقوع واحدة فيهما فهل يستحقّ عليها شيئاً؟ الأظهر العدم؛ لأنّه لم يحصل ما طلبت، فلا يستحقّ ما بذلت واختلف كلام الشيخ في المبسوط، ففي موضعين منه أنّه لا يستحقّ بالواحدة شيئاً(3)، وفي موضعين آخرين أنه يستحق الثلث(4).
وإن أرادت الثلاث التي يتخلّلها رجعتان قصداً أو صرّحت بذلك فقد قال المصنّف (رحمه الله) «يصحّ»، وتبعه العلّامة في كتبه(5).
وفيه: إشكال من حيث إنّ وقوع الثلاث على هذا الوجه يستدعي تأخّر الطلقتين الأخيرتين عن استدعائها بتخلّل الأوّل بينهما وبتخلّل الرجعتين، وذلك مناف لعقد الخلع كما سلف(6). ولأنّ البذل في مقابل الطلقات الثلاث، ورجوعه في كل واحدة يتوقّف على رجوعها قبله في البذل، فإن لم يحصل لم تصحّ الطلقات؛ لكونها بائنة يتوقّف على رجوعها ثم رجوعه ليصحّ الطلاق المتعقب، وإن حصل لم يتحقّق استحقاقه الألف؛ لأنّ
ص: 567
...
----------------------------------------------------------------------------
رجوعها في البذل يرفع استحقاقه له فلا يكمل له الألف في الثالثة ولو قيل بأنّ البذل في مقابلة الثالثة خاصةً ليسلم من توقّفه على رجوعها لم تحصل الفورية بين طلبها وجوابه أصلاً.
وقد اختلفوا في الجواب عن هذين الإشكالين، فمنهم من اعتبر الفورية في الطلاق الأوّل خاصّة وجعل الباقي من تتمة المقصود، واعتبر رجوعها في البذل بین الطلقات لتوقّف ما طلبته عليه، والتزم توقّف ملكه للألف على الثالثة؛ لأنّ بها حصل ما طلبته فاستحقّ ما بذلته، فتكون الأوّلتان شرطاً في استحقاق البذل على الثالثة لا جزءاً من المطلوب(1).
ومنهم(2) من جعل شرطها ذلك إذناً له وتوكيلاً في الرجوع عنها في البذل؛ لاستلزام وقوع الثلاث على هذا الوجه تخلّل الرجوع، فإذا بذلت عليه العوض فقد أذنت له في فعل ما تتوقّف عليه صحّتها، فإذا طلق واحدة جاز له الرجوع عنها في البذل لتصير رجعيّة، ثمّ يرجع ويطلق، ثمّ يرجع في البذل كذلك ثمّ يرجع هو ويطلّق.
وكلّ واحد من هذين الجوابين فاسد:
أمّا الأوّل؛ فلأنّ رجوعها يمنع من ملكه للعوض المفروض في مقابلة الطلقة المرجوع في عوضها، فلا يمكن الجمع بين كون الألف مبذولة في مقابلة الثلاث ثم ثبوتها في مقابلة الأخيرة؛ لأنّ ثبوتها في مقابلة الأخيرة خاصّة يقتضي كون الأولتين رجعيّتين، فلا يفتقر إلى رجوعها في العوض. وأيضاً فإنّ مقتضى لفظها كون العوض في مقابلة المجموع لا الثالثة خاصّة.
وأما الثاني؛ فلأنّ صريح لفظها إنّما هو بذل الألف في مقابلة طلاقه لها، أما فعل
ص: 568
...
---------------------------------------------------------------
ما يتوقّف عليه من رجوعها فلا ولا يلزم من عدم صحّة طلاقه بدون رجعتها إذنها له في الرجعة؛ لجواز أن يوقع هو الطلاق ثمّ يتوقّف على رجوعها بنفسها في العوض. وأيضاً فالمحذور اللازم من السابق من جعل البذل في مقابلة الجميع وسقوط ما قابل المرجوع فيه آتٍ هنا.
والحقّ في الجواب عنهما أن نقول: إنّ البذل إنّما وقع في مقابلة المجموع من حيث هو مجموع، لا في مقابلة كلّ واحدة من الثلاث على وجه التوزيع، ولا في مقابلة الثالثة خاصّةً. وحينئذ فلا يتحقّق استحقاقه العوض إلّا بتمام الطلقات الثلاث، فالأوّلتان تقعان رجعيتّين محضاً، فله الرجوع فيهما من غير أن يتخلّل رجوعها في العوض، فإذا تمّت الثلاث استحقّ العوض بتمامه لا في مقابلة الثالثة كما قيل، بل في مقابلة المجموع من حيث هو مجموع وصارت حينئذٍ بائنة بوجهين كونها في مقابلة عوض وكونها ثالثة، والأوّلتان رجعيّتان؛ لعدم بذل عوض في مقابلهما من حيث إنّهما مفردتان، بل من حيث إنّهما جزء من المجموع، وذلك لا يقتضي استحقاق شيء في مقابلتهما، فارتفع الإشكال الثاني.
وأمّا الأوّل فيرتفع بفوريّة الطلاق الأوّل لاستدعائها وإتباعه بالباقي مع تخلّل الرجعتين على الفور؛ لأنّ مجموع ذلك مطلوب واحد وعقد واحد فيكفي ترتب أوّله على استدعائها وإن بعد الجزء الأخير، كما لا يقدح بعد الجزء الأخير من صيغة الطلاق الواحد عن الاستدعاء، وهما مشتركان هنا في الوحدة من حيث اتحاد المطلوب وكون البذل في مقابله وإن افترقا بتعدد أحدهما في نفسه، فإنّ ذلك أمر آخر.
وهذا البحث كلّه إنّما يتأتى على القول بجواز اجتماع الطلقات الثلاث في الطهر الواحد. فلو أوجبنا تفريقها على الأطهار سقط التفريع. وفي حكمه ما لو فرّق الطلقات على الأوقات وجعل بينها تراخياً مخرجاً عمّا يعتبر في عقد الخلع، فلا يستحقّ شيئاً وإن حصلت البينونة، كما لا يستحقّ شيئاً لو بذلت له شيئاً في مقابلة طلقة واحدة فأوقعها متراخية عن الاستدعاء بما يقدح فيه.
ص: 569
...
----------------------------------------------------------------------
فهذا ما يتعلّق بحكم المسألة على تقدير إيقاعه ثلاث طلقات على وفق ملتمسها، فأمّا إذا طلق واحدةً خاصةً فهل يستحقّ في مقابلتها شيئاً من الألف؟
قال في موضع من المبسوط :
إنّه يستحقّ ثلث الألف؛ لأنّ جعل الألف في مقابلة عدد يقتضي تفريقه على آحاد ذلك العدد، وقد حصل ثلثه فيكون له ثلث الألف(1).
