المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثَامِن عَشَر (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 2)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة نگارش
الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 261
حقوق الطبع محفوظة للناشر
محرر الرقمي: محمّد رادمرد
موسوعة
الشهيد الثاني
الجُزءُ الثَامِن عَشَر
مَسَالِكُ الأَفْهَام
إلى تَنقيح
شَرائع الإسلام / 2
المركز العالي للعُلوم وَالثقافةِ الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 1
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثَامِن عَشَر
مَسَالِكُ الأَفْهَام
إلى تَنقيح
شَرائع الإسلام / 2
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 3
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجُزءُ الثَامِن عَشَر (مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام / 2)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
الإعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة نگارش
الطبعة الأُولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل: 261
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/3858، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی زین الدین بن على 911-965ق.
موسوعة الشهيد الثاني الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية، 1434ق. = 2013م.
30 ج.
8 -74 - 5570 - 600 - 978 ISBN. (دوره)
9- 80- 5570 -600 - 978 ISBN (ج5)
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیبا.
کتابنامه
مندرجات ج 17 - 28. مَسَالِكُ الأَفْهَام إلى تَنقيح شَرائع الإسلام.-
1. اسلام - مجموعه ها 2 محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسیر. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی. ب. عنوان.
8م 92ش / 6 / 4 BP 08 / 297
ص: 4
دلیل
موسوعة الشهيد الثاني
المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره
الجزء الأوّل = (1) منية المريد
الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة ؛ 3 التنبيهات العلية؛ 4. مسكّن الفؤاد؛.5 البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.
الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل/ 2 : 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة ؛ 13. النيّة؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار؛ 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة ؛ 19. نيّات الحجّ والعمرة؛ 20. مناسك الحجّ والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفيّة.
الجزء الرابع = (31 - 43) الرسائل /3 : 31. تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات العينية؛ 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34. وصيّةً نافعةٌ؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه اللّه) لإجماعات نفسه؛ 38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.
ص: 5
الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد
الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية
الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان
الجزء الثاني عشر = (47 - 49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفيّة
الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة
الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع
الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)
الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان
الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام
الجزء التاسع والعشرون = الفهارس
ص: 6
كتاب الحجّ
الركن الأوّل في المقدّمات...15
المقدّمة الأُولى في بيان حقيقته وحكمه...15
المقدّمة الثانية في الشرائط...19
القول في حجّة الإسلام...19
شرائط وجوب حجّة الإسلام:...19
الأوّل: كمال العقل...19
الثاني: الحرّيّة...24
الثالث: الزاد والراحلة...25
الرابع: مؤونة عياله...33
الخامس: إمكان المسير...35
يجب الحجّ على الكافر...42
حكم حجّ المخالف إذا استبصر...44
مسائل أربع:...49
القول في شرائط ما يجب بالنذر ونحوه...52
مسائل في الحجّ الواجب بالنذر...53
القول في النيابة وشرائط النائب في الحجّ...61
ص: 7
مسائل في نيابة الحجّ...84
المقدّمة الثالثة في أقسام الحجّ...92
1 حجّ التمتّع...92
شروط حجّ التمتّع...95
2. حجّ الإفراد...103
حجّ القِران...106
المقدّمة الرابعة في المواقيت...115
أقسام المواقيت...116
أحكام المواقيت...122
الركن الثاني في أفعال الحجّ...130
القول في الإحرام...131
مقدّمات الإحرام...131
كيفيّة الإحرام...136
النيّة...136
التلبيات الأربع...138
لُبس ثوبي الإحرام...141
أحكام الإحرام...143
مندوبات الإحرام...149
تروك الإحرام...153
محرّمات الإحرام:...153
1. صيد البر. اصطياداً وأكلاً...153
2. النساء، وطءاً وعقداً...154
3. الطيب على العموم...158
لبس المخيط للرجال...160
ص: 8
5. الاكتحال بالسواد وبما فيه طيبٌ...161
6. النظر في المرآة...161
7. لبس الخفّين...162
8. الفسوق...163
9. الجدال...164
10. قتل هوامّ الجسد...164
11. لبس الخاتم للزينة، ولبس المرأة الحُليّ للزينة...165
12. التدهين بما فيه طيب محرّم بعد الإحرام...166
13. إزالة الشعر...168
14. تغطية الرأس...168
.15 التظليل...171
16. إخراج الدم...172
17. قصّ الأظفار...172
18. قطع الشجر والحشيش...173
19. تغسيل المُحرم لو مات بالكافور...173
20. لبس السلاح لغير الضرورة...174
مكروهات الإحرام...174
وجوب الإحرام لدخول مكّة...176
القول في الوقوف بعرفات...177
كيفيّة الوقوف بعرفات...179
أحكام الوقوف بعرفات...181
القول في الوقوف بالمشعر...188
كيفيّة الوقوف بمشعر...190
مسائل خمس...193
ص: 9
التقاط الحصى بالمشعر...195
القول في نزول مني وما بها من المناسك...199
مناسك يوم النحر:...199
الأوّل: رمي جمرة العقبة...199
الثاني: ذبح الهدي...201
بدل الهدي...211
هدي القرآن...216
الأضحيّة...226
الثالث: الحلق والتقصير...228
مواطن التحدّل...232
القول في الطواف...236
المقصد الأوّل فى مقدّمات الطواف...236
المقصد الثاني في كيفيبة الطواف...239
مسائل ستّ:...244
مندوبات الطواف...250
المقصد الثالث في أحكام الطواف...256
القول في السعي...264
مقدّماته عشرة...264
واجبات السعي...265
مستحبّات السعي...266
مسائل في أحكام السعي...267
القول في الأحكام المتعلّقة بمنى بعد العود...273
رمي الجمار...275
مسائل في أحكام يتعلّق بمكّة...280
ص: 10
مسائل يتعلّق بحرم المدينة وآدابها...290
الركن الثالث في اللواحق...295
المقصد الأوّل في الإحصار والصدّ...295
وظيفة المصدود...297
وظيفة المحصر...310
المقصد الثاني في أحكام الصيد...319
الفصل الأوّل: أقسام الصيد...320
الأوّل: ما لا يتعلّق به الكفّارة...320
الثاني: ما يتعلّق به الكفّارة...325
فروع خمسة في الكفّارات...350
الفصل الثاني في موجبات الضمان...354
الموجب الأوّل: المباشرة...354
الموجب الثاني: اليد...361
الموجب الثالث: السبب...364
الفصل الثالث في صيد الحرم...373
الفصل الرابع في التوابع...380
المقصد الثالث في باقي المحظورات...390
الأوّل: الاستمتاع بالنساء...390
الثاني: استعمال الطيب...398
الثالث: قلم الأظفار...399
الرابع: لبس المخيط...400
الخامس: حلق الشعر...400
السادس: الجدال...401
ص: 11
السابع: قلع شجرة الحرم...402
التدهين...404
خاتمة تشتمل على مسائل في الكفّارة...404
كتاب العمرة
صورة العمرة...407
شرائط وجوب العمرة...408
أفعال العمرة...410
أقسام العمرة وأحكامها...4111
كتاب الجهاد
الركن الأوّل: من يجب عليه...417
الأعذار المسقطة للجهاد...423
إذن الأبوين في الجهاد...424
حرمة الغزو في أشهر الحُرُم...427
المرابطة...429
الركن الثاني في بيان من يجب جهاده، وكيفيّة الجهاد...431
الأوّل فيمن يجب جهاده...431
الثاني في كيفيّة قتال أهل الحرب...433
الثالث في الذمام...439
خاتمة فيها فصلان:...446
الأوّل: من يجوز له عقد العهد والمهادنة...446
الثاني في جواز جعل الجعائل لوالي الجيش...448
الرابع في الأُسارى...450
ص: 12
تفريع: إذا أُسر أحد الزوجين...458
الخامس في أحكام الغنيمة...461
الأوّل في أقسام الغنيمة...461
الثاني في أحكام الأرضين...466
الثالث في قسمة الغنيمة...472
الركن الثالث في أحكام أهل الذمّة...479
الأوّل: من تؤخذ منه الجزية...479
الثاني في كمّيّة الجزية...482
الثالث في شرائط الذمّة....486
الرابع في حكم الأبنية (حكم البيع والكنائس والمساكن والمساجد)...490
الخامس في المهادنة...494
من لواحق هذا الطرف مسائل:...500
الركن الرابع في قتال أهل البغى...503
خاتمة...505
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تعريف المعروف...507
تعريف المنكر...508
شرائط النهي عن المنكر...509
مراتب الإنكار...511
من يجوز له إقامة الحدود...513
لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور...518
موارد جواز الترافع إلى قضاة الجور...519
ص: 13
ص: 14
وهو يعتمد على ثلاثة أركان
وهي أربع:
• الحجّ وإن كان في اللغة القصد، فقد صار في الشرع اسماً لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة.
-------------------------------------------------------------------
كتاب الحجّ
قوله: «الحجّ وإن كان في اللغة القصد فقد صار في الشرع اسماً لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة».
أشار بقوله «فقد صار» إلى آخره إلى اختيار ثبوت الحقائق الشرعيّة، وأن نقل الحجّ ونظائره من العبادات عن معناه اللغوي قد صار على وجه الحقيقة؛ إذ لا خلاف في تحقّق النقل في الجملة، وتحقيق المسألة في الأُصول.
ثمَّ على تقدير النقل اختلف الأصحاب في تعريف الحجّ، فبعضهم عرّفه بأنّه القصد إلى
ص: 15
وهو فرض على مَن اجتمعت فيه الشرائط الآتية من الرجال والنساء والخناثي.
-------------------------------------------------------------------
بيت اللّه تعالى لأداء مناسك مخصوصة (1)؛ لأنّ النقل لمناسبةٍ أولى منه لا لمناسبةٍ، ولأنّه المتبادر من قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ»(2) ومن قولهم في الاستعمال الشائع حجّ بيت اللّه.
وفي هذا التعريف مع حججه بحث ولنا عليه إيرادات كثيرة يطول الكلام فيها قد حقّقناها في موضع آخرَ. (3)
والمصنّف (رحمه اللّه) عرّفه بأنّه اسم لمجموع المناسك، إلى آخره؛ بناء على أنّ المتبادر إلى الفهم عند أهل الشرع أنّ الحجّ عبادة مركّبة من جملة،عبادات، كالصلاة المؤلّفة من الأفعال والأذكار المخصوصة.
ولا يعارضه أنّ المعنى الأوّل يوجب تخصيص المعنى اللغوي، وهذا يوجب النقل، والتخصيص خيرٌ منه؛ لأنّ ذلك حيث لا يثبت النقل، والحقّ ثبوته.
والمراد بالمناسك العبادات المخصوصة وبالمشاعر محال العبادة، فيكون مجموع المناسك في التعريف بمنزلة الجنس والباقي بمنزلة الفصل يخرج باقي العبادات.
ویرد علیه أُمور :
الأوّل: أنه إذا كان اسماً للمجموع يلزم من فوات بعضها فواته؛ لأنّ المجموع يفوت بقوات بعض أجزائه، ومن المعلوم أنّ من أخلّ ببعضها سهواً مما ليس بمبطل للحجّ يصحّ حجّه، مع أن المأتي به ليس مجموع المناسك.
وأَجيب بأنّ الكلام في الماهية المعرفة لا المجزئة؛ لأنّ الأجزاء إنّما جاء بوضع الشارع واستغنائه بالبعض عن البعض، وصدق اسم الحجّ على البعض مجاز.
وفيه: أنّ التعريف للحجّ الشرعي، ولا معنى له إلّا ما سمّاه الشارع حجّاً، سواء كان أكمل
ص: 16
-------------------------------------------------------------------
الأفراد أم لا، وغاية ما هنا أن يكون بعض الأفراد أكمل من بعض.
ويمكن أن يكون «المجموع» في العبارة إشارةً إلى دفع توهم كون كلّ واحدٍ من تلك المناسك يُسمّى حجّاً، وإنّما الحجّ أمر مجموع من المناسك، فإنه لو حذف «المجموع» يصير الحجّ اسماً للمناسك، وهي محتملة لإرادة المجموع وكلّ واحدٍ من الأفراد، ولا شكّ أنّ الحجّ الصحيح يقتضي مجموع مناسك كيف كان، وحينئذٍ فكل مجموع منها صحّ معه الحجّ يدخل في التعريف، وينبغي حينئذٍ حمل اللام على مجرّد الجنس أو نحوه مما لا يوجب الاستغراق، وإن أريد العهد يُحمل مجموعٍ المناسك على مجموع منها، فإنّ ذلك في مثل هذا التركيب جائز.
الثاني: إن أراد المناسك الصحيحة لم يحتج إلى قوله «المؤدّاة في المشاعر المخصوصة»؛ لأنّها لا تكون إلا كذلك، وإن أراد الأعم دخل الفاسد وهو غير شرعي، والتعريف إنما هو للحجّ الشرعي، وأفعاله لا تكون إلا مؤداة في المشاعر المخصوصة.
وجوابه: أنّ المناسك في التعريف بمنزلة الجنس كما مرّ، فيدخل فيه باقي العبادات، فلا بدّ له من فصل يخرجها، فلا يستغنى عن باقي التعريف من هذه الجهة.
الثالث: انتقاضه في طرده بالعمرة، فإنّها اسم للمجموع المذكور.
وجوابه: خرجت بالمشاعر المخصوصة، فإنّ مشاعر الحجّ وهي موضع نسكه - غير مشاعر العمرة وإن كانت مشاعرها أخص مطلقاً، فإنّ المغايرة في الجملة حاصلة.
الرابع: انطباقه على كلّ عبادات مقيدة بمكان؛ لما عرفت من أن المناسك هي العبادات، والمشاعر مكانها.
وجوابه: خرج غير الحجّ بالمخصوصة أيضاً، فإنّ هذا القيد لا يستعمل في التعريف إلا كذلك وإن استلزم الإجمال.
ويجوز أن يكون اللام في قوله «المشاعر المخصوصة» للعهد الذهني، أعني مشاعر مكّة المعهودة، فإنّ هذا الاسم قد غلب عليها بحيث لا يتبادر غيره غالباً.
ص: 17
• ولا يجب بأصل الشرع إلّا مرّةً واحدةً، وهي حجّة الإسلام.
وتجب على الفور. • والتأخير مع الشرائط كبيرة موبقة.
وقد يجب الحجّ • بالنذر وما في معناه • وبالإفساد، وبالاستئجار للنيابة، ويتكرّر بتكرّر السبب.
وما خرج عن ذلك مستحبّ.
-------------------------------------------------------------------
واعلم أنّ في قوله في أوّل التعريف «اسما» دلالةً على كون التعريف لفظياً لا صناعيّاً، وحينئذٍ فلا يشترط فيه الاطّراد والانعكاس، فإن حصلا كان من كماله، وإن عدما لم يدلّ على إخلاله.
قوله: «ولا يجب بأصل الشرع إلّا مرّةً».
أراد بأصل الشرع ما وجب بغير سبب من قبل المكلّف، كالنذر والإفساد، فإنّ الشرع أوجبه لكن لا بأصله.
قوله: «والتأخير مع الشرائط كبيرة موبقة».
لا خلاف في ذلك عندنا، والأدلّة عليه من الكتاب (1) والسنّة (2) كثيرة.
والموبقة هي المهلكة وهي كناية عن شدّة عذابها في شدّة عذابها في الآخرة أو المؤاخذة عليها في الدنيا، فيصير مؤخّر الحجّ بمنزلة الهالك.
قوله: «بالنذر وما في معناه».
هو العهد واليمين، ولو لم يعطف عليه الإفساد والاستئجار لكانا في معناه أيضاً.
قوله: «وبالإفساد».
لا فرق في وجوب الحجّ ثانياً بإفساده بين كونه واجباً أو مندوباً، فإنّ المندوب يجب بالشروع فيه.
ص: 18
ويستحب لفاقد الشروط. • كمن عُدِم الزاد والراحلة إذا تسكّع، سواء شقّ عليه السعى أو سَهل، وكالمملوك إذا أذن له مولاه.
والنظر في حجّة الإسلام، وما يجب بالنذر، وما في معناه، وفى أحكام النيابة.
الأوّل: كمال العقل، فلا يجب على الصبي، ولا على المجنون.
ولو حجّ الصبيّ، أو حجّ عنه أو عن المجنون، لم يُجزئ عن حجّة الإسلام،. • ولو دخل الصبيّ المميّز والمجنون في الحجّ ندباً، ثمَّ كمل كلّ واحدٍ منهما
-------------------------------------------------------------------
قوله: «كمن عدم الزاد والراحلة إذا تسكّع».
التسكع لغةً: التردّد(1)، والمراد به هنا تكلّف الحجّ مع تحمّل المشقة فيه؛ لعدم اجتماع أسبابه كأنّه يصير بسبب ذلك متردداً في أمره متحيراً في اكتساب رزقه من زاده و راحلته.
قوله: «ولو دخل الصبيّ المميّز والمجنون في الحجّ ندباً ثم كمل كل واحد منهما - إلى قوله - على تردّدٍ».
منشأ التردّد من وقوع بعض الأفعال بنية الندب وقبل المخاطبة بالوجوب، فلا يجزئ عن الواجب، خصوصاً إذا قلنا: إنّ أفعال الصبىّ تمرينيّة لا شرعيّة، ومن بقاء معظم الأفعال واجبةً، وما مضى بنية الندب لا يستحيل إجزاؤه عن الفرض، فقد وقع ذلك في بعض المواضع. كذا علّلوه(2).
ص: 19
وأدرك المشعر أجزاً عن حجّة الإسلام على تردّد.
-------------------------------------------------------------------
وفيه نظر ؛ فإنّ كون معظم الأفعال موافقة للوجه ليس دليلاً على إلحاق الباقي به، مع أنّه لا يتم في جميع الأنواع، كما سيأتي، وإجزاء بعض المندوبات عن الواجب في بعض المواضع لدليل لا يقتضي إلحاق غيره به، والحال أنه لا نص هنا على شيء، وإنّما وقع النصّ فيهما بعدم إجزاء ما حصل منهما من الحجّ عن حجّة الإسلام، لكن الفتوى بالإجزاء مشهورة، بل ادّعى العلّامة عليه في التذكرة الإجماع(1)، وفي القواعد جزم به(2)، وفي المنتهى توقف في حكمه (3)، وفي التحرير تنظّر(4). والمعتمد الإجزاء؛ تعويلاً على الإجماع المنقول، وعدم العلم بالمخالف على وجهِ يقدح فيه.
وقول المصنّف «فأدرك المشعر أجزأ» شامل لمن كمل قبل الوصول إلى المشعر وفيه إذا بقي منه جزء؛ لأن إدراكه يتحقّق به، كما سيأتي.
ولو كان الكمال بعد مفارقته لكن أمكنه الرجوع إليه وإدراك اضطرارية بنية الوجوب أمكن الإجزاء أيضاً مع فعله.
بقى في المسألة أُمور:
الأوّل: لا ريب على تقدير الإجزاء في وجوب نيّة الوجوب بباقي الأفعال بعد الكمال؛ لوجود المقتضي له، وكون ما مضى من الإحرام والتلبية والوقوف بعرفة - لو كان الكمال بعد مفارقتها - مجزئاً عن الواجب وإن وقع بنيّة الندب.
لكن قد ذكر جماعة (5) - منهم الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس (6) - أنهما يجدّدان نيّة
ص: 20
-------------------------------------------------------------------
الوجوب، فيمكن أن يريدوا به نيّة الوجوب لباقي الأفعال، كما ذكرناه أو للوقوف الذي قد حصل الكمال في أثنائه، والأمر فيهما واضح.
ويمكن أن يريدوا به تجديد نيّة الإحرام على وجه الوجوب؛ لأنه مستمرٌّ إلى أن يأتى بالمحلل، فتكون النيّة في أثنائه واجبةً لما بقي منه، كما لو كان في أثناء الوقوف، وأن يريدوا به نيّة باقي النسك جملة من حجّ أو عمرة - بناءً على وجوب نيّة الجملة - وهي النيّة التي تُذكَر عند الخروج، فإذا فات بعضها جدّد للباقي.
وفي وجوب التجديد بهذين المعنيين نظر، وإن كان الأوجه الوجوب في الأوّل والعدم في الثاني.
الثاني: أطلق القائلون بالإجزاء عن حجّة الإسلام ذلك من غير تعرّض لكونه مستطيعاً قبل ذلك للحجّ من حيث الزاد والراحلة وغيرهما أو غير مستطيع، فإن أرادوا ذلك الإطلاق فهو مشكل؛ لأنّ البلوغ والعقل أحد الشرائط الموجبة، كما أنّ الاستطاعة كذلك، فوجود أحدهما دون الآخر غير كافٍ في الوجوب.
وصرّح جماعة من المتأخّرين باشتراطها سابقاً ولاحقاً، وهو ظاهر اختيار الدروس(1)، وهو أقوى.
ولعلّ مراد المطلق ذلك، بمعنى أن حصول ذلك الشرط في الأثناء كافٍ بالنسبة إليه.
الثالث: هذا الحكم يتوجّه في القارن والمفرد حيث إنّ عمرتهما مؤخّرة فيقع بعد ذلك بنية الوجوب، أما في المتمتّع فيقوى الإشكال؛ لوقوع جميع العمرة مندوبة مضافةً إلى بعض الحجّ، فيبعد إجزاؤها عن الواجب مع عدم النصّ عليه خصوصاً على التعليل بأنّ معظم الأفعال بعد واقعة بنية الوجوب، فإنّ المتقدم منها - خصوصاً الأركان - أعظم وأكبر. والفتوى مطلقة، وكذلك الإجماع المنقول فينبغي استصحابهما في الجميع، ومالَ إليه
ص: 21
• ويصحّ إحرام الصبيّ المميّز وإن لم يجب عليه، ويصحّ أن يُحرم عن غير المميّز وليُّه ندباً، وكذا المجنون.
-------------------------------------------------------------------
في الدروس حيث قال: ويعتدّ بالعمرة المتقدمة لو كان الحجّ تمتّعاً في ظاهر الفتوى(1). وقوّى شارح ترددات الكتاب العدم (2).
قوله: «ويصحّ إحرام الصبيّ المميّز وإن لم يجب عليه - إلى قوله - وكذا المجنون».
لا إشكال في صحة إحرام الصبيّ المميّز من حيث هو مميّز وإن كانت الصحة متوقّفةً على أمرٍ آخر، كإذن الأبوين؛ لأنّ الحجّ المندوب متوقف على إذنهما على الأقوى.
وفي القواعد جَعَله موقوفاً على إذن الأب(3). وأطلق الشيخ (رحمه اللّه) عدم توقۀفه عليهما وإن كان مستحبّاً (4).
ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، ويختصّ الصغير باشتراط إذن الولي وإن لم يكن أباً.
وأمّا المجنون وغير المميّز فيُحرم عنهما الولي، لا بمعنى كونه نائباً عنهما، بل بأن يجعلهما مُحرمين، سواء كان محلّاً أم محرماً، فهو في الحقيقة محرم بهما لا عنهما، فيقول: اللّهم إنّي قد أُحرمت بابني هذا، إلى آخر النيّة.
ولو نوى «أُحرم به» إلى آخره صحّ.
ويكون المولى عليه حاضراً عنده ويأمره بالتلبية إن أحسنها، وإلا لبى عنه، ويُلبسه الثوبين، ويجنّبه تروك الإحرام، فإذا أراد الطواف فَعَل به صورة الوضوء ثمَّ طاف به ولو في حال طوافه إن لم يمكنه المشي، وكذا يأمره بإيقاع صورة الصلاة إن أمكن، وإلّا صلّى عنه وهكذا القول في جميع الأفعال.
ص: 22
والولىّ هو من له ولاية المال. •كالأب، والجد للأب، والوصيّ.
• وقيل: للأمّ ولاية الإحرام بالطفل.
• ونفقته الزائدة تلزم الولي دون الطفل.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «كالأب والجد للأب، والوصيّ».
ولو وكّلوا أحداً صح أن يتولّى ذلك، فإنّ ذلك فعل تدخله النيابة.
قوله: «وقيل: للأمّ ولاية الإحرام بالطفل».
هذا هو الأصحّ؛ لصحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيها: «إنّ لها أجره»(1).
قوله: «ونفقته الزائدة تلزم الولى دون الطفل».
المراد بها ما يغرمه زائداً على ما يغرمه لو كان حاضراً في بلده، كآلات السفر والمركب وغيرهما مما كان مستغنياً عنه في حضره، وإنّما يلزمه ذلك مع بقاء نفقة مأكله ونحوه على ما كان، أما لو نقصت في السفر نقصاناً يقابل الزائد من وجه آخر أو بعضه ففي غرامة المقابل نظر، أظهره مقابلة المجموع بالمجموع لا الأفراد الخاصة، فلا يغرم المقابل مطلقاً.
وكذا يغرم الوليّ كفارات الإحرام اللاحقة للصبي، اللازمة عمداً وسهواً، كالصيد، وهو منصوص(2).
أمّا اللازمة عمداً لا سهواً - كالطيب واللُبس - فإن فعله ناسياً فلا شيء، وعامداً وجهان مبنيّان على أن عمد الصبيّ عمد أو خطأ، فعلى الأوّل يجب على الولي، ولا شيء على الثاني، وقد نصوا على أنّ عمده في الجناية على الآدمي خطأ. وقوّى في التذكرة الثاني(3).
ويترتّب عليهما ما لو وطئ عمداً حيث يفسد به الحجّ، فعلى الثاني لا يجب القضاء بعد البلوغ، وعلى الأوّل يحتمله؛ لأنّه من أحكام العامد.
ص: 23
الثاني: الحُرّيّة، فلا يجب على المملوك. • ولو أذن له مولاه، ولو تكلّفه بإذنه صحّ حجّه، لكن لا يجزئه عن حجّة الإسلام. • فإن أدرك الوقوف بالمشعر مُعتَقاً أجزأه.
• ولو أفسد حجه ثمَّ أُعتق مضى في الفاسد، وعليه بدَنَة، وقضاه، وأجزأه عن حجّة الإسلام وإن اعتق بعد فوات الموقفين وجب القضاء، ولم يجزئ عن حجّة الإسلام.
-------------------------------------------------------------------
ويضعّف بأن إيجاب القضاء إنّما يتوجه إلى المكلّف، وهو منتفٍ.
قوله: «ولو أذن له مولاه».
بمعنى عدم وجوب تلبسه به مع إذنه، لكن لو تلبّس وجب كغيره من أفراد المندوب منه، وحينئذٍ فللسيّد الرجوع في الإذن قبل التلبس لا بعده، ولو لم يعلم العبد برجوعه قبل التلبّس حتّى فَعَله فالظاهر وجوب الاستمرار.
قوله: «فإن أدرك الوقوف بالمشعر معتقاً أجزأه».
إنّما جزم بالإجزاء هنا وتردّد في الصبيّ والمجنون؛ لوجود النص فيه(1)، دونهما.
والكلام في وجوب تجديد نيّة الوجوب وغيره من الأحكام السابقة آت هنا، غير أنّ اشتراط الاستطاعة السابقة هنا أقوى إشكالاً، خصوصاً على القول بإحالة ملكه.
وربما قيل بعدم اشتراطها سابقاً هنا بخلافهما.
نعم، يشترط وجودها للباقي قطعاً لمشاركته لهما في الحكم.
وقطع في الدروس باشتراطها فيه متقدّمةً ولاحقة(2). ولم يتعرض الأكثر لشيء.
قوله: «ولو أفسد حجه ثمَّ أُعتق مضى في الفاسد - إلى قوله - ولم يجزئ عن حجّة الإسلام».
لمّا كان الحجّ المأذون صحيحاً وإحرامه متعبداً به ترتّب عليه أحكامه، ومن جملتها
ص: 24
الثالث : الزاد والراحلة، • وهما يعتبران فيمن يفتقر إلى قطع المسافة،
-------------------------------------------------------------------
وجوب المضيّ فيه مع إفساده، وقضاؤه كالحُرّ. ويصحّ منه القضاء في حال رقّه، وليس للسيد منعه من القضاء؛ لأنّ إذنه في الحجّ إذن في مقتضاه، ومن جملته القضاء لما أفسده.
ولو أعتقه بعد التلبس به، فإن كان قبل الوقوف بالمشعر مضى فيه وقضاه وأجزأه عن حجّة الإسلام، سواء جعلنا إكمال الأُولى عقوبةً والثانية حجّة الإسلام، أم عكسنا.
أما الأوّل فظاهر؛ لوقوع حجّة الإسلام في حال الحُرّيّة التاّمة.
وأمّا الثاني: فلأن الحجّة لو صحت لأجزأت عن حجّة الإسلام، فكذا إذا أُفسدت
فأكملت وقضيت؛ لأن الفعلين قائمان مقامها.
ولو كان العتق بعد فوات الموقفين كان عليه إتمام الحجّة، ويلزمه القضاء وحجة الإسلام ويجب عليه البدأة بحجّة الإسلام، فلو قدم القضاء قيل: ينعقد بحجّة الإسلام؛ لأنّها أكد وكان القضاء في ذمّته(1).
والوجه عدم الإجزاء عن إحداهما. وإنّما يجب عليه حجّة الإسلام مع حصول الاستطاعة الشرعيّة، فلو لم تكن حاصلةٌ قدّم القضاء؛ إذ يكفي فيه الاستطاعة العاديّة.
قوله: «وهُما معتبران (2) فيمن يفتقر إلى قطع المسافة».
احترز بالمفتقر إلى قطع المسافة عن أهل مكّة وما قاربها ممن يمكنه السعي من غير راحلةٍ بحيث لا يشق عليه عادةً، فإنّ الراحلة حينئذٍ غير شرط.
ولو لم يتمكّن من المشي إلى مثل عرفة اعتبر في حقه وجود ما يندفع به حاجته،كالبعيد.
ولو أمكن البعيد المشي من غير مشقّة لم يجب.
وفي تحديد القُرب الموجب لذلك خفاء.
أما الزاد فيعتبر في الجميع، فمَنْ لم يجده لم يلزمه الحجّ.
ص: 25
• ولا تباع ثياب مَهْنَته. • ولا خادمه ولا دار سكناه للحجّ.
-------------------------------------------------------------------
ولا يشترط في الراحلة والآلات ملك العين، بل التمكن منها تملكاً أو استئجاراً.
قوله: «ولا تباع ثياب مهنته».
المهنة - بالفتح : الخِدمة، ونقل الجوهري عن الكسائي الكسر، وأنكره الأصمعي، ويقال: امتهَنْتُ الشيء : ابتذلته(1).
والمراد بثياب المهنة ما يبتذل منها غالباً.
وخرج بها ثياب التجمّل، فمقتضاه عدم استثنائها واستثنى الأكثر (2) الثياب مطلقاً.
والمراد بها ما يليق بعادته بحسب زمانه ومكانه،و شرفه فالزائد عن ذلك ولو في وصفه يباع، والناقص يستثنى قدر ثمنه.
وحُلىّ المرأة المعتاد لها بحسب حالها وزمانها ومكانها في حكم الثياب.
قوله: «ولا خادمه ولا دار سكناه».
هذا إذا كان من أهل الخدمة وكان الخادم صالحاً لأمثاله، فلو زاد في الوصف عن عادته وجب الاعتياض عنه بما دونه إن تحصلت من ذلك الاستطاعة، وكذا القول في دار السكني، وكذا يستثنى له فرس الركوب إن كان من أهلها ولا خلاف في استثناء هذه الأربعة، كما ذكره العلّامة في التذكرة (3)، وإن كانت النصوص غير مصرِّحة بها.
وألحق الأصحاب بها كتب علمه مع عدم الغنى عنها، فلو كان له بكتابٍ نسختان بِيع الزائد.
ولو لم تكن له هذه المستثنيات استثني له ثمنها.
وفي استثناء آلات الصنائع التي يضطر إليها وأمتعة المنزل نظر، أقربه العدم في الأوّل،
ص: 26
• والمراد بالزاد قدر الكفاية من القوت والمشروب ذهاباً وعوداً.
• وبالراحلة راحلة مثله.
-------------------------------------------------------------------
والثبوت فيما يضطر إليه من الثاني كالفراش ونحوه.
ولا يستثنى له غير ذلك من العقار وغيره وإن كان متخذاً للنفقة.
قوله: «والمراد بالزاد قدر الكفاية من القوت والمشروب ذهابا وعوداً».
المعتبر فيهما ما يليق بأمثاله بحسب حاله من رفعةٍ وغيرها.
ولا يشترط قدرته على عين الزاد مع وجود الباذل له في الطريق، بل يكفي القدرة عليه أو على ثمنه، ولو لم يوجد في الطريق اشترط القدرة على عينه وحمله.
وفي حكم القوت والمشروب الكسوة وآلات السفر وأوعيته المحتاج إليها.
ولا فرق في اعتبار العود بين من له أهل وملك في البلد وغيره عندنا، ولا فرق في الزاد بين ما يحتاج إليه لنفسه ودابّته.
ويظهر من التذكرة أنّه لا يجب حمل الماء والعلف من البلد ولا من أقرب البلدان إلى مكّة كأطراف الشام؛ لما فيه من عظم المشقة، وعدم جريان العادة به، وعدم إمكان حمل الماء للدوابّ في جميع الطريق، فإذا لم يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة لم يجب الحجّ، بخلاف الطعام(1).
ولو احتاج إلى خادم لزمنه أو رِفْعَته (2) تصحبه معه في السفر فمؤونته من الزاد والراحلة جزء من الاستطاعة.
قوله: «وبالراحلة راحلة مثله».
المعتبر في راحلة مثله حاله في القوة والضعف، لا في علوّ المنصب،والعادة فإن كان يستمسك على الراحلة من غير محملٍ، ولا يلحقه ضرر ولا مشقّة شديدة لم يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة.
ص: 27
• ويجب شراؤهما ولو كثر الثمن مع وجوده، وقيل: إن زاد عن ثمن المثل لم يجب، والأوّل أصحّ.
• ولو كان له دَيْنُ وهو قادر على اقتضائه وجب عليه. فإن منع منه وليس له سواه سقط الفرض.
ولو كان له مال وعليه دَيْنُ بقدره لم يجب إلا أن يفضل عن دَينه ما يقوم بالحجّ.
-------------------------------------------------------------------
ولو كان شيخاً أو ضعيفاً أو امرأة يحتاجون إلى المحمل اعتبر في حقّهم.
ولو وجد في المحمل مشقة عظيمة لا يتحمّل مثلها عادة اعتبرت الكنيسة.
ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.
قوله: «ويجب شراؤهما وإن كثر الثمن مع وجوده، وقيل: إن زاد عن ثمن المثل لم يجب».
القائل بذلك الشيخ (رَحمهُ اللّه) فلم يوجب الحجّ على من فقد عين الزاد والراحلة وما يلحق بهما من الآلات ومؤونة عياله، إلا إذا وجدها بثمن المثل بحسب الزمان والمكان(1).
والأصحّ الوجوب مطلقاً مع القدرة وقيده جماعة بعدم الإجحاف(2).
قوله: «ولو كان له دَيْن وهو قادر على اقتضائه وجب عليه».
تتحقّق القدرة عليه بإمكان تحصيله بنفسه لمن يعتاد ذلك، أو بغلامه ومن جرى مجراه.
ولو احتاج إلى إمداد الحاكم ووجد فهو مستطيع.
وكذا لو احتاج إلى إمداد حاكم الجور ونحوه وانتفى الضرر على أصحّ القولين.
قوله: «فإن مُنع منه وليس له سواه سقط الفرض».
المراد بسقوطه عدم تحققه على هذه الحالة إلى أن يقدر عليه، ويتحقّق المنع منه بإعسار المديون، أو العجز عن أخذه منه بأحد الوجوه المتقدمة.
ص: 28
• ولا يجب الاقتراض للحجّ إلا أن يكون له مال بقدر ما يحتاج إليه زيادةً عمّا استثنيناه.
• ولو كان معه قدر ما يحج به فنازعته نفسه إلى النكاح لم يَجُزْ صَرفه في النكاح وإن شق،تركه، وكان عليه الحجّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا يجب الاقتراض للحجّ إلا أن يكون له مال بقدر ما يحتاج إليه زيادة عمّا استثنيناه».
إذا كان له مال زائد عمّا استثني يمكن الحجّ به لم يتعيّن الاقتراض للحجّ، بل يتخيّر بينه وبين بذل ذلك المال فيه، فإطلاق وجوب الاقتراض على هذا الوجه غير جيّدٍ، بل إنّما يجب إذا لم يمكن الحجّ بدونه، كما لو كان ماله من جنس لا يمكن تحصيل الزاد والراحلة به واحتاج إلى اقتراض الجنس الذي يتأدّى به؛ لصدق التمكن بذلك المقتضي لكونه مستطيعاً.
ولو توقّف تحصيل القرض حينئذٍ على بذل زيادة بوجه شرعي وكانت مقدورةً وجب بذلها.
ويمكن أن يقال: إذا أمكن تأدّي الحجّ بالقرض وجب في الجملة، سواء كان الوجوب تخييرياً كما لو أمكن به وبغيره، أم عينيّاً كما إذا انحصر فيه، فإطلاق الوجوب في العبارة. المستفاد من الاستثناء الاستثناء صحيح على الحالين.
قوله «ولو كان معه قدر ما يحجّ به فنازعته نفسه إلى النكاح لم يجز صرّفه في النكاح وإن شق تركه».
قيّد ذلك جماعة من الأصحاب(1)، بما إذا لم يلزم من تركه ضرر شديد لا يتحمّل مثله في العادة، أو خشي حدوث مرض أو الوقوع في الزني وإلا قدّم النكاح ولا بأس به.
ص: 29
• ولو بُذل له زاد وراحلة ونفقة له ولعياله وجب عليه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو بُذل له زاد وراحلة ونفقة له ولعياله وجب عليه».
إطلاق الحكم يقتضي عدم الفرق بين ما لو وثق بالباذل وعدمه، وبين ما لو وجب البذل بنذرٍ وشبهه وعدمه، والنصوص(1) مطلقة أيضاً. والأقوى الوجوب مطلقاً عملاً بالإطلاق.
ولزوم تعليق الواجب بالجائز يندفع بأنّ الوجوب مشروط بالاستمرار، فلا يمتنع (2) تعليقه حينئذٍ، إنما يمتنع تعليق الواجب المطلق به، مع أنّ ذلك كلّه لا يقصر عما لو ذهب المال في أثناء الطريق، أو غصب، أو منع من المسير، ونحو ذلك، فإنّ الوجوب المحكوم به ظاهراً يسقط.
واشترط بعض الأصحاب تمليكه إيَّاه(3)، وآخرون وجوب بذله عليه(4)، والأجود عدم الاشتراط. نعم، يشترط بذل عين الزاد والراحلة، فلو بُذل له أثمانها لم يجب القبول.
وكذا لو نذر لمن يحج وأطلق ثم بذله لمعيّن، أو أوصى بمال لمن يحج ثم بذله كذلك؛ لأنّ ذلك يتوقّف على القبول، وهو شرط للواجب المشروط، فلا يجب تحصيله.
وإنّما يتوقّف الوجوب على بذل جميع ما ذكر إذا لم يملك المبذول له شيئاً زائداً على المستثنيات، وإلّا كفى فيه بذل ما يحصل به الكفاية مضافاً إلى ماله.
ولا يشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين أو ملك ما يوفيه به، بل يجب الحجّ وإن بقي الدَيْنِ.
نعم، لو بُذل له ما يكمل به الاستطاعة اشترط في ماله الوفاء بالدَين.
وكذا لو وهبه مالاً مطلقاً. ولو شرط عليه الحجّ به، فكالمبذول.
ص: 30
• ولو وهب له مال لم يجب قبوله.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو وُهب له مال لم يجب قبوله».
لأن قبول الهبة نوع من الاكتساب، وهو غير واجب للحجّ؛ لأن وجوبه مشروط بوجود الاستطاعة فلا يجب تحصيل شرطه بخلاف الواجب المطلق. ومن هنا ظهر الفرق بین البذل والهبة، فإنّ البذل يكفي فيه نفس الإيقاع في حصول القدرة والتمكّن، فيجب بمجرّده.
ويظهر من الدروس أنّ من حجّ في نفقة غيره أجزأه عن حجّة الإسلام بغير خلافٍ، بخلاف ما لو تسكّع(1). وفيه دلالة على الوجوب بمجرد البذل؛ لأن الإجزاء فرع الوجوب.
بقي في المسألة بحث، وهو أنه قد عُلم من عدم وجوب قبول الهبة ونحوها من أنواع الاكتسابات أن وجوب الحجّ مشروط، وتقدّم في المسائل السابقة وجوب تحصيل جملة من الشرائط كالزاد والراحلة والآلات عند وجود الثمن وتحصيل المعين للعاجز، ومثله الرحم للمرأة حيث يحتاج إليه، ووجوب ذلك لا يتمّ إلا إذا كان الوجوب مطلقاً ليجب تحصیل،شرطه، وظاهر ذلك التدافع.
ودفعه بأنّ موضوع الوجوبين متغاير، فمحلّ الأوّل نفس الشرط، أعنى الاستطاعة ونحوها، ومحلّ الثاني متعلّق الاستطاعة، وهو نفس الزاد والراحلة، وغاية ما يلزم أنّ الشيء الواحد قد يكون وجوبه مطلقاً من وجه مشروطاً من آخر، فالحجّ - مثلاً - بالنظر إلى الاستطاعة مشروط، فكلّ ما يكون داخلاً في مسمّاها لا يجب تحصيله، ولا يجب الحجّ إلا إذا حصل، وبعد حصولها مع باقي الشرائط يصير الوجوب مطلقاً، فيجب تحصيل ما يتوقّف عليه من الآلات والزاد والراحلة والاقتراض ونحوها.
ص: 31
• ولو استؤجر للمعونة على السفر، وشُرِط له الزاد والراحلة أو بعضه وكان بيده الباقي مع نفقة أهله وجب عليه، وأجزأه عن الفرض إذا حجّ عن نفسه.
ولو كان عاجزاً عن الحجّ فحج عن غيره لم يجزئه عن فرضه، وكان عليه الحجّ إن وجد الاستطاعة.
-------------------------------------------------------------------
وفرّق بعضهم بين الأمرين بأن شرط الواجب المشروط الذي لا يجب تحصيله هو الذي قرن به الأمر، أما غيره من الشروط الباقية فإنّ الأمر بالإضافة إليها مطلق(1).
وفيه نظر؛ لأنّ ذلك وإن تمَّ في الحجّ لا يتم في غيره من الواجبات المشروطة كالزكاة فإنّ وجوبها مشروط بوجود المال ولا يجب اكتسابه، مع أنّ هذا الشرط ليس مقترناً بالأمر. فإنّ الأوامر بها من الكتاب والسُنّة متظافرة، وليس فيها ذلك، بخلاف الأمر بالحج، وإنّما استفيد كون وجوب الزكاة مشروطاً من دليل خارج، وأبلغ ما فيها أنها مقترنة غالباً بالصلاة في الأمر مع أنّ وجوب الصلاة مطلق، ووجوب الزكاة مشروط.
والأُولى أن يراد بالواجب المشروط ما ثبت شرعاً توقف الحكم بوجوبه على الشرط، سواء اقترن معه في الأمر أم انفكّ عنه، وبالمطلق ما لا يتوقّف الحكم بوجوبه عليه وإن توقّف وجوده أو صحته على شرطٍ.
قوله: «ولو استؤجر للمعونة على السفر وشرط له الزاد والراحلة أو بعضه» إلى آخره.
إنّما يجب عليه الحجّ مع تحقّق الاستئجار بالإيجاب والقبول، فقبل ذلك لا يجب وإن أمكن؛ لأنّ قبول الإيجاب تحصيل للشرط وهو غير واجبٍ.
ثمَّ إذا وقع الاستئجار للمعونة وشُرط له في العقد الزاد والراحلة دائماً لا في وقتٍ مخصوصٍ كحال التعب، أو في وقتٍ، وكان الأجير مالكاً لما يحصل به بقية الشرط وجب عليه الحجّ، وأجزأه عن حجّة الإسلام؛ لتحقق الشرط وهو الاستطاعة، ولو كان الاستئجار لا على هذا الوجه لم يجب.
ص: 32
الرابع: • أن يكون له ما يموّن عياله حتى يرجع، فاضلاً عمّا يحتاج إليه، ولو قصر ماله عن ذلك لم يجب عليه.
-------------------------------------------------------------------
ويبقى في المسألة على تقدير الوجوب إشكال، وهو أنّ القصد إلى مكّة والمشاعر حينئذٍ يجب لأجل العمل المستأجر عليه، ووجوب الحجّ يقتضي إيقاعه عن نفسه وإنشاء السفر لأجله، وهما متنافيان فلا يجتمعان، لكن وجوبه للمعونة سابق على الاستطاعة فينبغي أن يقدّم السفر لها على الحجّ الواجب، كما لو نذر الحجّ في سنةٍ معينةٍ ثم استطاع بحجّة الإسلام.
وجوابه: منع أن السفر لحجة الإسلام يجب بمحض قصده لها، بل الواجب تحصيل السير الذي يتوقّف الحجّ عليه، سواء كان لأجله أم لأجل غيره أم لهما، ومن ثم جاز له قصد التجارة في حجّة الإسلام وإجارة نفسه للمعونة بعد وجوب الحجّ عليه وغيرهما من الأُمور الجائزة، ولم ينافِ الواجب إجماعاً.
والفرق بين وجوب السفر لغير الحجّ وبين نذر الحجّ في السنة المعيّنة واضح؛ فإنّ الواجب للإسلام إنّما هو الحجّ، وهو الأفعال المخصوصة في الزمان المخصوص، وإيقاعه لأجل حجّة الإسلام والنذر متنافٍ، بخلاف السفر لغيره ثم إيقاع الأفعال لأجله، فإنّ الغرض من السفر إنّما هو مجرّد انتقال البدن إلى تلك الأمكنة ليتحقّق الفعل فكيفما حصل الانتقال أجزأ، حتى لو تحققت الاستطاعة فانتقل ساهياً أو مجنوناً ونحو ذلك ثم أفاق وذكر عند الشروع في الأفعال صحّ الحجّ.
ونظير ذلك ما لو وجب على المكلف الطهارة، والماء في موضع بعيد، فمشى إليه بقصد آخر أو بقصدهما ثمَّ تطهّر فإنّه يمتثل الأمر.
وقد ظهر من ذلك أن نيّة الحجّ عند الشروع في السفر شرط لكماله وحصول الثواب به، لا واجبة بحيث يتوقّف عليها الصحة، أو يحصل الإثم بتركها.
ويظهر من ذلك فوائد أُخر يأتي بعضها إن شاء اللّه.
قوله: «أن يكون له ما يموّن عياله حتى يرجع فاضلاً عما يحتاج إليه».
ص: 33
ولو حجّ عنه من يطيق الحجّ لم يسقط عنه،فرضه، سواء كان واجد الزاد والراحلة أو فاقدهما.
• وكذا لو تكلّف الحجّ مع عدم الاستطاعة.
• ولا يجب على الولد بذل ماله لوالده في الحجّ.
-------------------------------------------------------------------
المعتبر مؤونة واجبي النفقة من العيال خاصةً، ويعتبر فيها الاقتصاد بحسب حالهم من غير إسراف ولا تقتيرٍ.
ولو احتاجوا إلى كسوةٍ اعتُبرت أيضاً، ولعلّها داخلة في المؤونة لغةً و إن لم تدخل عرفاً.
ولا يعتبر وجودها دفعة قبل السفر، بل لو حصلت إدراراً من عقار وغيره كفى.
قوله: «وكذا لو تكلّف الحجّ مع عدم الاستطاعة».
لا فرق بين حجّه كذلك ماشياً أو راكباً؛ لأنّ الحجّ على هذه الحالة غير واجب، فإذا حصل شرط الوجوب الذي هو كالوقت له وجب عليه الحجّ ثانياً، بخلاف ما لو تكلّفه من وجب عليه بالمشي وغيره فإنّه يجزئه.
قوله: «ولا يجب على الولد بذل ماله لوالده في الحجّ».
نبّه بذلك على خلاف الشيخ (رَحمهُ اللّه)، حيث أوجب على فاقد الاستطاعة أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحجّ به على الاقتصاد، وأفتى به في النهاية(1)، وجعله في المبسوط والخلاف من مرويات أصحابنا، وادّعى إجماعهم عليها(2).
والمستند صحيحة سعيد بن يسار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
وحُملت على الاقتراض منه لمن وجب عليه الحجّ، كما يقترض منه للنفقة، أو على
ص: 34
الخامس: إمكان المسير، وهو يشتمل على الصحة، و• تخلية السرب، والاستمساك على الراحلة، وسعة الوقت لقطع المسافة.
فلو كان مريضاً بحيث يتضرّر بالركوب لم يجب، ولا يسقط باعتبار المرض مع إمكان الركوب.
ولو منعه عدوٌّ، • أو كان معضوباً لا يستمسك على الراحلة، أو عدم المرافق مع اضطراره إليه سقط الفرض.
• وهل تجب الاستنابة مع المانع من مرض أو عدةٍ؟ قيل: نعم، وهو المرويّ، وقيل: لا.
-------------------------------------------------------------------
استحباب بذل الولد ماله للأب ليحج به، كما يستحبّ له إعفافه.
قوله: «تخلية السَرْب».
هو - بفتح السين المهملة والراء الساكنة - الطريق، والمراد عدم المانع من سلوك الطريق من لصّ وعدةٍ وغيرهما، والمرجع في ذلك إلى ما يعلمه أو يغلب على ظنّه بقرائن الأحوال.
قوله: «أو كان معضوباً لا يستمسك على الراحلة».
المعضوب الضعيف، سواء بلغ في الضعف أن لا يستمسك على الراحلة أم لا، وحينئذٍ فوصف الاستمساك على الراحلة في العبارة مخصص لا موضّح.
وإنّما يسقط عنه الحجّ مع عجزه عن الاستمساك عليها، وعجزه عن المحمل ونحوه، فلو أمكن وجب. ولو أمكنه الاستمساك لكن بمشقة عظيمة لا تتحمّل عادةً لم يجب.
ومثله مقطوع اليدين أو الرجلين والشيخ الكبير.
قوله: «وهل تجب الاستنابة مع المانع من مرضٍ أو عدوّ ؟ قيل: نعم، وهو المرويّ، وقيل : لا».
ص: 35
• فإن أحَجَّ نائباً واستمر المانع فلا قضاء، وإن زال وتمكّن وجب عليه ببدنه، ولو مات بعد الاستقرار ولم يؤدّ قُضِي عنه.
-------------------------------------------------------------------
القائل بذلك ابن إدريس(1)، وقواه في المختلف(2). والأصحّ الوجوب؛ لصحيحة محمد بن مسلم (3) وغيرها(4).
وموضع الخلاف ما إذا عرض المانع قبل استقرار الوجوب، أما لو استقرّ ثمَّ عرض المانع وجبت الاستنابة قولاً واحداً.
ولا فرق في ذلك كله بين العاجز لعدةٍ أو مرضٍ أو خلقة.
وإنّما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء، ومعه فالوجوب فوريٌ كأصل الحجّ. ولو لم يحصل اليأس لم تجب وإن استحبّت. ويظهر من الدروس وجوب الاستنابة على التقديرين وإن لم تجب الفوريّة مع عدم اليأس(5).
قوله: «فإن أحج نائباً واستمر المانع فلا قضاء - إلى قوله - ولم يؤد قضي عنه».
إذا حصل العذر المانع من الحجّ بنفسه، فإما أن يكون قد سبق استقرار الحجّ في ذمته أو لا، وعلى التقديرين فإما أن ييأس من البرء أو لا، وعلى التقديرات الأربعة فإمّا أن يستنيب للحجّ أو لا، وعلى التقديرات الثمانية إما أن يحصل له البرء قبل الموت بحيث يمكنه الحجّ بنفسه وإن كان على خلاف الغالب أو لا، فالصور ست عشرة، وحكمها مجملةً أنّه متى يئس من البرء وجبت الاستنابة سواء سبق الاستقرار أم لا، وقد تقدّم.
وإن لم يحصل اليأس جازت الاستنابة، ثمَّ إن برئ وأمكنه الحجّ بنفسه وجب، وإن استمرّ المانع أجزأ مع اليأس، ووجبت الاستنابة ثانياً لا معه؛ لعدم الوجوب سابقاً.
ص: 36
• ولو كان لا يستمسك خلقةً قيل: يسقط الفرض عن نفسه وماله، وقيل: تلزمه الاستنابة والأول أشبه.
• ولو احتاج في سفره إلى حركة عنيفة للالتحاق أو الفرار فضعف، سقط الوجوب في عامه، وتوقع المكنة في المستقبل، ولو مات قبل التمكن والحال هذه لم يُقْضَ
-------------------------------------------------------------------
ولو لم يستنب حتى مات وجب القضاء عنه، سواء اتفق برؤه أم لا، وهو المراد من قوله «ولو مات بعد الاستقرار» إلى آخره.
ويمكن أن يريد ما هو أعمّ منه وممن استناب ثمَّ برئ وتمكن من الحجّ بنفسه، فإنّ الوجوب يستقر على التقديرين.
قوله: «ولو كان لا يستمسك خلقةً، قيل: يسقط الفرض - إلى قوله - والأول أشبه».
الكلام في هذه المسألة كما سبق، بل يمكن ردّها إلى قوله «أو كان معضوباً لا يستمسك على الراحلة» فإنّه يشمل الخلقي وغيره، وإنّما أعادها لينبه على حكمها بالخصوص، فإنّ ظاهر النصوص (1) دالٌّ على حكم من عرض له العجز ؛ لأنه فرضه في شيخ كبير وفيمن عرض له مرض، فالعجز الأصلي أبعد عن الحكم؛ لإمكان حمل النصوص على ما لو سبق الوجوب على العجز، بخلاف العاجز الأصلي، فإنّه لا يتصوّر فيه سبق الاستقرار.
والأصحّ وجوب الاستنابة في الموضعين؛ لعدم العلم بالقائل بالفرق.
وفي بعض الروايات: سألته عن رجل مسلم حال بينه وبين الحجّ أمر يعذره اللّه فيه، فقال: «عليه أن يحج عنه من ماله»(2).
قوله: «ولو احتاج في سفره إلى حركة عنيفة للالتحاق أو الفرار فضعف، سقط الوجوب في عامه، وتوقّع المكنة».
لا خلاف في السقوط على تقدير الضعف عن الحركة، بل ولا مع القدرة عليه بمشقّةٍ
ص: 37
عنه. ويسقط فرض الحج؛ لعدم ما يضطر إليه من الآلات، كالقِرْبَة وأوعية الزاد.
-------------------------------------------------------------------
لا يتحمّل مثلها عادةً؛ لفقد شرط الوجوب وهو إمكان المسير ومقتضى ذلك أنه لو تكلّف وتحمّل المشقة فأدرك الحجّ لم يجزئه عن حجّة الإسلام مع القدرة.
وكذا المريض والمعضوب والممنوع بالعدوّ ؛ لأنّ فقد الشرط يستلزم عدم المشروط كما لو تكلّف الفقير.
وفرّق في الدروس بين هؤلاء وبين الفقير، فاجتزأ بالحجّ منهم على تقدير التكلّف دونه، فقال :
وعندي لو تكلّف المريض والمعضوب والممنوع بالعدوّ وتضيق الوقت أجزأ؛ لأن ذلك من باب تحصيل الشرط فإنّه لا يجب، ولو حصله وجب وأجزاً. نعم، لو أدّى ذلك إلى إضرار بالنفس يحرم إنزاله ولو قارن بعض المناسك احتمل عدم الإجزاء(1). انتهى.
وأشار بقوله «عندي» إلى أنّ الأصحاب لم يفرّقوا بين الشرائط، بل حكموا بأن من حجّ مع عدم استكمالها لا يجزئه، فيدخل فيه من تكلّف إمكان المسير.
وبقوله «لأنّ ذلك من باب تحصيل الشرط» إلى وجه إخراج هذا الشرط - وهو إمكان المسير - عن باقي الشرائط بأنه في معنى الزاد والراحلة؛ لتوقّف الوجوب عليها، ولا يجب تحصيلها، ولو حصلها وجب الحجّ.
وحمل كلام الأصحاب على أحد أمرين: إمّا أنّه لا يجب تحصيل هذه الشرائط، وإمّا على ما يؤدي تحصيلها إلى ارتكاب منهي عنه مضاد للمأمور به، كما أشار إليه بقوله «وقارن بعض المناسك». وإنما جعل الثاني احتمالاً؛ لإمكان أن يقال بالإجزاء مع ذلك أيضاً، بناءً على ان النهي. هنا عن وصف خارجٍ عن النسك، فلم يتحد متعلّق الأمر والنهي، وقواه في بعض تحقيقاته(2).
ص: 38
• ولو كان له طريقان فمنع من إحداهما سلك الأخرى، سواء كانت أبعد أو أقرب.
• ولو كان في الطريق عدو لا يندفع إلا بمال، قيل: يسقط وإن قلّ. ولو قيل: يجب التحمّل مع المكنة كان حسناً ولو بذل له باذل وجب عليه الحجّ؛ لزوال المانع.
• نعم، لو قال له: اقبل وادفع أنت، لم يجب.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو كان له طريقان فمنع من إحداهما سلك الأخرى، سواء كانت أبعد أو أقرب».
إنّما يجب سلوك الأبعد مع وفاء استطاعته بمؤونتها، أما لو وفى بالأقرب خاصّةً توقف الوجوب على إمكانها.
قوله: «ولو كان في الطريق عدو لا يندفع إلا بمال - إلى قوله كان حسناً».
قيل: محل الخلاف ما إذا لم يكن قد أحرم، وإلا وجب البذل قطعاً(1).
وفيه نظر؛ لأنّ الخلاف آتٍ فيهما، وسيأتي نقل المصنّف للآخر في باب الصدّ(2).
ووجه السقوط هنا فقد الشرط وهو تخلية السرب، وشرط الوجوب لا يجب تحصيله؛ ولأنّه ظلم لا ينبغي الإعانة عليه، ولأنه لو خاف من أخذ المال منه قهراً سقط وإن قلّ المال عند الجميع، وهذا في معناه.
والأُولى الوجوب مع الإمكان؛ لتحقّق الاستطاعة.
وربما يفرّق بين بذل المال بالاختيار وأخذه قهراً، فإنّ الثواب يتحقّق في الأوّل والعوض في الثاني. وقيده جماعة بعدم الإجحاف(3).
قوله: «نعم، لو قال له: اقْبَل وادفع أنت لم يجب».
المراد أنّه لم يكن مالكاً ما يكفى لما يحتاج إليه مع هذا المال. ويجوز تنزيله على القول بعدم وجوب الحجّ للقادر على دفع المال.
ص: 39
• وطريق البحر كطريق البرّ، فإن غلب ظنّ السلامة، وإلّا سقط.
ولو أمكن الوصول بالبر والبحر، فإن تساويا فى غلبة السلامة كان مخيّراً. وإن اختصّ أحدهما تعيّن، ولو تساويا في رجحان العطب سقط الفرض.
• ومن مات بعد الإحرام ودخول الحرم برئت ذمته. وقيل: يجتزأ بالإحرام، والأوّل أظهر.
وإن كان قبل ذلك قضيت عنه إن كانت مستقرّةً، وسقطت إن لم تكن كذلك.
-------------------------------------------------------------------
والفرق بين قبوله له وبذله عنه أنّ الأوّل تحصيل للاستطاعة؛ إذ لا يملك إلا بالقبول وهو غير واجب، بخلاف المبذول عنه.
قوله: «وطريق البحر كطريق البرّ فإن غلب ظنّ السلامة، وإلا سقط».
يعتبر في طريق البحر السلامة من العدو ونحوه كالبرّ، ومنه بأن لا يخاف الغرق من الهيجان ونحوه بسبب القرائن الدالّة عليه. ولو اشتبه الحال وجب كالبرّ.
وإنّما يسقط الحجّ إذا كان الخوف في ابتداء السير، أو في أثنائه والرجوع ليس بمخيفٍ، أمّا لو تساويا مع المقام في الخوف احتُمل ترجيح الذهاب؛ لحصول المرجح فيه بالحج، وسقوط الحجّ، كما لو حصل ابتداء؛ لفقد الشرط.
ويُفهم من قوله «فإن غلب ظنّ السلامة وإلا سقط» أنّ الوجوب مشروط بظنّ السلامة، بل بغلبته، فلا يجب مع اشتباه الحال.
والأقوى عدم اشتراط ذلك بل الشرط عدم ترجيح العطب، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر النصّ(1) و فتوى الأصحاب.
قوله: «ومن مات بعد الإحرام ودخول الحرم برئت ذمته. وقيل: يجتزاً بالإحرام، والأوّل أظهر».
إذا مات الحاجّ قبل إكمال حجه فإما أن يكون خروجه في عام الاستطاعة أو بعد
ص: 40
• ويستقر الحجّ في الذمة إذا استكملت الشرائط فأهمل.
-------------------------------------------------------------------
استقرار الحجّ في ذمّته. فإن كان الأوّل برئت ذمته من الحجّ ولم يجب قضاؤه، سواء مات قبل التلبّس أم بعده وسواء كان تمكنه قبل ذلك الإحرام ودخول الحرم فلم يفعل أم لا.
وإن كان الثاني فإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم لم يجزئه، ووجب قضاؤه عنه من موضع الموت وإن قلنا بوجوب القضاء من البلد في غير هذه الصورة؛ لحصول المقدّمة التي وقع الخلاف في فعلها مضافةً إلى الحجّ.
ولو كان بعد الإحرام وقبل دخول الحرم لم يجزئه أيضاً، لكن يستأجر عنه من الميقات لا من موضع الموت، إلّا أن يتعذّر العود فمن حيث يمكن، وإن كان موته بعد الإحرام ودخول الحرم أجزأه، ولا تجب الاستنابة في إكماله، سواء كان الموت في إحرام العمرة أم الحجّ وسواء مات في الحرم أم الحلّ مُحْرماً أم مُحلّاً، كما لو مات بين الإحرامين، ولا يكفي مجرّد الإحرام على الأقوى.
قوله: «ويستقر الحجّ في الذمة إذا استكملت الشرائط فأهمل».
لا بدّ من تقييد الإهمال بكونه واقعاً في جميع المدة التي يمكن فيها استيفاء جميع أفعال الحجّ بأقلّ الواجب فلم يفعل.
واحترزنا بجميع الأفعال من مضيّ زمان يمكن فيه البعض كالإحرام ودخول الحرم، فإنّه غير كافٍ، وإن كان مع إدراكه يجزئ.
وظاهر الأكثر اعتبار مضيّ جميع الأفعال وإن لم يكن ركناً، كالمبيت بمنى والرمي.
ويمكن اعتبار زمان يمكن فيه تأدي الأركان خاصةً، وهو مضيّ جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان والسعي واختاره في التذكرة والمهذّب(1).
ولو قلنا باستحباب أفعال منى المتأخّرة لم يعتبر قطعاً.
إذا تقرّر ذلك فنقول: إذا أهمل من وجب عليه الحجّ إلى أن مضى ذلك الزمان فمات استقرّ في ذمّته وقضي عنه وجوباً، ولو مات قبل ذلك لم يجب.
ص: 41
• والكافر يجب عليه الحجّ ولا يصح منه، فلو أحرم ثم أسلم أعاد الإحرام، وإذا لم يتمكّن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه.
-------------------------------------------------------------------
وكذا يستقر لو بقي حيّاً جامعاً للشرائط إلى رجوع القافلة.
ولو ذهب ماله قبل إمكان الرجوع ففي استقراره عليه نظر؛ من فوات شرط الاستطاعة التي هي الزاد والراحلة ذهاباً وعوداً، ومن إمكان بقاء المال لو سافر، ولا فرق على التقديرين بين كون ذهابه قبل مضي زمان أفعال الحجّ وبعده.
وقطع في التذكرة بعدم الاستقرار؛ محتجاً بأن نفقة الرجوع لا بد منها في الشرائط(1).
ويمكن أن يتخرّج على الوجهين ما لو وهب ماله في تلك المدة؛ لفوات شرط الوجوب، و من كونه باختياره.
ولا ريب في حصول الإثم بالتأخّر عن السفر على هذه التقادير، وإنما الكلام في الاستقرار، ولكن ظاهر هم هنا عدم السقوط بخلاف ما لو وهبه قبل أوان الخروج.
والوجهان آتيان أيضاً فيما لو مرض مرضاً لا يستمسك معه على الراحلة، أو يشقّ السفر مشقّةً لا تتحمّل عادةً.
ولو أحصر الركب الذي كان يمكنه الخروج معه فتحلل لم يستقر الفرض عليه، ولو سلكوا طريقاً آخر بعد ذلك وحجوا استقرّ عليه.
قوله: «والكافر يجب عليه الحجّ ولا يصحّ منه».
نبّه بذلك على خلاف أبي حنيفة حيث زعم أن الكافر غير مخاطب بفروع الإسلام، فلا يعذب عليها يوم القيامة، بل يعذب على الكفر خاصّة (2).
لنا: قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ»(3). والكفر لا يصلح للمانعيّة، كما لا يمنع من الخطاب بالإسلام وهو مقدور له وقد حكى اللّه تعالى عن الكافرين تعليل عذابهم
ص: 42
• ولو أحرم بالحجّ وأدرك الوقوف بالمشعر لم يُجزئه، إلا أن يستأنف إحراماً.
• وإن ضاق الوقت أحرم ولو بعرفات.
• ولو حجّ المسلم ثمَّ ارتد لم يُعِد على الأصح. ولو لم يكن مستطيعاً فصار كذلك في حال ردّته وجب عليه الحجّ، وصحّ منه إذا تاب.
-------------------------------------------------------------------
بترك فروع الإسلام حيث قالوا: «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ»(1).
وقد ظهر من جملة الكلام أنّ الشرائط على أربعة أنحاء: ما هو شرط في الوجوب، وهو ما عدا الإسلام، وما هو شرط في الصحة خاصّةً، وهو الإسلام، وما هو شرط في المباشرة، وهو الإسلام والتمييز، وما هو شرط في الإجزاء، وهو ما عدا الخامس من الشرائط السابقة عند الشهيد (رحمه اللّه)(2) كما مرّ تحقيقه، وهذا القسم ساقط عند باقي الأصحاب؛ لأنّ كلّ ما هو شرط في الوجوب والصحة شرط فى الإجزاء عندهم، فالقسمة ثلاثيّة.
قوله: «ولو أحرم بالحجّ وأدرك الوقوف بالمشعر لم يجزئه، إلا أن يستأنف إحراماً».
لأنّ إحرام الكافر لا يصحّ كباقي عباداته، فلا بد من تجديده، ويغتفر له ما مضى من الأفعال.
قوله: «وإن ضاق الوقت أحرم ولو بعرفات».
أي أحرم بالحجّ. ثمّ إن كان حجّه قراناً أو إفراداً فلا إشكال، ويعتمر بعده.
وإن كان فرضه التمتّع وقد قدّم عمرته نوى حجّ الإفراد ويكون هذا من مواضع الضرورة المسوغة للعدول من التمتّع إلى قسيميه. وكان حقّ العبارة أن يقول: «أحرم ولو بالمشعر»؛ لأنّه أبعد ما يمكن فرض الإحرام منه فيحسن دخول «لو» عليه، بخلاف عرفة وإن كان الإحرام منها جائزاً أيضاً بل أولى به.
قوله: «ولو حجّ المسلم ثمَّ ارتدّ لم يُعِد على الأصحّ».
أي لم يجب عليه إعادة الحجّ على أصح القولين، وإن كان الأُولى له الإعادة.
ص: 43
• ولو أحرم مسلماً ثمَّ ارتد ثم تاب لم يبطل إحرامه على الأصحّ.
• والمخالف إذا استبصر لا يعيد الحجّ، إلا أن يخل بركنٍ منه.
-------------------------------------------------------------------
ونبّه بذلك على خلاف الشيخ، حيث أوجب عليه الإعادة؛ محتجاً بآية الإحباط لمن كفر بعد الإيمان (1)، وبأن المسلم لا يكفر (2).
وجوابه: أنّ الإحباط مشروط بالموافاة على الكفر، كما أن الثواب على الإيمان مشروط بالموافاة عليه، وقد قال اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا»(3). فأثبت لهم كفراً بعد إيمان. وروي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مَنْ كان مؤمناً فحجّ، ثمَّ أصابه فتنة فكفر، ثم تاب يحسب له كلّ عملِ صالح عمله، ولا يبطل منه شيء»(4).
قوله: «ولو أحرم مسلماً ثمَّ ارتد ثمَّ تاب لم يبطل إحرامه على الأصحّ».
الخلاف في هذه المسألة كالسابقة، فإنّ من مَنَع من كفر المسلم يلزمه بطلان الإحرام هنا؛ لتبيّن وقوعه في حالة الكفر. والأصحّ عدم بطلانه، بل يبني على ما مضى منه؛ لعدم الدليل المقتضى للإبطال.
وأيضاً لو تمَّ ما ذكر لزم عدم إعادة المرتدّ ما وقع من العبادات حال ردّته إذا أسلم؛ لأنّه تبيّن بارتداده أنه كافر أصلي، وهو خلاف الإجماع.
وقد استُفيد من ذلك أنّ الاستدامة الحكميّة ليست معتبرةً في صحّة الإحرام.
قوله: «والمخالف إذا استبصر لا يعيد الحجّ، إلا أن يخلّ بركنٍ منه».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، والروايات به متظافرة(5)، وهي حجّة على من خالف،
ص: 44
-------------------------------------------------------------------
كابن الجنيد وابن البراج، حيث أوجبا عليه الإعادة وإن لم يخل بشيء(1)؛ بناء على أنّ الإيمان شرط العبادة ولم يحصل، وبأخبار أخرى (2) تدلّ على الإعادة.
ويمكن حمل أخبارهم على الاستحباب؛ جمعاً.
وإطلاق المخالف يقتضي عدم الفرق بين من حكم بكفره كالناصب، وغيره، وقد ورد في بعض الأخبار التصريح بالناصب(3).
ويظهر من المختلف أنّ الكافر منهم يجب عليه الإعادة؛ لأنه حمل الخبر الدالّ عليها على الناصب(4).
و تقييد الصحّة بعدم الإخلال بركن ليس موجوداً في النصوص، وإنما هو من كلام الجماعة.
وفسّره بعض المتأخّرين (5) بما هو ركن عندنا لا عندهم، وأطلق الأكثر.
ومبنى ذلك على أنّ عدم وجوب الإعادة عليه هل هو لكونه صحيحاً في نفس الأمر؛ الحصول الشرط وهو الإسلام والإيمان ليس بشرط، أو عدم الإعادة رخصة وتخفيف عنه بالإيمان، كما خُفّف عن الكافر قضاء العبادة التي تركها حال كفره؟ ظاهر الشهيد في الدروس والعلّامة في المختلف الأوّل (6).
وعلى هذا فيحسن تقييد الركن بما هو عندنا، والمخالف بكونه غير كافر؛ ليمكن الحكم بالصحّة في الواقع.
وظاهر النصوص وأكثر الفتاوى لا يدلّ إلا على عدم الإعادة، وهي أعمّ من الصحّة.
ص: 45
-------------------------------------------------------------------
وفي بعض الأخبار تصريح بأن ذلك تخفيف واستتباع للإيمان(1)، وأنّ الحالة التي كان عليها أعظم ممّا فعله على غير وجهه، وقد قبل منه الإيمان وعفى له عما سلف وحينئذٍ فلا يدلّ على أنّ الإيمان ليس بشرط. وهذا هو الظاهر؛ لأنّ الإيمان مناط الثواب عندنا، ووقوع العبادة صحيحةً يستلزم الثواب، فلا يمكن الجمع بين حصوله وعدم استحقاق الجنّة.
وكونُ العبادة - بعد الفراغ منها والعلم بالحال - موقوفةً على أمرٍ آخر غير معهودٍ في غير الإحباط مع الكفر، وهو غير المفروض.
وينبّه عليه حكمهم بعدم إعادة الصلاة أيضاً وغيرها من العبادات - غير الزكاة - مع إيقاعها صحيحةً عندهم لا عندنا، فبين القيدين تخالف.
ويدلّ على صحة هذا الاعتبار دون ما ذكروه هنا أن الصلاة عندهم لا تكاد تتمّ صحيحةً عندنا بوجه؛ لاختلاف الحكم جداً في الشرائط والأفعال، وأيضاً فإن ذلك هو المناسب للعفو عمّا تركه الكافر، فإنّ الكافر لا يعتقد الجرأة على اللّه تعالى بالترك، وكذلك المسلم إذا فَعَل ما هو صحيح عنده، وأمّا إذا فَعَل ما هو صحيح عندنا خاصةً فيحتمل إلحاقه به لمطابقته للواقع، وعدمه وعدمه لأنّه كتركه للعبادة بزعمه فيجب عليه قضاؤه.
وقد تبيّن بذلك أنّ في المسألة ثلاثة أوجُه: شرطيّة الإيمان في العبادة ووجوب الإعادة، وعدمهما، وشرطيّته مع عدم وجوب الإعادة.
وعلى تقدير عدم الإعادة مع عدم الإخلال إن وافق فعله للنوع الواجب عليه عندنا كالتمتّع وقسيميه فظاهر.
وإن خالف - كما لو حجّ مَنْ فرضه التمتّع إفراداً - فالظاهر عدم الإعادة أيضاً لعدم الإخلال بالركن، وإتيانه بحجّ صحيح عنده، مع احتمال الإعادة؛ لأن النوع أقوى من الركن في الحجّ، لأن الركن لا يبطل الحجّ بتركه سهواً غالباً.
ص: 46
• وهل الرجوع إلى كفاية من صناعة أو مالٍ أو حرفةٍ شرط في وجوب الحجّ؟ قيل: نعم؛ لرواية أبي الربيع، وقيل: لا؛ عملاً بعموم الآية، وهو الأولى.
وإذا اجتمعت الشرائط فحجّ متسكعاً، أو حجّ ماشياً، أو حجّ في نفقة غيره أجزأه عن الفرض.
-------------------------------------------------------------------
ولو حجّ قراناً على ما فسرناه فكذلك.
وأما على تفسيرهم من أن المراد به أن يُقرن بين الحجّ والعمرة في إحرام واحدٍ فتجب الإعادة؛ لا لإخلاله بالركن، بل لإتيانه بحج باطل عندنا مع احتمال الصحة على ما سبق من اعتبار الصحيح عندهم خاصةً، كما ذكروه في الصلاة.
قوله: «وهل الرجوع إلى كفايةٍ من صناعةٍ أو مالٍ أو حرفةٍ شرط في وجوب الحجّ؟» إلى آخره.
اعلم أنّ الاستطاعة فيمن يفتقر إلى قطع المسافة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: الاستطاعة إلى الذهاب إلى الحجّ مستمرّة إلى أن يفرغ من أفعاله، وهي شرط بإجماع المسلمين.
الثاني: استمرارها إلى أن يرجع إلى وطنه، وهي شرط بإجماع الإمامية، وللعامة في ذلك اختلاف.
الثالث: الرجوع مع ذلك إلى كفاية، وهو المبحوث عنه هنا. ومذهب أكثر المتقدّمين وادعى عليه الشيخ الإجماع(1)، ونقله المرتضى عن الأكثر (2) - اعتبار الرجوع إلى كفاية : عملاً بأصالة البراءة، وبرواية أبي الربيع الشامي عن الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والأصحّ عدم اعتبارها، وهو المشهور بين المتأخّرين؛ لتحقق الاستطاعة التي هي
ص: 47
• ومن وجب عليه الحجّ فالمشي أفضل له من الركوب إذا لم يضعف ومع الضعف الركوب أفضل.
-------------------------------------------------------------------
الشرط في الآية (1) والأخبار (2)، والرواية لا دلالة فيها على مطلوبهم، بل ظاهرها اعتبار المؤونة ذاهباً وعائداً ومؤونة عياله كذلك.
إذا تقرّر ذلك فنقول: ما المراد بالكفاية عند القائل به؟ ليس في كلامهم تصريح بشيءٍ، فيمكن أن يكون مؤونة السنة قوّةً أو فعلاً؛ لأنّها الكفاية والغنى الشرعيّان، ويمكن اعتبار ما فيه الكفاية عادةً بحيث لا يحوجه صَرف المال في الحجّ إلى سؤال الناس، كما يشعر به رواية أبي الربيع.
والمراد بالصناعة في قول المصنّف «من صناعة أو حرفةٍ» الملكة التي يقتدر بها على أفعال لا تحصل بدون التمرن عليها واستفادتها من مرشدٍ غالباً، كالخياطة، وبالحرفة ما يكتسب به ممّا لا يفتقر إلى ذلك، كالحطب والحشيش والكنس.
قوله: «ومن وجب عليه الحجّ فالمشي أفضل له من الركوب إذا لم يضعف».
قد اختلف الأصحاب وغيرهم في أفضلية المشي على الركوب في الحجّ وعكسه، فذهب الأكثر إلى أنّ المشي أفضل؛ لما روي من أن الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) حجّ عشرين حجّة ماشياً على قدميه (3)، وهو أعلم بسنّة جده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، والقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ما عُبد اللّه بشيءٍ أشدّ من المشي ولا أفضل»(4).
واحتج من ذهب إلى أفضلية الركوب بحجّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) راكباً(5)، وقد روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً أنه قال: «الركوب أفضل من المشي لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ركب»(6).
ص: 48
الأولى: • إذا استقر الحجّ في ذمته ثم مات قضى عنه من أصل تركته. فإن كان عليه دَيْنٌ وضاقت التركة قُسّمت على الدين وأجرة المثل بالحِصص.
-------------------------------------------------------------------
والأقوى التفصيل الجامع بين النصوص، وهو أنّ المشي أفضل لمن لا يضعفه عن أداء الفرائض كاملةً والوظائف الشرعيّة من الدعاء والقراءة و الخشوع، فإن ضعف عن شيء من ذلك فالركوب أفضل.
ويؤيده ما روي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال حين سئل : أي شيء أحب إليك نمشي أو نركب؟ فقال: «تركبون أحبّ إِلَيَّ، فإنّ ذلك أقوى على الدعاء والعبادة»(1).
وفصّل بعض الأفاضل من وجه آخر فقال: إن كان الحامل له على المشي كسر النفس ومشقة العبادة فهو أفضل، وإن كان الحامل عليه توفير المال فالركوب أفضل؛ لأنّ رفع الشح عن النفس من أفضل الطاعات(2). وقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أيّ داء أدوى من البخل»(3)، وروي أنّه جامع لمساوئ العيوب(4)، فدفعه أولى من العبادة بالمشي.
وهو حسن أيضاً، وأراد المصنّف بقوله «إذا لم يضعف» عن العبادة، وهو التفصيل الأوّل وإن كان مطلق الضعف أعمّ.
ولا فرق في أفضليّة المشي وغيره بين حجّة الإسلام وغيرها وإن كانت العبارة تشعر باختصاص الحكم بها.
قوله: «إذا استقر الحجّ في ذمته ثم مات قضي - إلى قوله - على أُجرة المثل بالحصص».
لا فرق في وجوب قضائه من أصل تركته بين أن يوصي به أو لا عندنا، فأُجرة المثل له
ص: 49
الثانية : • يُقضى الحجّ من أقرب الأماكن، وقيل: يُستأجر من بلد الميت، وقيل: إن اتّسع المال فمن بلده، وإلّا فمن حيث يمكن، والأوّل أشبه.
-------------------------------------------------------------------
بمنزلة الدَين، فمع اجتماعهما وقصور التركة عنهما يوزّع عليهما.
ثم إن قامت حصّة الحجّ من التوزيع أو من جميع التركة - على تقدير عدم الدين - بأُجرة الحجّ ولو بأقل ما يمكن تحصيله بها فواضح.
ولو قصرت عن الحجّ والعمرة من أقرب المواقيت ووسعت لأحدهما فالظاهر وجوبه بخلاف ما لو وسع لباقي الأفعال.
ولو تعارضا احتمل تقديم الحجّ.
ولو قصر عن جميع ذلك صُرفت حصة الحجّ في الدين إن كان معه، وإلّا عاد ميراثاً.
قوله: «يقضى الحجّ من أقرب الأماكن، وقيل: يستأجر من بلد الميت -إلى قوله - والأوّل أشبه».
الأصحّ قضاؤه من أقرب الأماكن مطلقاً، والمراد به الميقات إن أمكن الاستئجار منه، وإلا فأقرب ما يمكن منه إليه، وقد تقدم ما يدل عليه(1).
هذا إذا لم يوص به من البلد، أو بقدر يسعه من البلد، وتدل القرائن الحاليّة والمقاليّة على إرادته.
وكذا القول فيما لو أوصى بحجّ غير حجّة الإسلام.
وحيث يجب زيادة على الميقات لو قضي منه أجزاً، لكن يأثم الوارث لو منع الزائد.
قال في الدروس : ويملك المال الفاضل، ولا يجب صرفه في نسك أو بعضه أو في وجوه البرّ (2).
واعلم أنّ المشهور في كتب الأصحاب - حتّى في كتب المصنّف غير هذا الكتاب (3) - أن
ص: 50
الثالثة: • من وجب عليه حجّة الإسلام لا يحج عن غيره، لا فرضاً ولا تطوّعاً، وكذا من وجب عليه بنذرٍ أو إفساد.
الرابعة: • لا يشترط وجود المحرم في النساء، بل يكفى غلبة ظنّها بالسلامة ولا يصحّ حجها تطوّعاً إلا بإذن زوجها.
-------------------------------------------------------------------
في المسألة قولين، أحدهما الوجوب من الميقات مطلقاً، والثاني من بلده، ومراد صاحب هذا القول أنّ ذلك مع سعة المال، وإلا فمن حيث يمكن، وهنا جَعَل الأقوال ثلاثة.
ولا يتحقّق الفرق بين القولين الأخيرين إلا على تقدير القول بسقوط الحجّ مع عدم سعة المال من البلد عند القائل بالثاني، ولم يقل به أحد.
قوله: «من وجب عليه حجّة الإسلام لا يحج عن غيره - إلى قوله - بنذر أو إفساد».
أمّا التطوّع فظاهر؛ لأنّ قدرته عليه تستلزم قدرته على الواجب، فيقدّم المضيّق.
وأمّا حجّه عن غيره فكذلك مع قدرته على الحجّ عن نفسه ولو بمشقة، أمّا مع عجزه وضيق الوقت بحيث لا يمكنه تحصيل المقدّمات عادةً فيجوز له إيجار نفسه للحجّ عن غيره؛ لعدم الفائدة بالتأخير، بل قد يجب ذلك إذا أدّى إلى التكسّب للحجّ عن نفسه.
قوله: «لا يشترط وجود المحرم في النساء، بل يكفي غلبة ظنّها بالسلامة».
بل المعتبر عدم الخوف على البُضع أو العرض بتركه، ومعه يشترط سفره معها في الوجوب عليها. ولا يجب عليه إجابتها إليه تبرعاً ولا بأجرةٍ، وله طلب الأُجرة والنفقة، فتكونان حينئذٍ جزءاً من استطاعتها.
ولو ادّعى الزوج الخوف عليها أو كونها غير مأمونةٍ عمل بالبينة، ثمَّ بشاهد الحال، فإن انتفيا قدّم قولها.
وهل يعتبر اليمين؟ نظر، من أنّها لو اعترفت نفعه. وقرّب في الدروس عدم اليمين عليها(1).
ص: 51
• ولها ذلك في الواجب كيف كان، وكذا لو كانت في عدّةٍ رجعيّةٍ، وفي البائنة لها المبادرة من دون إذنه.
وشرائطها اثنان:
الأوّل: كمال العقل، فلا ينعقد نذر الصبي، ولا المجنون.
الثاني: الحُرّيّة،. فلا يصح نذر العبد إلا بإذن مولاه، ولو أذن له في النذر فنذر وجب، وجاز له المبادرة ولو نهاه وكذا الحكم في ذات البعل.
-------------------------------------------------------------------
والظاهر أنّ له حينئذٍ منعها باطناً ؛ لأنه محق عند نفسه.
والمراد بالمحرم الزوج ومن يحرم عليه نكاحها مؤبداً بنسبٍ أو رضاعٍ أو مصاهرةٍ.
فعبدها وزوج الأخت وزوج الأم التي لم يدخل بها ليسوا بمحارم.
وفي اشتراط إسلامه نظر، أقر به العدم إن لم يستحل نكاح المحرم كالمجوسي.
قوله: «ولها ذلك في الواجب كيف كان».
إن كان حجّ الإسلام أو النذر المقيد بسنةٍ معينةٍ، أما المنذور مطلقاً ففي جواز منعه منه إلى وقت التضيق قولان ومقتضى العبارة،عدمه، وهو الظاهر.
قوله: «فلا يصح نذر العبد إلا بإذن مولاه، ولو أذن له في النذر فنذر وجب، وجاز له المبادرة ولو نهاه. وكذا الحكم في ذات البعل».
وكذا الحكم في الولد والمعتبر إذن الوليّ قبل النذر، فلا عبرة بإجازته له بعده، ولا بزوال ولايته بعده قبل الإبطال على الأقوى.
وكذا القول في العهد واليمين.
ولا فرق في الزوجة بين الدائم والمستمتّع بها.
ص: 52
مسائل ثلاث :
الأولى: • إذا نذر الحجّ مطلقاً فمنعه مانع أخّره حتى يزول المانع.. ولو تمكّن من أدائه ثم مات قُضي عنه من أصل تركته، ولا يُقضى عنه قبل التمكن. • فإن
عين الوقت فأخلّ مع القدرة قُضى عنه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا نذر الحجّ مطلقاً فمنعه مانع أخره حتى يزول المانع».
لا خلاف في جواز تأخير المطلق إلى أن يظنّ الوفاة، سواء حصل مانع أم لا. نعم، يستحب المبادرة به مع عدم المانع، فتقييد المصنّف التأخير بالمانع إما في مقابلة استحباب المبادرة، أو لدفع توهّم بطلان النذر مع المانع، لكون المنذور غير مقدور عليه حينئذٍ، وذلك لأنّ المعتبر في بطلانه سلب القدرة في جميع الأوقات التي تدخل تحت الإطلاق.
قوله: «ولو تمكن من أدائه ثم مات قُضي عنه من أصل تركته، ولا يُقضى عنه قبل التمكّن».
المعتبر في استقرار حجّ النذر ما يعتبر في حجّة الإسلام من مضي مقدار ما يمكنه فيه فعله بجميع واجباته، فإذا أهمل كذلك ومات وجب أن يقضى عنه، ولا يقدح فيه عدم وجوب الفوريّة به.
ولو فرض حصول مانع عن المطلق اعتبر في الاستقرار القدرة عليه كذلك بعد زوال المانع.
ويعتبر الأُجرة من أصل التركة كحج الإسلام؛ لأنه واجب مالي وإن كان مشوباً بالبدني.
والكلام في قضائه عنه من البلد أو الميقات كما مرّ، ويزيد أنه لو قيد النذر من البلد تعين قولاً واحداً.
قوله: «فإن عيّن الوقت فأخلّ مع القدرة قضي عنه».
ويجب مع مع القضاء كفّارة خلف النذر، فيخرج من أصل ماله كما يخرج أُجرة الحجّ.
ص: 53
• وإن منعه عارض لمرض أو عدةٍ حتى مات لم يجب قضاؤه عنه.
• ولو نذر الحجّ أو أفسد حجّه وه-و م-عضوب، قيل : يجب أن يستنيب، وهو حسن
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن منعه عارض لمرض أو عدةٍ حتى مات لم يجب قضاؤه عنه».
يجوز عود ضمير «منعه» إلى كلّ واحدٍ ممّن عيّن الوقت وأخلّ به فيجعل قسيماً له، ومَنْ نذر الحجّ مطلقاً وتمكن من أدائه فإنّ الحكم فيهما واحد وهو أنه متى نذر الحجّ ولم يتمكّن من فعله إمّا في المدة التي عينها أو في جميع عمره مع الإطلاق لم يجب قضاؤه عنه، وبطل النذر؛ لأنّ شرطه كونه مقدوراً للناذر.
وقد استفيد من هذه المسائل أنّ مرادهم بالقدرة في الزمان الذي يصحّ وقوع المنذور فيه وإن لم تكن حاصلةً حالة النذر، وهو في المطلق العمر وفي المقيد الوقت المعيّن، فغير المقدور الذي لا يصح نذره هو الذي يستحيل القدرة عليه قطعاً، كنذر الطيران ونحوه، أو وقوعاً، كنذر فعل يصلح الناذر للقدرة عليه بحسب جنسه، فإنّ النذر يصحّ، ويراعى فيه تحقّق القدرة في جزء من الزمان يمكن وقوعه فيه، (فإذا مضى مجموع الزمان الصالح له ولم يقدر عليه بطل النذر حينئذٍ، فمعنى عدم صحة نذر هذا القسم أنّه ممّا يتوجّه الحكم بالبطلان إليه وإن لم يكن حالة النذر.
ومثله ما لو نذر الصدقة بمالٍ كثير لا يملكه ولا شيئاً منه فإنّ النذر يقع مراعى بالتمكّن منه في جميع عمره أو في الزمان المعين له، فإذا مضى ولم يقدر عليه تبين بطلان النذر، وهكذا.
وأما القسم الأول - وهو ما يمتنع القدرة عليه عادةً قطعاً - فإن البطلان يتوجه إليه ابتداءً) (1) فتأمل ذلك، فإنه مما يخفى تحريره من كلامهم.
قوله: «ولو نذر الحجّ أو أفسد حجه وهو معضوب، قيل: يجب أن يستنيب، وهو حسن».
هذا مبنىٌّ على وجوب الاستنابة لحجة الإسلام، فإن لم نوجبها ثمّة لم نوجب هنا،
ص: 54
الثانية • إذا نذر الحجّ فإن نوى حجّة الإسلام تداخلا،
-------------------------------------------------------------------
وإن أوجبناها احتُمل إلحاقهما بها؛ لتساويهما في الوجه وهو الوجوب، وعدمه (قصراً فيما خالف الحكم)(1) المخالف للأصل على مورده؛ إذ الأصل في الاستطاعة أن تكون بالبدن والمال معاً.
والقول بالوجوب للشيخ (رحمه اللّه) (2)، وهو يتوجّه في المعضوب؛ لإمكان أن يعرض له المانع بعد الشروع في الحجّ فيفسده، فتجب الاستنابة، خصوصاً على القول بأن الثانية هي حجّة الإسلام.
وأمّا النذر فمع سبق انعقاده على العضب وإمكان فعله فأخر وعُضب (احتمل حينئذٍ وجوب الاستنابة والسقوط)(3). ولو عرض العضب قبل إمكان الفعل بطل كما مرّ.
وإن كان النذر في حال العضب - وهو موضع الخلاف هنا؛ إذ قوله «وهو معضوب» جملة حالية من الناذر والمفسد - أشكل انعقاده فضلاً عن الاستنابة؛ لأنّ شرطه الاستطاعة كما تقدّم - فيتوقع مع الإمكان، ويبطل النذر مع اليأس. نعم، لو لاحظ في نذره الاستئجار فلا إشكال في وجوب الاستنابة.
قوله: «إذا نذر الحجّ فإن نوى حجّة الإسلام تداخلا».
مقتضى التداخل انعقاد نذر الواجب، وهو أصح القولين في المسألة، وفائدته زيادة الانبعاث على الفعل، ووجوب الكفّارة مع الإخلال، أو التأخير عن السنة المعينة في النذر.
هذا إذا كان عليه حجّة الإسلام حال النذر، أمّا لو لم يكن فإنّه ينعقد أيضاً انعقاداً مراعي بالاستطاعة، فإن حصلت وجبت بالنذر أيضاً، ولا يجب تحصيل الاستطاعة هنا على الأقوى.
ص: 55
• وإن نوى غيرها لم يتداخلا.
-------------------------------------------------------------------
ولو قيّد النذر بسنةٍ معينةٍ أو مدةٍ مخصوصة اعتبر في الانعقاد وجود الاستطاعة في تلك المدّة، فلو تأخّرت عنها لم يؤثّر.
قوله: «وإن نوى غيرها لم يتداخلا».
ثمَّ إن كان مستطيعاً حال النذر، وكانت حجّة النذر مطلقة أو مقيّدةً بزمانٍ متأخّر عن السنة الأولى، قدّم حجّة الإسلام ثمَّ حجّ للنذر بعدها، وإن قيده بسنة الاستطاعة لم ينعقد النذر ؛ لسبق استحقاق الزمان لغيره، فلم يكن ما نذره مقدوراً شرع عافي الزمان المعيّن، لكن يراعى بقاء الاستطاعة إلى خروج القافلة، فلو زالت انعقد النذر وحجّ له.
ولو نذره قبل حصول الاستطاعة ثمَّ حصلت قبل الفعل، قدّمت حجّة الإسلام مع الإطلاق، أو التقييد بمدّةٍ تزيد عن سنةٍ بحيث يمكن فعله بعد ذلك، أو بسنةٍ متأخّرة عن عام الاستطاعة، ومع تعينه بتلك السنة يقدّم النذر؛ لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة المعيّنة وحينئذٍ فيراعى في وجوب حجّ الإسلام بقاء الاستطاعة إلى العام الثاني.
وهذا مبنيٌّ على أنّ استطاعة حجّ النذر عقليّة لا شرعيّة، كما هو ظاهر النصّ والفتوى فيه وفي نظائره من العبادات.
ولو قلنا إنها شرعية - كما اختاره في الدروس (1) - قدّمت حجّة النذر مع حصول الاستطاعة بعده قبل الفعل وإن كان مطلقاً، وروعي في وجوب حجّة الإسلام الاستطاعة في العام الثاني كما في المعيّنة.
ولو أهمل حجّة النذر في العام الأول إلى القابل قال في الدروس - تفريعاً على مذهبه -: وجبت حجّة الإسلام أيضاً(2).
ويشكل بأنّ المعتبر في الاستطاعة كون المال فاضلاً عما يحتاج إليه ومما قد تعلّق في
ص: 56
• وإن أطلق قيل: إن حجّ ونوى النذر أجزأه عن حجّة الإسلام، وإن نوى حجّة الإسلام لم يجزئ عن النذر، وقيل : لا تجزئ إحداهما عن الأخرى، وهو الأشبه.
الثالثة: • إذا نذر الحجّ ماشياً وجب،
-------------------------------------------------------------------
الذمة من الدَين ونحوه بما يقوم بالحج، وإذا حكم بتقديم(1) النذر واعتبار الاستطاعة فيه فمؤونته حينئذٍ بمنزلة الدين.