وقال في موضعين آخرين: إنّه لا يستحقّ شيئاً(2) وهو الذي يرشد إليه تردّد المصنّف في الحكم الأوّل؛ لأنّ البذل في مقابلة المجموع من حيث هو كما حقّقناه سابقاً(3). وللمجموع حالة - وهي البينونة - لا تحصل لكلّ واحد من آحاده، فلا يستحقّ شيئاً. وهذا هو الأقوى. وعليهما يتفرّع ما لو طلق اثنتين، فيستحق الثلاثين على الأوّل دون الثاني، ولكنّهم لم يذكروا حكم هذا القسم.
بقي في المسألة بحث يتعلّق بتحقيق محل النزاع فيما ادّعى الشيخ فيه أنّه طلاق بشرط(4) وبيان شرطيته.
وتحريره أنّ المصنّف نقل عن الشيخ أنّها إذا قالت: «طلقني ثلاثاً بألف» فطلقها لا يصحّ؛ لأنّه طلاق بشرط. وتبعه على هذا النقل تلميذه العلامة في التحرير(5).
والذي رأيناه من كلام الشيخ خلاف ذلك، وأنّه نقل البطلان معلّلاً بالشرط في كلام آخر يخالف ما نقله المصنّف في اللفظ والمعنى، وهو أنّه جعل مورد الشرط ما لو قالت: طلّقني على أنّ لك عليّ ألفاً، وهذا اللفظ هو المحتمل للشرط دون ما عبّر به المصنّف؛ لأنّ الباء صريحة في العوض ولننقل عبارة الشيخ في ذلك ثمّ نبيّن وجه الشرط فيما ذكر.
ص: 570
...
-------------------------------------------------------------------------
قال في موضع من المبسوط :
إذا قالت لزوجها «طلقني ثلاثاً بألف درهم» فقال لها «قد طلقتك ثلاثاً بألف درهم»، صحّ عند المخالف، وعندنا لا يصحّ؛ لأن الطلاق الثلاث لا يقع عندنا بلفظ واحد، ولا يجب أن نقول هاهنا إنّها تقع واحدة؛ لأنّها إنّما بذلت العوض في الثلاث، فإذا لم تصحّ الثلاث وجب أن تبطل من أصله. ثمّ قال: إذا قالت له «طلقني ثلاثاً على أن لك على ألفاً» فطلقها صح الخلع ولزمها الألف وانقطعت الرجعة، وعندنا لا يصحّ؛ لما قلناه، ولأنّه طلاق بشرط(1).
وقال في موضع آخر:
إن قالت له «طلقني ثلاثاً بألف» فطلقها ثلاثاً فعليها الألف، وإن طلقها واحدة أو اثنتين فعليها بالحصّة، وعندنا أنّه لا يصحّ أصلاً، وقد مضى. وإن قالت له «طلقني ثلاثاً على ألف»، فالحكم فيه كما لو قالت «بألف». وقال قوم في هذه: إن طلقها ثلاثاً فله ألف، وإن طلقها أقلّ من ثلاث وقع الطلاق ولم يجب عليها ما سمّي. وفصل بينهما بأنّ قال: إذا قالت «بألف» فهذه «باء» البدل، والبدل يقتضي أن يقسّط على المبدل، كما لو باعه ثلاثة أعبد بألف، وإذا قال «على ألف علّق الطلاق الثلاث بشرط هي الألف، فإذا لم يوقع الثلاث لم يوجد الشرط، فلم يستحقّ شيئاً(2).
فهذا ما يتعلّق الغرض بنقله من عبارته.
ومحصّلها: أنّ التعليل للبطلان بالشرط إنّما هو على تقدير قولها «على أن» لا على تقدير قولها «بألف» لأنّ الباء للعوض والبدل لا للشرط بغير إشكال ومقتضى كلامه الأخير أنّ لفظة «على» مجرّدة عن «أنّ» للعوض أيضاً، ولكنّه نقل عن بعضهم أنّها للشرط. فظهر أنّ ما نقله عنه المصنّف غير مطابق لعبارته. وقد تنبه لذلك العلّامة في القواعد، فنقل فيها
ص: 571
...
------------------------------------------------------------------------
عن الشيخ أنّها لو قالت: «طلقني على أنّ لك عليّ ألفاً» لا يصحّ؛ لأنّه طلاق بشرط - ثمّ قال: - والوجه أنّه طلاق في مقابلة عوض، فلا يعد شرطاً(1). وهذا هو الصواب.
وملخّص النزاع في أنّ قولها على أن يفيد الشرط أو لا أنها استعملت في الشرط لغة حتى في القرآن في قوله تعالى: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَن مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)(2) والأصل في الاستعمال الحقيقة. وبهذا أخذ الشيخ (رحمه الله).
وأجيب بمنع كونها فيما ذكر للشرط أيضاً، بل للعوض. والمراد على أن تجعل تعويضي عن اتباعي لك تعليمي. وأوضح منه قوله تعالى:(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)(3) وقوله تعالى: (إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَنِيَ حِجَجٍ)(4) فجعلها عوض البضع. وكثرة استعمالها في ذلك دليل الحقيقة، والآخر محمول عليه؛ حذراً من الاشتراك، أو محمول على المجاز؛ لأنّه خيرٌ منه. ولأنّ أهل اللغة عدوا أدوات الشرط ولم يذكروا «على أنّ» فيها. ومثله القول في «على» مجردة عن «أنّ». وهذا القول هو الأصحّ.
وقد ظهر من ذلك أيضاً أن موضع توهم الشرط هو ما لو قالت «على» أو «على أن لا ما إذا أتت ب-«الباء»؛ لأنّها للعوض بغير إشكال.
واعلم أنّه لا فرق على قول الشيخ بين تعلّق سؤالها بثلاث طلقات أو بواحدة، وإن كان قد ذكر في التمثيل التماس الثلاث؛ لأنّ المقتضى للشرط دخول ما ادعاه من أداته وهو «على أنّ» لا دخوله على الثلاث. وعلى هذا فلو قالت «طلقني واحدةً على أنّ لك عليّ ألفاً»، فطلقها واحدةً جرى الخلاف في صحّته وفساده من حيث الشرط، وإن كان صحيحاً من حيث الوحدة.
ص: 572
•ولو كانت معه على طلقة فقالت: «طلقني ثلاثاً بألف» فطلّق واحدة كان له ثلث الألف وقيل له الألف إن كانت عالمة، والثلث إن كانت جاهلة. وفيه إشكال.
---------------------------------------------------------------------
وقد أسلفنا في أوّل الكتاب ما يفيد أن شائبة الشرط في إيجابه الخلع إنّما يظهر مع تأخّر قبولها، أمّا مع تقدّمه ففيه شائبة الجعالة لا الشرط، إلّا مع الإتيان بالشرط الصريح(1)، وهو نافع في هذا المبحث.
قوله: «ولو كانت معه على طلقة فقالت: طلقني ثلاثاً بألف» إلى آخره.