قوله: «وإن أطلق قيل : إن حجّ ونوى النذر أجزأه عن حجّة الإسلام - إلى قوله - وهو الأشبه».
القول بالتفصيل للشيخ (رحمه اللّه)(2) وجماعة؛ استناداً إلى رواية رفاعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والأصحّ عدم التداخل؛ لأنهما فرضان مختلفان مختلفا السبب فلا يجزئ أحدهما عن الآخر، وحملت الرواية على نذر حجّة الإسلام.
قوله: «إذا نذر الحجّ ماشياً وجب».
لا إشكال في انعقاد نذر المشي في الحجّ لأنه طاعة وعبادة مندوب إليها مع الإمكان.
هذا إذا لم يضعفه عن العبادة، أو يحصل مانع آخر، كما سبق تفصيله، أو قلنا إن المشي أفضل مطلقاً.
ولو قلنا: إنّ الركوب أفضل مطلقاً أو بالتفصيل، ولم يحصل موجب الرجحان في المشي ففي انعقاده نظر؛ من اشتراط كون المنذور طاعةً وهي منتفية على هذا التقدير فلا ينعقد، وبه جزم العلّامة(4)، ومن أنّ الحجّ في نفسه عبادة، وهي تتأدى بالمشي والركوب وغيرهما من أنواع الأكوان الموجبة لانتقاله إلى المشاعر المخصوصة فنذره على إحدى الكيفيات نذر عبادة في الجملة وإن كان غيرها أرجح منها؛ إذ لا يشترط في انعقاد نذر شيء كونه أعلى
ص: 57
-------------------------------------------------------------------
مرتبة من جميع أفراده. وهذا هو الأقوى. ونظيره نذر الصلاة في الزمان والمكان الخاليين عن المزية، أو المشتملين على مزيةٍ ناقصة عن غيرها.
ولو نذر الحجّ راكباً، فإن قلنا بأفضليته مطلقاً أو في حالة واتفقت للناذر، فلا إشكال في الانعقاد أيضاً، وإلا بنى على القولين.
وكيف كان، فنذر أصل الحجّ منعقد إجماعاً، وإنّما الكلام في الوصف.
إذا تقرّر ذلك فنقول : متى حُكم بانعقاد نذر المشي ففي مبدئه قولان:
أحدهما: بلد الناذر، وهو الذي اختاره المصنّف في كتاب النذر (1) وجماعة (2)؛ لأنّ ذلك هو المتعارف من الحجّ ماشيا.
والثاني: من الميقات؛ لأنّ «ماشياً» حال من الحاج، فهو وصف له، وإنما يصدق حقيقةً حال تلبسه، به كقولك: ضربت زيداً ماشياً فإنّه إنما يصدق حقيقةً حال الفعل، لا قبله ولا بعده.
وربما بني القولان على أنّ الحجّ هل هو القصد إلى المشاعر، أو الأفعال المخصوصة؟ فعلى الأوّل يلزم من البلد، وعلى الثاني من الميقات.
وقريب منه الخلاف في الاستئجار عن الميت من البلد أو من الميقات، والمبنى ضعيف.
والأصحّ اتباع قصده في ذلك، فإن انتفى فالعرف، وهو الآن دالٌّ على أنّه من البلد، فإن انتفى فالثاني أوجه.
ويسقط الوصف بعد طواف النساء على المشهور. والأصحّ أنه بعد رمي الجمار؛ لأنّه آخر أفعاله الواجبة.
ص: 58
• ويقوم في مواضع العبور، فإن ركب طريقه قضى، • وإن ركب بعضاً قيل: يقضى ويمشي مواضع ركوبه، وقيل : بل يقضي ماشياً ؛ لإخلاله بالصفة المشترطة، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويقوم في مواضع العبور».
أي يقف في السفينة لو اضطر إلى العبور بها؛ لرواية السكوني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، ولأنّ الواجب على الماشي القيام وحركة الرجلين، فإذا فقد أحدهما بقي الآخر.
وقد ذهب جماعة (2) إلى أنّ ذلك على وجه الوجوب؛ لذلك. والأصحّ الاستحباب؛ خروجا من خلافهم؛ لضعف المستند.
وعلى القول بالوجوب لو أخلّ به هل يقدح في صحّة الحجّ ؟ يحتمله، كما لو ركب، وعدمه - وهو الذي اختاره بعض الموجبين (3)3 - لخروجه عن حقيقة الحجّ.
ويضعف بأنّ المشي كذلك، ولا يقولون به فيه.
ولو تعارض في النهر العبور على قنطرة وسفينةٍ، فالظاهر تقديم ما يحصل معه المشي؛ لقدرته على فعل الواجب.
قوله: «وإن ركب بعضاً قيل: يقضي ويمشي مواضع ركوبه - إلى قوله - وهو الأشبه».
القول الأول للشيخ (رحمه اللّه)(4)، وبه أثر (5) لا يبلغ حد العمل به.
ص: 59
• ولو عجز قيل: يركب ويسوق بَدَنَةٌ، وقيل: يركب ولا يسوق، وقيل: إن كان مطلقاً توقع المكنة من الصفة، وإن كان معيناً بوقت سقط فرضه لعجزه، والمرويّ الأوّل، والسياق ندب.
-------------------------------------------------------------------
والأصحّ أنه مع تعيين السنة يقضي ماشياً، ويكفّر؛ لإخلاله بالمنذور.
ويتوجّه عدم صحة الحجّ أصلاً؛ لأن ما نواه لم يقع، وغيره غير منوي.
وإن كان مطلقاً أعاده ماشياً.
واحتمل المصنّف في المعتبر إجزاء الحجّ مع التعيين وإن وجبت الكفّارة (1)؛ بناءً على أن المنذور هنا في قوة شيئين، أحدهما الحجّ، والآخر المشي، فإذا أتى بأحدهما خاصةً برئت ذمته منه ويبقى الآخر، والحجّ هنا مأتيٌّ به حقيقة، ولا طريق إلى قضاء المشي مجرّداً، فإنّه حينئذٍ ليس بعبادة فيلزم الكفّارة.
وهذا إنّما يتوجه إذا نذر الحجّ والمشي غير مقيّد أحدهما بالآخر وإن اجتمعا، والمسألة أعمّ من ذلك.
قوله: «ولو عجز قيل : يركب ويسوق بَدَنَةٌ - إلى قوله - سقط فرضه لعجزه».
جواز الركوب في الجملة قد ورد في النصوص الصحيحة(2)، والأصحّ استحباب السوق معه؛ لأنّه طريق الجمع بين الأخبار.
والقول الثالث هو الأقوى في صورة الإطلاق، ثمَّ إن استمر العجز وجب الحجّ راكباً، كما ورد به النصّ (3)، وأما مع التعيين فوجوب الحجّ راكباً أقوى.
ص: 60
القول في النيابة وشرائط النائب ثلاثة: الإسلام وكمال العقل، • وأن لا يكون عليه حجّ واجب،. • فلا تصحّ نيابة الكافر ؛ لعجزه عن نيّة القربة، ولا نيابة المسلم عن
-------------------------------------------------------------------
هذا كلّه مع إطلاق نذر الحجّ ماشياً، أو نذرهما لا على معنى جعل المشي شرطاً في الحجّ، وإلا سقط الحجّ أيضاً مع العجز عن المشي.
قوله: «وأن لا يكون عليه حجّ واجب».
هذا مع قدرته على أدائه، وإلا جازت نيابته، وقد تقدّم.
ويشترط أيضاً في نيابة الواجب موت المنوب أو عجزه، وعدالة الأجير، لا بمعنى أن الفاسق لا يصحّ حجه، بل لا يُقبل إخباره به، فلا تحصل البراءة بفعله.
وكذا القول في الصلاة والصوم والزيارة، وغيرها من العبادات المتوقفة على النيّة.
وتظهر الفائدة فيما لو حجّ الفاسق عن غيره تبرّعاً، فإنّ حجّه صحيح، وتبرأ ذمّة المنوب عنه، وكذا لو استؤجر؛ لظهور عدالته مع فسقه في نفس الأمر، فإن عبادته صحيحة، ويستحقّ تمام الأُجرة بالفعل.
ويجب أيضاً علمه بأفعال الحجّ إجمالاً وأخذها من دلائلها أو بالتقليد لأهله، وكذا يجب ذلك على كل حاج كغيره من العبادات.
قوله: «فلا تصحّ نيابة الكافر؛ لعجزه عن نيّة القربة».
أي لعجزه عنها ما دام كافراً؛ لأنّ الفرض كون الحاج كافراً، وذلك لا ينافي قدرته عليها بتقديم الإسلام، فإنّه خروج عن محلّ الفرض فليس فى العبارة تساهل، كما زعم بعضهم (1): بناءً على أنه قادر على الإسلام لامتناع الجبر.
ص: 61
الكافر، • ولا عن المسلم المخالف إلّا أن يكون أبا النائب، ولا نيابة المجنون؛ لانغمار عقله بالمرض المانع من القصد، وكذا الصبيّ غير المميّز.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا عن المسلم المخالف إلا أن يكون أبا النائب».
إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين الناصب وغيره في تحريم الحجّ عنه إذا لم يكن أباً، وإباحته إذا كان أباً، وبهذا عبر الأكثر.
والذي دلّت عليه رواية وهب بن عبد ربه (1) عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) المنع من الحجّ عن الناصب إلا أن يكون أباً (2)، وبمضمونها عمل الشهيد في الدروس فجوّز الحجّ عن كلّ مخالف إذا لم يكن ناصباً، وعنه إذا كان أباً خاصةً(3).
ولا دلالة في الحديث على جواز الحجّ عن المخالف، بل على المنع من الناصب غير الأب.
وعلّل في التذكرة عموم المنع من الحجّ عن غير الأب من المخالفين بأن الذي يستحقّ به الثواب الدائم هو الإيمان، فغير المؤمن لا يستحقّ ثواباً(4).
وعنى بذلك أن صحة العبادة تقتضي حصول الثواب لمن وقعت له؛ لأنّ ذلك لازمها، ولا ثواب إلا في الجنّة، والمخالف لا يدخلها، فلا يقع عنه الحجّ، وهذا يقتضي المنع من إيقاع جميع العبادات عنه وإهداء الطاعات إليه.
وعمّم ابن إدريس المنع من الجميع حتى الأب(5). وهو حسن إن لم يصحّ الخبر بجواز النيابة عن الأب.
والأُولى العمل بالمشهور من المنع عن غيره مطلقاً لما ذُكر من الدليل.
ص: 62
-------------------------------------------------------------------
واحتج من جوّز الحجّ عن غير الناصب بأنّ المخالف مخاطَب بالواجب، فيعاقب على تركه، وفعله صحيح لنفسه إذا لم يُخلّ بشيءٍ من أركانه، فتصح النيابة عنه كذلك؛ لفائدة سقوط العقاب.
والتحقيق أنّ ذلك يتوقّف على تحقيق معنى الصحة في العبادة، فعلى المشهور من أنّها موافقة الأمر وحصول ما يستلزم الثواب لا يتصوّر الصحة هنا عن المخالف الميت مطلقاً لعدم إمكان حصول الثواب له، ويبنى الجواز عن الحيّ على أن عبادته هل هي صحيحة مراعاة بموته على الإيمان، أو باطلة لكن يعفى عنها مع إيمانه إذا كان قد فعلها ؟ فعلى الأوّل تجوز النيابة عنه، وتظهر الفائدة مع استبصاره، وعلى الثاني لا يصح؛ لانتفاء الفائدة، وقد تقدم الكلام في الوجهين.
وعلى ما اختاره المرتضى (رحمه اللّه) - من أن الصحة في العبادة توجب سقوط العقاب، ولا تستلزم الثواب(1)، وإنّما يستلزمه قبول العبادة، وهو أمر زائد على الإجزاء والصحّة - يمكن القول بجواز النيابة عنه؛ لفائدة إسقاط العقاب عنه بسببها، إلا أنّ هذا لو تمَّ لاقتضى جوازها عن كلّ مخالف بل عن الكافر؛ لتحقق الفائدة، إلا أن يقال: خرج الكافر بالإجماع، فيبقى الباقي.
والأصحّ المنع من غير الأب المخالف؛ جمعاً بين النص والدليل العقلي.
هذا في الحجّ، وأمّا في غيره من العبادات فمقتضى دليل المجوّز جوازه أيضاً، والظاهر المنع مطلقاً.
وهل يلحق الجدّ للأب به؟ يحتمله؛ لأنه أب، ولهذا تثبت ولايته كالأب، وبه قطع في الدروس(2)، وعدمه؛ لأنّه ليس أباً حقيقةً لاستلزامه الاشتراك، والمجاز خير منه،
ص: 63
• وهل تصح نيابة المميّز ؟ قيل: لا؛ لاتصافه بما يوجب رفع القلم، وقيل: نعم؛ لأنّه قادر على الاستقلال بالحجّ ندبا.
• ولا بد من نيّة النيابة وتعيين المنوب عنه بالقصد.
-------------------------------------------------------------------
ولعدم مبادرة المعنى إلى الذهن عند الإطلاق، ولأنّ الحكم على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على موضع اليقين.
أمّا الجدّ للأُمّ فلا إشكال في عدم دخوله. والظاهر أنّ الأُمّ كذلك؛ لعدم النصّ. وهذا كله يؤيّد ما أسلفناء.
قوله: «وهل تصح نيابة المميّز ؟ قيل: لا... وقيل: نعم؛ لأنه قادر على الاستقلال بالحجّ ندياً».
الأقوى الأوّل؛ لأنّ عمله ليس شرعيّاً، فلا يترتب عليه أثره، ومطلق الاستقلال أعمّ من المطلوب فلا يتم؛ لأن التمرين لا يقوم مقام الشرعي.
ولا فرق في ذلك بين الواجب والندب والمتبرّع به والمعوّض عنه.
قوله: «ولا بد من نيّة النيابة وتعيين المنوب عنه بالقصد».
المراد بنيّة النيابة قصد كون الحجّ نيابة لا أصالة، وذلك أعم من كونه عن شخص معيّنٍ، فمن ثَمَّ احتيج إلى تعيين المنوب مع ذلك، فينوي في كل فعلٍ من أفعاله المفتقرة إلى النيّة كونه نيابة عن فلان.
ولو اقتصر على تعيين المنوب بأن ينوي أنّه عن فلان فالظاهر الإجزاء؛ لأنّ ذلك يستلزم النيابة عنه، ولأنّ الغرض تميّزه عن حجّة الإسلام وغيره، وهو حاصل، وإن كان المتعارف أولى.
ولا يفتقر إلى التعيين لفظاً إجماعاً وجوباً ولا استحباباً، وإنما المستحبّ ذكر المنوب عنه لفظاً في المواطن وعند الأفعال بلفظ خاص، كما سيأتي، وهو أمر آخر غير النيّة، فقول بعضهم هاهنا: إنّ تعيينه لفظاً مستحبٌّ(1)، غير واضح.
ص: 64
وتصحّ نيابة المملوك بإذن مولاه.
• ولا تصح نيابة من وجب عليه الحجّ واستقر، إلا مع العجز عن الحجّ ولو مشياً، وكذا لا يصح حجّه تطوّعاً.
• ولو تطوّع قيل: يقع عن حجّة الإسلام، وهو تحكّم.
ولو حجّ عن غيره لم يجزئ عن أحدهما.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا تصحّ نيابة من وجب عليه الحجّ واستقرّ، إلّا مع العجز عن الحجّ ولو مشياً».
قد تقدم أن مَن استقر الحجّ عليه لا يعتبر في حقه الاستطاعة الشرعيّة(1)، فيجب عليه تكلّفه ولو بالمشي، فمع العجز عنه بكلّ وجهٍ تجوز نيابته، لكن يراعى في الجواز ضيق الوقت بحيث لا يحتمل تجدد الاستطاعة عادةً، فلو استؤجر حينئذٍ فاتفقت الاستطاعة على خلاف العادة لم تنفسخ، وكذا لو تجدّدت الاستطاعة لحج الإسلام بعدها، فيقدّم حجّ النيابة على التقديرين ويراعى في وجوب حجّ الإسلام في الثاني بقاؤها إلى القابل.
قوله: «ولو تطوّع قيل: يقع عن حجّة الإسلام، وهو تحكّم».
القول للشيخ في المبسوط (2)، ووجهه اشتراكهما في أصل الرجحان، وحصول نيّة القربة، فيصرف إلى ما في ذمته. وله قول آخر في الخلاف، وهو أنه يقع تطوعاً، وتبقى حجّة الإسلام في ذمّته (3).
والأصحّ عدم وقوعه عنهما، أما عن حجّة الإسلام فلعدم نينه، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى(4)، وأمّا عن التطوّع فلوجوب حجّ الإسلام على الفور المقتضي للنهي عن غيره، الموجب للفساد في العبادة.
ص: 65
• ولمن حجّ أن يعتمر عن غيره إذا لم يجب عليه العمرة، وكذا لمن اعتمر أن يحجّ عن غيره إذا لم يجب عليه الحجّ.
• وتصحّ نيابة من لم يستكمل الشرائط وإن كان صرورة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولمن حجّ أن يعتمر عن غيره إذا لم يجب عليه العمرة، وكذا لمن اعتمر أن يحجّ عن غيره إذا لم يجب عليه الحجّ».
هذا الإطلاق نظير ما تقدّم مراراً من عدم جواز النيابة في الحجّ لمن عليه حجّ واجب، وألحق به النيابة في العمرة كذلك، وقد عرفت أن الحكم ليس على إطلاقه ويزيد هنا مناقشة تقييده الجواز بمن فعل ما استؤجر عليه بأن ذلك ليس بشرط في صحة النيابة وإن كان الحكم كذلك صحيحاً، وبذلك عبر العلّامة (رحمه اللّه) في كثيرٍ من كتبه(1).
والحاصل في تحرير حكم المسألة أن من لم يجب عليه في وقت معين وجوباً مضيقاً الحجّ يجوز استئجاره له، وكذا العمرة، سواء كان قد فَعَل ما استؤجر عليه أو قسيمه، أم لم يكن فَعَل فيجوز لمن وجب عليه العُمرة المفردة قبل أوان الحجّ أن يؤجر نفسه للحجّ بعدها، سواء كان قبل فعله لها أم بعده؛ لعدم المنافاة.
وكذا لمن وجب عليه حجّ الإفراد أن يؤجر للعمرة بعده كذلك إذا لم يكن ذلك واجباً عليه، ويتحقّق ذلك بالنذر وشبهه والاستئجار.
ولو وجب عليه أحد النسكين ولم يكن فوريّاً جاز أن يؤجر نفسه له أيضاً قبل فعله، وقد تبيّن بذلك ما فات العبارة.
قوله: «وتصحّ نيابة من لم يستكمل الشرائط وإن كان صرورةً».
أي لم يستكمل شرائط وجوب الحجّ عليه مع استكماله لشرائط النيابة.
ص: 66
• ويجوز أن تحج المرأة عن الرجل وعن المرأة.
-------------------------------------------------------------------
والصَرورة - بفتح الصاد - الذي لم يحجّ، يقال : رجل صرورة وامرأة صرورة.
والمراد أنّ عدم الحجّ ليس مانعاً من جواز النيابة بشبهة أنه لم يتحقّق تفاصيل الأفعال ومحالّ الحركات فكان استئجاره عليه كالاستئجار على العمل المجهول.
ودفعها: بأن المعتبر العلم الإجمالي بأن يعلم أنّ محلّ الإحرام - مثلاً - الموضع المخصوص و واجباته كذا، والتحلّل منه بفعل كذا، والطواف حول البيت سبعة أشواط على الوجه المعتبر، وهكذا.
ثم تتوقّف صحة فعله في محلّه على الاعتماد على مرشدِ عَدْلٍ أو ما يقوم مقامه.
وجواز نيابة الصرورة إذا كان ذكراً موضع وفاقٍ، وإنما نبه به على خلاف بعض العامّة حيث منع منه (1).
وأما إذا كان أُنثى، فللشيخ قول يمنع نيابتها عن الرجل (2)، وفي المبسوط بمنعها مطلقاً(3).
والمشهور الجواز مطلقاً.
قوله: «ويجوز أن تحجّ المرأة عن الرجل وعن المرأة».
تخصيص المرأة بالذكر بعد دخولها في الحكم السابق - فإنّه عام باعتبار «من» فإنّها. أدواته - لتعيين موضع النزاع عندنا باعتبار خلاف الشيخ، المتقدم، وفي الحقيقة لم يتعين مطلقاً، فإنّ محلّه المرأة الضرورة. ولعلّه نبه بخصوص المرأة على قول بعض المخالفين، حيث منع من نيابتها مطلقاً(4)، وقد أطبق الكلّ على خلافه.
ص: 67
• ومن استؤجر فمات في الطريق فإن أحرم ودخل الحرم فقد أجزأت عمن حجّ عنه، ولو مات قبل ذلك لم يجزئ وعليه أن يعيد من الأُجرة ما قابل المتخلَّف من الطريق ذاهباً وعائداً، و من الفقهاء من اجتزأ بالإحرام والأوّل أظهر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ومن استؤجر فمات في الطريق إلى قوله - والأول أظهر».
اعلم أنّ الحجّ عبارة عن الأفعال المخصوصة الواقعة في المشاعر المعينة، والذهاب إليها وإن كان واجباً فهو من باب المقدّمة، وليس جزءاً من الحجّ إجماعاً. والرجوع إلى الوطن بعد الفراغ من الحجّ لا مدخل له فيه لا على وجه الذات ولا التبع.
وهذه المقدّمات كلّها إجماعيّة، لكن قد اعتبر كلّ واحدٍ من الذهاب والعود في الحجّ بوجه من الوجوه، كما اعتبر الذهاب بحكمه عند من أوجب الاستئجار عن الميت من البلد واعتبر العود بحكمه باعتبار اشتراط الاستطاعة له، كما يعتبر الاستطاعة للذهاب والأفعال وإلا لم يجب، إلا أن لحوق هذه الأحكام لا يوجب إلحاق جميع أحكامهما به، وأن من استؤجر على عمل مخصوص فالأُجرة موزّعة على جميع أجزائه الذاتية، ولا تُوزع على مقدّماته وما يتوقّف عليه، كمن استؤجر على عمل سرير فقرب أخشابه وجمعها وهيّاً أسباب العمل ونقل الآلة إلى موضع العمل ونحو ذلك، فإنّ ذلك كله لا مدخل له في استحقاق الأُجرة، ولا يوزّع عليه وإن توقف العمل عليه. وإن مَنْ فَعَل بعض العمل الذي استؤجر عليه ثمَّ عرض له عارض منعه من إكماله بموتٍ ونحوه إنّما يستحقّ من الأُجرة بنسبة ما عمل لا الجميع، إلا أن يدلّ الدليل على خلافه، وهذه المقدّمات كلّها واضحة مسلّمة لا نزاع فيها.
وإذا تقرّرت فنقول: من جملة الأحكام اللازمة عنها أن من استؤجر على فعل الحجّ عن غيره فسعى إليه ومات في الطريق قبل الشروع فيه لا يستحقّ شيئاً؛ لأنّ الحجّ عبارة عن الأفعال المخصوصة، ولم يفعل منها شيئاً، وإنّما أخذ في المقدّمات التي لا يمكن الفعل بدونها، فيكون بمنزلة من استؤجر على عمل سرير في مكان بعيد عن بيت الأجير، فأخذ آلات العمل وخرج إليه فمات في الطريق، فإنه لا يستحقّ شيئاً قطعاً.
ص: 68
-------------------------------------------------------------------
ولو مات في أثناء الفعل فإن كان قد أحرم ودخل الحرم فمقتضى الأصل أن لا يستحقّ إلّا بالنسبة لكن قد وردت النصوص (1) بإجزاء الحجّ عن المنوب وبراءة ذمة الأجير، واتّفق الأصحاب على استحقاقه جميع الأُجرة، فهذا الحكم ثبت على خلاف الأصل، فلا مجال للطعن فيه بعد الاتّفاق عليه.
وإن كان بعد الإحرام وقبل دخول الحرم فعدم استحقاقه الجميع ثابت بطريق أولى، ولا دليل هنا صالح لإثبات ما خالف الأصل المتقدّم، فيُعمل بالقواعد السالفة، ويثبت له بحساب ما عمل خاصة على أصحّ القولين.
وقيل: حكمه حكم ما لو دخل الحرم (2). وهو ضعيف.
والمصنّف قد حكم فيمن مات قبل الإحرام ودخول الحرم - أعمّ من أن يكون قد أحرم أم لا - أنه يستحقّ بنسبة ما عمل من الأفعال إن كان، ومن الحركة من البلد إلى حيث مات، وأن يعاد من تركته بنسبة ما بقي من الذهاب وجميع العود.
وهذا كما ترى مشكل؛ لما قد علمته من المقدّمات، فإنّ العود لا مدخل له في الحجّ أصلاً، والذهاب وإن كان مقدّمة لكن لا يدخل في حقيقة ما استؤجر عليه، ومن ثم يجب الاستئجار عن الميت لتمام أفعال الحجّ من غير أن ينقص عنه شيء.
والذي يوافق الأُصول - واختاره الشيخ (رحمه اللّه) في أحد قوليه والعلّامة في التذكرة (3) وجماعة (4)- أنّ الأجير إن كان قد استؤجر للحجّ خاصةً أو له بقول مطلق، ولم تدلّ القرائن السالفة على دخول الذهاب لم يستحقّ مع موته قبل الإحرام شيئاً، وبعده يستحقّ بنسبة ما فَعَل من الأفعال إلى الجملة، ولا يوزّع للعود شيء.
ص: 69
ويجب أن يأتي بما شرط عليه من تمتّع أو قرانٍ أو إفراد.
-------------------------------------------------------------------
وإن كان قد استؤجر لقطع المسافة ذاهباً وعائداً والحجّ وزّعت الأُجرة على الجميع. ولو استؤجر لقطع المسافة ذاهباً والحجّ وُزّع عليهما خاصّةً.
وهذا توجيه واضح، وعليه العمل.
ولا فرق حينئذٍ في الأجير بين أن يكون من أهل الحرم وغيره، ولا بين أن يكون ناوياً بعد الحجّ للإقامة بمكّة وغيره.
وعلى قول المصنّف يشكل الحكم في جميع ما ذكر خصوصاً في توزيع الأُجرة على الرجوع لمن لا يريده.
وكذا القول في أجير الزيارة، فإنّ التفصيل كلّه آتٍ فيه.
وهاهنا بحثٌ آخَر، وهو أنه مع موته قبل أن يحج أو ما يقوم مقامه هل يُحكم ببطلان الإجارة ورجوع الحال إلى ما كان عليه، فإن كانت الحجّة عن ميّتٍ تعلّقت بماله وكلّف بها وصيه أو وارثه، وإن كانت عن حي عاجز تعلّق الوجوب به، وإن كانت عن متبرع رجعت إلى أصلها وتخيّر فى الاستنابة ثانياً، أم تبقى لازمة لذمّة الميت، وإنما يكلف بها وصيه أو وارثه؟ ظاهر الفتاوى الأوّل: لحكمهم بإعادة الأُجرة أو ما قابل المتخلف، ولو كانت الإجارة صحيحة والحق لازماً لولي الميت لم يكن لذلك فائدة.
والذي تقتضيه الأُصول أنّ الإجارة لا تنفسخ بموت الأجير، إلا أن يشترط عليه العمل بنفسه، وحينئذٍ فالواجب على وليه أن يستأجر من ماله لمن يحج عن المستأجر.
وهذا آتٍ في موت أجير الصلاة والزيارة أيضاً.
لكن هذا غير مناف لما ذكره الأصحاب هنا؛ لأنهم ذكروا المسألة فيمن استؤجر ليحجّ عن غيره، وهذا يقتضي المباشرة بنفسه؛ لأن معنى قوله «استأجرتك لتحجّ، أو أجرتك نفسي لأحجّ) لتفعل الحجّ، أو لأفعله، وهو صريح في المباشرة، فلا يحتاج إلى أن يضم إليه قوله «بنفسك» أو «بنفسي»، وإن ذكر كان تأكيداً، وكذا القول في الصلاة، فعلى هذا تبطل الإجارة بموته ويرجع الحكم إلى ما كان أوّلاً، فإن كانت الاستنابة عن ميّتٍ تولّاها ثانياً وصيّه
ص: 70
• وروي إذا أُمر أن يحج مفرداً أو قارناً فحج متمتّعاً جاز؛ لعدوله إلى الأفضل، وهذا يصحّ إذا كان الحجّ مندوباً، أو قصد المستأجر الإتيان بالأفضل، لا مع تعلّق الغرض بالقرآن أو الإفراد.
-------------------------------------------------------------------
إن كان، وإلّا الحاكم، ومع تعذرهما فآحاد المؤمنين، كما سيأتي - إن شاء اللّه - في الوصايا.
قوله: «وروي إذا أمر أن يحج مفرداً أو قارناً فحج متمتّعاً جاز - إلى قوله - بالقران أو الإفراد».
من جملة شرائط النيابة تعيين نوع الحج؛ لاختلاف أنواعه واختلاف الأغراض فيها، فإذا عيّن التمتّع لم يجز العدول عنه إلى قسيميه مطلقاً؛ عملاً بمقتضى التعيين، ولأنّه أفضل منهما فلا يقومان مقامه، ولا يستحقّ الأجير أُجرة لو عدل. وإن عيّن القرآن لم يجز العدول إلى الإفراد؛ لعين ما ذكر.
ولو عيّن الإفراد فقد روى أبو بصير - في الصحيح - عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): جواز العدول إلى التمتّع؛ لأنه خالف إلى الفضل(1). والحق به القران للمشاركة في العلّة(2).
وهذا يتمّ مع تخيّر المستأجر بين الأنواع كالمتطوّع، وذي المنزلين المتساويين في الإقامة بمكّة وناء، وناذر الحجّ مطلقاً، وإلا لم يجز، كما لو كان فرضه أحدهما، وعليه تُنزّل الرواية(3)، بل هي صريحة فيه؛ لأن التمتّع لا يكون أفضل إلّا في الصورة الأُولى، أما مع التعيّن فلا يجزئ اختياراً فضلاً عن أن يكون أفضل.
ولو عدل عن الإفراد إلى القران فقد استقرب في التذكرة الجواز أيضاً؛ لأنّه أفضل(4).
وهو حسن؛ عملاً بمقتضى العلّة، بناءً على تعدية منصوص العلّة.
ص: 71
• ولو شُرط الحجّ على طريقٍ معيّن لم يجز العدول إن تعلّق بذلك غرض، وقيل: يجوز مطلقاً.
-------------------------------------------------------------------
بقى هنا بحث، وهو أن جماعة من الأصحاب(1) - منهم المصنّف - قيّدوا جواز العدول بما إذا قصد المستأجر الأفضل، وإلا لم يجز العدول، وعليه نزلوا الرواية (2).
وفي التقييد والتنزيل نظر؛ لأنّ موجب القول بجواز التخطّي عن المعين إنّما هو الرواية، وقد علّل فيها الجواز بأنه خالف إلى الفضل، كما حكيناه سابقاً، وهو لفظ الرواية، وهي دالة - کماترى - على أن العدول إلى الأفضل جائز وإن لم يخطر ذلك ببال المستأجر، فكيف تُنزّل على ما هو أخصّ من ذلك، وأمّا التقييد فإنّه تبع للرواية، بل الأُولى أن يقال بجواز العدول متى كان المعدول إليه أفضل، ولا يكون أفضل إلا مع تخيير المستأجر بين المعدول عنه وإليه، كما في الفروض المتقدمة، ولا فرق في ذلك بين أن يقصد المستأجر الأفضل أو لا؛ عملاً بالتعليل المذكور.
وبقي في عبارة المصنّف (رَحمهُ اللّه) بحثٌ من وجه آخر، وهو أنه قيّد جواز العدول يكون الحجّ مندوباً، أو قصد المستأجر الأفضل، فمقتضاه أن الشرط أحد الأمرين، فمتى كان أصله مندوباً جاز العدول وإن لم يقصد الأفضل، وإن كان واجباً اعتبر قصد الأفضل.
وهذا مع مشاركته لغيره في المناقشة في الشرط الثاني لا وجه لفصل المندوب فيه عن نظائره، بل الحكم فيها واحد، إما كون المعدول إليه أفضل، أو قصده مع ذلك.
والظاهر أنّ مرادهم ما حرّرناه وإن قصرت العبارة. ومتى جاز العدول استحقّ الأجير تمام الأُجرة.
قوله: «ولو شُرِط الحجّ على طريق معين لم يجز العدول... وقيل: يجوز مطلقاً».
مستند الجواز رواية حريز - في الصحيح - عن الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
ص: 72
-------------------------------------------------------------------
والتفصيل أقوى، والرواية لا تنافيه.
ولا فرق في الغرض بين كونه دينياً كمشقة الطريق وبعدها، فإنهما يوجبان زيادة الثواب بسبب زيادة المشقة، وبُعد الإحرام، ومروره على مشاهد مشرّفة كالمدينة - إذا شُرط عليه زيارتها كلما وردها - ونحو ذلك، أو دنيوياً كتجارة، ويرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال.
وعلى تقدير العدول فالأقوى صحّة الحجّ مطلقاً؛ لأنه داخل على كل حال، فهو بعض ما استؤجر عليه.
ثمَّ إن ظهر بين الطريقين تفاوت ردّ من الأُجرة ما قابله إن كان نقصه، وإن كان زاده استحقّ الجميع.
وطريق معرفته أن يُنظر أُجرة المثل لكلّ منهما، ويُنسب التفاوت إلى أُجرة المشترط ويؤخذ من المسمّى بتلك النسبة، كذا فصله جماعة(1).
واستقرب في التذكرة مع المخالفة فيما تعلّق به الغرض الرجوع إلى أُجرة المثل وفساد المسمّى (2).
ويشكل كلّ واحدٍ من القولين.
أمّا الأوّل؛ فلأنّ الطريق التي استؤجر لسلوكها وجعل لها حصة من الأُجرة لم يفعل منه شيئاً، والذي فَعَله من السلوك غير مستأجر عليه، فإدخاله في التقدير وتقسيط الأُجرة عليه غير واضحٍ.
وأمّا الثاني؛ فلأنّ الحجّ مستأجر عليه على التقديرين؛ لأنه بعض الجملة المعيّنة، بل هو الركن الأعظم والغرض الأقصى منه، وقد فَعَله، وذلك يقتضي أنه يستحقّ حصّةً من المسمّى، لا أُجرة المثل له، سواء تعلق الغرض مع ذلك بالطريق أم لا، وحينئذٍ فالقول بثبوت ما يخصه من المسمّى خاصةً أوجه إن لم يقع الإجماع على خلافه، وإلا فقول الجماعة؛
ص: 73
• وإذا استؤجر بحجّة لم يجز أن يُؤجر نفسه لأُخرى حتى يأتي بالأُولى. ويمكن أن يقال بالجواز إن كان لسنةٍ غير الأُولى.
-------------------------------------------------------------------
عملاً بالرواية الصحيحة(1) بحسب الإمكان.
ويتفرّع على ذلك ما لو أحصر الأجير قبل الإحرام مع مخالفته في الطريق المشروط، فإنّه لا يستحقّ شيئاً على الأخيرين
أمّا على ما بيّنّاه فظاهر؛ لأنه لم يفعل شيئاً مما استؤجر عليه. وأما على القول بثبوت أُجرة المثل فإنّها لا تُستحق إلا بفعل المقصود ولم يحصل.
وقد صرّح في التذكرة أيضاً بعدم ثبوت شيء حينئذٍ، سواء تعلق به غرض أم لا(2).
وهو ظاهرُ على ما بيّناه، وعلى ما بيّنه يشكل الحكم بثبوت أُجرة المثل على الطريق مع فعل الحجّ وعدم شيء، لا معه، وقد مضى فيما لو مات النائب قبل الإحرام ما يرشد إليه.
وعلى قول الجماعة ينبغي أن يثبت مع عدم الفرض حصة ما قطع من الطريق، وهذا كلّه مع تعيين السنة. وستأتي تتمة أحكام ما لو أحصر.
قوله: «ولو استؤجر بحجّة لم يجز أن يؤجر نفسه لأخرى - إلى قوله - لسنة غير الأُولى».
إذا استؤجر الأجير ليحج عن غيره فإما أن يعيّن له السنة التي يحجّ فيها أو لا، فمع التعيين لا يصحّ له أن يؤجر نفسه ليحج عن آخر تلك السنة قطعاً؛ لاستحقاق الأوّل منافعه في تلك السنة لأجل الحج؛ إذ لا يمكن أن يفعله عن اثنين، فيقع الثاني باطلاً.
ويجوز استئجاره لسنةٍ غيرها على الأقوى؛ لعدم المنافاة، لكن يشترط كون المستأجر متبرّعاً، أو كون ما عليه واجباً موسعاً، كالنذر المطلق حيث يسوع الاستنابة عنه، وإلا لم يصحّ؛ لوجوب الفوريّة.
ومع عدم تعيين الزمان في الإجارة الأُولى يجب على الأجير المبادرة إلى الفعل من أوّل سنة على المشهور بين الأصحاب.
ص: 74
-------------------------------------------------------------------
وفرّعوا عليه عدم جواز إيجاره نفسه لحجةٍ أُخرى حتى يأتي بالأُولى؛ لتنافي الواجبين في السنة الأُولى كما في المعينة.
واحتمل المصنّف جواز الثانية إن كان الاستئجار لسنة غير الأُولى، وهو حسن.
وفي التذكرة جوز المطلقتين، وحمل الأُولى على السنة الأُولى والثانية على الثانية؛ عملاً بأصالة الجواز، ودفع اقتضاء التعجيل في الثانية بسبق استحقاق الأُولى(1).
ويجب تقييده بما تقدّم في المعيّنة.
ولو استأجره الأول للسنة الثانية جاز استئجار الثاني له مطلقاً ومقيّداً بغيرها.
وقد ادّعى الشهيد (رحمه اللّه) في بعض تحقيقاته أنّ الإطلاق في كلّ الإجارات يقتضي التعجيل، فتجب المبادرة إلى الفعل وإن كان مجرداً عن المدّة (2)، وهو مؤيّد لما ذكروه، هنا، لكن دليله غير واضحٍ.
ويتفرّع على ذلك عدم جواز الإجارة ممن استؤجر على زيارة أو صلاة ونحوهما لثانيةٍ مطلقاً حتى يأتي بالأولى؛ لاشتراك الجميع في المقتضي.
ولو أخّر الأجير في المطلقة عن السنة الأُولى اختياراً ثم حجّ بعد ذلك أجزاً عن المنوب عنه.
وهل يستحقّ أُجرة؟ قطع في الدروس بعدمه(3).
وفيه نظر خصوصاً مع علم المستأجر بالحال ولم يفسخ.
ولو انعكس الفرض بأن قدّم الحجّ عن السنة المعيّنة ففي الصحة وجهان، من أنّه زاد خيراً، ومن مخالفة المشروط، وإمكان تعلّق الغرض بالتأخير، فإن مراتب الأغراض لا تنحصر.
ص: 75
• ولو صُدَّ قبل الإحرام ودخول الحرم استعيد من الأُجرة بنسبة المتخلف.
ولو ضمن الحجّ في المستقبل لم تلزم إجابته، وقيل: تلزم.
وإذا استؤجر فقصرت الأُجرة لم يلزم الإتمام، وكذا لو فضلت عن النفقة لم يرجع المستأجر عليه بالفاضل.
-------------------------------------------------------------------
وقرّب في التذكرة الإجزاء(1). وهو حسن إن علم انتفاء الغرض.
قوله: «ولو صدّ قبل الإحرام ودخول الحرم استعيد من الأُجرة بنسبة المتخلّف».
بناءً على أن الأُجرة موزّعة على الطريق وأفعال الحجّ، أو مع إدخاله صريحاً.
وعلى ما سبق من مختار المصنّف يعتبر جميع المتخلف من الأفعال وبقية الذهاب والعود.
ويُفهم من قوله «قبل الإحرام ودخول الحرم أنه لو كان بعدهما لم يستعد شيء كالميّت.
وليس كذلك لما تقدم من أنّ الأصل يقتضي توزيعها على مجموع المستأجر عليه، وأنّه لا يستحقّ إلا بنسبة ما فَعَل، وخروج الميّت بدليلٍ خارج لا يقتضي إلحاق غيره به، فلا فرق حينئذٍ بين صدّه قبل الشروع، وبعده قبل الإكمال مطلقاً، ولا قائل بما أفهمه كلام المصنّف لكن اتفقت العبارة كذلك.
ويمكن أن تكون فائدة القيد الاحتراز عمّا لو كان بعد الإحرام ودخول الحرم، فإنّه لا تتحقّق استعادة الأُجرة مطلقاً، بل يبقى على الإحرام إلى أن يأتي ببقية المناسك مع الإمكان، إلّا أن قيد دخول الحرم لا مدخل له في ذلك، بل مجرد الإحرام كاف فيه.
وقوله «استعيد من الأُجرة بنسبة المتخلّف» إنّما يتمّ مع كون الإجارة مقيدة بتلك السنة؛ لانفساخ الإجارة بالصدّ المانع من الحجّ إلى أن تنقضى أيّامه، ولا تلزم إجابته لو ضمن الحجّ في السنة المستقبلة، أما لو كانت مطلقةً لم تنفسخ بالصدّ، بل يثبت لكلّ منهما الفسخ كما لو منع من السفر ابتداء في قول.
ص: 76
• ولا تجوز النيابة في الطواف الواجب للحاضر إلا مع العذر، كالإغماء أو البَطَن وما شابههما، ويجب أن يتولّى ذلك بنفسه.
• ولو حمله حامل فطاف به أمكن أن يحتسب لكلّ منهما طوافه عن نفسه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا تجوز النيابة في الطواف للحاضر إلا مع العذر، كالإغماء أو البطن وما شابههما».
البَطَن - بالتحريك - علّة البَطْن بالإسكان والمراد به الذي لا يمكنه التحفّظ والطواف بنفسه لذلك.
ويدخل في «ما شابههما» المريض الذي لا يمكن أن يطوف بنفسه ولا يطاف به.
ويدخل في عموم العبارة الحائض؛ لأنّ عذرها مانع شرعي من دخول المسجد.
وإنّما يتصوّر لحوقها مع ضيق الوقت بالحجّ بالنسبة إلى طواف العمرة، أو خروج القافلة بالنسبة إلى طواف الحجّ.
وفي جواز استنابتها حينئذٍ نظر ؛ لانتفاء النصّ الدالّ على ذلك، بل قد حكم الأكثر بعدولها إلى حجّ الإفراد عند ضيق الوقت عن الطواف وإتمام عمرة التمتّع، ورواه جميل بن درّاج في الصحيح(1)، وهو يقتضي عدم جواز النيابة.
ولو قيل بجواز الاستنابة مع الضرورة الشديدة اللازمة بانقطاعها عن أهلها في البلاد البعيدة كان قوياً.
قوله: «ولو حمله حامل فطاف به أمكن أن يحتسب لكلّ منهما طوافه عن نفسه».
هذا إذا كان الحامل متبرّعاً، أو حاملاً بجعالة، أو مستأجراً للحمل في طوافه، أمّا لو استؤجر للحمل مطلقاً لم يحتسب للحامل؛ لأن الحركة المخصوصة قد صارت مستحقة عليه لغيره، فلا يجوز صرفها إلى نفسه، وفي المسألة أقوال، هذا أجودها.
ص: 77
• ولو تبرّع إنسان بالحجّ عن غيره بعد موته برئت ذمّته.
وكلّ ما يلزم النائب من كفّارةٍ ففي ماله. • ولو أفسده حجّ مِن قابل. وهل يُعاد بالأُجرة عليه؟ يبنى على القولين.
وإذا أطلق الإجارة اقتضى التعجيل ما لم يشترط الأجل.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو تبرّع إنسان بالحجّ عن غيره بعد موته برئت ذمته».
لا فرق في المتبرّع بين كونه ولياً أو غيره، ولا بين كونه عدلاً أو فاسقاً وإن كان الفاسق لا تجوز استنابته ابتداء، فإنّ المانع عدم قبول خبره بالفعل لا عدم صحة فعله في نفسه، فعلى هذا لو كان هو الوارث وقعت عن مورّثه، وبرئت ذمته من استئجار غيره ما لم يكن الميت قد أوصى إلى غيره بذلك.
قوله: «ولو أفسده حجّ من قابل، وهل يعاد بالأُجرة عليه؟ يبنى على القولين».
اللام في القولين للعهد الذهني، وهو المشهور بين الفقهاء في هذه المسألة ونظائرها من أنّ المفسد للحجّ إذا قضاه هل تكون الأُولى فرضه وقضاؤها عقوبة، أو بالعكس؟ فإن قلنا بالأوّل لم تعد الأُجرة؛ لأنه فعل ما استؤجر عليه في وقته، فاستحق الأُجرة، وإن قلنا بالثاني لم يستحقّ.
هذا إذا كانت السنة معيّنة، ولو كانت مطلقة وقلنا بأنّ الأُولى فرضه، فكذلك، وإن قلنا: هو الثانية فيبني استحقاق الأُجرة أيضاً على أن التأخير عن السنة الأُولى في المطلقة مع عدم الفسخ، وفعله بعد ذلك لا لعذر هل يوجب استحقاق الأُجرة أم لا؟ فعلى الأوّل يستحقّ هنا وعلى الثاني لا.
وقد تقدّم أنّ الشهيد حكم بعدم استحقاق المؤخّر لا لعذرٍ أُجرة، فيكون هنا عنده كذلك. والأصحّ أنّ الأُولى فرض المفسد و الثانية عقوبة، فيستحقّ الأُجرة على كل تقدير.
واعلم أنّ المصنّف لم يفرّق بين المعينة والمطلقة في ظاهر كلامه، بل بنى استحقاق الأُجرة على القولين.
وهو في المعيّنة واضح، وفي المطلقة إنّما يتمّ عدم استحقاق الأُجرة لو قلنا: إنّ الثانية فرضه على مذهب الشهيد فلعلّه يرى ذلك.
ص: 78
• ولا يصح أن ينوب عن اثنين في عام، ولو استأجراه لعام صحّ الأسبق.
• ولو اقترن العقدان وزمان الإيقاع بطلا.
-------------------------------------------------------------------
وقد أغرب العلّامة في القواعد، فأوجب في المطلقة قضاء الفاسدة في السنة الثانية والحجّ عن النيابة بعد ذلك(1).
وهو غير واضح؛ لأنه على تقدير كون الفاسدة عقوبة تكون الثانية هي الفرض، فلا مقتضي لوجوب حجّ آخر، ولو قلنا بأن الأُولى فرضه، فعدم إيجاب الثالثة أولى.
قوله: «ولا يصح أن ينوب عن اثنين في عام».
هذا إذا كان المستناب فيه واجباً، أو أريد فعل الحجّ عن كلّ واحدٍ منهما، أما لو كان مندوباً وأُريد إيقاع الفعل عنهما معاً ليشتركا في ثوابه صح، وقد يتفق ذلك في الواجب بأن ينذر جماعة الاشتراك في حجّ يستنيبون فيه كذلك.
ثمَّ على تقدير بطلان الإيقاع عن اثنين لو نوى عنهما لم يقع عنهما، وفي وقوعه عنه وجه ضعيف لعدم النيّة.
قوله: «ولو اقترن العقدان وزمان الإيقاع بطلا».
ولو اختلف زمان الإيقاع صحا إلا مع فوريّة وجوب الحجّ المتأخّر، وإمكان استنابة من يعجله في ذلك العام، فيبطل العقد المؤخّر.
ولو اقترن العقدان مع إطلاق زمان الإيقاع احتمل البطلان لاقتضاء كلّ واحدٍ التعجيل فيقع التنافي كما لو عيّنا الزمان والصحّة؛ لعدم التنافي بحسب التعيين، والمبادرة إنّما تجب بحسب الإمكان، وهو هنا غير ممكن، ومن ثم لو تعاقب العقدان صحّا كما مرّ، وبدأ بالأوّل فالأوّل.
وعلى تقدير الصحة يحتمل تخيير الأجير في البدأة بأيهما شاء؛ لاستحالة الترجيح من
ص: 79
• وإذا أُحصر تحلّل بالهدي، ولا قضاء عليه.
-------------------------------------------------------------------
غير مرجّح، والقرعة؛ لأنّها لكلّ أمرٍ مشكلٍ(1).
وقد استفيد من ذلك كله أن صُور المسألة ستّ؛ لأن العقدين إمّا أن يتّحدا زماناً أو يتعاقبا، وعلى التقديرين فإما أن يتّحد زمان الإيقاع، أو يختلف، أو يطلق، فالمطلقان يصحان مطلقاً إلا على الاحتمال، وكذا المتعددان والمتحدان عقداً لا إيقاعاً، وبالعكس يبطل الثاني. وكذا يبطل المتّحدان فيهما.
قوله: «وإذا أحصر تحلّل بالهدي، ولا قضاء عليه».
عدم وجوب القضاء إنّما يتم - على ظاهره - في المعينة؛ لانفساخ الإجارة حينئذٍ، وأمّا في المطلقة فإن قلنا بعدم جواز الفسخ بالتأخير مع المانع لهما أو لا معه للمستأجر وجب القضاء؛ لبقاء الإجارة، كما لو لم يبادر في السنة الأُولى، وإن قلنا بجواز الفسخ على وجه أمكن حمل القضاء المنفي على القضاء المتعيّن الحتمي، فإنه حينئذٍ لا يتحقّق، بل قد يجب، كما إذا لم تُفسخ، وقد لا يجب، كما إذا فُسخت، أما إطلاق نفي القضاء بحيث يراد به النفي الكلّي فليس بجيّد.
ولعلّ المصنّف يرى ثبوت التخيير في الفسخ على ذلك الوجه، كما اختاره الشهيد (رحمه اللّه) (2) وجماعة (3)، فيتوجّه نفي القضاء على الوجه الذي بيّناه، أو يُحمل على المعينة.
وللشيخ قولٌ بانفساخ العقد حينئذٍ من غير فسخٍ،(4) فينتفي عليه وجوب القضاء بكل وجه، ويتم الكلام معه أيضاً.
ص: 80
• ومن وجب عليه حجان مختلفان كحجّة الإسلام والنذر، فمَنَعه عارض جاز أن يستأجر أجيرين لهما في عامٍ واحدٍ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ومن وجب عليه حجان مختلفان - إلى قوله - جاز أن يستأجر أجيرين لهما في عام واحد».
إنما جاز الاستئجار لهما في عام واحدٍ مع أنّ المنوب لم يكن له إيقاعهما في عام، بل يجب عليه تقديم حجّة الإسلام إما مطلقاً، أو مع سبق الاستطاعة، وتقديم حجّة النذر مع سبق سببها عليها؛ لأنّ المعتبر في تقديم المقدَّم من ذلك أن لا يتقدم غيره عليه، وهو هنا حاصل، ولما كان ذلك غير ممكن من المنوب اتّفاقاً وأمكن من النائب المتعدّد صحّ.
وقد ذكر هذا الحكم جماعة من الأصحاب كذلك، منهم المصنّف والعلّامة في كتبه (1) جازمين بحكمه، وفي التذكرة نسب الجواز إلينا، ثم حكى عن الشافعي فيه وجهين(2).
وينقدح في هذا الحكم إشكال؛ لأن الترتيب إذا كان واجباً بين الحجّين لم يتحقّق بدون تقديم المتقدّم منهما بكماله، لا بعدم تأخيره كما ذُكر سابقاً.
ويرشد إليه ما سلف في الوضوء(3)، فإنّهم لم يجوّزوا غسل الأعضاء ولا مسحها دفعةً واحدةً مع تحقّق المعنى المذكور، وهو عدم تقديم المؤخّر، محتجين على ذلك بأن المعتبر تقديم المقدَّم، لا عدم تأخيره. وكذا حكموا في النائبين عن الميت في الصلاة اليوميّة أنّه لا يجوز إيقاعهما الفعل دفعة، بل لا بد من التعاقب، إلّا أن يّدعى في هذا الترتيب معنىً مغايراً لذلك، وهو غير متحقّقٍ؛ لاشتراك الجميع في وجوب تقديم بعضها على بعض من الفاعل، ولا معنى للترتيب إلا ذلك.
ويظهر من الدروس أن في جواز النائبين هنا في عام واحد خلافاً؛ لأنّه قال فيه: فالأقرب الإجزاء(4)، وهو يدلّ على الخلاف، ثمَّ قال: ولو قلنا بوجوب تقديم حجّة الإسلام،
ص: 81
• ويستحب أن يذكر النائب من ينوب عنه باسمه في المواطن وعند كلّ فعلٍ
-------------------------------------------------------------------
إمّا لسبق وجوبها أو مطلقاً، ففي وجوب تقديمها من النائب نظر(1)، وعنى بذلك وجوب تقديم إحرام نائب المتقدّمة على إحرام الآخر؛ تنزيلاً لهما منزلته، ووجوب ذلك مع اقترانهما في باقيه غير واضح؛ لأن المعتبر إن كان وقوع الأُولى بكمالها قبل الثانية لم يتحقّق هنا، وإن كان عدم تقديمها كذلك فهو متحقّق على التقديرين.
ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن هذا ليس من باب الواجب المرتَّب، بل من باب تعارض الواجبين، وفرقٌ بين الأمرين.
وبيان ذلك أنّ حجّ الإسلام واجب مضيّق؛ لأنّ وجوبه فوري، وحج النذر المطلق - مثلاً - وجوبه موسَّع، فالسنة الأُولى بالنسبة إلى الواجبين تصلح لكلٍّ منهما، فمن ثمّ لو انفرد كلّ واحدٍ عن الآخر أمكن فعله فيها، فإذا اجتمعا ولم يمكن الجمع بينهما قدم الواجب المضيق وفاء لحق الواجبين بحسب الإمكان.
وممّا يرشد إلى ذلك أنه لو اجتمع على المكلّف واجبان كذلك وأمكن الجمع بينهما - كصوم يوم مطلق وصلاة مائة ركعة - مثلاً - في يوم معين كهذا اليوم - فإنّه يجوز الجمع بينهما مع الإمكان، ولو لم يمكن قدّم المضيق وهو الصلاة، وهذا بخلاف الواجب المرتب، فإنّه لا يجوز فيه الجمع وإن أمكن كالوضوء والصلاة، ومن ثم لم يجز غمس الأعضاء دفعةً ولا مسحها كذلك، ولما لم يمكن في الحجّ الجمع من المباشر الواحد قدّم المضيق، فإذا أمكن بفعل النائب جاز الجمع بينهما في عام واحد. وقد ظهر بذلك قوّة ما ذكره الأصحاب.
قوله: «ويستحب أن يذكر النائب من ينوب عنه باسمه - إلى قوله - من أفعال الحج».
أي يستحبّ ذكره لفظاً، وإلا فإنّ ذكره نيّة واجب عند كل فعل يتوقّف على النيّة.
وليكن اللفظ ما رواه الحلبي وغيره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه يقول: «اللّهم ما أصابني في
ص: 82
من أفعال الحجّ والعمرة، وأن يعيد ما يفضل معه من الأُجرة بعد حجّه، • وأن يعيد المخالِفُ حجّه إذا استبصر وإن كانت مجزئةً.
• ويكره أن تنوب المرأة إذا كانت صرورة.
-------------------------------------------------------------------
سفري هذا من تعب أو شدّةٍ أو بلاء أو شعث فآجر فلاناً فيه، وأجرني في قضائي عنه»(1). وفي رواية «من نصب» (2) بدل «تعب».
ومحلّ هذا القول بعد نيّة الإحرام وكلّ فعل.
قوله: «وأن يعيد المخالف حجّه إذا استبصر وإن كانت مجزئة».
الإتيان بقوله «وإن الوصليّة يقتضى استحباب الإعادة لو كانت غير مجزئة بطريق أولى، كما في قولهم أحبك وإن كنت جاهلاً».
وقد يشكل ذلك بأن شرط اجتزائه بالحجّة السابقة وقوعها مجزئة كما مرّ، فإذا لم تكن مجزئة كانت الإعادة واجبةً لا مستحبّة.
ويمكن حله بأنّ المراد بالإجزاء هنا التنبيه على ما سبق الخلاف فيه من أنّ عدم الإعادة هل هو لصحّة الحجّة في نفسها، أو تخفيف وإسقاط تكليف كما في الكافر إذا أسلم ؟ فعلى القول بالفساد وسقوط القضاء تخفيفاً تظهر فائدة استحباب إعادتها، وعلى القول بأنها مجزئة صحيحة قد يشكل اختصاصه باستحباب الإعادة من بين مطلق الحاجّ؛ لاشتراك الجميع في الإجزاء، فنبه بقوله «وإن كانت مجزئة» على الفرد الأخفى من شقي المسألة على تقدير استحباب الإعادة؛ إذ لا يخفى أنّ الاستحباب على تقدير الإجزاء أخفى منه على تقدير عدمه.
قوله: «ويكره أن تنوب المرأة إذا كانت صرورةٌ».
نبّه بذلك على خلاف الشيخ وابن البرّاج (رحمهما اللّه)، حيث منعا من نيابتها
ص: 83
مسائل ثمان :
الأُولى: • إذا أوصى أن يحج عنه ولم يعيّن الأُجرة انصرف ذلك إلى أُجرة المثل.
• و تخرج من الأصل إذا كانت واجبةً، ومن الثلث إذا كانت ندباً.
-------------------------------------------------------------------
صرورةٌ(1)، و به روايات (2) حَمْلها على الكراهة طريق الجمع بينها وبين غيرها.
ولا يكره ذلك للرجل عندنا وإن كان بعض العامة قد منع منه (3).
قوله: «إذا أوصى أن يحج عنه ولم يعيّن الأُجرة انصرف ذلك إلى أُجرة المثل».
المراد بأُجرة المثل ما يُبذل فى الغالب للفعل، وهو الحجّ هنا لمن استجمع شرائط النيابة في أدنى مراتبها، وإنما ينصرف إلى أُجرة المثل إذا لم يوجد من يأخذ أقل منها اتّفاقاً، وإلا اقتصر عليه، والظاهر أنه لا يجب تكلّف تحصيل ذلك.
ويعتبر الحجّ من أقرب الأماكن على ما اخترناه، إلّا مع إرادة خلافه صريحاً أو قرينة.
قوله: «وتخرج من الأصل إذا كانت واجبةً».
ضابط كلّي في هذا الباب(4)، وهو أنّ كلّ واجب متعلّق بالمال في حال الحياة - سواء كان ماليّاً محضاً كالزكاة والخمس والكفّارة، أم ماليّاً مشوباً بالبدن كالحجّ - فإنّه يخرج من أصل التركة، سواء وصى به الميت أم لم يوص، وما لم يكن ماليّاً -كالصلاة والصوم - فإنّما يخرج من الثلث مع وصيّة الميّت به ولو لم يوص به لم يخرج عنه، بل يبقى في عهدته، وكذا المندوب يخرج من الثلث مع الوصية به، والذي يخرج من الأصل في القسم الأول هو أُجرة مثله، فلو أوصى الميت بأزيد من أُجرة المثل له كان قدر الأُجرة محسوباً من الأصل، والزائد وصيّة يحسب من الثلث.
ص: 84
• ويستحقّها الأجير بالعقد، • فإن خالف ما شُرط قيل كان له أُجرة المثل، والوجه أنّه لا أُجرة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويستحقّها الأجير بالعقد».
أي يملكها، حتى لو كانت عيناً فزادت بعد العقد أو نمت فهما للأجير، لكن لا يجب تسليمها إلا بعد العمل، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، فعلى هذا لا يجوز للوصيّ تسليم الأُجرة قبل العمل، فلو سلّم كان ضامناً إلا مع الإذن صريحاً أو بشاهد الحال.
ولو توقف عمل الأجير على دفع الأُجرة إليه ولم يدفع إليه احتُمل جواز فسخه - وهو الذي قربه في الدروس (1) - ووجوب انتظار وقت الإمكان.
قوله: «فإن خالف ما شرط قيل: كان له أُجرة المثل والوجه أنّه لا أُجرة».
وجه الوجه وجيه؛ لأنه متبرع بما أتى به، لكن يستثنى منه ما سبق في الطريق والنوع (2).
واعلم أنّ موضوع هذه المسألة أعم مما سبق؛ لأنها شاملة لمن استؤجر على الوجهين المتقدّمين فخالف، أو على الحجّ فاعتمر، أو بالعكس وغيرها.
والقائل بثبوت الأُجرة في جميع الموارد غير معلوم، خصوصاً في القسمين الأخيرين، فإنّ الخلاف فيهما إنّما وقع في صحّة ما فَعَله من حيث إتيانه بخلاف ما أمر به، فهو منهيٌّ عنه، وهو يقتضي بطلان العبادة، ومن حيث إنّ النهي إنّما يتوجّه إلى الضدّ العامّ لا الخاصّ.
وأمّا الأُجرة فظاهرهم الإجماع على سقوطها هنا. نعم، يمكن صحته في المخالفة في وصفٍ خارجٍ عن حقيقة ما استؤجر عليه، كالمشي، والإحرام من ميقات مخصوص، والطواف على وجه مخصوص، ونحو ذلك، فإنّ القول بثبوت أُجرة المثل محتمل من حيث إنه بعض المأمور به، كما لو خالف في الطريق مع الغرض، فقد قال العلّامة بثبوت الأُجرة في بعض موارده كما مرّ (3)، وإن كان في الحكم بأجرة المثل ثَمَّ،نظر، فإنّ المتّجه استحقاقه من المسمّى بنسبة ما عمل ممّا عيّن له، وقد تقدّم.
ص: 85
الثانية من أوصى أن يُحج عنه ولم يعيّن المرّات، فإن لم يُعلم منه إرادة التكرار اقتصر على المرّة،• وإن عُلم إرادة التكرار حجّ عنه حتّى يستوفى الثلث من تركته.
الثالثة: • إذا أوصى الميت أن يُحجّ عنه كلّ سنةٍ بقدرٍ معين فقصر جمع نصيبُ سنتين واستؤجر به لسنةٍ، وكذا لو قصر ذلك أضيف إليه من نصيب الثالثة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن عُلم منه(1) إرادة التكرار حجّ عنه حتى يستوفي الثلث من تركته».
هذا إذا علم منه إرادة تكرار لا يقف على حدٍ، أو يسع الثلث فصاعداً، فلو علم منه تكرار ينقص عن الثلث اقتصر عليه مع أنّه داخل في العبارة.
وكذا لو كان في الحجّ الموصى به حجّ واجب بالنذر أو الإسلام، لم يحتسب من الثلث، بل يخرج من الأصل أوّلاً ثمّ يكرّر الحجّ بقدر الثلث.
والمصنّف (رحمه اللّه) يريد بالحجّ الموصى به المندوب خاصة بقرينة إخراجه من الثلث، فمن ثُمَّ أطلق خروجه من الثلث.
قوله: «إذا أوصى... أن يُحج عنه كلّ سنةٍ بقدر معيّن - إلى قوله - من نصيب الثالثة».
الضابط في ذلك أن يجمع مما زاد على السنة ما يكمل به أُجرة المثل لسنةٍ ثمَّ يضمّ الزائد إلى ما بعده، وهكذا، ولا يتقدّر بجمع سنتين ولا أزيد كما ذكر.
ولو كانت السنون معيّنةً ففضل منها فضلة لا تفي بالحجّ أصلاً، ففي صرفه في وجوه البرّ أو عوده إلى الورثة الوجهان.
والقول في اعتبار الحجّ من البلد أو من الميقات كما مرّ.
ثم إن كان ذلك القدر المعيّن للحجّ غلة بستان مثلاً فمؤونتها على الوارث؛ لأنّ الأصل ملكه، إلا أن يصرّح بخلافه، أو تدل القرائن عليه. ويحتمل إخراجها من الغلة مقدّمة على الوصيّة؛ لتوقفها عليها.
ولو كان الموصى به جميع المال الذي له الغلّة فلا إشكال في تقديم مؤونته على الوصيّة.
ص: 86
الرابعة. •لو كان عند إنسان وديعة ومات صاحبها وعليه حجّة الإسلام، وعرف أنّ الورثة لا يؤدون جاز أن يقتطع قدر أُجرة الحجّ فيستأجر به؛ لأنّه خارج عن ملك الورثة.
-------------------------------------------------------------------
وكذا لو امتنع الوارث من الإنفاق عليه، ولم يكن هناك من يُجبره عليه.
قوله: «لو كان عند إنسان وديعة ومات صاحبها - إلى قوله - خارج عن ملك الورثة».
الأصل في هذه المسألة ما رواه بريد العجلي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل استودعنى مالاً فهلك وليس لولده شيء، ولم يحج حجّة الإسلام؟ قال: «حجّ عنه، وما فضل فأعطهم»(1).
وقد اشتملت الرواية على كون المال وديعة، كما حكاه الأصحاب، وعلى كون الحجّ حجّة الإسلام، وعلى كون المستودع مباشراً للحجّ، واقتطاع الأُجرة من الأصل، وقد قيّدها الأصحاب بعلم المستودع أنّ الورثة لا يؤدون، وإلا وجب استئذانهم؛ لأن الأصل يقتضي ذلك. حذراً من التصرف في مال الغير بغير إذنه، خرج منه ما لو علم عدم أدائهم فيبقى الباقي.
وطرّدوا الحكم في غير الوديعة من الحقوق المالية كالدين والغصب والأمانة الشرعيّة؛ لاشتراك الجميع في كونه مال الميت الذي يجب إخراج الحجّ منه قبل الإرث.
والظاهر طرده في غير حجّة الإسلام، كالنذر، والعمرة، وقضاء الدين، وكلّ حقّ ماليٍ يجب إخراجه عن الميّت وإن لم يوص به، كالزكاة والخمس.
وخرّج بعضهم وجوب استئذان الحاكم مع إمكانه(2). وهو حسن مع القدرة على إثبات الحق عنده؛ لأن ولاية إخراج ذلك قهراً على الوارث وغيره إليه، ولو لم يمكن فالعدم أحسن؛ حذراً من تعطيل الحق الذى يعلم من بيده المال،ثبوته وإطلاق النصّ(3) إذن له، والظاهر جواز
ص: 87
الخامسة : • إذا عقد الإحرام عن المستأجر عنه ثم نقل النيّة إلى نفسه لم يصحّ، فإذا أكمل الحجّة وقعت عن المستأجر عنه ويستحقّ الأُجرة، ويظهر لى أنّها لا تجزئ عن أحدهما.
-------------------------------------------------------------------
استنابته فيه كما تجوز مباشرته. والقول في كون الحجّ هنا من الميقات أو من البلد كما مرّ.
ولو تعدّد الودعي وعلم بعضهم ببعض توازعوا الأُجرة.
ولو أخرجها بعضهم بإذن الباقين فالظاهر الإجزاء؛ لاشتراك الجميع في كونه مال الميت الذي يقدّم إخراج ذلك منه على الإرث.
ولو لم يعلم بعضهم ببعضٍ وأخرجوا جميعاً أو حجّوا فلا ضمان مع الاجتهاد على الأقوى، ولا معه ضمنوا ما زاد على الواحدة. ولو علموا في الأثناء سقط من وديعة كلّ منهم ما يخصّه من الأُجرة، وتحلّلوا ما عدا واحداً بالقرعة إن كان بعد الإحرام.
ولو حجّ كلٌّ منهم عالماً بالآخر صح السابق خاصّة.
ولو أحرموا دفعةً سقط من وديعة كلّ واحدٍ منهم ما يخصه من الأُجرة الموزّعة وغرم الباقي.
ولو علم أنّ بعض الورثة يؤدي دون بعض، فإن كان نصيبه يفي بأجرة الحجّ والحق بحيث يعلم حصول الغرض وجب الدفع إليه وإلا فلا، ولو أمكن استئذان من يؤدّي من غير صَرفٍ إليه ومباشرته الإخراج جاز.
والمراد بالعلم هنا الظنّ الغالب المستند إلى قرائن الأحوال.
ولو دفعه إليهم والحال هذه ضمن إن لم يتفق منهم الأداء، فإنّ المراد بالجواز هنا معناه الأعم والمراد منه الوجوب؛ لأنّه من باب الحسبة والمعاونة على البر والتقوى، والأمر في الرواية (1) دالّ عليه.
قوله: «إذا عقد الإحرام عن المستأجر عنه ثمَّ نقل النيّة - إلى قوله - لا تجزئ عن أحدهما».
ص: 88
السادسة: إذا أوصى أن يُحجَّ عنه وعيَّن المبلغ، فإن كان بقدر ثلث التركة أو أقل صح، واجباً كان أو مندوباً، وإن كان أزيد وكان واجباً ولم يُجز الورثة كانت جرة المثل من أصل المال والزائد من الثلث. • وإن كان ندباً حجّ عنه من بلده إن احتمل الثلث، وإن قصر حجّ عنه من بعض الطريق.
-------------------------------------------------------------------
القول الأول للشيخ (رحمه اللّه)(1)، وتبعه عليه المصنّف في المعتبر(2). وهو مبنيٌّ على أنّ نيّة الإحرام كافية عن نيّة باقي الأفعال، وأنّ الإحرام يستتبع الباقي، وأن النقل فاسد؛ لمكان النهي، فيبقى على ما أحرم به.
وفي رواية [ابن](3) أبي حمزة: لو حجّ النائب عن نفسه وقع عن المنوب(4)، وهو أبلغ من قول الشيخ.
والأصحّ ما اختاره المصنّف هنا من عدم وقوعها عن أحدهما؛ أمّا عن المستأجر فلعدم نيّته بعد النقل، وأمّا عن نفسه فلعدم جواز العدول، وعدم وقوع الإحرام عنه، وللنهي عن إيقاع باقي الأفعال عن نفسه المقتضي للفساد، فلا يستحقّ أُجرة.
قوله: «وإن كان ندباً حجّ عنه من بلده إن احتمل الثلث، وإن قصر حجّ عنه من بعض الطريق».
قد تقدّم من المصنّف اختيار أنّ الحجّ الواجب يُقضى من الميقات، وهنا أوجب قضاء المندوب من البلد مع اتّساع الثلث له، والخلاف واقع فيهما، وإنما فرّق المصنّف بينهما في الحكم؛ جمعاً بين الدليل الدالّ على أن الطريق لا يُحتسب من الحجّ، وقد تقدم، وبين رواية البزنطي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرجل يموت فيوصي بالحجّ من أين يحجّ عنه؟ قال: «على قدر ماله، إن وسعه ماله فمن منزله، وإن لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة، فإن لم يسعه من
ص: 89
• وإن قصر عن الحجّ حتى لا يرغب فيه أجير صرف في وجوه البرّ، وقيل: يعود ميراثاً.
-------------------------------------------------------------------
الكوفة فمن المدينة»(1). فعلى هذا ليس في حكم المصنّف هنا رجوع عما تقدّم.
والأصحّ تساوي الواجب والندب في ذلك.
وفي قوله «حج عنه من بعض الطريق» إشارة إلى أنّه لا يتعيّن الميقات عند تعذّر البلد، بل يجب بحسب الممكن، وعلى أنّه لا يتعين ميقات بلد الميّت، بل لو أمكن إخراج الحجّ من ميقات أقرب إلى مكّة لقلة المال وجب.
قوله: «وإن قصر عن أُجرة المثل (2) حتى لا يرغب فيه أجير إلى قوله وقيل: يعود ميراثاً».
وجه الأول خروجه عن ملك الوارث بالوصية؛ لأنّ الإرث بعد الوصية، فإذا تعذّر المصرف الخاص بقي العامّ الداخل ضمناً، وهو مطلق ما يتقرب به، فيصرف في وجوه البرّ.
ووجه الثاني كون العامّ غير مقصود، وإنّما أخرجه عن الورثة بشرط صرفه في الوجه المعين، فإذا تعذّر عاد ميراثاً، بل كشف عن سبق الميراث له من حين الموت، وإنّما عاد ظاهراً.
وفصّل بعضهم جيّداً، فقال: إن كان قصوره حصل ابتداءً بحيث لم يمكن صرفه في الحجّ في وقتٍ ما فكونه ميراثاً أقوى؛ لما ذكر، وإن كان ممكناً ثم طرأ القصور بعد ذلك لطروء زيادة الأُجرة ونحوه فإنّه لا يعود ميراثاً؛ لصحة الوصية ابتداء، فخرج بالموت عن الوارث، فلا يعود إليه إلا بدليل، فإذا تعذّر المصرف المعيّن صُرف في البرّ(3).
ولو أمكن استنماؤه بالتجارة وصرفه في الحجّ بعد مدة فالظاهر وجوبه، وكذا لو رجا إخراجه في وقت آخر.
وإنّما يُصرف فى البرّ مع اليأس من صَرفه في الحجّ.
ولهذه المسألة نظائر كثيرة في تضاعيف الفقه.
ص: 90
السابعة: إذا أوصى في حجّ وغيره قدم الواجب،• فإن كان الكل واجباً وقصرت التركة قسمت على الجميع بالحصص.
الثامنة: من عليه حجّة الإسلام ونذر أخرى ثم مات بعد الاستقرار أُخرجت حجّة الإسلام من الأصل والمنذورة من الثلث، ولو ضاق المال إلّا عن حجّة الإسلام اقتصر عليها، ويستحبّ أن يحج عنه النذر.
• ومنهم من سوّى بين المنذورة وحجة الإسلام في الإخراج من الأصل والقسمة مع قصور التركة، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فإن كان الكل واجباً وقصرت التركة قسّمت على الجميع بالحصص».
هذا إذا كانت الواجبات كلّها ماليّةً كالدين والكفّارات والحج، فلو كان بعض الواجبات بدنياً كالصلاة قدم المالي على غيره.
قوله: «ومنهم من سوّى بين المنذورة وحجة الإسلام في الإخراج - إلى قوله - وهو أشبه».
وجه الأول رواية ضريس عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، وهي التي نقلها بعد ذلك، فالعبارة في قوة المكرّرة، وإنّما صنع ذلك؛ لأنّ الرواية وردت في مادّةٍ مخصوصة، فتحرج المصنّف من جعلها عامةً وإن كان القول عاماً.
ووجه التسوية اشتراك الحجتين في كونهما حقاً مالياً، فيخرجان من الأصل، ويتحاصّان مع القصور، وهو أقوى.
وحُملت الرواية على نذرٍ غير لازم، كالواقع في المرض.
ولو قصر التحاص عن إخراج كل واحدة منهما من أقرب الأماكن ووسع الحجّ خاصة أو العمرة صُرف فيه، فإن قصر عنهما احتمل تركهما معاً، وتقديم حجّة الإسلام إن وسع لأحدهما، والقرعة.
ص: 91
وفي الرواية: إذا نذر أن يحجّ رجلاً ومات وعليه حجّة الإسلام أخرجت حجّة الإسلام من الأصل وما نذره من الثلث.
والوجه التسوية؛ لأنهما دَيْنُ.
وهي ثلاثة: • تمتّع،وقران وإفراد.
أما التمتّع فصورته أن يُحرم من الميقات. • بالعُمرة المتمتّع بها، ثم يدخل مكّة فيطوف سبعاً بالبيت، ويصلي ركعتيه بالمقام، ثمَّ يسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ويقصر.
-------------------------------------------------------------------
قوله «تمتّع».
التمتّع لغةً: الانتفاع والتلذّذ(1)، ومنه يأكلون ويتمتّعون» (2) سُمّي هذا النوع بذلك؛ لما يتخلّل بين عمرته وحجّه من التحلّل الموجب لجواز الانتفاع والتلذّذ بما كان قد حرمه الإحرام قبله واختص بالاسم مع اشتراك الجميع فيه؛ لشدّة ارتباط ما بين حجّه وعمرته، فكانا لذلك كالشيء الواحد، فإذا حصل بينهما تمتّع فكأنه قد حصل في أثناء الحجّ.
وقد روى الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة»(3). وعنى به عمرة التمتّع وحجّه.
قوله: «بالعمرة المتمتّع بها».
أي المنتفع بها إلى الحجّ، كما وصفها اللّه تعالى بقوله: «فَمَن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجَ»(4) ومعنى التمتّع بها إلى الحجّ الانتفاع بثوابها والتقرّب بها إلى اللّه تعالى قبل الانتفاع بالحجّ إلى
ص: 92
ثمَّ ينشئ إحراماً للحجّ من مكّة. • يوم التروية على الأفضل، وإلّا بقدر ما يعلم أنّه يدرك الوقوف، ثمَّ يأتي عرفات فيقف بها إلى الغروب، ثمّ يفيض إلى المشعر فيقف به بعد طلوع الفجر، ثمَّ يفيض إلى منى فيحلق بها يوم النحر، ويذبح هديه، ويرمي جمرة العقبة.
ثمَّ إن شاء أتى مكّة ليومه أو لغده، فطاف طواف الحجّ وصلّى ركعتيه وسعى سعيه، وطاف طواف النساء، وصلى ركعتيه، ثم عاد إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار، وإن شاء أقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر ومثله يوم الثاني عشر، ثمَّ ينفر بعد الزوال، • وإن أقام إلى النفر الثاني جاز أيضاً، وعاد إلى مكّة للطوافين والسعي.
-------------------------------------------------------------------
وقت الحجّ، فيجتمع حينئذٍ التقرّبان، أو المنتفع بها إذا فرغ منها باستباحة ما كان محرَّماً إلى وقت التلبس بالحج، فالباء سببيّة، والمعنيان ذكرهما في الكشّاف(1).
قوله: «يوم التروية».
اليوم الثامن من ذي الحجّة، سمّي بذلك؛ لأنّ الناس كانوا يتروّون فيه الماء ويحملونه إلى عرفة، رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته لم سُمّي يوم التروية بذلك؟ قال: «لأنّه لم يكن بعرفات ماء، وكانوا يستقون من مكّة من الماء ريَّهم، وكان يقول بعضهم لبعض : تروّيتم تروّيتم؟ فسُمّي يوم التروية لذلك» (2).
قوله: «وإن أقام إلى النفر الثانى جاز أيضاً».
جواز الإقامة بمنى أيّام التشريق قبل الطوافين والسعي للمتمتّع وغيره هو أصحّ القولين، وبه أخبار صحيحة(3).
ص: 93
• وهذا القسم فرض من كان بين منزله ومكة اثنا عشر ميلاً فما زاد من كلّ جانبٍ، وقيل: ثمانية وأربعون ميلاً.
-------------------------------------------------------------------
وما ورد منها مما ظاهره النهي عن التأخّر(1) محمول على الكراهة؛ جمعاً بينها. وعلى هذا القول يجوز تأخيرها طول ذي الحجّة.
وربما قيل بجواز تأخير المتمتّع عن يوم النحر إلى الغد خاصّةً.
وجَمَع الشيخ (رحمه اللّه) بين الأخبار بحمل أخبار التأخير على غير المتمتّع وأخبار النهي عليه (2)، وما قدمناه أجود.
واعلم أنّه سيأتي في كلام المصنّف اختيار المنع عن الغد من غير إشارة إلى خلاف، وهنا اختار الجواز كذلك، وكأنّه رجوع عن الفتوى.
وربما حُمل الجواز هنا على معنى الإجزاء، فإنّ الفعل مع التأخير مجزئ وإن حصل الإثم، و هو فائدة الخلاف، وهو حمل بعيد.
قوله: «وهذا القسم فرض من كان بين منزله ومكّة اثنا عشر ميلاً فما زاد من كل جانبٍ، وقيل: ثمانية وأربعون ميلاً».
القول الثاني هو الأقوى لصحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3) وغيرها(4).
وما اختاره المصنّف ذهب إليه جماعة من الأصحاب(5)، منهم الطبرسي في التفسير(6)، ولا نعلم مستنده، وربما وُجه بأن الثمانية والأربعين المذكورة في الرواية موزعة على الأربع جهات فيختص كلّ واحدٍ اثنا عشر.
ص: 94
• فإن عدل هؤلاء إلى القران أو الإفراد في حجّة الإسلام اختياراً لم يجز،
ويجوز مع الاضطرار.
• وشروطه أربعة: النيّة،
-------------------------------------------------------------------
وعلى هذا القول تنتفي فائدة قولهم في القارن والمفرد : إنّهما يُحرمان من دويرة أهلهما إن كانت أقرب من الميقات، فإنّ معنى ذلك أنّها لو كانت أبعد كان إحرامهما من الميقات وهذا لا يتفق؛ لأن أقرب المواقيت إلى مكّة يزيد على اثني عشر.
قوله: «فإن عدل هؤلاء إلى القران أو الإفراد في حجّة الإسلام اختياراً لم يجز، ويجوز مع الاضطرار».
كخوف الحيض المتقدم على طواف العمرة إذا خيف ضيق وقت الوقوف الاختياري بعرفة، أو خيف التخلّف عن الرفقة إلى عرفة حيث يحتاج إليها وإن كان الوقت متسعاً.
ومن الاضطرار خوف المُحرم بالعمرة من دخول مكّة قبل الوقوف لا بعده.
ومنه ضيق الوقت عن الإتيان بأفعال العمرة قبل الوقوف، ونحو ذلك.
قوله: «وشروطه أربعة: النيّة».
قد تكرر ذكر النيّة هنا في كلامهم، وظاهرهم أنّ المراد بها نيّة الحجّ بجملته، وفي وجوبها كذلك نظر.
ويمكن أن يريدوا بها نيّة الإحرام، وهو حسن، إلّا أنّه كالمستغنى عنه، فإنّه من جملة الأفعال، وكما تجب النيّة له تجب لغيره، ولم يتعرّضوا لها في غيره على الخصوص.
ولعلّ للإحرام مزيّةٌ على غيره باستمراره، وكثرة أحكامه، وشدّة التكليف به.
وقد صرّح في الدروس بأن المراد بها نيّة الإحرام(1)، ويظهر من سلار في الرسالة أنّ المراد بها نيّة الخروج(2).
ص: 95
• ووقوعه في أشهر الحجّ وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وقيل: وعشرة من ذي الحجّة، وقيل: وتسعة من ذي الحجّة، وقيل: إلى طلوع الفجر من يوم النحر وضابط وقت الإنشاء ما يعلم أنه يدرك المناسك.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ووقوعه في أشهر الحجّ وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة - إلى قوله - أنّه يدرك المناسك».
المرويّ (1) والأقوى هو القول الأول؛ لقوله تعالى: «الحجّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَت»(2)، والأشهر صيغة جمع لا يصدق حقيقة بدون الثلاثة.
وروى معاوية بن عمّار - في الصحيح - عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الحجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومات: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة»(3).
وباقي الأقوال ينظر إلى عدم إمكان إنشاء الحجّ بعد المدة المذكورة فيها إمّا اختياراً أو اضطراراً.
وقد حقّق المتأخّرون أنّ النزاع لفظيٌ؛ إذ عند تحرير الحال يرتفع الخلاف والإشكال، فإنّ من أفعال الحجّ ما يقع في مجموع ذي الحجّة، كالطوافين والسعي فإن أريد بأشهر الحجّ هذا المعنى فلا إشكال في أنّها الثلاثة، ولكن لا يمكن إنشاؤه في جميع ذي الحجّة، بل لا بدّ في إجزائه من إدراك الوقوفين أو أحدهما اختياراً أو اضطراري المشعر على وجه سيأتي تحقيقه، وحينئذٍ فإن أُريد بأشهر الحجّ ما يمكن إنشاؤه فيها فلا إشكال في فواته بطلوع الشمس من يوم النحر أو بزواله، فالاعتبارات التي قد رتبت عليها هذه الأقوال لا مشاحة فيها، وحينئذٍ فما اختاره المصنّف من أن أشهر الحجّ هي الثلاثة ووقت الإنشاء ما يمكن إدراك المناسك المعتبرة في الصحة هو الأقوى.
ص: 96
• وأن يأتي بالحجّ والعمرة في سنة واحدة.
• وأن يحرم بالحجّ له من بطن مكة، وأفضلها المسجد، وأفضله المقام.
• ولو أحرم بالعُمرة المتمتّع بها في غير أشهر الحجّ لم يجز له التمتّع بها،
-------------------------------------------------------------------
وقد تظهر فائدة الخلاف فيما لو نذر الصدقة أو غيرها من العبادات في الأشهر المعلومات أو في أشهر الحجّ، فإنّ جواز تأخيره إلى ما بعد التاسع يبنى على الخلاف.
قوله: «وأن يحرم بالحجّ له من بطن مكة، وأفضلها المسجد، وأفضله المقام».
المراد ببطن مكّة ما دخل عن شيء من بنائها، وأقله سورها، فيجوز الإحرام من داخل سورها مطلقاً، لكنّ الأفضل كونه من مقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أو من داخل الحجر؛ لرواية معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
ويظهر من المصنّف أنّ المقام أفضل، وهو اختيار الدروس(2).
وينبغي لمن أحرم بالحجر أن يكون تحت الميزاب.
قوله: «ولو أحرم بالعمرة المتمتّع بها(3) في غير أشهر الحجّ لم يجز له التمتّع بها».
ظاهر العبارة يشعر بكونها تقع صحيحةً لكن لا يتمتّع بها؛ لفقد الشرط، وهو وقوعها في أشهره، وهو الذي صرح به العلّامة في التذكرة، وجزم بأنها تنعقد مبتولة(4).
ووجهه تحقق القربة بالإحرام المعين، فإذا فات التعين لعارض بقي المطلق، بل اختار ما هو أعظم من ذلك، وهو أنه لو أتى بالحجّ في غير أشهره ينعقد عمرةً مبتولةٌ.
وفيهما معاً نظر؛ لفقد النيّة التي هي شرط العبادة، وما نواه من المعين لم يحصل، والمطلق غير مقصود.
ص: 97
• وكذا لو فَعَل بعضها في أشهر الحجّ. ولم يلزمه الهدي.
• والإحرام من الميقات مع الاختيار.
• ولو أحرم بحج التمتّع من غير مكّة لم يجزه ولو دخل مكّة بإحرامه على الأشبه،
-------------------------------------------------------------------
واستدلّ له العلّامة (1) برواية (2) تبعد عن الدلالة، تأمل.
قوله: «وكذا لو فَعَل بعضها في أشهر الحجّ».
نبّه بذلك على خلاف جماعة من العامّة(3)، حيث اعتبروا الإحلال في أشهر الحجّ، وبعضهم أكثر الأفعال(4)، وعندنا الاعتبار بالإحلال لا بهما.
قوله: «ولم يلزمه الهدي».
لأنّ لزومه من توابع وقوع التمتّع، فحيث لم يقع لم يلزم.
وعند العامّة يلزم الهدي تفريعاً على وقوعها لما نواه
قوله: «والإحرام من الميقات مع الاختيار».
هذا شرط آخر أعم من الرابع، فإنّه مخصوص ببيان ميقات حجّ التمتّع، وهذا يشمل عمرته أيضاً.
ويمكن أن يكون مخصوصاً بعمرة التمتّع بمعنى أن شرطها وقوعها في زمانها، وهو أشهر الحجّ، كما مرّ، ومكانها، وهو ميقاتها المخصوص بها، فلا يجوز الإحرام من غيره مع الاختيار، ويجوز مع الاضطرار على بعض الوجوه وسيأتي تفصيله.
قوله: «ولو أحرم بحج التمتّع من غير مكّة لم يجزه ولو دخل مكّة بإحرامه على الأشبه».
لا ريب في عدم جواز الإحرام من غير محله إلا في موضعين يأتي ذكرهما، ولا فرق في
ص: 98
• ووجب استئنافه منها ولو تعذّر ذلك قيل: يجزئه، والوجه أنه يستأنفه حيث أمكن ولو بعرفة إن لم يتعمّد ذلك.
• وهل يسقط الدم والحال هذه ؟ فيه تردّد.
-------------------------------------------------------------------
ذلك بين أن يمرّ بعد ذلك على الميقات وعدمه.
وهذه المسألة لم يذكر في غير هذا الكتاب فيها خلافاً.
وقد أنكر شارح ترددات الكتاب الخلاف أيضاً، ونقل عن شيخه أن المصنّف قد يشير في كتابه إلى خلاف الجمهور، أو إلى ما يختاره من غير أن يكون خلافه مذهباً لأحدٍ من الأصحاب، فيظنّ أنّ فيه خلافاً(1).
والمخالف هنا من العامة الشافعي، فإنّه جوّز له الإحرام من أحد المواقيت كما يجوّز له الإحرام من مكّة(2).
قوله: «ووجب استئنافه منها، ولو تعذّر ذلك قيل يجزئه، والوجه أنه يستأنف حيث أمكن ولو بعرفة إن لم يتعمّد ذلك».
القول المحكيّ للشيخ (رحمه اللّه)(3). وما اختاره المصنّف هو الأقوى مع الجهل أو النسيان، والمتعمّد يجب عليه العود إلى مكة، فإن تعذّر فلا حجّ له.
قوله: «وهل يسقط الدم والحال هذه؟ فيه تردّد».
تحقيق الخلاف في هذه المسألة وبيان التردّد يتوقّف على تحرير مقدّمة، هي أنّ دم هدي التمتّع هل وجب على المتمتّع نسكاً من المناسك، أعني عبادةً خاصةً كالطواف والسعي وغيرهما من المناسك الواجبة بالأصالة، أم وجب جبراناً للإحرام حيث لم يقع من أحد المواقيت الستة الخارجة عن مكة؟ خلاف، فالمشهور بين أصحابنا الأوّل، بل ادّعى الشيخ
ص: 99
-------------------------------------------------------------------
في الخلاف عليه الإجماع، واحتج له أيضاً بقوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَهَا لَكُم مِّن شَعَتَبرٍ اللّه» إلى قوله «فَكُلُواْ مِنْهَا» (1).(2).
والاحتجاج بالآية من وجهين:
أحدهما جعلها من الشعائر، أي من العبادات التي يُعبد اللّه تعالى بها، فتكون عبادة كغيرها.
والثاني: الأمر بالأكل منها، ولو كانت جبراً لما جاز ذلك، كما لا يجوز الأكل من كفارات الصيد، التي وجبت جبراً للإحرام مما وقع فيه من النقص.
ويظهر من المبسوط اختيار أنّه جبران؛ حيث قال فيه:
إذا أحرم المتمتّع من مكّة ومضى إلى الميقات ومنه إلى عرفات صحَّ، واعتدَّ بالإحرام من الميقات، ولا يلزمه دم(3).
قال في الدروس بعد حكاية قول المبسوط :
وهو يشعر بأنه لو أنشأ إحرامه من الميقات لادم عليه بطريق أولى، وهذا بناء على أن دم التمتّع جبران لا نسك، وقد قطع في المبسوط بأنه نسك (4) .(5). انتهى.
وما ذكره في المبسوط مذهب الشافعي، فإنه شرط في وجوب هدي التمتّع شروطاً، منها أن لا يعود إلى الميقات، كما إذا أحرم من جوف مكّة واستمرّ عليه، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحجّ فلا دم عليه، وكذا لو رجع إلى مثل مسافة ذلك الميقات فأحرم منه(6).
ولهم وجهان فيمن أحرم من مكّة ثم عاد إلى الميقات محرماً(7)، كمسألة الشيخ.
ص: 100
• ولا يجوز للمتمتّع الخروج من مكّة حتى يأتي بالحج؛ لأنّه صار مرتبطاً به، إلّا على وجه لا يفتقر إلى تجديد عمرةٍ.
-------------------------------------------------------------------
إذا تقرّر ذلك فنقول: إذا أحرم من مكّة وخرج إلى عرفة من غير أن يمر بميقاتٍ فلا إشكال في وجوب الهدي ولا خلاف فيه عند الجميع على التقديرين، وكذا لو ترك الإحرام من مكّة ناسياً أو جاهلاً كذلك وتعذر عليه العود بل وجوبه هنا أولى لأنّه أدخل في الجبران حيث كانت مسافة الإحرام أقصر من مكة، وفوات الميقات حاصل فيهما.
وإنّما تظهر فائدة الخلاف فيما لو خرج إلى الميقات مُحرماً من مكّة أو مطلقاً ثم انتقل إلى عرفة، فعلى القول بالجبران يسقط الهدي هنا؛ لتحقّق الإحرام من الميقات، أو دخول مسافةٍ في ضمن تلك المسافة، وعلى القول بأنه نسك من مناسك المتمتّع لا يسقط، وحيث كان القول بالجبران ضعيفاً عندنا أو باطلاً بما تقدّم من الأدلّة كان القول بعدم سقوط الدم مطلقاً أقوى.
ثمَّ عُدْ إلى عبارة المصنّف واعلم أنّ حكايته الخلاف فيمن خرج إلى عرفة بغير إحرامٍ ثم أحرم فيها أو في بعض الطريق لا يتوجه بعد الإحاطة بما قررناه، وإنّما هو من مواضع القطع بعدم سقوط الدم. وغاية ما يمكن توجيهه بالعناية أن يكون الخلاف في ذلك من حيث الإطلاق المتناول لكلّ فرد من أفراد الخروج كذلك؛ إذ من جملته ما لو مر على الميقات فيأتي فيه ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه)، وإن كان الفرد الظاهر من العبارة لا إشكال فيه.
وكيف كان فالقول بالسقوط ضعيف، ليس موضع تردد.
قوله: «ولا يجوز للمتمتّع الخروج من مكّة حتى يأتي بالحج؛ لأنه صار مرتبطاً به، إلّا على وجه لا يفتقر إلى تجديد عمرة».
هذا من جملة الوجوه الدالة على دخول عمرة التمتّع في الحجّ حتى سُمّي التحلّل الذي بينهما تمتّعاً، كما بيناه سابقاً.
والمراد ب«الوجه» الذي لا يفتقر إلى تجديد عمرةٍ أن يخرج منها محرماً، أو يرجع قبل شهر.
ص: 101
• ولو جدّد عُمرةً تمتّع بالأخيرة.
• ولو دخل بعمرته إلى مكّة وخشي ضيق الوقت جاز له نقل النيّة إلى الإفراد، وكان عليه عمرة مفردة.
وكذا الحائض والنفساء إذا منعهما عذرهما عن التحلل وإنشاء الإحرام بالحج؛ لضيق الوقت عن التربّص.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو جدد عمره تمتّع بالأخيرة».
بمعنى أنه لو خرج إلى وجه يفتقر إلى التجديد فجدّد صارت الثانية عمرة التمتّع، ليتحقّق الارتباط بينهما، وتصير الأُولى مفردة.
وهل تفتقر الأُولى إلى استدراك طواف النساء؟ نظر، من أن مقتضى إفرادها ذلك. ومن الخروج منها سابقاً وحلّ النساء منها بالتقصير، فلا يعود التحريم، وإنّما صارت بحكم المفردة.