إذا كان قد طلقها طلقتين وبقيت معه على طلقة واحدة ثمّ تبين منه فقالت: «طلقني ثلاثاً
بألف، فطلقها واحدةً بألف»، ففي أصل استحقاقه عليها ومقداره أوجه:
أحدها: أنّ له ثلث الألف؛ لأنّها جعلت الألف في مقابلة عدد فيكون موزعاً على آحاده؛ لما تقدّم من أنّه مع تقدّم استدعائها تكون في المعاوضة شائبة الجعالة(2)، وذلك هو مقتضاها، كما لو كان يملك الثلاث فطلّق واحدة.
وثانيها: التفصيل. فإن كانت عالمةً بأنّه لم يبق إلّا واحدة استحقّ تمام الألف؛ لأنّها إذا علمت الحال لا تبذل الألف إلّا في مقابلة تلك الواحدة، ويكون غرضها تحقيق(3) الحرمة الكبرى، وتعني بقولها «طلقني ثلاثاً» كمّل لي الثلاث. وإن لم تعلم فله الثلث؛ لأنّها لم تبذل الألف إلا في مقابلة الثلاث، فوجب أن يوزّع وهذا اختيار الشيخ في المبسوط(4).
وثالثها: أنّه يستحقّ الألف مطلقاً؛ لأنه حصل بتلك التطليقة مقصود الثلاث وهو الحرمة الكبرى، فكأنّها قالت: أبنى بالثلاث طلقات .
ورابعها أنّه لا يستحقّ شيئاً مطلقاً؛ لأنّها إنّما التمست الثلاث بألف ولم تحصل
ص: 573
الثامنة: • لو قالت: «طلقني واحدةً بألف» فطلق ثلاثاً ولاء، وقعت واحدة وله الألف.
ولو قالت: طلقني واحدةً بألف» فقال: «أنت طالق فطالق فطالق» طلقت بالأُولى ولغا الباقي.
فإن قال: «الألف في مقابلة الأولى» فالألف ،له وكانت الطلقة بائنةٌ .
ولو قال: في مقابلة الثانية، كانت الأولى رجعيّة، وبطلت الثانية والفدية.
ولو قال: في مقابلة الكلّ قال الشيخ وقعت الأولى وله ثلث الألف، وفيه إشكال من حيث إيقاعه ما التمسته.
--------------------------------------------------------------------
بل هو لا يملكها، فلا يمكنه إيقاعها عقيب طلبها. والتوزيع قد عرفت ضعفه. واقتضاء الجعالة ذلك ممنوع. وكونها مع العلم بالحال قاصدةً للواحدة ممنوع أيضاً. نعم، لو فرض قصدها ذلك فلا إشكال في لزوم الألف في مقابلة الواحدة، إلّا أنّ ذلك خارج عن موضوع النزاع. وهذا الأخير هو الأقوى، إلّا مع فرض قصدها تكميل الثلاث.
ولو سألت الثلاث على هذا الوجه وهو يملك طلقتين فطلّقها واحدة فله ثلث الألف على الأول. وكذا على الثاني مع جهلها، ومع علمها فالنصف توزيعاً للألف على الطلقتين. ولا شيء له على الرابع والثالث منتفٍ هنا. وإن طلقها تطليقتين فعلى الأوّل يستحقّ ثلثي الألف. و على الثاني كذلك مع جهلها، وتمام الألف مع علمها. وعلى الثالث يستحقّ بهما الألف مطلقاً. وعلى الرابع لا يستحق شيئاً. وهو الأقوى.
واعلم أنّ موضع النزاع ما إذا طلقها في الصورتين بنيّة أن الطلقة أو الطلقتين في مقابلة الألف، أو صرّح بذلك، أو لم ينو شيئاً، أما لو نوى بها أقلّ منها(1) فلا إشكال في عدم استحقاقه تمام الألف إلا على الاحتمال الذي يأتي في المسألة التالية.
قوله: «لو قالت: طلقني واحدةً بألف فطلّق ثلاثاً ولاء» إلى آخره.
ص: 574
...
--------------------------------------------------------------------------
إذا قالت «طلّقني واحدة» فطلقها ثلاثاً فلا يخلو إما أن يوقعها مرسلة، أو ولاء، أو متخلّلة
برجعتين .
ففي الأوّل يستحقّ الألف مطلقاً بناءً على صحّة واحدة بقوله: أنت طالق، وإلغاء قوله: ثلاثاً، فكأنّه لم يطلّق إلا واحدةً وفق ما التمست ولم يفرّق الأصحاب هنا بين الجاهل بحكم الثلاث على هذا الوجه وأنّه لا يقع إلا واحدة، وبين العالم.
ولو قيل بالفرق وتخصيص الحكم المذكور بالعالم كان وجهاً. ويبقى الكلام في الجاهل الذي يجوّز وقوع الثلاث، فإن قصد الألف في مقابلة الأولى فكذلك. وإن قصدها في مقابلة غيرها أو مقابلة الجميع توجّه عدم لزوم الألف لأنّه لم يقصد تملكها في مقابلة الطلاق الصحيح بل علّق تملكها على أمر لم يتمّ له، كما لو طلقها ثلاثاً ولاء وقصدها في مقابلة غير الأُولى.
وإن طلقها ثلاثاً ولاء فعندنا تقع الأولى خاصةً. ثمّ إن قصد كون الألف في مقابلتها استحقها ولغا الباقي.
وإن قصد كونها في مقابلة الثانية أو الثالثة وقعت الأولى رجعيّة، لخلوّها عن العوض، ولم يستحق شيئاً من الألف، لجعلها في مقابلة عمل باطل. وعند من صحّح وقوع الجميع(1) تكون السابقة على التي نوى العوض في مقابلتها رجعيّةً، والمقابلة بالعوض بائنة. فإن كانت الثانية لغت الثالثة، لا من حيث عدم الرجعة، بل لأنّ الطلاق لا يقع بالبائن. وإن نواه في مقابلة الثالثة فالأوّلتان رجعيّتان، والثالثة بائنة. ومنهم من وافقنا على عدم استحقاقه الألف متى لم ينوها في مقابلة الأولى(2)، بناءً على أن الخلع لا يقع بالرجعيّة.
وإن قصد كونها في مقابلة الكلّ قال الشيخ في المبسوط : وقعت الأولى بثلث الألف بناء على التوزيع على ما نواه، وتبطل الثانية والثالثة(3).
ص: 575
...
___________________________________________
واستشكل المصنّف ذلك من حيث إنّه قد أوقع ما التمسته - وهو الطلقة الصحيحة - فينبغي أن يستحقّ ما بذلته في مقابلتها وإن نوى كونها في مقابلة الجميع؛ لأنّ الخلع ليس معاوضة محضة حتّى يبطل باختلاف الإيجاب والقبول في العوض، كما لو قال: بعتك هذه العبيد الثلاثة بألف فقال: قبلت واحداً معيناً منها بالألف، فإنّه لا يصح قولاً واحداً.