قوله: «ولو دخل بعمرته إلى مكّة وخشي ضيق الوقت جاز - إلى قوله - عن التربّص».
قد تقدم الكلام في ذلك، وهذا القول هو المشهور بين الأصحاب، ويشهد له صحيحة جميل بن درّاج(1).
وذهب جماعة من الأصحاب (2) إلى أن الحائض تسعى ثمَّ تُحرم بالحجّ وتقضي طواف العمرة مع طواف الحجّ، وأكثر الأخبار (3) شاهدة به.
ويُفهم من قوله «نقل النيّة» أنّه لا ينتقل إلى الإفراد بمجرّد العذر، بل لا بد من نيّة العدول، وهو ظاهر الفتاوى، وحينئذٍ فينوي العدول من إحرام عمرة التمتّع عمرة الإسلام - مثلاً - إلى حجّ الإفراد حجّ الإسلام لوجوبه قربةٌ إلى اللّه، ولا يجب عليه تجديد الإحرام قطعاً، بل يبنى على إحرامه الأوّل.
ص: 102
• ولو تجدد العذر وقد طافت أربعاً صحت متعتها وأتت بالسعي وبقيّة المناسك، وقضت بعد طهرها ما بقي من طوافها.
• وإذا صح التمتّع سقطت العمرة المفردة.
وصورة :الإفراد • أن يُحرم من الميقات أو من حيث يسوغ له الإحرام بالحجّ، ثمَّ يمضي إلى عرفات فيقف بها ثمَّ يمضي إلى المشعر فيقف به، ثم إلى منى فيقضي مناسكه بها، ثمَّ يطوف بالبيت ويصلي ركعتيه، ويسعى بين الصفا والمروة،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو تجدّد العذر وقد طافت أربعاً صحت متعتها وأتت بالسعى وبقية المناسك، وقضت بعد طهرها ما بقي من طوافها».
إنّما خص الحائض بالذكر؛ لأنّها مورد النصّ(1)، ويتعدّى الحكم إلى غيرها من ذوي الأعذار.
والمراد ببقية المناسك التقصير، ولو عبر به كان أقصر. والمراد بقضاء ما بقي الإتيان به، من باب «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُم»(2)؛ إذ الطواف ليس من العبادات المؤقّتة بحيث يفتقر إلى الأداء والقضاء.
ويجب تقديم ما بقي من طواف العمرة على طواف الحجّ عند زوال العذر، وكذا تقديم صلاة الطواف قبله.
قوله: «وإذا صح التمتّع سقطت العمرة المفردة».
هذا السقوط لا يأتى عندنا حقيقةً إلا في ذي الموطنين بمكّة وناء، أو الناذر للحجّ مطلقاً، أما من فرضه التمتّع ابتداءً فإن سقوط المفردة في حقه مجاز؛ إذ لم يجب حتّى يسقط.
نعم، يتوجّه ذلك على مذهب العامة؛ لتخييرهم بين الأنواع الثلاثة مطلقاً.
قوله: «أن يُحرم من الميقات أو من حيث يسوغ له الإحرام».
ص: 103
ويطوف طواف النساء ويصلّى ركعتيه، وعليه عمرة مفردة بعد الحجّ والإحلال منه،• يأتي بها من أدنى الحِلّ.
ويجوز وقوعها في غير أشهر الحجّ.
ولو أحرم بها من دون ذلك ثمَّ خرج إلى أدنى الحِلّ لم يجزئه الإحرام الأوّل، وافتقر إلى استئنافه.
-------------------------------------------------------------------
المراد بالموضع الذي يسوغ منه الإحرام المجعول قسيماً للميقات هو دُويرة أهل المفرد، كما صرح به المصنّف فيما سيأتي، وغيره(1)، وفي الحقيقة دويرة الأهل أحد المواقيت الستة المشهورة بالنصّ (2) والفتوى، فلا وجه لجعلها قسيمة لها، وكأنّه أخرجها عنها؛ لاشتهارها في الخمسة.
ويمكن أن يريد بالموضع ما يمكن الإحرام منه غير المواقيت الستّة، كما في ناسي الإحرام، وجاهل تعيين الميقات، ونحوهما، فإنه يُحرم مع تعذّر العود إليه من حيث أمكن.
قوله: «يأتي بها من أدنى الحِلّ».
المراد بأدنى الحِلّ أقربه إلى الحرم وألصقه به والمعتبر منه ما قارب الحرم عرفاً.
وفي كثيرٍ من كتب الفتاوى ميقاتها خارج الحرم، وهو يشمل البعيد من الحِلّ والقريب.
وفي التذكرة خير بين الإحرام من أدنى الحِلّ وبين الإحرام من أحد المواقيت (3)، ومثله في الدروس(4).
وكذا القول في كلّ عمرةٍ مفردةٍ.
ص: 104
وهذا القسم والقران فرض أهل مكّة. ومن بينه وبينها دون اثني عشر ميلاً من كل جانب.
• فإن عدل هؤلاء إلى التمتّع اضطراراً جاز.
• وهل يجوز اختياراً ؟ قيل: نعم، وقيل: لا، وهو الأكثر،
-------------------------------------------------------------------
وفي إجزاء ما خرج من الحِلَّ عن حد القرب عرفاً وعن أحد المواقيت نظر.
قوله: «ومن بينه وبينها دون اثني عشر ميلاً من كل جانب».
قد تقدّم أنّ الأصح اعتبار ثمانية وأربعين ميلاً، والتقدير - على التقديرين - من منتهى عمّارة مكّة إلى منزله.
قوله: «فإن عدل هؤلاء إلى التمتّع اضطراراً جاز».
كخوف الحيض المتأخّر عن النفر، وخوف فوت الرفقة قبل أن تطهر، وكذا لو خاف عدوّاً بعد الحجّ، أو فوت الصحبة بحيث يعجز معه عن الاعتمار بعده، فإنّه يجوز في ذلك وأشباهه العدول ابتداء إلى التمتّع.
قوله: «وهل يجوز اختياراً؟ قيل: نعم، وقيل: لا، وهو الأكثر».
المراد أنّه هل يجوز لأهل مكّة ومن في حكمهم أن يؤدوا فرضهم من حجّ الإسلام بالتمتّع أم لا يجزئهم إلا أحد الأمرين؟ قولان، منشؤهما اختلاف الروايات(1) ظاهراً، فذهب الأكثر (2) إلى المنع؛ عملاً بظاهر الآية (3) حيث دلّت بمفهومها على اختصاص التمتّع بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
وموضع الخلاف حجّة الإسلام، أما الندب والمنذور المطلق فيتخير بين الثلاثة.
ص: 105
• ولو قيل بالجواز لم يلزمهم هدي.
وشروطه ثلاثة النيّة، وأن يقع في أشهر الحجّ، وأن يعقد إحرامه من ميقاته، أو
من دُويرة أهله • إن كان منزله دون الميقات.
وأفعال القارن وشروطه كالمُفرِد، غير أنه يتميز عنه بسياق الهدي عند إحرامه، وإذا لبّى استحبّ له إشعار ما يسوقه من البدن يشقّ سنامه من الجانب الأيمن • ويلطّخ صفحته بدمه. وإن كان معه بُدن دخل بينها وأشعرها يميناً وشمالاً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو قيل بالجواز لم يلزمهم هدي».
بل الأصح وجوب الهدي على المتمتّع مطلقاً.
ومنشأ الخلاف من احتمال عود الإشارة في قوله تعالى: «ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ»(1) إلى الهدي، أو إلى النوع، فعلى الأوّل لا يلزم الهدي للمكّي وإن تمتّع، وعلى الثاني يلزم المتمتّع مطلقاً، وهو الأقوى.
قوله: «إن كان منزله دون الميقات».
التقييد بكون المنزل دون الميقات يقتضي أنه لو كان محاذياً له يجب عليه الإحرام من الميقات، وهو كذلك، والنصوص (2) دالّة عليه.
قوله: «ويلطّخ صفحته بدمه».
أي صفحة سنامه من جانب الشق، لا جميع صفحة الهدي.
قوله: «وإن كان معه بدن دخل بينها وأشعرها يميناً وشمالاً».
بمعنى أنّه يشعر هذه في يمينها وهذه في شمالها من غير أن يرتبها ترتيباً يوجب الإشعار في اليمين للجميع. وهذا في قوة الاستثناء ممّا قبله كأنه قال: يشعرها في الأيمن إلّا أن يكون بُدناً، وذلك نوع تخفيف.
ص: 106
والتقليد • أن يعلّق في رقبة المسوق نعلاً قد صلّى فيه.
والإشعار والتقليد للبدن ويختصّ البقر والغنم بالتقليد.
ولو دخل القارن أو المفرد مكّة. وأراد الطواف جاز، • لكن يجدّدان التلبية عند كلّ طواف لئلا يُحلّا على قول، وقيل: إنّما يُحلّ المفرد دون السائق.
والحقّ أنّه لا يُحلّ أحدهما إلا بالنيّة، لكن الأُولى تجديد التلبية عقيب صلاة الطواف.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «أن يعلّق في رقبة المسوق نعلاً قد صلّى فيه».
الفعل - وهو صلّى - مبنيٌّ للمعلوم، وضميره المستتر يعود إلى السائق، كما يشهد به الرواية، فيعتبر في النعل كون السائق قد صلّى فيه، فلا تكفي صلاة غيره؛ عملاً بمدلول النص التعبدي.
ويعتبر في الصلاة مسمّاها، فتكفي الواحدة ولو نافلةٌ.
قوله: «وأراد الطواف جاز».
أي طواف الحجّ بأن يقدماه على الوقوف، وكذا يجوز لهما تقديم صلاته والسعي، دون طواف النساء إلا مع الضرورة، وكذا يجوز لهما الطواف ندباً، وهو داخل في إطلاق الطواف.
قوله: «لكن يجدّدان التلبية عند كلّ طوافٍ - إلى قوله - والحقّ أنه لا يحلّ أحدهما إلا بالنيّة».
الأقوى توقّف انعقاد الإحرام على تجديد التلبية بعد الطواف ؛ للنصوص الكثيرة (1) الدالّة عليه.
وينبغي الفورية بها عقيبه، وبدونها يحلّان من غير فرقٍ بينهما.
ولا يفتقر إلى إعادة نيّة الإحرام قبلها بناءً على أنّ التلبية كتكبيرة الإحرام لا يعتبر بدونها؛ لما سيأتي من ضعف ذلك، بل هذا الحكم دالّ على فساد المبني عليه.
ص: 107
• ويجوز للمفرد إذا دخل مكّة أن يعدل إلى التمتّع، ولا يجوز ذلك للقارن.
-------------------------------------------------------------------
ولو أخلّا بالتلبية صار حجهما عمرةً وانقلب تمتّعاً، كما صرح به جماعة(1)، ولا يجزئ عن فرضه؛ لأنه عدول اختياري. نعم، لو نسي التلبية أمكن القول بالانحلال والعدول الاضطراري، ويحتمل عدمه.
ولا فرق في الطواف بين الواجب والندب، فمن ثُمَّ عمّم المصنّف الحكم في قوله «بعد كل طوافٍ» مع أنّ المتقدّم من فرضه إنما هو طواف الحجّ لا غير.
وهذا الحكم - وهو جواز تقديم الطواف - مخصوص بالقسمين المذكورين اختياراً، أمّا المتمتّع فلا يجوز له تقديمه مع الاختيار، ويجوز مع الاضطرار، وحينئذٍ يجب عليه تجديد التلبية؛ لإطلاق النصّ.
وهل يجوز له الطواف ندباً قبل الوقوف؟
المشهور المنع.
وفي بطلان الإحرام بفعله عمداً وجهان، أوضحهما العدم، لكن يجدد التلبية، كما مرّ.
قوله: «ويجوز للمفرد إذا دخل مكّة أن يعدل إلى التمتّع، ولا يجوز ذلك للقارن».
هكذا وردت النصوص المتظافرة (2)، وبه أمر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين حجّ وبقي هو على إحرامه؛ معللاً بأنه ساق الهدي(3). وهذه هي المتعة التي أنكرها الثاني كما هو مشهور.
وقد يشكل الحكم بجواز العدول هنا اختياراً مع عدم جوازه ابتداء؛ لعدم الفرق، بل هذا دالّ على جواز الأوّل.
وقد خصّه المتأخّرون في الموضعين بما إذا لم يتعين عليه الإفراد وقسيمه، كالمندوب والمنذور المطلق. وهو بعيد عن ظاهر النصّ وإن كان الوقوف معه أولى.
ص: 108
• والمكي إذا بَعد عن أهله وحجّ حجّة الإسلام على ميقاتٍ أحرم منه وجوباً.
• ولو أقام مَنْ فرضه التمتّع بمكّة سنة أو سنتين لم ينتقل فرضه، وكان عليه الخروج إلى الميقات إذا أراد حجّة الإسلام، ولو لم يتمكّن من ذلك خرج إلى خارج الحرم، فإن تعذّر أحرم من موضعه.
• فإن دخل في الثالثة مقيماً ثم حجّ انتقل فرضه إلى القرآن أو الإفراد.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «والمكي إذا بَعد عن أهله وحجّ حجّة الإسلام على ميقات أحرم منه وجوباً».
بمعنى أنّه يُحرم بفرضه منه وإن كان ميقاته في الأصل دويرة أهله؛ إذ لا يجوز لأحدٍ مجاوزة الميقات اختياراً إلا مُحرماً، وقد صار هذا ميقاته باعتبار مروره عليه، كغيره إذا مرّ على غير ميقاته.
قوله: «ولو أقام مَنْ فرضه التمتّع بمكّة سنة أو سنتين لم ينتقل فرضه».
لا يتعين عليه الخروج إلى ميقات بلده، بل يجوز له الخروج إلى أيّ ميقاتٍ شاء مع الإمكان، ومع عدمه - والمراد به حصول المشقة التي لا تتحمّل عادة - يُحرم من خارج الحرم، فإن تعذّر جميع ذلك أحرم للعمرة من مكّة.
وهل يجب عليه أن يأتى بالممكن ممّا بين المواضع الثلاثة؟ نظر، من عموم «فأتوا منه ما استطعتم»(1)، وأصالة البراءة، مع انتفاء الفائدة حينئذٍ في تخصيص المحلّين.
قوله: «فإن دخل في الثالثة مقيماً ثم حجّ انتقل فرضه إلى القران أو الإفراد».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، وعليه دلّت النصوص(2). وللشيخ قول باعتبار إقامته ثلاثاً(3). وهو ضعيف.
ولا فرق في الإقامة الموجبة لانتقال الفرض بين كونها بنية الدوام أو المفارقة أو لا بنية:
ص: 109
-------------------------------------------------------------------
عملاً بإطلاق النصوص، فإنّ الحكم معلّق في بعضها على الإقامة(1)، وفي بعضها على المجاورة (2)، وفي بعضها على القطن (3)، وهي حاصلة على التقادير.
وهل ينتقل حكم الاستطاعة من البلد كذلك؟ وجهان أقربهما ذلك، خصوصاً مع كون الإقامة بنية الدوام.
وربما قيل: إن الحكم من أصله مخصوص بالمجاور بغير نيّة الإقامة، أما لو كان بنيتها انتقل حكمه من أوّل السنة. وإطلاق النص يدفعه.
وأمّا توهّم العكس(4)، فهو باطل، بل مخالف للنص والإجماع.
نعم لو قيل: إنّ الاستطاعة تنتقل مع نيّة الدوام من ابتداء الإقامة أمكن لفقد النصّ المنافي هنا، لكن يبعد حينئذٍ فرض انتقال الفرض بعد مضي سنتين مع عدم الاستطاعة، فإنّ استطاعة مكّة سهلة غالباً لا تتوقف على زمان طويل، لكن الفرض ممكن.
وهذا كلّه إذا تجدّدت الاستطاعة في زمن الإقامة، فلو كانت سابقة في النائي لم ينتقل الفرض وإن طالت الإقامة؛ لاستقرار الأوّل.
ولو انعكس الفرض بأن أقام المكي في الآفاق احتُمل كونه كذلك؛ لاتحاد العلّة.
ويشكل بأنه قياس، وليس في النص تعليل. ويقوى هنا الفرق بين كون الإقامة بنيّة الدوام وعدمه، فينتقل في الأول بأول سنةٍ، ولا ينتقل في الثاني وإن طال؛ عملاً باللغة والعرف حيث انتفى النص، وهذا إذا لم تسبق الاستطاعة في مكّة، كما مرّ.
والقول فى انتقال الاستطاعة وعدمه كما سبق.
ولو فرض انتقال النائي من بلد إلى أُخرى اعتبر في استطاعته من الثانية نيّة الإقامة
ص: 110
-------------------------------------------------------------------
بها على الدوام، وإلا فالاعتبار بالأُولى.
والظاهر عدم الفرق بين الإقامة في زمن التكليف وعدمه، وبين الاختياريّة والاضطراريّة؛ عملاً بإطلاق النص.
وهذه الفروع غير محرّرة في كلام الأصحاب، فينبغي إمعان النظر فيها.
واعلم أن حكم المصنّف بأنّ إقامة سنتين لا توجب انتقال الفرض يوجب الدخول في الثالثة ليتحقّق الحكم عليه، حال كون السنتين كاملةً متحققة، وهو ينافي ظاهراً قوله بعد «فإن دخل في الثالثة انتقل فرضه».
ودفعه بأنّ الحكم لا يتوقّف على حصول القيد في المحكوم عليه بالفعل، بل يكفي التقدير، وهو متحقّق هنا، بمعنى أن من أقام دون السنتين يُحكم عليه بأنّ تمام السنتين لا يكفي في انتقال فرضه بحيث لو أحرم بعد انتهائهما بلا فصل لم يتغير فرضه، وإنّما ينتقل لو تحققت الزيادة في الإقامة عن السنتين قبل الإحرام، فيتم الكلام من غير احتياج إلى المجاز بحمل السنتين على الضرب في الثانية من دون أن يُكملها.
نعم، يبقى في العبارة إشكال من حيث الحكم، فإنّ اشتراط حصول جزء من الثالثة مقيماً مضافاً إلى السنتين لا دليل عليه.
والذي رواه زرارة - في الصحيح - عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «مَنْ أقام بمكّة سنتين فهو من أهل مكّة لا متعة له»(1). وهذا - كماترى - صريح في الاكتفاء بالسنتين، فيكفي وقوع الإحرام بالحجّ بعدها بلا فصل.
وكأنّ المصنّف (رحمه اللّه) لما رأى أن المدة المذكورة لا تتحقّق ظاهراً إلا بدخول جزء من الثالثة قبل الإحرام اعتبره منها، كما اعتبر في العدّة بالأقراء لحظة بعد القرء الثالث؛ ليتحقّق العدد (2).
ص: 111
• ولو كان له منزلان بمكّة وغيرها من البلاد لزمه فرض أغلبهما عليه، وإن تساويا كان له الحجّ بأي الأنواع شاء.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو كان له منزلان بمكّة وغيرها من البلاد لزمه فرض أغلبهما عليه».
المراد بغير مكّة ما كان نائياً عنها بحيث يوجب مغايرة حكمه لها في نوع الحجّ، وهو البعيد عنها بالمسافة المتقدمة، وإن كانت العبارة أعم من ذلك، والحال أنّه يقيم في كلّ منهما مدةً، فإن غلبت إقامته في أحدهما - أي كانت أزيد من إقامته في الآخر - لزمه حكمه في نوع الحجّ، وإن تساويا في الإقامة تخيّر بين الأنواع الثلاثة.
ومستند ذلك صحيحة زرارة - المتقدمة - فإنّه قال في آخرها فقلت: أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكّة؟ قال: «فلينظر أيهما الغالب عليه فهو أهله».
وهذا يتمّ إذا لم تكن إقامته في مكّة سنتين متواليتين، وحصلت الاستطاعة فيها، فإنّه حينئذٍ يلزمه حكم أهل مكّة وإن كان إقامته في النائي أكثر؛ لما تقدم من أنّ إقامة السنتين يوجب انتقال حكم النائي الذي ليس له بمكّة مسكن أصلاً، فمَنْ له مسكن أولى.
وهذا وإن كان موجباً لتخصيص هذا الحكم في بعض موارده إلا أن فيه جمعاً بين النصوص(1) وموافقة للأصول.
ولو انعكس الحكم بأن كانت إقامته في مكّة أغلب، ولكنه استطاع وهو في النائي لزمه حكم الأغلب؛ لعدم حصول ما ينافي هذا الحكم هنا.
وكذا القول في حالة التساوي فإنّه متى كانت الاستطاعة بمكّة حال إقامتها البالغة سنتين يلزم حكمها في النوع من غير تخيير، وإنما يتخيّر في غير ذلك.
والظاهر أنّه لا فرق في الإقامة بين ما وقع منه حال التكليف وغيره؛ عملاً بالإطلاق.
ولا يعتبر في الإقامة تمام الصلاة؛ لعدم تقييد ذلك في الرواية (2)، بل علّق الحكم على
ص: 112
• ويسقط الهدي عن القارن والمفرد وجوباً. ولا تسقط التضحية استحباباً.
-------------------------------------------------------------------
مطلق الغلبة وإن كان ظاهر العبارة يقتضي اعتبار الإقامة التي لا يصدق شرعاً إلا بالتمام.
ومسافة السفر من كلّ منهما إلى الآخر لا يحتسب منهما، بل هو كالإقامة والسفر في غيرهما.
ولا فرق في الإقامة بين الاختياريّة والاضطراريّة، ولا بين المنزل المملوك والمغصوب.
ولا يشترط أن يكون بين المنزلين مسافة القصر، بل يكفي اختلافهما في الحكم بالنسبة إلى نوع الحجّ.
ومتى حكم باللحوق بأحد المنزلين اعتبرت الاستطاعة منه.
ولو اشتبه الحال فلم يدر أيهما أغلب سواء تحقق الغلبة في الجملة أم احتمل التساوي، فالظاهر التخيير أيضاً.
ويحتمل قوياً تقديم التمتّع؛ لما تقدّم من القول بجوازه لأهل مكّة ابتداء، فكيف مع الاشتباه.
وفي حكم الاستطاعة حينئذٍ إشكال من أصالة براءة الذمة من الوجوب حيث لا يتحقّق الزائد، ومن أنّ جواز النوع الخاص يقتضي الحكم باستطاعته.
ويتوجّه على تقدير التخيير أن يكون إيجاب الحجّ باختيار المكلّف لو فرضت استطاعته من مكّة خاصّة.
قوله: «ويسقط الهدي عن القارن والمفرد وجوباً».
المراد أنه لا يجب عليهما هدي؛ لاختصاصه بالمتمتّع، لا أنه كان واجباً فسقط بفعلهما، والتقييد بالوجوب يُخرج هدي القرآن فإنّه مستحبٌّ للقارن.
وأما الأضحيّة فإنّها وإن كانت مستحبة لهما لكنّها لا تدخل في مسمّى الهدي، فلا يحتاج إلى الاحتراز عنها.
قوله: «ولا تسقط الأُضحيّة(1) استحباباً».
ص: 113
• ولا يجوز القرآن بين الحجّ والعمرة بنيّة واحدة، • ولا إدخال أحدهما على الآخر،
-------------------------------------------------------------------
أي لا تسقط عن القارن والمفرد كما يسقط عنهما الهدي، بخلاف المتمتّع فإن هديه يجزئ عنها. وفي الحقيقة هي لا تسقط عنه أيضاً، بل يستحب له الجمع بينهما كما سيأتي، إلا أنه لا يتأكّد استحبابها له كغيره ؛ ولذلك أفردهما عنه.
ويمكن - على بُعْد - أن يكون قوله « ولا يسقط» متعلقاً بمطلق الحاج، فيعم المتمتّع، فإنّ إخراجه غير متوجه، لكن السياق يأباه.
قوله: «ولا يجوز القرآن بين الحجّ والعمرة بنية واحدة».
نبه بذلك على خلاف ابن أبي عقيل، حيث جوّز ذلك وجعله تفسيراً للقِران مع سياق الهدي(1)، وهو مذهب العامة أجمع.
وعلى المشهور فوجه تسميته قراناً كونه يُقرن إحرامه بسياق الهدي.
وعلى المشهور لو قرن بينهما بنيّةٍ واحدة بطلا للنهى المفسد للعبادة، كما لو نوى صلاتين، خلافاً للخلاف، حيث قال: ينعقد الحجّ خاصةً(2).
وتظهر الفائدة فيما لو أفسد فلا شيء عليه على المشهور، وعلى الخلاف يقضي الحجّ، وعلى قول الحسن يقضيهما.
قوله: «ولا إدخال أحدهما على الآخر».
بأن ينوي الإحرام بالحجّ قبل التحلّل من العمرة، أو بالعمرة قبل الفراغ من أفعال الحجّ وإن تحلّل، فإنّ ذلك لا يجوز إجماعاً، فيقع الثاني باطلاً للنهي، وعدم صلاحية الزمان له.
ص: 114
• ولا بنيّة حجّتين ولا عمرتين، ولو فَعَل قيل : ينعقد واحدةً، وفيه تردّد.
والكلام في أقسامها وأحكامها.
-------------------------------------------------------------------
نعم، لو تعذّر على المعتمر إتمامها فإنّه يعدل إلى الحجّ، أو تعذّر على الحاج إتمامه فإنّه يعدل إلى العمرة، وقد تقدّم، لكن ذلك في الحقيقة ليس إدخالاً، بل هو عدول، فلا يحتاج إلى استثنائه
ويستثنى من الحكم بفساد الثاني ما لو أحرم بالحجّ بعد السعي وقبل التقصير منها، فإنّه يصحّ في المشهور، ويصير الحجّة مفردةً، وسيأتي تحقيقه.
قوله: «ولا بنية حجّتين ولا عمرتين، ولو فَعَل قيل: ينعقد واحدةً، وفيه تردّد».
القول للشيخ (رحمه اللّه)(1).
ومنشأ التردّد من اشتمال النيّة على الأمرين معاً، فإذا بطل أحدهما وقع الآخر صحيحاً، وهما متساويان؛ إذ لو كانا مختلفين كان ترجيح أحدهما على الآخر باطلاً ومن تساويهما في الصحة والبطلان، فبطلان أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجّح، كالمختلفين.
والأقوى بطلانهما معاً.
قوله: «في المواقيت».
واحدها ميقات يطلق لغةً : على الوقت المضروب للفعل، والموضع المعيّن له(2)، وإن كان الأول هو الموافق للقياس، والمراد هنا الثاني، وهو المستعمل شرعاً.
ص: 115
• المواقيت ستة:
• لأهل العراق العقيق، وأفضله المسلخ، ويليه غمرة، وآخره ذات عِرق.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «المواقيت ستة».
حصر المواقيت في الستة هو المشهور في عبارات الأصحاب، وبعضهم جعلها خمسةً (1) بإسقاط دويرة الأهل، وفي الحقيقة هي تسعة - بناءً على ما ذكرناه من تعريفها لغة - الستة التي ذكرها المصنّف ومكّة لحجّ التمتّع، ومحاذاة الميقات لمن لم يمر عليه، وفخ لإحرام الصبيان.
وإنّما خصها بالسِتّة؛ لأنها هي المشهورة في النصوص (2)، ومكّة وإن ساوتها في ذلك لكن اكتفى بتقديم ذكرها، وأما محاذاة الميقات ففيه خلاف يأتي؛ فلذا تركه، وكذا فخ، فقد قيل: إنه محل تجريدهم خاصّةً (3)، وسيأتي (4).
قوله: «لأهل العراق العقيق».
قال الجوهري: هو وادٍ بظاهر المدينة؛ وكلّ مسيل شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق(5).
وقد ذكر في الأخبار لهذا الوادي طرفان ووسط(6). فأوله من جهة العراق المسلخ، وليس في ضبطه شيء يُعتمد. وفي التنقيح:
إنّه بالسين والحاء المهملتين، قال: وهو واحد المسالح، وهو المواضع العالية، كأنّه مأخوذ من السلاح، وهو ما شهر من آلة الحرب(7).
وربما ضبطه بعضهم بالخاء المعجمة(8)، وكأنّه من السلخ، وهو النزع؛ لأنّه يُنزع فيه
ص: 116
• ولأهل المدينة مسجد الشجرة،
-------------------------------------------------------------------
الثياب للإحرام، لكن هذا إنّما يتمّ لو كان الاسم طارئاً على وضعه ميقاتاً.
وأوسطه غمرة، وليس لها ضبط معتمد، وفي التنقيح : سُمّيت بذلك؛ لزحمة الناس فيها(1)، والكلام على ذلك كما قلناه في المسلخ بالمعجمة.
وآخره - وهو أقربه إلى مكّة - ذات عرق، وهي قرية.
نقل العلّامة في المنتهى والتذكرة عن سعيد بن جبير أنه رأى رجلاً يريد أن يُحرم من ذات عرق، فأخذ يده حتى أخرجه من البيوت وقطع به الوادي، فأتى به المقابر، ثم قال: هذه ذات عرق الأُولى(2).
وحيث إنّ حالها مشتبه فينبغي الاحتياط في الإحرام منها.
وهذه المواضع الثلاثة وما بينها كلها ميقات، فيجوز الإحرام من جميع الوادي وكلّما بعدت مسافة الإحرام فيه كان أفضل.
قوله: «ولأهل المدينة مسجد الشجرة».
اختلف كلام الأصحاب في ميقات المدينة بسبب اختلاف الروايات (3) ظاهراً، فجعله بعضهم (4) ذا الحُلَيفة - بضمّ الحاء وفتح اللام، وبالهاء بعد الفاء بغير فصل - وهو ماء على ستة أميال من المدينة(5).
قيل: سُمّي بذلك؛ لأنّه اجتمع فيه قوم من العرب فتحالفوا (6).
ص: 117
• وعند الضرورة الجحفة، • ولأهل الشام الجحفة،
-------------------------------------------------------------------
والمراد به الموضع الذي فيه الماء، ومسجد الشجرة من جملته.
وفي التذكرة : إنّ مسجد الشجرة على ميل من المدينة(1).
وخصّه بعضهم (2) - ومنهم المصنّف - بالمسجد، وهو الأقوى.
ورواية الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) جامعة بين الأخبار؛ لأنه فسّر فيها ذا الحليفة بمسجد الشجرة(3)، فعلى هذا يجب الإحرام من داخله والجنب والحائض يُحرمان منه اجتيازاً، فإن تعذّر أحرما من خارجه.
قوله: «وعند الضرورة الجحفة».
من الاضطرار المرض الذي يشق معه الإحرام من المسجد - بحيث يكون تاركاً لجميع التروك من اللُبس وكشف الرأس وغيرهما - مشقةً لا يتحمّل عادةً، وحينئذٍ فيتخيّر بين التأخير إلى الجحفة والإحرام من المسجد مع فعل ما يضطرّ إليه والفداء عنه.
وإنّما يتوقّف التأخير على الضرورة مع مروره على الميقات الأوّل، فلو عدل ابتداء عن طريقه جاز، وكان الإحرام من الجحفة اختيارياً، فإن عدل عنها فمن العقيق.
ولو مرّ على ميقاته وأخر الإحرام عنه عمداً ثم أحرم من الآخر كالجحفة أثم وأجزاً على الأقوى؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما ميقات لأهله ومن مرّ به.
وفي بعض الأخبار إطلاق جواز التأخير من مسجد الشجرة إلى الجحفة(4)، من غير تقييدٍ بالضرورة. وهو محمول عليها؛ جمعاً، أو على معنى الإجزاء الذي ذكرناه.
قوله: «ولأهل الشام الجحفة».
هي مدينة قد خربت، فيجب الإحرام من محلّها إن مر بها، وإلا فعند محاذاتها كما هو الآن.
ص: 118
• ولأهل اليمن يلملم، ولأهل الطائف قرن المنازل، • وميقات من منزله أقرب من الميقات منزله.
وكلّ من حجّ على ميقات لزمه الإحرام منه.
-------------------------------------------------------------------
قيل : سُمّيت بذلك؛ لإجحاف السيل بها (1).
وفي أخبارنا: أنها تسمّى المَهيَعة (2) - بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء - ومعناه المكان الواسع.
قوله: «ولأهل اليمن يَلَمْلَم».
وهو جبل، ويقال أيضاً «الملم»، وهو على مرحلتين قاصدتين من مكّة.
وكذلك قرن المنازل، وهو - بفتح القاف وسكون الراء - جبل صغير.
وفي الصحاح أن الراء مفتوحة، وأن أويساً منسوب إليه(3).
وخطّأه الفاضل الصغاني وغيره، وذكروا أن أويساً يمني منسوب إلى قرن بطن من مراد(4).
وفي الأخبار (5) دلالة عليه.
قوله: «وميقات من منزله أقرب من الميقات منزله».
المراد أنّه أقرب إلى مكّة من المواقيت كما نطقت به الأخبار(6)، من غير فرق بين الحجّ والعمرة، ولو لا ذلك أمكن اختصاص القرب في العمرة بمكّة، وفي الحجّ بعرفة؛ إذ لا يجب المرور على مكّة في إحرام الحجّ من المواقيت.
ص: 119
• ولو حجّ على طريقٍ لا يُفضي إلى أحد المواقيت قيل: يُحرم إذا غلب على ظنّه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وكذا من حجّ في البحر.
والحجّ والعمرة يتساويان في ذلك.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو حجّ على طريقٍ لا يفضي إلى أحد المواقيت قيل: يُحرم إذا غلب على ظنّه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وكذا من حجّ في البحر».
موضع الخلاف ما لو لم يحاذ ميقاتاً، فإنّه يُحرم عند محاذاته علماً أو ظنّاً؛ لصحيحة عبداللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
ومعنى غلبة الظن بمحاذاة أقرب المواقيت حينئذٍ بلوغ محلّ بينه وبين مكّة بقدر ما بين مكّة وأقرب المواقيت إليها، وهو مرحلتان علماً أو ظنّاً.
ووجه هذا القول أنّ هذه المسافة لا يجوز لأحدٍ قطعها إلا مُحْرماً من أي جهةٍ دخل، وإنّما الاختلاف يقع فيما زاد عليها فهي قدر متّفق عليه.
والوجه الآخر أن يُحرم من أدنى الحِلّ؛ عملاً بأصالة البراءة من الزائد.
والأوّل أقوى.
ويتفرّع عليه أنّه لو أحرم كذلك بالظنّ ثمَّ ظهر له التقدّم أعاد، ولو ظهر التأخّر وأنّه لم يكن مُحْرماً عند محاذاته فالأقوى عدم وجوب الرجوع؛ لأنه متعبد بظنّه.
وأشار بقوله «وكذا من حجّ في البحر» إلى خلاف ابن إدريس في ذلك؛ حيث زعم أن من سلك في البحر يُحرم من جُدَّة - بضم الجيم وفتح الدال المشدّدة - وهي المدينة المعروفة، وكذا جعلها ميقات أهل مصر (2).
ولا يُعلم مستنده، بل إنّما يصح إن كانت محاذية لأقرب المواقيت لذلك، لا لخصوصيّتها.
وأمّا أهل مصر ومن مرّ بطريقهم فميقاتهم الجحفة بالنصّ(3)، فلا يُسمع خلافه.
ص: 120
• ويُجرَّد الصبيان من فخّ.
-------------------------------------------------------------------
نعم طريقهم الآن منحرفة عنها نحو الجنوب، فيُحرمون عند محاذاتها، كما مرّ، أو يُحرمون قبلها من رابغ(1) بالنذر، كما سيأتي.
ولو جمع بين الأمرين كان أحوط؛ خروجاً من الخلاف.
ولو أخروا الإحرام إلى العقيق أجزاً أيضاً، وفي جوازه اختياراً نظر يُعلم مما تقدّم.
قوله: «ويُجرّد الصبيان من فخ».
هو بئر على نحو فرسخ من مكّة. وظاهر العبارة أن تجريدهم منه من المخيط وإحرامهم من الميقات كغيرهم، فيكون ذلك رخصةً لهم.
ووجهه عموم الأمر بالإحرام من الميقات (2)، فلا يتجاوزه أحد إلا محرماً.
وما تضمن من الأخبار تأخير تجريدهم إلى فخّ (3)لا ينافيه ؛ لأن التجريد أمرٌ آخر غير الإحرام.
وذهب جماعة - منهم المصنّف في المعتبر والشهيد في الدروس(4) - إلى جواز تأخير إحرامهم أيضاً إليه، وجعلوا التجريد الواقع في الأخبار كناية عنه. وهذا أقوى، وإن كان الأوّل أولى.
ويدلّ عليه قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية معاوية بن عمّار: «قدّموا من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو إلى بطن مرّ، ثمّ يصنع بهم، ما يصنع بالمُحرم، ويطاف بهم ويسعى بهم»(5).
ص: 121
وأمّا أحكامها ففيه مسائل:
الأولى: • من أحرم قبل هذه المواقيت لم ينعقد إحرامه، إلا لناذر بشرط أن يقع الحجّ في أشهره.
-------------------------------------------------------------------
وحينئذٍ فما ورد من التجريد في غيره يُحمل عليه، وإنما يتم حمل التجريد على حقيقته خاصةً لو لم يكن غيره، وحينئذٍ ف«فخّ» نهاية التأخير، فلو قدمه من غيره صحّ أيضاً، بل كان أفضل، كما ذكر في الخبر، خصوصاً من ميقات كالجحفة والعقيق.
وهذا الحكم مخصوص بمن حجّ على تلك الطريق، وإلا كانوا كغيرهم.
قوله: «من أحرم قبل هذه المواقيت لم ينعقد إحرامه، إلا لناذرٍ بشرط أن يقع الحجّ في أشهره».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده أخبار كثيرة، أوضحها دلالة صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألته عن رجل جعل اللّه عليه شكراً أن يُحرم من الكوفة، قال: «فليُحرم من الكوفة، وليف اللّه بما قال»(1).
ومنع منه جماعة منهم ابن إدريس(2)، والعلّامة في المختلف(3).
وعذر ابن إدريس واضح على أصله. وأما العلّامة فنقل على الجواز حديثين ثمَّ ضعّف سندهما(4)، ولم يذكر صحيحة الحلبي، وهي مستند واضح.
والعجب أنّه في المنتهى والتذكرة أفتى بالجواز مستدلاً بها(5)، ولم يذكر غيرها، وحينئذٍ فالجواز أقوى.
ص: 122
-------------------------------------------------------------------
والظاهر عدم الفرق في ذلك بين النذر و أخويه وإن كان النذر هو المستعمل فيه؛ لأنّ النصوص شاملة لها، فإنّها مفروضة فيمن جعل ذلك عليه للّه.
ولا يجب تجديد الإحرام عند بلوغ الميقات أو ما في حكمه على الأصحّ. نعم، يستحبّ؛ خروجاً من خلاف بعض الأصحاب(1).
وإنما شرط وقوع الحجّ في أشهُره، ولم يسوّغ تقديمه عليها بالنذر أيضاً؛ لأن الأصل والدليل يقتضي منع تقديم الإحرام على الميقات الزماني والمكاني، خرج من ذلك تقديمه على المكاني بالنذر للنصّ المذكور (2)، فيبقى الباقي على المنع.
وفي حكم الحجّ عمرة التمتّع ؛ لأنها موقتة بحسب الزمان أيضاً، بخلاف العمرة المفردة.
وربما تكلّف للفرق بين الميقات الزماني والمكاني حيث جاز أحدهما بالنذر دون الآخر: بأنّ ميقات الزمان مستفاد من قوله تعالى: «الحجّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتُ» (3) وقد تقرّر في الأُصول والمعاني أن المبتدأ منحصر في الخبر، دون العكس، كما في قوله: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم»(4)، فإنّ التحريم والتحليل منحصر فيهما من غير عكس، فحينئذٍ زمان الحجّ منحصر في الأشهرُ، فلا يوجد في غيرها.
وأما ميقات المكان فمأخوذ من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا بين المواقيت: «هُنَّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهنّ»(5)، وضمير «هُنّ» راجع إلى المواقيت وهو المبتدأ، و«لهنّ» إلى أهلهنّ وهو الخبر، فتنحصر المواقيت فيهم من غير عكسٍ.
وهذا الفرق إنّما يتمّ على مذهب العامة القائلين بجواز تقديم الإحرام على الميقات
ص: 123
• أو لمن أراد العُمرة المفردة في رجب وخشي تقضيّه.
الثانية إذا أحرم قبل الميقات لم ينعقد، ولا يكفي مروره فيه ما لم يجدّد الإحرام من رأس. • ولو أخره عن الميقات لمانع ثم زال المانع عاد إلى الميقات، فإن تعذّر جدد الإحرام حيث زال.
-------------------------------------------------------------------
المكانى مطلقاً؛ لأنّه مقتضى الدليل، أما عندنا فلا؛ لتظافر نصوصنا بالمنع منه بوجه أصرح من دلالة الزمان.
وحينئذٍ فالوجه في الفرق ما أسلفناه، مع أنّ في دعوى انحصار المبتدأ في خبره منعاً، بل الحقّ جواز مساواته وعمومه وتحقيقه في محلّ آخَر.
قوله: «أو لمن أراد العمرة المفردة في رجب وخشي تقضيّه».
روي: «أن العمرة الرجبية تلى الحجّ في الفضل»(1)، وأنها فيه أفضل من غيره (2)، وأن الاعتمار فيه يحصل بالإهلال فيه وإن وقعت الأفعال في غيره، فإذا خرج لها فضاق الوقت عن إدراك الميقات فيه أحرم في آخره حيث كان وأجزاً، وهو موضع نصٍ (3) ووفاق.
ولا يشترط إيقاع الإحرام في آخر جزء منه، بل المعتبر وقوعه فيه؛ عملاً بإطلاق النص، وإن كان آخره أولى.
قوله: «ولو أخره عن الميقات لمانع ثمَّ زال المانع عاد إلى الميقات، فإن تعذّر جدّد الإحرام حيث زال».
إنّما يجب العود إذا لم يكن في طريقه ميقات آخر، وإلا لم يجب، كما مر بل يُحرم من الآخر.
وكذا لا يجب الإحرام حيث زال المانع والحال هذه، بل لا يجوز، وأخره إلى الميقات.
ص: 124
ولو دخل مكّة خرج إلى الميقات، فإن تعذّر خرج إلى خارج الحرم، ولو تعذّر أحرم من مكّة، • وكذا لو ترك الإحرام ناسياً. • أو لم يرد النسك، وكذا المقيم بمكّة إذا كان فرضه التمتّع.
-------------------------------------------------------------------
وحيث وجب العود فتعذّر ففي وجوب العود إلى ما أمكن من الطريق وجه؛ لوجوب قطع تلك المسافة مُحْرماً، فلا يسقط الميسور بالمعسور وظاهر الفتاوى عدم وجوب العود لمن لا يتمكّن من نفس الميقات.
ويؤيده وجوب الخروج إلى أدنى الحلّ لمن دخل مكّة عند تعذّره، وإلا فمن موضعه.
وإنّما يجوز تأخيره عن الميقات لعذر إذا لم يتمكّن من نيّته أصلاً وإن كان الفرض بعيداً، فلو تمكّن منها وإنّما تعذّر عليه توابعه من نزع المخيط و نحوه وجب عليه الإحرام، وأخر ما يتعذّر خاصّةً؛ إذ لا مدخل له في حقيقة الإحرام، ولا يسقط الممكن بالمتعذّر.
قوله: «وكذا لو ترك الإحرام ناسياً».
وفي حكمه الجاهل بوجوب الإحرام، وهو مرويّ(1)، كالناسي.
قوله: «أو لم يرد النسك».
هذا مع عدم وجوب الإحرام عليه كالمتكرّر، ومن دخل مكّة لقتال، أو لم يكن قاصداً لمكة عند مروره على الميقات ثمَّ تجدّد له قصدها، وإلّا وجب عليه الإحرام وإن لم يرد النسك؛ إذ لا يجوز لأحدٍ دخول مكّة إلّا مُحرماً بحجّ أو عمرة، عدا ما استثني فإن أخره حينئذٍ أثم، بخلاف الناسي.
وظاهرهم أن حكمه بعد ذلك يصير كالناسي في إحرامه من حيث أمكن. ويحتمل إلحاقه بالعامد.
وفي حكم من لا يريد النسك غير المكلف بالحجّ، كالصبيّ والعبد والكافر إذا أسلم
ص: 125
• أمّا لو أخره عامداً لم يصح إحرامه حتّى يعود إلى الميقات، ولو تعذّر لم يصحّ إحرامه.
-------------------------------------------------------------------
بعد مجاوزة الميقات، أو بلغ الصبي، أو أعتق العبد وأراد الإحرام، فإنّه يرجع إلى الميقات مع الإمكان، وإلّا أحرم من موضعه. ومن صور التعذر ضيق الوقت بالحجّ.
قوله: «أما لو أخره عامداً لم يصح إحرامه حتى يعود إلى الميقات، ولو تعذّر لم يصح إحرامه».
المراد بتأخيره عامداً مع إرادة النسك ليجعل قسيماً للسابق، فإنه حينئذٍ يجب عليه العود إلى الميقات.
وفي بعض الأخبار (1) أنّه يرجع إلى ميقاته في جميع هذه الصور. والظاهر أنه غير متعيّن، بل يجزئ رجوعه إلى أيّ ميقاتٍ شاء؛ لأنّها مواقيت لمن مرّ بها، وهو عند وصوله كذلك.
وحيث يتعذّر رجوعه مع التعمّد يبطل نسكه، ويجب عليه قضاؤه وإن لم يكن مستطيعاً للنسك، بل كان وجوبه بسبب إرادة دخول الحرم، فإنّ ذلك موجب للإحرام، فإذا لم يأت به وجب قضاؤه، كالمنذور.
نعم، لو رجع بعد تجاوز الميقات ولما يدخل الحرم فلا قضاء عليه وإن أثم بتأخير الإحرام، وادّعى العلّامة في التذكرة الإجماع عليه(2).
ولو كان منزله دون الميقات فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في الأحوال السابقة؛ لأنّ موضعه ميقاته، فهو في حقه كأحد المواقيت الخمسة في حقّ الآفاقي.
ص: 126
الثالثة: • لو نسى الإحرام ولم يذكر حتى أكمل مناسكه قيل يقضي إن كان واجباً، وقيل: يجزئه، وهو المرويّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «لو نسي الإحرام ولم يذكر حتى أكمل مناسكه قيل: يقضي إن كان واجباً، وقيل: يجزئه، وهو المرويّ».
المراد بالمقضي ما كان يريد الإحرام له من حجّ أو عمرة. والمراد بقضائه الإتيان به من باب «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَنسِكَكُمْ»(1).
والقول بوجوب القضاء لابن إدريس (رحمه اللّه)(2) : محتجّاً عليه بأنّ فقد الإحرام يجعل باقي الأفعال في حكم المعدوم باعتبار وقوعها في غير محلها، فإنّ محلّها بعد ابتداء الإحرام في زمان استدامته الحكميّة.
ويضعف بأنّ ذلك لو تمّ اقتضى بطلان الحجّ بنسيان أي فعل كان من الأفعال المترتّبة، فإنّ محلّ كلّ واحدٍ منها إنما يكون بعد السابق عليه، ولا يقول به.
والأصحّ ما اختاره المعظم، و وردت به النصوص (3)، وهو الصحة؛ إلحاقاً له بباقي الأركان، فإنّ الحجّ لا يبطل بفواتها سهواً إجماعاً عدا نسيان الموقفين معاً.
وقد روى عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا جهل المتمتّع الإحرام يوم التروية بالحجّ حتّى رجع إلى بلده ما حاله؟ قال: «إذا قضى المناسك كلّها فقد تمَّ حجّه»(4).
وروى جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا، عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في رجل نسي الإحرام أو جهل وقد شهد المناسك كلّها قال، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : تجزئه نيّته إذا كان قد نوى ذلك، وقد تم حجّه وإن لم يهلّ»(5).
ص: 127
-------------------------------------------------------------------
إذا تقرّر ذلك فقد اختلف في حقيقة الإحرام الذي نسيانه موضع الخلاف.
فقال العلّامة في المختلف: هو ماهية مركبة من النيّة والتلبية ولبس الثوبين(1). وعلى هذا يلزم فواته بفوات أحد أجزائه الثلاثة، لكن كون اللُبس جزءاً منه في غاية البغد.
وقيل : هو مركب من النيّة والتلبية خاصةً (2)، فيفوت بقوات أحدهما، ولا يفوت بقوات اللُبس.
وهذا القول مبنيٌّ على وجوب كون التلبية مقارنة للنية، كتكبيرة الإحرام، فتفوت النيّة بفوات التلبية وبالعكس.
لكن على تقدير تماميته في دلالة ذلك على جزئيّة التلبية نظر بيّن، يرشد إليه تكبيرة الإحرام.
وقيل: هو أمر واحد بسيط، وهو النيّة (3). وهذا هو الظاهر ؛ لضعف دليل وجوب المقارنة وليس ثمَّ معنى آخر يصلح لحمله عليه.
وللشهيد (رَحمهُ اللّه) تحقيق رابع وهو:
أنّ الإحرام توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة إلى أن يأتي بالمحلل، والتلبية هي الرابطة لذلك التوطين، نسبتها إليه كنسبة التحريمة إلى الصلاة والأفعال هي المزيلة لذلك الربط، وإطلاق الإحرام بالحقيقة ليس إلا على ذلك التوطين (4).
وهذا التفسير راجع إلى النيّة؛ لأنّ التوطين أمر نفساني، ولا يجب تحصيله في مجموع زمان الأفعال ولا بعضها إجماعاً، بل إنّما يجب حال نيّة الإحرام، بل هو قد فسّر النيّة
ص: 128
-------------------------------------------------------------------
في قوله «أُحرم» بأن معناه: «أُوطّن نفسي» إلى آخره(1).
لكن يبقى على هذين إطلاق الإحرام في باقي الزمان في قولهم «لو فَعَل وهو مُحرم كذا» أو ترك كذا على سبيل المجاز؛ إقامة لاستدامته الحكميّة مقامه بل الاستدامة الحكميّة أيضاً غير معتبرة فيه، ومن ثُمَّ لو رفض الإحرام بعد عقده لم يبطل إجماعاً.
ومحلّ الخلاف متفرّع على هذه الأقوال، فالمنسيّ على الأوّل أحد الثلاثة، وعلى الثاني أحد الأمرين، وعلى الأخيرين النيّة.
ويظهر من الرواية الثانية (2) أنّ المنسيّ هو التلبية؛ لأنّ الإهلال لغةً هو رفع الصوت(3)، وهو هنا كناية عن التلفّظ بالتلبية، لكن كثيراً ما يطلق على مطلق الإحرام، فيعود الكلام فيه.
ويُفهم من قوله «حتى أكمل مناسكه» أنه لو ذكره قبل الإكمال فَعَله من غير إبطال.
وهو يتمّ مع ذكره قبل الأفعال الموجبة للإحلال، أما بعدها ففيه إشكال، ولم نقف لأحدٍ من الأصحاب في ذلك على شيء.
وقد فرض المصنّف وغيره (4) المسألة فيمن ترك الإحرام ناسياً، وفي مرسلة جميل أنّ الجاهل كذلك(5)، ورواية علي بن جعفر(6) صريحة فيه أيضاً، ولم يتعرضوا لحكمه، وإلحاقه بالناسي لا يخلو من وجه، بل الدلالة عليه أقوى.
ص: 129
• والواجب اثنا عشر الإحرام، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، ونزول منى، والرمي، والذبح والحلق بها أو التقصير والطواف، وركعتاه، والسعى، وطواف النساء، وركعتاه.
-------------------------------------------------------------------
قوله في أفعال الحج: «والواجب اثنا عشر» إلى آخره.
هذه الواجبات منها ما هو ركن يبطل الحجّ بتركه عمداً لا سهواً، ومنها ما هو فعل لا يبطل الحجّ بتركه مطلقاً وإن حصل الإثم، فالأركان منها خمسة: الإحرام، والوقوفان، والطواف الأوّل، والسعي.
وأضاف الشهيد (رَحمهُ اللّه) إليها النيّة(1)، فإن عنى نيّة الإحرام - كما هو الظاهر منه - فلا وجه لاختصاصها؛ لأنّ نيّات الأركان كلّها كذلك يبطل الركن بفواتها، فيفوت الركن، ثمَّ هذا لا يقتضي ركنيتها؛ لأنّ البطلان جاء من قبل فوات الركن.
وأيضاً فقد تقدّم أنّ الإحرام ليس أمراً زائداً على النيّة مطلقاً، أو على التوطين الملزوم لها. وفي ركنية التلبية،خلاف، ويقوى ركنيتها إن أوجبنا مقارنتها للنيّة، وجعلنا الانعقاد موقوفاً عليها، كتكبيرة الإحرام والتقريب ما تقدّم في نيّة الإحرام.
وصحيحة معاوية بن عمّار مشعرة بركنيتها؛ حيث جعل تحقق الإحرام موقوفاً عليها أو على الإشعار أو التقليد (2)، وتعليق الحكم على الوصف يقتضي عدمه عند عدمه، والإخلال بالإحرام مبطل إجماعاً.
ص: 130
ويستحب أمام التوجه الصدقة، وصلاة ركعتين، • وأن يقف على باب داره ويقرأ فاتحة الكتاب أمامه وعن يمينه وعن شماله، وآية الكرسي كذلك، وأن يدعو بكلمات الفرج، وبالأدعية المأثورة، وأن يقول إذا جعل رجله بالركاب بسم اللّه الرحمن الرحيم بسم اللّه واللّه أكبر، فإذا استوى على راحلته دعا بالدعاء المأثور.
والنظر في مقدّماته، وكيفيته، وأحكامه
والمقدّمات كلّها مستحبّة، وهي توفير شعر رأسه من أوّل ذي القعدة • إذا أراد التمتّع، ويتأكد عند هلال ذي الحجّة على الأشبه، وأن ينظف جسده،
-------------------------------------------------------------------
ويستثنى من عدم بطلان الحجّ بفوات الركن سهواً ما لو فات الوقوفان معاً، فإنّ الحجّ يبطل مطلقاً
قوله: «وأن يقف على باب داره ويقرأ».
وليكن مستقبلاً بوجهه الوجه الذي يتوجه نحوه، وهو الطريق، وقول المصنّف: «أمامه» يدلّ عليه.
قوله: «إذا أراد التمتّع».
لا فرق في ذلك بين التمتّع وغيره من الأنواع؛ لشمول النصّ (1) لها.
ولو أراد العمرة المفردة استحب توفيره شهراً.
وأوجب بعض الأصحاب التوفير في الأوّل ؛ عملاً بظاهر الأمر، وأوجب مع الإخلال به دم شاة(2). والمشهور الاستحباب
ص: 131
ويقص أظفاره ويأخذ من شاربه، • ويزيل الشعر عن جسده وإبطيه مطلياً، • ولو كان أطلى أجزأه ما لم يمض خمسة عشر يوماً، • والغسل للإحرام،• وقيل : إن لم يجد ماء تيمّم له.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويزيل الشعر عن جسده مطلياً».
حال من الضمير والعامل فيه يزيل»، والمراد يزيله بالإطلاء، وهذا هو الأفضل، فلو أزاله بغيره كالحلق تأدّت السُنّة.
قوله: «ولو كان أطلى أجزأه ما لم يمض خمسة عشر يوماً».
الإطلاء أفضل وإن قرب العهد به لكن لو قصرت مدة الأوّل عن خمسة عشر يوماً لم يتأكّد الاستحباب تأكده لو كان أكثر.
قوله: «والغسل للإحرام».
ذهب الحسن إلى وجوبه(1).
والأصحّ الاستحباب.
ومكانه الميقات إن كان متّسعاً، و لو كان مسجداً فقر به عرفاً، ووقته يوم الإحرام.
قوله: «وقيل: إن لم يجد ماءً تيمّم له».
القول للشيخ (2) وجماعة (3). وتوقف المصنّف من عدم النص، وأن الغرض من الغسل المندوب التنظيف؛ لأنّه لا يرفع الحدث وهو مفقود مع التيمم، ومن شرعيته بدلاً لما هو أقوى، وعموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الصعيد طهور المؤمن»(4).
ويمكن انسحاب الحكم على باقي الأغسال المندوبة.
ص: 132
• ولو اغتسل وأكل أو لبس ما لا يجوز للمُحرم أكله ولا لبسه أعاد الغسل استحباباً.
• ويجوز له تقديمه على الميقات إذا خاف عوز الماء فيه، ولو وجده استحبّ له الإعادة.
ويُجزئ الغسل في أوّل النهار ليومه، وفي أوّل الليل لليلته. ما لم ينم.
-------------------------------------------------------------------
ولا بأس بالتيمم هنا، فإنّ مدارك السنن يتسامح فيها، كيف وقد اختاره جماعة من الأعيان.
قوله: «ولو اغتسل وأكل أو لبس ما لا يجوز للمحرم أكله ولا لبسه أعاد الغسل استحبابا».
أضاف الشهيد (رحمه اللّه) التطيّب(1)، ولم يتعرّضوا لباقي محرمات الإحرام، مع أنّ منها ما هو أقوى من هذه؛ لعدم النص. نعم، ورد أن من قص أظفاره لا يعيده، ولكن يمسحها بالماء(2).
قوله: «ويجوز تقديمه على الميقات إذا خاف عوز الماء فيه».
ينبغي الاقتصار في التقديم على موضع الحاجة، فيقدّم من أقرب أوقات الإمكان إليه، ومتى قدّمه لبس ثوبي الإحرام بعده إلى الميقات، فلو لبس المخيط بعده بطل حكمه.
قوله: «ما لم ينم».
خص النوم من بين الأحداث؛ لأنّه مورد النصّ(3).
وفي تعدّيه إلى غيره قول(4)، مأخذه مساواته في الحكم، وأنه أقوى. ولا بأس به.
ص: 133
ولو أحرم بغير غسل أو صلاةٍ ثم ذكر • تدارك ما تركه، وأعاد الإحرام.
• وأن يُحرم عقيب فريضة الظهر، أو فريضة، وإن لم يتفق صلّى للإحرام ست ركعات، وأقله ركعتان يقرأ في الأُولى «الحمد» و«قل يا أيها الكافرون»، وفي الثانية «الحمد» و «قل هو اللّه أحد».
-------------------------------------------------------------------
و وجه القوّة الاتفاق على نقض الحدث غيره مطلقاً، والخلاف فيه على بعض الوجوه.
قوله: «تدارك ما تركه وأعاد الإحرام».
المشهور والأقوى أن تداركه على وجه الاستحباب؛ ليقع على أكمل أحواله وللرواية(1). وقيل: على وجه الوجوب(2).
والمعتبر هو الأول؛ إذ لا سبيل إلى إبطال الإحرام بعد انعقاده.
وربما احتمل كونه الثاني ؛ بناءً على عدم الفائدة لولاه فيكون كإعادة الصلاة مع نسيان الأذان والإقامة وذكرهما قبل الركوع.
والفرق بين المقامين واضح؛ فإنّ الصلاة تقبل الإبطال، بخلافه.
ويظهر من العلّامة (3) أنّ وجوب الكفّارة للمتخلّل بينهما لا خلاف فيه، فعلى هذا يكون اعتبار الثاني على تقديره إنّما هو في بعض الموارد، كاحتساب الشهر بين العمرتين، والعدول إلى عمرة التمتّع لو وقع الثاني في أشهر الحجّ.
قوله: «وأن يُحرم عقيب فريضة الظهر أو فريضة - إلى قوله - وأقله ركعتان».
ظاهر العبارة يقتضي أنه مع صلاة الفريضة لا يحتاج إلى ستة الإحرام، وإنما يكون عند عدم فعل الظهر أو فريضة، وليس كذلك، وإنّما السُنّة أن يصلّي ستة الإحرام أولاً، ثم يصلّي الظهر أو غيرها من الفرائض، ثمَّ يُحرم.
ص: 134
• وفيه رواية أُخرى.
• ويوقع نافلة الإحرام تبعاً له ولو كان وقت فريضة، مقدماً للنافلة ما لم يتضيّق الحاضرة.
-------------------------------------------------------------------
فإن لم يتّفق ثُمَّ فريضة اقتصر على سُنّة الإحرام الستة أو الركعتين، وأحرم عقيبهما.
ولا فرق في الفريضة بين اليومية وغيرها، ولا بين المؤدّاة والمقضيّة.
وقد اتّفق أكثر العبارات على القصور عن تأدية المراد هنا.
قوله: «وفيه رواية أُخرى».
هي أن يقرأ في الأُولى «التوحيد»، وفي الثانية «الجحد»(1) عكس الأولى، وكلاهما مستحب.
قوله: «ويوقع نافلة الإحرام تبعاً له ولو كان وقت فريضة».
أي تابعة للإحرام، فلا يكره ولا يحرم فعلها في وقت الفريضة قبل أن يصلّي الفريضة، كما لا يحرم أو يكره فعل النوافل التابعة للفرائض كذلك.
وقد خرجت هذه بالنصّ (2)، كما خرجت تلك، فإنّ إيقاع الإحرام في وقت الفريضة بعدها وبعد النافلة يقتضي ذلك غالباً.
وقد التبس معنى التبعية هنا على جماعة(3)، فتكلّموا عليها بما خطر لهم.
وشارح التردّدات جعل الضمير في «له» عائداً إلى الغسل(4)، أي يوقع النافلة تابعة للغسل لا يتراخى عنه. وهو بعيد.
ص: 135
وأما كيفيته، فتشتمل على واجب ومندوب :
فالواجبات ثلاثة:
الأوّل: النيّة، • وهي أن يقصد بقلبه إلى أمور أربعة: ما يُحرم به من حجّ أو عمرةٍ متقرباً، ونوعه من تمتّع أو قرانٍ أو إفراد، وصفته من وجوبٍ أو ندبٍ، وما يُحرم له من حجّة الإسلام أو غيرها.
ولو نوى نوعاً ونطق بغيره عمل على نيته. • ولو أخلّ بالنيّة عمداً أو سهواً لم يصحّ إحرامه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وهي أن يقصد بقلبه إلى أمور أربعة : ما يُحرم به من حجّ أو عمرة متقرّباً إلى آخره.
لا ريب في اعتبار إحضار الفعل الموصوف بالصفات الأربعة بالبال ؛ ليتحقّق القصد إليه إلا أنّه لا شيء من الأربعة بداخل في النيّة، وإنّما هي مشخصات الشيء المنوي، والنيّة عبارة عن القصد إليه، وهي شيء واحد لا يقع التعدّد إلا في معروضه، وقد تقدم الكلام في ذلك في نيّة الصلاة(1)، ففي العبارة تساهل.
قوله: «ولو أخل بالنيّة عمداً أو سهواً لم يصح إحرامه».
مقتضى ذلك أنّ الإحرام أمرٌ آخر غير النيّة، كما هو المعلوم في غيره من العبادات، فإنّ النيّة أمر آخر غير المنوي، وكأنه يريد به ترك الأمور الآتية، أو إيجاد نقيضها، أو نحو ذلك، وقد تقدّم الكلام في المسألة، وفي حكمها، وليست المسألة مكرّرة؛ لأنّه هناك نسي الإحرام وجميع توابعه من التلبية ونزع المخيط ولبس الثوبين، كما هو الظاهر وإن كان التحقيق اقتضى اختصاصه بشيءٍ آخر، وهنا نسي النيّة لا غير، ولأنه هناك ذكر حكم الحجّ من حيث الصحّة والبطلان، وهنا ذكر بطلان الإحرام خاصةً، وذلك أعمّ من بطلان
ص: 136
• ولو أحرم بالحجّ والعمرة، وكان في أشهر الحجّ كان مخيراً بين الحجّ والعمرة إذا لم يتعين عليه أحدهما، وإن كان في غير أشهر الحجّ تعين للعمرة. ولو قيل بالبطلان في الأول ولزوم تجديد النيّة كان أشبه.
• ولو قال: كإحرام فلان، وكان عالماً بماذا أحرم صبح، وإن كان جاهلاً قيل: يتمتّع احتياطاً.
-------------------------------------------------------------------
الحجّ وعدمه، ولا منافاة بين الحكم بصحة المناسك المجرّدة عن الإحرام، وبين بطلان الإحرام خاصّة.
قوله: «ولو أحرم بالحجّ والعمرة، وكان في أشهر الحجّ كان مخيراً بين الحجّ والعمرة إلى قوله - ولو قيل بالبطلان في الأوّل... كان أشبه».
أراد بالأول الإحرام بهما في أشهر الحجّ.
والقائل بالصحة فيه ابن أبي عقيل (1) وجماعة (2)، وله شواهد من الأخبار(3). والأصحّ البطلان.
ومقتضى العبارة أنّ الثاني صحيح، وهو الإحرام بهما في غير أشهر الحجّ، فتصحّ عمرةً مفردةً لا غير؛ إذ لا يقبل الزمان سواها. والأصحّ البطلان أيضاً.
قوله: «ولو قال: كإحرام فلان، وكان عالماً بما ذا أحرم صحّ، وإن كان جاهلاً قيل: يتمتّع احتياطاً».
الأصل في هذه المسألة ما روي أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أحرم كإحرام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(4)، وكان غير عالم
ص: 137
• ولو نسي بماذا أحرم كان مخيراً بين الحجّ والعمرة إذا لم يلزمه أحدهما.
الثاني: التلبيات الأربع، • فلا ينعقد الإحرام لمتمتّع ولا لمفردٍ إلّا بها.
-------------------------------------------------------------------
بما أحرم به حين الإحرام، فالأصح حينئذٍ الجواز مطلقاً، وهو اختيار الدروس(1).
ثمَّ إن انكشف له الحال قبل الطواف كما اتّفق لعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فواضح، وإلا فقال الشيخ (رحمه اللّه): يتمتّع احتياطاً (2) ؛ لأنه إن كان متمتّعاً فقد وافق، وإن كان غيره فالعدول منه إلى التمتّع جائز.
وقيل: يبطل الإحرام(3)، وهو أحوط.
:قوله «ولو نسي بماذا أحرم كان مخيراً بين الحجّ والعمرة إذا لم يلزمه أحدهما».
وجه التخيير انعقاد الإحرام ابتداءً، فلا سبيل إلى الخروج منه، فيتخيّر إن لم يلزمه أحدهما، وإلا صرف إليه؛ عملاً بالظاهر.
وللشيخ قول بأنه مع عدم التعيين ينعقد عمرة تمتّع(4)، كما مر في المسألة السابقة.
قوله: «فلا ينعقد الإحرام لمتمتّع ولا لمفرد إلّا بها».
لا إشكال في توقف انعقاد الإحرام عليها، إنّما الكلام في اشتراط مقارنتها للنية، فشرطها الشهيد (رحمه اللّه) وابن إدريس(5)، وتبعهما الشيخ عليّ(6)، وجعلوها مقارنةً للنيّة كتكبير الإحرام للصلاة وكلام باقي الأصحاب خالٍ من الاشتراط وبعضهم صرّح بعدمه(7)، وكلام المصنّف يشعر به.
ص: 138
• أو بالإشارة للأخرس مع عقد قلبه بها والقارن بالخيار إن شاء عقد: إحرامه بها
• وإن شاء قلّد أو أشعر على الأظهر، • وبأيّهما بدأ كان الآخر مستحبّاً.
-------------------------------------------------------------------
والنصوص خالية من الاشتراط، بل كثير منها صريح في الانفكاك، كرواية معاوية بن عمّار وعبد اللّه بن سنان، بعد دعاء الإحرام: «قُم فامش هنيئةً، فإذا استوت بك الأرض فلَبّ»(1).
قال في الدروس بعد إيجابه المقارنة ويظهر من الرواية والفتوى جواز تأخير التلبية عنها(2).
ولا ريب أن اعتبار المقارنة أولى.
قوله: «أو بالإشارة للأخرس مع عقد قلبه بها».
المراد بها إشارته بإصبعه، ويجب تحريك لسانه بها أيضاً؛ للرواية (3).
قوله: «وإن شاء قلّد أو أشعر على الأظهر».
نبّه بذلك على خلاف المرتضى وابن إدريس، حيث اعتبرا في عقد الإحرام في الجميع التلبية(4)، وما اختاره المصنّف هو الأقوى.
قوله: «وبأ يهما بدأ كان الآخر مستحبّاً».
المراد أنّه إن بدأ بالتلبية كان الإشعار أو التقليد مستحبّاً، وإن بدأ بأحدهما كانت التلبية مستحبّةً. ففي إطلاق أنّ البدأة بأحد الثلاثة يوجب استحباب الآخر إجمال.
ص: 139
• وصورتها أن يقول: لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك. وقيل: يضيف إلى ذلك : إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وقيل: بل يقول: لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبّيك. والأوّل أظهر.
• ولو عقد نيّة الإحرام ولبس ثوبيه ثمَّ لم يُلَبِّ وفَعَل ما لا يحل للمُحرم فعله لم يلزمه بذلك كفّارة إذا كان متمتّعاً أو مفرداً، وكذا لو كان قارناً ولم يُشعر ولم يُقلّد.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وصورتها: لبّيك اللّهم لبّيك - إلى قوله - والأوّل أظهر».
الأقوى أن الواجب هو التلبيات الأربع بالعبارة الأولى، وإضافة «إنّ الحمد» إلى آخره، أحوط. ومعنى لبّيك: إقامتين على طاعتك، إقامة بعد إقامة، أو مواجهتين لك، مواجهة بعد مواجهة؛ لأنّه إما من «لب بالمكان» إذا أقام به، أو من قولهم: «دار فلان تلبّ داري» أي تحاذيها، ونصب على المصدر، كقولك: حمداً لله وشكراً، وكان حقه أن يقال: لبّاً لك، وثُنّي تأكيداً، أي إلباباً لك بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة.
هذا بحسب أصله لغةً(1)، لكنّه قد صار موضوعاً للإجابة، وعبّر عنها بذلك.
وهي جواب عن النداء القديم الذي أمر اللّه به لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند بنائه البيت، فصعد أبا قبيس ونادى الناس، فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، كما ورد في الخبر (2).
ويجوز كسر همز «إنّ» على الاستئناف، وفتحها بنزع الخافض وهو لام التعليل، والأوّل أجود؛ لاقتضائه تعميم التلبية في حالة استحقاقه الحمد وعدمها، واقتضاء الفتح تخصيصها، أي لبّيك بسبب أن الحمد لك.
قوله: «ولو عقد نيّة الإحرام ولبس ثوبيه ثمَّ لم يلبّ وفَعَل ما لا يحل للمُحرم... لم يلزمه بذلك كفّارة».
ص: 140
الثالث: لُبس ثوبي الإحرام. • وهما واجبان.
• ولا يجوز الإحرام فيما لا يجوز لبسه في الصلاة.
-------------------------------------------------------------------
لأنّ عقد الإحرام موقوف على التلبية، فلا يحرم عليه المحرّمات المذكورة بدونه، سواء أوجبنا مقارنتها للنيّة أم لا، لكن إن أوجبنا المقارنة ففعل بينهما ما يحرم على المحرم بطل الإحرام للتراخي، كما لو لم يفعل شيئاً، بل هنا أولى.
وإن جوّزنا التراخي ففعل ذلك هل يبطل الإحرام ؟ ليس في كلامهم ما يدلّ عليه، بل أكثر العبارات -كما ذكر المصنّف - أنّه لا يلزمه كفّارة. وفي كثير من الروايات (1) دليل على عدم البطلان. ويحتمل البطلان بذلك، وفي بعض الأخبار (2) دلالة عليه.
قوله: «وهُما واجبان».
لا إشكال في وجوبهما، وكون أحدهما إزاراً يستر العورتين وما بين السرّة والركبة، والآخر رداء يوضع على المنكبين أو وشاحاً يوضع على أحدهما، وإنما الكلام في توقّف تحقق الإحرام عليهما، وقد تقدّم ما يحقق المقام، وأنّ الأقوى خروجهما عن حقيقته، فلا يبطل بالإخلال بهما وإن أثم.
قوله: «ولا يجوز الإحرام فيما لا يجوز لبسه في الصلاة».
وذلك كجلد ما لا يؤكل لحمه وإن ذُكِّي ودُبغ والحرير للرجال، وما يحكي العورة.
ويدخل فيه النجس نجاسة غير معفو عنها في الصلاة، فلا يصحّ الإحرام فيه أيضاً، وهو الأقوى؛ عملاً بظاهر النصّ(3).
وقيل بالجواز(4) ؛ نظراً إلى أنّ المراد بكونه مما تصح الصلاة فيه بحسب ذاته، لا بحسب عوارضه
ص: 141
• وهل يجوز الإحرام في الحرير للنساء؟ قيل: نعم لجواز لبسهن له في الصلاة. وقيل: لا، و هو أحوط.
ويجوز أن يلبس المُحْرم أكثر من ثوبين وأن يبدل ثياب إحرامه، فإذا أراد الطواف فالأفضل أن يطوف فيهما.
• وإذا لم يكن مع الإنسان ثوبا الإحرام وكان معه قباء جاز لُبسه مقلوباً ويجعل ذيله على كتفيه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وهل يجوز الإحرام في الحرير للنساء؟ قيل: نعم؛ لجواز لبسهنّ له في الصلاة، وقيل: لا، وهو أحوط».
وجه القولين النصوص (1) المتعارضة ظاهراً، ومنها صحيح من الجانبين، وحينئذٍ فالأقوى الكراهة؛ جمعاً بينها بحمل أحاديث النهي على الكراهة؛ حذراً من اطراح أخبار الجواز لو قيل بالتحريم.
وهل يلحق الخنثى في ذلك بالرجل أو بالمرأة؟ نظر، من تعارض الأصل والاحتياط، بل الإشكال في أصل جواز لبسه لها.
قوله: «وإذا لم يكن مع الإنسان ثوبا الإحرام وكان معه قباء جاز لبسه مقلوباً، ويجعل ذيله على كتفيه».
للقلب هنا تفسيران: أحدهما: جعل ذيله على الكتفين. والثاني: جعل باطنه ظاهره، ولا يُخرج يديه من كُمّيه.
والأقوى الاجتزاء بكلّ واحدٍ منهما؛ لدلالة النصوص (2) عليهما، وإن كان الأوّل أولى بل
ص: 142
وأما أحكامه فمسائل
الأولى: لا يجوز لمن أحرم أن ينشئ إحراماً آخر حتى يكمل أفعال ما أحرم له،
-------------------------------------------------------------------
خصه ابن إدريس به(1)، واختاره في الدروس (2)، فهو حينئذٍ مجزئ إجماعاً.
وأكمل منه الجمع بينهما ؛ عملاً بمدلول النص من الجانبين وإن لم يقل أحد بتحتم الثاني.
وقول المصنّف بعد الحكم بقلبه ويجعل ذيله على كتفيه» يمكن أن يكون تفسيراً للقلب بالمعنى الأوّل المتفق عليه، وهو الأولى، ويمكن كونه إشارة إلى الجمع بينهما.
إذا تقرر ذلك فتعليق الحكم بذلك على فقد الثوبين يشعر بأنَّ واجد أحدهما لا يجوز له لُبسه.
والظاهر جوازه مع فقد أحدهما خاصةً، خصوصاً الرداء. وخصه في الدروس بفقده، وجعل السراويل بدلاً عن الإزار(3).
والمراد بالجواز هنا معناه الأعم، والمراد منه الوجوب؛ لأنه بدل عن الواجب، وعملاً بظاهر الأمر في النصوص.
والمشهور اختصاص الحكم بالقباء.
وفي رواية عمر بن يزيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إن لم يكن معه رداء طرح قميصه على عنقه أو قباء بعد أن ينكسه»(4)، واختاره في الدروس(5).
ولو أخلّ بالقلب، أو أدخل يده في كُمّه لزمه كفارة لُبس المخيط.
ص: 143
• فلو أحرم متمتّعاً ودخل مكّة وأحرم بالحجّ قبل التقصير ناسياً لم يكن عليه شيء، وقيل عليه،دم، وحمله على الاستحباب أظهر.
• وإن فعل ذلك عامداً قيل: بطلت عمرته فصارت حجّة مبتولة، وقيل: بقى على إحرامه الأوّل، وكان الثاني باطلاً، والأول هو المرويّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فلو أحرم متمتّعاً ودخل مكّة وأحرم بالحجّ قبل التقصير ناسياً لم يكن عليه شيء، وقيل عليه،دم، وحَمْله على الاستحباب أظهر».
المراد أنّ المُحرم بحج التمتّع ناسياً قبل التقصير من عمرته يستمرّ على إحرامه، ويصحّ حجه، ولا يلزمه قضاء التقصير من عمرته للنصّ(1)، ولأن التقصير ليس جزءاً، بل محلّل من الإحرام.
وكون الدم مستحبّاً هو الأقوى؛ جمعاً بين الأخبار، فإنّ رواية معاوية بن عمّار مصرِّحة بعدم وجوب شيء(2).
ولو كان الإحرام قبل إكمال السعي بطل، ووجب إكمال العمرة.
قوله: «وإن فَعَل ذلك عامداً قيل: بطلت عمرته فصارت حجّة مبتولة، وقيل: بقي على إحرامه الأوّل، وكان الثانى باطلاً، والأوّل مرويّ».
القائل ببطلان الثاني ابن إدريس(3)، وتبعه العلّامة(4)؛ للنهي عن إدخال الحجّ على العمرة فيفسد الإحرام، ولأنه لم يفعل المأمور به على وجهه.
ص: 144
الثانية: لو نوى الإفراد ثم دخل مكّة جاز أن يطوف ويسعى ويقصر، • ويجعلها عمرةً يتمتّع بها ما لم يُلبّ. • فإن لبّى انعقد إحرامه. وقيل: لا اعتبار بالتلبية، وإنما هو بالقصد.
-------------------------------------------------------------------
وأجيب بأن النهي عن وصف خارج عن ماهية الإحرام، وبمنع تحقق الإدخال: لما تقدم من أن التقصير ليس جزءاً(1).
والأقوى العمل بالمرويّ(2)، وهو المشهور، ورواية أبي بصير (3) - الصحيحة - تدلّ عليه، وإطلاقها منزّل على العمد؛ جمعاً بينها وبين حسنة معاوية بن عمّار، المتضمنة أنّ من دخل في الحجّ قبل التقصير ناسياً لا شيء عليه(4)، فحينئذٍ يُكمل حجّ الإفراد، ويأتي بعمرة مفردة بعده.
والأقوى أنه لا يجزئه عن فرضه؛ لأنه عدول اختياري، ولم يأت بالمأمور به على وجهه. والظاهر أن الجاهل بمنزلة العامد؛ لدخوله في إطلاق صحيحة أبي بصير، وإنما خرج الناسي بنص خاص.
قوله: «ويجعلها عمرةً يتمتّع بها».
قد تقدّم أنّ ذلك في غير حجّة الإسلام كالنذر المطلق، والمتبرّع به، وإلّا لم يجز.
قوله: «فإن لَبّى انعقد إحرامه، وقيل: لا اعتبار بالتلبية، وإنما هو بالقصد».
القول بالتفصيل هو المشهور والأقوى لصحيحة أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5).
والثاني قول ابن إدريس ؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إنما الأعمال بالنيّات»(6).
ص: 145
الثالثة: إذا أحرم الوليّ بالصبي جرده من فح، وفَعَل به ما يجب على المُحرم، وجنبه ما يجتنبه.
• ولو فَعَل الصبيّ ما يجب به الكفّارة لزم ذلك الولي في ماله.
وكلّ ما يعجز عنه الصبيّ يتولاه الولي من تلبيةٍ وطواف وسعى وغير ذلك.
ويجب على الولي الهدي من ماله أيضاً.
-------------------------------------------------------------------
وفي تفسير مقصوده من النيّة احتمالان
أحدهما : أن يريد أنّ الاعتبار بقصده أوّلاً إلى المتعة، فلا عبرة بالتلبية الواقعة بعد ذلك.
والثاني : أنّ الاعتبار بقصد الإهلال بالتلبية، لا بالتلبية وحدها، فإذا لبى قاصداً إلى عقد الإحرام بالتلبية بطلت المتعة حينئذٍ، لا بدون ذلك.
وفي الوجهين معاً تحكّم واضح، ومصادرة للنص الصحيح.
قوله: «ولو فَعَل الصبيّ ما يجب به الكفّارة لزم ذلك الوليّ».
أي فعل ما يجب به الكفّارة على المكلّف، فإنّ الصبيّ لا يجب عليه شيء، بل لا يجب عليه اجتناب موجبها، وإنّما يجب على الوليّ أن يجنّبه ذلك ويحضه عليه، فإن فعل الصبيّ شيئاً يوجبها لو كان مكلّفاً -كما لو قتل صيداً مطلقاً، أو تعمّد لبس المخيط ونحوه - وجبت الكفّارة على الوليّ.
أمّا الأوّل فظاهر؛ لاستواء العامد والناسي والجاهل فيه.
وأما الثاني فربما توجّه فيه عدم الوجوب؛ بناءً على أن عمد الصبيّ خطأ، كما ذكروه في باب الديات.
والأُولى قصر ذلك الحكم على محلّه، ووجوب الكفّارة هنا على الوليّ.
ولو فَعَل ذلك سهواً أو جهلاً لم يجب شيء.
ص: 146
• وروي: إذا كان الصبيّ مميزاً جاز أمره بالصيام عن الهدي، ولو لم يقدر على الصيام صام الوليّ عنه مع العجز عن الهدي.
الرابعة: إذا اشترط في إحرامه أن يحله حيث حبسه ثمَّ أُحصر تحلّل.
• وهل يسقط الهدى؟ قيل: نعم، وقيل: لا، وهو الأشبه
• وفائدة الاشتراط جواز التحلّل عند الإحصار. وقيل: يجوز التحلّل من غير شرط، والأوّل أظهر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وروي إذا كان الصبيّ مميزاً جاز أمره بالصيام عن الهدي» إلى آخره.
بل يجب على الوليّ الهدي مع قدرته عليه. نعم، لو عجز عنه جاز له الصوم عنه.
وفي جواز أمره به حينئذٍ وجهٌ قويّ.
قوله: «وهل يسقط الهدي؟ قيل: نعم، وقيل: لا، وهو الأشبه».
القول بالسقوط للمرتضى، وتبعه ابن إدريس، وجعلاه فائدة الاشتراط(1).
والأقوى عدم السقوط؛ لعموم الآية(2)، والسقوط يحتاج إلى دليل، وحصر الفائدة فيه ممنوع.
قوله: «وفائدة الاشتراط جواز التحلّل عند الإحصار وقيل: يجوز التحلّل من غير شرطٍ، والأول أظهر».
في قوله « وفائدة الاشتراط» جواب عن سؤال مقدّرٍ، وهو أن هدي التحلّل إذا كان يجب على المعذور وإن اشترط على ربّه أن يُحلّه حيث حبسه، فأي فائدة للاشتراط ؟ وهذا هو الذي اعترض به ابن إدريس على الشيخ (رحمه اللّه)(3)، وإذا لم يكن للشرط فائدة انتفت شرعيّته، وأنتم لا تقولون به.
وأجاب المصنّف بأنّ فائدته جواز التحلّل، أي تعجيله للمحصر عند الإحصار من
ص: 147
-------------------------------------------------------------------
غير تربّص إلى أن يبلغ الهدي محلّه، فإنّه لو لم يشترط لم يجز له التعجيل.
وبهذا التفسير صرّح المصنّف في النافع(1).
ويدلّ عليه من العبارة تخصيصه الحكم بالمحصر، فإنّ المصدود يجوز له التعجيل من غير شرط اتفاقاً.
والذي فهمه الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس من عبارة الكتاب، وتبعه عليه الشيخ علي في حاشيته (2) أن مراده بالفائدة ثبوت أصل التحلّل(3)، وكأنّهم يريدون بذلك أن التحلل وإن كان ثابتاً أيضاً بالإحصار والصد بسبب العذر لكن ذلك رخصة على خلاف الأصل، فإذا شرط صار الجواز ثابتاً بالأصل.
ويشكل بأن تخصيص الحصر يشعر بخلافه، فإنّ ما ذكروه آت فيهما، اللّهمّ إلّا أن يريد بالحصر هنا ما يشمل الصدّ، وبأنّ المصنّف قد جعل الفائدة نفس التحلّل، وعلى ما ذكراه إنّما هى ثبوته أصالة، وأحدهما غير الآخر وإن أمكن التجوّز به.
والشيخ (رحمه اللّه) في التهذيب جعل الفائدة سقوط قضاء الحجّ لمتمتّع فاته الموقفان(4).
وكل واحدة من هذه الفوائد لا تأتي على جميع الأفراد التي يستحب فيها الاشتراط.
أمّا سقوط الهدي فمخصوص بغير السائق؛ إذ لو كان قد ساق هدياً لم يسقط.
وأما تعجيل التحلّل فمخصوص بالمحصر دون المصدود.
وأما كلام التهذيب فمخصوص بالمتمتّع، وظاهرُ أنّ ثبوت التحلّل بالأصل، والعارض لا مدخل له في شيء من الأحكام، واستحباب الاشتراط ثابت لجميع أفراد الحاج، ومن الجائز كونه تعبداً، أو دعاء مأموراً به يترتب على فعله الثواب.
ص: 148
الخامسة: • إذا تحلّل المحصور لا يسقط الحجّ عنه في القابل إن كان واجباً، ويسقط إن كان ندباً.
والمندوبات • رفع الصوت بالتلبية للرجال وتكرارها عند نومه و استيقاظه، • وعند علوّ الآكام ونزول الأهضام.
فإن كان حاجّاً • فإلى يوم عرفة عند الزوال.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا تحلّل المحصور لا يسقط الحجّ عنه في القابل إن كان واجباً».
هذا إذا كان الواجب مستقراً في الذمة قبل عام،الحصر، أما لو كان واجب عامه، فإنّه بالإحصار تبين انتفاء الوجوب في نفس الأمر؛ لأنّ تخلية السرب وإمكان الفعل الذي له مدخل في تحقق الحجّ شرط في وجوب الحجّ.
قوله: «رفع الصوت بالتلبية للرجال».
أي في الحالة التي يستحب فيها الجهر، كما سيأتي بيانه، ولا يستحبّ ذلك للمرأة، بل يستحب لها السرّ مطلقاً، ولو جهرت حيث لا يسمعها الأجنبي جاز، وكذا الخنثى.
قوله: «وعند علوّ الآكام ونزول الأهضام».
الآكام جمع، فإن كان بكسر الهمزة الواحدة فهو جمع أَكَم بالفتح، والأَكم جمع أكمة - بالفتح أيضاً - وهي التلّ، وإن كان بفتح الهمزة الأُولى وقلب الثانية حرف مد فهي جمع أُكُم - بالضمّ - مثل عُنُق وأعناق، والأُكُم - بالضم - جمع إكام بالكسر، وهو الجمع المتقدم، مثل كتاب وكتب، فالآكام - بالهمزتين - جمع رابع، وهو ثالث جمع الجمع، كما ذكره الجوهري(1).
والأهضام جمع هضم - بكسر الهاء وفتحها، والأوّل أجود، وسكون الضاد - وهو المطمئن من الأرض، وبطن الوادي.
قوله: «فإلى يوم عرفة عند الزوال».
ص: 149
وإن كان معتمراً بمتعة • فإذا شاهد بيوت مكّة • وإن كان بعمرة مفردةٍ، قيل: كان مخيراً في قطع التلبية عند دخول الحرم، أو مشاهدة الكعبة، وقيل: إن كان من خرج من مكّة للإحرام فإذا شاهد الكعبة، وإن كان ممن أحرم من خارج فإذا دخل الحرم، والكلّ جائز.
-------------------------------------------------------------------
فإذا بلغ ذلك قطعها وجوباً عند الشيخ (1) وجماعة (2)؛ عملاً بظاهر الأمر(3)، ولا شك أنه أولى.
قوله: «فإذا شاهد بيوت مكة».
حد ذلك عقبة المدنيين إن دخلها من أعلاها، وعقبة ذي طوى إن دخلها (4) من أسفلها.
ونقل الشيخ الإجماع على أنّ المتمتّع يقطعها وجوباً عند مشاهدة مكّة(5).
قوله: «وإن كان بعمرة مفردة، قيل: كان مخيّراً - إلى قوله - والكلّ جائز».
القول بالتخيير للصدوق (6) (رحمه اللّه)؛ تنزيلاً للأخبار (7) المختلفة عليه، لظنّه تنافيها.
والتفصيل قول الشيخ (رحمه اللّه)؛ تنزيلاً لاختلاف الأخبار على اختلاف حال المعتمر(8).
فإن كان قد قد خرج من مكّة للإحرام بالعمرة المفردة من خارج الحرم فلا سبيل إلى العمل بمدلول الأخبار المتضمّنة لقطعها إذا دخل الحرم(9)، فإنّه قد لا يكون بين موضع الإحرام
ص: 150
• ويرفع صوته بالتلبية إذا حجّ على طريق المدينة إذا علت راحلته البيداء، فإن كان راجلاً فحيث يُحرم.
• ويستحبّ التلفظ بما يعزم عليه،
-------------------------------------------------------------------
وأوّل الحرم مسافة توجب التفصيل، فيقطعها إذا شاهد الكعبة، وإن كان قد جاء مُحْرماً بها من أحد المواقيت فإذا دخل الحرم، وهذا هو الأصحّ.
قوله: ويرفع صوته بالتلبية إذا حجّ على طريق المدينة - إلى قوله فحيث يحرم».
هذا تفصيل ما أجمله في استحباب رفع الصوت بالتلبية سابقاً.
وبيانه: أنّ الحاج على طريق المدينة إن كان راكباً فلا يرفع صوته بها حتى تصل راحلته البيداء، وهي الأرض التي تخسف بجيش السفياني فيها، على ميل من مسجد الشجرة عن يسار الطريق اقتداء بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ثمَّ إن أوجبنا مقارنة التلبية للنية أسر بها عندها، وأخّر الجهر إلى ذلك المحلّ، وإلا جاز تأخيرها إليه.
وظاهر الأخبار (1) أنّ أوّل التلبية للراكب يكون في البيداء، والأوّل أولى، فتكون هذه التلبية غير التي يعقد بها الإحرام في المسجد.
وإن كان راجلاً رفع بها صوته حيث يُحرم، فليس له تلبية تقع سرّاً.
وكذا من حجّ على غير طريق المدينة يرفع صوته موضع إحرامه، راكباً كان أم راجلاً.
وفي الأخبار: يؤخّرها حتى يمشي خطوات(2)، واختاره في التحرير(3)، وهو حسن.
قوله: «ويستحب التلفظ بما يعزم عليه».
أي التلفظ به في التلبية، بأن يقول من جملة التلبيات المستحبة : لبّيك بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ لبّيك.
ص: 151
• والاشتراط أن يحله حيث حبسه، وإن لم يكن حجّة فعمرة وأن يُحرم في الثياب القطن، وأفضله البيض.
• وإذا أحرم بالحجّ من مكّة رفع صوته بالتلبية إذا أشرف على الأبطح.
-------------------------------------------------------------------
ولو كان غيرها ذكره بلفظه أيضاً استحباباً.
والواجب القصد إليه في النيّة.
قوله: «والاشتراط أن يُحلّه حيث حبسه، وإن لم يكن حجّة فعمرة».
أي يستحب الاشتراط كذلك، ومحله قبل النيّة متّصلاً بها.
ولو ذكره في خلال النيّة حيث لا يخل بواجباتها صح أيضاً، كالاعتكاف المندوب.
ولفظه المرويّ: «اللّهم إنّي أريد التمتّع بالعمرة إلى الحجّ على كتابك وسُنّة نبيّك، فإن عرض لي شيء يحبسني فحلني حيث حبستني لقدرك الذي قدَّرت علَيَّ، اللّهم إن لم تكن، النساء حجّة فعمرة، أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي ومُخي وعصبي من والثياب والطيب، أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة، ثمَّ قُمْ فامش هنيئةً ثمَّ لبّ»(1).
وفي هذا دلالة على ما تقدّم من عدم وجوب مقارنة النيّة للتلبية، لكن الأُولى المقارنة، وإعادتها جهراً بعد ذلك على ما تقدّم تفصيله.
قوله: «وإذا أحرم بالحجّ من مكّة رفع صوته بالتلبية إذا أشرف على الأبطح».
ظاهر هم هنا عدم الفرق بين الراكب والماشي، كما لم يفرّق بينهما في إحرام العمرة من غير مسجد الشجرة، وحسنة معاوية بن عمّار (2) وغيره دالّة بإطلاقها على ذلك.
وربما قيل: إنّ ذلك مخصوص بالراكب.
والكلام في التلبية التي يعقد بها الإحرام كما مرّ فيلبي سراً بعد النيّة، ويؤخر الجهر إلى الأبطح.
ص: 152
ويلحق بذلك تروك الإحرام
وهي محرّمات ومكروهات.
فالمحرمات عشرون شيئاً: • مصيد البرّ، اصطياداً وأكلاً ولو صاده مُحلَّ وإشارةً، ودلالةً، وإغلاقاً، وذبحاً، ولو ذبحه كان ميتةً حراماً على المُحلّ والمُحرم، وكذا يحرم فرخه وبيضه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «مصيد البر اصطياداً وأكلاً، ولو صاده محلّ».
جعله محلّ التحريم «المصيد» بصيغة اسم المفعول أوضح من تعبير غيره عنه بالصيد الذي هو المصدر، فإنّ تحريم المصيد - أعني الحيوان المخصوص - يحتمل - حيث هو معلق على العين - لأن يريد به الأكل، أو غيره من الأفعال، فتفسيرها بعد ذلك بما ذكر حسن، بخلاف جعل المحرَّم هو المصدر الذي هو الصيد، فإنّه لا يقتضي إدخال غيره من الدلالة والإشارة والأكل وغيرها معه، بل ينافيه والعذر عنه أنه يريد بالمصدر اسم المفعول، أعني المصيد، كما في قولك: درهم ضرب الأمير، وثوب نسج اليمن، أعني مضروبه ومنسوجه، لا الاسم الذي يشتق منه تلك الأشياء.
قوله: «وإشارةً ودلالةً».
الدلالة أعمّ من الإشارة مطلقاً لتحققها بالإشارة والكتابة والقول وغيرها، واختصاص الإشارة بأجزاء البدن كاليد والعين والرأس، وذكر العام بعد الخاص غير ضائرٍ.
ولا فرق في تحريم الدلالة على المُحرم بين كون المدلول محرماً أو محلاً، لكن متى كانا مُحرمين ضمناه معاً.
ولو انعكس الفرض بأن كان الدالّ مُحلّاً، فإن كان المدلول أيضاً محلاً فلا شيء، ولو كان محرماً لزمه خاصةً. نعم، لو قصد المُحلّ ذلك أثم؛ لأنّها معاونة على الإثم والعدوان.