وفيه: أنّه وإن لم يكن معاوضةً محضةً لكنّه لمّا قصد كون الألف في مقابلة الجميع فقد نوی فعل الأوّل بثلث الألف فلا يستحقّ الجميع؛ لأنّ هذا الاستدعاء يشبه الجعالة كما بيّنّاه سابقاً(1)، ومع بذل الجاعل عوضاً معيناً فعمل العامل بنيّة التبرّع أو بنيّة الأقل لا يستحقّ الجميع، فكذا هنا نعم هذا يتمّ إذا لم ينو شيئاً، فإنّه حينئذ يكون قد فعل ما التمسته فيستحقّ ما بذلته، ويجعل جوابه بقوله: أنت طالق أولاً مطابقاً لملتمسها، أما مع نيّة جعله في مقابل
الكلّ فلا.
وفي المسألة وجه آخر يقابل ما استوجهه المصنّف، وهو عدم استحقاقه شيئاً ؛ لعدم مطابقة الجواب للسؤال، فإنّ بذلها الألف في مقابلة طلقة وجوابه بجعلها في مقابلة ثلاث كقولها: طلّقني واحدةً بألف فقال: أنت طالق بخمسمائة. ومثله ما لو قال: أنت طالق بألف فقبلت بخمسمائة.
والوجه هنا ما اختاره الشيخ(2)؛ لأنه زاد خيراً ، ولأنّه قادر على إيقاعه بغير عوض فأولى أن يقدر على إيقاعه ببعض العوض المبذول.
واعلم أن الحكم بتوزيع الألف وثبوت ثلثها في مقابلة الأولى لا ينافي عدم الحكم به في المسائل السابقة(3)، للفرق بين الأمرين، فإنّ التوزيع الذي استضعفناه فيما لو أتى ببعض ما التمسته فإنه لا يوافق غرضها، بخلاف ما هنا، فإنّه قد أتى بملتمسها، وإنّما نوى به عوضاً
ص: 576
التاسعة: • إذا قال أبوها: طلقها وأنت بريء من صداقها، فطلق، صحّ الطلاق رجعيّاً، ولم يلزمها الإبراء، ولا يضمنه الأب.
----------------------------------------------------------------------------------
أقلّ ممّا بذلت فلذلك جعلنا له أقل بمقتضى التوزيع على مقصده؛ لأنّ ذلك في قوة التبرّع بالزائد عن الثلث وليس كلّما فعل ما التمسته يستحقّ عليها ما بذلته، فإنّه لو نوى التبرع بالطلاق الملتمس بغير عوض لا على وجه الجواب المطابق لم يستحقّ شيئاً، فكذا هنا بالنسبة إلى بعض العوض.
قوله: «إذا قال أبوها طلقها وأنت بريءٌ من صداقها، فطلق صح الطلاق» إلى آخره.
أبو الزوجة في اختلاعها وطلاقها بعوض كالأجنبي، فإن اختلع بمال نفسه جاء فيه الخلاف السابق في المتبرّع(1). ولا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة.
وإن اختلع بمالها وصرّح بالاستقلال فهو كالاختلاع بالمال المغصوب والطلاق به.
وإن اختلعها بالصداق، أو قال: طلقها وأنت بريء من صداقها، فطلقها، طلّقت رجعياً، ولم يبرأ من صداقها. وإن وقع خلعاً بطل إن لم يتبع بالطلاق، وإلّا وقع رجعياً أيضاً؛ لأنّها إن كانت رشيدة لم يملك أبوها التصرّف في مالها بغير إذنها، وإن كان يلي عليها بصغر أو سفه أو جنون لم يصحّ أيضاً؛ لأنّه إنّما يملك التصرف فيما لها فيه غبطة وحظّ ولا حظّ لها في هذا، كما لو كان لها دين فأسقطه، وكإبراء الزوج من الصداق فلا ضمان على أبيها؛ لأنّه لم يضمن على نفسه شيئاً، ويقع الطلاق رجعيّاً؛ لأنّه لم يسلم له العوض.
ولا فرق في ذلك بين إبرائه من جميع صداقها أو من بعضه وإن جوّزنا له العفو عن بعضه؛ لأنّ العفو أمر آخر غير جعله عوضاً عن الطلاق. وأيضاً فإنّ العفو عن البعض مشروط بوقوعه بعد الطلاق كما تشعر به الآية(2)، والبراءة هنا تكون بنفس الطلاق فلا يقع.
ص: 577
العاشرة: • إذا وكلت في خلعها مطلقاً اقتضى خلعها بمهر المثل، نقداً بنقد البلد. وكذا الزوج إذا وكّل في الخلع فأطلق.
فإن بذل وكيلها زيادة عن مهر المثل بطل البذل، ووقع الطلاق رجعياً، ولا يضمن الوكيل.
ولو خلعها وكيل الزوج بأقل من مهر المثل بطل الخلع. ولو طلّق بذلك البذل لم يقع؛ لأنّه فعل غير مأذون فيه.
---------------------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا وكلت في خلعها مطلقاً اقتضى خلعها بمهر المثل» إلى آخره.
عقد الخلع ممّا يجوز الوكالة فيه من طرف كل واحد من الزوج والزوجة، كما يجوز التوكيل في البيع والنكاح وغيرهما؛ لأنّ غرض الشارع لا يتعلّق بإيقاعه من الزوجين مباشرةً. ثمّ إمّا أن يقدّر الموكّل قدراً أو يطلق. فإن قدر اقتصر الوكيل عليه. ولو زاد وكيل الزوج فقد زاد خيراً. وكذا إن نقص وكيلها عنه. وإن أطلق التوكيل فعلى وكيل الزوج أن يخالع بمهر المثل أو أكثر، ويعتبر كونه نقداً بنقد البلد.
فإن خالف في القدر فنقصه أو جعله مؤجّلاً أو بغير النقد بطل البذل، وتبعه الخلع والطلاق. وعلى وكيل الزوجة أن يخالع به أو بأنقص منه نقداً بنقد البلد، فإن نقص أو جعله مؤجّلاً فقد زاد خيراً، إلّا أن يتعلّق غرضها بالحال. وإن خالف فخلعها بزيادة عن مهر المثل بطل، وتبعه الخلع إن لم يتبعه الزوج بالطلاق أو كان طلاقاً بعوض، وإلا صحّ ووقع رجعياً.
والفرق بين الطلاق الواقع من الزوج مع مخالفة وكيل الزوجة ومن وكيل الزوج مع مخالفته - حيث صحّ الأول رجعياً دون الثاني - أن الطلاق من الزوج وقع من مالك الطلاق، وله أنّ يطلق بعوض وغيره، فإن صحّ العوض كان بائناً، وإلّا فهو رجعي من هذا الوجه بخلاف طلاق وكيل الزوج حيث يخالف ما قيده له أو دلّ عليه الإطلاق شرعاً؛ لأنّه حينئذٍ طلاق غير مأذون فيه؛ لأنّ تصرّف الوكيل مقصور على الإذن، فإذا خالف وقع بغير الإذن، فكان باطلاً.
ص: 578
وهي ثلاث:
الأولى: • إذا اتّفقا في القدر واختلفا في الجنس فالقول قول المرأة.
-------------------------------------------------------------------------------
واعلم أنّ قول المصنّف فيما لو بذل وكيلها زيادةً عن مهر المثل «بطل البذل ووقع الطلاق رجعيّاً» - مع أنّه فرضه في الخلع لا في الطلاق بعوض - مبني على ما لو أتبعه بالطلاق أو أراد بالخلع ما يشمل الطلاق بعوض؛ لما تقدّم من جواز إطلاق الخلع عليه أيضاً(1)، وإلّا فلو كان قد اقتصر على الخلع بالزائد - كما تقتضيه العبارة - لوجب أن يقع باطلاً ولا يكون الطلاق رجعيّاً وإن جعلنا الخلع طلاقاً؛ لأن فساد الخلع يستلزم عدم تأثيره في الطلاق بخلاف ما لو أتبع به أو كان طلاقاً بعوض، فإنّه لا يلزم من فساد العوض فساد الطلاق على أصحّ القولين.
وربما قيل هنا بفساد الطلاق أيضاً بناء على أنّ العوض لم يسلم له، وإنّما قصده بالعوض لا مجرداً.
وأمّا قوله في مخالفة وكيل الزوج «بأقل من مهر المثل بطل الخلع ولو طلق ... لم يقع» فعبارته فيه جيّدة وافية بالمطلوب.
قوله: «إذا اتّفقا في القدر واختلفا في الجنس، فالقول قول المرأة».
إذا اتّفقا على وقوع الطلاق بعوض مبذول من جانبها ولكن اختلفا في جنسه مع اتّفاقهما على قدره أو أنّهما اتّفقا على جنس مخصوص وتلفّظا به وإنّما وقع الاختلاف فيما عيناه منه ، فقالت: هو مائة درهم فقال: بل مائة دينار مثلاً، فقد قال المصنّف وقبله الشيخ والأكثر :
إنّ القول قول المرأة؛ لأنّها منكرة لما يدّعيه، والأصل عدم استحقاقه إياه وهو مدّع فعليه البينة، وعليها اليمين(2).
ص: 579
الثانية: • لو اتّفقا على ذكر القدر دون الجنس واختلفا في الإرادة، قيل: يبطل. وقيل : على الرجل البيّنة. وهو أشبه.
----------------------------------------------------------------------------------
فتحلف يميناً جامعةً بين نفي ما يدعيه وإثبات ما تدّعيه، فينتفي مدعاه. وليس له أخذ ما تدّعيه لاعترافه بعدم استحقاقه إياه. نعم، لو أخذه على وجه المقاصّة اتجّه جوازه.
ويشكل هذا القول من رأس؛ لأنّ كلاً منهما مدّع ومدّعى عليه والآخر ينكر ما يدعيه، وهذه قاعدة التحالف في نظائره من عوض البيع والإجارة وغيرهما. وإنّما يتجّه تقديم قول أحدهما إذا اتّفق قولهما على قدر وادعى الآخر الزيادة عليه وأنكرها الآخر، فيكون منكر الزيادة منكراً بكلّ وجه ومدّعيها مدّعياً، بخلاف صورة النزاع؛ لأنّ دعوى الذهب لا يجامع دعوى الفضّة، والإنكار من كلّ منهما لما يدعيه الآخر ،متحقّق فلو قيل بأنّهما يتحالفان ويسقط ما يدّعيانه بالفسخ أو الانفساخ ويثبت مهر المثل إلّا أن يزيد عما يدعيه الزوج كان حسناً. ولا يتوجّه هنا بطلان الخلع لاتّفاقهما على صحته، وإنّما يرجع اختلافهما إلى ما يثبت من العوض. ويحتمل أن يثبت مع تحالفهما مهر المثل مطلقاً؛ لتساقط الدعويين بالتحالف، خصوصاً إذا كان الواجب منه مغايراً لما يدعيه الزوج حتى لا يدخل في ضمن دعواه.
ولو انعكس الفرض بأن اتّفقا على الجنس واختلفا في قدره كما لو قال: إنّها بذلت ألف درهم فقال: بل مائة درهم - قدّم قولها هنا قطعاً؛ لأنّ المائة قدر يتّفقان على ثبوته وإنّما يختلفان في الزائد وهي تنكره فيقدّم قولها في نفيه.
قوله: «لو اتّفقا على ذكر القدر دون الجنس واختلفا في الإرادة» إلى آخره.
المراد أنّهما اتفقا على ذكر القدر وعلى عدم ذكر الجنس لفظاً، وعلى أنّهما أرادا جنساً معيناً اتفقت إرادتهما عليه، ولكن الآن اختلفا في ذلك الجنس الذي أراداه حالة العقد، بأن قالت له: «طلقني بمائة» فطلقها بها، ثمّ قال: أردنا بها مائة دينار، فقالت: بل مائة درهم فقال
ص: 580
...
-------------------------------------------------------------------------------------
المصنّف وجماعة(1): القول قولها أيضاً؛ لأنّ العقد صحيح في نفسه حيث اتّفقا على إرادة جنس معين، والإرادة كافية في صحّته وإن لم يتلفظ بها. وحينئذ فيرجع الاختلاف في الإرادة إلى الاختلاف في الجنس المعين، فيرجع إليها فيه كالسابق. ولأنّ الاختلاف في إرادتها، ولا يطلع عليها إلا من قبلها.
ويشكل الأول بما ذكر في الأوّل من أن الاختلاف في الجنس لا يقتضى تقديم قولها، بل التحالف. والثاني بأنّ الاختلاف يرجع إلى تعيين ما اتّفقا عليه من الإرادة لا إلى إرادتها وحدها، فإنّ المعتبر إرادتهما معاً، ولا يكفي إرادتها وحدها، وإرادة كلّ منهما لا يطلع عليها إلّا من قبله، فلو قيل بالتحالف هنا أيضاً - لأنّ كلّاً منهما منكر لما يدعيه الآخر - كان وجهاً.
وقال الشيخ في المبسوط : يبطل الخلع هنا(2) مع موافقته على تقديم قولها(3) في السابق. والفرق غير واضح. وليس البطلان على قوله معللاً بعدم ذكر الجنس لفظاً؛ لأنّه صرّح في المبسوط بعدم اشتراط ذكره لفظاً، بل يكفي اتّفاقهما على إرادته. فقال فيه:
إذا ذكرت القدر دون الجنس والنقد، فقالت: خالعني بألف، فقال: خالعتك بألف، فإن اتّفقا على الإرادة وأنّهما أرادا الدراهم أو الدنانير لزم الألف من غالب نقد البلد(4). فبقي أنّ وجه البطلان في هذه المسألة من جهة أخرى، ولعلّه صيرورة البذل حين- مجهولاً، وهو يقتضي الفساد عندنا. لكن فيه أن المجهولية المانعة هي الواقعة حالة العقد، وهما متّفقان على عدمها، وإنّما حصلت الجهالة بتنازعهما في المراد، كما لو حصلت مع
ص: 581
الثالثة: • لو قال: «خالعتك على ألف في ذمتك» فقالت: «بل في ذمّة زيد» فالبينة عليه واليمين عليها. ويسقط العوض مع يمينها، ولا يلزم زيداً. وكذا لو قالت: «بل خالعك فلان والعوض عليه».