ولا فرق في الدلالة بين الخفية والواضحة، وإنما يؤثر مع جهالة المدلول بالصيد، فلو كان عالماً به ولم تفده زيادة فلا حكم لها.
ص: 153
• والجراد في معنى الصيد البرّي.
• ولا يحرم صيد البحر، وهو ما يبيض ويفرخ في الماء.
والنساء، وطءاً وعقداً لنفسه ولغيره، وشهادةً على العقد،• وإقامة ولو تحمّلها محلاً، ولا بأس به بعد الإحلال وتقبيلاً،• ونظراً بشهوة، وكذا الاستمناء.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «والجراد في معنى الصيد».
لا خلاف في ذلك عندنا، وإنما نبه على خلاف الشافعي، حيث ذهب إلى أنّه من صيد البحر؛ لأنّه يتولّد من روث السمك(1).
قوله: «ولا يحرم صيد البحر وهو ما يبيض ويفرخ في الماء».
المراد كون الماء محلّاً للفرخ والبيض، فما يبيض ويفرخ في البرّ صيد وإن لازم الماء كالبطّ، فمحلّ البيض هو المعيار لمن يتردّد إليهما.
ولو اختلف جنس الحيوان، كالسلحفاة، فإنّ منها بريّة ومنها بحريّة، فلكل جنس حكم نفسه.
والمتولّد بين الصيد وغيره يتبع الاسم، فإن انتفى عنه الاسمان وكان ممتنعاً فهو صيد، إن لم يخص التحريم في المُحرم بالستة الأنواع المشهورة. وإلا اعتبر في ذلك كونه ملحقاً بأحدها.
قوله: «وإقامةً ولو تحملها مُحلّاً».
أي إقامةً للشهادة على النكاح وإن كان في عقد بين مُحلّين، وسواء تحمّلها محلاً أم مُحْرماً، خلافاً للشيخ (رحمه اللّه) حيث قيد التحريم بما إذا تحمّلها وهو محرم(2).
وإنّما يحرم عليه إقامتها إذا لم يترتب على تركها،مُحرَّم، فلو خاف به وقوع الزنى المحرَّم وجب عليه تنبيه الحاكم على أنّ عنده شهادةً؛ ليوقف الحكم إلى إحلاله، فإن لم يندفع إلا بالشهادة جازت
قوله: «ونظراً بشهوة».
ص: 154
تفریعان :
الأوّل: • إذا اختلف الزوجان في العقد فادّعى أحدهما وقوعه في الإحرام وأنكر الآخر فالقول قول من يدعي الإحلال؛ ترجيحاً لجانب الصحّة. • لكن إن كان المنكر المرأة كان لها نصف المهر؛ لاعترافه بما يمنع من الوطء. ولو قيل لها المهر كله كان حسناً.
-------------------------------------------------------------------
لا فرق في ذلك بين الزوجة والأجنبية بالنسبة إلى النظرة الأُولى - إن جوزناها - والنظر إلى المخطوبة، وإلا فالحكم مخصوص بالزوجة.
قوله: «إذا اختلف الزوجان في العقد - إلى قوله - ترجيحاً لجانب الصحّة».
أي القول قول من يدّعي وقوعه حالة الإحلال؛ لأنّ الأصل في العقد الواقع كونه صحيحاً، فمدّعي الفساد يحتاج إلى البينة، ولأنهما مختلفان في وصف زائد على أركان العقد المتفق على حصولها يقتضي الفساد، وهو وقوع العقد في حالة الإحرام فالقول قول منكره فيحلف، ويُحكم بالصحة.
قوله: لكن إن كان المنكر المرأة كان لها نصف المهر - إلى قوله كان حسناً».
لما كان الحكم بتقديم قول مدّعي الصحة يقتضي بقاء حكم النكاح الذي من جملته جواز الاستمتاع واستحقاق جميع المهر، وكان الحكم بهما غير تام على الإطلاق، استدرك الحكم السابق بقوله «لكن إن كان المنكر» إلى آخره.
وتحقيقه أنّ مدّعي وقوع العقد في الإحرام لو كان هو الزوج وأنكرت المرأة لزمه حكم البطلان فيما يختص به، فيحكم بتحريمها عليه؛ لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1). ولأنّ الزوج يملك الفرقة، فإذا اعترف بما يتضمنها قبل ولا يُقبل قوله في حقّها، فلها
ص: 155
-------------------------------------------------------------------
المطالبة بحقّ الاستمتاع والنفقة، فما يمكن فعله منه كأداء النفقة يكلّف به، وما لا يمكن كالوطء - فإنّه بزعمه محرم - يتعارض فيه الحقان فلا يكلّف به، بل ينبغي التخلّص من ذلك بإيقاع صيغة الطلاق ولو معلّقة على شرط، مثل: إن كانت زوجتي فهي طالق.
وظاهر الشيخ انفساخ العقد من غير احتياج إلى فاسخ من طلاق أو غيره(1).
ويستحقّ عليه نصف المهر إن كان قبل المسيس؛ لأنه وإن وجب جميعه بالعقد الذي قد حكم بصحته إلّا أنّ الفرقة الحاصلة بإقرار الزوج الذي تضمنه دعواه حيث كانت قبل الدخول أوجبت تنصيف المهر، كالطلاق، وهذا قول الشيخ (2) أيضاً، وبناؤه على الحكم بالانفساخ قبل الدخول.
والأقوى ما حسّنه المصنّف من لزوم جميع المهر؛ لثبوته بالعقد، وكون تنصيفه بالطلاق على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على موضع الوفاق والنصّ، فلا يلحق به ما أشبهه من الفراق لبطلان القياس والمراد بالجميع المسمّى.
ولو كان بعد الدخول وجب المسمّى بأجمعه قولاً واحداً.
وما يختصّ بها من الأحكام المترتبة على دعواها يلزمها قبل الطلاق فلا يحلّ لها التزويج بغيره، ولا الأفعال المتوقفة على إذنه بدونه، ويجوز له التزويج بأختها وخامسة ونحو ذلك من لوازم الفساد.
هذا بحسب الظاهر، وأما فيما بينهما وبين اللّه تعالى فيلزمهما حكم ما هو الواقع في نفس الأمر.
ولو انعكست الدعوى، بأن كان هو مدعي الوقوع في الإحلال، وهي تدّعي وقوعه في الإحرام، وحلف، استقرّ النكاح له ظاهراً، وعليه النفقة والمبيت عندها، ويحرم
ص: 156
الثاني: إذا وكل في حال إحرامه فأوقع فإن كان قبل إحلال الموكل بطل، وإن كان بعده صحّ.
• ويجوز مراجعة المطلقة الرجعيّة. • وشراء الإماء في حال الإحرام.
-------------------------------------------------------------------
عليه التزويج بالخامسة والأخت وليس لها المطالبة بحقوق الزوجية من النفقة والمبيت عندها، وعليها القيام بحقوق الزوجيّة ظاهرا.
ويجب عليها فيما بينها وبين اللّه تعالى أن تعمل بما تعلم أنه الحق بحسب الإمكان ولو بالهرب أو استدعاء الفرقة.
وأمّا المهر فإن كان ذلك قبل الدخول فليس لها المطالبة به ؛ لاعترافها بعدم استحقاقه، وبعده تطالب بأقل الأمرين من المسمّى ومهر المثل مع جهلها إن لم تكن قبضته. ومع علمها بالحال لا شيء لها ظاهراً، ويجب عليه التوصل إلى براءة ذمته منه بحسب الإمكان.
وإنّما جمعنا بين هذه الأحكام المتنافية مع أنّ اجتماعها في الواقع ممتنع؛ جمعاً بين الحقّين المبنيّين على المضايقة المحضة وعملاً في كلّ سبب بمقتضاه حيث يمكن.
قوله: «ويجوز مراجعة المطلقة الرجعية».
لأن الرجعة ليست ابتداء نكاح، وإنّما هي رفع للسبب الطارئ، واستدامة للنكاح السابق، فإنّها في حكم الزوجة.
ولا فرق في ذلك بين المطلقة تبرّعاً، والمختلعة إذا رجعت في البذل.
قوله: «وشراء الإماء».
سواء قصد بشرائهنّ الخدمة أم التسري؛ قصراً للمنع على مورده، وهو عقد النكاح، وإنّما المُحرّم في غيره نفس النكاح، فلو قصده عند الشراء في حالة الإحرام حَرُم.
وهل يبطل الشراء؟ فيه وجه منشؤه النهي عنه.
والأقوى العدم؛ لأنه عقد لا عبادة.
ص: 157
• والطيب على العموم. ما خلا خلوق الكعبة،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «والطيب على العموم».
الطيب جسم ذو ريح طيبة متخذ للشمّ غالباً، غير الرياحين، كالمسك والعنبر والزعفران والورد والكافور.
وخرج بقيد «الاتِّخاذ للشمّ» ما يطلب منه الأكل والتداوي غالباً، كالقرنفل والسنبل والدارصيني والجوزة والمصطكى، وسائر الأبازير الطيبة، فلا يحرم شمّه، وكذا ما لا ينبت للطيب كالشيح والقيصوم والخزامى والإذخر والفوتنج والحِنّاء والعصفر وإن أطلق عليه اسم الرياحين.
وأما ما يُقصد شمّه ويُتّخذ منه الطيب، كالياسمين والورد والنيلوفر، فإن كان رطباً فهو ريحان سيأتي حكمه، وإن كان يابساً ففي تحريمه إن لم نقل بتحريم أخضره وجهان.
واختار العلّامة في التذكرة تحريمه، ووجوب الفدية به(1).
إذا تقرّر ذلك فالمراد بقوله : على العموم أي على الإطلاق مجازا، فإنّ الطيب،مطلق لا عامٌّ.
ويمكن أن يكون العموم باعتبار النص الوارد فيه، ففي صحيحة حريز عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا يمسّ المُحْرم شيئاً من الطيب»(2)، ونحوه في رواية معاوية بن عمّار(3)، فإن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
والأقوى تحريمه مطلقاً لما ذكرناه من النصّ.
قوله: «ما عدا خلوق الكعبة».
الخلوق - بفتح الخاء - أخلاط خاصة من الطيب، منها الزعفران.
ص: 158
• ولو في الطعام.
• ولو اضطر إلى أكل ما فيه طيب أو لمس الطيب قبض على أنفه.
• وقيل: إنّما يحرم المسك والعنبر والزعفران والعود والكافور والوَرْس.
وقد يقتصر بعض على أربع المسك والعنبر والزعفران والورس.
والأوّل أظهر.
-------------------------------------------------------------------
فعلى هذا لو كان طيب الكعبة غيرها،حرم كما لو جُمّرت الكعبة، لكن لا يحرم عليه الجلوس فيها وعندها حينئذٍ، وإنما يحرم الشمّ، ولا كذلك الجلوس في سوق العطارين، وعند المتطيّب، فإنّه مُحرّم.
قوله: «ولو في الطعام».
مع بقاء كيفيته من لون وطعم ورائحة، فلو انتفت الثلاثة واستهلكت فلا بأس.
ولو انتفى بعضها فإن بقيت الرائحة فهو كما لو بقي الجميع.
ولو انتفت وبقي أحد الأمرين ففي تحريمه وجهان، أجودهما المنع.
قوله: «ولو اضطر إلى أكل ما فيه طيب أو لمس الطيب قبض على أنفه».
وجوباً، فلو لم يقبض كان كما لو تطيب فتجب الكفّارة.
قوله: «وقيل: إنّما يحرم المسك - إلى قوله - والورس».
القول للشيخ في الخلاف والنهاية(1)، وكذا القول الذي بعده، فإنّه مختاره في التهذيب(2).
والأصحّ الأوّل.
والورس - بفتح الواو - نبت أحمر (3) يوجد على قشور شجر يكون باليمن.
ص: 159
• ولُبس المخيط للرجال،• وفي النساء خلاف، والأظهر الجواز اضطراراً واختياراً.
• وأمّا الغلالة للحائض فجائزة إجماعاً.
• ويجوز لبس السراويل للرجل إذا لم يجد إزاراً،• وكذا لبس طيلسان له أزرار، لكن لا يزره على نفسه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولبس المخيط للرجال».
المعتبر في المنع مسمّى الخياطة وإن قلت، ولا يشترط إحاطته بالبدن، ويلحق بالمخيط ما أشبهه كالدرع المنسوج، وجُبّة الكبد والملصق بعضه ببعض؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا تلبس وأنت تريد الإحرام ثوباً تزره، ولا تدرعه»(1).
ويلحق بالخياطة ما أشبهها من العقد والزرّ والخلال للرداء.
ويجوز عقد الإزار والهميان.
قوله: «وفي النساء خلاف، والأظهر الجواز، اضطراراً واختياراً».
الأظهر أظهر بل ادّعى عليه العلّامة في التذكرة الإجماع(2).
قوله: «وأمّا الغلالة للحائض فجائزة إجماعاً».
الغلالة - بكسر الغين - ثوب رقيق يُلبس تحت الثياب، يجوز لُبسه للحائض وإن منعناها من لُبس المخيط.
قوله: «ويجوز لبس السراويل للرجل إذا لم يجد إزاراً».
ولا فدية عليه حينئذٍ، نص عليه جماعة (3)، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا (4).
قوله: « وكذا لُبْس طيلسان له أزرار لكن لا يزره على نفسه.
ص: 160
• والاكتحال بالسواد على قول. • وبما فيه طيب، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة.
• وكذا النظر في المرآة، على الأشهر.
-------------------------------------------------------------------
الطيلسان ثوب منسوج محيط بالبدن مستثنى من عدم جواز لبس المخيط، ولا يجوز زرّه؛ للنصّ عليه(1).
ومنه يستفاد بالإيماء عدم جواز عقد ثوب الإحرام الذي يكون على المنكبين. ولو زرّه أو عقد الثوب فالظاهر أنه كلُبس المخيط، فتجب الفدية.
قوله: «والاكتحال بالسواد على قول».
القول بتحريمه قوي لصحيحة حريز ؛ معللاً بكونه زينةً (2). والقول الآخر للخلاف: إنّه مكروه(3)؛ عملاً بالأصل وظاهر النهي في الأخبار(4)، يدفعه.
وعلى القولين لا فدية فيه.
قوله: «وبما فيه طيب».
عطفه على ما فيه الخلاف غير ناقل فيه الخلاف مشعر بعدم الخلاف فيه مع أنّه فيه متحقّق، فإنّ ابن الجنيد وابن البراج كرهاه(5).
والأصحّ التحريم، بل نقل عليه في التذكرة الإجماع(6). وفديته فدية الطيب.
قوله: «وكذا النظر في المرآة على الأشهر».
ص: 161
• ولُبس الخفّين، وما يستر ظهر القدم،
-------------------------------------------------------------------
المشبّه به المشار إليه ب«ذا» هو التحريم على الرجل والمرأة، وهذا هو الأصحّ؛ لصحيحة حمّاد(1). وذهب جماعة (2) إلى الجواز؛ تمسكاً بالأصل. وعلى كل حال فلا فدية فيه.
والمرآة بكسر الميم، وبعد الهمزة ألف.
قوله: «ولُبْس الخُفّين، وما يستر ظهر القدم».
المحرَّم من ذلك ما يُسمّى لُبْساً عليهما، فلا يحرم سترهما بغيره.
وهل الستر المحرَّم هو المستوعب للظهر أم مسمّى الساتر ؟ يحتمل الأوّل؛ لورود الحكم في النصوص ممثلاً بالخُفّين ونحوهما (3) مما يقع الستر به بجميع الظَهْر، ولأنه لو حرم ستر أي جزء كان لما أمكن لُبس شيء في الرجل؛ لأنّ النعلين يفتقران إلى سيور تستر بعض الظهر والاكتفاء بشق الخُفّين عند تعذّر النعلين، وإنّما يلزم منه بروز شيء من ظَهر القدم.
ويشكل بأنّ ذلك لا يكفى اختياراً، بل هو مشروط بتعذر النعلين، فلا دلالة فيه.
ووجه الثاني أنّ كلّ جزء من الظهر ليس أولى من غيره بتحريم الستر، فلو لم يعمّ التحريم لزم الترجيح من غير مرجّحٍ، ولأن الرأس يحرم ستر جميع أجزائه بغير إشكال، ولا فرق بينهما في المعنى، ولا ريب أن القدر الذي يتوقّف عليه لبس النعلين ونحوهما مستثنى، وينبغي الاقتصار عليه.
نعم، لا يجب تخفيف الشراك والشسع إلى قدر يندفع به الحاجة لإطلاق الأمر بلُبسهما(4).
ص: 162
• فإن اضطرّ جاز، وقيل: يشقهما. وهو متروك.
• والفسوق، وهو الكذب.
-------------------------------------------------------------------
وحكى في التذكرة عن بعض العامة إيجاب ذلك(1).
قوله: «فإن اضطرّ جاز، وقيل: يشقهما. وهو متروك».
هذا القول هو الأجود؛ لورود الأمر به (2)، ولتحريم ستر الظهر، فالشق مؤد إلى كشف بعضه، فيجب مع الإمكان، ولا يكفي الشق مع وجود النعلين؛ لأن جوازه مشروط بعدمهما في النصوص(3).
ولا فدية في لبس الخُفّ عند الضرورة عند علمائنا، نص عليه في التذكرة (4).
قوله: «والفسوق، وهو الكذب».
وكذلك السباب؛ لصحيحة معاوية(5)، وعن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «سباب المسلم فسوق»(6) وفي صحيحة عليّ بن جعفر: «هو الكذب والمفاخرة»(7).
وجميع ذلك محرم يجب الاحتراز عنه في الإحرام وغيره لكنّه فيه أكد.
ولا كفارة في الفسوق سوى الاستغفار. وقال المفيد: الكذب يُفسد الإحرام(8).
ص: 163
• والجدال، وهو قول: لا واللّه، وبلى واللّه.
• وقتل هوّام الجسد حتى القُمّل. ويجوز نقله من مكان إلى آخر من جسده،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «والجدال، وهو قول: لا واللّه، وبلى واللّه».
هكذا فسّره الصادق والكاظم (عَلَيهِم السَّلَامُ)(1)، واختاره المصنّف والفاضل(2).
وقيل: يتعدّى إلى كلّ ما يُسمّى يميناً(3)، واختاره الشهيد (رحمه اللّه)(4)، وهو أولى.
وإنّما يحرم مع عدم الحاجة إليه، أما لو اضطر إليه لإثبات حق أو تفي باطل فالأقوى جوازه، ولا كفارة.
قوله: «وقتل هوام الجسد حتى القُمّل».
الهوام - بالتشديد - جمع هامة - بالتشديد أيضاً - وهي دوابه، والأصل أن لا يطلق إلّا على المخوف من الأحناش قاله الجوهري(5).
والقُمّل من هوام الجسد، وكذا القراد.
وفي كون البرغوث منها قولان، والظاهر العدم، وهو مروي أيضاً(6).
ولا فرق في تحريم قتل الهوام بين كونه بالمباشرة أو التسبيب كوضع الزيبق.
قوله: «ويجوز نقله من مكان إلى آخر من جسده».
إطلاق النصّ (7) والفتوى يقتضي عدم الفرق بين نقله إلى مكان أحرز مما كان فيه أو غيره.
ص: 164
• ويجوز إلقاء القراد والحلم.
• ويحرم لبس الخاتم للزينة، ويجوز للسُنّة.
• ولبس المرأة الحُليّ للزينة، وما لم يعتد لبسه منه على الأولى، ولا بأس بما كان معتاداً لها، لكن يحرم عليها إظهاره لزوجها.
-------------------------------------------------------------------
وقيده بعض الأصحاب بالمساوي أو الأحرز(1). وهو أولى. نعم، لا يكفي وضعه في موضع يكون معرضاً لسقوطه قطعاً.
قوله: «ويجوز إلقاء القراد والحلم».
الحلم - بفتح الحاء واللام، واحده حلمة بالفتح أيضاً - القُراد العظيم، قاله الجوهري(2).
ويجوز إلقاؤهما عن نفسه وبعيره، لا قتلهما، بخلاف القَمْلة، فإنّه لا يجوز إلقاؤها أيضاً.
قوله: «ويحرم لبس الخاتم للزينة، ويجوز للسنّة».
المرجع في كونه للزينة أو السُنّة إلى قصد اللابس، وليس لذلك هيئة مخصوصة يكون بها سُنّةً خاصةً.
قوله: «ولبس المرأة الحُليّ للزينة، وما لم يعتد لبسه منه على الأُولى - إلى قوله - إظهاره لزوجها».
يحرم على المرأة لبس الحُليّ للزينة مطلقاً، كالخاتم، وكذا غير المعتاد لها وإن لم يكن للزينة، وأمّا المعتاد لها إذا لبسته لغير الزينة فلا بأس به، لكن يحرم عليها حينئذٍ إظهاره للرجال.
وتخصيص المصنّف تحريم إظهاره بالزوج يشعر بعدم تحريمه لغيره من المحارم.
وفي الرواية: «من غير أن تُظهره للرجال»(3)، وهو عامٌّ.
ص: 165
• واستعمال دهن فيه طيب محرَّم بعد الإحرام، وقبله إذا كان ريحه يبقى إلى الإحرام.
• وكذا ما ليس بطيب اختياراً بعد الإحرام،
-------------------------------------------------------------------
وقول المصنّف في غير المعتاد «على الأولى» يشعر بعدم جزمه بتحريمه. ووجهه عدم دلالة النصوص عليه صريحاً، بل في بعضها تعميم الإباحة لكلّ حُلي لا يقصد به الزينة(1)، وإنّما كان أولى ؛ لأنّه المشهور بين الأصحاب.
وكيف كان فلا شيء في لُبس الحُلي والخاتم المحرمين سوى الاستغفار.
قوله: «و استعمال دهن فيه طيب محرّم بعد الإحرام، وقبله إذا كان ريحه يبقى إلى الإحرام».
المراد ببعدية الإحرام هنا ما بعد نيته قبل الإحلال منه، وهو معنى مجازي قد سبق نظيره في نسيان الإحرام.
ووجه تحريمه قبله أنّه وسيلة إلى المحرَّم، وهو المستدام منه بعد النيّة، والوسيلة إلى المحرّم محرّمة.
وإنما يتحقّق التحريم مع وجوب الإحرام على الفور، أما لو لم يكن واجباً أو كان غير فوري ففي تحريم الطيب قبله نظر من إقامة العزم عليه مقام وجوبه الفوري؛ ولأن الإحرام يحرّم هذه الأشياء وإن كان مندوباً، ومن أن فعله لما لم يكن متعيّناً لم يكن منافياً للطيب المتقدم.
قوله: «وكذا ما ليس بطيب اختياراً بعد الإحرام».
وكذا يحرم الادهان بدهن غير مطيب، لا استعماله مطلقاً، فإن أكله جائز إجماعاً.
ص: 166
• ويجوز اضطراراً.
-------------------------------------------------------------------
وتحريم الادهان بعد الإحرام ثابت بالمطيب وغيره أما قبله إذا لم يكن مطيّباً فلا لإطلاق النصّ(1).
وفي الفرق بين ما يبقى أثره بعد الإحرام وما يبقى طيبه نظر؛ فإن استدامة الدهن الباقي أثره حاصلة، كما أن استدامة الطيب فيه كذلك، والابتداء منفى فيهما، لكن النصّ هنا مطلق وقد ادعى العلّامة عليه الإجماع في التذكرة (2).
فلا بدّ من القول بجوازه وإن بقي أثره، بخلاف الطيب، فقد ورد النهي عن المتقدّم منه إذا كان يبقى إليه، ففي رواية الحلبي: لا تدّهن حين تريد أن تحرم بدهن فيه مسك ولا عنبر؛ «من أجل بقاء الرائحة»(3).
واختار ابن حمزة هنا الكراهة في المتقدّم(4)، وهو ظاهر الخلاف(5)، فيكون الحكم في المطيّب كغيره، والاعتماد على الفرق.
وينبغي أن يقرأ «بطيبٍ» في قوله « وكذا ما ليس بطيب» بتشديد الياء، عطفاً على قوله «دهن فيه طيب» فإنه مع التخفيف يقتضي اختصاص التحريم بدهن فيه ما ليس بطيبٍ مع أن مصاحبة شيء للدهن غير شرط في التحريم.
قوله: «ويجوز مع الضرورة»(6).
لا إشكال في جوازه مع الضرورة، كمداواة الجرح به إنما الكلام في وجوب الكفارة
ص: 167
• وإزالة الشعر قليله وكثيره، ومع الضرورة لا إثم.
• وتغطية الرأس،
-------------------------------------------------------------------
حينئذٍ، فإنها قد تجامع الضرورة، كما تجامع الاختيار
والحقّ أن الدهن إن كان مطيِّباً وجبت، وإلا فلا؛ لأصالة البراءة.
قوله: «وإزالة الشعر قليله وكثيره، ومع الضرورة لا إثم».
التعبير بالإزالة يشمل الحلق والنتف وإزالته بالنورة وانسلاله بالتمشط وغيرها. واحترز بالضرورة عمّا لو نبت في عينه شعر، فإنّه يجوز إزالته، ولا شيء عليه.
ولو كان التأذي به لكثرته في الحرّ، أو كثرة القمل فيه جاز أيضاً، لكن يجب الفداء هنا؛ لأنّه ليس نفس المؤذي.
ولو قطع اليد أو كشط جلدة عليها شعر فلا شيء في الشعر؛ لأنّ الشعر غير مقصود بالإبانة.
قوله: «وتغطية الرأس».
لا فرق في تغطيته بين أن يكون بثوب أو قلنسوة أو غيرهما مما لا يعتاد التغطية به، كالزنبيل، وفي حكمه خضب الرأس بالحنّاء، وستره بالطين، وحمل متاع يستره، أو بعضه. ويستثنى من ذلك وضع عصام القربة عليه لحملها، فقد ورد به الإذن(1)، وكذا العصابة للصداع.
ولا فرق بين ستر جميع الرأس وبعضه.
ويجوز له التوسد بوسادة وإن كانت نحو العمامة؛ لعدم صدق التغطية بذلك، ولأنّه موضع ضرورة في الجملة، ولا يتقيد بها، بل يجوز اختياراً.
والمفهوم من الغطاء ما كان ملاصقاً، فلو رفعه عن الرأس بآلة بحيث يستر عنه الشمس و لم يصبه فالظاهر جوازه.
ولو ستر بعض رأسه بيديه ففي التحريم إشكال من صدق اسم التغطية، ومن أنّ الستر
ص: 168
• وفي معناه الارتماس
• ولو غطّى رأسه ألقى الغطاء واجباً، وجدّد التلبية استحباباً.
-------------------------------------------------------------------
بمتّصل لا يثبت له حكمه، ومن ثُمَّ لا يكفي وضع يديه على عورته في الصلاة وإن حصل بهما الستر.
وقطع العلّامة بجوازه في موضع من التذكرة(1)، وتوقف فى آخر منها (2).
نعم يجوز له حك رأسه بيده ودلكه، وهو مرويٌّ(3).
والظاهر أن الرأس هنا اسم لمنابت الشعر حقيقة أو حكماً، فالأذنان ليستا منه خلافاً للتحرير(4).
قوله: «وفي معناه الارتماس».
المراد به الدخول تحت الماء بحيث يستر رأسه، وفي معناه ستره خاصة بالماء دفعة وإن بقي البدن.
ويجوز له غسل رأسه بغير الارتماس، وإفاضة الماء عليه إجماعاً.
وروى حريز - في الصحيح : «إذا اغتسل المُحْرم من الجنابة صبّ على رأسه الماء، يميّز الشعر بأنامله بعضه من بعض»(5).
قوله: «ولو غطّى رأسه ألقى الغطاء واجباً، وجدد التلبية استحباباً».
أما وجوب إلقاء الغطاء على الفور عند الذكر؛ فلأن استدامة التغطية كالابتداء، بل أقوى.
وأما استحباب التلبية فلصحيحة حريز عن الصادق في المُحرم يغطي رأسه ناسياً أو
ص: 169
• ويجوز ذلك للمرأة، لكن عليها أن تسفر عن وجهها، ولو أسدلت قناعها على رأسها إلى طرف أنفها جاز.
-------------------------------------------------------------------
نائماً، قال: « يلبي إذا ذكر»(1)، ولأنّ التغطية تنافي الإحرام، فاستحب تجديد ما ينعقد به، وهو التلبية، ولا يفتقر تجديدها إلى تجديد نيّة الإحرام؛ لإطلاق النص.
قوله: «ويجوز ذلك للمرأة، لكن عليها أن تسفر عن وجهها ولو أسدلت قناعها إلى آخره.
لا فرق في وجهها بين جميعه وبعضه كرأس الرجل. وفي جواز وضع اليدين عليه ما مرّ في الرأس.
وفي جواز نومها على وجهها نظر من عدم تسميته ستراً عرفاً كالرأس، ومن استثناء الرأس لضرورة النوم الطبيعي، بخلاف الوجه، وقد اجتمع في المرأة فعلان واجبان متنافيان في الحدود، وهما: الوجه فإنّه يجب كشفه، والرأس فإنّه يجب ستره، ولا مفصل محسوس بينهما، ومقدّمة الواجب متعارضة فيهما، والظاهر أنّ حق الرأس مقدّم؛ لأن الستر أحوط من الكشف، ولأن حق الصلاة أسبق.
إذا تقرر هذا فيجوز لها أن تُسدِل ثوباً على وجهها فوق رأسها إلى طرف أنفها، وهو موضع وفاق، ورواه حريز - في الصحيح - عن الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
ولا فرق بين أن تفعل ذلك لحاجةٍ من حرّ أو بردٍ أو ستر عن غير محرم وغيرها. وهل تجب عليها مجافاته عن وجهها بخشبة وشبهها؟
قيل: نعم(3)، لتحريم الستر واندفاع الضرورة بذلك، فتصير حينئذٍ كتظليل المُحرم نازلاً. والنصّ مطلق، وإطلاق الإذن فيه الذي لا يكاد يسلم من إصابة البشرة مع وجوب البيان
ص: 170
• وتظليل المُحرم عليه سائراً، ولو اضطر لم يحرم.
• ولو زامل عليلاً أو امرأةً اختصّ العليل والمرأة بجواز التظليل.
-------------------------------------------------------------------
في وقت الحاجة يؤذن بعدم وجوبه.
ثمَّ على تقدير وجوب مجافاته عن البشرة لا وجه لاختصاصه بالوصول إلى الأنف؛ لعدم تحقّق الستر بذلك.
والخنثى المشكل تتخيّر إحدى الوظيفتين، فتغطّي الرأس أو الوجه، ولو جمعت بينهما كفّرت.
قوله: «وتظليل المُحرم عليه سائراً».
يتحقّق التظليل بكون ما يوجب الظلّ فوق رأسه كالمحمل، فلا يقدح فيه المشي في ظلّ المحمل ونحوه عند ميل الشمس إلى أحد جانبيه، وإن كان قد يطلق عليه التظليل لغةً وإنّما يحرم حالة الركوب فلو مشى تحت الظل، كما لو مر تحت الحمل والمحمل جاز. وأراد بالمحرم الذكر، فلا يحرم على المرأة.
ويدخل في العبارة الصبي، ولا بد من إخراجه، فإنّه هنا كالمرأة، رواه حريز عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «لا بأس بالقبة على النساء والصبيان وهُمْ مُحْرمون»(1).
ولا يقال: إنه خارج من حيث إن الكلام على المحرمات، وهي لا تتحقّق في حقه؛ لعدم التكليف، لأنّ ذلك يوجب خروجه من جميع ما تقدم، وليس كذلك، فإنّ هذه التروك معتبرة في حقّه أيضاً تمريناً، وإنما خرج هنا بالنصّ الخاصّ.
وإنما يحرم الظلال مع الاختيار، فلو اضطر إليه لمرض ونحوه جاز ووجب الفداء.
وتتحقّق الضرورة بحصول مشقةٍ في تركه لا تتحمل عادةً.
قوله: «ولو زامل عليلاً أو امرأةً اختصّ العليل والمرأة بجواز التظليل».
زامله أي عادله على البعير وكان اللازم إلحاق علامة التأنيث للعامل؛ لأن المؤنث
ص: 171
• وإخراج الدم إلا عند الضرورة، وقيل: يكره، وكذا قيل في حكّ الجسد المفضي إلى إدمائه، وكذا فى السواك، والكراهية أظهر.
• وقص الأظفار.
-------------------------------------------------------------------
حقيقي غير منفصل عنه، وكأنه استسهل الخطب؛ لمشاركة العليل له فيه.
واختصاص العليل والمرأة بالظل دون الصحيح هو المشهور، وفي بعض الأخبار: يجوز تشريك العليل (1).
ولو زامل صبياً فكالمرأة.
قوله: «وإخراج الدم إلا عند الضرورة، وقيل: يكره، وكذا قيل في حك الجسد - إلى قوله - والكراهية أظهر».
الأصحّ تحريم إخراج الدم مطلقاً وإن كان بحك الجسد والسواك.
وهل تجب به كفّارة؟ نقل في الدروس عن بعض الأصحاب وجوب شاةٍ(2)، ومستنده غير واضح، وأصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب.
ولا إشكال في جوازه عند الضرورة، كبط الجرح، وشق الدمل، والحجامة عند الحاجة إليها، ولا فدية إجماعاً، نقله في التذكرة (3).
قوله: «وقصّ الأظفار».
قص الأظفار: قطعها بالمقصّ - بكسر الميم وفتح القاف - وهو المقراض.
والحكم هنا ليس مقصوراً على قطعها به، بل بمطلق الإزالة حتّى الكسر.
ولا فرق في ذلك بين الجزء والكلّ كالشعر، فلو أزال بعض الظفر تعلّق به ما يتعلّق بجميعه.
ولو انكسر ظفره فهل يجوز له إزالته ؟ قال بعض الأصحاب: لا، فإن فعل أطعم مسكيناً(4).
ص: 172
• وقطع الشجر والحشيش، إلا أن ينبت في ملكه، ويجوز قلع شجر الفواكه والإذخر، والنخل، وعُودي المحالة على روايةٍ.
• وتغسيل المُحرم لو مات بالكافور.
-------------------------------------------------------------------
وفي التذكرة ادّعى الإجماع على جواز إزالته، وتوقف في الفدية، من أصالة البراءة، ومشابهته للصيد الصائل، ومن الرواية الصحيحة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حين سأله معاوية بن عمّار عن المُحرم تطول أظفاره إلى أن ينكسر بعضها فيؤذيه: «فليقصّها وليطعم مكان كلّ ظفر مدّاً (1) من طعام» (2)(3).
والعمل بالرواية متعيّن، وهي رافعة لأصالة البراءة، والقياس على الصيد.
هذا كله إذا أزال المنكسر خاصةً، فلو أضاف إليه شيئاً من الباقى تبعاً أو استقلالاً ضمن قوله: «وقطع الشجر والحشيش، إلا أن ينبت في ملكه - إلى قوله - على رواية».
إنما يحرم قطع الأخضر منها دون اليابس وإن كان متّصلاً بالأخضر.
والإذخر بكسر الهمزة والخاء المعجمة - نبت معروف والمحالة بفتح الميم، نصّ عليه الجوهري(4)، وقيل : بكسرها(5) : البكرة العظيمة، وعوداها اللذان يُجعل عليهما ليستقى بها.
والرواية المذكورة رواها الشيخ بإسناده إلى زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أنه قال: «رخّص رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قطع عودي المحالة - وهي البكرة التي يستقى بها - من شجر الحرم»(6).
ويجوز للمُحرم أن يترك إبله ليرعى الحشيش وإن حرم عليه قطعه.
قوله: «وتغسيل المُحرِم لو مات بالكافور».
ص: 173
• ولبس السلاح لغير الضرورة، وقيل: يكره، وهو أشبه.
والمكروهات عشرة: الإحرام في الثياب المصبوغة بالسواد أو العصفر وشبهه، ويتأكد في السواد، والنوم عليها،• وفي الثياب الوسخة وإن كانت طاهرةً،• ولُبْس الثياب المُعْلَمة،• واستعمال الحنّاء للزينة، وكذا للمرأة ولو قبل الإحرام إذا قارنته،
-------------------------------------------------------------------
أى لا يجوز ذلك ؛ لأنّ الكافور طيب، وكذا لا يجوز تحنيطه به، بل يغسل مرّةً بالسدر
ومرتين بالقراح إحداهما في موضع ماء الكافور.
وهل يجب بمسّه حينئذٍ غسل ؟ يحتمله ؛ لنقصه كما لو فقد الكافور. والأقوى العدم ؛ لأنّ هذا غسل اختياري تام بالنسبة إلى المُحرم. قوله « ولبس السلاح لغير الضرورة، وقيل: يكره، وهو الأشبه».
المشهور تحريم لبسه، والقول بالكراهة نادر، لكن دليل التحريم غير واضحٍ.
قوله: «وفي الثياب الوسخة».
إذا كان الوسخ،ابتداءً، أما لو عرض في أثناء الإحرام فيها لم يغسل ما دامت طاهرة.
قوله: «ولبس الثياب المُعْلَمة».
الثوب المعلم المشتمل على علم، وهو لون يخالف لونه ليعرف به، يقال: أعلم القصّار الثوب فهو معلم بالبناء للفاعل، والثوب معلم بسكون العين وفتح اللام.
ولا فرق في ذلك بين كونه معمولاً بعد علمه وقبله، كالثوب المحوك من لونين.
قوله: «واستعمال الحِنّاء للزينة، وكذا للمرأة ولو قبل الإحرام إذا قارنته».
كراهة الحنّاء للزينة هو المشهور بين الأصحاب، وصحيحة عبد اللّه بن سنان(1) تدلّ عليه.
وذهب جماعة (2) إلى التحريم؛ لأنه زينة، وحملوا الرواية على غير الزينة، وهو أولى. ولو اتّخذه للسُنّة فلا تحريم ولا كراهة والفارق القصد.
ص: 174
• والنقاب للمرأة على تردّد، ودخول الحمام. وتدليك الجسد فيه، • وتلبية من يناديه. واستعمال الرياحين.
-------------------------------------------------------------------
ولا فرق في ذلك كله بين الرجل والمرأة، ولا بين الواقع بعد نيّة الإحرام وبين السابق عليه إذا كان يبقى بعده، وهو الذي عبّر عنه المصنّف بالمقارنة، والمراد أنّه يبقى معه آناً>.
وأنّث ضمير «قارنته» باعتبار إعادته إلى الزينة التي هي علّة الحِنّاء، ولو ذكره كان أولى.
قوله: «والنقاب للمرأة على تردّد».
منشؤه أصالة الجواز ومنافاته لكشف الوجه والأقوى التحريم.
قوله: «وتدليك الجسد فيه».
وكذا في غيره ولو في الطهارة.
قوله: «وتلبية من يناديه».
بأن يقول له : لبّيك ؛ لأنه في مقام التلبية لله فلا يشرك غيره فيها. قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ليس للمُحْرم أن يُلَبّي مَنْ دعاه حتى ينقضي إحرامه»، قلت: وكيف يقول ؟ قال : «يقول : يا سعد» (1).
قوله: «واستعمال الرياحين».
القول بتحريمها أقوى، عدا الشيح والخُزامى والإذخر والقيصوم؛ جمعاً بين صحيحي حريز (2) ومعاوية بن عمّار(3).
والمصنّف (رحمه اللّه) وجماعة (4)؛ جمعوا بينهما بحمل النهي في الأُولى على الكراهة، وهذا لا يتمّ إلا مع التنافي، وهو منفيٌّ.
ص: 175
خاتمة:
• كلّ من دخل مكّة وجب أن يكون مُحْرماً، إلا أن يكون دخوله بعد إحرامٍ قبل مضي شهر، أو يتكرر كالحطاب والحشاش، • وقيل: من دخلها لقتال جاز أن يدخل محلّاً، كما دخل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عام الفتح وعليه المِغْفَر.
• وإحرام المرأة كإحرام الرجل إلا فيما استثنيناه، ولو حضرت الميقات جاز لها أن تُحرم ولو كانت حائضاً، لكن لا تصلي صلاة الإحرام، ولو تركت الإحرام ظناً أنه لا يجوز رجعت إلى الميقات وأنشأت الإحرام، ولو منعها مانع أحرمت من موضعها، ولو دخلت مكّة خرجت إلى أدنى الحِلّ، ولو منعها مانع أحرمت من مكّة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «كلّ من دخل مكّة وجب أن يكون مُحْرماً».
استثني من ذلك العبد، فإنّ إحرامه موقوف على إذن سيده، ثم على تقدير وجوب الإحرام لو تركه أثم، ولا يجب قضاؤه.
قوله: «إلّا أن يكون دخوله بعد إحرام قبل مضي شهر».
المراد بالشهر الهلالي، كما هو المتعارف عند إطلاقه، ولو وقع الإحرام في أثناء الشهر اعتبر بالعدد وهل المعتبر كون الشهر من حين الإهلال أم من حين الإحلال؟ إشكال ومنشؤه إطلاق النصوص(1)، واحتمالها الأمرين معاً، واعتبار الثاني أقوى.
قوله: «وقيل: من دخلها لقتال جاز أن يدخل محلاً».
هذا القول هو المشهور، وأكثر الأصحاب لم يذكروا هنا خلافاً.
قوله: «وإحرام المرأة كإحرام الرجل إلا فيما استثنيناه».
استثني من ذلك جواز لبس المخيط، والحرير على أحد القولين وستر الرأس والقدم، والتظليل، ووجوب كشف الوجه، وسقوط استحباب رفع الصوت بالتلبية.
ص: 176
والنظر في مقدّمته، وكيفيّته، ولواحقه.
أمّا المقدّمة: • فيستحبّ للمتمتّع أن يخرج إلى عرفات يوم التروية بعد أن يصلّى الظهرين، إلا لمضطرّ كالشيخ الهم ومن يخشى الزحام، وأن يمضي إلى منى،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «الوقوف بعرفات».
الواجب في عرفات هو الكون بها كما سيأتي، وإنما عبر بالوقوف كغيره (1)- تبعاً للقرآن العزيز (2)، وإطلاقاً لأشرف أفراد الكون وأفضلها هناك، وهو الوقوف.
قوله: «فيستحبّ للمتمتّع أن يخرج إلى عرفات يوم التروية».
خصّ المتمتّع بالذكر؛ لأنّ استحباب إحرامه يوم التروية موضع وفاقي من المسلمين، وأما القارن والمفرد فليس فيه تصريح من الأكثر، وقد ذكر بعض الأصحاب أنّه كذلك (3)، وهو ظاهر إطلاق بعضهم (4).
وفي التذكرة نقل الحكم في المتمتّع عن الجميع، ثمَّ نقل خلاف العامة في وقت إحرام
ص: 177
• ويبيت بها ليلته إلى طلوع الفجر من يوم عرفة،
-------------------------------------------------------------------
الباقي هل هو كذلك أم في أوّل ذي الحجّة ؟(1)
وصحيحة معاوية بن عمّار (2) مشعرة بأنّ ذلك للمتمتّع، كما ذكره هنا.
ويوم التروية هو ثامن ذي الحجّة، وكما يستحبّ الخروج فيه يستحبّ إيقاع الإحرام فيه كذلك، ولعلّ إطلاقه الخروج كناية عنه، وذهب بعض الأصحاب إلى وجوب إيقاعه فيه(3).
وكونه بعد الظهرين مخصوص بغير الإمام، أما هو فيستحب تقديمه ليصلّي الظهرين بمنى، وبه يُجمع بين ما أطلق من الأخبار (4) في الجانبين، وباعتبار إطلاقها ذهب المفيد و المرتضى إلى صلاة الظهرين بمنى لمطلق الحاجّ(5)، وآخرون إلى خروج الجميع بعد الظهرين، والتفصيل طريق الجمع.
وأمّا المضطرّ - كالهم والمريض والمرأة وخائف الزحام - فإنّه يجوز له الخروج من مكّة قبل الظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة.
قوله: «ويبيت بها ليلته إلى طلوع الفجر من يوم عرفة».
أي يستحبّ المبيت بها ليلة التاسع ناوياً ذلك؛ لأنّه عبادة.
وربما تُوهّم من قول العلّامة في التذكرة «إنّه للاستراحة»(6) وفي القواعد «إنه للترفّه» (7)عدم كونه على حد المستحبّات الدينيّة.
ص: 178
• لكن لا يجوز وادي محسّر إلا بعد طلوع الشمس.
• ويكره الخروج قبل الفجر، إلا للضرورة، كالمريض والخائف.
والإمام يستحبّ له الإقامة بها إلى طلوع الشمس.
ويستحبّ الدعاء بالمرسوم عند الخروج، • وأن يغتسل للوقوف.
وأمّا الكيفيّة فتشتمل على واجب وندبٍ.
• فالواجب النيّة، والكون بها إلى الغروب،
-------------------------------------------------------------------
وهو فاسد؛ إذ لا منافاة بين الأمرين.
وكون المبيت على وجه الاستحباب هو المشهور. وقد ذهب بعض الأصحاب(1) إلى وجوب الكون بمنى إلى طلوع الشمس، وآخرون (2) إلى طلوع الفجر خاصةً.
قوله: «لكن لا يجوز وادي مُحسّر إلا بعد طلوع الشمس».
،استحباباً، فيكره قبله، وقيل: يحرم(3).
و محسر - بكسر السين المهملة - موضع من منى ذكره الجوهري(4).
قوله: «ويكره الخروج قبل الفجر».
أي يكره الخروج من منى قبله، وقيل: يحرم(5).
قوله: «وأن يغتسل للوقوف».
وقت الغسل بعد زوال الشمس، فعلى هذا تكون نيّة الوقوف قبله.
قوله: «فالواجب النيّة».
ص: 179
• فلو وقف بنمرة أو عُرَنة أو ثويّة أو ذي المجاز أو تحت الأراك لم يجزئه.
• ولو أفاض قبل الغروب جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه،. وإن كان عامداً جَبَره ببدنةٍ،
-------------------------------------------------------------------
ويجب كونها بعد الزوال في أوّل أوقات تحققه؛ ليقع الوقوف الواجب - وهو ما بين الزوال والغروب - بأسره بعد النيّة، ولو تأخرت عن ذلك أثم وأجزاً.
ويعتبر فيها قصد الفعل و تعيين نوع الحجّ والوجه والقربة والاستدامة الحكميّة، هذا هو المشهور.
وفي اعتبار نيّة الوجه هنا بحث.
قوله: «فلو وقف بنمرة أو عُرَنة أو ثوية أو ذي المجاز أو تحت الأراك لم يجزئه».
هذه الأماكن الخمسة حدود عرفة، وهي راجعة إلى أربعة، كما هو المعروف من الحدود؛ لأنّ نمرة بطن عُرَنة، كما ورد في حديث معاوية بن عمّار عن الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
ولا يقدح في ذلك كون كلّ واحدة منهما حداً، فإنّ إحداهما ألصق من الأُخرى، وغيرُهما وإن شاركهما باعتبار اتّساعه في إمكان جَعْله كذلك لكن ليس لأجزائه أسماء خاصّة بخلاف عرنة.
ونَمِرَة بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء، وعُرَنة بضم العين المهملة وفتح الراء والنون وثوية بفتح الثاء المثلثة وكسر الواو وتشديد الياء المثناة من تحت المفتوحة، والأراك بفتح الهمزة.
قوله: «ولو أفاض قبل الغروب جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه».
إذا لم يعلم بالحكم قبل الغروب، فلو علم وجب عليه العود مع الإمكان، فإن أخلّ به فهو عاماً.
قوله: «وإن كان عامدا جَبَره ببدنةٍ».
ص: 180
• فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً. ولو عاد قبل الغروب لم يلزمه شيء.
وأما أحكامه، فمسائل: الأولى: • الوقوف بعرفات ركن
-------------------------------------------------------------------
لا ريب في وجوب البدنة بالإفاضة عمداً قبل الغروب إذا لم يَعُدْ، أما لو عاد إلى عرفة، فإن كان بعد المغرب فلا أثر له، وإن كان قبله ففي وجوب البدنة، أو استقرار الوجوب إن كان قد حصل قبل ذلك نظر، من صدق الإفاضة المحرَّمة قبله، ووجوب البدنة في رواية ضريس عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) معلق عليها(1)، فيحتاج رفعه إلى دليلٍ.
والأقوى عدم الوجوب هنا لصدق الإقامة إلى الغروب، كما لو تجاوز الميقات ثمَّ رجع فأحرم منه، ولأنه لو لم يقف أولاً ثم أتى قبل غروب الشمس ووقف حتى تغرب لم يجب عليه شيء، فكذا هنا و به جزم المصنّف هنا والعلّامة (2) وجماعة (3).
قوله: «فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً».
يجوز فعلها سفراً وحضراً، وهل يجب فيها المتابعة؟ قيل: نعم، واختاره في الدروس(4).
وعدم الوجوب متجه وإن كان الأوّل أولى.
قوله: «الوقوف بعرفات ركن».
الركن منه مسمّى الوقوف، ومن ثمَّ صح حجّ المفيض قبل الغروب عمداً، ومن أخلّ به أوّل الوقت وأمّا استيعاب الوقت - وهو ما بين الزوال والغروب - به فهو موصوف بالوجوب لا غير، فيأثم بتركه، ولا يختص الركن بجزء معين منه، بل الأمر الكلّي، وهذا معنى قولهم: إن الواجب فيه الكلّ، وفي الإجزاء الكلّي.
ص: 181
• من تركه عامداً فلا حجّ له، ومن تركه ناسياً تداركه ما دام وقته باقياً، ولو فاته الوقوف بها اجتزاً بالوقوف بالمشعر.
الثانية وقت الاختيار لعرفة من زوال الشمس إلى الغروب، من تركه عامداً فسد حجّه، • ووقت الاضطرار إلى طلوع الفجر من يوم النحر.
الثالثة: من نسى الوقوف بعرفة رجع، فوقف بها ولو إلى طلوع الفجر من يوم النحر • إذا عرف أنه يدرك المشعر قبل طلوع الشمس، فلو غلب على ظنّه الفوات اقتصر على إدراك المشعر قبل طلوع الشمس، وقد تمَّ حجّه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فمن تركه عامدا فلا حجّ له».
هذا هو حكم ترك الركن في الحجّ، فمن ثُمَّ أتى بالفاء(1). ويستثنى من ذلك الوقوفان، فإنّ الإخلال بهما معاً مبطل وإن لم يكن عمداً. والظاهر أن الجاهل في ذلك كالعامد، بل هو في الحقيقة عامد.
قوله: «ووقت الاضطرار إلى طلوع الفجر من يوم النحر».
الواجب من هذا الوقوف الأمر الكلي، وهو مسمّى الكون بها فيه، ولا يجب الاستيعاب إجماعاً، ولاستلزامه فوات وقت الوقوف بالمشعر اختياراً غالباً. وهذه الليلة أيضاً وقت اضطراري للوقوف بالمشعر، بل فيه شائبة من الوقوف الاختياري؛ لجواز الإفاضة قبل الفجر للمرأة والراعي ونحوهما.
قوله: «إذا عرف أنه يدرك المشعر قبل طلوع الشمس».
المراد بالمعرفة هنا الظنّ الغالب المستند إلى قرائن الأحوال، كما يدلّ عليه قوله: «ولو غلب على ظنّه الفوات اقتصر على إدراك المشعر».
ولو تردّد في إدراك المشعر احتمل تقديم الوجوب الحاضر، فيرجع إلى عرفة، وتقديم المشعر ؛ لأنّه اختياري، وفي تركه تعرّض لفوات الاختياريين الموجب هنا لفوات الحجّ، ولعله أقوى.
ص: 182
• وكذا لو نسي الوقوف بعرفات ولم يذكر إلا بعد الوقوف بالمشعر قبل طلوع الشمس.
الرابعة: • إذا وقف بعرفات قبل الغروب، ولم يتفق له إدراك المشعر إلى قبل الزوال صحّ حجّه.
الخامسة : • إذا لم يتفق له الوقوف بعرفات نهاراً فوقف ليلاً، ثم لم يدرك المشعر حتّى تطلع الشمس فقد فاته الحجّ. وقيل: يدركه ولو قبل الزوال، وهو حسن
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وكذا لو نسي الوقوف بعرفات ولم يذكر إلا بعد الوقوف بالمشعر قبل طلوع الشمس».
المشبه به في السابق، المشار إليه ب«ذا» هو تمام الحجّ، أي وكذا يتم الحجّ لو نسي الوقوف بعرفات وأدرك اختياري المشعر، وإنّما فرض فوات عرفات في النسيان؛ لأنه لو فات عمداً ولو بالتقصير بطل الحجّ، وقيد إدراك المشعر بقبلية طلوع الشمس؛ ليتحقّق إدراك اختياريه. أمّا لو أدرك الاضطراري خاصةً فالمشهور فيه عدم الإجزاء وسيأتي الكلام فيه.
قوله: «إذا وقف بعرفات قبل الغروب ولم يتفق له إدراك المشعر إلى قبل الزوال صحّ حجّه».
لا إشكال في الصحة حينئذٍ ؛ لإدراك اختياري عرفة، بل لو فُرض عدم إدراكه المشعر أصلاً صحّ أيضاً، فإنّ اختياري أحدهما كافٍ.
قوله: «إذا لم يتفق له الوقوف بعرفات نهاراً فوقف ليلاً - إلى قوله - وهو حسن».
هذا حكم من أدرك الوقوفين اضطراراً، وأصح القولين فيه الصحّة.
وقد رواه بخصوصه الحسن العطار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «إذا أدرك الحجّ في عرفات قبل طلوع الفجر، فأقبل من عرفات، ولم يدرك الناس بجمع ووجدهم قد أفاضوا، فليقف قليلاً بالمشعر ليلحق الناس بمنى ولا شيء عليه»(1).
ص: 183
-------------------------------------------------------------------
ويدلّ عليه أيضاً صحيحة عبد اللّه بن مسكان (1) عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إذا أدرك مزدلفة فوقف بها قبل أن تزول الشمس فقد أدرك الحجّ»(2).
ومثله حسنة جميل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
وهُما - كما ترى - دالان على الاجتزاء باضطراري المشعر وحده في صحة الحجّ، وهو خيرة ابن الجنيد(4) من المتقدّمين، والشهيد (5) من المتأخّرين، وهو قويّ.
ولا عبرة بادعاء صاحب التنقيح الإجماع على خلافه (6) مع تحقق الخلاف والدليل المتين، وإذا اجتزأنا باضطراري المشعر بعد طلوع الشمس نجتزئ به ليلاً بطريق أولى؛ لأنه مشوب بالاختياري.
وقد تأوّل العلّامة(7) وجماعة (8) الخبرين بحملهما على من أدرك اضطراري العرفة أيضاً. مضافاً إلى اضطراري المشعر؛ جمعاً بينهما وبين خبر العطّار، مع أنّه لا منافاة بينهما حتى يجب التأويل.
واعلم أنّه قد استفيد من تضاعيف هذه المسائل أن أقسام الوقوفين بالنسبة إلى الاختياري والاضطراري ثمانية: أربعة مفردة، وهي كل واحد من الاختياريين والاضطراريين وأربعة مركّبة وهى الاختياريّان والاضطراريّان، واختياري عرفة مع اضطراري المشعر وبالعكس، والصور كلّها مجزئة، إلا اضطراري عرفة وحده. وفي
ص: 184
والمندوبات • الوقوف في ميسرة الجبل فى السفح والدعاء المتلقّى عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أو غيره من الأدعية، • وأن يدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، • وأن يضرب خباءه بنمرة،
-------------------------------------------------------------------
الاضطراريّين، واضطراري المشعر وحده ما مرّ من الخلاف والباقية مجزئة بغير خلاف.
قوله: «الوقوف في ميسرة الجبل في السفح».
المراد ميسرته بالإضافة إلى القادم إليه من مكة؛ لأنّ هذا الحكم متعلّق بالمكلّف في تلك الحالة، وخلاف ذلك غير الظاهر.
وسفح الجبل أسفله، حيث ينسفح فيه الماء وهو مضجعه، قاله الجوهري(1).
قوله: «وأن يدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين».
فإنّه يوم دعاء ومسألة ومحل إجابة. وإنّما يجمع فيه بين الصلاتين ليتفرّغ للدعاء.
روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، قال: رأيت عبد اللّه بن جندب بالموقف، فلم أر موقفاً كان أحسن من موقفه، ما زال ماداً يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض، فلما انصرف الناس قلت يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك، قال: واللّه ما دعوتُ إلّا لإخواني، وذلك أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أخبرني أنّه من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش ولك مائة ألف ضعف مثله فكرهتُ أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يستجاب أم لا (2).
ومثله روي عن جماعة من أصحاب الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)(3).
قوله: «وأن يضرب خِباءه نَمِرة».
ص: 185
• وأن يقف على السهل، • وأن يجمع رحله، • ويسد الخلل به وبنفسه،
-------------------------------------------------------------------
الخِباء - بكسر أوّله والمد - الخيمة ونحوها. وقد تقدّم أنّ نمرة من حدود عرفة، خارجة عنها، فيضربه بها قبل الزوال، ثم ينتقل عنده إلى عرفة تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(1).
وفي الدروس: لا يدخل عرفات إلى الزوال (2)، وفي الرواية إشارة إليه، قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا ينبغي الوقوف تحت الأراك، فأما النزول تحته حتّى تزول الشمس وينهض إلى الموقف فلا بأس»(3).
ويشكل بفوات جزء من الوقوف الواجب عند الزوال. والذي ينبغي أن لا تزول الشمس عليه إلّا بها.
قوله: «وأن يقف على السهل».
لعلّ المراد بالسهل هنا ما يقابل الجبل، فيكون هو الوقوف في السفح، إلّا أنه تكرار.
ويمكن أن يريد به ما يقابل الأرض الخربة، وهذا المعنى وإن كان لا دليل عليه ولم يذكره أيضاً جماعة لكن لاستحبابه وجه ؛ إذ يستحبّ الاجتماع في الموقف، والتضامّ، وجمع الرحل والراحلة، كما سيأتي، وغير السهل لا يؤدي ذلك إلا بتكلف وضرر ينافي المقصود.
قوله: «وأن يجمع رحله».
أي يضمّ أمتعته بعضها إلى بعض؛ ليأمن عليها الذهاب، ويتوجه بقلبه إلى الدعاء.
قوله: «ویسد الخلل به وبنفسه».
أي برحله والمراد - على ما يقتضيه ظاهر الخبر - أن لا يدع بينه وبين أصحابه فرجةً ولا بين متاعه، لتستتر الأرض التي يقفون فيها.
ص: 186
• وأن يدعو قائماً.
• ويكره الوقوف في أعلى الجبل، وراكباً وقاعداً.
-------------------------------------------------------------------
قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا رأيت خللاً فتقدّم وسدّه بنفسك وراحلتك، فإنّ اللّه يحبّ أن تسدّ تلك الخلال»(1).
واستدل فى التذكرة والمنتهى عليه بقوله تعالى: «كَأَنَّهُم بُنْيَنٌ مَّرْصُوصٌ»(2)، فوصفهم بالاجتماع(3)، فعلى هذا متعلّق الجارّ هو قوله: «يسدّ».
وربما علّق بمحذوف صفة للخلل، أي يسدّ الخلل الكائن بنفسه وبرحله، بأن يأكل إن كان جائعاً، ويشرب إن كان عطشاناً، وهكذا يصنع بعيره، ويزيل الشواغل المانعة عن الإقبال على اللّه تعالى. وهو حسن في نفسه، إلا أنّ ظاهر النقل في سدّ الخلل يدفعه.
قوله: «وأن يدعو قائماً».
أى قائماً على الأرض، فهو أفضل أفراد الكون، وباعتباره أطلق الوقوف.
وينبغي أن يكون ذلك حيث لا ينافي الخشوع لشدّة التعب ونحوه، وإلا سقطت وظيفة القيام حينئذٍ.
قوله: «ويكره الوقوف في أعلى الجبل، وراكباً وقاعداً».
هذا هو المشهور. وقيل: يحرم كل ذلك مع عدم الضرورة، كالزحام، وإلا فلا حرج(4).
ويستحب مع الوقوف في أسفل الجبل الدنو منه ما أمكن.
ص: 187
والنظر في مقدّمته، وكيفيّته.
أما المقدّمة • فيستحب الاقتصاد في سيره إلى المشعر، • وأن يقول إذا بلغ الكثيب الأحمر عن يمين الطريق: اللّهم ارحم موقفي، وزِدْ في عملي، وسلّم لي ديني، وتقبل مناسكي.
• وأن يؤخّر المغرب والعشاء إلى المزدلفة،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فيستحب الاقتصاد في سيره».
هو افتعال من القصد، وهو التوسط في السير والاعتدال فيه، والمراد السير متوسطاً بين السرعة والبطء، وهو المعبّر عنه بالسكينة.
قوله: «وأن يقول إذا بلغ الكثيب الأحمر».
الكثيب فعيل بمعنى مفعول، تقول: كثبت الشيء جمعته، وانكتب الرمل، أي اجتمع، فهو كثيب، أي مكتوب ومجتمع في مكانٍ واحد، والجمع كثبان، وهي تلال الرَمل. والكثيب الأحمر على يمين الطريق للمفيض من عرفة إلى المشعر.
قوله: «وأن يؤخّر المغرب والعشاء إلى المزدلفة».
المُزدَلِفة - بضم الميم وسكون الزاي المعجمة وفتح الدالّ وكسر اللام - اسم فاعل من الازدلاف، وهو التقدم، تقول: تزلّف القوم وازدلفوا، أي تقدّموا.
روى الصدوق في العلل بإسناده إلى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّما سُمّيت مزدلفة؛ لأنّهم از دلفوا إليها من عرفات»(1).
ص: 188
• ولو صار إلى ربع الليل، وإن منعه مانع صلّى في الطريق.
• وأن يجمع بين المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين من غير نوافل بينهما، ويؤخر نوافل المغرب إلى ما بعد العشاء.
-------------------------------------------------------------------
وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) انتهى (1) إلى الموقف، وأقام به حتى غربت الشمس، ثمّ أفاض به، فقال يا إبراهيم از دلف إلى المشعر الحرام، فسمّيت مزدلفة»(2).
ويُسمّى أيضاً جَمْعاً بفتح الجيم وسكون الميم؛ لأنّ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع فيها بين الصلاتين المغرب والعشاء، روي ذلك أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
قوله: «ولو صار إلى ربع الليل».
بل ولو صار إلى ثلثه روى ذلك محمّد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)(4).
وينبغي أن يصلّي قبل حط الرحال؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(5).
قوله: «وأن يجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين» إلى آخره.
والأذان الثاني هنا بدعة على أجود القولين، سواء جمع بين الصلاتين أم فرّق.
وأمّا نوافل المغرب فالأفضل تأخيرها عن العشاء كما ذكر، لكن لو قدمها عليها، إمّا مع تفريق الصلاتين أم لا، جاز، وإن كان أدون فضلاً.
ثمَّ على تقدير تأخيرها يصلّيها أداءً مع بقاء وقتها، وقضاء لا معه، لكنّ الأغلب عدم الوصول إلى المشعر إلا بعد العشاء، فلا يتحقّق الأداء حينئذٍ على المختار من أنّ وقت نافلة المغرب يمتدّ إلى ذهاب الحمرة.
ص: 189
وأما الكيفيّة • فالواجب النيّة. والوقوف بالمشعر، • وحدّه ما بين المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر، ولا يقف بغير المشعر.
• ويجوز مع الزحام الارتفاع إلى الجبل.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فالواجب النيّة».
ويجب اشتمالها على نيّة الوجه والتقرّب، وكون الوقوف لحج الإسلام أو غيره، ونوع الحجّ، كما مرّ في الوقوف بعرفة.
قوله: «والوقوف بالمشعر».
هذا كالمستغنى عنه، فإنّه في قوّة يجب في الوقوف بالمشعر الوقوف بالمشعر» وهو لغو. والموجب لذكره كذلك التنبيه على حدود المشعر.
قوله: «وحدّه ما بين المأزمين».
المأزم - بالهمزة الساكنة، ثمَّ كسر الزاي المعجمة كلّ طريق ضيق بين جبلين. ومنه سُمّي الموضع الذي بين جمع وعرفة مأزمين قاله الجوهري(1).
قوله: «ويجوز مع الزحام الارتفاع إلى الجبل».
ظاهره أنّ الصعود مع عدم الضرورة محرم، وبذلك عبّر جماعة (2).
والأُولى الجواز اختياراً، وهو اختيار الشهيد (3) وجماعة(4).
ويمكن حمل الجواز في العبارة على عدم الكراهة أي أنّ الصعود مع الضرورة غير مكروه ولا معها يكره.
وقيل: يحرم(5).
ص: 190
• ولو نوى الوقوف ثمَّ نام أو جنَّ أو أغمي عليه صح وقوفه، وقيل : لا، والأوّل أشبه.
• وأن يكون الوقوف بعد طلوع الفجر،
-------------------------------------------------------------------
قال في الدروس والظاهر أنّ ما أقبل من الجبال من المشعر دون ما أدبر (1).
قوله: «ولو نوى الوقوف ثمَّ نام أو جُنَّ أو أغمي عليه صح وقوفه، وقيل: لا، والأوّل أشبه».
الصحّة أقوى؛ فإنّ الركن من الوقوف مسمّاه، وهو يحصل بآن يسير بعد النيّة، واستيعاب الوقت لا دَخْل له في الركنية، فيتم بدونه.
قوله: «وأن يكون الوقوف بعد طلوع الفجر».
أي الوقوف الواجب، فيجب كون النيّة عند تحقّق الطلوع، وظاهر العبارة أن الوقوف ليلاً غير واجب و به صرّح في التذكرة (2).
والأقوى وجوب المبيت ليلاً، والنيّة له عند الوصول، والمراد به الكون بالمشعر ليلاً.
ثمَّ إن لم نقل بوجوبه فلا إشكال في وجوب النيّة للكون عند الفجر، وإن أوجبنا المبيت فقدم النيّة عنده ففي وجوب تجديدها عند الفجر نظر، ويظهر من الدروس عدم الوجوب(3).
وينبغي أن يكون موضع النزاع ما لو كانت النيّة للكون به مطلقاً، أمّا لو نواه ليلاً أو نوى المبيت كما هو الشائع في كتب النيّات المعدة لذلك - بعد الاجتزاء بها عن نيّة الوقوف نهاراً؛ لأنّ الكون ليلاً والمبيت مطلقاً لا يتضمنان النهار، فلا بد له من نيّة أخرى.
والظاهر أن نيّة الكون به عند الوصول كافية عن النيّة نهاراً؛ لأنه فعل واحد إلى طلوع الشمس، كالوقوف بعرفة، وليس في النصوص ما يدلّ على خلاف ذلك.
ص: 191
• فلو أفاض قبله عامداً بعد أن كان به ليلاً - ولو قليلاً - لم يبطل حجّه إذا كان وقف بعرفات، وجبره بشاة.
• ويجوز الإفاضة قبل الفجر للمرأة، ومن يخاف على نفسه من غير جبران.
• ولو أفاض ناسياً لم يكن عليه شيء.
• ويستحبّ الوقوف بعد أن يصلي الفجر، وأن يدعو بالدعاء المرسوم، أو ما يتضمن الحمد لله، والثناء عليه، والصلاة على النبيّ وآله (عَلَيهِم السَّلَامُ).
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فلو أفاض قبله عامداً بعد أن كان به ليلاً - ولو قليلاً - لم يبطل حجه».
وإطلاق المصنّف الاجتزاء بذلك مع جعله الوقوف الواجب بعد طلوع الفجر لا يخلو من تكلّف، بل يستفاد من إجزائه كذلك كونه واجباً؛ لأن المستحب لا يجزئ عن الواجب.
ويستفاد من قوله «إذا كان وقف بعرفات أن الوقوف بالمشعر ليلاً ليس اختيارياً محضاً، وإلّا لأجزأ وإن لم يقف بعرفة إذا لم يكن عمداً.
وعلى ما اخترناه من إجزاء اضطراري المشعر وحده يجزئ هنا بطريق أولى؛ لأن الوقوف الليلي للمشعر فيه شائبة الاختياري للاكتفاء به للمرأة اختياراً وللمضطرّ وللمتعمد مطلقاً مع جبره بشاة، والاضطراري المحض ليس كذلك.
قوله: «وتجوز الإفاضة قبل الفجر للمرأة ومن يخاف على نفسه من غير جبران».
الضابط الجواز لكلّ مضطرّ إليه، كالراعي، والخائف، والمريض، والمرأة، والصبي مطلقاً، ومن المضطرّ رفيق المرأة، الذي لا يمكن مفارقته.
وهذا كله مع النيّة ليلاً، كما مرّ.
قوله: «ولو أفاض ناسياً لم يكن عليه شيء».
وهل الجاهل يلحق بالعامد أم بالناسي ؟ خلاف، وكونه كالعامد متّجه.
قوله: «ويستحبّ الوقوف بعد أن يصلي الفجر». الأُولى أن يراد بهذا الوقوف القيام للدعاء والذكر، كما تقدم في عرفة، وأمّا الوقوف
ص: 192
• وأن يطأ الضرورة المشعر برجله، وقيل : يستحب الصعود على قُزح وذكر اللّه عليه.
الأُولى : وقت الوقوف بالمشعر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وللمضطر إلى زوال الشمس.
-------------------------------------------------------------------
المتعارف - بمعنى الكون - فهو واجب من أول الفجر، ولا يجوز تأخير نيته إلى أن يصلّي.
قوله: «وأن يطأ الصرورة المشعر برجله، وقيل: يستحبّ الصعود على قزح وذكر اللّه عليه».
قد تقدّم أنّ المراد بالصرورة من لم يحج، والمراد بوطئه برجله أن يعلو عليه بنفسه، فإن لم يكن فببعيره. والظاهر أنّ الوطء بالرِجل يتحقّق مع النعل والحفاء؛ إذ الاكتفاء بوطء البعير ينبّه عليه.
وقُزح بضم القاف وفتح الزاي المعجمة والحاء المهملة.
قال الشيخ (رحمه اللّه): هو المشعر الحرام، وهو جبل هناك يستحبّ الصعود عليه وذكر اللّه عنده(1).
وفي حديث أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقف عليه، وقال: «هذا قُزَح، وهو الموقف، وجمع كلّها موقف»(2).
فعلى هذا يكون جمعاً أعم من المشعر، وظاهر العبارة يدلّ عليه.
وفي الدروس: الظاهر أنّه - وعنى به المشعر - المسجد الموجود الآن(3).
ص: 193
الثانية: من لم يقف بالمشعر ليلاً ولا بعد الفجر عامداً بطل حجّه، • ولو ترك ذلك ناسياً لم يبطل إن كان وقف بعرفة، ولو تركهما جميعاً بطل حجه، عمداً أو نسياناً.
الثالثة: من لم يقف بعرفات وأدرك المشعر قبل طلوع الشمس صحّ حجّه، ولو فاته بطل و لو وقف بعرفات جاز له تدارك المشعر إلى قبل الزوال.
الرابعة: • من فاته الحجّ تحلّل بعمرةٍ مفردةٍ،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو ترك ذلك ناسياً لم يبطل إن كان وقف بعرفة».
مقتضى ذلك القطع بإدراك الحجّ باختياري عرفة وحده، كما يُجتزاً باختياري المشعر وحده من غير العامد وهذا هو المعروف في المذهب.
ولكنّ العلّامة استشكل الأوّل في كثير من كتبه، مع حكمه بالاجتزاء باختياري المشعر(1).
ولعلّ استشكاله من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إذا فاتتك المزدلفة فاتك الحجّ»(2)، وقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «الوقوف بالمشعر فريضة وبعرفة سُنّة» (3) وبما تقدّم من الأخبار الصحيحة الدالّة على الاجتزاء بالمشعر
والأصحّ المشهور، ولا يتحقّق فى ذلك قول آخر.
قوله: «من فاته الحجّ تحلّل بعمرة مفردة».
المراد أنه ينقل إحرامه بالنيّة من الحجّ إلى العمرة المفردة، ثم يأتي بأفعالها.
ويحتمل انتقاله إليها بمجرّد الفوات.
ومثله القول في المنتقل من التمتّع إلى قسيميه عند ضيق الوقت كالحائض.
ص: 194
• ثم يقضيه - إن كان واجباً - على الصفة التي وجبت تمتّعاً أو قراناً أو إفراداً.
الخامسة: من فاته الحجّ سقطت عنه أفعاله، ويستحب له الإقامة بمنى إلى انقضاء أيّام التشريق، ثم يأتي بأفعال العمرة التي يتحلّل بها.
خاتمة:
إذا ورد المشعر استحب له التقاط الحصى منه، • وهو سبعون حصاةً.
ولو أخذه من غيره جاز، • لكن من الحرم عدا المساجد، وقيل: عدا المسجد الحرام ومسجد الخيف.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ثم يقضيه - إن كان واجباً - على الصفة التي وجبت تمتّعاً أو قراناً أو إفراداً».
إنّما يجب قضاؤه إذا كان وجوبه مستقراً قبل عامه، أو مع تفريطه فيه، فلو حجّ عام الوجوب ففاته الحجّ بغير تفريط لم يجب القضاء؛ لعدم استقراره.
قوله: «وهو سبعون حصاةً».
ضمير «هو» المذكّر يعود إلى الملقوط المدلول عليه بالالتقاط، ولو أنثه لكان أفصح.
والسبعون حصاة هي الواجب، ولو التقط أزيد منها احتياطاً؛ حذراً من سقوط بعضها أو عدم إصابته فلا بأس.
قوله: «لكن من الحرم عدا المساجد، وقيل: عدا المسجد الحرام ومسجد الخيف».
الأصحّ تحريم أخذها من جميع المساجد؛ لتساويها في تحريم إخراج الحصى منها.
والقول باختصاصه بالمسجدين مستند إلى رواية حنّان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
ولعلّ تخصيصهما لأنهما الفرد المعروف الكامل من المساجد في الحرم، لا لبيان الانحصار، مع أنّ تخصيصهما لا ينفي الحكم عمّا عداهما.
ص: 195
ويجب فيه شروط ثلاثة : • أن يكون مما يسمّى حجراً،• ومن الحرم، • وأبكاراً.
• ويستحبّ أن يكون برشاً رخوةً بقدر الأنملة، كُحليّةً منقطةٌ ملتقطةً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «أن يكون ممّا يُسمّى حجراً».
احترز باشتراط تسميتها حجراً عن نحو الجواهر، والكحل، والزرنيخ، والعقيق، فإنّها لا تجزئ، خلافاً للخلاف(1).
ويدخل فيه الحجر الكبير الذي لا يُسمّى حصاةً عرفاً. وممن اختار الرمي به الشهيد في الدروس(2).
ويشكل بأنّ الأوامر الواردة إنّما دلّت على الحصاة(3)، ولعل المصنّف أراد بيان جنس الحصاة، لا الاجتزاء بمطلق الجنس.
ومثله القول في الصغيرة جداً، بحيث لا يقع عليها اسم الحصاة، فإنّها لا تجزئ أيضاً وإن كانت من جنس الحجر.
قوله: «وأبكاراً»(4).
أي لم يُرم بها قبل ذلك رمياً صحيحاً، فلو رُمي بها بغير نيّة أو لم تصب الجمرة ونحو ذلك جاز الرمي بها ثانياً، ولم يخرج عن كونها بكراً.
قوله: «ومن الحرم».
ذكره ثانياً بعد أن استفيد حكمه من قوله لكن من الحرم»؛ للتنبيه على الشرطيّة بخصوصها؛ إذ الأوّل أعم منها، ففي الثاني تأكيد في الوجوب لا يستفاد من الأوّل.
قوله: «ويستحب أن يكون برشاً رخوة بقدر الأنملة، كحليّة منقّطة ملتقطةً».
ص: 196
• ويكره أن تكون صلبةً، أو مكسّرةً.
ويستحبّ لمن عدا الإمام الإفاضة قبل طلوع الشمس بقليل، • ولكن لا يجوز وادي محسّر إلا بعد طلوعها، والإمام يتأخر حتى تطلع،
-------------------------------------------------------------------
قال الجوهري : البَرَش في الفرس نكت صغار تخالف سائر لونها(1)، فعلى هذا يكون المراد ب-«البَرَش» في الحصى اختلاف ألوانها. والفرق بين البرش والمنقطة، مع اشتراكهما في اختلاف الألوان أن الاختلاف في الأوّل في جملة الحصاة، والثاني في الحصاة نفسها، ويجوز العكس. وروى هشام بن الحكم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حصى الجمار، قال: «كره الصُمّ منها - وقال : - خذ البرش» (2)، وأراد بالصم اللون الواحد.
وربما أشكل ذلك بقوله بعده «كحليّة» أي لا تكون بيضاً ولا سوداً ولا حمراً، كما ورد في حديث البزنطي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3)، فاختلاف الألوان مع كونها كحلية بعيد، إلا أن يمكن اختلاف لون الكحليّة.
والمراد بقوله «ملتقطةً» أن يكون كلّ واحدة منها مأخوذةً على حِدتها من الأرض.
واحترز بها عن المكسّرة بأن يأخذ حجراً واحداً ويكسره حصى؛ لرواية أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «التقط الحصى ولا تكسرنّ منه شيئاً»(4).
قوله: «ويكره أن تكون صلبة أو مكسّرة».
الصلبة مقابلة للرخوة، والمكسّرة للملتقطة.
قوله: «ولكن لا يجوز وادي محسّر إلّا بعد طلوعها».
أي لا يقطعه ولا بعضه إلى طلوعها؛ لأنّ وادي محسّر ليس من المشعر، فلا يجوز دخوله قبل طلوع الشمس، بناءً على وجوب استيعاب الوقت الذي بين طلوع الفجر والشمس بالكون في المشعر، فإنّه أصح القولين، ولو جاوزه قبل الطلوع أثم ولا كفّارة.
ص: 197
• والسعي بوادي محسّر، وهو أن يقول: اللّهم سلّم عهدي، واقبل توبتي، وأجب دعوتي، واخلفني فيمن تركت بعدي.
• ولو ترك السعي فيه رجع فسعى استحباباً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «والسعي بوادي محسّر».
أي الهرولة للماشي، والراكب بتحريك دابته. وروي أن قدرها مائة ذراع(1)، وروي مائة خطوة(2).
قوله: «ولو ترك السعي فيه رجع فسعى استحباباً».
إطلاق الرجوع للناسي يتناول من وصل إلى منى، بل إلى مكة، وهو كذلك، فقد أمر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجلاً لم يسع بوادي محسّر بعد انصرافه إلى مكّة أن يرجع إليه فيسعى(3).
ص: 198
فإذا هبط بمنى استحبّ له الدعاء بالمرسوم.
ومناسكه بها يوم النحر ثلاثة رمى جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق.
أمّا الأوّل. فالواجب فيه النيّة، والعدد، وهو سبع، وإلقاؤها بما يُسمّى رمياً،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «مِنی».
هو - بكسر الميم والقصر - اسم منصرف مذكر، قاله الجوهري(1).
سُمّي المكان المخصوص بذلك؛ لأن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال هناك لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «تمنّ على ربّك ما شئت»، رواه معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
ومثله عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وزاد: «فتمنى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نفسه أن يجعل اللّه مكان ابنه إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) كبشاً يأمره بذبحه فداء له، فأعطى مناه»(3).
قوله: «والواجب فيه النيّة».
يعتبر اشتمالها على تعيين الفعل، ووجهه، وكونه في حجّ الإسلام أو غيره، والقربة، والمقارنة لأوّل الرمي، والاستدامة حكماً.
ص: 199
وإصابة الجمرة بها بفعله فلو وقعت على شيء وانحدرت على الجمرة جاز، ولو قصرت فتمّمها حركة غيره من حيوان أو إنسان لم يجز. وكذا لو شكّ فلم يعلم وصلت الجمرة أم لا، ولو طرحها على الجمرة من غير رمى لم يجز.
والمستحب فيه ستة : • الطهارة، والدعاء عند إرادة الرمي، وأن يكون بينه وبين الجمرة عشرة أذرع إلى خمسة عشر ذراعاً، • وأن يرميها خذفاً، والدعاء مع كلّ حصاة، وأن يكون ماشيا، ولو رمى راكبا جاز.
-------------------------------------------------------------------
والأُولى التعرّض للأداء، فإنّه ممّا يقع على وجهي الأداء والقضاء، وعلى هذا لو تداركه بعد فواته نوى القضاء.
وهل يجب التعرّض للعدد؟ يحتمله؛ لأنّ الرمي في الجملة يقع بأعداد مختلفة كما في ناسي الإكمال ووجه العدم أنّه لا يقع على وجهين إلا إذا اجتمعا ولا ريب أنه أولى كالأداء.
قوله: «الطهارة».
القول باستحباب الطهارة هو المشهور بين المتأخّرين. وذهب جماعة من المتقدّمين (1) منهم المفيد والمرتضى (2) إلى وجوبها؛ لصحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا ترم الجمار إلّا وأنت على طهر»(3).
وحُملت على الأفضلية؛ جمعاً بينها وبين رواية أبي غسان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بجوازه على غير طهرٍ(4).
وعندي في ذلك نظر؛ لأن في سند هذه الرواية مجاهيل، فلا تتحقّق المعارضة.
قوله: «وأن يرميها خذفاً».
ص: 200
• وفي جمرة العقبة يستقبلها ويستدبر القبلة، وفي غيرها يستقبلها ويستقبل القبلة.
وأمّا الثاني وهو الذبح، فيشتمل على أطراف:
الأوّل في الهدي، وهو واجب على المتمتّع، ولا يجب على غيره، سواء كان مفترضاً أو متنقلاً،، ولو تمتّع المكي وجب عليه الهدي.
-------------------------------------------------------------------
المشهور استحبابه، وأنه وضع الحصاة على بطن إبهام اليد اليمنى ودفعها بظفر السبّابة.
وأوجبه جماعة منهم ابن إدريس (1) بهذا المعنى والمرتضى لكن جعل الدفع بظفر الوسطى مدعياً الإجماع(2).
والعمل على المشهور.
وقد روى كيفيته أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والموجود من معناه في اللغة أعم من التفسيرين قال في الصحاح : الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع (4).
قوله: «وفي جمرة العقبة يستقبلها ويستدبر القبلة وفي غيرها يستقبلها ويستقبل القبلة».
الغرض هنا بيان كيفيّة رمي جمرة العقبة، وأما غيرها فذكره استطراداً؛ إذ ليس البحث عنه الآن. والكلام في استقبال القبلة واستدبارها واضح.
وأما استقبال الجمرة فالمراد أن يكون مقابلاً لها. لا عالياً عليها ونحوه ممّا لا يُعد استقبالاً، إذ ليس لها وجه خاص يتحقّق به الاستقبال إلا بما فرضناه.
قوله: «ولو تمتّع المكي وجب عليه الهدي».
ص: 201
ولو كان المتمتّع مملوكاً بإذن مولاه كان مولاه بالخيار بين أن يهدي عنه، وأن يأمره بالصوم.
ولو أدرك المملوك أحد الموقفين معتقاً لزمه الهدي مع القدرة، ومع التعذّر الصوم.
• والنيّة شرط في الذبح، ويجوز أن يتولاها عنه الذابح، ويجب ذبحه بمنى.
• ولا يجزئ واحد في الواجب إلا عن واحدٍ. وقيل: يجزئ مع الضرورة عن خمسة، وعن سبعة إذا كانوا أهل خوان واحد، والأوّل أشبه. ويجوز ذلك فى الندب.
-------------------------------------------------------------------
قد تقدّم الكلام فيه وأنّ فيه قولاً بعدم الوجوب عليه (1)، وهو ضعيف.
قوله: «والنيّة شرط في الذبح ويجوز أن يتولاها عنه الذابح».
ويعتبر فيها تعيين الحجّ الذي يذبح فيه والوجه والقربة، والمقارنة لأوّل الذبح، والاستدامة حكماً إلى الفراغ، ولو كان نائباً نوى فيه النيابة عن المنوب المعيّن، وتجوز الاستنابة في النيّة والذبح اختياراً.
قوله: «ولا يجزئ واحد في الواجب إلا عن واحدٍ، وقيل : يجزئ مع الضرورة - إلى قوله - والأول أشبه».
الخِوان - بكسر الخاء المعجمة ككتاب، ذكره الجوهري(2)، وزاد في القاموس ضمها أيضاً، كغراب - ما يُؤكل عليه الطعام(3).
والمراد بكونهم أهل خوان واحد أن يكونوا رفقةً مختلطين في المأكل واعتبر بعضهم أن يكونوا أهل بيت(4)، وجعل الخوان كناية عنه.
والأصحّ عدم إجزاء الواحد عن غير الواحد مطلقاً في الواجب.
ص: 202
• ولا يجب بيع ثياب التجمّل في الهدي، بل يقتصر على الصوم.
• ولو ضلّ الهدي فذبحه غير صاحبه لم يجزئ عنه.
-------------------------------------------------------------------
نعم، لو كان مندوباً كالأُضحية، والمبعوث من الآفاق، والمتبرّع به في السياق إذا لم يتعيّن بالإشعار أو التقليد أجزاً عن أهل الخوان، بمعنى أنّه يحصل التعبد به للجماعة وامتثال الأمر؛ وهذا هو المراد بقوله «ويجوز ذلك في الندب». وليس المراد به الهدي في الحجّ المندوب؛ لأنه يجب بالشروع فيه، كما مرّ، فيكون الهدي واجباً، كما يجب في الواجب بأصل الشرع، فلا يجزئ إلا عن واحد، بل المراد بالندب ما قدمناه.
قوله: «ولا يجب بيع ثياب التجمّل في الهدي، بل يقتصر على الصوم».
ليس الصوم عليه حينئذٍ واجباً عينياً، بل يتخيّر بينه وبين الهدي، بأن يبيع الثياب فيه وإن لم يجب عليه ذلك، ولا يخرجه عدم الوجوب عن الإجزاء وتعيّن الصوم، ولهذا لو تبرّع متبرّع بالهدي عنه أجزاً.
قوله: «ولو ضلّ الهدي فذبحه غير صاحبه لم يجزئ عنه».
لأنّه لم يتعيّن بالشراء للذبح، فلا يقع من غير المالك أو وكيله، سواء كان ذلك في الحلّ أو الحرم، وسواء بلغ محلّه أم لا، وهذا هو المشهور.
والأصحّ الإجزاء إذا ذبحه عن صاحبه؛ لصحيحة محمّد بن مسلم(1)، ورواية منصور بن حازم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2). وفي الأُولى أنه يعرفه ثلاثة أيّام، يوم النحر ويومان بعده.
ولم يصرّح أحد بالوجوب، وفي الدروس أنه مستحبٌّ(3). ولعلّ عدم الوجوب لإجزائه عن مالكه، فلا يحصل بترك التعريف ضرر عليه ويشكل بوجوب ذبح عوضه عليه ما لم يعلم بذبحه.
ص: 203
• ولا يجوز إخراج شيء ممّا يذبحه عن منى، بل يخرج إلى مصرفه بها.
• ويجب ذبحه يوم النحر مقدّماً على الحلق، فلو أخره أثم وأجزأ، وكذا لو ذبحه في بقية ذي الحجّة جاز.
الثاني في صفاته والواجب ثلاثة:
الأوّل: الجنس، ويجب أن يكون من النّعم • الإبل، أو البقر، أو الغنم.
-------------------------------------------------------------------
ويمكن أن يقال بعدم الوجوب قبل الذبح، لكن يجب بعده ليعلم المالك، فيترك الذبح ثانياً أخذاً بالجهتين.
ثمَّ على تقدير الإجزاء لا إشكال في وجوب الصدقة والإهداء، أمّا الأكل فهل يقوم الواجد مقام المالك فيه، فيجب عليه أن يأكل منه أم يسقط ؟ فيه نظر، ولعلّ السقوط أوجه.
قوله: «ولا يجوز إخراج شيء مما يذبحه عن منى، بل يخرج إلى مصرفه بها».
لا فرق في ذلك بين اللحم والجلد وغيرهما من الأطراف والأمعاء، بل تجب الصدقة بجميع ذلك؛ لفعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(1).
وإنّما يحرم الإخراج إذا وجد مصرفه بها، فلو تعذّر فالظاهر الجواز.
قوله: «ويجب ذبحه يوم النحر مقدّماً على الحلق، ولو أخره أثم وأجزأ».
لأنّ الترتيب بين الثلاثة واجب وليس بشرط، فيأثم بالمخالفة ويجزئ، سواء في ذلك تقديم الذبح على الرمي، وتقديم الحلق عليهما وعلى أحدهما.
قوله: «الإبل أو البقر أو الغنم».
لكن أفضله البدن، ثمَّ البقر، ثمَّ الغنم، وأقلّ المخرج واحد، ولا حد للأكثر، فقد نحر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ستاً وستين بدنة، ونحر عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) تمام المائة (2).
ص: 204
الثانى السنّ، فلا يجزئ من الإبل إلا الثني وهو الذي له خمس ودخل في السادسة، ومن البقر والمعز ما له سنة ودخل في الثانية، • ويجزئ من الضأن الجذع لسنته.
الثالث: أن يكون تامّاً،• فلا تجزئ العوراء،• ولا العرجاء البين عرجها، • ولا التي انكسر قرنها الداخل، • ولا المقطوعة الأُذن،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويجزئ من الضأن الجذع لسنته».
هو من الضأن ما كمل له سبعة أشهر ودخل في الثامن.
وفي الصحاح أن ولد الضأن يجذع لستة أشهر(1)، واختاره في التحرير(2).
قوله فلا تجزئ العوراء».
لا فرق بين كون العور بينا كمنخسفة العين، وغيرها كمن على عينها بياض وإن لم يستوعب.
قوله: «ولا العرجاء البيّن عرجها».
فسّر في التذكرة «البين» بأنّه الذي لا يمكنها بسببه أن تسير مع القطيع، فيفوتها العلف والمرعى، فتهزل لذلك(3).
قوله: «ولا التي انكسر قرنها الداخل».
وهو الأبيض الذي في وسط الخارج، أما الخارج فلا عبرة به.
قوله: «ولا المقطوعة الأُذن».
ولو بعضها، بخلاف مثقوبتها ومشقوقتها إذا لم يذهب من الأذن شيء، فإنّها تجزئ وكذا المكوية عليها، أو على غيرها، وفاقدتها، وصغيرتها، وفاقدة القرن، فإنّها مجزئة. وكذا الهرم الذي قد سقطت ثناياه الصحيحة العيص(4).
ص: 205
• ولا الخُصيّ من الفحول. ولا المهزولة، وهي التي ليس على كليتيها شحم.
• ولو اشتراها على أنّها مهزولة، فخرجت كذلك لم تجزئه، ولو خرجت سمينةً أجزأته، وكذا لو اشتراها على أنّها سمينة فخرجت مهزولةً.
-------------------------------------------------------------------
ومن العيب الجرب والمرض وإن قلّ.
قوله: «ولا الخُصيّ من الفحول».
هو مسلول الخُصية، بضم الخاء وكسرها، بخلاف الموجوء - وهو مرضوض عروق الخصيتين حتى تفسدا - فإنّه يجزئ - في أصح القولين - على كراهية، كما سيأتي.
قوله: «ولا المهزولة، وهي التي ليس على كليتيها شحم».
الكلية بضمّ الكاف، والمرجع في ذلك إلى ظنّ أهل الخبرة.
والسلامة من هذه العيوب شرط مع الإمكان، فلو تعذّر إلا المعيب، ففي إجزائه أو الانتقال إلى الصوم قولان، اختار أولهما في الدروس(1)، وثانيهما الشيخ عليّ(2)، والثاني لا يخلو من وجه، إلّا أنّ الأقوى الأوّل؛ لحسنة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن لم تجد فما تيسّر لك»(3).
قوله: «ولو اشتراها على أنّها مهزولة فخرجت كذلك لم تجزئه ولو خرجت سمينةً أجزأته» إلى آخره.
صُور المسألة ثمان؛ لأنّه إمّا أن يشتريها على أنها سمينة أو مهزولة، ثمَّ إمّا أن يظهر الموافقة أو المخالفة، قبل الذبح أو بعده، فمتى اشتراها على أنها سمينة فخرجت كذلك أجزأت مطلقاً، وكذا لو خرجت مهزولة بعد الذبح ولو اشتراها مهزولة فخرجت كذلك لم تجزئ مطلقاً، وإن خرجت سمينة قبل الذبح أجزأت.
بقي هنا صورتان، وهما ما لو ظهرت سمينةً بعد الذبح، أو السمينة مهزولة قبله، وفي
ص: 206
-------------------------------------------------------------------
إجزائه فيهما قولان: أحدهما - وهو اختيار الأكثر - الإجزاء؛ لموافقة الواقع، وحصول المقتضي في الأُولى، ولامتثاله الأمر، وتعبّده بظنه في الثانية.
ويشهد للأوّل صحيحة العيص بن القاسم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إن اشتريته مهزولاً فوجدته سميناً أجزاك»(1). فإنّ الظاهر خروجها بعد الذبح، ولو ادعي الإطلاق عملنا به لعدم المعارض، ومثلها رواية منصور عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
ولهما صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): إن اشترى أضحيّةً وهو ينوي أنّها سمينة فخرجت مهزولة أجزأت عنه، وإن نواها مهزولةً فخرجت سمينة أجزأت عنه»(3).
والأُضحيّة تطلق على الهدي؛ لاشتراكهما في النسبة إلى عيد الأضحى، وإن كان إطلاقها على غيره أكثر.
وفي خبر آخر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كذلك لكن بلفظ الهدي (4).
وذهب بعض الأصحاب إلى عدم الإجزاء فيهما(5).
أمّا الأول؛ فلأنّ ذبح ما يعتقده مهزولاً غير متقرب به إلى اللّه؛ إذ لا يتقرب بذلك، بل ذبحه على ذلك الوجه منهيٌّ عنه (6) فينافي القربة، فينتفي الإجزاء؛ إذ ظهور السمن لا يكفي مع عدم القربة.
وجوابه: أنه اجتهاد في مقابلة النص، ونمنع عدم التعبد بالمظنون الهزال مطلقاً، بل مع عدم ظهور خلافه، فيمكن التعبد به حال الاشتباه رجاء الموافقة.
وأما الثاني فللنهي عن المهزول(7)، وهو متحقق حال ذبحه.
ص: 207
• ولو اشتراها على أنّها تامة فبانت ناقصةً لم تجزئه.