أما لو قالت: «خالعتك بكذا وضمنه عنّي فلان» أو «يَزِنه عنّي فلان» لزمها الألف ما لم تكن بيئة؛ لأنّها دعوى محضة، ولا يثبت على فلان شيء بمجرد دعواها.
--------------------------------------------------------------------------------
تنازعها فيما عيناه باللفظ، فإنّه لا يقتضي البطلان عنده.
ولو اتّفقا على أنّهما لم يريدا جنساً من الأجناس حالة العقد بطل الخلع عندنا اتفاقاً.
ولو كان اختلافهما في أصل الإرادة مع اتّفاقهما على عدم ذكر الجنس، فقال أحدهما: أردنا جنساً معيناً، وقال الآخر: إنّا لم نرد بل أطلقنا رجع النزاع إلى دعوى الصحّة والفساد، و مقتضى القاعدة المشهورة تقديم مدّعي الصحّة مع يمينه واختار في التحرير تقديم قول المرأة هنا(1)، سواء كانت دعواها الإرادة أم عدمها. وهو يتمّ مع دعواها التعيين، أمّا مع دعواها الإطلاق فمشكل؛ لأنّها تدعي بطلان البذل، وإن كان أصل عدم التعيين موافقاً لقولها.
قوله: «لو قال: خالعتك على ألف في ذمتك» إلى آخره.
هذه المسألة لبيان اختلافهما فيمن عليه العوض والبحث فيها يقع في مواضع:
الأوّل: لو قال: «خالعتك على ألف في ذمتك» فقالت: «بل بألف في ذمة زيد» فقد قال المصنّف (رحمه الله) وقبله الشيخ في المبسوط (2): إن القول قولها بيمينها إن لم يكن له بينة؛ الأصالة براءة ذمّتها من العوض. ولأنّ مرجع الدعوى إلى أنه يدّعي شغل ذمّتها ويعترف يكون الطلاق بائناً، وهي تنكر الأوّل، فيقبل قولها فيه، ويسقط عنها العوض بيمينها. ولا يلزم زيداً بمجرّد دعواها، بل يتوقّف على اعترافه بذلك؛ لأنّ الزوج لا يدعي عليه، وتبين منه
ص: 582
...
--------------------------------------------------------------------------
بمجرّد دعواه؛ لاستلزامه الإقرار بالبينونة على التقديرين وعلى هذا القول عمل المتأخّرين.
وقال ابن البراج: بل القول قوله وعليها البيًنة(1)؛ لأنّ الأصل في مال الخلع أن يكون في ذمّة الزوجة. والقولان مطلقان غير منقحين.
والتحقيق أن نقول: دعواها وقوع المخالعة منها على الألف في ذمّة زيد إمّا أن تكون بمعنى أن لها في ذمّة زيد ألفاً فخالعته بها، أو بمعنى أنّها خالعته بألف تثبت له في ذمّة زيد ابتداء من غير أن يكون لها عند زيد ألف. فإن أرادت المعنى الأوّل فلا يخلو إما أن يوافقها الزوج على أنّ لها في ذمة زيد ألفاً، أو لا. وعلى تقدير عدم موافقته إما أن يكون زيد مقراً لها بالألف، أو لا.
فإن كان الزوج موافقاً لها على ثبوت الألف في ذمّة زيد أو زيد مقراً بها بني قبول قولها على أنّ العقد على دين في ذمّة الغير هل يجوز أم لا ؟ وكلامهم هنا قد يؤذن بجوازه، لكن لم ينبهوا عليه في الفدية وشرائطها. وجوازه في البيع محلّ نظر، وأما هنا فلا يبعد الجواز ؛ للتوسع في هذا العقد بما لا يتوسّع به في المعاوضة المحضة.
فإن جوزنا ذلك فالقول قولها لاتّفاقهما على خلع صحيح على التقديرين، وهو مع ذلك يدّعي شغل ذمّتها بالعوض، ومجرّد الخلع أعم منه، والأصل براءة ذمّتها منه.
وإن لم نجوّز ذلك أو لم يكن زيد مقرّاً بالحق ولم يعترف الزوج بثبوتها في ذمّته فالنزاع يرجع إلى صحة الخلع وفساده؛ لأنّ دعواها يقتضي فساده حيث لم يسلم فيه العوض، وهو يدّعي صحّته، ومقتضى القاعدة المستمرة تقديم قوله.
وإن أرادت بكونها في ذمّة زيد المعنى الثاني، وهو أنّها خالعته بعوض لا يثبت في ذمتها بل في ذمّة زيد ابتداءً، فإن كان ذلك مع دعواها الوكالة عنه في الخلع ووافق، بني
ص: 583
...
--------------------------------------------------------------------------
على جواز خلع الأجنبي المتبرّع. وإن لم يدّع ذلك أو لم يوافق فدعواها يرجع إلى فساد الخلع، وهو يدّعي صحته، فيكون قوله مقدماً، وقد ظهر بذلك أن تقديم قولها في هذه الصورة مطلقاً غير جيد.
والظاهر أنّ موضوع المسألة ما إذا وقع الخلع بدين لها في ذمة زيد ليتصوّر بناء الصحّة على التقديرين وربما تعارض على هذا التقدير الأصل والظاهر؛ لأن الأصل براءة ذمتها وعدم التزامها بالمال والظاهر من المخالعة التزام العوض.
وعلى كل حال فهذه الصورة مفروضة في اتّفاقهما على وقوع العقد بينهما لا بينه وبين الأجنبي؛ لأنّ ذلك يأتي في الصورة الثانية.
الثاني: أن يدّعي أنّه خالعها بألف في ذمّتها أيضاً، فأنكرت وقوع العقد معها مطلقاً وقالت: بل اختلعني فلان الأجنبي والمال عليه. وقد أطلق المصنّف تبعاً للشيخ(1) تقديم قولها أيضاً في نفي العوض؛ لأصالة براءة ذمّتها منه. ولا شيء للزوج على الأجنبي؛ لاعترافه بأنّ الخلع لم يجر معه. وتحصل البينونة بقول الزوج.
ولا نقول: إنّه أقرّ بعقد أنكرته المرأة وصدّقناها بيمينها فيلغو ويستمرّ النكاح، كما لو قال: بعتك هذه العين بكذا ، فأنكر صاحبه وقبلنا قوله بيمينه ، فإنّ العين تبقى للمقرّ، وذلك؛ لأنّ الخلع يتضمّن إتلاف المعقود عليه وهو البضع، والبيع لا يتضمن إتلاف المعقود عليه، ألا ترى أنّ البيع يفسخ بتعذّر العوض، والبينونة لا ترتد، فإذا كان كذلك فإقراره بالخلع المتضمن للإتلاف إقرار بالإتلاف فلا يرد. ونظيره من البيع أن يقول: بعتك عبدي هذا بكذا فأعتقته وأنكر ، فإنّا نصدقه بيمينه ونحكم(2) بعتق العبد بإقراره. فهذا تحرير الحكم المذكور.
وهذا البحث إنّما يتمّ إذا قلنا بأن خلع الأجنبي المتبرّع صحيح ليكونا متّفقين على وقوع
ص: 584
...
----------------------------------------------------------------------------
العقد صحيحاً، أمّا على ما يذهب إليه المصنّف(1) والشيخ(2) بل الأكثر أشكل تقديم قولها؛ لأنّها حينئذٍ تدّعي فساد الخلع وهو يدعي صحّته، فينبغي تقديم قوله، إلّا أن يقال: إن مرجع اختلافهما إلى وقوع عقد المعاوضة معها، وهي تنكر ذلك، فيقدّم قولها؛ لأصالة عدم التزامها ذلك، كما لو ادّعى أنه باعه شيئاً فأنكر وأضاف إلى ذلك دعوى بيعه من فلان، فإنّه لا يسمع في حقّ الغير، ويقدّم قوله في نفيه عنه. ولا يخلو ذلك من نظر، ولا ما بين المسألتين من الفرق. وعلى التقديرين يحكم عليه بالبينونة بمجرد دعواه؛ لاعترافه بها، وإنّما الكلام في ثبوت العوض.
الثالث: أن يدّعي عليها عوض الخلع، فتعترف بلزومه ابتداءً لها ووقوع العقد معها، ولكن ادّعت أنّه قد ضمنه عنها فلان، أو أنّها قالت: قبلت الخلع على أن يزن الألف عنّي فلان. فهي في الصورتين مقرّة بالألف، ومدعية في الأولى انتقالها إلى ذمّة غيرها، فلا يقبل في حقّ المخالع وإن صادقها الضامن لاختلاف الناس في وفاء الدين سهولة وضدّها، فلا يلزم انتقال ماله بمجرد تصادقهما. ولو أنكر ذلك الغير الضمان فأولى. وأمّا الثانية فأمرها واضح؛ لأنّه كلام لا ينفعها؛ لأنّ مجرّد ذلك لا يقطع المطالبة عنها. وكذا في صورة الضمان لو قلنا بأنّه ضمّ ذمّة إلى ذمّة.
ولا يخفى أنّ الحكم في جميع ذلك مع عدم البينة، أما معها فيثبت مقتضاها، سواء ترتب عليه صحة الخلع أم فساده.
ص: 585
فهو أن يقول: «بارأتك على كذا فأنت طالق». وهي تترتب على كراهية كلّ واحد من الزوجين صاحبه.
ويشترط إتباعه بلفظ الطلاق، فلو اقتصر المبارئ على لفظ المبارأة لم يقع به فرقة. ولو قال بدلاً من «بارأتك»: «فاسختك» أو «أبنتك» أو غيره من الألفاظ صح إذا أتبعه بالطلاق؛ إذ المقتضي للفرقة التلفظ بالطلاق لا غير.
-------------------------------------------------------------------------------
قوله: «وأما المبارأة فهو أن يقول: بارأتك على كذا» إلى آخره.
المباراة طلاق بعوض مترتّب على كراهة كلّ من الزوجين صاحبه. وأصلها المفارقة(1). ولها أحكام تخصها وأحكام تشترك مع الخلع فيها. فشرائط المخالع والمخالعة والعوض مشتركة، فلذا اقتصروا على قليل من أحكامها .
وقد دلّ على اشتراطها بكراهة كلّ من الزوجين صاحبه رواية سماعة عن أبي عبد الله(علیه السلام) وأبي الحسن(علیه السلام) قال : سألته عن المبارأة كيف هي؟ قال: «يكون للمرأة على زوجها شيء من صداقها أو من غيره، ويكون قد أعطاها بعضه، ويكره كل واحد منهما صاحبه، فتقول المرأة: «ما أخذت منك فهو لي وما بقي عليك فهو لك وأبارئك» فيقول لها الرجل: «فإن أنت رجعت في شيء مما تركت فأنا أحقّ ببضعك»(2).
ص: 586
...
--------------------------------------------------------------------------
ودلّ على اشتراط كون المأخوذ بقدر المهر أو أقلّ صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المبارأة تقول لزوجها لك ما عليك واتركني ، وتجعل له من قبلها شيئاً فيتركها، إلّا أنّه يقول: إن ارتجعت في شيء فأنا أملك ببضعك. فلا يحلّ لزوجها أن يأخذ منها إلّا المهر فما دونه»(1).
وأمّا عدم وقوعها بمجرّدها بل يشترط إتباعها بالطلاق فهو المشهور بين الأصحاب، بل قال المصنّف(2) وجماعة(3): إنّه إجماعي، فإن تمَّ فهو الحجّة وإلّا ففي الأخبار(4) ما يدلّ على أنّها لا تفتقر إلى الطلاق وحملها الشيخ على التقيًة(5)، كما حمل الأخبار(6) الدالّة على عدم افتقار الخلع إليه. وليس بجيّد؛ لأنّ المبارأة لا تستعملها العامة، ولا يعتبرون فيها ما يعتبره أصحابنا، بل يجعلونها من جملة كنايات الخلع أو الطلاق، فلا وجه لحمل ما ورد من أحكامها على التقيّة مع أنه لا معارض لها يعتد به من الأخبار، وإنّما العمدة على ما ادعوه من الإجماع. وحيث قلنا بافتقارها إلى الطلاق جاز أن يقع بغير لفظ المباراة مما يدل عليه ك-: «فاسختك» و«أَبَنتُك»، وغيرهما من الألفاظ المفيدة لذلك؛ لأن الطلاق المتعقّب لها كافٍ في البينونة، وهذه الألفاظ مفيدة للفرقة بالعوض، فكلّ ما أُضيف إلى الطلاق من اللفظ الدالّ على ذلك كفى.
ص: 587
•ولو اقتصر على قوله: «أنت طالق بكذا صح وكان مباراة؛ إذ هي عبارة عن الطلاق بعوض مع منافاة بين الزوجين.
• ويشترط في المبارئ والمبارئة ما شرط في المخالع والمخالعة.
•وتقع الطلقة مع العوض بائنة ليس للزوج معها رجوع، إلا أن ترجع الزوجة في الفدية فيرجع ما دامت في العدّة.
وللمرأة الرجوع في الفدية ما لم تنقض عدّتها.
---------------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو اقتصر على قوله: أنت طالق بكذا» إلى آخره.