• والمستحب أن تكون سمينة تنظر في سواد وتبرك في سواد، وتمشي في مثله، أي يكون لها ظل تمشي فيه. وقيل: أن تكون هذه المواضع منها سودا.
-------------------------------------------------------------------
وجوابه: المنع من الكلّيّة.
ولا ريب أنّ هذا القول أحوط.
قوله: «ولو اشتراها على أنّها تامة فبانت ناقصةً لم تجزئه».
لا فرق هنا بين ظهور المخالفة قبل الذبح وبعده، والفرق بين العيب والهزال ظهور الأوّل وخفاء الثاني، فإنه مبنى على الظنّ والتخمين.
ولو انعكس الفرض هنا بأن اشتراها ناقصةً فظهرت تامّة قبل الذبح أجزأت، لا بعده.
قوله: «والمستحبّ أن تكون سمينةً» إلى آخره.
أي سمناً زائداً على القدر المعتبر فيها.
ويمكن أن يكون المراد به السمن الخاص، وهو كونها تنظر في سواد وتبرك في سواد وتمشي في مثله.
والمراد بقوله «أي لها ظلُّ تمشي فيه» أي ظلّ عظيم باعتبار عظم جنّتها وسمنها، لا مطلق الظل، فإنّه لازم لكلّ جسم كثيف، وأما المشى فيه فليس بلازم، وإنّما هو من تتمة المبالغة في عظم الظلّ، فإنّ المشي فيه حقيقةً لا يتحقّق إلا عند مسامتة الشمس لرأس الشخص، وحينئذٍ يتساوى الجسم الكبير والصغير في الظل باعتبار مطابقته له.
وأمّا التفسير الثاني، وهو أنّ المراد كون هذه المواضع - أعني العين والقوائم والبطن - منها سواداً، فتطبيقه على معنى السمن بعيد، بل يكون وصفاً مغايراً للسمن، بمعنى جمعها بين الأمرين، كما اعتبرناه أولاً.
وفيه تفسير ثالث، وهو أن يكون السواد كناية عن المرعى والنبت، فإنّه يطلق عليه ذلك لغة، ومنه سُمّيت أرض السواد - وهي العراق - لكثرة شجرها وزرعها عند الفتح، وهو وقت
ص: 208
• وأن تكون ممّا عرّف به. وأفضل الهدى من البدن والبقر الإناث، ومن الضأن والمعز الذكران.
• وأن ينحر الإبل قائمةً قد ربطت بين الخفّ والركبة، • ويطعنها من الجانب الأيمن،
-------------------------------------------------------------------
التسمية، والمعنى حينئذٍ: أن يكون الهدي رعى ومشى ونظر وبرك في الخضرة والمرعى فسمن لذلك.
قيل: والتفسيرات الثلاثة مروية عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)(1).
قوله: «وأن تكون ممّا عرّف به».
أي يكون حضر عرفات في وقت الوقوف، ويكفي قول بائعه في ذلك، وفي الاكتفاء بقوله في سنّه احتمال.
قوله: «وأن ينحر الإبل قائمةً قد ربطت بين الخفّ والركبة».
في تفسير ذلك وجهان مرويّان:
أحدهما أن يربط يداها معاً مجتمعين من الخفّ إلى الركبة؛ ليمتنع من الاضطراب، رواه أبو الصباح الكناني (2).
والثاني: أن يعقل يدها اليسرى من الخفّ إلى الركبة، ويوقفها على اليمين(3).
قوله: «ويطعنها من الجانب الأيمن».
أي يقف الذابح من جانبها الأيمن، ويطعنها في موضع النحر، فإنّه متحد لا أيمن له إلّا بتكلّف.
ص: 209
وأن يدعو اللّه تعالى عند الذبح، • ويترك يده مع يد الذابح، وأفضل منه أن يتولّى الذبح بنفسه إذا أحسن.
• ويستحب أن يقسمه أثلاثاً، يأكل ثلثه، ويتصدق بثلثه، ويهدي ثلثه.
وقيل: يجب الأكل منه وهو الأظهر.
• ويكره التضحية بالجاموس، وبالثور، وبالموجوء.
-------------------------------------------------------------------
وقد صرّح بهذا المعنى في رواية أبي خديجة، قال: رأيت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينحر بدنته معقولةً يدها اليسرى، ثمَّ يقوم من جانب يدها اليمنى، إلى آخره(1).
قوله: «ويترك يده مع يد الذابح».
وينويان معاً استحباباً، ولو نوى الذابح وحده أجزاً.
والظاهر أنّ نيّة المالك وحده حينئذٍ غير مجزئة؛ لأنّ النيّة تقارن أوّل الفعل من الفاعل، وهو منتف مع احتمال الإجزاء.
قوله: «ويستحب أن يقسمه أثلاثاً، يأكل ثلثه، ويتصدق بثلثه، ويهدي ثلثه».
الأصحّ وجوب الأُمور الثلاثة، والاكتفاء بمسمّى الأكل، وإهداء الثلث، والصدقة بالثلث. ويشترط في المهدى إليه الإيمان، وفي المتصدق عليه الإيمان والفقر، ويكفي دفعهما
إلى الواحد الجامع للشرطين. وتجب النيّة في كلّ من الأمور الثلاثة مقارنة لأوّل الفعل، ويعتبر فيها قصد ذلك الفعل على وجهه، وتعيين الحجّ المأتي به، والقربة، ومتى خالف أثم وضمن ما أخل به من الصدقة والإهداء.
ولو جعل عوض الإهداء صدقة فالظاهر الإجزاء.
قوله: «ويكره التضحية بالجاموس وبالثور وبالموجوء».
يمكن أن يريد بالتضحية هنا الإهداء، فإنّ الهدي يكره كونه كذلك.
ص: 210
الثالث: في البدل
من فقد الهدي ووجد ثمنه • قيل: يخلّفه عند من يشتريه طول ذي الحجّة.
وقيل: ينتقل فرضه إلى الصوم، وهو الأشبه.
• وإذا فقدهما صام عشرة أيّام، ثلاثةً فى الحجّ متتابعات، يوماً قبل التروية،
-------------------------------------------------------------------
وكذا يكره كونه جملاً.
ويمكن أن يريد به الأضحية المسنونة، فإنّ حكمها كذلك، إلا أن استطراد هذا القدر خاصةً من أحكامها ليس بجيد.
وإنّما عبّر المصنّف بذلك تبعاً للرواية. قال أبو بصير سألته عن الأضاحي فقال: «[أفضل] الأضاحي في الحجّ الإبل والبقر» [وقال:] «ذوو الأرحام، ولا تضح بثورٍ ولا جمل»(1).
وهو دالّ على أن المراد بالتضحية الإهداء.
وفي خبر آخر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا تضح إلا بما عرّف به» (2) وهو دالّ عليه أيضاً.
وقد تقدّم أنّ المراد بالموجوء مرضوض الخصيتين حتى تفسدا.
قوله: «قيل: يخلّفه عند من يشتريه طول ذي الحجّة، وقيل: ينتقل فرضه إلى الصوم وهو الأشبه».
بل الأوّل أشبه؛ لرواية حريز عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3)، ولأن الوجدان يتحقّق بذلك، فلا ينتقل إلى الصوم ما دام الوقت باقياً، وهو ذو الحجّة.
قوله: «وإذا فقدهما».
أي الهدي وثمنه. ويتحقّق العجز عن الثمن بأن لا يقدر على تحصيله ولو بتكسّبٍ يليق بحاله، ولا ببيع ما زاد على المستثنى في الدين والمعتبر القدرة في موضعه لا في بلده.
ص: 211
ويوم التروية، ويوم عرفة، • ولو لم يتفق اقتصر على التروية وعرفة، ثمّ صام الثالث في بعد النفر، ولو فاته يوم التروية أخره إلى بعد النفر.
• ويجوز تقديمها من أوّل ذي الحجّة بعد أن يتلبس بالمتعة، • ويجوز صومها طول ذي الحجّة.
ولو صام يومين وأفطر الثالث لم يجزئه واستأنف، إلا أن يكون ذلك هو العيد، فيأتي بالثالث بعد النفر.
ولا يصحّ صوم هذه الثلاثة إلا في ذي الحجّة بعد التلبّس بالمتعة.
-------------------------------------------------------------------
نعم، لو تمكن من بيع ما في بلده ولو بدون ثمن المثل، أو من الاستدانة عليه فالأقوى الوجوب.
قوله «ولو لم يتفق اقتصر على التروية وعرفة، ثمّ صام الثالث بعد النفر».
المراد أن جعل الثلاثة يومي التروية وعرفة واليوم الذي قبلهما أفضل، فإن أخل بما قبلهما جاز له الاقتصار على صومهما وتأخير الثالث.
ولا فرق بين من علم أنّ الثالث العيد ابتداءً وغيره؛ لإطلاق النصّ(1).
قوله: «ويجوز تقديمها من أوّل ذي الحجّة بعد أن يتلبس بالمتعة».
يتحقّق التلبس بها بالشروع في العمرة، وقيل: في الحجّ(2)، وبناه في الدروس عل-ى أنّ الحجّ المندوب هل يجب بالشروع في العمرة أم لا ؟(3) فعلى الأوّل يكفي الشروع في العمرة، دون الثاني.
قوله: «ويجوز صومها طول ذى الحجّة».
لإطلاق الآية، وهو قوله تعالى: «فِي الحجّ»(4)، فإنّ الظرفية تصدق بمجموع الشهر؛
ص: 212
• ولو خرج ذو الحجّة ولم يصمها تعيّن الهدي.
• ولو صامها ثم وجد الهدي - و لو قبل التلبس بالسبعة - لم يجب عليه الهدي، وكان له المضى على الصوم، ولو رجع إلى الهدي كان أفضل.
وصوم السبعة بعد وصوله إلى أهله، • ولا يشترط فيها الموالاة على الأصح.
-------------------------------------------------------------------
لأنّه وقت الحجّ. وفي بعض الأخبار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) تفسير قوله: «فِي الحجّ» بذي الحجّة(1).
قوله: «ولو خرج ذو الحجّة ولم يصمها تعيّن الهدي».
أي استقر في ذمته إلى حين التمكن منه، سواء كان تأخير الصوم عن ذي الحجّة لعذر أو غيره، والضمير في «يصمها» يعود إلى الثلاثة.
قوله: «ولو صامها ثمَّ وجد الهدي - ولو (2) قبل التلبس بالسبعة - لم يجب عليه الهدي» إلى آخره
لا فرق في عدم وجوب الهدي حينئذٍ بين أن يجده في وقته أو لا، على أصحّ القولين؛ لتحقّق الامتثال المقتضي للإجزاء، ولأنّ التكليف لا يتحقّق بالبدل والمبدل معاً، ولرواية حمّاد بن عثمان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
وكذا لا فرق بين أن يكون قد تلبس بالسبعة أو لا، إلا أنّ الرجوع إلى الهدي أفضل على جميع الأحوال.
والمراد أنّه أفضل الواجبين منه ومن الصوم فإن اختاره نوى به الوجوب، وإلا وجب عليه إكمال الصوم.
قوله: «ولا يشترط فيها الموالاة على الأصحّ».
ص: 213
• فإن أقام بمكّة انتظر قدر وصوله إلى أهله، ما لم يزد على شهر.
ولو مات من وجب عليه الصوم ولم يصم وجب أن يصوم عنه وليه الثلاثة، دون السبعة. • وقيل بوجوب قضاء الجميع، وهو الأشبه.
• ومن وجب عليه بدنة في نذر أو كفّارة ولم يجد كان عليه سبع شياه.
-------------------------------------------------------------------
هذا هو الأقوى؛ لأصالة البراءة وإن كانت الموالاة أفضل.
قوله: «فإن أقام بمكّة انتظر قدر وصوله إلى أهله ما لم يزد على شهرٍ».
فإن زاد قدر وصوله إلى أهله عن شهر كفى مضيّ الشهر، والمراد بقدر وصوله إليهم مُضيّ مدّة يمكن فيها وصوله إليهم عادةً.
وإنّما يكفى الشهر إذا كانت إقامته بمكّة، وإلا تعيّن الانتظار مقدار الوصول إلى أهله كيف كان اقتصاراً على مورد النصّ(1)، وتمسكاً بقوله تعالى: «وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ»(2) : حملاً للرجوع على ما يكون حقيقة أو حكماً. ومبدأ الشهر من انقضاء أيّام التشريق.
قوله: «وقيل بوجوب قضاء الجميع، وهو الأشبه».
الأشبه أشبه، لكن لا يجب قضاء إلا ما تمكن من فعله فلم يصمه. ويتحقّق التمكّن بوصوله إلى أهله، أو مضي المدة المشترطة إن أقام بغير بلده، ومضي قدرٍ يمكنه فيه الصوم. ولو تمكن من البعض وجب قضاؤه خاصةً.
قوله: «ومن وجب عليه بدنة في نذر أو كفّارةٍ ولم يجد كان عليه سبع شياه».
هكذا وردت الرواية عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(3)، وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيها: «فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة أو في منزله»(4).
ولا يخفى أن ذلك في غير ما له بدل منصوص كالبدنة في كفّارة النعامة، فإنه مع العجز
ص: 214
• ولو تعين الهدي فمات من وجب عليه أخرج من أصل تركته.
-------------------------------------------------------------------
عنها ينتقل إلى أبدالها المذكورة هناك، ومع العجز عن السبع شياه يجب صوم ثمانية عشر يوماً؛ للرواية (1).
ويتحقّق العجز عنها بالعجز عن الجميع، فلو قدر على البعض خاصة انتقل إلى الصوم؛ عملاً بظاهر الرواية (2).
وإجزاء هذه الأبدال إنّما هو بالنصّ، فلا يتعدّى إلى غيرها، كما لو وجب عليه بقرة، وإن كانت السبع شياه تجزئ عما هو أعظم منها.
نعم، قرّب في التذكرة إجزاء البدنة عن البقرة في غير النذر؛ لأنها أكثر لحماً وأوفر، وفيه يتعين ما نذره (3).
ولو وجب عليه سبع شياه لم يجزئ البدنة وإن كان السبع بدلاً منها، ووافق في التذكرة على ذلك(4). وربما لزمه إجزاؤها؛ لأنها أقوى باعتبار كونها مبدلاً.
قوله: «ولو تعيّن الهدي فمات من وجب عليه أخرج من أصل تركته».
لأنّه حقٌّ مالي، فيخرج من الأصل كالدين، ويقدّم على الوصايا، ولو قصرت التركة عنه وعن الدين والحقوق الواجبة المالية وُزّعت التركة على الجميع بالحصص، فإن لم تف حصته بأقل هدي وجب إخراج جزء من هدي مع الإمكان؛ لعموم قوله : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(5).
ولو لم يمكن إخراج جزء ففي الصدقة به أو عوده ميراثاً وجهان، وقد تقدّم نظيره في أوّل الحجّ.
ص: 215
الرابع في هدي القران
• لا يخرج هدي القران عن ملك سائقه، وله إبداله والتصرف فيه وإن أشعره أو قلّده، لكن متى ساقه فلا بد من نحره بمنى إن كان لإحرام الحجّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «لا يخرج هدي القران عن ملك سائقه - إلى قوله - فلا بد من نحره».
اعلم أنّ هدي القران لا يخرج عن ملك مالكه بشرائه أو إعداده وسوقه لأجل ذلك قبل عقد الإحرام به إجماعاً، وأما إذا عقد إحرامه به بأن أشعره أو قلّده تعين عليه ذبحه أو نحره، ولم يجز له إبداله على ما يظهر من جماعة من الأصحاب(1)، ويدلّ عليه أيضاً صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن كان أشعرها نحرها»(2). ولهذا يجب ذبحه لو ضلّ فأقام غيره ثمَّ وجده قبل ذبح الأخير.
والظاهر أنه مع ذلك لا يخرج عن ملكه وإن تعين الذبح؛ لأصالة بقاء الملك، ووجوب الذبح أو النحر لا ينافيه، وتظهر الفائدة في جواز ركوبه، وشرب لبنه، وإنما يمتنع إبداله وإتلافه، ويجب حفظه حتى يفعل به ما يجب.
إذا تقرر ذلك فعبارة المصنّف لا تخلو ظاهراً من التدافع، حيث ذكر أولاً أنه لا يخرج عن ملك سائقه، وأنّ له إبداله والتصرف فيه، ثمَّ قال: «لكن متى ساقه فلا بد من نحره» فإنّه يقتضي عدم جواز الإبدال والتصرّف بعد السياق.
وتبعه على هذه العبارة العلّامة في أكثر كتبه (3)، وعبارة الأولين خالية من ذلك.
ويمكن تنزيل العبارة على ما يوافق الحكم الذي قدمناه بأن يُحمل قوله «إنّه لا يخرج عن ملك سائقه» على أنه لا يخرج عن ملكه بمجرّد إعداده للسوق، وشرائه لذلك ونحوه، وإن نوى عليه كونه هدي سياق، وتسميته سائقاً إما مجاز باعتبار ما يؤول إليه، أو حقيقة
ص: 216
-------------------------------------------------------------------
لغويّة، وحينئذٍ له إبداله والتصرف فيه، وقوله «وإن أشعره أو قلّده» وصلي لقوله «لا يخرج عن ملكه» لا لقوله وله إبداله والتصرف فيه»، وما بينهما معترض، والتقدير أنه لا يخرج عن ملكه وإن أشعره أو قلّده، وتعيّن ذبحه، كما قلناه أولاً. وتظهر الفائدة في جواز ركوبه ونحوه.
والموجب لتعبيره كذلك محاولة الجمع بين الحكمين المختلفين، أعني جواز التصرّف فيه قبل الإشعار، وعدم الخروج عن ملكه بعده، فاتفق تعقيد العبارة.
ولو قدم قوله «وإن أشعره» على قوله وله إبداله لصح من هذه الجهة، لكن لا يتم بعده قوله «وله إبداله» ؛ لإيهامه حينئذٍ أنّ له ذلك بعد الإشعار، بخلاف ما لو قدم جواز الإبدال، وغاية الأمر أن يتساويا في الإجمال.
وقوله «لكن متى ساقه» أي عينه للسياق بالإشعار أو التقليد المذكورين، «فلا بدّ من نحره» أي تعيّن لذلك وإن لم يخرج عن ملكه كما مرّ، والعبارة في قوة قوله «لكن متى فَعَل ذلك» أي بأن أشعره أو قلّده «تعيّن نحره، ولم يجز إبداله ولا التصرف فيه» وهو يزيل احتمال كون قوله «وإن أشعره» وصليّاً لجواز إبداله حذراً من التدافع؛ إذ لا معنى لسياقه شرعاً إلا عقد الإحرام به بالإشعار أو التقليد هذا أجود ما ينزل عليه العبارة، على ما فيها من التعقيد.
ونزلها المحقّق الشيخ علي في حاشيته على أن معنى «وإن أشعره أو قلّده» إشعاراً أو تقليداً على غير الوجه المعتبر، وهو الذي يعقد به الإحرام؛ بناءً على أنه يتعيّن ذبحه ولا يجوز إبداله لو كانا معتبرين، وقوله «لكن متى ساقه» أي أشعره أو قلده عاقداً به إحرامه(1).
وهذا المعنى مصحح للعبارة، لكنّه خلاف الظاهر، وخلاف مقتضى الإشعار والتقليد الشرعيّين.
وهاهنا تنزيل ثالث غریب ذكره بعض فضلائنا (2)، وهو أن قوله «وله إبداله» إلى آخره
ص: 217
• وإن كان للعمرة فبفناء الكعبة بالحَزْوَرَة.
• ولو هلك لم تجب إقامة بدله؛ لأنه ليس بمضمون.
• ولو كان مضموناً كالكفارات وجب إقامة بدله.
-------------------------------------------------------------------
وصلي لقوله «وإن أشعره أو قلّده» فيجوز إبداله حينئذٍ وإن عقد به إحرامه؛ لعدم خروجه عن ملكه وقوله «لكن متى ساقه فلا بد من نحره» أي متى ساقه بأن أشعره أو قلّده عاقداً به إحرامه وجب عليه ذبح هدي، سواء كان هو المسوق أم بدله.
قال: ولا ينافيه قولهم «نحره» فإنّ البدل يصيّره هدي قرآن؛ لأنّه عوضه.
والحامل له على ذلك الجمع بين قولهم «إنّ له إبداله وإن أشعره أو قلده» وبين قولهم «متی ساقه فلا بد من نحره أو ذبحه».
وهذا التنزيل مع بُعده لا دليل على حكمه، فإنّ الرواية الصحيحة دالة على تعيّن نحر ما أشعره، كما تقدّم، فعدم جواز الإبدال بعد الإشعار متعين بالنص، فيجب ردّ ما خرج عنه إليه، أو اطراحه لا ردّ الحكم إلى عباراتهم كيف أتفق.
وهذا كلّه إذا لم يعينه بالنذر، وإلا تعين وإن لم يشعره أو يقلده، ولم يجز له إبداله قطعاً.
قوله: «وإن كان للعمرة فبفناء الكعبة بالحَزْوَرَة».
الفناء - بكسر الفاء والمدّ - ما امتد من جوانب الدار قاله الجوهري(1). والحَزْوَرَة - مثل قَسْوَرَة - هى التلّ، وهي خارج المسجد بين الصفا والمروة، وهي أفضل مواضع الذبح بمكّة، وإلّا فمكة بأجمعها محلّ لما يذبح في العمرة.
قوله: «ولو هلك لم تجب إقامة بدله؛ لأنه ليس بمضمون».
هذا إذا كان تلفه بغير تفريط، وإلا ضمنه ووجب إقامة بدله.
قوله: «ولو كان مضموناً كالكفارات وجب إقامة بدله».
يمكن عود الضمير المستتر في «كان» إلى هدي السياق، أي لو كان هدي السياق
ص: 218
• ولو عجز هدي السياق عن الوصول جاز أن يُنحر أو يُذبح، ويُعلَّم بما يدلّ على أنه هدي.
-------------------------------------------------------------------
مضموناً، إلى آخره، فيستفاد منه أن هدي السياق لا يشترط أن يكون متبرّعاً به ابتداءً، بل لو كان مستحقاً بالنذر أو الكفّارة تأدّت به وظيفة السياق، والفائدة تعينه للنذر أو الكفّارة بالسياق بعد أن كان أمراً كلّيّاً في الذمّة لا ينحصر فيما ساقه قبل تعيّنه به، وهذا المعنى يظهر من أكثر عبارات الجماعة من غير تصريح به.
وممّن صرّح به الشهيد في الدروس، قال فيها: لو ساق مضموناً كالكفّارة ضمنه، ويتأدّى السياق المستحب بها وبالمنذور(1).
ويمكن أن يكون الضمير عائداً إلى مطلق الهدي وأدخله في باب هدي القران تبعاً، كما أدخل قوله بعد ذلك: «وكلّ هدي واجب كالكفارات لا يجوز أن يعطى الجزار منها شيئاً» إلى آخره، فإنّ هذا الحكم لا يختص بالمسوق.
قوله: «ولو عجز هدي السياق عن الوصول جاز أن يُنحر أو يُذبح، ويعلَّم بما يدلّ على أنّه هدي».
المراد بالجواز هنا معناه الأعم، والمقصود منه الوجوب، فإنّ هدي السياق إذا تعيّن للذبح يجب التوصل إلى ما يجب، وهو ذبحه في مكانه، فإذا تعذّر المكان بقي مطلق الذبح؛ وللنصّ على ذلك(2).
و تجب مقارنة النيّة لذبحه المشتملة على قصد الفعل في الحجّ المعيّن، والوجه، والقربة كغيره، والأكل منه إن أو جبناه من هدي السياق، والعلّامة بما يدلّ على أنّه هدي، بأن يغمس نعله في دمه، ويضرب بها صفحة سنامه، أو يكتب رقعةً ويضعها عنده، تؤذن بأنّه هدي كلّ ذلك عند تعذّر المستحق ثمّة.
ص: 219
• ولو أصابه كسر جاز بيعه. والأفضل أن يتصدق بثمنه أو يقيم بدله.
-------------------------------------------------------------------
ويجوز التعويل عليهما هنا في الحكم بالتذكية وإباحة الأكل؛ للنصّ(1). وتكفي النيّة الأُولى عن المقارنة لتناول الأكل.
ولا تجب الإقامة عنده إلى أن يوجد المستحق وإن أمكنت.
قوله «ولو أصابه كسر جاز بيعه والأفضل أن يتصدق بثمنه أو يقيم بدله».
ظاهر السياق أنّ الكلام في هدي السياق وفيما قد تعيّن ذبحه منه لكونه قد أشعره أو قلده ليظهر لجواز البيع فائدة؛ إذ لو كان قبل ذلك كان ملكاً من أملاكه، وإنّما جاز معه لأنّ الواجب كان ذبحه بمحلّه لا غير، والصدقة به أو فعل ما يفعل بهدي التمتّع مستحبٌّ عند المصنّف، فإذا تعذّر فعل ما وجب سقط فيجوز بيعه، ويستحبّ التصدق بثمنه، كما يستحبّ الصدقة ببعض لحمه.
وهذا الحكم ذكره المصنّف والعلّامة (2) وجماعة (3)، وينبغي تقييده بما لو لم يكن مضموناً، كالكفّارات والمنذور، فإنّه يجب حينئذٍ إقامة،بدله، وهذا النوع يمكن جعله فرداً من أفراد هدي السياق كما مرّ، فلابد من استثنائه، إلا أن يُحمل على الغالب الظاهر من كون هدي السياق هو المتبرّع به.
وقد دلّ على الحكمين معاً صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قال: سألته عن الهدي الذي يقلد أو يشعر ثمَّ يعطب، قال: «إن كان تطوّعاً فليس عليه غيره، وإن كان جزاء أو نذراً فعليه بدله»(4).
وفي حسنة الحلبي أطلق بيعه والصدقة بثمنه، وإهداء هدي آخره(5).
ص: 220
• ولا يتعيّن هدي السياق للصدقة إلا بالنذر.
• ولو سُرق من غير تفريط لم يضمن
-------------------------------------------------------------------
وحُملت على الاستحباب، مع أنها مقطوعة، فلا حجّة فيها.
واستشكل المحقّق الشيخ علي في حاشيته الحكم المذكور في الكتاب بأنّ هدي السياق صار متعيّناً نحره، فكيف يجوز بيعه؟! (1)
وجوابه: أنه مع مدافعته للنّص الصحيح فلا يُسمع، أن الواجب إنما هو ذبحه في محلّه، وقد تعدّر فيسقط.
نعم ربما أشكل بما تقدّم من وجوب ذبحه عند عجزه، وهو قريب من الكسر، بل العجز أعمّ منه، لكن النص قد ورد بالفرق.
قوله: «ولا يتعيّن هدي السياق للصدقة إلّا بالنذر».
مقتضى العبارة وكلام الأكثر أن الواجب في هدي السياق هو النحر أو الذبح خاصةً، فإذا فَعَل ذلك صنع به ما شاء إن لم يكن منذوراً للصدقة.
واختار جماعة (2) فيه ما يجب في هدي التمتّع، وهو أقوى.
قوله: «ولو سُرق من غير تفريط لم يضمن».
مستند ذلك صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حين سأله عن رجل اشترى أُضحيّةً فماتت أو سرقت قبل أن يذبحها، قال: «لا بأس، وإن أبدلها فهو أفضل»(3).
والمراد بالأُضحيّة ما يعم الهدي كما تقدّم.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الهدي متبرعاً به، أو متعيّناً بالنذر وشبهه؛ لإطلاق النصّ وعدم التفريط.
ص: 221
• ولو ضلّ فذبحه الواجد عن صاحبه أجزأ عنه.
-------------------------------------------------------------------
وينبغي تقييده بما إذا لم يكن مضموناً في الذمة، وقد خصصه بالمعيَّن، فإنه بتلفه يرجع الواجب إلى الذمة، أما لو كان المنذور هو المعيّن سقط.
ولو كان ذهابه بتفريطه ضمنه مطلقاً، كما يشعر به مفهوم القيد
وأورد عليه المحقّق في حاشيته :
بأنه منافٍ لما سبق من قوله «ولا يتعيّن هدي السياق للصدقة إلا بالنذر» لأنه إذا لم يتعيّن للصدقة جاز التصرّف فيه أيّ تصرّف شاء، فكيف يضمنه مع التفريط ؟!
قال: ولو حمل على أنه مضمون في الذمة لوجب إقامة بدله مطلقاً، فرّط أم لا(1).
وجوابه منع المنافاة، فإنّ هدي السياق وإن لم يتعيّن للصدقة لكن يجب نحره أو ذبحه، فإذا فرّط فيه قبل فعل الواجب ضمنه ليذبح البدل أو ينحره تأديةً للواجب وإن لم تجب الصدقة به، وهذا أمر واضحٌ.
قوله: «ولو ضلّ فذبحه الواجد عن صاحبه أجزأ عنه».
سياق العبارة يقتضي كون المراد به هدي السياق، وهو كما عرفت - شامل للمتبرّع به، والمضمون بالنذر وشبهه والكفّارة.
والحكم بإجزائه في الأول واضح، خصوصاً بعد ثبوته في هدي التمتّع، كما مرّ، مع أنه لم يتعيّن للذبح.
وأمّا المضمون فقد استشكل المحقّق المحشّى حكمه (2).
وهو في المنذور المطلق والكفّارة في محلّه، أما المعين فلا، بل هو كهدي السياق المتعين بالإشعار او التقليد.
ويمكن تمشي الحكم في الجميع؛ نظراً إلى إطلاق رواية (3) منصور بن حازم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل يضل هديه فيجده رجل آخر فينحره، قال: «إن كان نحره بمنى
ص: 222
• ولو ضاع فأقام بدله ثم وجد الأوّل ذبحه، ولم يجب ذبح الأخير، ولو ذبح الأخير ذبح الأوّل ندباً، إلا أن يكون منذوراً.
-------------------------------------------------------------------
فقد أجزأ عن صاحبه الذي ضلّ عنه، وإن كان نحره في غير منى لم يجزئ عن صاحبه»(1).
فإن الهدي يشمل المتمتّع به والمسوق تبرّعاً، والمجعول سياقاً بعد أن كان منذوراً أو كفارة كما مرّ، فيجزئ في الجميع.
وتعلق الكفارة والنذر المطلق بالذمة آت في هدي التمتّع، فإنه لا يتعين بوجه قبل ذبحه بالنيّة، وقد حكم بإجزائه عملاً بالنصّ، فلتكن الكفّارة ونحوها كذلك.
واحترز بذبح الواجد له عن صاحبه عمّا لو ذبحه لا عنه إما عن نفسه أو لا، فإنّه لا يجزئ عنهما قطعاً، كما دلّت عليه مرسلة جميل(2).
قوله: «ولو ضاع فأقام بدله ثم وجد الأوّل ذبحه - إلى قوله - إلا أن يكون منذوراً».
هذا الحكم ثابت في الجملة ذكره الجماعة مطلقين القول فيه.
و مستنده صحيحة أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجل اشترى كبشاً فهلك منه، قال: «يشتري مكانه آخر». قلت: فإن اشترى مكانه آخر ثم وجد الأوّل؟ قال: «إن كانا جميعاً قائمين فليذبح الأوّل، وليبع الآخر، وإن شاء ذبحه، وإن كان قد ذبح الأخير ذبح الأول معه»(3).
وفي الحكم به على الإطلاق كما ذكره الجماعة واقتضاه الخبر - نظر ؛ لأنّ الهدي إن كان هدي السياق المتبرّع به كما هو الظاهر من العبارة - لم تجب إقامة بدله كما لو هلك وقد تقدّم. (4)
ص: 223
• ويجوز ركوب الهدي ما لم يضر به وشرب لبنه ما لم يضرّ بولده.
-------------------------------------------------------------------
ثمَّ على تقدير إقامته ووجدان الأول بعد ذبح البدل، يشكل عدم وجوب ذبحه ؛ لتعيّنه للذبح بالإشعار أو التقليد، فلا يقوم البدل الذي ليس بواجب مقامه مع أنّ المفهوم من قوله «ثمَّ وجد الأوّل ذبحه» أنه لو لم يجده وجب ذبح الأخير، وهو يشعر بوجوب إقامة البدل.
ولا يصح أن يراد به المنذور؛ لأنه استثناه منه، وهو يقتضي كون المراد أعم منه. وإن كان المراد به هدي التمتّع ففيه - مع تهافت المقام، وعدم الدلالة - أن الواجب غير منحصر فيه بوجه، فلا تتحقّق البدلية في الثاني، بل الواجب كما يتأدى بالأوّل يتأدى به؛ لأنّه أمر كلي.
فطريق التخلّص من الإشكال إما بالحكم بوجوب إقامة بدل هدي السياق المتعيّن لو ضاع؛ عملاً بالنصّ (1)، وتخصيص عدم وجوب البدل بالهلاك والسرقة، كما هو الواقع في العبارة، وحينئذٍ فلا منافاة ولا يُعد في ذلك بعد ورود النص، وإما بحمل الوجوب على ما لو ضاع بتفريطه، فإنّه تجب إقامة بدله؛ لكونه حينئذٍ مضموناً عليه، ويترتب باقي الأحكام.
قوله: «ويجوز ركوب الهدي ما لم يضرّ به، وشرب لبنه ما لم يضر بولده».
هذا في الهدي المتبرّع به بعد تعيّنه بالسياق؛ لعدم خروجه عن ملكه فيجوز له الانتفاع بما لا ينافي الذبح، ولا ينقصه ويضرّ به أو بولده.
ويستفاد من قوله «أو بولده» أنّ الولد يتبعها في وجوب الذبح، وهو كذلك إذا كان موجوداً حال السياق مقصوداً بالسوق، أو متجدّداً بعده مطلقاً.
ولو شرب - والحال هذه - ما يضرّ بالأُمّ أو بالولد ضمنه.
ولو لم يكن الولد تابعاً لها في الحكم لم يضمن ما يضرّ به وإن أثم.
ولو كان الهدي مضموناً - كالكفارات والنذور - لم يجز تناول شيء منه ولا الانتفاع به مطلقاً، فإن فَعَل ضمن قيمته أو مثله لمستحق أصله، وهو مساكين الحرم.
وأمّا الصوف والشعر فإن كان موجوداً عند التعيّن،تبعه ولم يجز إزالته، إلا أن يضرّ به
ص: 224
• وكلّ هدي واجب كالكفارات لا يجوز أن يعطى الجزار منها شيئاً، ولا أخذ شيء من جلودها، ولا أكل شيء منها، فإن أكل تصدّق بثمن ما أكل ومن نذر أن ينحر بدنةً، فإن عيّن موضعاً وجب، وإن أطلق نحرها بمكّة.
• ويستحب أن يأكل من هدي السياق، وأن يهدي ثلثه ويتصدق بثلثه كهدي التمتّع، وكذا الأضحيّة.
-------------------------------------------------------------------
فيزيله ويتصدّق به على الفقراء، وليس له التصرف فيه، ولو تجدّد بعد التعيين احتمل كونه كالولد وكاللبن.
قوله: «وكلّ هدى واجب كالكفارات لا يجوز أن يعطى الجزار منها شيئاً» إلى آخره.
يدخل في الكلية الهدي المتعين بالإشعار أو التقليد، فإنّه هدي واجب، وقد تقدّم أنّ الواجب فيه الذبح خاصةً، فيجوز أن يصنع به ما شاء للجزار وغيره.
ويمكن كون الجار والمجرور صفةً للواجب، أي الهدي الواجب الذي هو كالكفارات، بأن يكون خارجاً عن الملك، فإنّه يتعيّن الصدقة بجميعه، كما ذكر. ومتى خالف ضمن بالقيمة، كما لو أكل.
أما الواجب الذي ليس كذلك - كالمتبرّع به المتعين بالسياق - فلا حظر في تناوله بعد الذبح، مع مراعاة القسمة.
ولا يخفى أن المراد إعطاء الجزار على وجه الأُجرة أو التبرع، أما إعطاؤه صدقةً إذا كان مستحقاً فإنه جائز.
قوله: «ويستحب أن يأكل من هدي السياق - إلى قوله كهدي التمتّع».
بناءً على ما تقدّم من أن الواجب الذبح خاصّةً.
والأقوى وجوب ذلك، كهدي التمتّع للرواية(1)، وهو مقرَّب الدروس (2).
ص: 225
الخامس • في الأضحية
• ووقتها بمنى أربعة أيّام، أوّلها يوم النحر، وفي الأمصار ثلاثة.
• ولا بأس بادخار لحمها، ويكره أن يخرج به من منى.
-------------------------------------------------------------------
وأراد بهدي السياق المتبرّع به.
وأما الواجب كفارة أو بنذرٍ إذا جعله سياقاً فلا يصح تناول شيء منه وإن كان بعد ذلك قد صار هدي سياق كما مرّ. قوله: «في الأُضحية».
هي - بضمّ الهمزة وكسرها، وتشديد الياء المفتوحة فيهما - ما يُذبح يوم عيد الأضحى تبرعاً، وهي مستحبة استحباباً مؤكداً على المشهور.
وأوجبها ابن الجنيد (رحمه اللّه) (1) منا وجماعة من العامّة(2).
وقد وردت أخبار (3) تدلّ على الوجوب، حملت على الاستحباب المؤكّد جمعاً.
وروي استحباب الاقتراض لها، وأنّه دَين مقضىّ(4).
قوله: «و وقتها بمنى أربعة أيّام، أولها يوم النحر» إلى آخره.
ظاهره أنّ أوّل وقتها يوم الأضحى، وهو طلوع الفجر إن لم يدخل الليلة فيه.
وفيه تجوّز، وإنّما أوّل وقتها بعد طلوع الشمس ومضي قدر صلاة العيد والخطبتين، سواء صلّى الإمام العيد أم لم يصلّ عندنا.
قوله: «ولا بأس بادخار لحمها» إلى آخره.
مطلق ادخار لحمها ليس موضع توهم البأس حتى ينفى عنه، وإنما موضعه ادّخاره بعد ثلاث، فقد كان محرَّماً في صدر الإسلام ثمَّ نُسخ.
ص: 226
• ولا بأس بإخراج ما يضحيه غيره.
ويجزئ الهدي الواجب عن الأضحيّة، والجمع بينهما أفضل.
ومن لم يجد الأضحيّة تصدق بثمنها،• فإن اختلفت أثمانها جمع الأعلى والأوسط والأدون، وتصدق بثلث الجميع.
ويستحب أن تكون التضحية بما يشتريه، ويكره بما يربيّه
• ويكره أن يأخذ شيئاً من جلود الأضاحي، وأن يعطيها الجزّار،
-------------------------------------------------------------------
قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «نهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ثمَّ أذن فيها»(1).
قوله: «ولا بأس بإخراج ما يضحيّه غيره».
لا فرق في ذلك بين كونه اشتراه أو أهدي إليه، وكذا لا بأس بإخراج السنام مطلقاً.
قوله: «فإن اختلفت أثمانها جمع الأعلى والأوسط والأدون، وتصدق بثلث الجميع».
هذا إذا كانت القيم ثلاثاً، وإلّا لم ينحصر في الثُلث.
وإنّما اقتصر المصنّف على الثلث؛ تبعاً لرواية هشام عن الكاظم، التابعة لواقعته (2).
والضابط الشامل لجميع أفراد الاختلاف أن يجمع القيمتين أو القيم المختلفة، ويتصدّق بقيمةٍ نسبتها إليها نسبة الواحد إلى عددها، فمن الاثنين النصف، ومن الثلاث الثلث ومن الأربع الربع، وهكذا.
قوله: «ويكره أن يأخذ من جلود الأضاحي».
وكذا يكره أن يأخذ شيئاً من جِلالها وقلائدها؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (3).
ص: 227
• والأفضل أن يتصدّق بها.
فإذا فرغ من الذبح فهو مخيّر إن شاء حلق، وإن شاء قصّر، • والحلق أفضل.
-------------------------------------------------------------------
وهكذا يكره بيعها، وغيره من أسباب النقل، عدا الصدقة به، ومنه إعطاؤها الجزّار أُجرةً، أمّا صدقةً إذا اتصف بها فلا، وكذا لو أعطاه من لحمها.
قوله: «والأفضل أن يتصدّق بها».
الأجود عود الضمير إلى الجلود، فإنّ الصدقة بها مستحبّة كما مرّ.
وفي صحيحة معاوية بن عمّار، أنه سأل الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الإهاب(1)، فقال: «تصدق به، أو تجعله مصلّى يُنتفع به في البيت، ولا تعطي الجزّارين» (2).
وأما الأُضحيّة فيستحب أن يأكل منها قسماً ؛ عملاً بالآية(3)، وتأسياً بالنبيّ (4)، ويتصدّق بقسم.
والمشهور استحباب الصدقة بأكثرها.
وقال الشيخ الصدقة بالجميع أفضل(5).
وأطلق جماعة من الأصحاب (6) تحريم بيع لحمها من غير تقييد بوجوبها.
قوله: «والحلق أفضل».
المراد أنه أفضل الفردين الواجبين على التخيير، فينوي به الوجوب.
ص: 228
• ويتأكد في حق الصرورة ومن لبَّدَ شعره. وقيل : لا يجزئه إلا الحلق، والأوّل أظهر.
• وليس على النساء حلق، ويتعيّن في حقهنّ التقصير. • ويجزئهنّ منه ولو مثل الأنملة.
ويجب تقديم التقصير على زيارة البيت لطواف الحجّ والسعي.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويتأكّد في حق الصرورة، ومن لبّد شعره، وقيل: لا يجزئه إلا الحلق، والأوّل أشبه (1)».
تلبيد الشعر أن يأخذ عَسلاً وصمغاً، ويجعله في رأسه ؛ لئلّا يقمل أو يتّسخ بسبب الإحرام.
وما اختاره المصنّف هو الأقوى، فيجزئهم التقصير أيضاً.
قوله: «وليس على النساء حلق، ويتعين في حقهنّ التقصير».
نفي الحلق عن النساء في صدر العبارة يدلّ بظاهره على أن سقوطه عنهنّ رخصة، وتعيّن التقصير عليهنّ يقتضي عدم إجزاء الحلق، وهو الأقوى. وقد ادّعى العلّامة في المختلف الإجماع على تحريم الحلق عليهنّ(2)، وحينئذٍ يظهر وجه عدم الإجزاء؛ لأنّ النهي في العبادة يقتضي الفساد.
قوله: «ويجزئهنّ منه ولو قدر الأنملة».
لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، وإنّما خصّهنّ لأنّهنّ في هذا التقدير مورد النصّ، رواه ابن أبي عمير مرسلاً عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
والواجب من ذلك ما يقع عليه اسمه عرفاً، والتقدير بالأنملة كناية عنه.
ص: 229
• ولو قدم ذلك على التقصير عامداً جبره بشاة، ولو كان ناسياً لم يكن عليه شيء، وعليه إعادة الطواف على الأظهر.
و يجب أن يحلق بمنى، فلو رحل رجع فحلق بها، فإن لم يتمكّن • حلق أو قصّر مكانه وبعث بشعره ليدفن بها، ولو لم يمكنه لم يكن عليه شيء.
• ومن ليس على رأسه شعر أجزأه إمرار الموسى عليه.
-------------------------------------------------------------------
والمراد بالتقصير إبانة مسمّى الشعر أو الظفر بحلق أو نتف أو قرض بالسنّ أو نحو ذلك.
قوله: «ولو قدّم ذلك على التقصير عامداً جبره بشاة - إلى قوله على الأظهر».
المشار إليه ب«ذلك» هو الطواف والسعي. ووجوب إعادة الطواف على العامد موضع وفاق. وفي إلحاق الجاهل به قول و ظاهر الرواية (1) تدلّ على العدم والأجود وجوب الإعادة عليه دون الكفّارة.
وفي الناسي وجهان أجودهما الإعادة أيضاً وإن لم تجب عليه الشاة.
وهل تجب إعادة السعي حيث تجب إعادة الطواف ؟ يُفهم من العبارة.عدمه. واختار العلّامة في التذكرة إعادته(2)، وهو الأقوى.
ولو قدّم الطواف على الذبح أو على الرمي، ففي إلحاقه بالتقصير نظر، من تساويهما في التقدّم عليه، ومن عدم النصّ.
قوله: «حلق أو قصر مكانه وبعث بشعره ليدفن بها».
الحلق أو التقصير واجب، وبعث الشعر ليدفن بها مستحبّ، وهو في قوّة مستحبّين: البعث والدفن، فلو اقتصر على أحدهما تأدت السنّة، والجمع أفضل.
قوله: «ومن ليس على رأسه شعر أجزأه إمرار الموسى عليه».
ص: 230
-------------------------------------------------------------------
ثبوت الإمرار عليه في الجملة إجماعي، وممن ادعاء العلّامة في التذكرة(1)، وإنما الخلاف في موضعين:
أحدهما هل هو على جهة الوجوب مطلقاً، أو الاستحباب مطلقاً، أو بالتفصيل بوجوبه على من حلق في إحرام العمرة، والاستحباب على الأقرع؟ قيل بالأوّل (2)؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»(3)، وهذا لو كان له شعر لكان الواجب عليه إزالته، وإمرار الموسى على رأسه، فلا يسقط الأخير بفوات الأوّل. ولأمر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بذلك في أقرع خراسان (4).
وقيل بالثاني(5)، بل ادّعى عليه في الخلاف الإجماع(6)؛ لأنّ محلّ الحلق الشعر وقد فات فيسقط بقوات محلّه.
وبالتفصيل رواية(7)، والعمل بها أولى.
الثاني: على تقدير الوجوب مطلقاً أو على وجه هل يجزئ عن التقصير من غيره؟ قيل: نعم(8)؛ لانتفاء الفائدة،بدونه، ولأنّ الأمر يقتضي الإجزاء، ولعدم توجّه الجمع بين الحلق والتقصير والإمرار قائم مقام الأوّل، وظاهر الخبر يدلّ عليه.
ص: 231
• وترتيب هذه المناسك واجب يوم النحر الرمي ثمَّ الذبح ثمَّ الحلق، فلو قدّم بعضاً على بعض أثم ولا إعادة.
مسائل ثلاث:
الأُولى: مواطن التحلّل ثلاثة:
الأول : • عقيب الحلق أو التقصير يحلّ من كلّ شيء، إلّا الطيب والنساء والصيد.
-------------------------------------------------------------------
والأقوى وجوب التقصير؛ لأنه واجب اختياري قسيم للحلق، والإمرار بدل اضطراريٌ ولا يُعقل الاجتزاء بالبدل الاضطراري مع القدرة على الاختياري، ولا يمتنع وجوب الأمرين على الحالق في إحرام العمرة عقوبةً له.
قوله: «وترتيب هذه المناسك واجب يوم النحر - إلى قوله - فلو قدم بعضاً على بعض أثم ولا إعادة».
وجوب الترتيب بينها هو الأولى، والمشهور بين المتأخّرين. وذهب الأكثر إلى استحبابه، وهو خيرة المختلف (1)، والأخبار الصحيحة (2) تدلّ عليه.
وعلى تقدير الوجوب تقع صحيحةً مع الإثم لدلالة الأخبار (3) عليه.
قوله: «عقيب الحلق أو التقصير يحلّ من كلّ شيء إلا الطيب والنساء والصيد».
هذا إذا وقع أحدهما عقيب الرمي والذبح، أما إذا وقع قبلهما أو بينهما ففى التحلّل به أو توقفه على فعل الثلاثة قولان أقربهما الثاني؛ لأصالة بقاء التحريم الحاصل بالإحرام، ولأنّه الآن محرم فيحرم عليه محرّماته إلى أن يتحقّق المخرج، خصوصاً على القول بوجوب الترتيب، فإنّ النص الدال على التحلّل بأحدهما(4) مبني على سبق الآخرين.
ص: 232
الثاني: • إذا طاف طواف الزيارة حلّ له الطيب.
الثالث: • إذا طاف طواف النساء حلّ له النساء. ويكره لُبس المخيط حتّى يفرغ من طواف الزيارة، وكذا يكره الطيب حتى يفرغ من طواف النساء.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا طاف طواف الزيارة حلّ له «الطيب».
الأصحّ توقف حلّ الطيب على السعي بعد طواف الحج؛ عملاً بالاستصحاب، ولرواية منصور بن حازم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
وهذا إذا أخّر الطواف والسعي عن الوقوفين وأفعال منى كما ذُكر، أما لو قدّمهما، كالمفرد والقارن مطلقاً والمتمتّع مع الاضطرار، ففي حلّه من حين فعلهما وجهان، أجودهما ذلك؛ عملاً بإطلاق النصوص(2).
قوله: «إذا طاف طواف النساء حلّ له النساء».
هذا الحكم ظاهر فى الرجل لأن تحريم النساء يتعلّق به.
والظاهر أنّ الصبيّ في حكمه وإن لم يتعلّق به تحريم، حيث إنّه من باب خطاب الشرع المنفي في حقه، فيَحْرُمْنَ عليه بعد البلوغ إلى أن يأتي به كتحريم الصلاة بالحدث السابق، فإن الإحرام سبب في ذلك يمكن تعلّقه به كما يتعلّق بالمكلّف.
وأمّا المرأة فلا إشكال في تحريم الرجال عليها بالإحرام، لكن هل يكون طواف النساء هو المحلّل لها كالرجال؟ قيل: نعم، وهو خيرة الدروس(3)، ونقله في المختلف عن ابن أبي عقيل وابن بابويه، واستشكله لعدم الدليل عليه(4).
ووجه الإشكال ظاهر؛ إذ ليس في النصوص ما يدل على غير حكم الرجل.
ص: 233
-------------------------------------------------------------------
ويمكن الاستدلال عليه بأن الإحرام قد حرم عليهن ذلك فيجب استصحابه إلى أن يثبت المزيل، وهو غير متحقق قبل طواف النساء.
ويشكل بأنّ الأخبار الدالّة على حلّ كلّ ما عدا الطيب والنساء والصيد بالحلق، وما عدا النساء بالطواف (1) متناولة للمرأة، ومن جملة ذلك حلّ الرجال، فالمسألة موضع إشكالٍ.
بقي هنا أُمور:
الأوّل: لو قدم الحاج طواف النساء حيث يسوغ له ذلك ففي حلّهنَّ بفعله، أو توقّفه على الحلق أو التقصير نظر؛ من تعليق الحلّ عليه مطلقاً، ومن إمكان كون المحلل هو المركّب من الأفعال السابقة على الطواف ومنه، جَعْلاً له آخر العلة المركبة. وقد تقدم في حلّ الطيب بتقديم طواف الحجّ ما يرشد إلى قوّة الأوّل. لكن يلزم على هذا أن يكون المحلّلات ثلاثة، سواء قدّم الطوافين أم أخرهما أم قدّم أحدهما.
ويظهر من بعض الأصحاب أنه على تقدير تقديمهما يكون له محلِّل واحد عقيب الحلق(2).
ولعلّه مبنيّ على عدم التحلّل بهما حينئذٍ ممّا يعلّق عليهما على تقدير تأخيرهما.
الثاني: لا يتوقّف التحلّل بالطوافين على صلاتهما.
أمّا طواف النساء فظاهر؛ إذ لا مدخل لصلاته في مفهومه.
وأما طواف الزيارة فإن أوقفنا التحلّل على السعي توقف على الصلاة أيضاً؛ لأنّها متقدّمة عليه، وإلّا لم يتوقّف عليها.
ويمكن أن يقال بعدم التوقف عليها وإن حكم بوجوب تقديمها على السعي ؛ لأنّ ذلك وجب من حيث ترتيب الأفعال، لا من حيث الشرطية في الحلّ.
وتظهر الفائدة فيما لو نسيهما إلى أن سعى، فعلى كونهما جزءاً من الشرط يتوقّف الحلّ عليهما، وعلى العدم لا، وهو الأجود.
ص: 234
الثانية: إذا قضى مناسكه يوم النحر فالأفضل المضي إلى مكّة للطواف والسعي ليومه، فإن أخره فمن غده، ويتأكد ذلك في حق المتمتّع، • فإن أخره أثم، ويجزئه طوافه وسعيه.
ويجوز للقارن والمفرد تأخير ذلك طول ذي الحجّة على كراهية.
الثالثة: الأفضل لمن مضى إلى مكّة للطواف والسعى الغسل، وتقليم الأظفار، وأخذ الشارب، والدعاء إذا وقف على باب المسجد.
-------------------------------------------------------------------
الثالث: قد تقدّم أنّ الحلق أو التقصير يحلّل من كلّ شيء إلا الطيب والنساء والصيد، والطواف الأوّل يحلّل من الطيب والثاني من النساء، فنفي الصيد غير معلوم من العبارة، وشاركها في ذلك أكثر العبارات تبعاً لإطلاق النصوص(1).
وفي حكمه حينئذٍ خلاف، فذكر العلّامة أنّه يحلّ بطواف النساء، وذكر أنّه مذهب علمائنا (2)، وتبعه عليه المتأخّرون. وروى الصدوق تحريم الصيد بعد طواف النساء (3). وصرّح ابن الجنيد بتحريم الصيد أيّام منى وإن أحلّ (4). والمختار الأوّل.
هذا كله حكم الصيد الذي حرمه الإحرام، وأما الذي حُرّم بالحرم فهو باق ما دام فيه.
قوله: «فإن أخره أثم، ويجزئه طوافه وسعيه».
أي أخّره عن الغد، وهو الحادي عشر، وقد تقدّم في كلام المصنّف جواز تأخيره إلى النفر الثاني، وأنّ الأصحّ جواز تأخيره طول ذي الحجّة على كراهية، كالقارن والمفرد.
ص: 235
وفيه ثلاثة مقاصد:
وهي واجبة ومندوبة.
• فالواجبات الطهارة. وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فالواجبات الطهارة».
موضع البحث الطواف الواجب، ووجوب الطهارة له واشتراطها فيه موضع وفاق. أما الطواف المندوب فهي من كماله على الأقوى، وجَعَلها العلّامة في النهاية من شرطه(1)، تبعاً لأبي الصلاح (2) ؛ لإطلاق قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الطواف بالبيت صلاة»(3)، وخصوص رواية محمد بن مسلم وزرارة وابنه عبيد(4)، مقيد بالواجب.
ولا فرق بين الطهارة المائية والترابية عند تعذّرها، ولا بين طهارة دائم الحدث وغيره.
قوله: «وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن».
لا فرق هنا بين الطواف الواجب والمندوب.
ص: 236
• وأن يكون مختوناً، ولا يعتبر في المرأة.
والمندوبات ثمانية: • الغسل لدخول مكة، فلو حصل عذر اغتسل بعد دخوله،
-------------------------------------------------------------------
ولو كانت النجاسة ممّا يُعفى عنه في الصلاة ففي العفو عنها هنا قولان، أجودهما العفو. وقطع ابن إدريس والعلّامة بعدمه(1).
وهو يتوجّه على أصلهما من تحريم إدخال النجاسة إلى المسجد وإن لم تكن ملوّثةً، فيكون الطواف حينئذٍ منهياً عنه، وهو يقتضي الفساد.
ومثله الكلام في الصلاة في المسجد كذلك.
وقد صرّح العلّامة ببطلانها في الخاتم النجس فيه، فضلا عن غيره؛ لمكان النهي(2).
وحيث قيّدت النجاسة بالملوّثة توجه العفو عنها مع عدمه.
قوله: «وأن يكون مختوناً، ولا يعتبر في المرأة».
إنّما يعتبر الختان مع إمكانه، فلو تعذّر ولو بضيق الوقت - كخوف فوت الوقوف - صحّ بدونه.
ومقتضى إخراج المرأة - بعد اعتباره في مطلق الطائف - استواء الرجل والصبي و الخنثى في ذلك، وفائدته في الصبيّ مع عدم التكليف في حقه بالختان كونه شرطاً في صحته، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة في حقّه.
وفي الدروس عكس العبارة، فجعل الختان شرطاً في الرجل المتمكن خاصّةً (3)، فيخرج (4) منه الصبيّ والخنثى، كما خرجت المرأة.
والأخبار خالية من غير الرجل والمرأة(5)، ولعلّ مختار الكتاب هو الأقوى.
قوله: «الغسل لدخول مكّة».
ص: 237
والأفضل أن يغتسل • من بئر ميمون أو من فخٍّ، وإلا ففي منزله، ومضغ الإذخر، • وأن يدخل مكّة من أعلاها،
-------------------------------------------------------------------
ويشترط في حصول وظيفته أن لا يحدث ما يوجب الوضوء بعده قبل الدخول، وإلّا أعاده، روى ذلك عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح، وإسحاق بن عمّار، عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
خلافاً لا بن إدريس حيث لم يعتبره (2)؛ تمسكاً بأصالة البراءة، وجوابه واضح.
قوله: «من بئر ميمون أو من فخ وإلّا ففى منزله».
بئر ميمون بالأبطح، وهو ميمون بن الحضرمي، حفره في الجاهلية، وفخٍّ على رأس فرسخ من مكّة للقادم من المدينة.
والمراد بقوله «وإلا ففي منزله» أنه لو تعذّر الغسل من هذه المواضع أو غيرها مما هو خارج عن مكّة اغتسل في منزله الذي ينزل به فيها.
وفي حكمه ما لو ترك الغسل خارجاً اختياراً، فإنه يغتسل في منزله وإن كان أقل فضلاً.
ويمكن دخوله في العبارة بأن يقدّر في قوله «وإلا» أي وإن لا يغتسل من هذه المواضع، أعمّ من كونه لعذرٍ وغيره، فإنّ «إلّا» هنا هي المركبة من «إنْ» الشرطية و «لا» النافية، والفاء هي الداخلة على جواب الشرط رابطة، وحينئذٍ فكما يمكن تقدير «وإن لا يمكن الغسل في هذه المواضع اغتسل في المنزل» يمكن أن يقدر «وإن لا يغتسل». وإن كان الأوّل هو المشهور في نظائرها.
قوله: «وأن يدخل مكّة من أعلاها».
من عقبة المدنيين؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(3). ولا فرق في ذلك بين المدني والشامي وغيرهما؛ خلافاً للفاضل(4).
ص: 238
• وأن يكون حافياً على سكينة ووقار، ويغتسل لدخول المسجد الحرام، • ويدخل من باب بني شيبة • بعد أن يقف عندها، ويسلّم على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ويدعو بالمأثور.
وهو يشتمل على واجب وندب.
فالواجب سبعة • النيّة، • والبداءة بالحَجَر،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وأن يكون حافياً».
ويستحب أن يكون نعله بيده، لا بيد غلامه، ولا في رحله.
قوله: «ويدخل من باب بني شيبة».
هو الآن داخل في المسجد بإزاء باب السلام وليس له علامة يخصه، فليدخل من باب السلام على الاستقامة إلى أن يتجاوز الأساطين، فإنّ توسعة المسجد من قربها.
وقد عُلّل استحباب الدخول منه أنّ هبل - بضمّ الهاء، وهو أعظم الأصنام - مدفون تحت عتبته، فإذا دخل منه وطئه برِجْله(1).
قوله: «بعد أن يقف عندها».
أي عند الباب المذكور، وهو باب بني شيبة، وتأنيث الباب غير مسموع.
قوله: «النيّة».
يجب فيها قصد الطواف بالبيت في الحجّ المعين من كونه إسلاميّاً أو غيره، تمتّعاً أو أحد قسيميه، وكذا القول في طواف العمرة، والوجه، والقربة، والمقارنة للحركة في الجزء الأوّل من الشوط.
قوله: «والبدأة بالحَجَر».
بأن يكون أوّل جزء منه محاذياً لأوّل جزء من مقاديم بدنه، بحيث يمرّ عليه بعد
ص: 239
• والختم به، وأن يطوف على يساره
-------------------------------------------------------------------
النيّة بجميع بدنه علماً أو ظنّاً.
والأفضل أن يستقبله حال النيّة بوجهه، ثم يأخذ في الحركة عقيب النيّة بغير فصل جاعلاً له على يساره. ولو جعله على يساره ابتداء جاز.
وقد صرّح بأفضلية الاستقبال جماعة من الأصحاب (1)، منهم الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس(2)، وحكاه في المختلف عن جماعة (3) ساكتاً عليه.
ولو لم يكن فيه من الفضل إلا ملاحظة التقيّة لكفى فيه، بل في وجوبه، كيف وقد اختاره أجلاء الأصحاب على غيره، وهو ظاهر الأخبار(4)، فإنّ النيّة لا تُذكر له فيها صريحاً كغيره من الأعمال على الخصوص، وإنّما يذكرون استقبال الحجر عند إرادة الطواف، وهو كاف.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ (رحمه اللّه) والعلّامة في المختلف(5)، أعني في تنزيل الأخبار على ذلك.
قوله «والختم به».
بأن يحاذيه في آخر شوطٍ كما ابتدأ أوّلاً؛ ليكمل الشوط من غير زيادة ولا نقصانٍ.
ولا فرق في الختم بين كونه على المحل الذي ابتدأ به، أم على غيره ممّا شاركه في المعنى، فلا يكفي تجاوزه بنيّة أنّ ما زاد على الشوط لا يكون جزءاً منه على وجه الإجمال (6). هذا هو الذي يقتضيه كلام الجماعة وإن كان الاكتفاء بذلك محتملاً.
ص: 240
• وأن يُدخل الحجر في الطواف، وأن يُكمله سبعاً، • وأن يكون بين البيت والمقام.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وأن يُدخل الحجر في الطواف».
مستند ذلك الأخبار الصحيحة(1)، والتأسي بالنبيّ والأئمة (صلوات اللّه عليهم). وليس عندنا معلّلاً بكونه من البيت، بل لما قلناه.
وفي بعض أخبارنا تعليل ذلك بكون أُم إسماعيل (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مدفونة فيه، وفيه قبور أنبياء (2).
وروى الصدوق في الفقيه والعلل: «أنه ليس في الحجر شيء من البيت ولا قلامة ظفر»(3)، ورواه زرارة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).
وروى العامة عن عائشة أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال لها: «إنّ من الحجر ستّة أذرع متّصلة بالبيت منه»(5)، فمُنعوا من سلوك ذلك، واختلفوا فيما زاد.
وعلى كلّ حالٍ فالإجماع واقع من المسلمين على أنّه ليس خارج الحجر شيء آخر يجب الخروج عنه، فيجوز الطواف خلفه ملاصقاً بحائطه من جميع الجهات.
وإنّما نبّهنا على ذلك؛ لأنه قد اشتهر بين العامة هناك اجتناب محلٍّ لا أصل له في الدين.
قوله: «وأن يكون بين البيت والمقام».
بمعنى كون الطواف في المحل الخارج عن جميع البيت والداخل عن جميع المقام.
وتجب مراعاة هذه النسبة من جميع الجهات، فلو خرج عنها ولو قليلاً بطل، ومن جهة الحِجر يحتسب المسافة من خارجه بأن ينزله منزلة البيت وإن قلنا بخروجه عنه، مع احتمال احتسابه منها على القول بخروجه وإن لم يجز سلوكه.
واعلم أنّ المقام حقيقةً هو العمود من الصخر الذي كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصعد عليه عند
ص: 241
• ولو مشى على أساس البيت أو حائط الحِجر لم يجزئه.
• ومن لوازمه ركعتا الطواف وهما واجبتان في الطواف الواجب.
-------------------------------------------------------------------
بنائه البيت ولكنّ اليوم عليه بناء يطلق على جميعه مع ما في داخله المقام عرفاً، وقد يستعمله الفقهاء في بعض عباراتهم.
وقد أطلقوا هنا كون الطواف بين البيت و المقام، وكذلك النصوص(1)، فهل المعتبر كونه بين البيت وحائط البناء الذي على المقام الأصلي، أم بينه وبين العمود المخصوص ؟ كلُّ محتمل، وإن كان الاستعمال الشرعي في الثاني أقوى.
قوله: «ولو مشى على أساس الحائط أو حائط الحجر لم يجزئه».
المراد به القدر الباقي من الحائط خارجاً، بعد عمّارته أخيراً، ويُسمّى الشاذروان، وظاهر الحال أنّه محيط بالبيت من جميع الجهات ولكن ذكر العلّامة في التذكرة أنه من الركن العراقي إلى الشامي (2)، وهو ظاهر عبارته في باقي كتبه؛ لأنه جعل الممنوع منه مسّ الحائط عند موازاة الشاذروان، وذلك يقتضي ظاهراً أنّ له محلاً آخر لا يوازيه فيه.
قوله: «ومن لوازمه ركعتا الطواف».
أي من لوازمه شرعاً، وجوباً في الواجب - كما هو ظاهر المبحث - وندباً في المندوب، لا يتخلّف وجوبهما أو ندبهما عنه وإن تخلّف فعلهما.
ويعتبر فيهما النيّة - كباقي الصلوات - المشتملة على تعيين الصلاة، والطواف المنسوب إلى الحجّ المخصوص أو العمرة، وكون الطواف للمنسك المعين أو للنساء، والوجه، والقربة.
وفي اشتراط نيّة الأداء وجهان، أصحهما العدم؛ لعدم وقوعهما على وجهين، فإنّ إطلاق القضاء عليهما عند تأخيرهما عن السعي مجاز لا حقيقة؛ إذ ليس لهما وقت مضروب شرعاً، ولا ريب أنّه أولى.
ص: 242
• ولو نسيهما وجب عليه الرجوع، ولو شقّ قضاهما حيث ذكر • ولو مات قضاهما الولى.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو نسيهما وجب عليه الرجوع، ولو شق قضاهما حيث ذكر».
المرجع في المشقة إلى العرف ولا يشترط التعذر، كما ذهب إليه بعض الأصحاب، منهم الشهيد في الدروس (1).
والظاهر تساوي الأقطار في جواز فعلهما عند مشقّة العود.
وفي الدروس: يجب العود إلى الحرم عند تعذّر العود إلى المقام (2).
والجاهل في ذلك كالناسي.
أمّا العامد فلم يتعرّضوا لذكره. والذي يقتضيه الأصل أن يجب عليه العود مع الإمكان، ومع التعذّر يصلّيها حيث أمكن.
وأوجب العلّامة الاستنابة في فعلها فيه عند تعذّر العود، وجعلها مما يستثنى من الصلاة الواجبة من عدم جواز النيابة فيها حال الحياة (3)، وفي بعض الأخبار (4) دلالة عليه، وإن كان فعلها مباشرةً حيث أمكن أقوى وأصحّ سنداً.
وهل يجب في فعلها حينئذٍ كونه في أشهر الحجّ؟ الظاهر ذلك، والنصوص والفتوى مطلقة.
ولا فرق في هذه الأحكام بين ركعتي طواف الحجّ والنساء والعمرة.
قوله: «ولو مات قضاهما الولي».
هو الوليّ الذي يقضي الصوم والصلاة. وقد تقدّم بيانه في الصوم(5). هذا إن تركهما الميت خاصةً، ولو ترك معهما الطواف ففي وجوبهما حينئذٍ عليه ويستنيب في الطواف، أم يستنيب عليهما معاً من ماله وجهان.
ص: 243
الأولى: • الزيادة على السبع في الطواف الواجب محظورة على الأظهر، وفي النافلة مكروهة.
الثانية: • الطهارة شرط في الواجب، دون الندب، حتى أنه يجوز ابتداءً المندوب مع عدم الطهارة وإن كانت الطهارة أفضل.
الثالثة: • يجب أن يصلي ركعتي الطواف في المقام حيث هو الآن، ولا يجوز
-------------------------------------------------------------------
ولعلّ وجوبهما عليه مطلقاً أقوى؛ لعموم قضاء ما فاته من الصلوات الواجبة(1)، أمّا الطواف فلا يجب عليه قضاؤه عنه قطعاً وإن كان بحكم الصلاة.
والكلام في قضائه عنه في المكان والزمان كما مر في فعله بنفسه.
قوله: «الزيادة على السبع في الطواف الواجب محظورة على الأظهر».
هذا هو الأقوى، وتتحقّق الزيادة ولو بخطوة، ويبطل بها الطواف إن وقعت عمداً، ولو كان سهواً لم يبطل، وسيأتي حكمه.
والظاهر أنّ الجاهل هنا كالعامد.
قوله: «الطهارة شرط في الواجب دون الندب».
هذا هو الأقوى، وقد تقدّم الكلام فيه، أمّا صلاة الطواف فيستوي واجبها ومندوبها في اشتراط الطهارة.
قوله: «يجب أن يصلي ركعتي الطواف في المقام - إلى قوله - إلى أحد جانبيه».
الأصل في المقام أنّه العمود الصخر الذي كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقف عليه حين بنائه للبيت، وأثر قدميه فيه إلى الآن، وقد كان في زمن إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ملاصقاً للبيت، بحذاء الموضع الذي هو فيه اليوم، ثمَّ نقله الناس بعده إلى موضعه الآن، فلمّا بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ردّه إلى الموضع
ص: 244
في غيره، فإن منعه زحام صلّى وراءه، أو إلى أحد جانبيه.
-------------------------------------------------------------------
الذي وضعه فيه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فما زال فيه حتى قُبض (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي زمن الأول وبعض زمن الثاني، ثمَّ ردّه بعد ذلك إلى الموضع الذي هو فيه الآن، روى ذلك كلّه سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، ثم بعد ذلك بنوا حوله بناء، وأطلقوا اسم المقام على ذلك البناء بسبب المجاورة، حتى صار إطلاقه على البناء كأنّه حقيقة عرفيّة.
وقد احترز المصنّف بقوله «حيث هو الآن» عن الصلاة في موضعه القديم، فإنّها غير مجزئة، وهو مصرَّح في النصوص(2).
إذا تقرر ذلك فنقول: قد عرفت أنّ المقام بالمعنى الأوّل لا يصلح ظرفاً مكانياً للصلاة على جهة الحقيقة؛ لعدم إمكان الصلاة عليه، وإنّما يصلى خلفه، أو إلى أحد جانبيه، وأمّا المقام بالمعنى الثاني فيمكن الصلاة فيه وفي أحد جانبيه وخلفه، فقول المصنّف «يجب أن يصلّي في المقام» إن أراد به المعنى الأوّل أشكل من جهة جعله ظرفاً مكانيّاً، ومن جهة قوله «ولا يجوز في غيره» فإنّ الصلاة خلفه وعن أحد جانبيه جائزة بل متعيّنة، ومن جهة قوله «فإن منعه زحام صلّى وراءه أو إلى أحد جانبيه» فإنّ الصلاة في هذين جائزة مع الزحام وغيره، ولو حُملت الصلاة فيه على الصلاة حوله مجازاً؛ تسمية له باسمه بسبب المجاورة، كان المقصود بالذات من الكلام الصلاة خلفه أو إلى أحد الجانبين مع الاختيار، فيشكل شرطه بعد ذلك جواز الصلاة فيهما بالاضطرار.
اللّهمّ إلّا أن يتكلّف لقوله خلفه أو إلى أحد جانبيه بما زاد عمّا حوله ممّا يقاربه عرفاً، و تصحّ الصلاة إليه اختياراً، بأن يجعل ذلك كله عبارة عن المقام مجازاً، وما خرج عن ذلك من المسجد الذي يناسب الخلف وأحد الجانبين يكون محلاً للصلاة مع الاضطرار والزحام، إلا أنّ هذا معنى بعيد وتكلّف زائد.
ص: 245
-------------------------------------------------------------------
وإن أراد المقام بالمعنى الثاني، وهو البناء المحيط بالصخرة المخصوصة، صح قوله «أن يصلي في المقام» ولكن يشكل بالأمرين الآخرين، فإنّ الصلاة في غيره أيضاً جائزة اختياراً، وهو ما جاوره عن أحد جانبيه وخلفه ممّا لا يخرج عن قرب الصخرة عرفاً، ولا يشترط فيه الزحام، بل هو الواقع لجميع الناس في أكثر الأعصُر.
وفي إرادة البناء فساد آخر، وهو أن المقام - كيف أطلق - يجب كون الصلاة خلفه أو عن أحد جانبيه، ومتى أطلق على البناء وفُرضت الصلاة إلى أحد جانبيه صح من غير اعتبار أن يكون عن جانب الصخرة، وهذا لا يصح؛ لأنّ المعتبر في ذلك إنما هو بالصخرة لا بالبناء، فإنّه هو مقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وموضع الشرف، وموضع إطلاق الشارع.
وأيضاً قوله «حيث هو الآن» احتراز عن محله قديماً كما تقدّم، والمقام المنقول هو الصخرة لا البناء كما لا يخفى
وهذا الإجمال أو القصور في المعنى مشترك بين أكثر العبارات وإن تفاوتت في ذلك.
ولقد كان الأُولى أن يقول: يجب أن يصلي خلف المقام أو إلى أحد جانبيه، فإن منعه زحام جاز التباعد عنه مع مراعاة الجانبين والوراء.
واعلم أنّ وجوب الصلاة في المقام - بأي معنى اعتبر - هو المشهور بين الأصحاب، وعليه إطباق المتأخّرين منهم.
وذهب الشيخ في الخلاف إلى جواز فعلهما في غير المقام (1)، وأبو الصلاح جعل محلّهما المسجد الحرام مطلقاً (2)، ووافقه ابنا بابويه في ركعتي طواف النساء خاصّة (3)، والعمل على المشهور.
وهذا كلّه في صلاة الفريضة، أمّا النافلة فيجوز فعلها حيث شاء من المسجد الحرام.
ص: 246
الرابعة: • من طاف في ثوب نجس مع العلم لم يصح طوافه، وإن لم يعلم ثمَّ علم في أثناء طوافه أزاله وتمّم، ولو لم يعلم حتى فرغ كان طوافه ماضياً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «من طاف في ثوب نجس مع العلم لم يصحّ - إلى قوله كان طوافه ماضياً».
مستند ذلك إطلاق قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الطواف بالبيت صلاة»(1)، خرج منه ما أجمع على عدم مشاركته لها فيه فيبقى الباقي ؛ حملاً لما تعذّر حمله على الحقيقة على أقرب المجازات إليها.
ويلزم من ذلك أن الناسى للنجاسة كذلك، وأنّه لا فرق بين الثوب والبدن، وأنّ الجاهل بالنجاسة إنّما يزيلها في الأثناء إذا لم يحتج إلى فعل يستدعي قطع الطواف، ولما يكمل أربعة أشواط، وإلا وجب الاستئناف.
قيل عليه : إنّ ذلك يتمّ إذا لم نوجب على المصلّي مع جهله بالنجاسة الإعادة في الوقت، وإلّا فينبغي وجوب الإعادة هنا مطلقاً، سواء ذكر في الأثناء أم بعد الفراغ(2).
وأُجيب بأنّ للصلاة وقتاً محدوداً شرعاً، بخلاف الطواف فإنّ وقته فعله، فإذا فرغ منه لم يبق له وقت(3).
ويشكل بأنّ مجموع ذي الحجّة وقت للطواف كما هو وقت لأفعال الحجّ، التي ليست موقّتةً بما هو أخص منه كالوقوفين، فما لم يخرج ذو الحجّة ينبغي الإعادة.
ولو قلنا بأنه لا يجوز تأخيره عن يوم الحادي عشر أمكن كون اليومين وقتاً له أيضاً.
ويجاب بأنّ ذلك كله لا يفيد التوقيت الشرعي، فإنّ المراد به ما كانت العبادة بعده قضاءً، كما يُعلم من الصلاة وغيرها، والطواف ليس كذلك؛ إذ لا قضاء له، فعلم أنّ ذلك كله لا يفيد التوقيت المحض.
ص: 247
الخامسة: • يجوز أن يصلي ركعتي طواف الفريضة ولو في الأوقات التي تكره لابتداء النوافل.
السادسة: • من نقص من طوافه فإن جاوز النصف رجع فأتم. • ولو عاد إلى أهله أمر من يطوف عنه.
-------------------------------------------------------------------
واعلم أنّ ضمير «أزاله» إن عاد إلى النجاسة كان على خلاف القياس الفصيح، وإن عاد إلى الثوب بمعنى نزعه وجب تقييده بما إذا كان عليه ساتر غيره، ولم يحتج إلى فعلٍ يستدعي قطع الطواف ولما يكمل أربعة أشواط، كما مر.
وكان الأُولى أن يقول «أزالها» فإنّ المعروف إزالة النجاسة لا الثوب.
قوله: «يجوز أن يصلي ركعتي طواف الفريضة ولو في الأوقات التي تكره لابتداء النوافل».
نبّه بذلك على خلاف بعضهم، حيث كرهها حينئذٍ (1)، وعندنا لا تكره الفريضة مطلقاً، ولا النافلة غير ما له سبب (2).
ويظهر من الجماعة أنّ نافلة صلاة الطواف مكروهة حينئذٍ، مع أنها في الحقيقة من ذوات الأسباب.
قوله: «من نقص من طوافه فإن جاوز النصف رجع فأتم».
من موضع القطع، ولو شكّ فيه أخذ بالاحتياط، وليس له البدأة بالركن لو كان النقص بعده، وقيل: يجوز (3)، وكذا لو استأنف من رأس.
والمراد بمجاوزة النصف أن يكمل أربعة أشواط، لا مطلق مجاوزته.
قوله: «ولو عاد إلى أهله أمر من يطوف عنه».
أي يطوف ما بقي منه.
ص: 248
• وإن كان دون ذلك استأنف.
وكذا من قطع طواف الفريضة لدخول البيت، أو بالسعي في حاجةٍ.
وكذا لو مرض في أثناء طوافه. ولو استمرّ مرضه بحيث لا يمكن أن يطاف به طِيف عنه.
• وكذا لو أحدث في طواف الفريضة.
-------------------------------------------------------------------
ويظهر من المصنّف وغيره (1) جواز الاستنابة هنا اختياراً، وبه صرّح في الدروس (2) ولا بأس به.
قوله: «وإن كان دون ذلك استأنف - إلى قوله - أو بالسعي في حاجة».
أي يعتبر في جميع ذلك مجاوزة النصف، وهو بلوغ الأربعة، فإن بلغها بني بعد زوال العذر، وإلّا استأنف.
وكذا القول فيما لو قطعه لصلاة فريضة دخل وقتها أو نافلة خاف فوت وقتها. وللمصنّف في النافع قول بجواز قطعه لصلاة الفريضة وإن لم يبلغ النصف، ويبني، وكذا لصلاة الوتر(3). وهو ضعيف.
ولا يجوز قطعه لغير الأسباب المذكورة. وحيث يقطعه يجب أن يحفظ موضعه، ليكمل منه بعد العود؛ حذراً من الزيادة والنقصان. ولو شكّ أخذ بالاحتياط، كما مرّ مع احتمال البطلان واحترز المصنّف بطواف الفريضة عن طواف النافلة، فإنّه يبني فيه إذا قطعه لذلك مطلقاً.
ولو كان القطع لا لعذر قبل بلوغ النصف استأنف مطلقاً.
قوله: «وكذا لو أحدث في طواف الفريضة».
أي يبني مع بلوغ الأربعة بعد الطهارة ومثله ما لو عرض له نجاسة أزالها وعاد إليه،
ص: 249
• ولو دخل في السعي فذكر أنّه لم يتم طوافه رجع فأتمّ طوافه إن كان تجاوز النصف، ثم تمّم السعي.
والندب خمسة عشر : الوقوف عند الحجر، وحمد اللّه والثناء عليه والصلاة على النبيّ وآله (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ورفع اليدين بالدعاء، • واستلام الحجر على الأصحّ، وتقبيله، فإن لم يقدر فبيده، ولو كانت مقطوعةً استلم بموضع القطع، ولو لم يكن له يد اقتصر على الإشارة، وأن يقول: «أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة، اللّهم تصديقاً بكتابك» إلى آخر الدعاء، وأن يكون في طوافه داعياً ذاكراً لله سبحانه على سكينةٍ ووقار،
-------------------------------------------------------------------
ويجب الاقتصار على قدر الحاجة عرفاً، ولا يجب التخفيف زيادة على المعتاد، ولو زاد عن قدر الحاجة فكالقطع لغير عذرٍ.
قوله: «ولو دخل في السعي فذكر أنه لم يتمّ طوافه رجع فأتم إلى قوله - ثمّ تمّم السعي».
ولو لم يكن تجاوز النصف أعاد الطواف والسعي ولا عبرة بتجاوز نصف السعي، بل يبني فيه إن بني على الطواف، ويستأنفه حيث يستأنفه.
قوله: «واستلام الحجر على الأصح».
نبّه بالأصح على خلاف سلار حيث أوجبه(1)، والأصحّ المشهور.
والمستحبّ استلامه بكلّ ما أمكن من،بدنه، كبطنه ووجهه ويديه.
وكذا يستحبّ تقبيله ولا يجب، خلافاً لسلّار (2)، ولو لم يتمكّن من تقبيله استلمه بيده ثمَّ قبّلها، فإن لم يمكن أشار إليه.
والاستلام - بغير همز - المسّ افتعال من السلام - بالكسر - وهي الحجارة، فإذا مس الحجر بيده ومسحه بها قيل: استلم أي مسّ السلام، أو من السلام - بالفتح - وهو التحيّة،
ص: 250
• مقتصداً في مشيه، وقيل: يرمل ثلاثاً ويمشي أربعاً، وأن يقول: «اللّهم إنّي أسألك باسمك الذي يمشى به على ظلل الماء» إلى آخر الدعاء.
-------------------------------------------------------------------
أي أنه يحيّي نفسه عن الحجر ؛ إذ ليس الحجر ممّن يحييه، وهذا كما يقال: اختدم، إذا لم يكن له خادم سوى نفسه.
وحكى ثعلب بالهمز، وفسره بأنه اتخذه جنّةٌ و سلاحاً، من اللأمة، وهي الدرع(1).
قوله «مقتصداً في مشيه، وقيل: يرمل ثلاثاً ويمشى أربعاً».
الاقتصاد في المشي التوسط فيه بين الإسراع والبطء.
والقول باستحباب القصد فيه مطلقاً هو المشهور بين الأصحاب؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مشي بين المشيين» (2).
والقول باستحباب الرمل في الثلاثة الأُول والمشي في الأربعة الباقية قول الشيح (رَحمهُ اللّه) في المبسوط (3)، ومحلّه طواف القدوم خاصّةً، وهو أوّل طواف يأتي به القادم إلى مكّة، واجباً كان أو مندوباً: لما رواه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن جابر، أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رمل ثلاثاً ومشى أربعاً(4).
والسبب فيه قول ابن عباس: قدم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مكة، فقال المشركون إنّه يقدم عليكم قوم تنهكهم الحُمّى(5)، ولقوا منها شراً، فأمرهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يرملوا الأشواط الثلاثة، فلما رأوهم قال المشركون ما نراهم إلا كالغزلان(6).
والرمل - بفتح الميم - هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى، دون الوثوب والعَدْو، ويُسمّى الخبب.
ص: 251
• وأن يلتزم المستجار فى الشوط السابع، ويبسط يديه على حائطه، ويلصق به بطنه وخدّه، ويدعو بالدعاء المأثور.
-------------------------------------------------------------------
وإنّما يستحب - على القول به - للرجل الصحيح، دون المرأة والخنثى والمريض، بشرط أن لا يؤذي غيره، ولا يتأذى هو.
ولو كان راكباً حرّك دابته.
ولا فرق بين الركنين اليمانيين وغيرهما عندنا، وعند بعض العامة يمشي بين الركنين في الأشواط الثلاثة (1).
ولو تركه في الأشواط أو بعضها لم يقضه، بل يأتي به فيما بقي من الثلاثة.
ولو دار الأمر بين الرمل متباعداً عن البيت وتركه متدانياً منه ففي ترجيح أيّهما نظر؛ لكونهما مندوبين تعارضا.
ويمكن ترجيح الرمل، وبه قطع في التذكرة (2)؛ لأنه متعلّق بنفس العبادة، فهو ذاتي، والقرب متعلق بموضعها فهو عرضي.
ووجه ترجيح الثاني أن استحباب التداني متّفق عليه، بخلاف الرمل، فكان أولى.
قوله: «وأن يلتزم المستجار في الشوط السابع».
المستجار جزء من حائط الكعبة بحذاء الباب دون الركن اليماني بقليل.
ويستحبّ بسط اليدين عليه، وإلصاق البطن والخدّ به، والإقرار لله بالذنوب مفصلةٌ، فإنّه ليس من عبد مؤمن يُقرّ لربّه بذنوبه في هذا المكان إلا غفر اللّه له إن شاء اللّه، رواه معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
ص: 252
• ولو جاوز المستجار لم يرجع.
• وأن يلتزم الأركان كلّها، وآكدها الذي فيه الحجر واليماني.
-------------------------------------------------------------------
ومتى استلم أو التزم حفظ الموضع الذي انتهى إليه طوافه، بأن يثبت رجليه فيه، ولا يتقدم بهما حالتهما ولا يتأخر ليرجع إليه عند اعتداله؛ حذراً من الزيادة في الطواف أو النقصان.
قوله: «ولو جاوز المستجار لم يرجع».
لاستلزام الرجوع زيادة في الطواف، وهو غير جائزٍ.
وقيل: يرجع مستحباً ما لم يبلغ الركن اليماني (1): لصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
قوله: «وأن يلتزم الأركان كلّها، وآكدها الذي فيه الحجر واليماني».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، وبه أخبار صحيحة(3).
وذهب ابن الجنيد إلى استحباب استلام الركنين المذكورين والمنع من استلام الشامي والغربي (4)؛ وأوجب سلار استلام اليماني (5). والعمل على المشهور.
وإنما كان استلام الركنين آكد؛ لمواظبة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على استلامهما (6).
وفي صحيحة جميل بن صالح عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «كنت أطوف بالبيت، فإذا رجل :يقول ما بال هذين الركنين يُستلمان ولا يُستلم هذان؟ فقلت: إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) استلم
ص: 253
ويستحبّ أن يطوف ثلاثمائة وستين طوافاً،• فإن لم يتمكّن فثلاثمائة وستّين شوطاً، ويلحق الزيادة بالطواف الأخير، ويسقط الكراهية هنا بهذا الاعتبار، وأن يقرأ في ركعتي الطواف في الأُولى مع الحمد «قل هو اللّه أحد»، وفي الثانية معه «قل يا أيها الكافرون».
-------------------------------------------------------------------
هذين ولم يعرّض لهذين، فلا تعرّض لهما؛ إذ لم يعرّض لهما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)». قال جميل: ورأيت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يستلم الأركان كلّها(1).
:وقيل: لأنهما على قواعد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2)، وهو يشعر بكون البيت مختصراً من جانب الحجر، وقد تقدّم الكلام فيه.
وروى الصدوق في العلل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لما انتهى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الركن الغربي قال له الركن يا رسول اللّه، ألست قعيداً من قواعد بيت ربِّك فما لي لا أُستلم؟ فدنا منه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال له: «اسكن عليك السلام غير مهجورٍ»(3). وفي هذه الأخبار إشعار بما أسلفناه في الحجر ؛ فلذلك ذكرناها.
واعلم أنّ اليماني بتخفيف الياء؛ لأنّ الألف فيه عوض عن ياء النسبة على اللغة المشهورة، ولو قيل: «اليمني» لشدّدت على الأصل.
قوله: «فإن لم يتمكّن فثلاثمائة وستين شوطاً، ويلحق الزيادة بالطواف الأخير، ويسقط الكراهية هنا بهذا الاعتبار».
هذا هو المشهور وقوفاً مع ظاهر النص(4)، فيكون الأخير عشرة أشواط، ويكون مستثنى
ص: 254
• ومن زاد على السبعة سهواً أكملها أسبوعين. • وصلّى الفريضة أولاً، وركعتي النافلة بعد الفراغ من السعي.
-------------------------------------------------------------------
من كراهة القران في النافلة، باعتبار استحباب ثلاثمائة وستّين شوطاً عدد أيّام السنة. وزاد ابن زهرة أربعة أشواط (1)؛ ليصير الأخير طوافاً كاملاً، حذراً من الكراهة، وليوافق عدد أيّام السنة الشمسيّة. وفي بعض الأخبار إشارة إليه؛ لأنّ البزنطي ذكر في جامعه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه اثنان وخمسون طوافاً (2).
وكلا الأمرين جائز؛ لدلالة النقل عليه.
قوله: «ومن زاد على السبعة سهواً أكملها أُسبوعين».
إنّما يُكملها أُسبوعين إذا لم يذكر حتى بلغ الحجر، بأن أكمل شوطاً فصاعداً، فلو ذكر قبل ذلك قطع وجوباً، ولو زاد حينئذٍ بطل.
وفي صورة الإكمال يعتبر النيّة للأسبوع الثاني من الآن، ويكون النيّة بالنسبة إلى ما مضى كنيّة العدول في الصلاة بالنسبة إلى تأثيرها فيما سبق.
ويحتمل ضعيفاً الاكتفاء بالنيّة للباقي خاصّةً.
وأضعف منه الاكتفاء بالنيّة الأولى، نظير ما ورد من أنّ من زاد في صلاته ركعة، وقد قعد عقيب الرابعة بقدر التشهد يضم إليها أخرى، وتكون صلاة منفردةً (3). وفي المشبه به منع.
قوله: «وصلّى الفريضة أولاً، وركعتي النافلة بعد الفراغ من السعي».
الظاهر أنّ ذلك على سبيل الأفضلية؛ إذ لا يجب البدار بالسعي على الفور بل يستحبّ، فلو قدّم ركعتي النافلة على السعي جاز أيضاً، بل لو قدّمهما على الفريضة صح؛ بناءً على جواز النافلة لمن عليه فريضة ما لم تضرّ بوقتها.
ص: 255
• وأن يتدانى من البيت.
ويكره الكلام في الطواف بغير الدعاء والقراءة.
وفيه اثنتا عشرة مسألةً:
الأُولى: • الطواف ركن، من تركه عامداً بطل حجّه، ومن تركه ناسيا قضاه ولو بعد المناسك.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وأن يتدانى من البيت».
قد ورد في الخبر عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أن للطائف بكل خطوة سبعين ألف حسنة»(1) الحديث. والتباعد عن البيت يوجب زيادة الخطى، فيتعارض هنا أمران، كما سبق في نظائره ولكن التداني من البيت أفضلهما وإن نقصت الخطى، ولا بعد في كون الثواب المخصوص مشتركاً بين الخطى وإن اختص بعضها بزيادة غير مقدّرة، كما يشترك المساجد في قدرٍ معيّنٍ من مضاعفة الصلوات (2) مع القطع بأفضليّة بعضها على بعض، وذلك يستلزم زيادة الثواب فيه، لكن لا تقدير له، ونظائره كثيرة.
قوله: «الطواف ركن من تركه عامداً بطل حجه ومن تركه ناسياً قضاء ولو بعد المناسك».
المراد به غير طواف النساء، فإنّه ليس بركن إجماعاً، والمراد بالركن هنا ما يبطل الحجّ بتركه عمداً خاصةً، وفي وقت تحقق البطلان بتركه خفاء، فإنّ مقتضى قوله «ومن تركه ناسياً قضاه ولو بعد المناسك» أنّ العامد يبطل حجّه متى فعل المناسك بعده. وقد ذكر جماعة من الأصحاب (3) أنه لو قدّم السعي على الطواف عمداً بطل السعي، ووجب عليه الطواف ثمَّ و السعي، فدل على عدم بطلان الحجّ بمجرد تأخير الطواف عمداً.
ص: 256
-------------------------------------------------------------------
ويقوى توقف البطلان على خروج وقت الحجّ، وهو ذو الحجّة؛ لأنه وقت لوقوع الأفعال في الجملة، خصوصاً الطواف والسعي فإنه لو أخرهما طول ذي الحجّة صح، وغاية ما يقال: إنه يأثم، وقد تقدم.
وفي حكم خروج الشهر انتقال الحاجّ إلى محلّ يتعذّر عليه العود في الشهر، فإنّه يتحقّق البطلان حينئذٍ وإن لم يخرج، هذا في الحجّ.
وأما العمرة فإن كانت عمرة التمتّع كان بطلانها بفواته عمداً متحققاً بحضور الموقفين بحيث يضيق الوقت إلا عن التلبس بالحجّ ولمّا يفعله. وإن كانت مفردةً فبخروج السنة إن كانت المجامعة لحج الإفراد أو القرآن، ولو كانت مجرّدةً عنه فإشكال؛ إذ يحتمل حينئذٍ بطلانها بخروجه عن مكّة ولمّا يفعله.
ويحتمل أن يتحقّق في الجميع تركه بنية الإعراض عنه، وأن يرجع فيه إلى ما يعدّ تركاً عرفاً، والمسألة موضع إشكال.
والمراد بالقضاء في الناسي الإتيان بالفعل لا القضاء بالمعنى المعروف شرعاً، وهو فعل الشيء خارج وقته؛ إذ لا توقيت هنا حقيقيّاً.
والجاهل هنا كالعامد. لكن روى عليّ بن جعفر عن أخيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنّ عليه مع إعادة الحجّ بدنةً»(1). ولم يذكرها كثير من الأصحاب.
قال في الدروس وفي وجوب هذه البدنة على العالم نظر من الأولويّة(2). والأخبار الدالة على حكم العالم خالية عنها. ويمكن اختصاص الجاهل بها بسبب تقصيره في التعلم، فالأولوية في موضع النظر.
ص: 257
• ولو تعذّر العود استناب فيه.
ومن شك في عدده بعد انصرافه لم يلتفت، • وإن كان في أثنائه وكان شاكاً في الزيادة قطع ولا شيء عليه.
وإن كان في النقصان استأنف في الفريضة، وبنى على الأقل في النافلة.
الثانية: • من زاد على السبع ناسيا وذكر قبل بلوغه الركن قطع، ولا شيء عليه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو تعذّر العود استناب فيه».
الأُولى أن يراد بالتعذر المشقة الكثيرة، كما اختاره في الدروس(1). ويحتمل أن يريد به عجزه عن استطاعة الحجّ الشرعيّة ومطلق الإمكان.
قوله: «ولو (2) كان في أثنائه وكان شكاً في الزيادة - إلى قوله - على الأقل في النافلة».
إنّما يقطع مع شكّ الزيادة إذا كان على منتهى الشوط، أما لو كان في أثنائه بطل طوافه؛ لتردّده بین محذورين: الإكمال المحتمل للزيادة عمداً، والقطع المحتمل للنقيصة.
ويمكن دخول هذا القيد في قوله: «وإن كان في النقصان استأنف»؛ لرجوعه في الحقيقة إليه، فإنّ الشك في النقصان أعم منه.
والبناء في النافلة على الأقلّ مطلقاً هو الأفضل، ولو بنى على الأكثر حيث لا يستلزم الزيادة جاز أيضاً كنفل الصلاة، وهو مروىٌّ هنا(3).
قوله: «من زاد على السبع ناسياً وذكر قبل بلوغه الركن قطع ولا شيء عليه».
هذا كالمقيّد لما سبق من قوله «ومن زاد على السبعة سهواً أكملها أسبوعين» فإن الزيادة عليها تصدق بخطوة، مع عدم ثبوت الحكم، فإنه لو ذكر قبل بلوغ الحجر يجب عليه أن يقطع، ولو زاد ولو يسيراً بطل طوافه، وقد دلّ على التفصيل رواية أبي كهمس عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).
ص: 258
الثالثة: من طاف وذكر أنه لم يتطهر أعاد في الفريضة دون النافلة، ويعيد صلاة الطواف الواجب واجباً، والندب ندباً.
الرابعة: • من نسي طواف الزيارة حتى رجع إلى أهله وواقع، قيل: عليه بدنة والرجوع إلى مكّة للطواف. وقيل: لا كفّارة عليه، وهو الأصح ويُحمل القول الأوّل على من واقع بعد الذكر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «من نسي طواف الزيارة حتى رجع إلى أهله وواقع، قيل عليه بدنة والرجوع إلى مكّة للطواف» إلى آخره.
مستند الإطلاق صحيحة العيص، وحسنة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بوجوبها (1) من غير تقييد بالعلم. وإليه ذهب الشيخ (رحمه اللّه)(2).
والأصحّ تقييد الوجوب بما لو واقع بعد العلم؛ لأنّ الناسي معذور، والكفّارة لا تجب في غير الصيد على الناسي والرواية مشعرة به فتُحمل عليه.
وفي قول المصنّف «ويُحمل القول الأوّل على من واقع بعد الذكر» تسامح؛ فإنّ الذي يناسب حمله على ذلك الرواية لا القول، كما في غيره، فإنّ المصنّف لما حكم بخلاف ما دلّت عليه الرواية مع صحتها أو حسنها احتاج إلى حملها، وأما القول فإن قائله يريد الإطلاق؛ نظراً إلى ما فهمه من إطلاق الرواية، فإذا خالفه المصنّف لا يحتاج إلى أن يحمله على شيء، مع أنّ الخلاف متحقّق والحمل ينافيه، وكأنّه لمّا استبعد القول حمله على ما يوافق الأُصول، وهو يستلزم حمل الرواية؛ لأنّها مستندة.
وقوله «والرجوع إلى مكّة للطواف» إنما يجب عليه ذلك مع القدرة، كما مر، فلو تعذّر استناب.
ولو تكرّر الوطء عمداً تكرّرت الكفّارة.
ص: 259
• ولو نسي طواف النساء جاز أن يستنيب، ولو مات قضاه وليه وجوباً.
الخامسة: • من طاف كان بالخيار في تأخير السعي إلى الغد، ثم لا يجوز مع القدرة.
السادسة: يجب على المتمتّع تأخير الطواف والسعي حتى يقف بالموقفين، ويقضي مناسك يوم النحر، • ولا يجوز التعجيل، إلّا للمريض، والمرأة التي تخاف الحيض، والشيخ العاجز.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو نسي طواف النساء جاز أن يستنيب».
لا يشترط في جواز الاستنابة هنا تعذّر العود، بل يجوز وإن أمكن لكن يشترط في جوازها أن لا يتّفق عوده، وإلّا لم يجز.
ولو تعمّد تركه وجب العود مع الإمكان كغيره؛ لأن جواز الاستنابة مع الاختيار على خلاف الأصل، فيقتصر فيه على مورد النصّ(1)، وهو النسيان والجاهل عامد.
قوله: «من طاف كان بالخيار في تأخير السعي إلى الغد، ثمَّ لا يجوز مع القدرة».
أي لا يجوز تأخيره عن الغد اختياراً، فيأثم لو أخره ويجزئ. والأصحّ عدم جواز تأخيره إلى الغد أيضاً؛ للنصّ(2). نعم، يجوز تأخيره ساعةً وساعتين للراحة ونحوها، كما ورد في الأخبار(3).
قوله: «ولا يجوز التعجيل إلا للمريض والمرأة التي تخاف الحيض والشيخ العاجز».
لا يختصّ الحكم بمن ذكر، بل يعم كلّ مضطرٍّ، وإنما خصّ المصنّف الثلاثة؛ لأنها مورد النصّ (4).
ص: 260
• ويجوز التقديم للقارن والمفرد على كراهية.
السابعة: • لا يجوز تقديم طواف النساء على السعي لمتمتّع ولا لغيره اختياراً، ويجوز مع الضرورة والخوف من الحيض.
الثامنة: • من قدّم طواف النساء على السعى ساهياً أجزأه، ولو كان عامداً لم يجزئ.
التاسعة: • قيل: لا يجوز الطواف وعلى الطائف برطلة، ومنهم من خصّ ذلك بطواف العمرة؛ نظراً إلى تحريم تغطية الرأس.
-------------------------------------------------------------------
والمراد بخوف المريض والشيخ من الزحام بعد العود، بحيث يحصل لهما بذلك مشقّة بالغة، وبخوف المرأة وقوع الحيض بعد العود، أن تكون معتادة لذلك، أو مضطربةً لا ضابط لها.
وفي إلحاق المعتادة التي تستفيد من عادتها تأخره عن يوم النحر، لكن خافت تقدّمه بسبب الحرارة ونحوها وجه قويّ.
ولو قدّمته فاتفق تأخره عن وقته لم يجب عليها إعادة؛ لامتثالها المأمور به على وجهه المقتضى للإجزاء.
قوله «ويجوز التقديم للقارن والمفرد على كراهية».
المراد أنه يجوز لهما التقديم اختياراً، أمّا مع الضرورة فتنتفي الكراهة.
قوله: «لا يجوز تقديم طواف النساء على السعي» إلى آخره.
الضرورة المجوّزة لتقديمه هي المجوّزة لتقديم طواف الحجّ للمتمتّع، وقد مرّ تفصيلها.
قوله: «من قدم طواف النساء على السعى ساهياً أجزأ ولو كان عامداً لم يجزئ».
وهل يلحق الجاهل بالعامد أو بالساهي؟ وجهان، أجودهما الأوّل، فيجب عليه الإعادة.
قوله: «قيل: لا يجوز الطواف وعلى الطائف برطُلّة - إلى قوله - تحريم تغطية الرأس».
البُرطُلّة - بضم الباء والطاء، وإسكان الراء، وتشديد اللام المفتوحة - قلنسوة طويلة كانت تُلبس قديماً.
ص: 261
العاشرة • من نذر أن يطوف على أربع قيل: يجب عليه طوافان، وقيل : لا ينعقد النذر، وربما قيل بالأوّل إذا كان الناذر امرأةٌ : اقتصاراً على مورد النقل.
الحادية عشرة: • لا بأس أن يعوّل الرجل على غيره في تعداد الطواف؛ لأنّه كالأمارة، ولو شكّا جميعاً عوّلا على الأحكام المتقدّمة.
-------------------------------------------------------------------
وقد روي في علة النهي عنها أنها من زيّ اليهود(1).
والأصحّ أن تحريم لُبسها مخصوص بطواف يجب كشف الرأس فيه، كطواف العمرة؛ لضعف الروايات (2) الدالّة عليه مطلقاً. نعم، يكره في غيره؛ خروجاً من خلاف المانع، وتساهلاً بأدلّة الكراهة.
وعلى تقدير التحريم لا يقدح في صحة الطواف؛ لأنّ النهي عن وصف خارج عنه، وكذا القول في لُبس المخيط.
قوله: «من نذر أن يطوف على أربع إلى قوله - اقتصاراً على مورد النقل».
[النقل] بذلك ورد في روايتين ضعيفتين(3)، فبطلان النذر حينئذٍ متجه؛ لأنّ هذه الصفة غير متعبد بها ولا مشروعة.
قوله: «لا بأس أن يعوّل الرجل على غيره في تعداد الطواف؛ لأنه كالأمارة».
مستند الحكم رواية سعيد الأعرج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).
وتعليل المصنّف «أنّه كالأمارة» يشعر باشتراط ظنّ صدقه، فإنّ مطلق الخبر قد لا يكون كالأمارة، والرواية مطلقة.
ص: 262
الثانية عشرة: • طواف النساء واجب في الحجّ والعمرة المفردة دون المتمتّع بها، وهو لازم للرجال والنساء والصبيان والخناثي.
-------------------------------------------------------------------
ويشترط في الحافظ البلوغ والعقل، لا الذكورة والحُرّيّة. وهل يشترط العدالة؟ وجهان وظاهر الخبر العدم، وبه قطع في الدروس(1).
ولا فرق بين أن يكون الحافظ طائفاً أو لا. وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين أن يطلب الطائف منه الحفظ وعدمه، والخبر مطلق أيضاً. وإنما خصه المصنّف بالرجل؛ لأنّه مورد النصّ (2)، والوجه عدم الفرق بينه وبين غيره.
ولو اختلف شكّهما رجع الطائف إلى شك نفسه، ولزمه مقتضاه.
قوله: «طواف النساء واجب في الحجّ والعمرة المفردة» إلى آخره.
إنّما خصه بالذكر مع أنّ غيره كذلك؛ لدفع توهّم اختصاصه بمن يباشر النساء، بخلاف غيره، فإنه ليس موضع الوهم.
وإنّما عدل إلى قوله « لازم» ليشمل الواجب وغيره؛ لأنّ الصبيان لا يخاطبون به على وجه الوجوب؛ لعدم التكليف في حقّهم، بل يلزمون به تمريناً، فلو أخلوا به حرمت عليهم النساء بعد البلوغ.
ولو كان الصبيّ غير مميز طاف الولي به كما مر، ويلزمه حكم الترك لو ترك إلى أن يقضى.
ص: 263
ومقدّماته عشرة كلّها مندوبة
• الطهارة، • واستلام الحجر والشرب من زمزم والصبّ على الجسد من مائها من الدلو المقابل للحجر، • وأن يخرج من الباب المحاذي للحجر، • وأن يصعد الصفا، ويستقبل الركن العراقي، ويحمد اللّه ويثني عليه،
-------------------------------------------------------------------
قوله في السعى: «الطهارة».
لا فرق في استحبابها بين الواجب والمندوب على أشهر القولين وأصحّهما، والرواية الصحيحة (1) ناطقة به.
قوله: «واستلام الحجر».
المراد به بعد الطواف عند إرادة السعي، وكذا الشرب من زمزم وتوابعه.
قوله: «وأن يخرج من الباب المحاذي للحجر».
تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2)، وهو الآن في داخل المسجد بسبب توسعته كما ذكرناه في باب بني شيبة، إلا أنه معلم بأسطوانتين، فليخرج من بينهما.
وينبغي بعد ذلك الخروج من الباب الموازي له المعروف الآن بباب الصفا.
قوله: «وأن يصعد الصفا».
بحيث يرى البيت من بابه ويحصل ذلك بالدرجة الرابعة.
ص: 264
• وأن يطيل الوقوف على الصفا ويكبر اللّه سبعاً ويهلله سبعاً ويقول: «لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير» ثلاثاً، ويدعو بالدعاء المأثور.
• والواجب فيه أربعة : النيّة، والبداءة بالصفا والختم بالمروة، • وأن يسعى سبعاً، يحتسب ذهابه شوطاً وعوده آخر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وأن يطيل الوقوف على الصفا».
بقدر قراءة سورة البقرة مترسلاً؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(1).
وقد روي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنّ من أراد أن يكثر ماله فليطل الوقوف على الصفا»(2).
قوله: «والواجب فيه أربعة: النيّة».
ويجب اشتمالها على مميّزات الفعل، كما مرّ في غيره، والوجه والقربة، واستدامتها حكماً إلى الفراغ، ومقارنتها للصفا، بأن يصعد عليه فيجزئ أي جزء كان منه، أو يلصق عقبه به إن لم يصعد، فإذا وصل إلى المروة ألصق أصابع رجليه بها، أو دخلها كذلك ليستوعب المسافة التي بينهما، فإذا عاد إلى الصفا ألصق عقبه بالمروة إن لم يكن في داخلها، وهكذا القول في كلّ شوط ذهاباً وعوداً. ويجب الحركة بعدها بغير فصل، لتكون مقارنةً لأوّل العبادة كالطواف.
قوله: «وأن يسعى سبعاً، يحتسب ذهابه شوطاً وعوده آخر».
فلو احتسبهما معاً شوطاً ناسياً لم يضر، وجاهلاً أخطأ.
وفي روايتين حسنتين، وأُخرى صحيحة أنه يطرح الزائد، ولا شيء عليه (3).
ص: 265
والمستحبّ أربعة: أن يكون ماشياً، ولو كان راكباً جاز، والمشي على طرفيه، • والهرولة ما بين المنارة وزقاق العطارين ماشياً كان أو راكباً.
• ولو نسي الهرولة رجع القهقرى وهرول موضعها، والدعاء في سعيه ماشياً ومهرولاً.
-------------------------------------------------------------------
ولا فرق بين ريادة سبعة وأقلّ وأكثر.
قوله: «والهرولة ما بين المباره ورقاق العطارين».
المراد بالهرولة السرعة في المشي، وقد يطلق عليه الرمل أيضاً، فيقارب خطاه مع ذلك. وعلل استحباب الهرولة في المكان المذكور بأنه شعبة من وادي محسّر، فاستحب قطعه بالهرولة، كما يستحب قطع وادي محسّر بها(1).
وهذا الحكم مختص بالرجل، وفي حكمه الصبي، دون المرأة.
قوله: «ولو نسى الهرولة رحع القهقرى وهرول موضعها».
القهقرى - بفتح القافين والراء وإسكان الهاء - المشى إلى خلف من غير التفات بالوجه. والرجوع على هذا الوجه ذكره الأصحاب كذلك، وظاهرهم وجوب الهيئة، بمعنى أنّه لا يصح أن يمشي بوجهه، والرواية مشعرة به أيضاً؛ لأنّه قال فيها: «فلا يصرف وجهه منصرفاً ولكن يرجع القهقرى»(2).
ويمكن أن يريد به الاستحباب كالأصل.
وعلى كل حال لو عاد بوجهه أجزأ، وإنّما الكلام فى الإثم.
وهل استحباب العود مخصوص بمن ذكر تركها في ذلك الشوط، أم يرجع إلى الشوط الذي نسيها فيه وإن تجاوزه ؟ الظاهر الأوّل، وكلام الجماعة مطلق، والرواية قد تدلّ على الثاني.
ص: 266
• ولا بأس أن يجلس في خلال السعى للراحة.
ويلحق بهذا الباب مسائل:
الأُولى: • السعي ركن من تركه عامداً بطل حجّه. ولو كان ناسياً وجب عليه الإتيان به، فإن خرج عاد ليأتي به، • فإن تعذّر عليه استناب فيه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا بأس أن يجلس في خلال السعي للراحة».
هذا هو المشهور، وصحيحة الحلبي (1) صريحة فيه.
وذهب بعض الأصحاب إلى تحريم الجلوس في غير الصفا والمروة وإن أعيا، وجوّز الوقوف كذلك (2): لرواية (3) قاصرة الدلالة.
وكذا يجوز قطعه للصلاة وقضاء حاجةٍ له ولغيره، ويكره لغير ضرورة؛ لأنّ الموالاة لا تجب فيه إجماعاً، نقله العلّامة في التذكرة(4)، مع أنه قد نقل(5) عن جماعة وجوبها، كالطواف.
قوله: «السعى ركن من تركه عامداً بطل حجّه».
الكلام في تحقيق ركنيّته هنا كما سبق في الطواف، فليلاحظ هناك.
قوله: «ولو كان ناسياً وجب عليه الإتيان به».
وفي إلحاق الجاهل بالعامد أو بالناسي وجهان أجودهما الأوّل.
قوله: «فإن تعذّر عليه استناب فيه».
ص: 267
الثانية: لا يجوز الزيادة على سبع، • ولو زاد عامداً بطل، • ولا يبطل بالزيادة سهواً.
• ومن تيقن عدد الأشواط وشك فيما به بدأ، فإن كان في المزدوج على الصفا فقد صح سعيه؛ لأنه بدأ به، وإن كان على المروة أعاد.
• وينعكس الحكم مع انعكاس الفرض.
-------------------------------------------------------------------
المراد بالتعذّر المشقة البالغة، كما تقدّم في الطواف مع احتمال إرادة التعذّر الحقيقي، أعنى عدم الإمكان.
قوله: «ولو زاد عامداً بطل».
يتحقّق البطلان بزيادة خطوة واحدة فيه.
قوله: «ولا يبطل بالزيادة سهوا».
لكن إن تذكر قبل إكمال الشوط الثامن وجب القطع حينئذٍ، فإن لم يقطع بطل سعيه، وإن لم يذكر حتى أكمل الثامن تخيّر بين القطع وإهدار الثامن وبين إكمال أسبوعين، ويكون الثاني مستحبّاً، ولم يشرع استحباب السعى إلا هنا، ولا يشرع ابتداء مطلقاً.
وأطلق الأكثر جواز إكمال أسبوعين لمن زاد سهواً من غير تقييد بإكمال شوط.
قوله: «ومن تيقن عدد الأشواط وشك فيما به بدأ، فإن كان في المزدوج» إلى آخره. هذا إنما يكون شكّاً في ابتداء الأمر، وإلا فبعد العلم يكون عدده زوجاً وهو على الصفا تتحقّق البدأة به، فلا يكون من الشكّ في شيء، إلا بالاعتبار الذي ذكرناه.
ومثله ما لو تيقن الطهارة والحدث متحدين متعاقبين، وشكّ في السابق منهما مع علمه بحاله قبلهما.
قوله: «وينعكس الحكم مع انعكاس الفرض».
المراد بانعكاس الفرض والحكم أنه إن كان في المفرد على الصفا أعاد، وإن كان على المروة صح سعيه؛ لأنه يكون قد بدأ بالمروة في الأوّل، وبالصفا في الثاني.
ص: 268
الثالثة: • من لم يحصل عدد سعيه أعاده، • ومن تيقن النقيصة أتى بها.
• ولو كان متمتّعاً بالعمرة وظنّ أنّه أتم فأحلّ وواقع النساء ثم ذكر ما نقص، كان عليه دم بقرة على روايةٍ، ويُتمّ النقصان.
وكذا قيل لو قلم أظفاره أو قص شعره.
-------------------------------------------------------------------
وقيل: إن المراد بانعكاس الفرض أن يتيقن ما به بدأ، ويشك في العدد، وبانعكاس الحكم البطلان إن كان على الصفا والصحة إن كان على المروة، وهذا يتم فيما لو تحقق إكمال العدد وشكّ في الزيادة وعدمها، فإنّه إن كان على المروة يقطع ولا شيء عليه؛ لأن الأصل عدم الزيادة، وإن كان على الصفا لم تتحقّق البراءة، ولا يجوز الإكمال؛ حذراً من الزيادة، فتجب الاعادة(1).
ولكن الفرض أعم من ذلك، فإنّ الشك في العدد يشمل ما لو شك هل فَعَل شوطاً أو اثنين أو ثلاثةً إلى آخره؟ وفي هذه الصور كلّها يبطل السعي كالطواف.
قوله: «من لم يحصل عدد سعيه أعاده».
المراد أنه شك في عدده، سواء علم ما به بدأ أم لا، فإنه يعيد.
ويستثنى من ذلك ما لو شك بين الإكمال والزيادة على وجه لا ينافي البدأة بالصفا، كما لو شك بين السبعة والتسعة وهو على المروة، فإنّه لا يعيد؛ لتحقق الإكمال وأصالة عدم الزيادة كالطواف، ولو كان على الصفا أعاد.
قوله: «ومن تيقن النقيصة أتى بها».
سواء ذكرها في الحال أم بعد حين، فإنّه يقتصر على إعادتها وإن كانت أكثر من نصفه؛ لعدم اشتراط الموالاة فيه، كما مرّ، فيبني ولو على شوط، على أشهر القولين.
قوله: «ولو كان متمتّعاً بالعمرة وظنّ أنّه أتمّ فأحلّ - إلى قوله - أو قصّ شعره».
ص: 269
-------------------------------------------------------------------
مستند ذلك رواية عبد اللّه بن مسكان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجل طاف بين الصفا والمروة ستة أشواط، وهو يظن أنها سبعة، فذكر بعد ما أحلّ وواقع النساء أنه إنما طاف ستة أشواط. فقال: «عليه بقرة يذبحها ويطوف شوطاً آخر»(1).
ومستند القول رواية سعيد بن يسار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال قلت له: رجل متمتّع سعى بين الصفا والمروة ستة أشواط، ثم رجع إلى منزله وهو يرى أنه قد فرغ منه فقلم أظفاره وأحلّ، ثمَّ ذكر أنّه سعى ستة أشواط، فقال: «إن كان يحفظ أنه سعى ستة أشواط فليعد وليتمّ شوطاً وليرق دماً» قلت: دم ماذا؟ قال: «دم بقرةٍ»(2).
وفي معناها رواية معاوية بن عمّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وزاد: «قصّر» (3).
والمراد بالسعي هنا سعي عمرة التمتّع؛ إذ الحجّ لا يتأتى فيه أمر الحلق؛ لحله فيه قبل السعي نعم، يأتي في الجماع لتحريمه قبل طواف النساء.
وفي هذه الروايات مخالفة للأصول من وجوه:
الأوّل: وجوب الكفّارة على الناسي، وهو في غير الصيد مخالف لغيرها من النصوص والفتوى
الثاني: وجوب البقرة في تقليم الأظفار، والواجب شاة في مجموعها. ويمكن إرادة ذلك من الرواية؛ لأنّ «أظفاره» جمع مضاف يفيد العموم.
الثالث: وجوب البقرة أيضاً بالجماع، مع أنّ الواجب به مع العمد بدنة، ولا شيء مع النسيان.
الرابع: مساواة الجماع في الكفّارة لقلم الأظفار والحال أنّهما مفترقان في الحكم
ص: 270
الرابعة: • لو دخل وقت فريضةٍ وهو في السعي قطعه وصلّى ثمَّ أتمه، وكذا لو قطعه لحاجة له أو لغيره.
الخامسة: لا يجور تقديم السعى على الطواف، كما لا يجوز تقديم طواف النساء على السعي فإن قدمه طاف ثم أعاد السعي.
-------------------------------------------------------------------
في غير هذه المسألة. ولذلك حمل بعض الأصحاب الأخبار على الاستحباب(1)، وبعضهم فرّق بين الظان والناسى فأسقط الكفّارة عن الناسي وجعل مورد هذه المسألة الظنّ(2)، كما صرح به في الرواية الأولى(3)، وجماعة المتأخّرين تلقوها بالقبول مطلقاً.
ويمكن توجيه هذه الأخبار بأنّ الناسي وإن كان معذوراً لكن هنا قد قصّر حيث لم يلاحظ النقص، فإنّ من قطع السعي على ستّة أشواط يكون قد ختم بالصفا، وهو واضح الفساد، فلم يعذر، بخلاف الناسي غيره فإنّه معذور.
لكن يبقى أنّ المصنّف فرض المسألة فيمن فَعَل ذلك قبل إتمام السعي من غير تقييدٍ بالستّة، فيشمل ما لو قطع في المروة على خمسة، وهو محلّ العذر.
والمسألة موضع إشكال، وإن كان ما اختاره المصنّف من العمل بظاهر الروايات أولى.
قوله: «لو دخل وقت فريضة وهو في السعي قطعه وصلى ثم أتمه، وكذا لو قطعه» إلى آخره.
جواز قطعه لذلك هو المشهور بين الأصحاب.
وذهب بعضهم إلى أنه كالطواف في اعتبار مجاوزة النصف(4). والنصوص دالّة على الأوّل(5).
ص: 271
• ولو ذكر في أثناء السعي نقصاناً من طوافه قطع السعي وأتمّ الطواف ثمَّ أتمّ السعي.
-------------------------------------------------------------------
ولا فرق في جواز قطعه للصلاة بين سعة وقتها وضيقه بل الكلام والنصوص إنّما وردت مع السعة، أما مع الضيق فيتعيّن قطعه؛ لأن الوقت لها بالأصالة.
قوله: «ولو ذكر في أثناء السعي نقصاناً من طوافه قطع السعي وأتم الطواف ثم أتم السعي».
إنّما يتم الطواف مع تجاوز نصفه بأن يكون قد طاف أربعة أشواط، فحينئذٍ يتمه ثم يبني على ما مضى من السعي وإن كان شوطاً، بل بعض شوط على الظاهر.
ولو لم يبلغ في الطواف الأربعة أعاده من رأس ثم استأنف السعي وإن كان قد بقي منه القليل، بل وإن كان أكمله.
ص: 272
وإذا قضى الحاج مناسكه بمكّة من طواف الزيارة والسعى وطواف النساء، فالواجب العود إلى منى للمبيت بها، • فيجب عليه أن يبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر، • فلو بات بغيرها كان عليه عن كلّ ليلةٍ شاة، • إلا أن يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويجب عليه أن يبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر».
ويجب فيه النيّة مقارنةً لأوّل الليل بعد تحقق الغروب، وقصد الفعل، وهو المبيت تلك الليلة، وتعيين الحجّ والوجه والقربة، والاستدامة الحكميّة.
ولو ترك النيّة ففى كونه كمن لم يبت، أو يأثم خاصةً،نظر، والثانى ليس ببعيدٍ.
قوله: «فلو بات بغيرها كان عليه عن كلّ ليلةٍ شاة».
هذا مع الاختيار، أما لو اضطر إلى الخروج منها لمانع عام أو خاص، أو حاجة، أو حفظ مال له بغيرها، أو تمريض مريض، ونحو ذلك، سقط وجوب المبيت.
وفي سقوط الفدية نظر من إطلاق النصّ بوجوبها على من لم يبت(1)، ومن ظهور العذر، وكونها كفّارةً عن ترك الواجب، وهو منتفٍ. ويمكن كونها فدية فتجب وإن انتفى الإثم.
أما الرعاة وأهل سقاية العباس فقد رخص لهم في ترك المبيت، ولا فدية عليهم.
قوله: «إلّا أن يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة».
لا فرق في العبادة بين الواجبة والمندوبة، ويجب استيعاب الليلة بها، إلا ما يضطر إليه
ص: 273
• أو يخرج من منى بعد نصف الليل. وقيل: بشرط أن لا يدخل مكّة إلا بعد طلوع الفجر.
• وقيل : لو بات الليالى الثلاث بغیر منی لزمه ثلاث شياه. وهو محمول على من غربت الشمس في الليلة الثالثة وهو بمنى، أو من لم يتق الصيد والنساء.
-------------------------------------------------------------------
من أكل وشرب وقضاء حاجة ونوم يغلب عليه.
ويحتمل كون القدر الواجب منها ما كان يجب بمنى، وهو أن يتجاوز نصف الليل.
ومن أهم العبادة الاشتغال بالطوافين والسعي لكن لو فرغ منها قبل الفجر وجب عليه الإكمال بما شاء من العبادة.
وفي جواز رجوعه بعده إلى منى ليلاً نظر من استلزامه فوات جزء من الليل بغير أحد الوصفين، ومن أنه تشاغل بالواجب، وهو الخروج إلى منى للمبيت.
ويظهر من الدروس جوازه وإن علم أنه لا يدرك إلا بعد انتصاف الليل، بل بعد الفجر(1).
قوله: «أو يخرج من منى بعد نصف الليل وقيل: بشرط أن لا يدخل مكّة إلا بعد طلوع الفجر».
القول للشيخ مع تجويزه الخروج من منى بعد الانتصاف والمبيت بغير مكّة(2).
ولم نعلم مأخذه، فإنّ الروايات (3) مطلقة في جواز الخروج بعد نصف الليل، ولعلّ مكة أولى به من غيرها، فالمعتمد المشهور.
قوله: «وقيل: لو بات الليالي الثلاث بغير منى لزمه ثلاث شياه - إلى قوله - أو من لم يتّق الصيد والنساء».
هكذا أطلق الشيخ (رحمه اللّه)(4). وما حمله عليه المصنّف حسن، فإنه مع عدم وجوب المبيت اختياراً لا فدية له ولا كفّارة.
ص: 274
ويجب أن يرمي كلّ يوم من أيّام التشريق الجمار الثلاث، كلّ جمرة بسبع حصيات. ويجب هنا - زيادة على ما تضمنه شروط الرمي - الترتيب، يبدأ بالأُولى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة، ولو رماها منكوسةً أعاد على الوسطى وجمرة العقبة.
-------------------------------------------------------------------
والمراد بغروب الشمس هنا هو الغروب المعتبر في حلّ الصلاة وإفطار الصائم.
ولا فرق على تقدير الغروب بين من تأهب للخروج قبله فغربت عليه قبل أن يخرج وغيره، ولا بين من خرج ولم يتجاوز حدود منى وغيره على الظاهر؛ لصدق الغروب عليه يمنى، فإنّ أجزاءها متساوية في وجوب المبيت بها.
نعم لو خرج منها قبله ثم رجع بعده لأخذ شيء نسيه (1) لم يجب المبيت. وكذا لو عاد لتدارك واجب عليه بها.
ولو رجع قبل الغروب فغربت عليه بها، ففي وجوب الإقامة وجهان، وقرّب العلّامة الوجوب(2).
والوجهان آتيان في وجوب الرمي بعده.
والمراد باتقاء الصيد عدم قتله، وباتقاء النساء عدم جماعهن في حال الإحرام.
وفي إلحاق باقي المحرمات المتعلقة بهما، كالقبلة واللمس بشهوة والعقد وشهادته وأكل الصيد نظر؛ من صدق عدم الاتقاء لغةٌ في جميع ذلك، ومن دلالة ظاهر النصّ (3) على إرادة المعنى الأوّل، وبه صرّح بعض الأصحاب(4).
وهل يفرّق بين العامد والناسي والجاهل في ذلك ؟ نظر من العموم، وعدم وجوب الكفّارة على الناسي في غير الصيد وعدم مؤاخذته فيه.
ويمكن الفرق بين الصيد وغيره فيثبت الحكم فيه مطلقاً، بخلاف غيره.
ص: 275
• ووقت الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها.
ولا يجوز أن يرمي ليلاً إلا لعذر، كالخائف والمريض والرعاة والعبيد.
• ومن حصل له رمي أربع حصيات ثمَّ رمى على الجمرة الأُخرى حصل بالترتيب.
-------------------------------------------------------------------
أما الجاهل فالظاهر أنه كالعامد، مع احتمال خروجه أيضاً؛ لعدم وجوب الكفّارة عليه في غير الصيد.
وفي بعض الأخبار دلالة على اعتبار اتقاء جميع المحرّمات(1)، واختاره ابن إدريس (2)، والاتقاء معتبر في إحرام الحجّ قطعاً، وفي اعتبار وقوعه في عمرة التمتّع أيضاً وجه قوي؛ لارتباطها بالحج، ودخولها فيه، كما دلّ عليه الخبر(3). وكلام الجماعة في هذه الفروع غير محرر.
قوله: «ووقت الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها».
هذا هو المشهور وعليه العمل.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنّ أوّل وقته زوال الشمس(4).
واتّفق الجميع على أفضلية ما بعد الزوال، فالتأخير إليه أفضل وأحوط.
قوله: «و من حصل له رمي أربع حصيات ثمَّ رمى على الجمرة الأُخرى حصل بالترتيب».
هذا مع الجهل أو النسيان، أما مع العمد فتجب إعادة ما بعد التي لم تكمل؛ لتحريم الانتقال عن الجمرة قبل إكمال،رميها فيفسد ما بعدها.
والضابط على التقديرين الأولين أنه متى رمى واحدةً أربعاً وانتقل منها إلى الأخرى.
ص: 276
• ولو نسي رمي يوم قضاه من الغد مرتب، يبدأ بالفائت ويعقب بالحاضر.
• ويستحبّ أن يكون ما يرميه لأمسه غدوةً، وما يرميه ليومه عند الزوال.
-------------------------------------------------------------------
كفاه إكمال الناقصة، وإن كان أقل استأنف التالية، وفي الناقصة وجهان أجودهما استئنافها أيضاً، وكذا لو رمى الأخيرة دون أربع ثم قطعه.
قوله: «ولو نسي رمي يوم قضاء من الغد مرتباً، يبدأ بالفائت ويعقب بالحاضر».
لا ريب في وجوب قضاء الفائت ما دام وقت الرمي - وهو أيّام التشريق - باقياً، ووجوب تقديمه على الأداء مرتباً، حتى لو فاته رمي يومين قدّم الأوّل على الثاني، وختم بالأداء.
ولكن هل يجب كون القضاء في وقت أداء الرمي، وهو ما بين طلوع الشمس إلى الغروب؟ قيل: نعم (1)؛ لوجوبه في الرمي مطلقاً، وهو أجود، وفي بعض الأخبار (2) دلالة عليه. ويحتمل جواز فعله قبل طلوع الشمس(3).
ويجب في الفائت نيّة القضاء. وهل يجب في الحاضر نيّة الأداء؟ يحتمله؛ لوقوعه على وجهين، كالصلاة، وعدمه؛ إذ لا يمكن القضاء حالة الأداء حتى لو اجتمعا في ذمته، فإنّ وجوب تقديم القضاء يوجب عدم إمكان الأداء وقته، وعدم إمكان القضاء عند فعل الأداء، ولا ريب أنّ التعرّض للأداء والعدد أولى.
قوله: «ويستحبّ أن يكون ما يرميه لأمسه غدوة، وما يرميه ليومه عند الزوال».
المراد بالغدوة هنا بعد طلوع الشمس وبعندية الزوال بعده، وفي بعض الأخبار يجعل بينهما قدر ساعةٍ(4). والواجب تقديم السابق مطلقاً.
ص: 277
ولو نسي رمي الجمار حتى دخل مكّة رجع،ورمى. فإن خرج من مكّة لم يكن عليه شيء إذا انقضى زمان الرمي، فإن عاد في القابل رمى، وإن استناب فيه جاز.
ويجوز أن يُرمى عن المعذور كالمريض.
• ويستحبّ أن يقيم الإنسان بمنى أيّام التشريق.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فإن خرج من مكّة لم يكن عليه شيء - إلى قوله - وإن استناب فيه جاز».
المراد بزمان الرمي أيّام التشريق، ومقتضى قوله لم يكن عليه شيء إذا انقضى زمانه» عدم وجوب قضائه وقوله «فإن عاد في القابل رمى» وجوبه على وجه، وقوله «وإن استناب فيه جاز» وجوبه أيضاً على إجمالٍ فيه.
والأقوى وجوب القضاء في القابل في أيّامه، لكن إن اتفق حضوره وجبت عليه المباشرة، وإلا جازت الاستنابة وإن أمكن العود والظاهر أن مراد المصنّف ذلك، ولكن العبارة مجملة. ونفي الشيء بفوات زمانه يحتمل إرادة غير القضاء.
قوله: «ويستحب أن يقيم الإنسان بمنى أيّام التشريق».
قد عرفت أنه يجب الإقامة ليلاً، وفي زمان الرمي وهي من جملة الأيّام، فاستحباب الإقامة في الأيّام إما محمول على ما زاد على ذلك بتقدير حذف المضاف - أي بقية أيّام التشريق - أو أطلق في ذلك اسم الجزء على الكل، فإنّ الإقامة في باقي الأجزاء مستحبّة، أو يكون الاستحباب متعلقاً بالمجموع من حيث هو مجموع، وذلك لا ينافي وجوب بعض أجزاء المجموع، فإنّها مغايرة له من تلك الحيثيّة.
ويمكن إخراج الليالي من رأس بحمل الأيّام على النهار، فإنّ في شمولها الليالي بحث، بل الظاهر من اللغة عدمه (1).
ص: 278
• وأن يرمى الجمرة الأُولى عن يمينه، ويقف ويدعو، وكذا الثانية، ويرمي الثالثة مستدبر القبلة مقابلاً لها، ولا يقف عندها
• والتكبير بمنى مستحبٌّ، وقيل: واجب، وصورته اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه واللّه أكبر، اللّه أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وأن يرمي الجمرة الأُولى عن يمينه».
أي يمين الرامي، وليكن على يسارها في بطن المسيل، كما ورد به النصّ (1).
والمراد بيسارها جانبها اليسار بالإضافة إلى المتوجّه إلى القبلة، فيجعلها حينئذٍ عن يمينه، فيكون ببطن المسيل؛ لأنه عن يسارها فيرميها منه، وكذا القول في رمي الثانية.
وفي بعض نُسخ الكتاب «عن بمينها»، وهو موافق لعبارة العلّامة في القواعد، حيث عبّر برميها عن يساره (2)، أي يسار الرامي، فيكون عن يمينها لمستقبل القبلة.
والأصحّ ما تقدم، وهو الموافق للرواية (3)، وعبارة المصنّف في النافع(4)، والعلّامة في غير القواعد(5)، وغيرهما من الأصحاب(6).
قوله «والتكبير بمنى مستحب، وقيل: واجب».
القول بالاستحباب أقوى وأشهر وأوجبه جمع من الأصحاب (7)؛ عملاً بظاهر الأمر في قوله تعالى: «وَلِتُكَبِّرُوا اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ»(8).
ص: 279
ويجوز النفر في الأوّل، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة لمن اجتنب النساء والصيد في إحرامه والنفر الثاني هو اليوم الثالث عشر، فمن نفر في الأوّل لم يجز إلا بعد الزوال، وفي الثاني يجوز قبله.
ويستحب للإمام أن يخطب ويعلم الناس ذلك.
ومن كان قضى مناسكه بمكّة جاز أن ينصرف حيث شاء، ومن بقي عليه شيء من المناسك عاد وجوباً.
مسائل:
الأولى: • من أحدث ما يوجب حداً أو تعزيراً أو قصاصاً ولجأ إلى الحرم ضيّق عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج، ولو أحدث في الحرم قوبل بما تقتضيه جنايته فيه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «من أحدث ما يوجب حداً أو تعزيراً أو قصاصاً - إلى قوله - حتّى يخرج».
فُسّر التضييق فيهما بأن يطعم ويسقى ما لا يتحمّله مثله عادةً، وبما يسدّ الرمق، وكلاهما مناسب لمعنى التضييق.
والمراد أنه يُمنع مما زاد على ذلك بأن لا يباع إن أراد الشراء، ولا يُمكّن من ماله إن كان له مال زيادةً على ذلك، ولا يتبرّع عليه.به.
وفي صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا يطعم ولا يسقى ولا يباع ولا يؤوى حتى يخرج»(1).
واختاره بعض الأصحاب(2)، وهو حسن.
ص: 280
الثانية: • يكره أن يمنع أحد من سكنى دور مكة، وقيل: يحرم، والأول أصحّ.
الثالثة: • يحرم أن يرفع أحد بناءً فوق الكعبة، وقيل: يكره، وهو الأشبه.
الرابعة • لا تحلّ لقطة الحرم، قليلةً كانت أو كثيرةً، وتُعرّف سنةً، ثمَّ إن شاء تصدق بها ولا ضمان عليه، وإن شاء جعلها في يده يده أمانةً.
-------------------------------------------------------------------
وألحق بعضهم بالحرم مسجد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومشاهد الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)(1): محتجاً بإطلاق اسم الحرم عليها في بعض الأخبار (2)، وهو نادر.
قوله: «يكره أن يُمنع أحد من سكنى دور مكة، وقيل: يحرم والأوّل أصح».
الكراهة أقوى، والأخبار (3) ظاهرة فيها.
والآية الدالة على استواء العاكف فيه والباد(4)، مخصوصة بالمسجد، أو محمولة على الاستحباب؛ جمعاً.
قوله: «يحرم أن يرفع أحد بناء فوق الكعبة، وقيل: يكره، وهو الأشبه».
الكراهة أقوى، والخبر الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5) ظاهر فيها.
قوله: «لا تحلّ لقطة الحرم، قليلةً كانت أو كثيرةً، وتُعرّف سنةً، ثمَّ إن شاء تصدّق بها ولا ضمان عليه وإن شاء جعلها في يده أمانةً».
اختلف الأصحاب في لقطة الحرم على أقوال فالمصنّف في هذا الكتاب حرّم قليلها وكثيرها، وفي النافع كرهها مطلقاً(6).
ص: 281
الخامسة : • إذا ترك الناس زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أجبروا عليها؛ لما يتضمن من الجفاء المحرَّم.
-------------------------------------------------------------------
وذهب بعضهم (1) إلى جواز نقطة ما نقص عن الدرهم وتحريم الزائد.
ثمَّ على تقدير الجواز لا يجوز تملك ما زاد على الدرهم إجماعاً، بل يجب تعريفه حولاً، ثمَّ يتخيّر بعده إن لم يجد مالكه بين إبقائه في يده أمانةٌ وبين الصدقة به، وفي الضمان حينئذٍ لو ظهر المالك وكره قولان.
وفي المختلف أطلق دعوى الإجماع على تحريم تملّك لقطة الحرم(2)، مع أنّه نقل بعد ذلك عن جماعةٍ جواز تملك ما نقص عن الدرهم(3).
والقول بالكر هه مطلقاً قوى لضعف متمسّك التحريم.
والقول بجواز تملك ما نقص عن الدرهم منها لا بأس به، وهو خيرة الدروس (4).
وكذا القول بضمان ما زاد لو تصدق به فكره المالك، كغيرها.
قوله: «إذا ترك الناس زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أجبروا عليها؛ لما يتضمن من الجفاء المحرّم».
أشار بالتعليل إلى ما ورد عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)أنه قال: «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني»(5). ولا شكّ أنّ جفاه محرم، فيكون ترك زيارته - وإن كانت في الأصل مستحبّةً - مؤذناً بالتحريم بسبب استلزامه الجفاء، هكذا ذكره الشيخ (رحمه اللّه)(6)، وتبعه عليه أكثر المتأخّرين.
وأنكر ابن إدريس الإجبار هنا؛ محتجاً بأن الزيارة مندوبة، ولا شيء من المندوب يُجبر على فعله(7).
ص: 282
ويستحبّ العود إلى مكّة لمن قضى مناسكه لوداع البيت.
• ويستحب أمام ذلك صلاة ست ركعات بمسجد الخيف، وآكده استحباباً عند المنارة التي في وسطه، وفوقها إلى جهة القبلة بنحو من ثلاثين ذراعاً، وعن يمينها ويسارها كذلك.
-------------------------------------------------------------------
وكلّيّة الكبرى ممنوعة؛ فإنّ المندوب إذا آذن بالاستهانة يُجبر على فعله، وقد اتّفقوا على إجبار أهل البلد على الأذان، بل على قتالهم إذا أطبقوا على تركه.
نعم، يبقى في استدلال الجماعة بحث من حيث إنّ ترك زيارته إذا كان يتضمّن الجفاء يقتضي التحريم، فتجب الزيارة من حيث إنّها دافعة للجفاء، فيتحقّق الإجبار على تركها بغير إشكال. إلّا أنّ ذلك يستلزم القول بوجوبها، وهُمْ لا يقولون به، فاللازم حينئذٍ أحد الأمرين: إما القول بوجوبها، أو ترك التعليل بالجفاء.
وأيضاً فالعمل بظاهر الحديث يقتضى إجبار كل حاج ترك زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لأنّ «من» من صِيَغ العموم، فيشمل كلّ فردٍ فرد من أفراد الحاج، ومدعاهم هو إجبار الجميع لو تركوها، لا إجبار مطلق التارك مع قيام غيره بها، وعلى تقدير خروج بعض الأفراد بدليل خارجيّ - كمن تعذّر عليه زيارته - يبقى العام حجّة على الباقي.
وبهذا يندفع ما ذكره بعضهم (1) من أنّ قوله «من حجّ» ليس كلّيّاً، بل هو مهملة في قوّة الجزئية، فلا يصدق «كلّ من ترك زيارته فقد جفاه»، فإن خروج بعض الأفراد لعارض لا يمنع الكلية كغيرها من صيغ العموم الواردة في الأحكام الشرعيّة فإنّه -كما اشتهر - ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا ما استثني، ومع ذلك لا يمنع عمومه ودلالته على حكم الباقي.
والأُولى في الجواب ما تقدّم من استلزام ترك الجميع زيارته التهاون بأعظم السنن وأجلها، فيُجبرون عليها إلى أن يقوموا بما يدفع ذلك، والجبر - وإن كان عقاباً - لا يدلّ على الوجوب، لأنّه دنيوي، وإنما يستحقّ بترك الواجب العقاب الأُخروي على وجهٍ.
قوله: «ويستحب أمام ذلك صلاة ست ركعات بمسجد الخيف - إلى قوله ويسارها كذلك».
ص: 283
• ويستحب التحصيب لمن نفر في الأخير، وأن يستلقي فيه.
وإذا عاد إلى مكّة فمن السنة أن يدخل الكعبة، ويتأكد في حق الصرورة،
-------------------------------------------------------------------
هذا الموضع ع المؤكد من المسجد - وهو ما دار حول المنارة من جميع الجهات بنحو ثلاثين ذراعاً كان مسجد مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، يستحبّ الصلاة فيه مدة إقامة الحاج بمنى فرضها ونفلها.
وممّا يختص به صلاة ست ركعات وقيده بعضهم بما إذا أراد النفر (1).
ورواية ابن أبي حمزة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) خالية عنه، لكن قيد فيها بكون الست في أصل الصومعة(2).
وفي حسنة معاوية بن عمّار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إطلاق الأمر بالصلاة فيه، وفيها تحديد مسجد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بما تقدّم، وأنه قد صلّى فيه ألف نبيّ، وأنه إنّما سُمّي خيفاً؛ لأنه مرتفع عن الوادي. وما ارتفع عن الوادي سُمّي خيفاً(3).
والمصنّف جمع بين مدلولي الخبرين، فأخذ من الأوّل صلاة الست ركعات، ومن الثاني كون الصلاة في مسجد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المحدود بما ذكر ؛ نظراً إلى أن الست من جملة الصلوات التي ينبغي فعلها فيه.
وقد روي: «أنّ من صلى في مسجد منى مائة ركعة عدلت عبادة سبعين عاماً، ومن سبّح اللّه فيه مائة تسبيحة كتب اللّه له أجر عتق رقبة، ومن هلّل اللّه فيه مائة عدلت إحياء نسمةٍ، و من حمد اللّه عزّ وجلّ فيه مائة عدلت أجر خراج العراقين ينفق في سبيل اللّه»(4).
قوله: «ويستحب التحصيب لمن نفر في الأخير وأن يستلقي فيه».
المراد به النزول بمسجد الحصباء بالأبطح؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(5).
ص: 284
وأن يغتسل ويدعو عند دخولها، وأن يصلّى بين الأسطوانتين على الرخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأُولى الحمد وحم السجدة، وفي الثانية عدد آيها، ويصلّي في زوايا البيت، ثمَّ يدعو بالدعاء المرسوم، ويستلم الأركان، ويتأكد في اليماني، ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعاً، ثمَّ يستلم الأركان و المستجار، ويتخيّر من الدعاء ما أحبّه، ثمَّ يأتى زمزم فيشرب منها ثم يخرج وهو يدعو.
• ويستحب خروجه من باب الحنّاطين.
-------------------------------------------------------------------
وذكر جماعة من الفضلاء (1) أنّ هذا المسجد ليس له في زمانهم أثر فيتأدّى السُنّة بالنزول في المحصَّب من الأبطح.
قيل: وهو ما بين العقبة وبين مكّة(2). وقيل : ما بين الجبل الذي عنده مقابر أهل مكّة والجبل الذي يقابله مصعداً في الشق الأيمن لقاصد مكة، وليست المقبرة منه.
واشتقاقه من الحصباء، وهي الحصى المحمولة بالسيل(3).
وإنّما يستحبّ التحصيب لمن نفر في الأخير، فلو نفر في الأوّل لم يستحبّ، روى ذلك أبو مريم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).
قوله: «ويستحبّ خروجه من باب الحنّاطين».
هو باب بني جُمح - قبيلة من قريش - بإزاء الركن الشامي، سُمّي بذلك؛ لبيع الحنطة عنده، وقيل: الحنوط(5).
وقد تقدّم أنّ المسجد لما زيد فيه دخلت هذه الأبواب في داخل المسجد، فينبغي أن يكون الخروج من الباب المسامت له على الاستقامة قبله رجاء أن يظفر به.
ص: 285
• ويخرّ ساجداً، • ويستقبل القبلة ويدعو، • ويشتري بدرهم تمراً ويتصدّق به احتياطاً لإحرامه.
ويكره الحجّ على الإبل الجلالة.
• ويستحب لمن حجّ أن يعزم على العود.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويخرّ ساجداً».
أي : عند الباب المذكور، ويستحب إطالته والدعاء فيه.
قوله: «ويستقبل القبلة ويدعو».
أي بعد القيام من السجود، وليكن آخر دعائه حينئذٍ : اللّهم إنى أنقلب على لا إله إلا اللّه.
قوله: «ويشتري بدرهم تمراً يتصدق به احتياطاً لإحرامه».
أي عند إرادة الخروج، سواء كان قبل ما تقدم من وداع البيت أم بعده.
والمراد بالدرهم الشرعي.
ويستحب أن يتصدق بالتمر قبضةً قبضة لرواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (1)، وعلّل فيها وفي حسنة معاوية بن عمّار بكونه كفّارة لما لعله دخل عليه في حجه من حكّ أو قتلة سقطت أو نحو ذلك(2).
وهذا يتم مع استمرار الاشتباه، أما لو ظهر له موجب يتأدى بالصدقة ففي إجزائه نظر، من إطلاق الخبر، واختلاف الوجه الذي بسببه تختلف النيّة.
وقرّب في الدروس الإجزاء(3)، و هو حسن.
قوله: «ويستحبّ لمن حجّ أن يعزم على العود».
لأنه من الطاعات العظيمة، فالعزم عليه طاعة وروي أنّه من المنسئات في العمر (4).
ص: 286
• والطواف أفضل للمجاور من الصلاة، وللمقيم بالعكس.
• ويكره المجاورة بمكّة.
-------------------------------------------------------------------
وروى محمد بن أبي حمزة رفعه، قال: «من خرج (من) (1) مكّة وهو لا يريد العود إليها فقد قرب أجله ودنا عذابه»(2).
ويستحب أن يضمّ إلى العزم سؤال اللّه تعالى ذلك عند انصرافه، رزقنا اللّه العود إلى ذلك المقام، وشفّعه بزيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ).
قوله: «والطواف أفضل للمجاور من الصلاة وللمقيم بالعكس».
إنما يكون الطواف أفضل للمجاور في السنة الأولى، أما في الثانية فيتساويان في الفضل، فليخلط من ذا ومن ذا، وفي الثالثة يصير بمنزلة المقيم وتصير الصلاة له أفضل، رواه هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3).
قوله: «ويكره المجاورة بمكّة».
بمعنى الإقامة بها بعد قضاء المناسك وإن لم يكن سنةً، ويمكن أن يريد به سنةً، وكلاهما مروي في الصحيح (4)، ومع الثاني أنه المتعارف.
وقد عدّل ذلك بوجوه كلّها مروية: الأوّل: أنّ المُقام بها يقسي القلب، رواه الصدوق في العلل عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته وليلحق بأهله، فإنّ المُقام بمكّة يقسي القلب»(5).
الثاني: مضاعفة العذاب بسبب ملابسة الذنب فيها، فقد روى فيه أيضاً بإسناده إلى
ص: 287
-------------------------------------------------------------------
أبي الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه عزّ وجلّ: «وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِالْحَادِ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ»(1). فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «كلّ ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكّة من سرقةٍ أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإنّي أراه إلحاداً حتى ضرب الخادم؛ ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم»(2).
الثالث: خروج النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) منها قهراً، وعدم عوده إليها إلا للنسك، وإسراعه الخروج منها حين عاد، روى ذلك أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه كره المقام بمكّة، وذلك أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أُخرج عنها. والمقيم بها يقسو قلبه حتى يأتي فيها ما يأتي في غيرها(3).
وروى محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لا ينبغي للرجل أن يقيم بمكّة سنة». قلت: كيف يصنع ؟ قال: «يتحوّل عنها إلى غيرها»(4).
وعُدّل أيضاً بخوف الملالة، وقلّة الاحترام، وليدوم شوقه إليها (5).
وهو منقوض بالمدينة، فإنّ المجاورة بها مستحبّة مع وجود العلل فيها، إلا أن يقال: إنّ ذلك في مكّة أزيد بسبب زيادة المشقة في الإقامة بها.
وقد روى الصدوق عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنّ من جاور بمكّة سنة غفر اللّه له ذنبه ولأهل بيته ولكلّ من استغفر له ولعشيرته، و لجيرانه ذنوب تسع سنين قد مضت وعصموا من كلّ سوءٍ أربعين ومائة سنة»(6).
ص: 288
• ويستحب النزول بالمعرَّس على طريق المدينة وصلاة ركعتين به.
-------------------------------------------------------------------
وروى: «أنّ الطاعم بمكّة كالصائم فيما سواها، وصيام يوم بمكّة يعدل صيام سنة فيما سواها»(1).
«ومن ختم القرآن بمكّة من جمعةٍ إلى جمعةٍ أو أقل أو أكثر كتب اللّه له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون، وكذا في سائر الأيّام»(2).
وهذه الأخبار تدلّ على استحباب الإقامة، فتتعارض الأخبار ظاهراً.
وجَمَع الشهيد (رحمه اللّه)(3) وجماعة(4)، بينها بحمل الكراهة على من لا يأمن وقوع هذه المحذورات منه، والاستحباب للواثق من نفسه بعدمها.
ويشكل بأن بعضها غير اختياري، كالتأسي بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وكونه أُخرج منها كرهاً.
وجَمَع آخرون بحمل الأخبار الأخيرة على المجاورة لأجل العبادة، والأُولى على المجاورة لا لها، كالتجارة(5).
وهو حسن مع الوثوق بعدم الملل والاحترام وملابسة الذنب ونحوه، وإن كان المشهور الكراهة مطلقاً.
قوله: «ويستحبّ النزول بالمعرَّس على طريق المدينة وصلاة ركعتين به».
هو - بضمّ الميم وفتح العين وتشديد الراء المفتوحة - اسم مفعول من التعريس، وهو النزول آخر الليل للاستراحة إذا كان سائراً ليلاً(6).
ويقال: بفتح الميم وسكون العين وتخفيف الراء. والمعرس بذي الحليفة مسجد بقرب مسجد الشجرة بإزائه ممّا يلي القبلة، يستحبّ
ص: 289
مسائل ثلاث
الأولى: • للمدينة حرم وحده من عائر إلى وعير، ولا يعضد شجره، ولا بأس بصيده، إلا ما صيد بين الحَرَّتين، وهذا على الكراهية المؤكّدة.
-------------------------------------------------------------------
النزول به، والصلاة فيه، والاضطجاع؛ تأسياً بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)(1)، ولا فرق بين النزول فيه ليلا أو نهاراً.
قوله: «اللمدينة حرم، وحده من عائر إلى وعير ولا يعضد شجره، ولا بأس بصيده إلّا ما صيد بين الحرّتين».
«عائر» و«وعير» جبلان يكتنفان المدينة من المشرق والمغرب، و«وعير» بفتح الواو، وقيل: بضمّها مع فتح العين المهملة(2)، والحرّتان موضعان أدخل منهما نحو المدينة، وهما حرّة ليلى، وحرّة واقِم - بكسر القاف - وهو الحصن، والحرّة منسوبة إليه، وأصل الحرّة - بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء - الأرض التي فيها حجارة سود.
وهذا الحرم بريد في بريد، اثنا عشر ميلاً في اثني عشر ميلاً.
وفي تحريم قطع شجره وصيد ما بين الحرّتين منه قولان:
أحدهما: التحريم، وهو اختيار الشيخ (3) والعلّامة في المنتهى (4)؛ استناداً إلى أخبار كثيرة ناطقة بالتحريم، منها صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5).
والثاني - و هو المشهور بين الأصحاب، بل كثير منهم لم يذكروا فيه خلافاً - الكراهة ؛ عملاً بأصالة الحلّ، ولدلالة أخبار أُخَر على عدم تحريم الصيد(6)، فيجمع بينهما بالكراهة.
وفيه: أن أخبارهم ليست سليمةً، فالصحيح من تلك لا معارض له.
ص: 290
الثانية: • يستحب زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للحاج استحباباً مؤكداً.
الثالثة: • يستحب أن تزار فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) من عند الروضة، والأئمّة بالبقيع.
-------------------------------------------------------------------
وبعض الأصحاب قطع بتحريم قطع الشجر، وجعل الخلاف في الصيد (1)، وظاهر الأخبار يدلّ عليه، فإنّه لم يرد خبر بجواز قطع الشجر، وإنما تعارضت الأخبار في الصيد (2)، إلا أنّ الأصحاب نقلوا الكراهة في الجميع واختاروها.
وعلى تقدير التحريم لا كفارة في فعل شيء من ذلك من قتل صيد أو قطع شجر، كما في حرم مكّة.
قوله: «يستحب زيارة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للحاج استحباباً مؤكّداً».
ليس ذكر هذه المسألة تكراراً لما سبق لأنّ السابق إنّما دلّ على إجبار الناس على زيارته لو تركوها، وليس فيه التصريح بالاستحباب مطلقا، فذكره هنا.
وكما يستحب للحاج يستحب لغيره، وإن كان الحكم فيه أكد بسبب وروده في الأخبار (3) كثيراً، وتوعده بالجفاء(4).
قوله: «يستحبّ أن تزار فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) من عند الروضة».
الروضة جزء من مسجده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهي ما بين قبره الشريف ومنبره إلى طرف الظلال، وقد روي أن قبرها (عَلَيهَا السَّلَامُ) بالروضة (5)؛ فلذلك استحبّ المصنّف زيارتها من عندها، ويظهر من تخصيصها اختياره ذلك.
وقد روي أنّ قبرها بيتها خلف أبيها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهو الآن في داخل المسجد(6)، وهو الذي
ص: 291
خاتمة: • تستحبّ المجاورة بها، والغسل عند دخولها، وتستحبّ الصلاة بين القبر والمنبر وهو الروضة، • وأن يصوم الإنسان بالمدينة ثلاثة أيّام للحاجة.
• وأن يصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة،
-------------------------------------------------------------------
اعتمد عليه الصدوق (رحمه اللّه) (1) وجماعة(2).
وروي أنه بالبقيع(3).
وسبب خفائه دفن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها ليلاً من غير أن يشعر بها أحداً، فينبغي زيارتها في المواضع الثلاثة، وأفضلها بيتها. وأبعد الاحتمالات كونها في الروضة.
قوله «تستحبّ المجاورة بها».
للأخبار (4) الواردة بذلك، وفي بعضها قول أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لبعض أصحابه حين أخبروه ان بإرادة المقام بها: «أصبتم المقام في بلد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والصلاة في مسجده، واعملوا لآخر تكم، وأكثر وا لأنفسكم، إن الرجل قد يكون كيّساً في الدنيا فيقال: ما أكيس فلاناً، وإنما الكيس كيس الآخرة»(5).
قوله: «وأن يصوم الإنسان بالمدينة ثلاثة أيّام للحاجة».
وهي الأربعاء والخميس والجمعة.
قوله: «وأن يصلّي ليلة الأربعاء عند أُسطوانة أبي لبابة».
وكذا يوم الأربعاء، والأسطوانة بين القبر والمنبر، تلي رأس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ويُسمّى أسطوانة التوبة.
ص: 292
• وفي ليلة الخميس عند الأسطوانة التي تلي مقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وأن يأتي المساجد بالمدينة، • كمسجد الأحزاب ومسجد الفتح، • ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء بأحد، خصوصاً قبر حمزة (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ويكره النوم في المساجد، وتتأكد الكراهية في مسجد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وفي ليلة الخميس عند الأسطوانة التي تلي مقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)».
وكذا يصلّى عندها يوم الخميس وليلة الجمعة ويوم الجمعة، ويدعو يوم الجمعة للحاجة بهذا الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك بعزتك وقوتك وقدرتك وجميع ما أحاط به علمك أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا»(1).
قوله: «كمسجد الأحزاب ومسجد الفتح».
في صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): « أن مسجد الأحزاب هو مسجد الفتح»(2).
وكذلك ذكر الشهيد في الدروس(3)، والعلّامة في المنتهى والتحرير(4).
وسُمّي مسجد الأحزاب بذلك؛ لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دعا فيه يوم الأحزاب(5)، فاستجاب اللّه له وفتح اللّه عليه بقتل عمرو وانهزام الأحزاب.
قوله: «ومسجد الفضيخ».
هو بالضاد والخاء المعجمتين، سُمّي بذلك؛ لنخل يُسمّى بالفضيخ، روى ذلك ليث المرادي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(6).
وقيل: لأنهم كانوا يفضحون فيه التمر قبل الإسلام، أي يشدخونه(7).
ص: 293
-------------------------------------------------------------------
قال الجوهري:
فضخت رأسه شدخته، وكذلك فضحت البسر. والفضيخ شراب يتّخذ من البشر وحده من غير أن تمسه النار(1).
وقد روى عمّار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ في هذا المسجد رُدّت الشمس لعليّ حتّى صلّى العصر، حين فاته الوقت بسبب نوم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حجره، فلما فرغ من الصلاة انقضت انقضاض الكواكب(2).
ص: 294
وفيها مقاصد:
• الصدّ بالعدوّ والإحصار بالمرض لا غير.
-------------------------------------------------------------------
قوله في الإحصار والصدّ: «الصدّ بالعدو، والإحصار بالمرض».
اختصاص الحصر بالمرض هو الذي استقر عليه رأي أصحابنا، ووردت به نصوصهم(1). وهو مطابق أيضاً للغة.
قال في الصحاح:
أحصر الرجل على ما لم يُسمّ فاعله قال ابن السكيت أحصره المرض، إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. قال اللّه تعالى: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» (2).
- ثم قال: -وقد حصره العدوّ يحصرونه، إذا ضيقوا عليه وأحاطوا به وحاصروه محاصرةً وحصاراً(3).
وعند العامة الحصر والصد واحد من جهة العدوّ(4). ولنا - مع ما تقدم - أصالة عدم الترادف. واعلم أن الحصر والصدّ اشتركا في ثبوت أصل التحلّل عند المنع من إكمال النسك في
ص: 295
-------------------------------------------------------------------
الجملة، وافترقا في مواضع تُذكر في تضاعيف الباب، وجملتها ستّة أُمور:
الأوّل: عموم التحلّل وعدمه، فإنّ المصدود يحلّ له بالمحلّل كلّ شيء حرّمه الإحرام، والمحصر ما عدا النساء، بل يتوقّف حلّهنّ على طوافهن.
الثاني: في اشتراط الهدي وعدمه، فإنّ المحصر يجب عليه الهدي إجماعاً، وهو منصوص في الآية(1)، وفي المصدود قولان وإن كان الأقوى مساواته له في ذلك.
الثالث في مكان ذبح الهدي، فإنّ المصدود يذبحه أو ينحره حيث وجد المانع، ولا يختصّ بمكان، والمحصر يختص مكانه بمكّة إن كان في إحرام العمرة، وبمنى إن كان في إحرام الحجّ.
الرابع: في قدر المحلّل، فإنّ المحصر لا يحلّ إلّا بالهدي والحلق أو التقصير؛ عملاً بالآية(2).
وفي افتقار المصدود إلى أحدهما قولان، وإن كان الأقوى الافتقار.
الخامس: أنّ تحلّل المصدود يقيني لا يقبل الخلاف، فإنّه يفعله في مكانه، والمحصَر تحلّله بالمواعدة الممكن غلطها.
السادس: فائدة الاشتراط، فإنّه في المحصر تعجيل التحلّل، وفي المصدود ما تقدّم من الخلاف في أنه هل يفيد سقوط الهدي، أو كون التحلّل عزيمة لا رخصةً، أو مجرّد التعبد، إلى غير ذلك من الفوائد.
وهذه الأحكام تختلف مع وقوع كلّ واحدٍ من السببين منفرداً عن الآخر، فلو اجتمعا على المكلّف بأن مرض وصدّه العدو، ففي ترجيح أيهما، أو التخيير بينهما فيأخذ حكم ما اختاره، أو الأخذ بالأخف من أحكامهما أوجه، أجودها الأخير لصدق اسم كلّ واحدٍ عند الأخذ بحكمه.
ولا فرق في ذلك بين عروضهما دفعةً أو متعاقبين، إذا كان قبل الشروع في حكم السابق.
فلو عرض الصدّ بعد بعث المحصر أو الإحصار بعد ذبح المصدود ولمّا يقصر احتمل
ص: 296
• فالمصدود إذا تلبس ثمَّ صدّ تحلّل من كلّ ما أحرم منه إذا لم يكن له طريق غير موضع الصدّ، أو كان له الطريق وقصرت نفقته. ويستمر إذا كان له مسلك غيره ولو كان أطول مع تيسّر النفقة.
-------------------------------------------------------------------
ترجيح السابق، وهو خيرة الدروس(1)، وبقاء التخيير؛ لصدق الاسم قبل التحلّل.
قوله: «فالمصدود إذا تلبس ثمَّ صُدّ تحلّل» إلى آخره.
إنما قدم البحث عن الصدّ مع أن حكمه غير مصرح به في الآية الشريفة (2)، وإنما ذكر فيها الحصر؛ لأنّه أخفّ أحكاماً، ولأنّ الحصر المذكور في الآية يراد به ما يعم الصد، بل هو في الصد أوضح؛ لوقوعه للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأصحابه في الحديبية بالعدو(3)، وإنما جاء الفرق بينهما عندنا من قبل النصّ(4)، ومن ثَمَّ خصه العامة بالعدو بسبب الواقعة (5).
إذا تقرّر ذلك فإذا عرض الصدّ بعد التلبس بالإحرام، فإن كان الإحرام بعمرة التمتّع أو بالحجّ مطلقاً ولم يكن له طريق غير الممنوع منها، أو كان وقصرت النفقة عن سلوكه، ولم يرج زوال المانع قبل خروج الوقت، جاز له تعجيل التحلّل بالهدي إجماعاً، وله الصبر على إحرامه إلى أن يتحقّق الفوات، فإن أراد تعجيل التحلّل لزمه الهدي، وإن أخّره إلى أن تحقق الفوات سقط التحلّل حينئذٍ بالهدي ووجب أن يتحلّل بعمرة، فإن استمر المنع تحلل منها بالهدي.
ولو كان إحرامه بعمرة الإفراد لم يتحقّق خوف الفوات، بل يتحلّل منها عند تعذّر إكمالها بالقيود المتقدمة، ولو أخر التحلّل كان جائزاً، فإن يئس من زوال العذر تحلّل بالهدي حينئذٍ.
ص: 297
• ولو خشي الفوات لم يتحلّل، وصبر حتى يتحقّق ثمَّ يتحلّل بعمرة،. ثمَّ يقضي في القابل واجباً إن كان الحجّ واجباً، وإلّا ندباً، • ولا يحل إلا بعد الهدي ونيّة التحلّل.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو خشي الفوات لم يتحلّل، وصبر حتى يتحقّق ثمّ يتحلّل بعمرة».
المراد أنه لو أمكن سلوك طريق بعيدةٍ لم يجز أن يتحلّل بالهدي وإن خشي فوات الحجّ بسلوكه؛ لفقد الصدّ حينئذٍ، بل يجب عليه سلوكه إلى أن يتحقّق الفوات، ثمَّ يتحلّل حينئذٍ بعمرة، كما هو شأن من يفوته الحجّ، بل هذا الحكم ثابت وإن تحقق الفوات بسلوك تلك الطريق؛ لأنّه من أفراد من فاته الحجّ، لا من أفراد المصدود؛ لانتفائه في تلك الطريق.
نعم، لو قصرت نفقته بسلوكه جاز له التحلّل؛ لأنه مصدود، ولا طريق له سوى موضع المنع؛ لعجزه عن غيره، فيتحلّل ويرجع إلى بلده إن شاء.
قوله: «ثمَّ يقضي في القابل واجباً إن كان الحجّ واجباً، وإلا ندباً».
يجب تقييد الواجب بكونه مستقراً قبل عام،الفوات، أو بتقصيره في السفر بحيث لولاه لما فاته الحجّ، كأن ترك السفر مع القافلة الأُولى ولم تُصدّ ليتحقّق وجوب القضاء؛ إذ لو انتفى الأمران لم يجب القضاء وإن كان الحجّ واجباً.
قوله: «ولا يحل إلا بعد الهدي ونية التحلّل».
نبّه بذلك على خلاف ابن إدريس، حيث اكتفى في المصدود بنية التحلّل، ولم يوجب عليه هدياً ؛ عملاً بأصالة البراءة، فإنّ الآية الدالة على وجوبه (1) إنّما وردت في المحصر (2).
ويدفعه صحيحة معاوية بن عمّار أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين صده المشركون يوم الحديبيّة نحر وأحلّ(3).
ص: 298
• وكذا البحث في المعتمر إذا منع عن الوصول إلى مكّة.
• ولو كان ساق قيل : يفتقر إلى هدى التحلّل، وقيل: يكفيه ما ساقه، وهو الأشبه.
• ولا بدل لهدي التحلّل، فلو عجز عنه وعن ثمنه بقى على إحرامه، ولو تحلل لم يحلّ.
-------------------------------------------------------------------
وعلى خلاف المرتضى، حيث أسقطه مع الاشتراط (1)، وقد تقدم الكلام فيه.
والمراد ببعدية الهدي والنيّة أن الإحلال لا يتحقّق إلى أن يذبح الهدي أو ينحره ناوياً به التحلل، فلا تكفي نيّة التحلّل منفكةً عنه.
والأقوى وجوب الحلق أو التقصير بعد ذلك، فلا يحلّ بدونه.
وموضع الذبح أو النحر مكان الصدّ، ويحل بذلك من كلّ ما أحرم منه حتى النساء من غير توقّف على طوافهن، بخلاف المحصر.
قوله «وكذا البحث في المعتمر إذا منع عن الوصول إلى مكة».
أي جميع ما سبق إنّما هو في المصدود عن إكمال الحجّ على الوجه الآتي وإن لم يكن صرّح به، ومثله البحث في المعتمر إذا منع عن الوصول إلى مكّة.
وفي حكمه من وصل و منع من فعل الطواف والسعي وغيرهما من الأفعال.
ولا فرق في ذلك بين العمرة المفردة وغيرها.
قوله: «ولو كان ساق قيل: يفتقر إلى هدي التحلّل، وقيل: يكفيه ما ساقه، وهو الأشبه».
الاكتفاء في التحلّل بالهدي المسوق هو المشهور؛ لأنه هدي مستيسر فيجزئ.
والأقوى عدم التداخل إن كان السياق واجباً بنذر وشبهه، أو بالإشعار وما في حكمه؛ لاقتضاء اختلاف الأسباب ذلك، ولو كان مندوباً - بمعنى أنه لم يتعين ذبحه؛ لأنّه لم يشعره ولم يقلّده ولا وُجد منه ما اقتضى وجوب ذبحه، بل ساقه بنيّة أنّه هدي - كفى.
قوله: «ولا بدل لهدي التحلّل فلو عجز عنه وعن ثمنه بقي على إحرامه، ولو تحلل لم يحلّ».
ص: 299
• ويتحقّق الصدّ بالمنع من الموقفين وكذا بالمنع من الوصول إلى مكّة، ولا يتحقّق بالمنع من العود إلى منى لرمي الجمار الثلاث والمبيت بها، بل يحكم بصحة الحجّ ويستنيب في الرمي.
-------------------------------------------------------------------
هذا هو المشهور، ووجهه انتفاء النصّ الموجب للبقاء على ما كان، وهدي التمتّع منصوص البدل(1)، فلا يصحّ القياس عليه، فيبقى على إحرامه وإن نوى التحلّل، فإن مجرّد النيّة غير كافٍ في تحليل ما قد حرمه الإحرام إذا لم يرد به حكم شرعي.
وذهب بعض الأصحاب (2) إلى أنّه يحلّ عند عدم الهدي؛ لأنّه لم يستيسر له هدي، وإنّما أوجبه اللّه على المستيسر (3).
وروي أن له بدلاً، وهو صوم ثمانية عشر يوماً(4).
لكن لم نعلمه على وجه يسوغ العمل به.
وربما قيل بأنّه عشرة كهدي التمتّع، لكن لا يجب فيها المتابعة، ولا كونها في الحجّ أو غيره لانتفاء المقتضي (5).
وحيث قلنا ببقائه على الإحرام يستمر عليه إلى أن يتحقّق الفوات، فيتحلّل حينئذٍ بعمرة إن أمكن، وإلا بقي على إحرامه إلى أن يجد الهدي، أو يقدر على العمرة.
قوله: «ويتحقّق الصدّ بالمنع من الموقفين - إلى قوله - ويستنيب في الرمي».
المصدود إما أن يكون حاجاً أو معتمراً، والمعتمر إمّا أن يكون متمتّعاً أو مفرداً، فإن كان حاجّاً تحقق صدّه بالمنع من الموقفين معاً إجماعاً، وبالمنع من أحدهما مع فوات الآخر، وبالمنع من المشعر مع إدراك اضطراري عرفة خاصةً دون العكس، وبالجملة يتحقّق بالمنع
ص: 300
-------------------------------------------------------------------
ممّا يفوت بسببه الحجّ، وقد تقدم تحرير أقسامه الثمانية.
ومن هذا الباب ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته؛ لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخّر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم، فإنّ التقيّة هنا لم يثبت.
وأمّا إذا أدرك الموقفين أو أحدهما على الوجه المتقدم ثم صُدّ، فإن كان عن دخول منى لرمي جمرة العقبة والذبح والحلق، فإن أمكن الاستنابة في الرمي والذبح لم يتحقّق الصد، بل يستنيب فيهما ثم يحلق ويتحلّل ويتم باقي الأفعال بمكّة، ولو لم يمكن الاستنابة فيهما أو قدّم الحلق عليهما ففي التحلّل وجهان، وقد تقدّم مثله في غير المصدود.
ولو صُدّ عن دخول مكّة ومنى ففي تحلّله بالهدي، أو بقائه على الإحرام إلى أن يقدر عليه وجهان، أجودهما أنه مصدود يلحقه حكمه؛ لعموم الآية (1) والأخبار(2).
ويحتمل أن يحلق ويستنيب في الرمي والذبح إن أمكن، ويتحلّل ممّا عدا الطيب والنساء والصيد حتى يأتى بالمناسك.
وكذا الإشكال لو كان صدّه عن مكّة خاصةً بعد التحلّل في مني، لكن هنا اختار جماعة (3) - منهم الشهيد (رحمه اللّه) في الدروس عدم تحقق الصدّ(4)، فيبقى على إحرامه بالنسبة إلى الثلاثة إلى أن يأتي ببقية الأفعال.
وينبغي تقييد ذلك بعدم مضيّ ذي الحجّة، وإلا اتجه التحلّل.
ولا يتحقّق الصدّ بالمنع من أفعال منى بعد النحر من المبيت والرمي إجماعاً، بل يستنيب في الرمي إن أمكن في وقته، وإلا قضاه في القابل.
ص: 301
فروع:
الأوّل: • إذا حبس بدين فإن كان قادراً عليه لم يتحلّل، وإن عجز تحلّل، وكذا لو حبس ظلماً.
-------------------------------------------------------------------
وإن كان الممنوع معتمراً بعمرة التمتّع تحقق صدّه بمنعه من دخول مكة، وبمنعه بعد الدخول من الإتيان بالأفعال.
وفي تحققه بالمنع من السعي بعد الطواف خاصّةً وجهان، من إطلاق النصّ (1)، وعدم مدخلية الطواف في التحلّل، وعدم التصريح بذلك في النصوص والفتوى.
والوجهان آتيان في عمرة الإفراد - مع زيادة إشكال فيما لو صُدّ بعد التقصير عن طواف النساء، فيمكن أن لا يتحقّق حينئذٍ الصدّ، بل يبقى على إحرامه بالنسبة إليهنّ.
وأكثر هذه الفروع لم يتعرّض لها الجماعة بنفي ولا إثبات، فينبغي تحقيق الحال فيها.
قوله: «إذا حُبس بدَيْنِ فإن كان قادراً عليه لم يتحلّل، وإن عجز تحلّل، وكذا لو حبس ظلماً».
حصر هم سبب التحلل - في عنوان الباب - في الحصر والصد يقتضي رجوع هذا إلى أحدهما، والظاهر أنه راجع إلى الصد؛ لأنّ المانع من المسير هو العدو وإن كان لأجل المال، لكن هذا يتم في المحبوس ظلماً؛ لأنّ حابسه في قوة العدوّ.
وأما المحبوس بحيّ يعجز عنه ففى دخوله نظر؛ لأن طالب الحق لا يتحقّق عداوته.
ويمكن الجواب بأنّ العاجز عن أداء الحق لا يجوز حبسه، فيكون الحابس ظالماً كالأوّل، ومن ثَمَّ عُذر المحبوس وجاز له التحلل.
مع أنّ الحصر فيما ذكروه في موضع النظر، فقد عُدّ من الأسباب فناء النفقة، وفوات الوقت، وضيقه، والضلال عن الطريق، مع الشرط قطعاً، ولا معه في وجه لرواية حمران
ص: 302
-------------------------------------------------------------------
عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سأله عن الذي يقول: حلّني حيث حبستني، فقال: «هو حلّ حيث حبسه اللّه عزّ وجلّ، قال أو لم يقل»(1).
وفي إلحاق أحكام هؤلاء بالمصدود أو بالمحصر أو استقلالهم نظر، من مشابهة كلّ منهما، والشكّ فى حصر السبب فيهما، وعدم التعرّض لحكم غيرهما.
ويمكن ترجيح جانب الحصر؛ لأنّه أشق، وبه يتيقن البراءة.
إذا تقرّر ذلك فقول المصنّف وكذا المحبوس ظلما يمكن كون المشبه به المشار إليه ب«ذا» مجموع حكم المحبوس بدين بتفصيله، بمعنى أنّ المحبوس ظلماً على مالٍ إن كان قادراً عليه لم يتحلّل، وإن كان عاجزاً تحلل.
ويمكن كونه الجزء الأخير من حكم المديون، وهو قوله «تحلّل»، والمراد حينئذٍ جواز تحلّل المحبوس ظلماً، سواء قدر على دفع المطلوب منه أم لا، وسواء كان قليلاً أم كثيراً.
والمسألة موضع خلاف، بسببه يتمشى في العبارة الاحتمالان.
وقد تقدّم من المصنّف في أوّل الكتاب نقل الخلاف - فيما لو كان في الطريق عدوٌّ لا يندفع إلا بمالٍ - في سقوط الحجّ، ووجوب التحمّل مع المكنة، واختار الثاني (2)، وسيأتي في هذا الباب مثله بعد التلبس بالحجّ(3)، مع اختياره وجوب بذل ما لا يجحف، ففتواه في المذكور من عبارته أوّلاً يناسب الاحتمال الأوّل، والثانى يناسب القول الآخر بوجهٍ.
وكيف كان، فالأقوى وجوب دفعه مع الإمكان مطلقاً، فلا يجوز له التحلّل معه، فيكون الحكم فيه كالحقّ.
بقي في كلام المصنّف بحث آخر، وهو أنه قد ذكر المسألة في ثلاثة مواضع، وهي متقاربة الموضوع، وبينها اختلاف يسير.
ص: 303
-------------------------------------------------------------------
فالأول فيما لو طلب منه المال في الطريق قبل الشروع في الحجّ، والآخران بعده إلا أنّ هذه مفروضة في كونه قد حبس بالفعل، والثانية في كونه ممنوعاً من المسير إلى أن يؤدّي إليهم مالاً، فعلى الاحتمال الأوّل من تقرير هذه العبارة لا اختلاف في الحكم، بل الثلاثة مشتركة في وجوب دفعه مع الإمكان، إلا أنّ في الأخيرة تقييده بعدم الإجحاف، وفي الأوليين التقييد بالإمكان مطلقا، فيحتاج إلى توجيه الفرق بين ذكر القيد وعدمه إن كان، أو د دعوى تغير الحكم، وعلى الاحتمال الثاني من احتمالي هذه المسألة المقتضي لعدم وجوب دفع المال إلى الظلمة مطلقاً - فبالتحلّل يحصل الاختلاف بين المواضع الثلاثة في الحكم.
والظاهر من عبارة جماعة (1) - خصوصاً العلّامة (2)- أن المراد هو هذا المعنى، فإنّهم صرّحوا بأن المحبوس على المال ظلماً يتحلّل كالمحبوس على حقّ يعجز عنه.
وقد يكلّف للفرق بين هاتين العبارتين المتقاربتين على هذا التقدير بإبداع الفرق بين الموضعين؛ فإنّ الأُولى منهما - وهي هذه المسألة - مفروضها كونه محبوساً على مالٍ ظلماً، لا لخصوص المنع عن الحجّ، بل بسبب المال خاصةً، حتّى أنه لو أعرض عن الحجّ رأساً لم يندفع عنه المال، بخلاف منع العدو في الثانية، فإنّه لخصوصية الحجّ، حتى لو أعرض عن الحجّ خلي سبيله، وحينئذٍ فيجب بذل المال في الثاني ؛ لأنه بسبب الحجّ، دون الأوّل.
وفي اختلاف الأحكام بسبب هذا الفرق مع تسليمه منع واضح، كيف وهو غير ظاهر من الكلام، ولا يدلّ عليه المقام.
وبقي الكلام على الفتوى في العبارة السابقة والأخيرة، حيث لم يقيد في الأُولى بالإجحاف، وقيد في الثانية. ولو قيل بأنه كان ينبغي العكس أمكن، فإنّه بعد التلبس بالحجّ
ص: 304
الثاني: • إذا صابر ففات الحجّ لم يجز له التحلّل بالهدي، وتحلّل بالعمرة ولا دم، • وعليه القضاء إن كان واجباً.
الثالث: • إذا غلب على ظنه انكشاف العدوّ قبل الفوات جاز أن يتحلّل، لكنّ الأفضل البقاء على إحرامه، فإذا انكشف أتمّ، ولو اتفق الفوات أحلّ بعمرة.
-------------------------------------------------------------------
يجب إكماله مع الإمكان للأمر به في قوله تعالى: «وَأَتِمُّوا الحجّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ»(1). «وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ»(2) فيجب تحصيل ما يتوقّف عليه مطلقاً، بخلاف ما لو لم يتلبّس، فإنّ الوجوب مشروط بتخلية السرب، وهو منتف وشرط الواجب لا يجب تحصيله، إلى آخر ما سبق في توجيهه، فوجوب البذل هناك مطلقاً، وهنا مع عدم الإجحاف غير واضحٍ.
قوله: «إذا صابر ففات الحجّ لم يجز له التحلّل بالهدي، وتحلّل بعمرة ولا دم».
لا فرق في ذلك بين رجاء زوال عذره قبل خروج الوقت مع المصابرة وعدمه، بل يجوز الصبر إلى أن يفوت الوقت مطلقاً، ويتحلّل حينئذٍ بعمرة لأجل القوات مع الإمكان؛ لانتفاء الصدّ حينئذٍ، ويسقط عنه دم التحلل.
ولو استمر المنع عن مكّة بعد الفوات تحلّل من العمرة بالهدي كالأوّل. ويستحبّ الصبر مع رجاء زوال العذر.
قوله: «وعليه القضاء إن كان واجباً».
أي وجوباً أصليّاً مستقراً كما تقدّم في نظيره، أو مع التفريط في السفر بحيث لو بادر لم يحصل المانع، فلا يجب قضاء المندوب بالأصل وإن كان قد وجب بالشروع فيه، ولا ما وجب في عامه ولم يتحقّق التقصير.
قوله: «إذا غلب على ظنّه انكشاف العدوّ قبل الفوات جاز أن يتحلّل، لكن الأفضل البقاء» إلى آخره.
ص: 305
الرابع: • لو أفسد حجّه فصُدّ كان عليه بدنة ودم التحلّل، والحجّ من قابلٍ.
-------------------------------------------------------------------
وجه الجواز تحقق الصدّ حينئذٍ، فيلحقه حكمه، وإن كان الأفضل الصبر مع الرجاء فضلاً عن غلبة الظن؛ عملاً بظاهر الأمر بالإتمام(1).
قوله: «لو أفسد حجّه فصُدّ كان عليه بدنة ودم التحلل، والحجّ من قابل».
لا إشكال في وجوب الحجّ عليه من قابل؛ لأنّ الإفساد موجب لذلك، سواء قلنا: إنّ الأُولى فرضه والثانية عقوبة، كما دلت عليه رواية زرارة(2). أم بالعكس، كما يقتضيه الدليل إن لم نعمل بالرواية، وإنما الكلام فى وجوب حجّة أُخرى بعد القابل.
وتحرير المحلّ أنا إن قلنا: إنّ الأُولى فرضه والثانية عقوبة لم يكف الحجّ الواحد، بل يجب عليه حجّتان؛ لأنّ حجّ الإسلام إذا تحلّل منه بسبب الصد وجب الإتيان به بعد ذلك إذا كان وجوبه مستقرّاً، كما مرّ، وحجّ العقوبة بعد ذلك بسبب الإفساد السابق، وإن لم يكن مستقراً لم يجب سوى العقوبة.
وإن قلنا: إن الأُولى عقوبة والحال أنه قد تحلّل منها، فيبني على أنّ حجّ العقوبة إذا تحلل منه بالصد هل يجب قضاؤه أم لا؟ قيل بالأول؛ بناءً على أنه حجّ واجب قد صُدّ عنه، وكلّ حجّ واجب صُدّ عنه وجب قضاؤه(3). وقيل بالثاني؛ لأن الصد والتحلل مسقط لوجوب الأولى، والقضاء إنما يجب بأمرٍ جديد، ولأن وجوب العقوبة الأصلي قد زال، وإنما وجب إتمامها للشروع فيها كالمندوب، وما وجب بالشروع خاصة لا يجب قضاؤه مع الصدّ(4).
فإن قلنا بوجوب قضائه وجب عليه حجان آخران أيضاً، أحدهما حجّ الإسلام، والآخر قضاء العقوبة، ويجب تقديم حجّ الإسلام على العقوبة.
ص: 306
• ولو انكشف العدو في وقت يتسع لاستئناف القضاء وجب، وهو حجّ يقضى لسنته، وعلى ما قلناه فحجّة العقوبة باقية، ولو لم يكن تحلّل مضى في فاسده، وقضاه في القابل.
-------------------------------------------------------------------
وإن قلنا بعدم قضائه، كفاه حجّ واحد، وهو حجّ الإسلام.
ولعلّ الثاني أقوى، فعلى هذا لو لم يكن الوجوب مستقراً، لم يكن عليه قضاء أصلاً.
قوله: «ولو انكشف العدوّ في وقت يتسع لاستئناف القضاء وجب - إلى قوله - فحجّة العقوبة باقية».
هذا من تتمّة المسألة السابقة، وحاصله أنه لو أفسد حجّه ثمَّ تحلّل للصدّ فانكشف العدوّ وفي الوقت سعة بحيث يمكنه أن يأتي بأفعال الحجّ المعتبرة في صحته، وجب عليه ذلك.
ثمَّ إن قلنا: إن إكمال الأُولى التي قد فسدت عقوبة استأنف عند زوال العذر حجّة الإسلام، فإن قلنا بعدم وجوب قضاء حجّة العقوبة فهو حجّ يقضى لسنّته، بمعنى أنه لا يجب عليه حجّ آخر غيره، وليس معنى «حجّ يقضى لسنّته» إلا هذا وإن قلنا: إنّ الفاسدة حجّة الإسلام، أو قلنا: إنّ حجّ العقوبة يقضى إذا أفسد وجب عليه حجّ الإسلام في الوقت الذي تبين سعته، ويبقى حجّ العقوبة واجباً عليه في القابل، ولم يكن حجّاً يقضى لسنته بالمعنى الذي قدّمناه.
إذا تقرّر ذلك فقول المصنّف «وعلى ما قلناه فحجّة العقوبة باقية» يقتضي سبق إشارة منه إلى اختيار ما يدلّ عليه بأن يكون قد اختار أنّ الأُولى حجّة الإسلام، أو أن العقوبة تقضى وإن قلنا إنّ الأُولى عقوبة، لتكون العقوبة باقية في ذمته، والمتقدمة عند زوال العذر حجّة الإسلام، وهذا لم يظهر من مذهبه فيما سبق. وكأنه جعل ذلك إشارة إلى ما يختاره في المسألة.
واعلم أن قوله وعلى ما قلناه إلى آخره، وجعله مقابلاً لقوله «وهو حجّ يقضى لسنته» يدل على أن المراد من الذي يقضى لسنته ما تقدّم من سقوط الوجوب في تلك السنة أصلاً. والمراد بالقضاء هنا الإتيان بالفعل، فإنّ الحجّ ليس من العبادات الموقتة بحيث ينوي
ص: 307
الخامس • لو لم يندفع العدو إلا بالقتال، لم يجب، سواء غلب على الظنّ السلامة أو العطب.
-------------------------------------------------------------------
الأداء به في وقت والقضاء في غيره، فكأن المراد أن الحجّ الواجب عليه يؤدى في تلك السنة، ويسقط فيها عنه الوجوب.
وقد فسره الإمام فخر الدين في هذا المحلّ من شرح القواعد بطريقةٍ أُخرى غير معهودة، وهي:
أنّ المراد بقضائه في سنته فعل ما فسد أوّلاً في تلك السنة ثانياً، بمعنى أنا إن قلنا بكون الأُولى حجّة الإسلام وتمكن من فعلها ثانياً فهو حجّ يقضى لسنته؛ لأن هذا الحجّ المأتي به قضاء عن تلك الفاسدة، وإن قلنا إنّ الأُولى عقوبة فهذه حجّة الإسلام، فلا تكون قضاء لتلك الفاسدة، فلا يكون هذا حجّاً يقضى لسنته، وإن قلنا إنّ العقوبة تقضى ؛ لأنّ حجّة الإسلام مقدّمة على قضاء العقوبة إجماعاً، فيقضى الفاسد العقوبة في سنةٍ أخرى(1).
وهذا التقرير له وجه، لكنّه لا يطابق مرادهم بذلك.
قوله: «لو لم يندفع العدو إلا بالقتال لم يجب إلى قوله أو العطب».
إطلاق الحكم في ذلك يقتضي عدم الفرق في ذلك بين كون العدو مسلماً أو كافراً، وهو كذلك بالنسبة إلى نفي الوجوب، لكن هل يجوز؟ قيل: لا؛ لأنّ القتال مشروط بإذن الإمام وهو اختيار الشيخ لكنّه جزم بالتحريم في الكافر، وجعله في المسلم أولى(2).
والظاهر أنه أراد به التحريم؛ لأنه أولى وتعليله بإذن الإمام أيضاً يدلّ عليه.
وجوزه جماعة منهم العلّامة والشهيد (رحمهما اللّه) (3) مطلقاً مع ظنّ الظفر؛ لأنه نهى عن منكر، فلا يتوقّف على إذن الإمام، ويشكل بمنع عدم توقف النهي المؤدي إلى القتال والجرح
ص: 308
• ولو طلب مالاً لم يجب بذله، ولو قيل بوجوبه إذا كان غير مجحف كان حسناً
-------------------------------------------------------------------
على إذن الإمام، وهُما قد اعترفا به في بابه (1) و بأنّ ذلك لو تم لم يتوقّف الجواز على ظنّ الظفر بل متى جوزه كما هو الشرط فيه، و أيضاً إلحاقه بباب النهي عن المنكر يفضي إلى وجوبه، لا إلى جوازه بالمعنى الأخص وهُمْ قد اتفقوا على عدم الوجوب مطلقاً.
ولو ظنّ العطب أو تساوى الاحتمالان فظاهرهم الاتفاق على نفى الجواز أيضاً.
نعم، لو بدأوا بالقتال وجب دفاعهم مع المكنة في الموضعين؛ لأنّ ذلك من المواضع التي يسوغ فيها الجهاد مع عدم إذن الإمام.
فإن لبس جُنّةٌ للقتال ساترةً للرأس، كالجوشن أو مخيطاً فعليه الفدية، كما لو لبسها للحرّ والبرد.
ولو قتل نفساً أو أتلف مالاً لم يضمن.
ولو قتل صيداً للكفّار كان عليه الجزاء لله، ولا قيمة للكفّار؛ إذ لا حرمة لهم.
قوله: «ولو طلب مالاً لم يجب بذله، ولو قيل بوجوبه إذا كان غير مجحف كان حسناً». قد تقدم الكلام في دفع المال في أوّل الكتاب (2)، وأنّ الأقوى وجوبه مع الإمكان وإن كان قبل التلبس بالحج، فبعده أولى. والمصنّف فيما تقدّم أوجبه مع المكنة مطلقاً، وهنا مع عدم الإجحاف، وكان حقه التسوية بينهما، أو عكس الحكم؛ لوجوب إتمام الحجّ والعمرة للّه، فيجب ما كان وسيلة إليه، بخلاف ما سبق على التلبّس.
وفي التذكرة لم يوجب بذلك المال مع كثرته مطلقاً، وجعل بذله مكروهاً للعدوّ الكافر؛ لما فيه من الصغار وتقوية الكفّار(3).
والشيخ (رحمه اللّه) مَنَع من الوجوب مطلقاً(4).
ص: 309
• والمحصر هو الذي يمنعه المرض عن الوصول إلى مكّة أو عن الموقفين. • فهذا يبعث ما ساقه، ولو لم يسق بعث هدياً أو ثمنه.
-------------------------------------------------------------------
هذا كله مع الوثوق بالوفاء مع بذله، وإلا لم يجب إجماعاً، كما لا يجب المسير لو بذل الطريق وكان معروفاً بالغدر، وجاز التحلّل والرجوع.
قوله: «والمحصر هو الذي يمنعه المرض عن الوصول إلى مكّة أو عن الموقفين».
المحصر اسم مفعول من «حصر» إذا منعه المرض من التصرف، ويقال للمحبوس: حصر - بغير همز - فهو محصور.
وقال الفراء: يجوز أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر(1).
وخالفه أبو العباس المبرد والزجاج، قال المبرد: نظيره : حبسه، جعله في الحبس، وأحبسه : عرّضه للحبس، [وقتله : أوقع به القتل ] وأقتله : عرضه للقتل، وكذلك حصره: حبسه، وأحصره: عرّضه للحصر (2).
والفقهاء يستعملون اللفظين - أعني المحصر والمحصور - هنا، وهو جائز على رأي الفراء، وإن كان ما عبّر به المصنّف أفصح.
والكلام في المنع عن مكّة أو الموقفين ما تقدّم في الصدّ بأقسامه وأحكامه.
قوله: «فهذا يبعث ما ساقه، ولو لم يسق بعث هدياً أو ثمنه».