قد عرفت فيما تقدّم(1) أن الطلاق بعوض أعم من الخلع والمباراة، فيصح التعبير به عن كلّ واحد منهما، ويتميّز عن الآخر بالقصد. فإذا كانت الكراهة منهما فقال: أنت طالق بكذا بقصد المبارأة، اشترط في صحّته شروط المبارأة. وإن كانت الكراهة منها وأراد الخلع بهذا اللفظ لحقه أحكام الخلع.
ولو أتى به لا بنيّة أحدهما بل أراد مجرّد الطلاق بعوض، ففي اعتبار مراعاة حالهما في الكراهة منهما ومنها وإلحاقه بما يقتضيه الحال فيلحقه شرائطه أو صحّته مطلقاً نظر، وظاهر كلامهم انحصاره فيهما واعتبار مراعاة الحال فيه وعندي فيه نظر، وقد تقدم الكلام على مثله في الخلع(2). ولو قيل بصحّته مطلقاً حيث لا يقصد به أحدهما كان وجهاً؛ لعموم الأدلة على جواز الطلاق مطلقاً(3)، وعدم وجود ما ينافي ذلك في خصوص البائن.
قوله: «ويشترط في المبارئ والمبارئة ما شرط في المخالع والمخالعة».
وكذا يشترط في الفدية والصيغة وباقي الأحكام ما قرّر في الخلع.
قوله:«وتقع الطلقة مع العوض بائنة ليس للزوج معها رجوع» إلى آخره.
ص: 588
•والمبارأة كالخلع، لكن المبارأة تترتب على كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، ويترتب الخلع على كراهية الزوجة.
ويأخذ في المباراة بقدر ما وصل إليها منه، ولا تحلّ له الزيادة، وفي الخلع جائز. و تقف الفرقة في المبارأة على التلفظ بالطلاق اتفاقاً منّا، وفي الخلع على الخلاف.
----------------------------------------------------------------------------------
هذا كلّه من الأحكام المشتركة بين الخلع والمبارأة. وتدلّ عليه في المبارأة بخصوصها رواية زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المبارأة تطليقة بائنة وليس في شيء من ذلك رجعة»(1). وروى إسماعيل الجعفي عن أحدهما (علیهما السلام) قال: «المبارأة تطليقة بائن، وليس فيها رجعة»(2).
وفي الأخبار السابقة(3) ما يدلّ على جواز رجوعه متى رجعت، وأنّه يشرط ذلك عليها، وهو شرط يقتضيه العقد كما مرّ (4)؛ وما يترتّب على رجوعها من اشتراط إعلامه وعدمه، واشتراط رجوعه بخلوّه من الموانع وغير ذلك مما تقرّر في الخلع آتٍ هنا. وفي هذه الأخبار التي ذكرناها سابقاً في المباراة(5) ما يدل على جواز رجوعه في الطلاق متى رجعت في شيء من البذل وإن لم يكن جميعه، وتقدّم ما فيه في الخلع(6).
قوله: «والمباراة كالخلع، لكن المبارأة تترتب على كراهية كلّ واحد» إلى آخره.
أشار بما ذكر إلى الفرق بين الخلع والمباراة مع اشتراكهما في أصل الطلاق بعوض. وحاصله أنّ الفرق يحصل بينهما بثلاثة أمور:
الأوّل: ترتب الخلع على كراهة الزوجة والمبارأة على كراهة كلّ منهما لصاحبه. وقد تقدّم ما يدلّ عليه من النصوص(7).
ص: 589
وعلى هذا فلو اختصّت الكراهة بها لم يصحّ الطلاق بلفظ المبارأة وإن أتبعها بالطلاق؛ لأنّ الخلع لا يقع بالكنايات. ولو انعكس فكانت الكراهة منهما وعبّر عن المبارأة بالخلع فالظاهر الجواز؛ لأنّ المبارأة تقع بالكنايات والخلع كناية واضحة في الفرقة المفهومة من المبارأة، وإتباعه بالطلاق يصحّحه.
الثاني: أنّ العوض في الخلع تصحّ زيادته عمّا وصل إليها من المهر، وفي المباراة يشترط كونه بقدره فما دون. وهذه الخاصية مترتبة على الأولى؛ لأنّ الكراهة من الجانبين يناسبه عدم الزيادة في العوض، كما أنّ اختصاص الكراهة بها يناسبه جواز الزيادة.
ويظهر من جماعة من الأصحاب كالصدوقين(1)، وابن أبي عقيل(2)- المنع من أخذ المثل في المبارأة، بل يقتصر على أقلّ منه. وهو في موثقة زرارة قال: «المبارأة يؤخذ منها دون الصداق، والمختلعة يؤخذ منها ما شئت وإنّما صارت المبارئة يؤخذ منها دون المهر والمختلعة يؤخذ منها ما شاء ؛ لأنّ المختلعة تعتدي في الكلام وتتكلّم بما لا يحل لها»(3). والرواية قاصرة عن إفادة الحكم بالقطع، ومعارضة بصحيحة أبي بصير السابقة وفيها «ولا يحلّ لزوجها أن يأخذ منها إلا المهر فما دونه»(4).
الثالث: أنّ الفرقة في الخلع لا يتوقّف على الطلاق في أصحّ القولين كما عرفت، وفي المبارأة تتوقّف على التلفظ بالطلاق إجماعاً على ما ادّعاه المصنّف هنا والعلّامة في كتبه(5). مع أنّ المصنّف نسب القول بذلك في مختصره إلى قول مشهور(6) مؤذناً بعدم تحقّق الإجماع.
ص: 590
...
--------------------------------------------------------------
وهو متأخّر عن هذا الكتاب، وهو المناسب لتحقيق المصنّف، فإنّه لا يعتبر في الإجماع مثل هذه الشهرة، كما نبه عليه في المعتبر ونهى عن الاغترار بذلك(1).
والشيخ في التهذيب بعد أن ذكر روايات تدلّ على عدم اشتراط إتباعها بالطلاق - كرواية زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «المبارأة تطليقة بائن»(2)، ورواية حمران قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) قال : المبارأة تبين من ساعتها من غير طلاق»(3)، ورواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله قال: «المباراة تكون من غير أن يتبعها طلاق»(4) - قال: إن اشتراط إتباع الطلاق لها قول جميع أصحابنا المحصّلين من تقدّم منهم ومَن تأخّر(5) وحمل هذه الأخبار على التقيّة(6).
وفي كلامه إيذان بخلاف في ذلك؛ لأنّه نسب القول إلى المحصّلين من الأصحاب لا إليهم مطلقاً.
وبالجملة فالأحكام التى رتّبها الأصحاب على المباراة لا تخلو من إشكال. والنصوص عن إفادتها قاصرة إمّا في الدلالة أو السند وما ثبت فيه الإجماع منها فهو الحجّة، وإلّا فللنظر فيه مجال يظهر لمن أعطى النظر حقّه في ذلك.
***
تمّ الجزء السابع - حسب تجزئتنا - ويليه في الجزء الثامن كتاب الظهار
ص: 591