الكلام في الاكتفاء بالهدي المسوق مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل الأقوى بكون الهدي المسوق واجباً - ولو بالسياق بأن أشعره أو قلده، أو بنذر وشبهه - فلا يجزئ، أو مندوباً فيجزئ آت هنا.
ص: 310
• ولا يحلّ حتّى يبلغ الهدي محله، وهو منى إن كان حاجاً، أو مكّة إن كان معتمراً،• فإذا بلغ قصر وأحل، إلا من النساء خاصةً حتى يحج في القابل إن كان واجباً، أو يطاف عنه طواف النساء إن كان تطوّعاً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا يحلّ حتّى يبلغ الهدي محله، وهو منى إن كان حاجاً، أو مكّة إن كان معتمراً».
هذا من جملة ما يفرّق بينه وبين الصدّ، وكان الأُولى أن يقتصر على قوله «حتى يبلغ الهدي منى إن كان حاجاً، ومكة إن كان معتمراً» من غير ذكر محله؛ لأنّ كلّ موضع يذبح فيه الهدي أو ينحر فهو محله؛ سواء كان أحد الموضعين المذكورين، أو محلّ الصدّ كما في المصدود، كما يقتضيه تفسير الآية (1) عندنا، فإنّها لما كانت شاملةً للمصدود والمحصر وإن عبر عنها بلفظ المحضر، فسّروا فيها المحل بالأعم، فليس في ذكر المحلّ ما يفيد الاختصاص بالموضعين، بل هو حكم مشترك بين المصدود والمحصر، وإنّما يمتازان بمكان الذبح وهو أحد الموضعين في المحصر، وموضع الصدّ في المصدود.
قوله: «فإذا بلغ قصر وأحلّ إلا من النساء خاصةً حتى يحج في القابل» إلى آخره.
المراد ببلوغه محله حضور الوقت الذي وافق أصحابه للذبح أو النحر فيه في المكان المعين، فإذا حضر ذلك الوقت أحلّ بالتقصير على ما ورد في أكثر العبارات(2)، وبه أو بالحلق على الظاهر في غير عمرة التمتّع؛ عملاً بالأصل.
وتوقف تحريم النساء على طوافهنّ يتمّ مع وجوب طواف النساء في النسك، فلو كان عمرة التمتّع فالذي ينبغي الإحلال من النساء أيضاً؛ إذ ليس فيها طواف النساء.
ص: 311
• ولو بانَ أنّ هديه لم يُذبح لم يبطل تحلّله، وكان عليه ذبح هدي في القابل.
-------------------------------------------------------------------
واختاره في الدروس (1). ولكن الأخبار (2) مطلقة ؛ لعدم حل النساء إلّا بطوافهن من غير تفصيلٍ.
والمراد بالواجب هنا المستقرّ وجوبه، كما مرّ في نظائره، فيجب العود له في القابل، فيطوف للنساء بسبب حضوره، وإن كان شأن طواف النساء جواز الاستنابة فيه لمن صار في بلده وإن أمكنه العود، فإنّا قيّدنا ذلك فيما تقدم بمن لم يتفق حضوره، ووجوب قضاء الحجّ يحصل القيد، فعلى هذا لو لم يكن الوجوب مستقراً لم يجب العود للحجّ، فجازت الاستنابة في الطواف، كما لو لم يكن الحجّ واجباً.
وفي حكمها ما لو تعذّر عليه العود في الواجب المستقرّ، فإنّ الأقوى جواز الاستنابة فيه ليتحلّل؛ لما في تركه من الضرر العظيم، مع كونه من الأفعال القابلة للنيابة في الجملة. وبه جزم في القواعد (3). وقيل: يبقى على إحرامه إلى أن يطوف لهنّ(4)، لإطلاق النصّ (5).
قوله: «ولو بانَ أنّ هديه لم يُذبح لم يبطل تحلّله، وكان عليه ذبح هدي في القابل».
لا خلاف في عدم بطلان تحلّله عند ظهور عدم ذبحهم للهدي، لكن إذا بعث في القابل هل يجب عليه أن يمسك عمّا يمسكه المُحرم إلى أن يبلغ الهدي محله؟
المشهور ذلك ؛ لصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يبعث من قابل ويمسك أيضاً»(6).
ص: 312
ولو بعث هديه ثمَّ زال العارض لحق بأصحابه، فإن أدرك أحد الموقفين في وقته فقد أدرك الحجّ،• وإلا تحلّل بعمرة، وعليه في القابل قضاء الواجب، ويستحبّ قضاء الندب.
• والمعتمر إذا تحلّل يقضى عمرته عند زوال العذر، وقيل: في الشهر الداخل.
-------------------------------------------------------------------
وبالغ ابن إدريس في إنكاره؛ بناءً على أنه ليس بمُحرمٍ، فكيف يحرم عليه شيء؟! (1)
وتوقّف في ذلك جماعة (2)؛ نظراً إلى النص الصحيح، وتوجه كلام ابن إدريس.
وبعضهم (3) حَمَل الرواية على الاستحباب؛ جمعاً بينها وبين ما ذكره ابن إدريس.
ولا ريب أن العمل بمضمون الرواية أولى إن لم يكن متعيّناً. ولا بعد في ذلك بعد ورود النصّ. وسيأتي مثله في تجنّب من بعث هدياً من الآفاق تبرّعاً ما يجتنبه المُحرم.
قوله: «وإلا تحلّل بعمرة».
لا ريب في وجوب التحلّل بعمرة مع تبيّنه أن أصحابه لم يذبحوا عنه، فإنّه حينئذٍ يقلب إحرامه إلى العمرة المفردة، ويتحلّل بها، أمّا مع تبينه ذبحهم هديه فيحتمل قوياً كونه كذلك ؛ لأنّ الهدي إنّما يحلّل مع عدم التمكن من العمرة، أما معها فلا؛ لعدم الدليل. وهو خيرة الدروس(4).
ويحتمل عدم الاحتياج إلى العمرة؛ لتحقق ذبح الهدي المقتضي للتحلّل.
قوله: «والمعتمر إذا تحلّل يقضي عمرته عند زوال العذر وقيل في الشهر الداخل».
هذا الخلاف يرجع إلى الخلاف في الزمان الذي يجب كونه بين العمرتين، وسيأتي الكلام فيه في بابه. والأقوى عدم تحديده.
وإنما يجب قضاؤها مع استقرار وجوبها قبل ذلك، أو مع التفريط، كما مرّ في الحجّ
ص: 313
• والقارن إذا أُحصر فتحلّل لم يحج في القابل إلّا قارناً، وقيل: يأتي بما كان واجباً، وإن كان ندباً حجّ بما شاء من أنواعه، • وإن كان الإتيان بمثل ما خرج منه أفضل.
• وروي أنّ باعث الهدي تطوّعاً يواعد أصحابه وقتاً لذبحه أو نحره، ثمَّ يجتنب ما يجتنبه المُحرم، فإذا كان وقت المواعدة أحلّ، لكن هذا لا يلبّي، ولو أتى بما يحرم على المُحرم كفّر استحباباً.
-------------------------------------------------------------------
ولو لم يكن كذلك استحبّ، وعبارة المصنّف يشملها.
قوله: «والقارن إذا أُحصر فتحلّل لم يحج في القابل - إلى قوله - من أنواعه».
ما اختاره المصنّف من تعيّن ما خرج منه هو مذهب الأكثر ؛ لصحيحتي محمد بن مسلم ورفاعة عن الصادقين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «القارن يدخل بمثل ما خرج منه». (1)
وظاهر هذا القول أنّه لا فرق في ذلك بين الواجب والندب وإن لم يجب قضاء الندب، بمعنى أنه إن قضاه فَعَل كذلك.
والأقوى أن القضاء يساوي الأداء، فإن كان متعيّناً بنوع فعله، وإن كان مخيراً تخيّر، وكذا المندوب لو أراد قضاءه، ويُحمل الأخبار على المتعين بنذرٍ وشبهه.
قوله: «وإن كان الإتيان بمثل ما خرج منه أفضل».
هذا من تتمة القول المحكي، بمعنى أنه وإن كان متخيّراً في الواجب على وجه وفي المندوب مطلقاً إلا أن الإتيان بمثل ما خرج منه أفضل مطلقاً؛ وقوفاً مع ظاهر النص وخروجاً من خلاف الأكثر.
قوله: «وروي أنّ باعث الهدي تطوّعاً يواعد أصحابه وقتاً - إلى قوله كفّر استحباباً».
هذه الكيفيّة قد وردت بها روايات صحيحة من طُرقنا (2)، وفي بعضها عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ):
ص: 314
-------------------------------------------------------------------
«ما يمنع أحدكم أن يحجّ كلّ سنة»؟ فقيل له: لا تبلغ ذلك أموالنا، فقال: «أما يقدر أحدكم إذا خرج أخوه أن يبعث معه بثمن أضحيّةٍ، ويأمره أن يطوف عنه أسبوعاً بالبيت ويذبح عنه، فإذا كان يوم عرفة لبس ثيابه، وتهيأ وأتى المسجد فلا يزال في الدعاء حتّى تغرب الشمس»(1).
و حاصل هذه العبارة على ما اجتمع عليه من الأخبار أن من أراد ذلك وهو في أُفق من الآفاق يبعث هدياً أو ثمنه مع بعض أصحابه، ويواعده يوماً لإشعاره أو تقليده، فإذا حضر ذلك الوقت اجتنب ما يجتنبه المُحرم، فيكون ذلك بمنزلة إحرامه، لكن لا يلبّي، فإذا كان يوم عرفة اشتغل بالدعاء من الزوال إلى الغروب استحباباً، كما يفعله من حضرها، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر حين المواعدة لذبحه، فيحلّ، ويكون ذلك له بمنزلة الحجّ.
وبقي هنا أمور:
الأوّل: أكثر الأخبار وردت ببعث الهدي، وتبعها المصنّف وغيره من أصحاب الفتاوى، ولا شكّ أنّه أفضل لكنه غير متعيّن، فيجوز بعث الثمن خصوصاً فيمن لا يقدر على بعث بدنةٍ، فإنّ باقي النعم لا يصلح للبعث إلا من قرب. وقد ورد بعث الثمن في الخبر الذي ذكرناه وذكره الصدوق في الفقيه (2).
الثاني : المراد بالهدي هنا المجزئ في الحجّ، فيتخيّر بين النعم الثلاثة. ويشترط فيه شرائطها السابقة من السنّ والسلامة من العيوب والسمن وغيرها، وأفضلها البدنة، وقد صرّح بها في بعض الأخبار (3)، وبعث البعيد منبه عليه أيضاً.
الثالث: لا فرق في يوم المواعدة بإشعاره أو تقليده بين كونه وقت إحرامهم أو في غيره؛ لإطلاق النص، ولا بين كونه بعد تلبسهم بالحجّ أو قبله، ولا بين كون الزمان الذي بينه
ص: 315
-------------------------------------------------------------------
وبين يوم النحر طويلاً أو قصيراً للإطلاق في ذلك كلّه.
وينبغي أن يكون قبل زوال عرفة ليتهيّاً للتعريف مُحرماً، ولو كان بعدها فالظاهر الإجزاء.
ويمكن استفادته من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الخبر السابق: «فإذا كان يوم عرفة لبس ثيابه» فإنّ الثياب عرفاً شاملة للمخيط. ويمكن أن يريد بها ثياب الإحرام، وهو الأولى.
الرابع: لو اقتصر على مواعدتهم لذبحه أو نحره من غير إشعار ولا تقليد، ففي تأدّي الوظيفة به وجه؛ لعدم ذكره في الخبر السابق وإن ذكر في غيره من الأخبار(1)، وعبارة المصنّف هنا تدلّ عليه، فإنّه اقتصر على ذكر المواعدة للذبح.
وعلى هذا يمكن سقوط أحكام الإحرام من التجرد من المخيط وغيره.
ويمكن الاجتزاء بالتحرم متى شاء قبل وقت المواعدة للذبح ولو لحظة. والموجود في الفتاوى الإحرام عند المواعدة بالتقليد.
الخامس: يفتقر اجتنابه لما يجتنب المُحرم إلى النيّة، كغيره من العبادات، فينوي: أجتنب كذا وكذا من تروك الإحرام، أو ما يجتنب المُحرم لندبه قربة إلى اللّه، وشبه ذلك، ويلبس ثوبي الإحرام إلى وقت المواعدة بالذبح.
ويمكن الاجتزاء باجتناب تروك الإحرام من غير أن يلبس ثوبيه؛ لأنّ ذلك هو مدلول النصوص(2).
وتظهر الفائدة فيما لو اقتصر على ستر العورة، أو جلس في بيته عارياً، ونحو ذلك.
أمّا الثياب المخيطة والمحيطة فلابد من نزعها، وكذا كشف الرأس ونحوه.
السادس: لو فَعَل في وقت الاجتناب ما يحرم على المُحرم كفّر مستحبّاً بما يلزم
ص: 316
-------------------------------------------------------------------
المُحرم. وفي رواية هارون بن خارجة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذَبْح بقرةٍ عن لبس الثياب لمن اضطرّ إليها للتقيّة (1).
السابع: يكره له بعد النيّة ملابسة تروك المُحرم، كراهةً شديدةً.
وفي رواية أبي الصباح الكناني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يحرم عليه ما يحرم على المُحرم في اليوم الذي واعدهم حتى يبلغ الهدي محلّه»(2). والظاهر أنه أراد به تأكيد الكراهة.
الثامن: وقت ذبح هذا الهدي يوم النحر على ما ورد في رواية معاوية بن عمّار(3)، وباقي الأخبار مطلقة، وإنما فيها أنّه يحلّ في اليوم الذي واعدهم(4).
ويمكن حمل المطلق على المقيد، والتخيير مع أفضلية يوم النحر.
التاسع: مكانه منى على الأوّل؛ لأن الذبح يوم النحر يكون بها، وعلى الثاني يتخيّر بينها وبين مكّة لاشتراكهما في المحليّة لذبح الهدي في الجملة وإن كان أحدهما محلّ ذبح الحجّ والآخر العمرة، والأوّل أولى.
العاشر: مصرفه الفقراء والمساكين بتلك البقعة، ويسقط اعتبار الأكل قطعاً.
ويمكن اعتبار الإهداء والصدقة؛ لإمكانهما، والاكتفاء بالذبح خاصة، كهدي القران غير الواجب بنذرٍ وشبهه؛ لأصالة البراءة مما زاد على الذبح.
والأخبار والفتاوى خالية من بيان مصرفه وزمانه ومكانه.
الحادي عشر: لو أخلفوا الميعاد وتبيّن أنّ هديه لم يُذبح وقت تحلّله فلا شيء عليه ؛ لامتثاله المأمور به ولرواية أبي الصباح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفيها قلت فإن أخلفوا في
ص: 317
-------------------------------------------------------------------
ميعادهم وأبطأوا في السير عليه جناح في ذلك اليوم الذي واعدهم؟ قال: «لا، ويحلّ في اليوم الذي واعدهم»(1).
وقد تقدّم مثله في المحصر مع كونه واجباً عليه.
الثاني عشر: أكثر الأخبار اقتصر فيها على هذه المواعدة والاجتناب (2)، ولكن زاد في الرواية المتقدّمة (3) أنه يأمر نائبه أن يطوف عنه أسبوعاً، وأنه يتهيأ للدعاء يوم عرفة إلى الغروب، وهو حسن، والزيادة غير المنافية مقبولة، ولو ترك ذلك أمكن تأدي الوظيفة، كما لو ترك التقليد الذي تضمنته تلك الروايات دونها.
والظاهر أنّه لا ترتيب بين الذبح والطواف؛ لإطلاق النص، وإن كان الذبح معطوفاً على الطواف بالواو، فإنّها لا تفيد الترتيب.
واعلم أنّ هذه العبارة قد وردت في النصوص الصحيحة المتكثّرة(4)، وذكرها أكثر الأصحاب في كتبهم، وأفتوا بمضمونها، وإثبات الأحكام الشرعيّة يحصل بدون ذلك، وحينئذٍ فلا يلتفت إلى إنكار ابن إدريس لها، زاعماً أن مستندها أخبار آحاد لا تكفي في تأسيس مثل ذلك، فإنّ ذلك منه في حيّز المنع.
ص: 318
• الصيد هو الحيوان الممتنع.
• وقيل: يشترط أن يكون حلالاً.
-------------------------------------------------------------------
قوله «الصيد هو الحيوان الممتنع».
أي الصيد المبحوث عنه في هذا المقام المحرَّم على المُحْرِم.
وهذا التعريف غير جامع ولا مانع؛ لدخول ما توحش من الأهلي وامتنع كالإبل والبقر منه، مع أنّ قتله جائز إجماعاً، وخروج ما استأنس من الحيوان البري كالظبي، مع دخوله إجماعاً، فلا بد من قيد الأصالة.
ويدخل فيه أيضاً نحو الذئب والنمر والفهد من الحيوانات الممتنعة، مع أن قتلها غير محرم اتفاقاً، نقله في التذكرة (1) والمبسوط (2). نعم، ربما نُقل عن أبي الصلاح تحريم قتل جميع الحيوانات ما لم يخف منه أو كان حيّة أو عقرباً أو فأرة أو غراباً(3).
ومع هذا فليس بمطابق لهذا التعريف ولا مراد للمصنّف بل الظاهر من مذهبه مذهبه أنّه لا يحرم من غير المأكول غير الثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ والزنبور، ولو أراد ما هو أزيد من ذلك فما دخل في التعريف ليس جميعه مراداً له.
قوله: «وقيل: يشترط أن يكون حلالاً».
أي يشترط مع ما ذكر أولاً - وهو الحيوان الممتنع - أن يكون حلالاً، ليخرج هذه الأشياء
ص: 319
والنظر فيه يستدعى فصولاً:
[الفصل] الأوّل: الصيد قسمان:
فالأوّل: • ما لا يتعلّق به كفّارة كصيد البحر، • وهو ما يبيض ويفرخ في الماء،
-------------------------------------------------------------------
التي تقدّمت من السباع وغيرها، ولا يريد أن الصيد هو الحلال مطلقاً، لئلا يدخل فيه ما لا يمتنع منه كالنعم.
ومع ذلك فالتعريف غير سديد؛ لأنه يدخل فيه ما عددناه أخيراً من الثعلب والأرنب وبقيّة الخمسة، فإنّها محرمة قطعاً منصوصة الفداء(1)، فلا بدّ من إدخالها في التعريف.
وهذا الذي حكاه هنا قولاً اختاره في النافع (2) ولم يذكر غيره.
والأسد حينئذٍ أن يقال: إنه الحيوان المحلّل الممتنع بالأصالة، ومن المحرَّم الثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ والقمل، ويبقى منه الزنبور والأسد والعظاية، ففيها خلاف يأتي، وقريب منها البرغوث.
قوله: «ما لا يتعلّق به كفارة كصيد البحر».
عدم تعلّق الكفّارة به أعمّ من جواز قتله؛ فإن المحرم قد لا يجب به كفارة، كما مر في جملة من محرمات الإحرام.
والمراد هنا جواز صيده المستلزم لنفي الكفّارة فيه، لا مجرد نفي الكفّارة؛ لأن صيد البحر جائز للمُحرم إجماعاً، فكان الأُولى التعبير بالجواز، لا بنفي الكفّارة.
قوله: «وهو ما يبيض ويفرخ في الماء».
يُفْرِخ - بضمّ حرف المضارعة وكسر العين - مضارع أفرخ، ويجوز فتح الفاء وتشديد الراء، يقال: أفرخ الطائر وفرّخ بالتشديد، والجار يتعلق بكلّ واحدٍ من «يبيض» و«يفرخ»،
ص: 320
• ومثله الدجاج الحبشي، وكذا النّعم ولو توحّشت.
• ولا كفارة في قتل السباع، ماشية كانت أو طائرة، إلا الأسد فإنّ على قاتله كبشاً إذا لم يرده، على رواية فيها ضعف.
• وكذا لا كفارة فيما تولّد بين وحشي وإنسي، أو بين ما يحل للمُحرم وما يحرم، ولو قيل : يُراعى الاسم كان حسناً.
-------------------------------------------------------------------
بمعنى أنّ الماء محلّ بيضه وإفراخه معاً كالسمك، فما يلازم الماء ولا يبيض فيه كالبطّ فليس ببحري، وقد تقدّم تحريم ذلك في تروك الإحرام.
قوله: «ومثله الدجاج الحبشي».
أي مثل صيد البحر في عدم تحريم صيده، كما ورد به النصّ (1)عندنا، خلافاً لبعض العامّة (2).
والدجاج الحبشي قيل : إنه طائر أغير اللون في قدر الدجاج الأهلى أصله من البحر.
قوله: «ولا كفّارة في قتل السباع ماشية كانت أو طائرة إلا الأسد» إلى آخره.
المراد من عدم الكفّارة نفى تحريم صيدها كما تقدم في صيد البحر - وإن كان اللفظ أعم.
والأقوى أنه لا شيء في قتل السباع مطلقاً؛ لضعف الرواية الدالة على الوجوب(3). وربّما حُملت على الاستحباب، فإنّ دلائل الاستحباب يتسامح فيها.
قوله: «وكذا لا كفارة فيما تولّد بين وحشي وإنسي - إلى قوله كان حسنا».
القول الأول للشيخ (رحمه اللّه)(4). وما حسّنه المصنّف أقوى؛ لأن النص ورد على أشياء مسمّاة، فيثبت في كلّ ما صدق عليه الاسم.
ص: 321
ولا بأس بقتل الأفعي والعقرب والفأرة، • وبرمي الحدأة والغراب رمياً.
-------------------------------------------------------------------
ولو انتفى عنه الاسمان، فإن لم يكن ممتنعاً فلا شيء، وإن كان ممتنعاً قيل : يحرم(1).
وفيه نظر؛ لأنّه ليس بمحلّل، فلا يكفي وصف الامتناع فيه، فإنّ التحريم مشروط بامتناع المحلَّل، أو المحرمات المذكورة، وليس منها.
قوله: «وبر مي الحدأة والغراب رمياً».
مقتضاه عدم جواز قتلهما، وهو ظاهر الأخبار (2). ويظهر من المبسوط الإجماع على جواز قتلهما(3).
وعلى الأوّل لو اتفق من رميهما قتلهما بغير قصد فلا شيء عليه.
وهل يجب الاقتصار على ما يتأدّى به تنفير هما ؟ نظر من إطلاق النصوص بجواز
رميهما كيف اتفق، ومن النهي عن قتلهما، فطريق الجمع محاولة تنفيرهما خاصةً.
والعمل بالرواية المقتضية لإباحة الرمي يقتضي اختصاصه بما لو كانت الحدأة على ظهر البعير، فلا يجوز عن غيره، أما الغراب فجائز مطلقاً.
وربما قيّد الغراب الذي يجوز رميه بالمحرَّم منها(4)، فما يجوز أكله منه كالزاغ لا يجوز رميه مطلقاً، والأصحّ جواز رمي الجميع.
والحدأة - بكسر الحاء وفتح الدال مع الهمز المحرّك مثال عنبة - طائر مخصوص وأَحَدُ جموعه جداً، كحبرة وحبر، وعنبة وعنب. قال الجوهري: ولا يقال: حَدَأة بالفتح والعامّة تقول: حدا، بالفتح غير مهموز(5).
ص: 322
• ولا بأس بقتل البرغوث، • وفي الزنبور تردّد، والوجه المنع، ولا كفارة في
-------------------------------------------------------------------
وأمّا الغراب فهو أربعة أصناف وسيأتي بيانها في باب الأطعمة إن شاء اللّه.
وفي بعض كتب اللغة أنّ الحدأة منها أسود ومنها رُمد(1).
قوله: «ولا بأس بقتل البرغوث».
هذا هو الأقوى؛ للأصل، ولرواية زرارة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2). وذهب جماعة منهم الشيخ في التهذيب(3) والعلّامة (4) - إلى تحريم قتله، وهو أولى. وعلى تقدير التحريم لا فدية له؛ للأصل.
قوله: «وفي الزنبور تردد، والوجه المنع».
قد اختلف الأصحاب في الزنبور، فأطلق جماعة إباحة قتله (5)؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كلّ ما خاف المسلم على نفسه فليقتله»(6) ولأصالة البراءة، وأطلق بعضهم وجوب كفّ من طعام(7)، وبعضهم تمرة(8).
ومنشأ التردّد ممّا احتج به المبيح، ومن قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة معاوية بن عمّار حين سأله عن مُحرم قتل زنبوراً، فقال: «إن كان خطاً فلا شيء عليه» قلت: بل عمداً، قال: «يطعم شيئاً من الطعام»(9).
ص: 323
قتله خطاً، وفي قتله عمداً صدقة وفي قتله عمداً صدقة ولو بكفٍّ من طعامٍ.
-------------------------------------------------------------------
وبهذه الرواية عمل المصنّف، وهو الأقوى، فيجب في قتله شيء من الطعام وإن قلّ، كالكفّ منه بل ما دونه.
ويبقى في كلام المصنّف أمران:
أحدهما اختياره المنع من قتله مطلقاً، ثمَّ حكمه بعد ذلك بوجوب الكفّارة مع العمد خاصّةً، وهو يؤذن بتحريمه في الحالين، لكن مع الخطإ لا كفّارة.
ويشكل بأنّ الخاطئ لا يتوجه عليه تحريم؛ لرفع الخطا والنسيان عن هذه الأمة(1).
وجوابه أنّ حكمه بالمنع إنّما يتوجه إلى العامد وإدخاله الخطأ في التقسيم بعده للتنبيه على استثنائه من أقسام الصيد، فإنّ العامد والناسي والخاطئ مشتركون فيه بالنسبة إلى وجوب الكفّارة وإن انتفى الإثم عن غير العامد، ولما كان قتل الزنبور في حالة الخطإ مستثنى من ذلك للرواية الصحيحة، أخرجه بقوله ولا كفّارة في قتله خطأ لئلا يدخل في عموم حكم الصيد.
وثانيهما: جعل كفارته صدقة مطلقة ولو كفّاً من طعام يدلّ على الاجتزاء بمطلق الصدقة وإن لم يكن طعاماً. والرواية (2) كما قد علمت دلّت على وجوب شيء من الطعام وإن قلّ، لا على وجوب شيء من الصدقة، فلا يجزئ غير الطعام.
وأطلق الشهيد في الدروس أنّ في الزنبور كفّ من طعام أو تمر(3)، فمفهومه أن ما دون الكفّ لا يجزئ، وكذلك مفهوم عبارة المصنّف.
والوجه ما قلناه، فإنّه مدلول النص الصحيح.
واعلم أن الزنبور - بضم أوله - ذباب لساع. وهو نوعان: أحمر وأصفر، وإن كان قد يطلق على الأصفر الصغير اسم آخر.
ص: 324
• ويجوز شراء القماري والدباسي وإخراجها من مكّة على رواية، ولا يجوز قتلها ولا أكلها.
الثاني: ما يتعلّق به الكفّارة، وهو ضربان:
الأوّل: ما لكفّارته بدل على الخصوص، • وهو كلّ ما له مثل من النّعم.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويجوز شراء القماري والدباسي وإخراجها من مكّة على رواية، ولا يجوز قتلها ولا أكلها».
القماري - بفتح القاف - جمع القُمري - بضمّه - وهو طائر معروف مطوّق منسوب إلى طير قمر.
والدباسي جمع دُبسي - بضمّ الدال - منسوب إلى طير دُبس بضمها. وقيل: منسوب إلى طير دبس الرطب - بكسرها، وهو ما يسيل منه، وإنّما ضُمّت الدال مع كسرها في المنسوب إليه على الثاني - لأنّهم يغيّرون في النسب كالدهري والسهلي(1).
وهذان مستثنيان من الصيد باعتبار جواز شرائهما حالة الإحرام وإخراجهما من الحرم، بخلاف غيرهما مما يحرم، وليسا مستثنيين مطلقاً، فلا يجوز إتلافهما ولا أكلهما للمُحرم.
وأمّا المحلّ فيحرم عليه إتلافهما في الحرم قطعاً، وكذا أكلهما، وله إخراجهما منه.
فإذا خرج بهما فالظاهر جواز أكلهما حينئذٍ وإتلافهما؛ لأنهما بعد الإخراج يصيران كباقي الحيوانات التي لا حرمة لها خارجةً.
ويحتمل استمرار التحريم؛ لتحرمهما بالحرم ابتداءً، خرج منه الإخراج، فيبقى الباقي.
قوله: «وهو كلّ ما له مِثْل من النعم».
المراد بالمماثلة هنا المماثلة بينهما باعتبار الصورة، فإنّ النعامة تشابه البدنة، وبقرة الوحش تشابه البقرة الأهلية، والظبي يشابه الشاة.
وهذا المعنى يتم في هذه الثلاثة، لا في غيرها من ذوات الأمثال، فإنّ البيوض التى عدّها من ذوات الأمثال ليست مماثلة لفدائها صورةً ولا قيمة.
ص: 325
وأقسامه خمسة:
الأوّل: • النعامة، وفي قتلها بدنة.
-------------------------------------------------------------------
والحقّ أنّ الاعتبار في المثل بما نص الشارع على مثله، سواء وافق في الصورة تقريباً كالثلاثة الأوّل، أو لا كالبيض المذكور.
وإنّما عبّر بالمثل لاعتبار اللّه تعالى في قوله: «فَجَزَاءً مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ»(1)، ولذلك اعتبر بعض العامة المماثلة الصورية مطلقاً(2)، وبعضهم المماثلة في القيمة (3).
قوله: «النعامة، وفي قتلها بدنة».
البدنة من الإبل: الناقة، قاله الجوهري(4). وهي ما كمل لها خمس سنين ودخلت في السادسة، فالمراد حينئذٍ منها الأنثى، فلا يجزئ الذكر. قال أبو عبيدة:
الناقة من الإبل بمنزلة المرأة، والجمل بمنزلة الرجل، كما أن البكر والبكرة بمنزلة الفتى والفتاة(5).
لا وقد ورد الأمر بالبدنة في قتل النعامة في صحيحة حريز عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(6) وغيرها(7).
نعم، روى أبو الصباح الكناني عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): أن فيها جزوراً(8)، فعلى هذه الرواية يجزئ الذكر. والأقوى البدنة؛ لأنّها في الصحيح.
ولا فرق في ذلك بين كبير النعامة وصغيرها، ولا بين ذكرها وأنثاها.
ص: 326
• ومع العجز تقوم البدنة ويفضّ ثمنها على البرّ، ويتصدق به لكلّ مسكين مدان، ولا يلزم ما زاد عن ستّين.
-------------------------------------------------------------------
وربما قيل باعتبار المماثلة بين الصيد وفدائه، ففي الصغير إبل في سنه، وفي الأنثى أُنثى، وفي الذكر ذكر، واختاره العلّامة في موضع من التذكرة (1).
قوله: «ومع العجز تقوم البدنة ويفضّ ثمنها على البرّ ويتصدّق به لكلّ مسكين مدّان».
عبّر المصنّف وجماعة (2) بإطعام البرّ، وأطلق جماعة (3) وكثير من الأحاديث (4) الطعام، وهو أقوى.
ووجوب مدين لكلّ مسكين هو المشهور، وهو في موثّق أبي عبيدة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5).
والذي في صحيحة معاوية بن عمّار: «من أصاب شيئاً فداؤه بدنة من الإبل، فإن لم يجد ما يشتري بدنة فأراد أن يتصدّق فليطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مُدّاً»(6) وعمل بها ابن بابويه (7) وأبو الصلاح(8). وهذا القول أقوى دليلاً، والأوّل أولى وأشهر.
والأقوى أنّه لا يزيد على إطعام ستّين، فالزائد له ولا يجب عليه إكمالها لو نقصت عن الستّين الصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(9).
ص: 327
• ولو عجز صام عن كلّ مُدين يوماً،• فإن عجز صام ثمانية عشر يوماً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو عجز صام عن كلّ مُدين يوماً».
ظاهر العبارة يقتضي وجوب صوم ستين يوماً، إلا أن تنقص القيمة عن الستين، فيقتصر على صيام قدر ما وسعت من المساكين، وظاهر الأخبار يقتضيه.
وذهب جماعة من الأصحاب (1) إلى وجوب صوم ستّين مطلقاً، ولا شاهد له، وإن كان هو الأحوط.
ثمَّ إن قلنا بجواز الاقتصار على صوم ما قابل الإطعام فوافقت القيمة عدداً معيّناً كالخمسين فظاهر، وإن فضل عن مسكين فضل لا يبلغ المدّ أو المدّين وجب دفعه إلى مسكين آخر وإن قلّ، لكن هل يجب صوم يوم في مقابلته؟ الأجود ذلك؛ لأنّ ذلك القدر وإن نقص عن المُدّ والمُدِّين لكن يصدق عليه أنّه طعام في الجملة، وقد قال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صحيحة محمد بن مسلم: «فإن لم يكن عنده فليصم بقدر ما بلغ لكلّ طعام مسكين يوماً»(2).
ويحتمل عدم وجوب صوم في مقابلته ؛ حملاً للطعام على المعهود المأمور، وهو المُدّ أو المُدان. ويؤيّده رواية أبي عبيدة - في الموثق - عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فإن لم يقدر على إطعام صام لكل نصف صاع يوماً»(3).
وفي التذكرة :
لا نعلم خلافاً في وجوب صوم يوم كامل هنا؛ لأنّ صيام اليوم لا يتبعّض، والسقوط غير ممكن؛ لشغل الذمة، فيجب إكمال اليوم(4).
قوله: «فإن عجز صام ثمانية عشر يوما».
ص: 328
• وفي فراخ النعام روايتان إحداهما مثل ما في النعام، والأُخرى من صغار الإبل، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
هذا هو المشهور. وبه يُجمع بين الأخبار التي دلّ بعضها على صوم الستين ابتداءً عند العجز عن الصدقة(1) من غير تعرّض للثمانية عشر، وبعضها على صوم الثمانية عشر خاصةً عند العجز عن الصدقة(2)، وبعضها على الجمع بين الأمرين بصوم الثمانية عشر بعد العجز عن الستّين(3).
وذهب بعض الأصحاب إلى الاكتفاء بالثمانية عشر بعد العجز عن الصدقة (4)؛ لصحّة روايتها. والعمل بالمشهور أقوى وأحوط.
والظاهر أنه مع العجز عن مجموع صوم الستّين وما في حكمها ينتقل إلى الثمانية عشر وإن قدر على صوم أزيد منها؛ لأنّ ذلك هو مدلول النصوص.
ويحتمل وجوب الصوم الممكن زائداً على الثمانية عشر؛ لوجوب الإتيان بما يستطاع من المأمور به ولأنّه لا يسقط الميسور بالمعسور.
ولو شرع في صوم الستين قادراً عليها، ثم تجدد عجزه عن الإكمال بعد مجاوزة الثمانية عشر اقتصر عليها.
ويحتمل الاقتصار على صوم تسعة لو كان العجز بعد صوم شهر، والسقوط.
ولو عجز عن الثمانية عشر مَن هي فرضه وجب صوم المقدور؛ لعدم المعارض هنا لدليل الوجوب، مع احتمال السقوط.
قوله: «وفي فراخ النعامة روايتان إحداهما مثل ما في النعام، والأخرى من صغار الإبل وهو أشبه».
ص: 329
الثاني: بقرة الوحش وحمار الوحش،• وفي كلّ واحد منهما بقرة أهليّة، ومع العجز يقوم البقرة الأهلية ويفضّ ثمنها على البرّ، ويتصدّق به لكلّ مسكين مُدّان ولا يلزم ما زاد على الثلاثين، ومع العجز يصوم عن كلّ مُدِّين يوماً، وإن عجز صام تسعة أيّام.
الثالث: • في قتل الظبي شاة ومع العجز يقوّم الشاة ويفضّ ثمنها على البرّ، ويتصدق به لكلّ مسكين،مُدان، ولا يلزم ما زاد عن عشرة، فإن عجز صام عن كلّ مُدين يوماً، فإن عجز صام ثلاثة أيّام.
-------------------------------------------------------------------
ما اختاره المصنّف هو الأقوى؛ لاعتضاد روايته(1) بالمماثلة المطلوبة من الآية(2). وبالشهرة، وغيرهما.
ولو عجز عن المماثل فبدله كبدل الكبير حتى فى الترتيب والتخيير.
وينبغي أن يقدّم الكبير - لو وجده - على الإطعام؛ خروجاً من الخلاف، ولأنّه مقدّم عليه فيما هو أقوى، فيجزئ بطريق أولى، مع احتمال عدم الإجزاء على هذا التقدير؛ لأنه غير الفرض.
قوله «وفي كلّ واحدٍ منهما بقرة أهلية، ومع العجز يقوم البقرة الأهلية» إلى آخره.
الكلام في البدل هنا كما تقدّم في النعامة، بمعنى فض القيمة على البر، فإن زاد على الثلاثين لم يجب الزائد وإن نقص لم يجب الإكمال.
وإذا انتقل إلى الصوم صام ثلاثين إن لم تنقص القيمة عنها، وإلا اقتصر على ما قابلها.
والظاهر أنّ المراد بالبقرة المسنة فصاعداً.
ولو كان المقتول فرخاً منهما ففيه من صغير البقرة في سنّه كما مرّ.
قوله: «في قتل الظبي شاة» إلى آخره.
الكلام هنا كما مرّ بالتقريب السابق.
ص: 330
• وفى الثعلب والأرنب شاة، وهو المروي، وقيل فيه ما في الظبي.
• والأبدال في الأقسام الثلاثة على التخيير، وقيل: على الترتيب، وهو الأظهر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وفى الثعلب والأرنب شاة، وهو المرويّ، وقيل فيه ما في الظبي».
القائل بإلحاقه بالظبي الشيخ (1) وجماعة (2). ومستندهم غير واضح.
وأخبارهما على الخصوص إنّما دلّت على وجوب الشاة(3)، ولم يتعرض إلى الأبدال فعلى الأول - وهو الأقوى - يجب مع العجز عن الشاة إطعام عشرة مساكين، فإن لم يجد صام ثلاثة أيّام: لصحيحة معاوية بن عمّار بوجوب ذلك في كلّ شاة لا نص في بدلها (4).
وهل يجب لكلّ مسكين مُدّ أو مُدّان؟ الأصل يقتضي الأوّل، ومناسبة ما سبق تقتضي الثاني، وبكلّ واحد قائل، ولا ريب أن الثاني أحوط.
وذهب بعض الأصحاب تفريعاً على القول الأول إلى أنّه مع العجز عن الشاة يستغفر اللّه ولا شيء عليه(5).
والرواية العامّة (6) تدفعه.
والفرق بين مدلول الرواية وبين إلحاقهما بالظبى يظهر فيما لو نقصت قيمة الشاة عن إطعام عشرة مساكين، فعلى الإلحاق يقتصر على القيمة، وعلى الرواية يجب إطعام العشرة.
قوله: «والأبدال في الأقسام الثلاثة على التخيير، وقيل: على الترتيب».
موضع الخلاف من الثلاثة الثلاثة الأوّل، أعني الفرد من النعم، وفضّ ثمنه على
ص: 331
الرابع • في كسر بيض النعام إذا تحرك فيها الفرخ بكارة من الإبل، لكلّ واحدةٍ واحد،
-------------------------------------------------------------------
المساكين، وصيام قدرهم أيّاماً، أما الصوم الأخير في الثلاثة - وهو الثمانية عشر والتسعة والثلاثة - فلا خلاف في أنّها مرتبة على المتقدّم.
وقد تقدّم(1) في باب الصوم أنّ الأقوى كونها على الترتيب، وإن كان التخيير لا يخلو من قوة؛ عملاً بظاهر الآية (2)، والرواية الصحيحة الدالة على أن «أو» في القرآن للتخيير حيث وقع(3).
قوله: «في كسر بيض النعام إذا تحرك فيها الفرخ بكارة من الإبل، لكلّ واحدة واحد». البكارة - بالكسر - جمع بكر وبكرة بالفتح، والمراد به الفتى من الإبل.
ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى؛ لأنّ مورد النص (4) هذا الجمع، وهو شامل لهما.
ولم أقف على تحديد لسنّه والظاهر أن المراد به ابن المخاض وبنته فصاعداً ما دام يصدق عليه اسم الفتى.
ولو عجز عنه قيل: كان بدله كبدل الكبير(5). ولم نعلم مأخذه، إلأكونه يجزئ عما هو أعظم.
ولو بان البيض فاسداً أو الفرخ ميناً أو عاش سويّاً فلا شيء عليه. ولو مات الفرخ بعد أن خرج حيّا ففيه ما في فرخ النعام، وقد تقدّم.
وإنّما جمع المصنّف الجزاء بلفظ البكارة بسبب جمعه البيض.
ص: 332
• وقبل التحرّك إرسال فحولة الإبل فى إناث منها بعدد البيض فما نتج فهو هدي
-------------------------------------------------------------------
والضابط أنّ في كل بيضة بكراً أو بكرةً.
وأما تعبير من عبّر بأنّ في كل بيضة بكارة كما صنع العلّامة في التحرير(1) - فقد تجوّز كثيراً.
قوله: «وقبل التحرّك إرسال فحولة الإبل في إناث منها بعدد البيض» إلى آخره.
المراد أن الإناث بعدد البيض، وأما الذكورة فلا تقدير لها، إلا ما احتاجت إليها الإناث عادة. وقيل: يجب في الفحول بلوغ العدد أيضاً(2).
ولا يكفي مجرّد الإرسال حتى تشاهد كل واحدة قد طرقت من الفحل.
ويشترط صلاحيّة الإناث للحمل، فلا تكفي الصغيرة والكبيرة الخارجتين عن ذلك.
وهذا الحكم من متفردات،علمائنا و به روایات صحيحة عن أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ)(3).
وفي بعضها أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما سُئل عن ذلك أمر بسؤال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأجاب بذلك، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يا بني، كيف قلت ذلك تعلم أنّ الإبل ربما أزلقت، أو كان فيها ما يزلق؟ فقال: يا أمير المؤمنين والبيض ربما أمرق، أو كان فيه ما يمرق، فتبسم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمَّ قال: صدقت يا بني، ثمَّ تلا: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»(4)»(5).
واعلم أنه لا فرق هنا وفيما تقدم بين كسر البيض بنفسه أو بدايته؛ لأنّه سبب في الإتلاف، وللخبر (6).
ولو ظهر البيض فاسداً أو الفرخ ميتاً فلا شيء، كما مرّ.
ص: 333
• ومع العجز عن كلّ بيضة شاة، ومع العجز إطعام عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام.
الخامس: • في كسر بيض القطا والقَبْح إذا تحرّك الفرخ من صغار الغنم، وقيل: عن البيضة مخاض من الغنم، وقبل التحرّك إرسال فحولة الغنم في إناتٍ منها بعدد البيض، فما نتج فهو هدي.
-------------------------------------------------------------------
وظاهر الأخبار(1) والفتاوى أنّه يُصرف لمصالح الكعبة، لا للمساكين، كما في غيره من الجزاء، وأنّه لا يحتاج بعد نتاجه إلى التربية، بل يصرفه في ذلك الوقت.
وعبارة الكتاب أطلق كونه هدياً، وهو لا يقتضي كونه للكعبة، بل ظاهره جواز تفريقه على المساكين.
ويمكن جواز ذلك؛ بناءً على أنّ ما وجب للكعبة يجوز صرفه لمعونة الحاج والزائرين، كما يحقّق - إن شاء اللّه - في باب النذر. قوله: «ومع العجز عن كلّ بيضةٍ شاة، ومع العجز إطعام عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام».
أي مع العجز عن الإرسال تجب الشاة، ثم إطعام عشرة مساكين، لكلّ مسكين مُدٌّ.
وهذا البدل مخالف في المصرف المبدله وموافق للقاعدة المستمرة من كون الفداء مصروفاً إلى المساكين.
وهذه الكفّارة ممّا لا خلاف في أن أقسامها على الترتيب، وكذا ما بعدها، وإنما الخلاف في الثلاثة المتقدّمة.
قوله: «في كسر بيض القطا والقبج إذا تحرّك الفرخ من صغار الغنم، وقيل: عن البيضة مخاض من الغنم».
القبح بسكون الباء الحجل، قال الجوهري : هو فارسي معرّب؛ لأنّ القاف والجيم لا يجتمعان في كلمةٍ واحدةٍ من كلام العرب والقبجة تقع على الذكر والأنثى، وكذلك النعامة
ص: 334
-------------------------------------------------------------------
والنحلة والدرّاجة والبومة والحبارى(1).
والمخاض الحوامل من النوق واحدتها خلفة ولا واحد لها من لفظها، ومنه قيل للفصيل - إذا استكمل الحول ودخل في الثانية : ابن مخاض، والأنثى ابنة مخاض؛ لأنّه فصل عن أُمّه بالمخاض، سواء لقحت أم لم تلقح.
إذا تقرّر ذلك فقد اختلف في كفّارة كسر البيض المذكور بسبب اختلاف الروايات ظاهراً.
فروى سليمان بن خالد - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بيض القطاة بكارة من الغنم إذا أصابه المُحرم مثل ما في بيض النعام بكارة من الإبل»(2).
وروى سليمان بن خالد أيضاً قال: سألته عن رجل وطئ بيض قطاة فشدخه، قال: «يرسل الفحل فى عدّة البيض من الغنم كما يرسل الفحل في عدّة البيض من الإبل، ومن أصاب بيضةً فعليه مخاض من الغنم»(3).
وروی سلیمان بن خالد أيضاً - في الصحيح - عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: سألناه عن المُحرم وطئ بيض القطا فشدخه، قال: «يرسل الفحل في مثل عدة البيض من الغنم، كما يرسل الفحل في عدّة البيض من الإبل»(4).
وروى سليمان أيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بيض القطا كفّارة مثل ما في بيض النعام»(5).
فهذه جملة الأخبار، وتحرير المحلّ يقع في مقامات :
الأوّل: هذه الأخبار مطلقة في البيض من غير فرق بين حالاته، لكنها لما كانت مختلفةً
ص: 335
-------------------------------------------------------------------
في الحكم وجب حملها على الحالات المختلفة، فيُحمل خبر الإرسال على ما إذا لم يتحرّك الفرخ، ويُحمل وجوب البكارة أو المخاض على ما إذا تحرّك؛ لتناسب الحالتين، وتوافق حكم بيض النعام، فإنّ الأمر فيه كذلك من غير إجمال.
ويؤيّد التفصيل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الخبر الآخر: «إنّ كفّارته مثل كفّارة بيض النعام»(1).
وهذا جمع حسن بينها، فضعف إطلاق بعض الأصحاب الإرسال (2)، وبعضهم المخاض (3)؛ عملاً بالأحاديث من أحد الجانبين خاصّةً، فإنّ فيه طرحاً للجانب الآخر.
الثاني: قد عرفت أنّ أحد القسمين - وهو ما لو تحرّك الفرخ - قد بقي فيه روايتان: إحداهما: وجوب بكارةٍ من الغنم(4)، وهي صحيحة، وعمل بها بعض الأصحاب(5)، والثانية: مخاض منها، وهي الرواية الأخرى(6)، والعمل بمضمونها هو القول المشهور، ذهب إليه العلّامة في المختلف والتذكرة(7)، والشهيد في الدروس(8)، وجماعة من المتقدّمين(9).
وكأنّ فيه جمعاً بين الروايتين، فإنّ البكارة -كما قد عرفت - جمع لبكر أو لبكرة و هي الفتى، والمخاض ما من شأنه أن يكون ماخضاً، أي حاملاً، بمعنى بلوغه السن الذي يمكن
ص: 336
-------------------------------------------------------------------
فيه الحمل، على ما فسّره به أصحاب هذا القول(1)، وحينئذٍ لا تكون إلا فتية؛ لأنّ الصغيرة ليس من شأنها ذلك، فمدلول الخبرين متقارب، فيُجمع بينهما بإرادة المخاض، وهو،حسن إلّا أنّ الرواية مقطوعة، وفي سندها جهالة، وفيها مع ذلك إشكال آخر يأتي، وه-و أنّ القطاة يجب في قتلها حمل فطيم، فكيف يجب في فرخها شاة ماخض؟! والذي ينبغي العكس في ذلك، وأما البكرة فإنّها الفتية مطلقاً أعم من صلاحيتها للحمل وعدمه، فلا ينافي إرادة الفطيم فيتقارب الفداءان، ويسهل الخطب، مع أن روايته صحيحة، فالعمل بها أقوى
الثالث: قد عرفت أنّ المصنّف (رحمه اللّه) أوجب في هذا القسم من صغار الغنم من غير تقييد بالمخاض والبكارة، وتبعه على ذلك العلّامة في القواعد(2)، ولا شاهد له بخصوصه من الأخبار.
والظاهر أنهما حملا البكر على ذلك؛ لأنّهما حصرا المسألة في قولين، وحكيا المخاض قولاً، ولأنّ الفتى لا ينافي الصغير، وإن كان الصغير قد يطلق على ما هو أعم منه؛ لتناوله المولود في أول ولادته.
وفيه مع ذلك مناسبة لجزاء القطاة الآتي، فإن الحمل الفطيم هو أيضاً من صغار الغنم، فيُحمل الصغير عليه فصاعداً، ويخرج الأنقص سنّاً منه بسبب ما يرد عليه من الإشكال.
والظاهر في ذلك كلّه أنّ الواجب في البيض صغير من الغنم قد فطم ورعى، والبكر يخصّ به؛ لئلّا يلزم في البيضة من الجزاء أزيد من القطاة، وحينئذٍ فيرتفع الإشكال؛ إذ غاية الأمر تساوي الصغير والكبير في الفداء. وهو أمر سهل، ويوافق الآية الشريفة (3)، فإنّ الصغير أقرب
ص: 337
• فإن عجز كان كمن كسر بيض النعام.
-------------------------------------------------------------------
مماثلةً للفرخ من الكبير الذي قد صلح للحمل، ويعمل بموجب الخبر الصحيح، ويُطرح المقطوع، أو يُحمل على الأفضل.
الرابع: ألحق أكثر الأصحاب القبج بالقطا، والأخبار التي استدلوا بها خالية عن ذكر القبح.
ويمكن القول بإلحاقه بالحمام؛ لأنّه صنف منه، فيجب فيه شاة، إلّا أنّ إلحاقه بالقطا يوجب ضعف حكمه، وأصالة البراءة من وجوب الزائد عن الصغير، والقرب من المماثلة.
والعمل بالمشهور يقتضي إلحاقه بالقطاة، فالعمل به أولى، مع أن بعض الأصحاب (1) صرّح بإلحاقه بالحمام في حكم البيض، ولا بأس به.
قوله: «فإن عجز كان كمن كسر بيض النعام.
إذا عجز عن إرسال فحول الغنم في الإناث جزاءً لهذا البيض، فقد اختلف الأصحاب فيه؛ لعدم نصّ ظاهر عليه فقال الشيخ (رحمه اللّه - وتبعه عليه المصنّف والعلّامة (2) - : إنّ حكمه حينئذٍ حكم من كسر بيض النعام(3).
وقد اختلف في تفسير هذا الكلام. فالظاهر منه - وهو الذي فسره ابن إدريس(4) - أنّ المراد أنّه يجب عن كلّ بيضةٍ شاة، فإن عجز عنها أطعم عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام.
وهذا الحكم صرّح به الشيخ المفيد (رحمه اللّه)(5) قبل ذكر الشيخ هذه العبارة المجملة.
ومستند هذا الحكم ظاهر الرواية الأخيرة التي رواها سليمان بن خالد في المسألة
ص: 338
-------------------------------------------------------------------
السابقة من أنّ: «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بيض القطا كفّارة مثل ما في بيض النعام» (1) وحيث لم يمكن جعلها مثلها مطلقاً جمعاً بين الأخبار السابقة وحمل كلّ خبرٍ على حالةٍ، حملت هذه على هذه الحالة، وهو ما لو تعذّر الإرسال.
وفيه أمران:
أحدهما: منع دلالة الخبر على ذلك، بل مقتضاه ثبوت أصل الكفّارة في بيض القطا، كما أنّ الكفّارة ثابتة في بيض النعام، فهو تشبيه أصل الكفّارة بأصل الكفّارة، لا تشبيه الكيفيّة بالكيفيّة، فإنّ المشابهة لا تقتضي المساواة من كل وجه.
ويؤيد إرادة هذا المعنى قوله في الخبر الآخر: «يصنع فيه من الغنم كما يصنع في بيض النعام من الإبل» (2)، وحينئذٍ فلا دلالة للخبر على كيفيّة كفّارة بيض القطا، فيرجع إلى الأخبار الأخر، وقد دلّت على الحكم السابق مع إمكان تلك الأفراد، أمّا مع تعذّرها فلا.
الثاني: أنه قد عُلم أنّ مع إمكان الإرسال - وهي الحالة الاختياريّة - لا يجب في البيضة شاة، بل نتاجها حين تولّد إن اتّفق ولا شك أنه أقلّ قيمةً من الشاة.
ويكفي في العلم بنقصها أنّ في البيضة بعد تحرّك الفرخ من صغار الغنم، كما مرّ، وقبل التحرك أضعف حالاً، ففيه الإرسال الذي غاية أمره أن ينتج صغير الغنم، وفيه ما لا ينتج كما أن البيض الذي هو كفّارته فيه ما يفرخ وفيه ما لا يفرخ.
ومثله القول في بيض النعام فإنّ فيه مع التحرّك فتى الإبل، ومع عدمه الإرسال الذي غايته أن ينتج صغير الإبل، فضلاً عن فتاها، ولأن الإرسال أخف مؤونة على المالك ؛ إذ لا ثمن ولا قيمة لما يرسل وينتقل من الفحول إلى أرحام الإناث فكان حكم الإرسال أضعف
ص: 339
-------------------------------------------------------------------
وحينئذٍ فالشاة إذا كانت لا تجب في الحالة الاختيارية وهي القدرة على الإرسال، كيف تجب في الحالة الاضطرارية الموجبة لتخفيف الحكم؟!
واعتذر ابن إدريس عن هذا بأنّ مثله لا يمتنع إذا قام الدليل عليه(1)، وعنى به الخبر(2)، ودلالته ممنوعة.
والذي فهمه المتأخّرون كالعلّامة (3) والشهيد (4)(رحمهما اللّه) وغيرهما (5) أنّ المراد به أنّه يجب عليه إطعام عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام.
وهذا التنزيل،حسن لو دلّ عليه دليل يسوّغ المصير إليه، ولعدم الدليل على ذلك ذهب ابن حمزة إلى أنه مع تعذّر الإرسال يتصدّق عن كلّ بيضة قطاة بدرهم(6). وهو محتاج إلى النقل أيضاً، وحيث لم يتضح النقل هنا بشيء فللتوقّف مجال.
ويمكن أن نقول هنا لو أراد إخراج شاةٍ عوض كلّ بيضةٍ قبل تحرّك الفرخ هل يجزئ مع القدرة على الإرسال أم لا؟ يحتمل الأوّل؛ لأنّها أغلا وأقوى بسبب أجزائها في الحالة القوية، فينبغي أن يجزئ هنا بطريق أولى، ويحتمل الثاني؛ لأن فرضه الإرسال، وهو حكم مغاير للشاة.
وقد يمنع من كون الإرسال أسهل مطلقاً وإن كان أقلّ غرامةً، فإنّه في الحقيقة تكليف شاقٌ، وربما كان على بعض الناس أشقّ من إخراج الشاة بكثير، لأنه يتوقّف
ص: 340
-------------------------------------------------------------------
على تحصيل الفحل المذكور، وانتظار الشاة حتّى تلد وصرف نتاجها في مصالح الكعبة إلى غير ذلك من الأحكام التي تعسر على كثير من الناس بخلاف ذبح شاة وتفريقها على فقراء الحرم، فإنّه في الأغلب تكليف سهل بالإضافة إلى الإرسال في أكثر الحاج كما لا يخفى
وبهذا التقرير يتجه جواب ما قيل من أن الإرسال أسهل من الشاة فيما سبق.
وهنا نقول: إن قلنا بالثاني، وهو عدم إجزاء الشاة ابتداءً عن الإرسال مع إمكانه، فبدل الإرسال ممّا لا نص فيه، فيمكن حينئذٍ وجوب القيمة، كما لو لم يقدر للبيض فداء ابتداءً. وإن قلنا بالأوّل توجه قول المتأخّرين بوجوب إطعام عشرة مساكين، ثمَّ صيام ثلاثة أيّام، لا لما ذكروه؛ بل لأنّ الشاة حينئذٍ أحد أفراد الواجب أولاً، فهي واجبة في الجملة، فإذا تعذرت انتقل إلى بدلها العام حيث لا ينص لها على بدل، وهو الإطعام المذكور ثم الصيام، لكن يجب تقييد وجوب البدل المذكور بتعذّر الإرسال والشاة معاً، وظاهر الفتوى أن البدل معلّق على تعذّر الإرسال خاصة، ومعه لا يتم الحكم.
ويتخرّج على هذا الكلام في بدل صغير الغنم في الشق الآخر لو تعذر، فعلى هذا يجزئ بدله إطعام عشرة مساكين ثمَّ الصيام؛ لأنّ الشاة هناك مجزئة قطعاً، فيجب بدلها عند تعذّرها بالوجه العام، وإن لم ينص على بدل للواجب هنا على الخصوص.
وعلى القول بوجوب المخاض من الغنم لا إشكال؛ لأنّها شاة حقيقةً، بل صرّح بعض الأصحاب بأنّ كفّارة البيضة مع تحرّك الفرخ شاة(1) من غير تقييد بالمخاض أو البكارة، والأمر فيه واضح.
واعلم أنهم لم يذكروا قدر الطعام لكلّ مسكين هنا، والظاهر أنه لكل مسكين مُدّ، ولو جعلنا الإطعام من الباب العام فلا إشكال في كونه مدّاً.
ص: 341
الثاني: • ما لا بدل له على الخصوص وهو خمسة أقسام:
الأوّل: • الحمام، وهو اسم لكل طائر يهدر ويعبّ الماء، وقيل: كلّ مطوّقٍ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ما لا بدل له على الخصوص».
المراد بالبدل على الخصوص ما ورد النص بتعيينه في المادة المعينة، كما وقع في الخمسة السابقة على ما ادعوه، وإلا فقد عرفت تخلّفه في بعض الموارد؛ لقصور دلالة النص عليه.
ونبّه ب«الخصوص» على أنّ هذه المذكورات قد يكون لها بدل كما في الشاة في الحمام فإنّ لها بدلاً عند تعذرها، وهو إطعام عشرة مساكين، فإن تعذّر فصيام ثلاثة أيّام، كما ورد في صحيحة معاوية بن عمّار(1)، لكنّه بدل على العموم لا يختص به.
قوله: «الحمام، وهو اسم لكلّ طائر يهدر ويعبّ الماء، وقيل: كلّ مطوّق».
معنى «يهدر» يوالي صوته، ومعنى يعبّ الماء» - بالعين المهملة - يشربه من غير مصٍّ، كما يعبّ الدوابّ، ولا يأخذه بمنقاره قطرة قطرة، كالدجاج والعصافير.
واختلاف الفقهاء في التعريف على القولين منشؤه اختلاف أهل اللغة في تعريفه، وأقرب التعريفين الثاني، وهو الذي قطع به الشهيد في الدروس (2) ولم يذكر غيره.
قال الجوهري:
الحمام عند العرب ذوات الأطواق من نحو الفواخت والقماري، وساقِ حُرّ والقطا، والوراشين وأشباه ذلك، يقع على الذكر والأنثى؛ لأن الهاء إنَّما دخلته على أنه واحد من جنس لا للتأنيث(3).
- قال: وعند العامة أنّها الدواجن فقط (4).
والدواجن التي تستفرخ في البيوت.
وعلى كلّ حال فلا بدّ من إخراج القطا والحجل من التعريف؛ لأنّ لها كفّارةً معيّنةً
ص: 342
• وفي قتلها شاة على المُحرم، • وعلى المُحلّ في الحرم درهم، • وفي فرخها للمُحْرم حَمَل، وللمُحلّ في الحرم نصف درهم.
-------------------------------------------------------------------
غير كفّارة الحمام، مع مشاركتها لها في التعريف. وفي التذكرة اختار التعريف الأوّل، وأدخل فيه الفواخت والوراشين والقماري والدباسي والقطا(1)، فلا يظهر بين أصناف المعرفين فرق.
قوله: «وفى قتلها شاة على المُحْرم».
أي على المُحرم في الحلّ، بقرينة قسيميه، لا مطلق المُحرم، فإنه لو كان في الحرم اجتمع عليه الأمران، كما سيأتي، وهو الموجب لترك القيد.
قوله: «وعلى المُحلّ في الحرم درهم».
هذا هو المشهور، وبه نصوص (2)، وفي بعضها أنّ عليه قيمتها (3). ومن ثمَّ احتاط العلّامة في التذكرة والمنتهى بوجوب أكثر الأمرين من الدرهم والقيمة(4)، وقرّب في التذكرة وجوب القيمة لو زادت(5).
وربما استشكل إجزاء الدرهم مطلقاً بأنّ من قتل صيداً مملوكاً في غير الحرم يلزمه القيمة السوقية لمالكه بالغةً ما بلغت فكيف يجزئ الأنقص في الحرم؟!
وهذا الإشكال يتوجه على القول بأن فداء المملوك لمالكه مطلقاً، وسيأتي أن الحق كون فدائه للّه تعالى، وللمالك القيمة السوقية، ولا يبعد حينئذٍ أن يجب اللّه تعالى أقل من القيمة مع وجوبها للمالك. نعم، هذا وارد على المصنّف حيث أطلق هنا الدرهم، وفيما يأتي أنّ الفداء للمالك إن كان.
قوله: «وفي فرخها للمُحرم حمل».
ص: 343
• ولو كان مُحْرماً في الحرم اجتمع عليه الأمران، • وفي بيضها إذا تحرك الفرخ حَمَل، وقبل التحرّك على المُحرم درهم وعلى المُحلّ ربع،درهم ولو كان مُحْرماً في الحرم لزمه درهم وربع.
-------------------------------------------------------------------
الحمل - بالتحريك - من أولاد الضأن ما له أربعة أشهر فصاعداً، وفي رواية: «أو جدي» (1)وهو من أولاد المعز ما سنّه كذلك.
واعلم أنّ اللام في قوله «المُحْرم» و«اللمُحلّ» فيما يأتي (2) بمعنى على، وهو جائز في اللغة، بل قد جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي وكلام العرب.
قال اللّه تعالى: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا» (3) أي فعليها.
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «اشترطى لهم الولاء»(4)، أي عليهم.
لكن ذلك غريب وإن كان جائزاً.
قوله: «ولو كان مُحْرماً في الحرم اجتمع عليه الأمران».
اسم «كان» ضمير عائد إلى الفعل المتقدم المشتمل على الأقسام كلّها، فيجب عليه عن كلّ حمامةٍ فيه شاة ودرهم؛ لأنه هتك حرمة الحرم والإحرام، فكان عليه فداؤُهما، ولأنّ الشاة تجب على المُحرم في الحلّ، والدرهم يجب على المُحلّ في الحرم، فالمُحرم في الحرم يجب عليه الأمران؛ لأنّه قد اجتمع فيه الوصفان ولرواية أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5). وفي فرخها حمل ونصف درهم؛ للتعليل.
قوله: «وفي بيضها إذا تحرّك الفرخ حَمَل - إلى قوله - لزمه درهم وربع».
ص: 344
• ويستوي الأهلي وحمام الحرم في القيمة إذا قُتل في الحرم،• لكن يشترى بقيمة الحرمي عَلَف لحمامه.
-------------------------------------------------------------------
تفصيله حكم البيض قبل تحرّك الفرخ بالحرم وغيره، وإطلاقه حكمه بعد التحرك يقتضي استواء الأقسام الثلاثة فيه.
والحقّ أن ما ذكره حكم المُحرم في الحلّ، فلو كان مُحلّاً في الحرم فنصف درهمٍ، ويجتمع الأمران على المُحْرم في الحرم، وبالجملة فحكمه حكم الفرخ.
وممن صرّح بذلك الشهيد في الدروس(1).
قوله: «ويستوي الأهلي وحمام الحرم في القيمة إذا قُتل في الحرم».
أي قُتل كلّ واحدٍ منهما في الحرم، فالجار يتعلق ب«يستوي».
ويتصوّر الحمام الأهلي في الحرم في القماري والدباسي، أما غيرهما فلا يتحقّق ملكه فيه وإن كان من الحلّ.
والمراد بالقيمة هنا ما يعم الدرهم والفداء، ليدخل حكم بيضه وفرخه و غيرهما.
وإنما يستويان في ذلك مع إذن المالك في إتلاف الأهلي، أو كان المتلف هو المالك، أما لو كان غيرهما افترق الحكم على الأقوى؛ إذ يجتمع على المتلف في الأهلي القيمة للمالك والفداء، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى.
قوله: «لكن يُشترى بقيمة الحرمي عَلَفٌ لحمامه».
العلف - بالتحريك مأكول الحيوان وليكن قمحاً، رواه حماد بن عثمان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).
ولو كان غيره فالظاهر الإجزاء؛ لضعف الرواية (3) بسهل، وإطلاق العلف في بعض الأخبار(4).
ص: 345
الثاني: • في كلّ واحدٍ من القطا والحجل والدرّاج حَمَل قد فطم ورعى.
-------------------------------------------------------------------
وأمّا الأهلي فقد أطلقوا وجوب الصدقة بقيمته على المساكين، وينبغي أن يكون ذلك في موضع لا يضمنه للمالك، وإلا كان فداؤه للمساكين وقيمته للمالك، فينبغي تأمّل ذلك، فإنّ النصّ (1) والفتوى مطلقان.
قوله: «في كلّ واحدٍ من القطا والحجل والدرّاج حمل قد فطم ورعى».
قد تقدم أن المراد به ما سنّه من الغنم أربعة أشهر، وذلك أوان رعيه وفطامه، وإن لم يكونا قد حصلا له بالفعل، وقد تقدّم جملة من الكلام على ذلك، حيث إنّ ظاهر ما يجب في فرخها وفيها التنافي، فإن وجوب مخاض في فرخها أو بكرة يقتضى وجوب ذلك فيها بطريق أولى، فكيف يجب فيها أقلّ ممّا يجب في فرخها؟! ونحن قد أسلفنا ما يصلح للجمع.
وأجاب في الدروس بإمكان حمل المخاض هناك على بنت المخاض، أو أنّ فيه دليلاً على أنّ في القطاة أيضاً مخاضاً بطريق أولى. ويؤيده ما رواه سليمان بن خالد أنّ «في كتاب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): من أصاب قطاةً أو حجلة أو دراجة أو نظير هنّ فعليه دم»(2) أو يُجمع بين الأخبار بالتخيير(3).
وهذه الأجوبة كلّها مندفعة بالإجماع على نفي مدلولها؛ إذ لم يقل أحد بوجوب بنت مخاض في قتل هذه ولا ما يزيد على الحمل.
وقد أجيب(4) أيضاً بأن مبنى شرعنا على اختلاف المتماثلات واتفاق المختلفات، فجاز أن يثبت في الصغير أزيد ممّا يثبت في الكبير في بعض الموارد، وفي بعض آخر بالعكس وإن كان ذلك خلاف الغالب.
ص: 346
الثالث : • في قتل كلّ واحدٍ من القنفذ والضبّ واليربوع جدي.
الرابع: • في كلّ واحدٍ من العصفور والقبرة والصعوة مُدّ من طعام.
-------------------------------------------------------------------
وأجود ما هنا ما أسلفناه من أن الواجب في الفرخ إنما هو بكارة من صغار الغنم، وهي غير منافية للحمل، وغايتها المساواة له في جانب القلّة، وهو أمر سائغ عقلاً، فإنّ مساواة الصغير للكبير في الحكم أمر واقع.
قوله: «في قتل كلّ واحدٍ من القنفذ والضب واليربوع جدي».
وجوب الجدي فيها هو المشهور، وقيل : فيها حمل فطيم(1)، والظاهر أنّ كلّاً منهما مجزئ. وألحق الشيخان بها ما أشبهها (2)، ولا نعلم مستنده.
قوله: «في كلّ واحدٍ من العصفور والقبرة والصعوة مدّ من طعام».
العصفور بضم العين، وقد تقدّم في باب الطهارة أنّه ما دون الحمامة(3)، ويظهر من العبارات هنا أنّه صنف خاص منه ؛ لأنّ القبرة والصعوة ممّا دون الحمامة فجعلهما قسيمين له يؤذن بالمغايرة، إلا أن يكون من باب عطف الخاص على العام، والمذكور هنا لفظ الرواية، إلا أنّه أخّر فيها العصفور(4)، فكأنّه عطف العام على الخاص. وألحق في التذكرة والدروس بها ما أشبهها(5)، وهو حسن؛ لشمول العصفور لها، وإلا فليس في النصّ إلحاق الشبيه لو لم يرد بالعصفور المعنى العامّ.
والقبرة بالقاف المضمومة ثمَّ الباء المشدّدة بغير نون بينهما، قال في الصحاح والعامة تقول : القنبرة(6)، فعلى هذا ما يوجد في بعض النُسَخ بالنون غلط. نعم، فيها لغة أخرى بالنون، لكن مع إلحاق الألف الممدودة.
ص: 347
الخامس: • في قتل الجرادة تمرة، والأظهر كفّ من طعام.
• وكذا في القملة يلقيها عن جسده.
-------------------------------------------------------------------
قال الجوهري : القنبراء لغة فيها، والجمع القنابر(1). وجمع الأوّل القبر كسكّر (2) - بالتشديد.
والصعوة: عصفور صغير له ذنب طويل يرمح به.
قوله: «في قتل الجرادة تمرة، والأظهر كفّ من طعام».
وجوب التمرة ورد في صحيحة زرارة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سئل عن مُحرم قتل جرادةً، قال: «يطعم تمرةً، وتمرة خير من جرادة»(3)، واختاره جماعة(4).
والكفّ من الطعام رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - أيضاً عنه(5).
والأجود الجمع بينهما بالحمل على التخيير.
قوله: «وكذا في القملة يلقيها عن جسده».
المشبّه به هو ما حكم به المصنّف في السابق، وهو الكفّ من الطعام.
ومستنده في القملة صحيحة حماد بن عيسى(6)، وعمل بمضمونها جماعة من الأصحاب (7)؛ لكن روى معاوية بن عمّار - في الصحيح - أيضاً: «أنّه لا شيء فيها»(8)، وحينئذٍ فيمكن الجمع بحمل السابقة على الاستحباب.
ص: 348
• وفي قتل الكثير من الجراد دم شاة، • وإن لم يمكنه التحرز من قتله بأن كان على طريقه فلا إثم ولا كفّارة.
• وكلّ ما لا تقدير لفديته ففي قتله قيمته، وكذا القول في البيوض. • وقيل في البطّة والإوزة والكركي شاة، وهو تحكّم.
-------------------------------------------------------------------
وحكم قتلها حكم إلقائها على المشهور، خلافاً للشيخ (رحمه اللّه) في المبسوط، حيث جوّز قتلها، وأوجب الفداء في رميها دون قتلها(1)
وأمّا البرغوث فلا شيء فيه على المشهور وإن منعنا من قتله.
قوله: «وفي قتل الكثير من الجراد دم شاة».
المرجع في الكثير إلى العرف ويحتمل اللغة، فتكون الثلاثة كثيرةً. وكيف كان فيجب فيما دونه لكلّ واحدة تمرة أو كفٌّ من طعام.
قوله: «وإن لم يمكنه التحرّز من قتله بأن كان على طريقه فلا إثم ولا كفّارة».
المراد بعدم الإمكان هنا المشقة الكثيرة في تركه بحيث لا يتحمل عادة، لا الإمكان الحقيقي.
واعلم أنّ جميع ما ذكر من الفداء هو حكم المُحرم في الحلّ، أما المحل في الحرم فعليه القيمة فيما لم ينص على غيرها، كالحمام وبيضه وسيأتي الكلام فيه، ويجتمع على المُحرم في الحرم الأمران.
قوله: «وكلّ ما لا تقدير لفديته ففي قتله قيمته، وكذا القول في البيوض».
أي ما لا تقدير لفديته على الخصوص من الحيوان والبيوض ففيه القيمة السوقية، بتقويم عدلين عارفين وإن كان الجاني أحدهما إذا كان مخطئاً أو تاب.
وهذا حكم المُحْرم في الحلّ والمُحلّ في الحرم، أمّا المُحرم في الحرم فيتضاعف عليه القيمة ما لم يبلغ البدنة.
قوله: «وقيل: في البطة والإوزة والكركى شاة، وهو تحكّم».
ص: 349
فروع خمسة:
الأوّل: • إذا قتل صيداً معيباً، كالمكسور والأعور فداه بصحيح، ولو فداه بمثله جاز.
-------------------------------------------------------------------
هذا القول ذهب إليه الشيخ(1) وجماعة من الأصحاب(2)، استناداً إلى صحيحة ابن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مُحْرم ذبح طيراً: «إنّ عليه دم شاة يهريقه»(3) وهو عامٌّ، فيكون من المنصوص.
وذهب جماعة منهم المصنّف والعلّامة والشهيد والشيخ أيضاً إلى أن عليه القيمة، كغيره مما لا نصّ فيه (4) ؛ نظراً إلى أنه غير منصوص، و لهذا نسبه المصنّف إلى التحكّم ولعلّه أقوى.
نعم، قد يقال على الاستدلال بالخبر: إنّه دلّ على حكم الطير إذا ذُبح، والمسألة مفروضة لما هو أعم من الذبح؛ لأنّ الضمان في الصيد يستوي فيه الذبح والدلالة والإعانة وغيرها، فجميع الأفراد لا دليل عليها، واختصاص الحكم بالذبح لا قائل به، فتثبت القيمة.
ويمكن دفعه بأنّ حكم الذبح قد ثبت بالنص الصحيح، والقائل به وكل من قال به هنا قال بالباقي، فالفرق إحداث قولٍ ثالثٍ فلم يبق إلا القول بثبوت الشاة في الجميع، أو القيمة في الجميع، والثاني منتف بالنصّ الصحيح فيبقى الباقي، وهو حسن
قوله: «إذا قتل صيداً معيباً كالمكسور والأعور فداه بصحيح، ولو فداه بمثله جاز».
إنّما يجزئه الفداء بمثله مع تساويهما في النوع، بأن يفدي الأعور بالأعور، والأعرج بالأعرج وهكذا، فلو اختلفا بأن كان أحدهما أعور والآخر أعرج لم يجزئ.
ص: 350
• ويفدي الذكر بمثله وبالأُنثى، وكذا الأُنثى، وبالمماثل أحوط.
-------------------------------------------------------------------
والظاهر أنّ عرج الفداء لو كان أقوى من عرج الصيد فهو كذلك غير مجزئ.
ولو اختلف العيب بالمحلّ بأن فدى أعور اليمنى بأعور اليسرى، أو الأعرج من إحدى الرِجلين بأعرج الأخرى، ففي إجزائه نظر من الاختلاف، والاشتراك في أصل العيب.
وقطع العلّامة في التذكرة وغيرها بالإجزاء(1).
ولو كان أحدهما أعرج من اليد والآخر من الرجل ففي إجزائه الوجهان، وأولى بالمنع.
قوله: «ويفدي الذكر بمثله وبالأنثى، وكذا الأُنثى، وبالمماثل أحوط».
ظاهرهم إجزاء الأنثى عن الذكر بغير إشكال؛ لأنها أطيب لحماً وأرطب، وأمّا إجزاء الذكر عن الأنثى ففيه خلاف، فاكتفى به المصنّف وجماعة(2)، لصدق أصل المماثلة، ولأنّ لحمه أوفر، فتساويا.
وقيل بالمنع منه؛ لأنّ زيادته ليست من جنس زيادتها، فأشبه اختلاف العيب جنساً، ولا ختلافهما خلقةً، فلا تتحقّق المماثلة المطلوبة من الآية (3)(4).
ومختار المصنّف أقوى؛ إذ لا يعتبر في المثلية الاتفاق في جميع الصفات كاللون، ولصدق المماثلة بينهما عرفاً، وصدق اسم الشاة ونحوها من المسميات المأمور بها ما لم ينص على التعيين.
ص: 351
الثاني: • الاعتبار بتقويم الجزاء وقت الإخراج، وفيما لا تقدير لفديته وقت الإتلاف.
الثالث: • إذا قتل ما خضاً ممّا له مثل يخرج ما خضاً، ولو تعذّر قوم الجزاء ما خضاً.
الرابع: إذا أصاب صيداً حاملاً فألقت جنيناً حياً ثم ماتا فدى الأُمّ بمثلها والصغير بصغيرة، ولو عاشا لم يكن عليه فدية إذا لم يعب المضروب، • ولو عاب ضمن أرشه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «الاعتبار بتقويم الجزاء وقت الإخراج، وفيما لا تقدير لفديته وقت الإتلاف».
الفرق بين الأمرين أنّ الواجب في الأول هو المثل، فما دام لا يريد الإخراج فلا حاجة إلى العدول إلى القيمة، وإنّما ينظر إليها عند إرادة الإخراج، كسائر المثليات، وفي الثاني ابتداءً هو القيمة، وهي تثبت في الذمة وقت الجناية، فحينئذٍ يعتبر قدرها.
قوله: «إذا قتل ماخضاً ممّا له مثل يخرج ما خضاً، ولو تعذّر قوم الجزاء ماخضاً».
إنّما وجب ذلك؛ لتتحقّق المماثلة، ولأنّ الحمل فضلة مقصودة فلا سبيل إلى إهمالها، فلو بادر وأخرج غير ماخضِ مع مساواته لها في اللحم ففي الإجزاء نظر، من عدم المماثلة، ومن أنّ هذه الصفة لا تزيد في لحمها، بل قد تنقصه غالباً، فلا يقدح المخالفة في أجزاء الجزاء كاللون. وتوقف في التذكرة (1).
والحكم بوجوب المماثلة في ذلك يقتضي عدم الإجزاء.
نعم، لو كان الغرض إخراج القيمة لم يجز إلا تقويم الماخض؛ لأنها أعلى قيمةً في الأغلب، وباختلاف القيمة يختلف المخرج.
قوله: «ولو عاب ضمن أرشه».
لا ريب في ضمان الأرش؛ لأنّه نقص حصل بسببه، لكن هل يخرج عنه القيمة مع
ص: 352
• ولو مات أحدهما فداه دون الآخر.
-------------------------------------------------------------------
وجوب المثل في الأصل، أم يجب جزء من الجزاء المماثل مع الإمكان؟ الظاهر الثاني، وبه قطع في الدروس (1).
وقيل: لا يجب الجزاء إلا مع وجود مشارك في الباقي (2).
ولو كان الواجب القيمة فهو جزء منها. ولا فرق في ذلك بين كون المعيب هو الأُمّ أو الولد أو هُما، وكذا القول في مطلق الصيد.
وكيفيّة معرفة الأرش هنا وفي جميع ما يجب فيه الأرش أن يقوم الصيد صحيحاً ومعيباً. ويُنظر إلى التفاوت ويُنسب إلى قيمته صحيحاً، ويؤخذ بتلك النسبة من الفداء أو من قيمته، فلو قوم بثلاثين صحيحاً وعشرين معيباً كان التفاوت الثلث، فيجب ثلث الفداء أو ثلث القيمة.
قوله: «ولو مات أحدهما ضمنه دون الآخر».
فإن كان الميت الأُمّ ضمنها بأنثى أو بذكر على ما مرّ، وإن مات الولد ضمنه بصغير، ولو ماتا معاً قبل سقوطه ضمنها بحامل، فإن تعذّر المثل ضمن الجزاء حاملاً، فإن لم يزد عن الحائل (3) فالظاهر الاقتصار على ما قوم، مع احتمال ضمان شيء زائد بسبب الحمل؛ لأنّ الأصل واجب في الأمّ خاصةً، واعتبار الولد غير ساقط.
وإن زاد عن إطعام المقدر كالستين في النعامة، والثلاثين في البقرة، فالأقوى وجوب الزائد بسبب الحمل، إلا أن يزيد على الضعف فلا يجب الزائد ؛ إذ لا يزيد حكم الولد عن أُمّه.
نعم، لو تبين أنها حامل باثنين فصاعداً تعدد الجزاء والقيمة لو كان محرماً في الحرم. والتقريب فيه ما تقدّم.
ص: 353
• ولو ألقت جنيناً ميناً لزمه الأرش، وهو ما بين قيمتها حاملاً ومجهضاً.
الخامس: إذا قتل المُحْرم حيواناً • وشكّ في كونه صيداً لم يضمن.
وهى ثلاثة مباشرة الإتلاف واليد والسبب.
أمّا المباشرة
فنقول: قتل الصيد موجب لفديته، • فإن أكله لزمه فداء آخر، وقيل: يفدي ما قتل، ويضمن قيمة ما أكل، وهو الوجه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو ألقت جنيناً ميتاً لزمه الأرش وهو ما بين قيمتها حاملاً ومجهضاً».
الكلام في الأرش هنا كما مرّ(1)، وفي اعتبار جزء من المثل، ولا يعتبر الولد هنا؛ للشكّ في حياته، والحكم إنّما يتعلّق بالحى بعد الولادة حتى لو علم بحركته قبلها لم يعتد به؛ لعدم تسميته حينئذٍ حيواناً.
قوله: «وشك في كونه صيداً لم يضمن».
لأصالة البراءة.
وكذا لو علم كونه صيداً وشك في قتله في الحرم ليتضاعف عليه إن كان مُحرماً، أو ليتعلّق به الحكم إن كان محلاً، فالأصل العدم. وكذا لو شكّ في الإصابة، أما لو تحققها وشك في تأثيرها أو في البرء ضمن كمال الجزاء.
قوله: «فإن أكله لزمه فداء آخر وقيل: يفدي ما قتل، ويضمن قيمة ما أكل، وهو الوجه».
مستند الأوّل الرواية الصحيحة عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2)، ويتحقّق الحكم بأكل مسمّاه وعليه العمل. والقول الذي استوجهه المصنّف للشيخ (رحمه اللّه)(3) عملاً بأصالة البراءة.
ص: 354
• ولو رمى صيداً فأصابه ولم يؤثر فيه فلا فدية، • ولو جرحه ثم رآه سويّاً ضمن أرشه، وقيل: ربع القيمة، وإن لم يعلم حاله لزمه الفداء. وكذا لو لم يعلم أثّر فيه أم لا.
• وروي في كسر قرني الغزال نصف قيمته، وفي كل واحد ربع، وفي عينيه كمال قيمته، وفي كسر إحدى يديه نصف قيمته، وكذا في إحدى رجليه، وفي الرواية ضعف.
-------------------------------------------------------------------
وحملاً للخبر على الاستحباب، أو على بلوغ قيمة المأكول شاةً. ولا يخفى ما فيه.
قوله: «ولو رمى صيداً فأصابه ولم يؤثر فيه فلا فدية».
المراد أنه تحقق عدم التأثير فيه، فلو شك لزمه الفداء، وهذا إذا لم يكن له شريك في الرمي بحيث أصاب شريكه، وإلا ضمن الآخر وإن تحقق عدم التأثير، بل وإن أخطأ؛ للنصّ(1)، خلافاً لابن إدريس(2).
والنص ورد على الراميين، فلو تعدّدوا احتمل كونه كذلك؛ لتساويهم في الحال، وعدمه؛ وقوفاً فيما خالف النصّ على مورده وموضع اليقين.
قوله « ولو جرحه ثمَّ راه سوياً ضمن أرشه، وقيل: ربع القيمة».
وجه الأرش ظاهر، وعليه المعظم.
والقول بربع القيمة مستند إلى روايات وردت في كسر خاصّ(3)، لا في مطلق الجرح ولم يقل أحد بالاختصاص، فالقول الأوّل أقوى.
قوله: «وروي في كسر قرني الغزال نصف قيمته - إلى قوله- في الرواية ضعف».
ص: 355
• ولو اشترك جماعة في قتل الصيد ضمن كلّ واحدٍ منهم فداءً.
• ومن ضرب بطير على الأرض كان عليه دم، وقيمة للحرم، وأخرى لاستصغاره.
-------------------------------------------------------------------
الرواية رواها أبو بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، وفي سندها ضعف، لكن العمل بها مشهور، وزعموا أن ضعفها منجبر بالشهرة.
والقول بالأرش في الجميع أقوى؛ لأنه نقص حدث على الصيد، فيجب أرشه.
قوله: «ولو اشترك جماعة في قتل صيد ضمن كل واحد منهم فداء».
لا فرق في ذلك بين كونهم مُحْرمين أو مُحلّين في الحرم أو بالتفريق فيلزم كلّاً منهم حكمه، فيجتمع على المُحْرم منهم في الحرم الأمران، وعلى المُحلّ فيه القيمة.
ولو اشتركا فيه في الحلّ فلا شيء على المُحلّ، وعلى المُحرم تمام الفداء إن أصاباه دفعةً، أو أصابه المُحْرم أوّلاً، أما لو أصابه المُحلّ أولاً ثم أصابه المُحْرم فلا شيء على المُحلّ و على المُحرم جزاء مجروح.
قوله: «ومن ضرب بطير على الأرض كان عليه دم وقيمة للحرم، وأخرى لاستصغاره».
هذا الحكم ذكره الشيخ (رحمه اللّه)(2)، وتبعه عليه المصنّف هنا والعلّامة في كتبه(3)، ومستنده على هذا الوجه غير معلومٍ.
والذي رواه معاوية بن عمّار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في محرم اصطاد طيراً فضرب به الأرض فقتله، قال: «عليه ثلاث قيم: قيمة لإحرامه، وقيمة للحرم، وقيمة لاستصغاره إيَّاه»(4)، وأفتى بمضمونها المصنّف في النافع(5).
وتحقيق المحلّ على القولين لا يخلو من إشكال؛ لأنّ الطير إن أخذ بالمعنى اللغوي
ص: 356
-------------------------------------------------------------------
الشامل للعصفور والنعامة وغيرهما، أشكل الحكمان معاً؛ لأن الواجب في النعامة بدنة لو لم يكن القتل بالضرب على الأرض مستصغراً، فكيف يسقط وينتقل إلى الدم أو القيمة مع الاستصغار ؟! فإنّ ذلك يوجب التخفيف في الحكم، وفي مثل العصفور كفّ من طعام في غير الحرم، فسقوطه ووجوب القيم أو الدم مع القيمتين غير واضح.
والذي يناسب العمل بالأخبار المختلفة وجوب كفٍّ من طعامٍ وقيمتين هنا، ووجوب بدنةٍ وقيمتين في النعامة، أو المنصوص مع الثلاث قيم، وإنّما يتم ذلك في طيرٍ لا نص على فدائه، فتجب قيمته لقتله، وقيمة أخرى بسبب التضاعف في الحرم، وثالثة للاستصغار، أو يجب دم فداء - بناء على وجوبه لذبح الطير كما تقدّم في الرواية (1) - وقيمتان؛ لما ذُكر.
ويمكن الجمع بين الأمرين بحمل المنصوص على ما لو كان القتل بغير الضرب على الأرض في الحرم، وفيه يسقط ذلك الحكم أصلاً، ويثبت ما نص هنا، لكن اللازم الحكم بالثلاث قِيَم، لا بالدم مع قيمتين كما قد اشتهر - عملاً بالنصّ(2).
وتنقيح المسألة - مضافاً إلى ما تقدّم - يتم بأُمور:
الأوّل: هذا الحكم مختصّ بما لو كان ذلك في الحرم، فلو كان في الحل لم يتعدّد وإن قصد الاستصغار؛ وقوفاً مع النص المخالف للقواعد المشتهرة المستفادة من الكتاب والسنّة.
الثاني: يشترط في ثبوت الأمور المذكورة موت الطير بالضرب المذكور، فلو ضربه كذلك ثمَّ قتله بأمرٍ آخر فالواجب ما تقدّم من الأحكام، وإن كانت عبارة المصنّف وغيرهم توهم العموم، حيث لم يصرّح فيها بكونه مات بالضرب؛ لأن الرواية مصرحة به، وهي المستند.
الثالث: لو ضربه بالأرض فأعابه ثمَّ قتله بسبب آخر، ففي وجوب المنصوص بسبب العيب وإقامته مقام القتل نظر، من أنه ليس بقتلٍ، ومن أن إسقاطه يستلزم إهدار حكم الاستصغار به، وهو غير واقع.
ص: 357
-------------------------------------------------------------------
ويمكن - تفريعاً على المنصوص - القول بقيام الأرش هنا مقام القيمة، فيتعدّد.
والمتّجه كون هذا الحكم كغيره ؛ وقوفاً في المنصوص على مورده المعين كما قرّرناه.
ولو وجب بالضرب ربع القيمة أو نصفها كما في كسر قرنيه ونحوهما، ففي تعدد النصف أو الربع، أو سقوط اعتبار هذا الحكم هنا الأوجه.
الرابع: الحكم مختص بالطير، فلا يتعدى إلى غيره من الحيوانات كالظبي ؛ وقوفاً مع النص المخالف للقواعد، وإن كانت العلّة المظنونة مشتركة بينهما، مع احتمال التعدي؛ بناءً على أنّ العلة منصوصة، وهي قوله «لاستصغاره».
ويندفع بأنّ العلة مركبة من الاستصغار وكونه منسوباً إلى الطير أو الحرم بالنسبة إلى ضرب الطير فيه، لا مطلق الاستصغار، فالتعدي بعيد، و إن استشكله في الدروس(1).
الخامس: لو كان المرمي نحو الجرادة، فإن كان قبل الاستقلال بالطيران لم يدخل؛ لانتفاء إطلاق اسم الطير عليها، وإن كان بعده ففي دخولها نظر من صدق اسم الطيران عليها لغةً، ومن الشكّ في إطلاق اسم الطير عليها. فإن قلنا بدخولها وجب على الرواية ثلاث قيم، لا ثلاث تمرات، ويبعد وجوب الدم هنا على ما ذكروه زيادةً على ما تقدّم.
ويحتمل على هذا دخول الدبا في الحكم، وإن لم يكن طائراً بالفعل؛ بناءً على أنّه من جنس الطائر، وعدم حصوله له لعارض الصغر لا يمنع من دخوله فيه كالفرخ الذي لا يستقلّ بالطيران مع وجود صورة الجناح.
السادس يحتمل قوله في الرواية «لاستصغاره إيَّاه» عود الضمير إلى الحرم لأنه أقرب المذكورات، وإلى الطير لأنه المحدث عنه.
قيل وتظهر الفائدة فيما لو ضربه في الحلّ، فعلى الأوّل لا يتضاعف القيمة؛ لانتفاء استصغار موجب التضاعف، وعلى الثاني يلزمه قيمتان، إحداهما للإحرام، والأُخرى للاستصغار (2).
ص: 358
• ومن شرب لبن ظبية فى الحرم لزمه دم وقيمة اللبن.
-------------------------------------------------------------------
وفي بعض تحقيقات الشهيد (رحمه اللّه) (1) أن استصغاره يرجع إلى قصده، فإن قصد استصغاره بالحرم لزمه دم وقيمتان إن كان الفعل بالحرم وإن كان في غير الحرم فعليه القيمة لا غير، وإن قصد الاستصغار بالصيد لزمه مطلقاً القيمتان، سواء كان في الحلّ أم في الحرم.
وهذا كله في موضع النظر؛ فإنّه خروج عن مورد النص بغير دليل، ومن الجائز أن يكون العلّة استصغار الطائر بالحرم فلا يتعدى الحكم إلى غير محلّ الفرض - مع مخالفته للقواعد - من غير دليل يوجب العدول.
وأيضاً فلا معنى لقصده لقصده في الشق الثاني الاستصغار بالحرم مع كونه في غيره، وفي القسم الثالث خروج عن مدلول النص وفتوى الأصحاب معاً، حيث حكم بلزوم القيمتين مع قصد الاستصغار بالصيد في الحل والحرم، فإنّ ذلك إحداث قول ثالث بمجرد التشهّي.
ويبقى عليه الإخلال بحكم ما لو لم يقصد شيئاً من الأمرين، مع أنه أشكل الأقسام، بل هو الظاهر من مورد النص، فإنّ القصد غير مبحوث عنه فيه، والاستصغار جاز أن يكون نشأ من الفعل لزوما وإن لم يقصده.
والحق اختصاص الحكم بموضع اليقين، وهو قتل الصيد بالرمي على الأرض في الحرم، سواء قصد أم لم يقصد، ورجوع ما عداه إلى الأحكام المقرّرة.
قوله «ومن شرب لبن ظبية في الحرم لزمه دم وقيمة اللبن».
المراد به لو كان مُحرماً في الحرم كما تدلّ عليه الرواية (2)، فلو كان مُحرماً في الحل أو محلاً في الحرم، فمقتضى القواعد أنّ عليه القيمة؛ لأنه ممّا لا نص في فدائه. ولكن يشكل بأنّه لو كان كذلك لكان الواجب على المحرم في الحرم تضاعف القيمة، والمنصوص هو الدم والجزاء، و مقتضى ذلك وجوب الدم مع الانفراد بأحد الوصفين، أعني الإحرام والحرم، والقيمة بالآخر كما في نظائره، فيحتمل قوياً حينئذٍ وجوب الدم على المُحْرم في الحلّ، والقيمة على المُحلّ في الحرم.
ص: 359
• ولو رمى الصيد وهو حلال فأصابه وهو مُحرم لم يضمنه،•وكذا لو جعل في رأسه ما يقتل القمل ثمَّ أحرم فقتله.
-------------------------------------------------------------------
ويمكن الاقتصار بالمنصوص على مورده والرجوع في غيره إلى تلك الأحكام - وإن بعد - لعدم النظير.
وهل ينسحب الحكم في غير الظبية كبقرة الوحش فيجب في شربه في الحرم دم وقيمة؟ قيل: نعم، وبه قطع العلّامة في القواعد(1).
ويشكل بأنّه قياس؛ إذ النص مخصوص بالظبية، والعلة المشتركة غير موجودة.
واعلم أنّ مورد النص حلب الظبية ثمَّ شرب لبنها، والأصحّاب فرضوا الحكم في شرب اللبن فقط.
وفيه نظر؛ لأنه حكم خارج عن القواعد، فتعديه إلى غير موضع النصّ في محلّ المنع.
ولو فرض حلب واحد وشرب آخر، فعلى ما ذكروه على الشارب الجزاء والقيمة، وفي الحالب نظر ؛ إذ يمكن أن يجب عليه قيمة اللبن خاصةً ووجوب الجزاء.
وكذا الإشكال لو حلب واحد وأتلفه من غير أكل. ولو قيل في هذه المواضع كلّها بلزوم القيمة كان وجهاً.
قوله: «ولو رمى الصيد وهو حلال فأصابه وهو محرم لم يضمنه».
هذا هو المشهور، ولا نعلم فيه خلافاً، وإن كان قد وقع الخلاف فيما لو رماه في الحلّ فمات في الحرم كما سيأتي.
والفرق بينهما - مع اشتراكهما في كون الجناية غير مضمونة - اختلاف الأخبار (2) في تلك دون هذه.
قوله: «وكذا لو جعل في رأسه ما يقتل القمل ثمّ أحرم فقتله».
ص: 360
• ومن كان معه صيد فأحرم زال ملكه عنه، ووجب إرساله.
• فلو مات قبل إرساله لزمه ضمانه.
-------------------------------------------------------------------
كذا أطلق الأصحاب من غير تقييد بالتمكن من إزالته حال الإحرام، وقيّده بعضهم بما إذا لم يتمكّن من إزالته، وإلّا ضمن(1).
وهو حسن.
ومثله ما لو نصب شبكة للصيد مُحلّاً فاصطادت مُحْرماً، أو احتفر بئراً لذلك وهو قادر على طمّها فقصر، ولو لم يقصد بها الصيد لم يضمن.
قوله: «من كان معه صيد فأحرم زال ملكه عنه، ووجب إرساله».
هذا هو المعروف في المذهب. وربما قيل ببقائه على ملكه وإن وجب إرساله (2).
وتظهر الفائدة في ضمان أخذه منه بعوضه أو أرشه لو جني عليه، فعلى الثاني يثبت ذلك للمالك، دون الأوّل.
قوله: «فلو مات قبل إرساله لزمه ضمانه».
إنّما يضمنه مع تفريطه في الإرسال، بأن تمكّن منه وترك، وإلا لم يضمن، ولو فرض أنّه لم يرسله حتى أحل فلا شيء عليه سوى الإثم.
وهل يجب عليه إرساله محلّاً؟ ظاهر الشهيد ذلك(3). ويحتمل قويّاً عدم الوجوب؛ لزوال المقتضى وهو الإحرام.
ص: 361
• ولو كان الصيد نائياً عنه عنه لم يزل ملكه.
• ولو أمسك المُحرم صيداً فذبحه مُحرم [آخر] ضمن كلُّ منهما فداءً. ولو كانا في الحرم تضاعف الفداء ما لم يكن بدنة، ولو كانا مُحلّين في الحرم لم يتضاعف، ولو كان أحدهما محرماً تضاعف الفداء في حقه.
-------------------------------------------------------------------
هذا كله إذا لم يدخل به الحرم، فإن دخل به ثمَّ أخرجه وجب إعادته إليه؛ للرواية(1)، فإن تلف قبل ذلك ضمنه.
ولو كان الصيد بيده وديعةً أو عارية وشبههما وتعدّر المالك وجب دفعه عند إرادة الإحرام إلى وليه، وهو الحاكم أو وكيله، فإن تعذّر فإلى بعض العدول، فإن تعذّر أرسله وضمن.
قوله: «ولو كان الصيد نائيا عنه لم يزل ملكه».
هذا هو المشهور، وعليه العمل، وكما لا يمنع الإحرام استدامة ملك البعيد لا يمنع ابتداءه، فلو اشترى ثُمَّ صيداً أو اتهبه أو ورثه انتقل إلى ملكه أيضاً.
والمرجع في النائي والقريب إلى العرف.
قوله: «ولو أمسك المُحْرم صيداً فذبحه مُحْرم آخر ضمن كل منهما فداءً - إلى قوله - ولو كان أحدهما محرماً تضاعف الفداء في حقّه».
أمّا ضمان المباشر فظاهر، وأما الآخر فلإعانته، وقد حكموا بضمان الدالّ فهذا أولى.
ومعنى تضاعف الفداء في الحرم وجوب المثل المنصوص والقيمة، فالتضاعف مجاز؛ إذ لم يتكرّر أحدهما.
ومثله قوله «ولو كانا محلّين في الحرم لم يتضاعف».
وفيه أمر آخر، وهو أنّ الضمير المستكن فيه يعود إلى الفداء، والمتبادر منه الجزاء المنصوص، لا القيمة، مع أن الواجب على المُحلّ في الحرم إنّما هو القيمة.
ص: 362
ولو أمسكه المُحرم في الحلّ فذبحه المُحلّ ضمنه المُحرم خاصةً، • ولو نقل بيض صيد عن موضعه ففسد ضمنه، فلو أحضنه فخرج الفرخ سليماً لم يضمنه.
• وإن ذبح المُحرم صيداً كان ميتةً، ويحرم على المُحلّ، ولا كذا لو صاده وذبحه مُحلٌّ.
-------------------------------------------------------------------
والحكم بعدم التضاعف مع بلوغ البدنة هو المشهور، ومستنده الآن رواية مرسلة (1)،فثبوت التضاعف مطلقاً أقوى إن لم يكن هناك إجماع.
قوله: «ولو نقل بيض صيد عن موضعه ففسد ضمنه».
ظاهره أنه لا يضمنه إلا مع تحقق الفساد.
والأقوى ضمانه ما لم يتحقّق خروج الفرخ منه سليماً، فلو جهل الحال ضمنه أيضاً، وهو ظاهر كلام الدروس(2).
قوله: «وإن ذبح المُحْرم صيداً كان ميتةً، ويحرم على المُحلّ».
تحريم مذبوح المُحرم مطلقاً هو الأظهر فى المذهب.
وذهب جماعة من الأصحاب (3) إلى عدم تحريمه على المُحلّ إذا ذبحه في الحلّ، وبه أخبار صحيحة(4).
هذا كله إذا ذبحه المُحرم اختياراً بحيث يحرم عليه، فلو اضطر إلى أكل الصيد فذبحه حلّ له قطعاً، وفي حله للمُحل حينئذٍ وجهان.
ص: 363
وهو يشتمل على مسائل:
الأولى: • من أغلق على حمام من حمام الحرم وفراخ وبيض ضمن بالإغلاق، فإن زال السبب وأرسلها سليمة سقط الضمان، ولو هلكت ضمن الحمامة بشاةٍ، والفرخ بحمل والبيضة بدرهم إن كان مُحْرماً، وإن كان مُحلّاً ففي الحمامة،درهم، وفي الفرخ نصف، وفي البيضة ربع.
وقيل: يستقرّ الضمان بنفس الإغلاق لظاهر الرواية، والأوّل أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «من أغلق على حمام من حمام الحرم وفراخ وبيض - إلى قوله - والأول أشبه».
هذا الحكم ذكره جماعة من الأصحاب(1) هكذا مطلقاً.
ومستنده رواية يونس بن يعقوب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سأله عن رجل أغلق على حمام من حمام الحرم وفراخ وبيض، فقال: «إن كان أغلق عليها قبل أن يحرم كان عليه لكلّ طير درهم، ولكلّ فرخ نصف درهم، ولكلّ بيضةٍ ربع (2) درهم، وإن كان أغلق عليها بعد ما أحرم فإنّ عليه لكلّ طيرِ شاةً، ولكلّ فرخ حملاً، وإن لم يكن تحرّك، فدرهم وللبيض نصف درهم»(3).
وهذا على إطلاقه ينافي ما تقدم من وجوب الجمع بين الفداء والقيمة على المُحرم في الحرم؛ حيث إنّ الظاهر كون ذلك في الحرم؛ لأنّ حمام الحرم فيه غالباً، وحينئذٍ فيجب حمل ما ذكره في الرواية والفتوى على المُحلّ في الحرم والمُحرم في الحلّ، ولو كان مُحْرماً في الحرم اجتمع عليه الأمران، وبهذا القيد صرّح العلّامة في التذكرة والتحرير(4).
ص: 364
الثانية: • قيل: إذا نفّر حمام الحرم، فإن عاد فعليه شاة، وإن لم يعد فعن كلّ حمامة شاة.
-------------------------------------------------------------------
ويبقى حينئذٍ التقييد بحمام الحرم بسبب ذكره في الرواية، وإلا فهو خالٍ عن الفائدة، وإنما يتم أيضاً لو قلنا بعدم تحريم حمام الحرم في الحلّ ليحمل حكم الدرهم وأجزائه على المُحلّ في الحرم، ولو قلنا بتحريمه فيه أيضاً كان حكم المُحلّ ثابتاً فى الحرم وغيره.
وبالجملة، فإطلاق الرواية والفتوى غير مراد.
وظاهر الرواية أنّ الضمان يحصل بنفس الإغلاق، واختاره بعض الأصحاب (1)؛ تبعاً للرواية.
وما اختاره المصنّف من تقييد الوجوب بالهلاك متوجّه بالنسبة إلى ما يقابله من العلم بالسلامة، أما مع الجهل بحالها بعد الإغلاق فالضمان أوجه، كما لو رمى الصيد وجهل حاله.
قوله: «قيل: إذا نفّر حمام الحرم، فإن عاد فعليه شاة، وإن لم يعد فعن كل حمامة شاة».
إنّما نسب ذلك إلى القيل؛ لعدم وقوفه على مستنده، فإنّ الشيخ (رحمه اللّه) قال: هذا الحكم ذكره عليّ بن بابويه في رسالته، ولم أجد به حديثاً مسنداً (2)، ثم اشتهر ذلك بين الأصحاب حتى كاد أن يكون إجماعاً، ولقد كان المتقدمون يرجعون إلى فتوى هذا الصدوق عند عدم النص إقامةً لها مقامه؛ بناءً على أنّه لا يحكم إلا بما دلّ عليه النصّ الصحيح عنده وحينئذٍ فلا مجال للمخالفة هنا.
ويبقى الكلام في المسألة في مواضع:
الأوّل: هذا الحكم معلّق على مطلق التنفير، وهو شامل لما لو خرج من الحرم وما لم يخرج، بل يتناول مجرّد نفوره وانتقاله عن محلّه إلى آخر وإن لم يغب عن العين، وليس هنا نص يُرجع إليه في تعيين المراد واللازم من اتباع هذا المدلول العمل بجميع ما دلّ عليه.
ص: 365
-------------------------------------------------------------------
لكن الظاهر من كلام العلّامة في التذكرة(1)، والشهيد في بعض تحقيقاته (2) أن المراد من ذلك خروجها من الحرم إلى الحلّ، والمراد بعودها رجوعها إلى محلّها من الحرم.
وفي اشتراط استقرارها مع ذلك وجه.
الثاني : هذا الحكم على إطلاقه لا يناسب القواعد الماضية من وجوب الفداء على المحرم في الحلّ، والقيمة على المحلّ في الحرم، والأمرين معاً على المُحرم في الحرم.
والذي يطابقها منه أن يُحمل الحكم المذكور على ما لو نفّرها المُحرم في الحلّ، فلو كان محلاً في الحرم وجبت القيمة، أو محرماً في الحرم وجبت الشاة والقيمة، خصوصاً إذا لم يعد فإنّ ذلك منزَّل منزلة الإتلاف، فيكون بحكم القاتل.
ويمكن أن يقال: إنّه مع العود يجب الشاة على الجميع؛ لأنّ هذا حكم مخالف للأصل مع السلامة، فليس في القاعدة السابقة ما ينافيه، فيتحد العقوبة وإن اختلف الإثم وتأكد في جانب المُحرم في الحرم، وأما مع عدم العود فيجب الردّ إلى القاعدة ليس إلا، ويُجمع بين الحكمين فيجب الشاة والقيمة.
لكن يشكل ذلك في المُحلّ في الحرم، فإنّ الواجب عليه القيمة مع الإتلاف، وفي الحكم بها اطّراح لهذا الحكم، وليس تخصيص ذلك بغير هذه الصورة أولى من تخصيص هذا بغير المحلّ في الحرم، بل ربما كان هذا أولى؛ لوضوح الدليل هناك.
ويتّجه على هذا أن لا يجب عليه شيء لو عادت؛ لأنّ وجوب القيمة مع عدم العود الذي هو أغلظ من العود يقتضى كون حكمه أغلظ، فكيف تجب القيمة في الحالة القوية، والشاة الضعيفة، مع أنها أضعاف قيمة الحمامة؟!
الثالث: لو اشترك في التنفير جماعة، فإن كان فعل كلّ واحدٍ منهم موجباً للنفور لو انفرد، فالظاهر تعدّد الجزاء عليهم؛ لصدق التنفير على كلّ واحدٍ مع احتمال وجوب جزاء واحدٍ
ص: 366
-------------------------------------------------------------------
عليهم؛ لأنّ العلة مركبة خصوصاً مع العود، أما مع عدمه فالاحتمال ضعيف جداً؛ لأنّ سبب الإتلاف كاف في الوجوب، وكذا الشركة.
ولو كان فعل كلّ واحدٍ لا يوجب النفور، فإن لم يعد فالحكم كما مرّ، وإن عادت قوي احتمال عدم التعدّد؛ لأنّ التنفير استند إلى الجميع، لا إلى كلّ واحدٍ واحدٍ، ولم يتحقّق الإتلاف ليثبت الحكم مع الاشتراك.
ثمَّ إن كانوا جميعاً مُحلّين أو مُحرمين في الحرم أو في الحل، فالحكم واحد.
ولو اختلفوا فعلى القول بالتعدّد لا إشكال فيجب على كلّ واحدٍ ما أوجبه فعله لو كان منفرداً.
وعلى الاتحاد يشكل الحال فيحتمل حينئذٍ أن يجب على كلّ واحدٍ بنسبته من العدد مما وجب عليه، فيجب على المُحرم في الحلّ - لو كانوا ثلاثةً - ثلث شاة، وعلى المُحلّ في الحرم ثلث القيمة، وهكذا. ويحتمل هنا عدم وجوب شيء؛ لأنه خلاف الحكم المذكور.
الرابع: لو كان المنفّر حمامة واحدة ولم تعد وجبت الشاة، وهو واضح.
ولو عادت احتمل وجوبها أيضاً؛ بناءً على أنّ الحمام اسم جنس لا جمع، فيصدق على الواحدة فيتحقّق أن الحمام قد عاد.
ويحتمل قوياً هنا عدم وجوب شيء؛ لعدم دخولها فيما قد ادعي ثبوت حكمه؛ بناءً على كونه جمعاً، ولزوم مساواة حالة الإتلاف لعدمه، وهو غير واقع في غيره.
ولا يرد أنّ الممسك ونحوه غير متلف مع وجوب الجزاء عليه؛ لأنّه دخل من باب السببية، ولم يتحقّق هنا.
الخامس: لو نفّر غير الحمام من الصيد المُحرَّم كالظباء، ففي لحوق الحكم له نظر، من عدم النص، والمشاركة في الموجب خصوصاً مع عدم العود.
ويمكن أن يرجح هنا عدم الوجوب لما ذكر، ولمنع كون عدم العود إتلافاً كما زعموه،
ص: 367
-------------------------------------------------------------------
لاختلاف المعنيين، كما لا يخفى، ولأنه يلزم مثله فيما لو نفرت في الحلّ من المُحرم.
وربما أمكن القول به أيضاً عند من يلحق هذه الفروع بالمشهور.
السادس: لو عاد البعض خاصةً، ففي كلّ واحدةٍ من التي لم تعد شاة، وأمّا العائد فإن كان أزيد من واحدةٍ ففيه شاة، مع احتمال عدم وجوب شيء هنا؛ لأن عود الجميع إذا كان موجباً للشاة فكيف يوجبه البعض؟! ولعدم النصّ عليه، وأصالة البراءة.
ويحتمل وجوب جزء من شاةٍ بنسبة الجميع، فلو كان الجميع أربعاً وعاد اثنتان فنصف شاة. ولو كان العائد واحدةً ففي وجوب شاة لها، أو جزءٍ من شاةٍ، أو عدم وجوب شيء الأوجه المتقدّمة، وأولى بالعدم لو قلنا به ثمّة.
السابع: يجب على المنفّر السعي على إعادتها إلى محلّها مع الإمكان، ولو افتقر إلى مؤونة وجبت عليه زيادة على ما مرّ.
ولو لم يخرج من الحرم ولم يبعد كثيراً عن محلّها الذي نفّرها منه وقلنا بإيجابه الجزاء، ففي وجوب إعادتها إلى الأوّل نظر، من تحريم التنفير الموجب لخروجها من محلّها فيجب ردها إليه، ومن انتفاء الفائدة مع القرب، خصوصاً لو كان المحل الأول ليس هو موضع إقامتها، والثاني مساوياً له أو أقرب إليه.
وبالجملة، فهذه الفروع كلّها لا يخلو من إشكال؛ حيث لا أصل لها يُرجع إليه.
الثامن: لو شكّ في العدد بنى على الأقل، ولو شكّ في العود بنى على الأصل وهو العدم.
ولو تحقق النفار وشكّ في خروجها من الحرم فالأصل عدم الخروج إن قلنا بتقييد الحكم بخروجها منه.
ويتحقّق العود بالمشاهدة أو إخبار عدلين وفي الاكتفاء بالعدل الواحد وجه، جعلاً له من باب الخبر، وإن كان عدمه أوجه.
ص: 368
الثالثة: • إذا رمى اثنان فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر فعلى المصيب فداء الجنايته، وكذا على المخطئ لإعانته.
الرابعة: • إذا أوقد جماعة ناراً فوقع فيها صيد لزم كلّ واحد منهم فداء إذا قصدوا الاصطياد، وإلا فداءً واحد.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا رمى اثنان فأصاب أحدهما - إلى قوله - وكذا على المخطئ لإعانته».
لا إشكال في الحكم مع تحقق الإعانة من الرامي الآخر؛ لأنه يصير حينئذٍ بمنزلة السبب، وتعليل المصنّف ينبه عليه، وإنّما الكلام مع عدم الإعانة، فإن إطلاق النصّ (1) يقتضي الوجوب أيضاً، وهو مفروض في راميين مُحْرمين.
وفي تعديته حينئذٍ إلى الرماة نظر من الاشتراك في الموجب، وكون الحكم على خلاف الأصل فيقتصر فيه على مورده.
وكذا القول في تعديته إلى المحلّين إذا رموا الصيد في الحرم بالنسبة إلى القيمة.
وذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما لو حصل من المخطئ إعانة(2)، وحمل الرواية عليه، وعلى هذا يتعدى الحكم إلى الجميع.
قوله: «إذا أوقد جماعة ناراً فوقع فيها صيد - إلى قوله - وإلا فداء واحد».
أطلق المصنّف وجماعة (3) ذلك بحيث يشمل المُحْرمين، والمُحلّين إذا فعلوه في الحرم، والمُحْرمين في الحلّ.
والذي دلّت عليه رواية أبي ولّاد (4)- التي هي مستند الحكم - أن الموقدين كانوا محرمين
ص: 369
الخامسة: • إذا رمى صيداً فاضطرب فقتل فرخاً أو صيداً آخر كان عليه فداء الجميع؛ لأنه سبب الإتلاف.
السادسة: • السائق يضمن ما تجنيه دابته، وكذا الراكب إذا وقف بها، وإذا سار ضمن ما تجنيه بيديها.
-------------------------------------------------------------------
في غير الحرم، وينبغي على هذا تضاعف الواجب لو كانوا محرمين في الحرم.
وفي تعلّق الحكم بالمُحلّين في الحرم نظر من إقامة ذلك مقام المباشرة، ومن عدم النص. ولو اختلفوا في القصد وعدمه، بأن قصد بعض دون بعض، تعدد الجزاء على من قصد، وعلى من لم يقصد فداء واحد إن تعدّد، ولو اتحد فإشكال، من ظاهر النص، ومن استلزامه مساواة القاصد لغيره مع أنّه أخفّ حكماً.
ولو قيل بأنه مع عدم قصد البعض يجب على غير القاصد ما كان يجب عليه لو لم يقصد الجميع كان وجهاً.
ولو كان الموقد واحدا وقصد فعليه الجزاء، ولو لم يقصد فالإشكال.
قوله: «إذا رمى صيداً فاضطرب فقتل فرخاً - إلى قوله - لأنه سبب الإتلاف».
أمّا ضمان المنفّر فيه فواضح؛ لتلفه بسببه، وأما المنفّر فلا يُحكم بضمانه بمجرد الرمي، كما أطلق المصنّف، بل مع تلفه أيضاً بالرمي أو تأثره بما يوجب الضمان، وهذا هو المراد وإن كانت العبارة مطلقةً.
ولو اشتبه حاله ضمنه أيضاً؛ لوجود سبب الضمان والشكّ في المسقط.
ولو اضطرب الآخر أو نفّر فأصاب آخر ضمن الثالث أيضاً، وهكذا.
ولا فرق فى ذلك بين المُحلّ في الحرم والمُحْرم في الحلّ ومن جمع الوصفين، فيضمن كلّ واحدٍ بحسبه.
قوله: «السائق يضمن ما تجنيه دابته، وكذا الراكب - إلى قوله - ما تجنيه بيديها».
هذا الحكم غير مختصّ بالصيد، بل ضمان جناية الدابة كذلك ثابت على كلّ حالٍ.
وإطلاقه ضمان جناية الدابّة في حالتي السوق والوقوف بها راكباً يشمل يديها ورجليها
ص: 370
السابعة: • إذا أمسك صيداً له طفل فتلف بإمساكه،ضمن، وكذا لو أمسك المُحلّ صيداً له طفل فى الحرم.
الثامنة: • إذا أغرى المُحرم كلبه بصيدٍ فقتله ضمن، سواء كان في الحل أو الحرم، لكن يتضاعف إذا كان في الحرم.
-------------------------------------------------------------------
ورأسها، والأمر فيه كذلك. ومثله ما لو وقف بها غير سائق ولا راكب. أما القائد والراكب سائراً فإنّهما يضمنان جنايتها بيديها ورأسها، دون رجليها؛ لأنّهما لا يمكنهما حفظهما حينئذٍ.
ولو شردت الدابّة بنفسها أو براكبها قهراً لم يضمَن جنايتها إذا لم يستند إلى تفريطه ابتداء؛ لأنه لا يد له عليها حينئذٍ. وقد قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «العجماء جبار»(1) - بضم الجيم - أي هدر.
قوله: «إذا أمسك صيداً له طفل فتلف بإمساكه ضمن - إلى قوله - طفل في الحرم».
مفعول «ضمن» هو الطفل؛ لأنّه المفروض تلفه بالسببية، أما الممسك فإن تلف ضمنه أيضاً، وإلا فلا، والمفروض كون الممسك محرماً، سواء كان في الحلّ أم في الحرم، والمضمون بحسب حاله.
وأما إمساك المُحلّ صيداً في الحلّ له طفل في الحرم، فإنّ الطفل مضمون عليه خاصّةً مع تلفه؛ لأنه السبب، بخلاف الممسك.
ولو أمسك المُحلّ في الحرم ضمنهما كالمُحرم.
وإطلاق المصنّف الحكم بضمان المُحرم لولد الصيد الذي أمسكه يشمل ما لو أمسكه في الحرم فتلف ولده في الحلّ. والأقوى أنّ الحكم فيه كذلك، وربما قيل هنا بعدم الضمان.
قوله: «إذا أغرى كلبه بصيد فقتله ضمن - إلى قوله إذا كان في الحرم».
تقييد الإغراء بالصيد يخرج ما لو أغراه عابثاً من غير معاينة صيد، فاتّفق خروج الصيد
ص: 371
التاسعة: • لو نفر صيداً فهلك بمصادمة شيء، أو أخذه جارح ضمنه.
العاشرة: • لو وقع الصيد في شبكة فأراد تخليصه فهلك أو عاب ضمن.
-------------------------------------------------------------------
فقتله، فإنّ مفهوم العبارة حينئذٍ عدم الضمان؛ لأنّه لم يوجد منه قصد الصيد، ويحتمل الضمان؛ لحصول التلف بسببه، ولا يقدح جهله به؛ لأن الصيد يضمن كذلك.
وفي حكم الإغراء ما لو حلّ الكلب المربوط عند معاينة الصيد وإن لم يغره؛ لأنّ الكلب يصيد عند المعاينة بمقتضى طبعه، فيكون الحلّ سبباً في التلف. ومثله ما لو انحلّ الكلب؛ لتقصيره في الربط.
ولو حلّه مع عدم وجود الصيد فاتفق فهو كما لو أغراه كذلك.
قوله: «لو نفر صيداً فهلك بمصادمة شيء، أو أخذه جارح ضمنه».
لا إشكال في ضمانه مع الهلاك؛ لأنه مضمون عليه بتنفيره إلى أن يعود إلى السكون، لكن لو غاب عنه واشتبه حاله ففي ضمانه نظر من وجود سبب الضمان وهو التنفير، ومن أصالة السلامة، والتنفير إنّما تحقق كونه سبباً في الضمان مع الهلاك أو ما في حكمه، لا مطلقاً، وقد تقدّم الكلام فيه في تنفير الحمام.
ولو كان تلفه حالة النفار بآفةٍ سماوية ففي ضمانه وجهان، من كون دوام النفار كاليد الضامنة، ومن أنّه لم يهلك بسبب من جهة المُحرم ولا تحت يده، وتوقف في التذكرة (1).
قوله: «إذا وقع الصيد في شبكةٍ فأراد تخليصه فهلك أو عاب ضمن».
لا ريب في الضمان مع التعدي أو التفريط، أما مع عدمهما وقصد الإحسان المحض ففي الضمان نظر، من أنه محسن و «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل»(2)، ومن تلف الصيد بسببه فيضمن على كلّ حالٍ. وتوقّف في التذكرة (3).
ص: 372
الحادية عشرة: • من دلّ على صيد فقتل ضمنه.
• يحرم من الصيد على المُحِلّ في الحرم ما يحرم على المُحرم في الحلّ. • فمَنْ قتل صيدا في الحرم كان عليه فداؤه.
-------------------------------------------------------------------
ومثله ما لو خلصه من فم هرةٍ أو سبع أو من شق جدارٍ وأخذه ليداويه ويتعهده فمات في يده.
قوله: «من دلّ على صيد فقُتل ضمنه».
المراد بالدالّ هنا المُحْرِم، سواء كان في الحلّ أم في الحرم، ومثله المحلّ في الحرم، أمّا لو كان مُحلّاً في الحلّ فدلّ مُحرِماً ضمن المُحْرِم.القاتل. وفي تحريم دلالة المحلّ نظر، من إباحة الفعل في حقه، بل ما هو أقوى منه، ومن إعانته على المحرم، وقد نهى اللّه تعالى عنه (1). والأقوى التحريم.
ومثله ما لو كان أحد المتبايعين بعد النداء غير مخاطب بالجمعة.
وحيث حكم بضمان الدالّ فهو كالقاتل في الفداء والتغليظ.
قوله: «يحرم من الصيد على المحلّ في الحرم ما يحرم على المُحْرِم في الحلّ».
استثني من ذلك القمل والبراغيث؛ فإنّ قتلهما يحرم على المحرم في الحلّ، ولا يحرم على المُحل في الحرم؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا بأس بقتل القمل والبق في الحرم»(2). وقد تقدّم جواز قتل البراغيث للمُحرم أيضاً على خلاف.
قوله: «فمن قتل صيداً في الحرم كان عليه فداؤه».
المراد بالقاتل هنا المُحلّ، بقرينة المقام، وإن كانت «من» من صيغ العموم.
ص: 373
• ولو اشترك جماعة في قتله فعلى كلّ واحدٍ فداء، وفيه تردّد.
• وهل يحرم وهو يؤم الحرم ؟ قيل: نعم. وقيل: يكره. وهو الأشبه، • لكن لو أصابه ودخل الحرم فمات ضمنه وفيه تردّد.
-------------------------------------------------------------------
والمراد بالفداء هنا القيمة؛ لأنها هي الواجبة على المُحلّ في صيد الحرم، وإن كان الغالب إطلاقه على غيرها، بل كثيراً ما يستعمله المتأخّرون قسيماً لها.
نعم، ساوى بعض الأصحاب بين المُحرم في الحلّ، والمُحلّ في الحرم في الفداء(1)، لكن ذلك ليس مذهباً للمصنف، ففي إطلاقه تجوّز.
قوله: «ولو اشترك جماعة في قتله فعلى كلّ واحد فداء، وفيه تردّد».
المراد بالفداء هنا القيمة أيضاً. ومنشأ التردّد من أنّ المقتول واحد، فيجب له فداء واحد على الجميع، وأصالة البراءة من الزائد، خرج منها قتل الجماعة المحرمين للصيد، فيبقى معمولاً بها فيما عداها، ومن اشتراك المُحلّين والمُحْرمين في العلة، وهي الإقدام على قتل الصيد، خصوصاً إذا كان فعل كلّ واحدٍ مُتلفاً، وهذا هو الأقوى.
وكما يحرم على المُحلّ قتل الصيد في الحرم، يحرم عليه أسبابه من الدلالة والإعانة وغيرهما.
قوله: «وهل يحرم وهو يؤم الحرم ؟ قيل: نعم، وقيل: يكره، وهو الأشبه».
المراد بما يؤم الحرم الخارج عنه في الحل، مع كونه قاصداً له ومتوجهاً إليه، بحيث تدل القرائن على إرادته دخوله.
والأقوى كراهة قتله، وبه يُجمع بين الأخبار التي ظاهرها التنافي (2)، مع أن في بعضها تصريحاً بالكراهة (3)، وتستحب الكفّارة عنه.
قوله: «لكن لو أصابه ودخل الحرم فمات ضمنه، وفيه تردّد».
ص: 374
• ويكره الاصطياد بين البريد والحرم على الأشبه.
• فلو أصاب صيداً فيه ففقأ عينه أو كسر قرنه كان عليه صدقة استحباباً، ولو ربط صيداً في الحلّ فدخل الحرم لم يجز إخراجه.
-------------------------------------------------------------------
جعل هذا المستثنى مما تقدم، بمعنى أن ما يؤم الحرم لا يضمن إلا أن يموت في الحرم، على تردّدٍ فيه، ومنشؤه من أن الجناية غير مضمونة لوقوعها في الحل، ومن أن السراية في الحرم وكان سبباً لإتلاف الصيد فيه.
والأقوى عدم الضمان الصحيحة ابن الحجّاج (1). نعم، هو ميتة على القولين.
واعلم أنّ موضع الخلاف ما لو رمى في الحلّ فمات في الحرم، سواء كان أماً للحرم أم لا، فكان الأُولى للمصنّف التعميم؛ لئلا يوهم اختصاصه بالأم، حيث فرعه عليه.
قوله: «ويكره الاصطياد بين البريد والحرم على الأشبه».
هذا البريد خارج الحرم، يحيط به من كل جانب، ويُسمّى حرم الحرم، والحرم في داخله بريد في بريد أيضاً، يكون مكسّراً ستة عشر فرسخاً ؛ لأنّ البريد أربعة فراسخ، فإذا ضربت في أربعةٍ بلغت ذلك، وإلا فالواحد إذا ضُرب في مثله لا يتعدّد.
ومعنى الاصطياد بين البريد والحرم الاصطياد بين منتهى البريد وغايته وطرف الحرم، وإلّا فلا واسطة بين نفس البريد والحرم حتى يتعلّق به حكم، ففي العبارة تجوّز.
والمشهور كراهة صيده وللشيخ رحمه اللّه قول بالتحريم (2)، استناداً إلى صحيحة الحلبي (3). وحملت على الكراهة.
قوله: «فلو أصاب صيداً فيه ففقأ عينه أو كسر قرنه كان عليه صدقة استحباباً».
ص: 375
• ولو كان في الحلّ ورمى صيداً في الحرم فقتله فداه، وكذا لو كان في الحرم ورمى صيداً فى الحلّ فقتله.
ولو كان بعض الصيد في الحرم فأصاب ما هو في الحلّ أو في الحرم منه فقتله ضمنه.
• ولو كان الصيد على فرع شجرة في الحلّ فقتله ضمن إذا كان أصلها في الحرم.
-------------------------------------------------------------------
هكذا ورد الأمر به في رواية الحلبي (1) مجرداً عن قيد الاستحباب، وحيث حكم بكراهة الصيد حملت الصدقة على الاستحباب ولم يتعرّضوا لغير هاتين الجنايتين؛ لعدم النص وأصالة البراءة تقتضى العدم وإن حكم بالتحريم.
قوله: «ولو كان في الحلّ فرمى صيداً في الحرم فقتله - إلى قوله - في الحلّ فقتله».
هذه كلها أحكام المُحلّ بالنسبة إلى الحرم، وضابط ما هنا أن المقتول في الحرم مضمون مطلقاً، والمقتول في الحلّ مضمون إن كان السبب صادراً من المُحرم، وإلا فلا.
ولا فرق في ذلك بين رمي السهم وإرسال الكلب وغيرهما، لكن يشترط في ضمان مقتول الكلب أن يكون مرسلاً إليه، فلو أرسل كلبه في الحلّ على صيد، فدخل الكلب بنفسه إلى الحرم، فقتل صيداً غيره، فلا ضمان ؛ لأنّ الكلب دخل باختیار نفسه، بخلاف ما لو رمی بسهمه صيداً فأصاب غيره، فإنّه يضمنه ؛ لاستناد قتله إلى الرمي الذي هو من فعله.
قوله: «ولو كان [الصيد] على فرع شجرةٍ في الحلّ فقتله ضمن إذا كان أصلها في الحرم».
الضابط أنّ أصل الشجرة متى كان في الحرم فما عليها مضمون مطلقاً، ومتى كان في الحلّ فأغصانها تابعة لهواء ما هي فيه، فما كان منها في الحرم بحكمه، وما كان في الحلّ بحكمه. والثاني لا إشكال فيه، والأوّل مرويٌّ عن عليّ (2).
ص: 376
ومن دخل بصيد إلى الحرم وجب عليه إرساله ولو أخرجه فتلف كان عليه ضمانه، سواء كان التلف بسببه أو بغيره.
• ولو كان طائراً مقصوصاً وجب حفظه حتى يكمل ريشه ثمَّ يُرسله.
• وهل يجوز صيد حمام الحرم وهو في الحل ؟ قيل : نعم. وقيل : لا. وهو الأحوط.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو كان طائراً مقصوصاً وجب حفظه حتى يكمل ريشه ثمّ يرسله».
هكذا وردت به الرواية عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).
ويجب عليه مؤونة زمان بقائه، ويجوز إيداعه الثقة إلى أن يكمل نص عليه في التذكرة (2) والدروس (3).
ولو أرسله قبل ذلك فالظاهر أنه يضمنه مع تلفه أو اشتباه حاله، فإنّ ذلك بمنزلة الإتلاف؛ لعدم امتناعه من صغير الحيوان.
وهل يلحق غير الطائر به مع مشاركته له في عدم الامتناع كالفرخ؟ نظر، من عدم النصّ، واقتضاء إرساله تلفه غالباً.
ويقوى الإشكال إذا كان زمناً ماً يوساً من عوده إلى الصحة؛ لما في بقائه أبداً من الحرج العظيم.
قوله: «وهل يجوز صيد حمام الحرم وهو في الحل ؟ قيل : نعم. وقيل : لا. وهو الأحوط».
وجه الجواز أنه حينئذٍ ليس من صيد الحرم، كما لو خرج غيره من الحيوان من الحرم فإن صيده جائز إجماعاً.
ص: 377
• ومن نتف ريشة من حمام الحرم كان عليه صدقة، ويجب أن يسلّمها بتلك اليد.
ومن أخرج صيداً من الحرم وجب عليه إعادته، ولو تلف قبل ذلك ضمنه.
-------------------------------------------------------------------
والمنع أقوى؛ لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «لا يصاد حمام الحرم حيث كان إذا علم أنه من حمام الحرم»(1).
قوله: «ومن نتف ريشةً من حمام الحرم كان عليه صدقة ويجب أن يسلّمها بتلك اليد».
ليس في العبارة ما يدل على أنه نتف الريشة بيده حتى يشير إليها، بل هي أعم؛ لجواز نتفها برجله وفمه وغيرهما، لكنّ الرواية وردت بأنه يتصدق بشيء باليد الجانية(2)، وهي سالمة من الإيراد، لكن يبقى فيها أنّ النتف بغير اليد خالٍ من الحكم، والظاهر حينئذٍ جواز الصدقة كيف شاء.
ولو أخرجها بغير اليد الجانية لم يجز. ويجزئ مسمّى الصدقة. ولا تسقط الصدقة بنبات الريش.
ومورد النص الريشة (3)، فلو نتف أكثر احتمل الأرش كغيره، وتعدد الصدقة بتعدّده، وهو اختيار الدروس (4).
والأقوى الأوّل إن كان النتف دفعةً، وإلا الثاني، وهو اختيار العلّامة (5).
ويشكل الأرش، حيث لا يوجب ذلك نقصاً أصلاً، ويمكن حينئذٍ وجوب الصدقة بشيء؛ لأنّ ثبوته في الواحدة يستلزمه في الزائد بطريق أولى إذا لم يجب أزيد.
ولو نتف غير الحمامة، أو غير الريش من الوبر وغيره، فالظاهر الأرش، مع احتمال التعدية إليه.
ص: 378
• ولو رمي بسهم في الحل فدخل الحرم ثم خرج إلى الحل فقتل صيداً لم يجب الفداء.
ولو ذبح المُحلّ في الحرم صيداً كان ميتةً.
ولو ذبحه في الحلّ وأدخله الحرم لم يحرم على المُحلّ، ويحرم على المُحرم.
• ولا يدخل في ملکه شيء من الصيد على الأشبه، وقيل: يدخل، وعليه إرساله إن كان حاضراً معه.
-------------------------------------------------------------------
ولو أحدث ما لا يوجب الأرش كالريشة الواحدة - نقصاً في الحمامة ضمن أرشه.
والأقوى عدم وجوب تسليمه باليد الجانية، كغيره من ضروب الأرش؛ لعدم النص المعيّن.
قوله: «ولو رمى بسهم في الحلّ فدخل الحرم ثم خرج إلى الحل فقتل صيداً لم يجب الفداء».
هذا الحكم ذكره الشيخ (رحمه اللّه)(1)، وتبعه عليه جماعة (2)، ومستنده أصالة البراءة، وكون أصل السبب من الحلّ، والمقتول في الحلّ. وتوقف فيه العلّامة في التذكرة (3)؛ لصدق خروج السهم من الحرم المقتضي للضمان، كما لو كان أصل الرمي منه.
ومثله ما لو أرسل كلباً في الحلّ إلى صيد فيه، لكن قطع في مروره إليه جزءاً من الحرم.
قوله: «ولا يدخل في ملكه شيء من الصيد على الأشبه - إلى قوله - حاضراً معه».
الكلام في المُحلّ في الحرم كما بيّناه مراراً، وقد تقدم حكم ملك المُحرم.
والقائل بملك المُحلّ الصيد الحاضر هو المصنّف في النافع(4). والأقوى ما اختاره هنا.
ص: 379
كلّ ما يلزم المُحْرم في الحلّ من كفّارة الصيد، أو المحلّ في الحرم • يجتمعان على المُحْرم في الحرم حتّى ينتهي إلى البدنة فلا يتضاعف.
وكلّما تكرّر الصيد من المُحرم نسياناً وجب عليه ضمانه.
-------------------------------------------------------------------
ويتفرع على القولين صحة البيع لو كان المشتري مُحرماً وعدمه، فعلى الأوّل يفسد، وعلى الثاني يملكه ويجب عليه إرساله.
وينبغي أن يكون قوله إن كان حاضراً معه» شرطاً لقوله «ولا يدخل في ملكه شيء من الصيد» أو لمجموع ما سبق، ليكون مخصصاً لمحل الخلاف؛ إذ لا إشكال في عدم خروج النائي عن ملكه، ولو كان قيداً للقريب خاصةً وهو وجوب الإرسال أو للدخول لكان من جملة القول الذي اختار خلافه، مع أنه جارٍ على المذهبين.
قوله: «يجتمعان على المُحرم في الحرم حتى ينتهي إلى البدنة فلا يتضاعف».
المراد بلوغ نفس البدنة أو قيمتها. والقول بعدم التضاعف عند بلوغها هو المشهور بين الأصحاب، والرواية مرسلة (1)، ومن ثَمَّ مَنَعه ابن إدريس، وأوجب التضاعف مطلقاً (2)، والنصوص (3) الدالة على التضاعف مطلقة إلى أن يحصل المقيّد.
ولا يلحق بالبدنة أرشها بناءً على مساواة الجزء لكلّه، بل يتضاعف إلى أن يبلغها، واحتمل في الدروس عدم التضاعف هنا (4).
ص: 380
• ولو تعمّد وجبت الكفّارة أوّلاً ثمَّ لا تتكرّر، وهو ممن ينتقم اللّه منه. وقيل: تتكرّر. والأوّل أشهر.
ويضمن الصيد بقتله عمداً وسهواً، فلو رمى صيداً فمرق السهم فقتل آخر كان عليه فداءان، وكذا لو رمى غرضاً فأصاب صيداً ضمنه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو تعمّد وجبت الكفّارة ثمَّ لا تتكرّر، وهو ممّن ينتقم اللّه منه. وقيل: تتكرّر. والأول أشهر».
موضع الخلاف تكرّر الصيد عامداً بأن يصيده عمداً، أي قاصداً للفعل عالماً بأنه صيد، وربما أُضيف إلى ذلك «علم الحكم» والخطأ يقابل المعنيين، وهو المراد هنا بالنسيان.
وتظهر فائدة القيد في ناسي الحكم وجاهل التحريم، ثمَّ يصيده كذلك مرّةً أُخرى، سواء تقدّم عليهما صيده خطأ أم لا.
ولو كان الواقع بعد الصيد مرّةً عمداً خطأ تكرّرت بغير إشكال، وإن كانت العبارة تشعر،بخلافه، فإنّ قوله «ثمَّ لا تتكرّر» يريد به إذا وقع بعد ذلك عمداً أيضاً وإن كان أعم، وكذلك الآية (1) محتملة.
وصحيحة ابن أبي عمير، الدالة على عدم التكرّر حينئذٍ صريحة فيما قلناه، فإنّه قال فيها: «فإن أصابه ثانياً متعمداً فهو ممّن ينتقم اللّه منه ولم يكن عليه الكفّارة»(2).
والظاهر من كلامهم أنّ الكلام في الصيد المتكرّر في إحرام واحد. فلو وقع في إحرامين في عامين تكرّرت قطعاً. وكذا لو كانا في عام واحد ولم يكن أحدهما مرتبطاً بالآخر كحج الإفراد وعمرته. أما مع ارتباطهما كحجّ التمتّع وعمرته فيحتمل كونهما كذلك لصدق التعدد، و عدمه؛ لأنّهما بمنزلة إحرام واحد في كثير من الأحكام ولعدم الدليل الدال على اشتراط كونه في إحرام واحد إلا الاتفاق عليه في بعض الموارد فيبقى الباقى. وهذا أقوى.
ص: 381
• ولو اشترى مُحِلُّ بيضَ نعامٍ لمُحرمٍ فأكله كان على المُحرم عن كل بيضةٍ شاة، وعلى المُحلّ عن كلّ بيضة درهم.
-------------------------------------------------------------------
وقوّى الشهيد في شرح الإرشاد صدق التكرار مع تقارب زمان الفعلين، بأن قصد في آخر المتلوّ وأوّل زمان التالى مع قصر زمان التحلّل (1)، ولم يفرّق في ذلك بين المرتبطين وغيرهما.
ويشكل بمنع كون قرب الزمان له مدخل في ذلك مطلقاً، بل إما أن يعتبر الإحرام الواحد أو المطلق أو المرتبط، مع أن ما ذكره يأتي في الإحرامين في عامين مع نقله فيه عدم الخلاف فيه.
ومنشأ الخلاف في التكرار عمداً من ظاهر الآية (2) الدالة على الانتقام المنافي لوجوب التكفير المسقط للذنب أو المخفّف له ولأنّ التفصيل فيها يقطع الشركة، فكما لا انتقام في الأوّل لا كفارة في الثاني، وقد فسّر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الآية بذلك في صحيحة ابن أبي عمير السابقة، ومن عموم قوله تعالى: «وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا» (3) وعدم صلاحيّة : «وَمَنْ عَادَ»(4) للتخصيص؛ لعدم التنافي بين الجزاء والانتقام، وعموم أخبار أُخر.
والأقوى الأوّل؛ لأنّ دليله دال بالنصوصيّة، بخلاف الثاني، وبه يُجمع بينهما، ويخصص العامّ بالثاني، وإن كان القول بالتكرار مطلقاً أحوط.
واعلم أن ظاهر الآية والأخبار والفتاوى كون الحكم في المُحرم مطلقاً، وأمّا المُحل في الحرم فإنّه وإن ساواه في ضمان الصيد لكن في لحوق هذا الحكم به نظر.
والأقوى العدم، فتتكرّر عليه الكفّارة مطلقاً.
قوله: «ولو اشترى مُحلّ بيض نعام لمُحرم فأكله - إلى قوله - عن كلّ بيضة درهم».
هذا الحكم متفق عليه بين الأصحاب، ومستنده رواية أبي عبيدة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(5). وهو مخالف للقواعد السالفة من عدم ضمان المُحلّ في غير الحرم ما يحرم على المحرم وإن
ص: 382
-------------------------------------------------------------------
أعانه، بل وإن شاركه في الصيد، ولزوم القيمة له لو كان ذلك في الحرم، فيكون ذلك مخصوصاً بغير هذه الصورة.
ثمَّ إن كان المشتري في الحلّ وجب عليه الدرهم؛ للنصّ المذكور. ولو كان في الحرم احتمل كونه كذلك، كما يقتضيه إطلاق النص والأصحّاب.
ويمكن هنا وجوب أكثر الأمرين من القيمة والدرهم؛ فإنّ حكم النص المذكور يقتضي تغليظاً، فلو اقتصر على الدرهم مع وجوب القيمة في غيره مع فرض زيادتها عليه لكان أنقص منه، والواقع خلافه.
وأما الأكل فإن كان فى الحلّ فالحكم كما ذكر، وإن كان في الحرم ففي تضاعف الجزاء بحيث يجتمع عليه الشاة والدرهم،نظر من إطلاق القاعدة السالفة الدالة على الاجتماع ومن إطلاق النصّ هنا على وجوب الشاة.
ويمكن قوياً أن يُجمع بين النصين المطلقين بالتضاعف؛ لعدم المنافاة، إلّا أنّ الأصحاب لم يصرّحوا هنا بشيء.
ويبقى في المسألة أمور:
الأوّل: قد عرفت فيما تقدّم أنّ كسر بيض النعام قبل التحرّك موجب للإرسال، فلا يتمّ إطلاق وجوب الشاة هنا، بل إن كسره ثم أكله وجب الجمع بين الإرسال بسبب الكسر والشاة بسبب الأكل تقريراً للنصين. وإنّما يتم وجوب الشاة خاصةً إذا اشتراه المحل مكسوراً أو كسره هو ولو اشتراه مطبوخاً ثمَّ كسره المُحرم احتمل قوياً وجوب الشاة خاصةً؛ لزوال منفعة البيض بالنسبة إلى الفرخ الذي هو حكمه الإرسال.
ومثله ما لو ظهر البيض بعد الكسر فاسدا، ويمكن الجمع لصدق الكسر.
الثاني: لو طبخه المُحرم ثمَّ كسره وأكله، فهل يجب عليه الإرسال مع الشاة، كما يجب لو كسره صالحاً للفرخ؟ يحتمله؛ لمساواة الطبخ للكسر في منع الاستعداد للفرخ، ولصدق الكسر بعد ذلك، فلا يقصر الأمران عن الكسر ابتداء.
ص: 383
-------------------------------------------------------------------
ووجه العدم أنّ النصّ بالإرسال إنّما ورد في الكسر، وخصص بكسر القابل للفرخ، وهو بالطبخ منتفٍ، وليس الطبخ كسراً بالحقيقة وإن شاركه في زوال الفائدة، فيلزمه القيمة خاصة والأوّل أقوى.
الثالث: لو طبخه ولم يكسره ففي وجوب الإرسال الوجهان، وأولى بالعدم هنا لو قيل به ثَمَّ، فلو كسره له مُحلّ بعد ذلك وأكله المُحْرم وجبت الشاة بالأكل، وفي الإرسال نظر.
ولا يجب على المُحلّ الكاسر شيء؛ لأصالة البراءة، وعدم النصّ.
ولو كان الكاسر محرماً ففي وجوب الشاة، أو القيمة، أو الدرهم نظر.
الرابع: لو كان المشتري للمُحرم مُحْرماً احتمل قوياً وجوب الدرهم خاصة؛ لأنه وإن لم يكن منصوصاً لكنّ الدرهم يجب عليه بطريق أولى، والزيادة عليه لا دليل عليها. ووجوب الشاة لمشاركته للمُحرم، كما لو باشر أحدهما القتل ودلّ الآخر.
ويقوى الإشكال لو اشتراه صحيحاً فكسره الآخر وأكله، حيث يجب الإرسال؛ إذ ليس المشتري بكاسر ولا أكل ولكنه سبب فيهما.
الخامس: لو اشتراه المُحرم لنفسه من مُحلّ وباشر الأكل ومقدّماته، ففي اجتماع الدرهم والشاة أو الإرسال معهما نظر، من وجوب الأخيرين عليه بدون الشراء، ووجوب الدرهم على المُحلّ فعلى المُحْرم أولى ومن خروجه عن صورة النصّ.
والأوّل أقوى؛ لأنّ حكم الأخيرين منصوص، والأوّل يدخل بمفهوم الموافقة.
السادس: لو انتقل إلى المُحلّ أو المُحرم بغير الشراء ففي لحوق الأحكام نظر، من المشاركة في الغاية، وعدم النص، مع مخالفته في المُحلّ للقواعد الدالة على عدم وجوب شيء عليه في غير هذه الصورة من مسائل الصيد(1).
ويمكن أن يجب على المُحْرم ما كان يجب بالشراء، ولا يجب على المُحلّ، ووجوب
ص: 384
ولا يدخل الصيد فى ملك المُحرم باصطياد، ولا ابتياع ولا هبة ولا ميراثٍ، هذا إذا كان عنده، • ولو كان في بلده، فيه تردّد، والأشبه أنه يملك.
• ولو اضطرّ المُحرم إلى أكل الصيد أكله وفداه، ولو كان عنده ميتة أكل الصيد إن أمكنه الفداء، وإلّا أكل الميتة.
-------------------------------------------------------------------
قيمة البيض على المُحرم بسبب الأكل، والإرسال مع الكسر صحيحاً، أخذاً له من القواعد السابقة خاصة.
السابع: لو كان المشترى غير البيض المذكور، ففي وجوب الدرهم على المُحلّ، خصوصاً لو كان أعظم من البيض كنفس النعامة، أو أعلى قيمة كالظبي، نظر.
وكذا القول في وجوب الشاة على المُحرم بأكله لو كانت القيمة أقل منها.
ويحتمل قويّاً هنا عدم وجوب شيء على المُحلّ، ووجوب القيمة أو المنصوص على المُحرم.
وكذلك يقوى عدم اللحوق في كلّ ما خالف هذا النصّ من هذه الأحكام؛ لأنه قياس ممنوع.
قوله: «ولو كان في بلده، فيه تردّد، والأشبه أنه يملك».
منشأ التردّد من وجود الإحرام المانع من الملك، ومن البعد الموجب لعدم خروج الصيد فيه عن ملكه، فيقبل دخوله فيه، وهذا هو الأقوى.
قوله: «ولو اضطرّ المُحرم إلى أكل الصيد أكله وفداه إلى قوله - وإلّا أكل الميتة».
ما ذكره من التفصيل مذهب جماعةٍ(1)، وكأنّه جمع بين الأخبار الواردة بأكل الصيد مطلقاً (2)، وبأكل الميتة مطلقاً (3).
ص: 385
• وإذا كان الصيد مملوكاً ففداؤه لصاحبه
-------------------------------------------------------------------
والذي اختاره المصنّف في النافع وجَعَله أشهر الروايتين - وهو مذهب المفيد(1)، والعلّامة المختلف (2) - أكل الصيد مطلقاً (3)، فإن قدر على الفداء فداه، وإلا انتقل إلى الأبدال إن كان. وهذا هو الأقوى.
وذهب بعض الأصحاب إلى أكل الميتة مطلقاً(4).
وإنّما يقدّم الصيد على الميتة إذا كان مذكيّ، أو أمكن تذكيته بأن يذبحه مُحلَّ في الحلّ، وإلا تعيّن أكل الميتة؛ لأنّها حينئذٍ أخف حكماً منه؛ لمساواته لها في كونه ميتة إن ذبحه المُحرم، وزيادته بكونه صيداً.
واحتمل في الدروس استثناء ذبح المُحرم هنا؛ لزوال المنع حينئذٍ ؛ لعدم النهي عن ذبحه الذي هو مناط عدم الذكاة(5).
ويضعّف بأن التحريم لا يستلزم عدم الذكاة، كما في تذكية حيوان الغير بغير إذنه، وإنما العلة عدم قبول الحيوان للذكاة ولو على وجه، فلا يفترق الحال بين الاختيار والاضطرار.
ويجب حينئذٍ على من أبيح له الصيد أو الميتة الاقتصار من تناوله على ما يندفع به الضرورة في سفره باعتبار حفظ نفسه وحاجته إلى التردّد في مهماته.
قوله: «وإذا كان الصيد مملوكاً ففداؤه لصاحبه».
هكذا أطلق الأكثر، والمفهوم من الفداء ما يلزم المُحرم بسبب الجناية على الصيد من مال أو صوم أو إرسال، وهو شامل أيضاً لما إذا زاد عن قيمة الصيد المملوك أو نقص،
ص: 386
-------------------------------------------------------------------
ولما إذا كانت الجناية غير موجبةٍ لضمان الأموال، كالدلالة على الصيد مع المباشر، ولما كان للمالك فيه نفع وغيره، كالإرسال إذا لم ينتج شيئاً، والصوم، ولما إذا كانت الجناية من المحرم في الحلّ وفي الحرم أو من المحل في الحرم، فيشمل ما يجتمع فيه القيمة والجزاء.
ومقتضاه أنه لا يجب لله تعالى سوى ما يجب للمالك، مع أن القواعد المستقرة تقتضي ضمان الأموال بالمثل أو القيمة كيف كان.
وكما قد يقتضي الحال في هذه المسألة ضمان ما هو أزيد من ذلك، كما إذا زاد الجزاء عن القيمة، أو اجتمع عليه الأمران، فقد يقتضي ضمان ما هو أقل، بل ما لا ينتفع به المالك، فلا يكون الإحرام موجباً للتغليظ عليه زيادةً على الإحلال.
فيتحصّل في هذه المسألة مخالفة في أمور:
الأوّل: لزوم البدنة عوضاً عن النعامة مع أنّها قيمية، والواجب على غاصبها المتلف ضمان قيمتها، وهي قد تكون أزيد من البدنة وقد تكون أقلّ، ومع ذلك فيه خروج عن الواجب، فإنّه مقدّر في القيمة بالدراهم أو الدنانير.
الثاني : فض ثمنها على البر وإعطاؤه المالك، والتقريب كما مرّ.
الثالث: الصيام مع العجز عنه يقتضي ضياع حق المالك، مع أن الصوم من جملة الفداء الشرعي وإيجابه اللّه تعالى، وبقاء ضمان الصيد للمالك خروج عن القاعدة المذكورة.
الرابع: الاكتفاء بالفداء لو نقص عن القيمة، فإنّ فيه تضييعاً لحق المالك، وهو باطل؛ لأنّه يستحقّ القيمة بالإتلاف في غير حال الإحرام ففيه أولى.
الخامس: لو كان المتلف بيضاً موجباً للإرسال، فأرسل الجاني ولم ينتج شيئاً، يلزم ضياع حق المالك، وإن أوجبنا القيمة هنا ونفينا الإرسال لزم الخروج عن النصّ المعلوم.
ص: 387
-------------------------------------------------------------------
السادس: لو عجز عن الإرسال فالكلام في الصوم وبدله كما مرّ، والتقريب كما ذكر.
السابع: لو أتلفه بالذكاة وكان ممّا يقع عليه فالواجب على الفاعل الأرش خاصة بالنسبة إلى المالك، وهنا قد يجب عليه أضعاف الأرش، وهو خروج عن القاعدة.
الثامن: لو كان المُحْرم دالاً أو شبهه مع وجود المباشر الضامن، كان إيجاب الضمان على غير المباشر خروجاً عن الأصل المذكور.
التاسع: إيجاب الضمان على كلّ من المباشر والسبب - بحيث يجتمعان للمالك - خروج عنها أيضاً، وإعطاؤه له زيادة عمّا يجب له.
العاشر: لو اشترك في قتله جماعة، فقد تقدّم أنه يلزم كلّ واحدٍ فداء، فاجتماع الجميع للمالك خروج عنها أيضاً.
الحادي عشر: لو كان المملوك حماماً في الحرم كالقماري فنفّره ثم عاد إلى يد المالك، زال الضمان بالنسبة إلى الحق المالي، وهنا يلزم الشاة، وفيه خروج عنها.
الثاني عشر : لو لم يَعُدْ، ولكن قبضه مالكه خارج الحرم زال الضمان بالنسبة إلى الأموال، وهنا يبقى لكلّ واحدةٍ شاة.
إلى غير ذلك من المخالفات للأصل المتفق عليه من غير موجب يقتضي المصير إليه. وقد ذهب جماعة من المحقّقين - منهم العلّامة في التذكرة والتحرير(1)، والشهيد (رحمه اللّه) في الدروس (2)، والمحقّق الشيخ عليّ (رحمه اللّه) (3) - إلى أنّ فداء المملوك للّه تعالى وعليه القيمة لمالكه.
وهذا هو الأقوى؛ لأنه قد اجتمع في الصيد المملوك حقان لله تعالى باعتبار الإحرام أو
ص: 388
• وإن لم يكن مملوكاً تصدّق به.
وكلّ ما يلزم المُحرم من فداءٍ يذبحه أو ينحره بمكّة إن كان معتمراً، وبمنى إن كان حاجّاً.
• وروي: أنّ كلّ من وجب عليه شاة في كفّارة الصيد وعجز عنها كان عليه إطعام عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام في الحجّ.
-------------------------------------------------------------------
الحرم، وللآدمي باعتبار الملك، والأصل عدم التداخل، فحينئذٍ ينزل الجاني منزلة الغا والقابض بالسوم، ففي كلّ موضع يلزمه الضمان يلزمه هنا كيفيّة وكميةً، فيضمن القيمي بقيمته والمثلي بمثله، والأرش في موضع يوجبه للمالك، ويجب عليه ما نص الشارع عليه هنا لله تعالى. ولو كان دالاً ونحوه ضمن الفداء لله تعالى خاصةً.
قوله: «ولو لم يكن مملوكاً تصدق به».
إن لم يكن حيواناً، كما لو كان الواجب الأرش أو القيمة أو كفَّ طعام، فلو كان حيواناً كالبدنة والبقرة وجب ذبحه أوّلاً بنية الكفّارة، ثمَّ يتصدّق به على الفقراء والمساكين بالحرم، ولا يجب التعدّد، ويجب الصدقة بجميع أجزائه مع اللحم، والنيّة عند الصدقة أيضاً، ولا يجوز الأكل منه، فلو أكل ضمن قيمة ما أكله على الأقوى.
قوله: «وروي أنّ كلّ من وجب عليه شاة في كفّارة الصيد وعجز عنها كان عليه إطعام عشرة مساكين، فإن عجز صام ثلاثة أيّام».
هذه الرواية رواها معاوية بن عمّار في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1). والعمل بها متعين، لكن لم يقيد فيها بالصيد، كما قيده المصنّف والعلّامة (2)، وإنّما فعلوا ذلك؛ لأنّها مسوقة بصدرها لأحكام الصيد وعلى إطلاقها يدخل الشاة الواجبة بغيره من المحظورات.
ص: 389
وهي سبعة:
الأوّل: الاستمتاع بالنساء • فمَنْ جامع زوجته في الفرج قُبُلاً أو دُبُراً، عامداً عالماً بالتحريم فسد حجّه، وعليه إتمامه وبدنة والحجّ من قابل سواء كانت حجّته التي أفسدها فرضاً أو نفلاً، وكذا لو جامع أمته وهو مُحرم.
ولو كانت امرأته مُحرمةً مطاوعةٌ لزمها مثل ذلك،• وعليهما أن يفترقا إذا بلغا ذلك المكان حتى يقضيا المناسك إذا حجّاً على تلك الطريق، ومعنى الافتراق أن لا يخلوا إلّا ومعهما ثالث.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «فمن جامع زوجته في الفرج قبلاً أو دبراً إلى قوله - والحجّ من قابل».
احترز بالعالم عن الناسي، وبالعامد عن الجاهل وناسي الحكم ملحق بهما أيضاً، فلا يجب عليهما شيء.
ولا فرق في الزوجة بين الدائمة والمستمتّع بها على الأقوى، ولا بين الحُرّة والأمة.
ويلحق الزنا بالأجنبية، ووطؤها بشبهة، ووطء الغلام على أصحّ القولين.
وفي البهيمة قولان أشهر هما عدم اللحوق.
وفساد الحجّ يحصل بوقوع الفعل قبل المشعر وإن وقف بعرفة على الأصحّ، وإنّما أطلقه المصنّف؛ لما سيأتي من التنبيه عليه.
قوله: «وعليهما أن يفترقا إذا بلغا ذلك المكان - إلى قوله - إلا ومعهما ثالث».
أراد بالمكان الذي أوقعا فيه الخطيئة، وأشار إليه مع عدم سبق ذكره؛ بناء على أنه معهود ذهناً.
ص: 390
• ولو أكرهها كان حجها ماضياً، وكان عليه كفّارتان ولا يتحمّل عنها شيئاً سوى الكفّارة.
-------------------------------------------------------------------
و المراد بالافتراق في حجّ القضاء، وهكذا عبر الأكثر، وهو مذكور في بعض الأخبار (1).
وفي بعض آخر منها أنّ عليهما الافتراق في ذلك الحجّ الفاسد أيضاً إلى قضاء مناسكه (2). واختاره في الدروس(3)، ونبه عليه في التذكرة (4). وهو حسن؛ لأن المعتبر في ذلك النصُّ، وهو حاصل.
ويُفهم من قوله «إذا حجّا على تلك الطريق» أنهما لو حجا على غيرها فلا تفريق وإن وصلا إلى موضع يتفق فيه الطريقان كعرفة. ويحتمل وجوب التفريق (5) في المتّفق؛ لأنّ سقوط ما تعذّر لعدم مروره عليه لا يقتضي سقوط الممكن ممّا وجب.
ويعتبر في الثالث أن يكون محترماً، فلا يكفي الطفل الذي لا يميّز ونحوه.
ولو توقّفت صحبته على أُجرة أو نفقة وجبت عليهما.
قوله: «ولو أكرهها كان حجها ماضياً، وكان عليه كفّارتان».
أي بدنتان، إحداهما عن نفسه، والأخرى عنها.
وفي تحمّلها لو أكرهته، وتحمّل الأجنبى لو أكرههما نظر، أقربه العدم للأصل.
وهل يجب التفرّق حيث يفسد الحجّ في غير المتقدمة؟ نظر، والوجه العدم.
ص: 391
• وإن جامع بعد الوقوف بالمشعر ولو قبل أن يطوف طواف النساء، أو طاف منه ثلاثة أشواط فما دون، أو جامع في غير الفرج قبل الوقوف كان حجه صحيحاً، وعليه بدنة لا غير.
تفريع: • إذا حجّ في القابل بسبب الإفساد فأفسد لزمه ما لزم أوّلاً.
• وفي الاستمناء بدنة، وهل يفسد به الحجّ ويجب القضاء؟ قيل: نعم، وقيل: لا، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن جامع بعد الوقوف بالمشعر ولو قبل أن يطوف طوف النساء - إلى قوله عليه - بدنة لا غير».
التعبير ب«لو» الوصلية يقتضى أنه لو طاف طواف النساء يجب عليه البدنة، وليس كذلك، بل إنّما يجب لو وقع قبل طواف النساء، فإنّهنّ يحللن به، فكان الأُولى ترك «ولو» لتفيد تخصيص محلّ البدنة.
والمراد بالجماع في غير الفرج نحو التفخيذ وإن أنزل معه الماء.
والحكم بعدم البطلان به قبل الوقوف يفيد عدمه بعده بطريق أولى؛ لأنّ الجماع الحقيقي بعده لا يفسد، فغيره أولى، فيكون تخصيص ما قبل الوقوف في قوّة التعميم.
قوله: «إذا حجّ في القابل بسبب الإفساد فأفسد لزمه ما لزم أولاً».
سواء جعلنا الثانية فريضةً أو عقوبة؛ لأنّه حجّ صحيح على التقديرين، فيقبل الفساد والكفّارة، وهكذا لو أفسد قضاء القضاء، وهلم جراً، ولا كذا لو تكرر الجماع في الحجّ الواحد، فإنه يوجب تكرّر الكفّارة دون القضاء.
ولا فرق في وجوب الكفّارة بالمتكرّر بين أن يكون كفّر عن الأوّل أو لا.
قوله: «وفي الاستمناء بدنة وهل يفسد به الحجّ ويجب القضاء ؟ قيل: نعم، وقيل : لا، وهو أشبه».
المراد بالاستمناء استدعاء المني بالعبث أو بيده، أو بملاعبة زوجته، أو غير ذلك، والفرق بينه وبين الاستمتاع المتقدّم بغير الجماع، تجرّد الاستمتاع عن قصد الاستمناء،
ص: 392
• ولو جامع أمته محلاً وهي محرمة بإذنه تحمّل عنها الكفّارة، بدنةٌ أو بقرةً أو شاةً، وإن كان معسراً فشاة أو صيام.
-------------------------------------------------------------------
بخلافه. وقيد جماعة (1) الاستمناء بكونه بيده والخبر (2) وارد في مطلق العبث به.
والقول بالإفساد للشيخ (3)؛ استناداً إلى حسنة إسحاق بن عمّار عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)(4)، ولا معارض لها، وهو قوي مع العمد والعلم، كالوطء.
قوله: «ولو جامع أمته مُحلّاً وهي مُحْرِمة - إلى قوله - وإن كان معسراً فشاة أوصيام».
المراد أنّه جامعها مكرهاً لها بقرينة التحمّل عنها، فلو كانت مطاوعة وجبت عليها الكفّارة أيضاً، وصامت عوض البدنة ثمانية عشر يوماً، ووجب عليها القضاء، وعليه مؤونته، والتمكين منه؛ لاستناده إلى فعله عن نسكٍ وقع بإذنه، كلّ ذلك مع العلم بالتحريم والتعمّد ولو طاوعته وكانت هي خاصةً جاهلة فلا شيء عليها، ووجبت عليه الكفّارة.
والمراد بإعساره الموجب للشاة أو الصيام إعساره عن البدنة والبقرة، وبالصيام ثلاثة أيّام كما هو الواقع في أبدال الشاة. وفي بعض النسخ تصريح بأنه ثلاثة.
والمرجع في المعسر والموسر إلى العرف.
ولو كان بدل الأمة عبداً محرماً بإذنه، ففى إلحاقه بها وجهان من عدم النصّ، وأصالة البراءة من الكفّارة، ومن اشتراكهما فى المملوكية، وكون فعله أفحش، فيناسب ترتّب العقوبة عليه، واختاره بعض المتأخّرين(5)، وهو أحوط.
ص: 393
• ولو جامع المُحرم قبل طواف الزيارة لزمه بدنة، فإن عجز فبقرة أو شاة.
• وإذا طاف المُحرم من طواف النساء خمسة أشواط ثم واقع لم يلزمه الكفّارة، وبنى على طوافه، وقيل: يكفي في ذلك مجاوزة النصف، والأوّل مرويٌّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو جامع المُحرم قبل طواف الزيارة لزمه بدنة، فإن عجز فبقرة أو شاة».
لا إشكال في وجوب البدنة للجماع بعد الموقفين وقبل طواف الزيارة، بل بعده أيضاً قبل طواف النساء، وإنّما الكلام في هذين البدلين، فإنّ النصوص خالية عن البقرة وعن الشاة من جهة كونها بدلاً، وإنما الموجود في رواية معاوية بن عمّار وجوب جزورٍ مطلقاً (1). وفي رواية العيص بن القاسم دم (2)، لكنّ الذي عليه الأصحاب هو التفصيل، فالعمل به متعيّن، ولعلّ فيه جمعاً بين الروايتين، لكنّ الموجود في كلامهم أنّ الشاة مرتّبة على العجز عن البقرة، كما أنّ البقرة مرتّبة على البدنة.
والمصنّف هنا خير بين الشاة والبقرة، وما ذكروه أولى.
قوله: «وإذا طاف المُحْرم من طواف النساء خمسة أشواط - إلى قوله - والأوّل مرويّ».
لا خلاف في وجوب البدنة لو كان الوقاع قبل طواف أربعة أشواط من طواف النساء، و عدم الوجوب لو كان بعد إكمال خمسةٍ، وإنما الخلاف فيما وقع بين ذلك، بأن كان على رأس الأربعة، أو بعدها قبل إكمال الخامس فألحقه الشيخ بالخمسة (3)، ووافقه العلّامة في المختلف (4). ومال إليه الشهيد في الشرح (5).
والأقوى وجوب البدنة؛ لضعف المستند، ودلالة الخبر الصحيح على وجوبها له قبل طواف النساء(6)، وهو متناول لمحل النزاع، فإنّ المركب لا يتمّ إلا بجميع أجزائه. نعم،
ص: 394
• وإذا عقد المُحرم لمُحْرِم على امرأةٍ، ودخل بها المحرم فعلى كلّ منهما كفّارة وكذا لو كان العاقد محلّاً، على رواية سماعة.
-------------------------------------------------------------------
يكفي بلوغ الأربعة في البناء عليه وإن وجبت الكفّارة.
ويظهر من ابن إدريس وجوبها وإن وقع بعد الخمسة (1)، والاتّفاق على خلافه، ومن ثمّة یخصّ الجماعة الخلاف بالأربعة.
قوله: «وإذا عقد مُحْرم لمُحْرم على امرأةٍ - إلى قوله - على رواية سماعة».
احترز بدخول المُحرم عمّا لو لم يدخل، فإنّه لا شيء عليهم سوى الإثم ؛ للأصل، وعدم النصّ.
والمراد بالكفّارة البدنة.
ووجوب الكفّارة على العاقد المُحلّ هو المشهور بين الأصحاب، بل جزم به العلّامة في جملةٍ من كتبه (2)، والشهيد في الدروس(3) من غير حكاية خلافٍ.
والمستند رواية سماعة (4)، وهو واقفي (5)، لكنه ثقة، فهي من الموثّق.
وعندي في العمل بها نظر، وقد تضمّنت وجوب الكفّارة على المرأة المحلّة أيضاً مع علمها بإحرام الزوج، وعمل بمضمونها المحقّق الشيخ عليّ(6).
وجزم الشهيد في الدروس بعدمه (7).
ص: 395
• ومن جامع في إحرام العمرة قبل السعي فسدت عمرته، وعليه بدنة وقضاؤها، • والأفضل أن يكون فى الشهر الداخل.
• ولو نظر إلى غير أهله فأمنى كان عليه بدنة إن كان موسراً، وإن كان متوسّطاً فبقرة، وإن كان معسراً فشاة.
-------------------------------------------------------------------
وذهب جماعة (1) إلى عدم وجوب شيء على المُحلّ مطلقاً سوى الإثم للأصل، وضعف المستند، أو بحمله على الاستحباب. ولا ريب أنّ الأوّل أولى.
ولو كان الثلاثة مُحرمين وجبت على الجميع.
ولو كانت المرأة والعاقد مُحرمين والزوج مُحلّاً وجبت الكفّارة على المرأة مع الدخول والعلم، بسبب الدخول، لا بسبب العقد، وفي وجوبها على العاقد نظر.
والضابط أنّ الزوجين لا يجب عليهما إلا مع إحرامهما والدخول والعلم، والعاقد لا يجب عليه شيء، إلا مع إحرام الزوج ودخوله، ففيه ما مرّ.
قوله: «و من جامع في إحرام العمرة قبل السعي فسدت عمرته، وعليه بدنة وقضاؤها».
هذا مع علمه وعمده، ويلحق بها الأجنبية والغلام، ويجب عليه إتمامها أيضاً.
ولو كانت عمرة التمتّع ففي وجوب إكمال الحجّ أيضاً، ثمَّ قضاؤهما والافتراق -كما مر - قولان، أجودهما الوجوب، ولو طاوعته المُحرمة وجب عليها ما وجب عليه. ولو أكرهها تحمّل عنها البدنة، ولا قضاء عليها.
وفي وجوب الافتراق في العمرة المفردة وجهان.
ولو كان الجماع بعد السعي لم يفسد، وعليه البدنة ما لم يُكملها.
قوله: «والأفضل أن يكون في الشهر الداخل».
بناء على جواز توالي العمرتين، أو الاكتفاء بالفرق بينهما بعشرة أيّام، وإلا كان التأخير إليه واجباً، وسيأتي.
قوله: «ولو نظر إلى غير أهله فأمنى كان عليه بدنة - إلى قوله - وإن كان معسراً فشاة».
ص: 396
• ولو نظر إلى امرأته لم يكن عليه شيء ولو أمنى، ولو كان بشهوة فأمني كان عليه بدنة، ولو مسها بغير شهوة لم يكن عليه شيء، ولو مسّها بشهوةٍ كان عليه شاة ولو لم يُمن.
• ولو قبل امرأته كان عليه شاة، ولو كان بشهوة كان عليه جزور، وكذا لو أمنى عن ملاعبةٍ.
-------------------------------------------------------------------
هكذا ورد في رواية أبي بصير(1)، ونزلها بعضهم في الحالات الثلاث على الترتيب، بمعنى وجوب البدنة على القادر عليها، فإن عجز عنها فالبقرة، فإن عجز عنها فالشاة(2)، بناء على أنّ من شأن المتوسط غالباً أن يعجز عن البدنة، والفقير عن البقرة، وهو بعيد.
والأُولى الرجوع إلى المفهومات الثلاثة عرفاً بالنسبة إلى الفاعل في حاله ومحلّه.
وهذا كله إذا لم يكن معتاداً بالإمناء عند النظر فقصده أو قصد الإمناء به، وإلا كان حكمه حکم مستدعي المنيّ، وقد تقدّم.
قوله: «ولو نظر إلى امرأته لم يكن عليه شيء ولو أمنى».
ينبغي تقييده بعدم اعتياده الإمناء عند النظر، أو قصده، وإلا وجبت الكفّارة، كما لو نظر بشهوةٍ فأمنى. ويمكن رجوع القيد الثاني إليه.
قوله: «ولو قبل امرأته كان عليه شاة».
أي بغير شهوة، ولا فرق حينئذٍ بين أن يمني أو لا، خلافاً لابن إدريس حيث أوجب مع الإمناء جزوراً(3).
ولو طاوعته المرأة فعليها مثله.
ص: 397
• ولو استمع على من يجامع فأمنى من غير نظرٍ لم يلزمه شيء.
فرع: • لو حجّ تطوّعاً فأفسده ثمَّ أحصر كان عليه بدنة للإفساد، ودم للإحصار، وكفاه قضاء واحد في القابل.
المحظور الثاني: الطيب، فمن تطيب كان عليه دم شاة، سواء استعمله • صبغاً، أو طلاءً - ابتداء أو استدامة - • أو بخوراً، أو في الطعام.
ولا بأس بخلوق الكعبة ولو كان فيه زعفران، • وكذا الفواكه كالأُترجّ والتفّاح، والرياحين كالورد والنيلوفر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو استمع على من يجامع فأمنى من غير نظر لم يلزمه شيء».
إذا لم ينضم إليه النظر، وإلا لزمه ما تقدم.
ولو أمنى بذلك وكان من عادته ذلك، أو قصده وجبت الكفّارة، وإلّا فلا.
قوله: «لو حجّ تطوعاً فأفسده - إلى قوله - وكفاه قضاء واحد في القابل».
بسبب الإفساد، دون الإحصار، فإنّ المندوب لا يجب قضاؤه معه بل ما استقرّ من الواجب، كما مرّ، وتظهر الفائدة في نيّة السبب.
قوله: «صبغاً».
الصبغ ما يصطبغ به من الإدام قاله الجوهري (1)، والمراد به ما يغمس فيه اللقمة من مرقٍ وغيره.
قوله: «أو بخوراً».
البخور - بفتح الباء - ما يتبخّر به، ولا يجيء مصدره بهذه الصورة، ولو قال «وتبخّراً» كان أولى.
قوله: «وكذا الفواكه كالأُترجّ».
الظاهر أنه معطوف على خلوق الكعبة، فيفيد جواز شمّه.
ص: 398
الثالث: القلم،• وفي كلّ ظفرٍ مُدَّ من طعام، وفي أظفار يديه ورجليه في مجلسٍ واحد،دم ولو كان كلّ واحدٍ منهما في مجلس لزمه دمان.
• ولو أفتى بتقليم ظفره فأدماه لزم المفتي شاة.
-------------------------------------------------------------------
ويمكن كونه معطوفاً على الطيب؛ للرواية الصحيحة الدالّة على تحريمه (1)، وهو الأقوى، لكن يستثنى منه الشيح والخزامى والإذخر والقيصوم؛ للرواية (2).
الأُترجّ - بضمّ الهمزة والراء وتشديد الجيم - إحدى لغاته.
قوله: «وفي كلّ ظفرٍ مُدَّ من طعام، وفي أظفار يديه ورِجْليه في مجلس واحد دم، ولو كان كلّ واحدٍ منهما في مجلس لزمه دمان».
إنّما يجب الدم والدمان إذا لم يتخلّل التكفير عن السابق قبل البلوغ إلى حدٍ يوجب الشاة، وإلا تعدّد المُدّ خاصةً بحسب تعدد الأصابع.
وكما تجب الشاة لليدين والرجلين في مجلس واحد كذا تجب لأحدهما مع بعض الآخر.
نعم، لو قلم إحدى اليدين وإحدى الرجلين، بل لو قلم من كلّ منهما ما ينقص عن المجموع بيسير فالفدية لكلّ ظفر لا غير.
والظاهر أنّ بعض الظفر كالكل، إلا أن يقصه في دفعات مع اتحاد الوقت، ولو تغاير ففي التعدّد احتمال، من وجوب الفداء بالسابق فلا يسقط، ومن صدق قص ظفرٍ واحدٍ.
قوله: «ولو أفتى بتقليم ظفره فأدماه لزم المفتى شاة».
لا فرق في المفتي بين كونه مُحلّاً ومُحْرماً، ولا يشترط اجتهاده، ولكن الظاهر اشتراط صلاحيته للإفتاء بزعم المستفتي، ليتحقّق كونه مفتياً.
ص: 399
الرابع: • المخيط حرام على المُحرم، فلو لبس كان عليه دم ولو اضطر إلى لبس ثوب يتّقي به الحرّ أو البرد جاز، وعليه شاة.
وفيه شاة أو إطعام عشرة مساكين، • لكلّ منهم مُدّ، وقيل: ستّة، لكلّ منهم مُدان، أو صيام ثلاثة أيّام.
ولو مس لحيته أو رأسه فوقع منهما شيء أطعم كفّاً من طعامٍ.. ولو فعل ذلك في وضوء الصلاة لم يلزمه شيء.
• ولو نتف أحد إبطيه أطعم ثلاثة مساكين، ولو نتفهما لزمه شاة.
-------------------------------------------------------------------
ولو تعمّد المستفتي الإدماء فلا شيء. وهل يقبل قوله بالإدماء في حق المفتي ؟ نظر، وقرّب في الدروس القبول (1).
قوله: «المخيط حرام على المُحرم، فلو لبس كان عليه دم».
والظاهر أنّ ما ألحق به من الدرع المنسوج ونحوه بحكمه، وكذا القباء إذا لبسه المضطر غیر مقلوب، والطيلسان إذا زرّه.
قوله: «لكلّ مسكين مُد، وقيل: ستة، لكلّ منهم مُدّان».
الأوّل هو المشهور، والثاني مرويّ في الصحيح (2)، ولا يبعد القول بالتخيير.
وفي حكم حلق الشعر إزالته بنتف أو نورة.
وتجب الكفّارة بمسمّى الحلق وإن قلّ.
قوله: «ولو فَعَل ذلك في وضوء الصلاة لم يلزمه شيء».
وألحق به في الدروس الغسل (3)، وينبغي أن يكون التيمم وإزالة النجاسة كذلك. ولا فرق في الطهارة بين الواجبة والمندوبة.
قوله: «ولو نتف أحد إبطيه أطعم ثلاثة مساكين ولو نتفهما لزمه شاة».
ص: 400
• وفي التظليل سائراً شاة، وكذا لو غطّى رأسه بثوبٍ، أو طيّنه بطينٍ يستره، أو ارتمس في الماء، أو حمل ما يستره.
وفي الكذب منه مرّةً شاة، ومرّتين بقرة، وثلاثاً بدنة، وفي الصدق ثلاثاً شاة، ولا كفارة فيما دونه
-------------------------------------------------------------------
الظاهر أن الحلق كالنتف في ذلك، بل يحتمل إلحاق مطلق الإزالة به. وفي وجوب الفدية بنتف بعض الإبط نظر من تحريم إزالة الشعر مطلقاً فناسب الفدية، ومن أصالة البراءة، وعدم النصّ.
قوله: «وفي التظليل سائراً شاة وكذا لو غطى رأسه بثوب» إلى آخره.
لا ريب في وجوب الشاة بالتظليل، وتغطية الرأس لعذر وغيره وإنما الكلام في تعدّدها عند تعدد الفعل، فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فقيل: كفّارة التظليل شاة مطلقاً لجملة المدة في النسك الواحد(1)، وقيل: لكلّ يومٍ مُدٌّ(2)، وقيل: لكلّ يوم شاة إن كان مختاراً، ولجملة المدّة إن كان مضطرّاً(3)، ولم نقف لأحدٍ على قول بتعدّدها بتعدد الفعل، مع اختلاف الزمان كما هو في اللُبس. والقول بوجوب شاةٍ مطلقاً لا يخلو من قوة، وهو اختيار جماعةٍ (4).
وأمّا تغطية الرأس فإن اتّحد الفعل فشاة واحدة، وإن اختلف، بأن كشف رأسه ثم غطّاه وهكذا، فإن كان مضطراً فواحدة، أيضاً، وكذا إن كان مختاراً واختلف المجلس، ولو اتحد فالظاهر التعدّد أيضاً، ولو ضاعف الغطاء لم يتعدّد.
قوله: «الجدال، وفي الكذب منه مرّةً شاة، ومرتين بقرة، وثلاثاً بدنة، في الصدق ثلاثاً شاة».
ص: 401
وفي الكبيرة بقرة ولو كان مُحلّاً، وفي الصغيرة شاة، وفى أبعاضهما قيمته، وعندي في الجميع تردّد.
-------------------------------------------------------------------
إنّما تجب البقرة عن الاثنتين كذباً إذا لم تسبق بالتكفير عن الواحدة، وإلا وجبت الشاة للثانية أيضاً، وكذا البدنة إنّما تجب للثلاثة إذا لم تسبق بالتكفير عن الأُولى، فتجب للأخيرتين بقرة، أو عن الثانية بالبقرة، فتجب في الثالثة شاة.
والضابط أن ينظر عند إرادة التكفير إلى العدد السابق الذي لم يكفّر عنه، فإن كان واحداً فشاة، أو اثنين فبقرة، أو ثلاثة فبدنة، فإن كفّر على كلّ مرّة فالشاة ليس إلا، أو على كلّ مرتين فالبقرة، أو على كلّ ثلاث فالبدنة، وكذا لوكفّر على أزيد من ثلاث فالبدنة خاصةً عن الجميع. وكذا القول في اليمين صادقاً، بمعنى أنه إن كفّر على كل ثلاث تعددت الشاة، وإن لم يكفّر حتى زاد عنها فشاة واحدة.
قوله: «قلع شجر الحرم، وفي الكبيرة بقرة ولو كان محلاً - إلى قوله - وعندي في الجميع تردد».
منشأ التردّد من قصور المستند، فإنّه رواية مرسلة تضمّنت حكم الكبيرة بوجوب البقرة خاصّة(1)، وأصالة البراءة تدفعها، ومن اعتضاده بالشهرة بين الأصحاب، حتى ادّعى عليه في الخلاف الإجماع (2)، مع الإجماع على تحريم قلعه المناسب لضمانه، والعمل على المشهور أقوى ولا فرق في ذلك بين المُحلّ والمُحرم.
ويكفي في تحريم الشجرة كون شيء منها في الحرم، سواء كان أصلها أم فرعها لرواية معاوية بن عمّار(3).
والمراد بقطع الشجرة جذّها من أصلها، وهو في معنى قلعها الذي هو مورد النصّ، وبه عبّر المعظم.
ص: 402
• ولو قلع شجرةً منه أعادها، ولو جفت قيل: يلزمه ضمانها.
• ولا كفارة في قلع الحشيش وإن كان فاعله مأثوماً.
-------------------------------------------------------------------
ويستثنى منها شجر النخل والفواكه، وما أخذ من الحلّ وأثبت في الحرم والشجرة اليابسة، ومن الأبعاض عودي المحالة، والغصن اليابس والمكسّر الذي هو في حكم اليابس.
قوله: «ولو قلع شجرةً منه أعادها، ولو جفت قيل: يلزمه ضمانها».
ظاهر العبارة إعادتها إلى مغرسها الذي نزعت منه، وفي الدروس تجب إعادتها إلى مغرسها أو غيره (1).
ويمكن أن يريد به هنا ذلك، بأن يريد إعادتها إلى أرض الحرم، وهذا هو الأجود، فإنّ أرض الحرم متساوية في الاحترام. نعم لو كان محلّها الأوّل أجود لها احتمل تعينه أو ما يساويه.
والقول المحكيّ (2) يرجع إلى الخلاف السابق، فإن حكم بضمانها بالقلع ضُمنت هنا مع الجفاف بسبب القلع، ومع عدمه يزول الضمان.
والحاصل أنّ إعادتها وجفافها لا يوجبان معنى آخر غير القلع، وإنما يكون استقرار الضمان مع الإعادة مراعى بالجفاف وإن كانت العبارة توهم خلافه.
قوله: «ولا كفّارة في قلع الحشيش وإن كان فاعله مأثوماً».
لا خلاف في تحريم قلع غير الحشيش غير الإذخر وما أنبته الآدميون، لكن لا كفّارة فيه سوى الاستغفار على المشهور بين الأصحاب.
وأوجب العلّامة فيه القيمة، كأبعاض الشجرة(3)، حيث لم يرد النص على شيء مخصوص، فيرجع إلى القيمة السوقية، وهو أولى.
ص: 403
• ومن استعمل دهناً طيباً في إحرامه ولو في حال الضرورة كان عليه شاة على قول.
• وكذا قيل فيمن قلع ضرسه. وفي الجميع تردّد.
ويجوز أكل ما ليس بطيب من الأدهان، كالسمن والشيرج، ولا يجوز الادّهان به.
الأُولى إذا اجتمعت أسباب مختلفة، كاللبس وتقليم الأظفار والطيب، لزمه عن كلّ واحدٍ كفّارة، سواء فعل ذلك في وقتٍ واحدٍ أو وقتين، كفّر عن الأوّل أو لم يكفّر.
-------------------------------------------------------------------
ولا فرق فى ذلك بين الأخضر واليابس. نعم، يجوز قطع اليابس مع بقاء أصله في الأرض لينبت ثانياً.
قوله: «و من استعمل دهناً طيباً في إحرامه ولو في حال الضرورة كان عليه شاة على قول».
إنما نسبه إلى القول (1): لعدم النصّ على كفارته على الخصوص.
والأقوى أنّ كفّارته كفّارة الطيب؛ لأنّه استعمال للطيب، أما الدهن الذي لا طيب فيه فلا كفّارة له للأصل.
قوله: «وكذا قيل فيمن قلع ضرسه، وفي الجميع تردّد».
وجه التردّد النظر إلى أصالة البراءة، وقصور الدليل، فإنّه في الضرس رواية مقطوعة (2)، ومن اشتهار الحكم بين الأصحاب، ولا ريب أن الوجوب أولى وإن كان عدمه عدمه أقوى.
هذا كلّه مع عدم الحاجة، أما معها فلا كفّارة، وفي إلحاق السن بالضرس على قول الوجوب وجه بعيد.
ص: 404
الثانية: • إذا كرّر الوطء لزمه بكلّ مرّةٍ كفّارة، • ولو كرّر الحلق فإن كان في وقت واحدٍ لم تتكرّر الكفّارة، وإن كان في وقتين تكرّرت.
• ولو تكرّر منه اللبس أو الطيب فإن اتّحد المجلس لم يتكرّر، وإن اختلف تكرّر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا تكرّر الوطء لزمه بكلّ مرّةٍ كفّارة».
يتحقّق تكرّر الوطء بمعاودة الإدخال بعد النزع، وقد تقدم تحريره في الصوم.
قوله: «ولو كرّر الحلق فإن كان في وقتٍ واحدٍ لم تتكرّر الكفّارة وإن كان في وقتين تكرّرت».
المرجع في اختلاف الوقتين إلى العرف وإلا فالوقت الحقيقي لحلق كلّ جزء مغاير لوقت آخر، والعرف هو المحكم في أمثال ذلك قبل اللغة.
قوله: «وإن تكرّر منه اللبس أو الطيب فإن اتحد المجلس لم يتكرّر، وإن اختلف تكرّر».
كذا أطلق الأصحاب، وظاهرهم أنه لا فرق فيهما بين أن يتحد صنف الملبوس والطيب أو يتغاير.
وللعلّامة قول بأنه مع تغاير صنف الملبوس - كما لو لبس قميصاً وعمامة وسراويل - تتعدّد الفدية وإن اتّحد المجلس (1).
وفي رواية محمد بن مسلم : أنّ لكلّ صنفٍ من الثياب فداء (2)، وهو قريب منه، فعلى هذا إنّما يعتبر اتّحاد الوقت مع اتحاد الصنف.
هذا كله إذا لم يكفّر عن السابق، وإلا وجبت للمتأخّر وإن اتّحد الوقت والمصنّف (رحمه اللّه) اعتبر المجلس، والأكثر اعتبروا الوقت وهو أجود فعلى هذا لو طال زمان المجلس بحيث يحصل منه تعدّد الوقت عادةً تكرّرت.
ص: 405
الثالثة: • كلّ مُحْرم لبس أو أكل ما لا يحل له أكله أو لبسه كان عليه دم شاة.
الرابعة: تسقط الكفّارة عن الجاهل والناسي والمجنون، إلا في الصيد فإنّ الكفّارة تلزم ولو كان سهواً.
-------------------------------------------------------------------
والذي يقتضيه الدليل أنه إن لبس المتعدّد أو تطيب به دفعةً واحدةً، بأن جمع من الثياب جملةً ووضعها على بدنه لم تتعدّد الكفّارة وإن اختلف أصنافها، وإن لبسها مرتبةً تعدّدت وإن اتحد المجلس والوقت العادي؛ لأنّ كلّ واحدٍ منها سبب في الكفّارة بانفراده، فلا يزيل الاجتماع في الوقت ما ثبت لها من السببية، فإنّ الأصل عدم تداخل المسببات مع تعدد الأسباب إلا لعارض، وهو مختار العلّامة في التذكرة(1)، ولعله أقوى.
ومثله ينبغي القول في ستر ظهر القدم.
ولم يفرقوا هنا بين المضطر وغيره، كما في تغطية الرأس، ويمكن الفرق بينهما كما هناك.
قوله: «كلّ مُحْرم أكل أو لبس ما لا يحلّ له أكله أو لبسه كان عليه دم شاة».
المراد به فيما لا نص في فديته، كلُبس الخُفّ، وأكل لحم البطة والإوزة، وإلّا وجب مقدّره.
قوله: «تسقط الكفّارة عن الجاهل والناسي والمجنون، إلا في الصيد».
وجوب الكفّارة على الناسي في الصيد هو المشهور بين الأصحاب، وعليه العمل.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن الناسي فيه لا شيء عليه أيضاً (2)، وهو نادر
ص: 406
• وصورتها أن يُحرم من الميقات الذي يسوغ له الإحرام منه، ثم يدخل مكّة فيطوف ويصلي ركعتيه، ثم يسعى بين الصفا والمروة، ويقصّر.
-------------------------------------------------------------------
كتاب العمرة
الاعتمار لغةً: الزيارة (1)، وقد يطلق العمرة عليها أيضاً، والأجود كونها اسماً للمصدر، وشرعاً: زيارة البيت مع أداء مناسك مخصوصة عنده، أو اسم للمناسك المخصوصة الواقعة في الميقات ومكّة.
وهي واجبة على المكلّف المستطيع لها بالشرائط المتقدمة في الحجّ(2).
قوله: «وصورتها أن يُحرم من الميقات الذي يسوغ له الإحرام منه».
وهو أحد المواقيت الخمسة إذا مر بها، أو منزله إن كان أقرب، أو أدنى الحلّ للمفردة إن كان في مكّة وما في حكمها.
وضمير «صورتها» إن عاد إلى مطلق العمرة الشامل للمفردة والمتمتّع بها كما يشعر به قوله بعد ذلك «وينقسم إلى متمتّع بها ومفردة» - لم يصحّ؛ لاختلاف صورتهما وإن اشتركتا في أكثر الأفعال، وإن عاد إلى المتمتّع بها - كما يظهر من قوله «ثم يدخل مكّة» إلى آخر الأفعال التي عددها، ولم يذكر طواف النساء وصلاته فإنهما مخصوصان بالمفردة -
ص: 407
• وشرائط وجوبها شرائط وجوب الحجّ، ومع الشرائط تجب في العمر مرّةً.
• وقد تجب بالنذر وما في معناه، والاستئجار، والإفساد والفوات
-------------------------------------------------------------------
لم يكن للضمير مرجع صالح، ثم ينافيه قوله بعد ذلك «وأفعالها ثمانية» وعد منها طواف النساء وصلاته، وإن عاد إلى المفردة حصل التنافي أيضاً بين العبارتين المعدود فيهما الأفعال.
لكن الأُولى إرادة المفردة، ويكون الاقتصار في العبارة الأُولى على ما عدا طواف النساء، الملاحظة الأفعال المشتركة بين العمرتين، ثمَّ أكمل المقصود من المفردة بعد ذلك معيداً للضمير إليها، ولا يحتاج المقام إلى ذكرها على الخصوص، فإنّها هي الواجبة بأصل الشرع، والإطلاق منزل عليها حيث وقع، ولا يراد به المتمتّع بها إلا مع التصريح والتقييد وإنّما يقوم المتمتّع بها مقامها رخصة من الشرع، ويأتي في آخر كلامه أنه لا يجب في المتمتّع بها طواف النساء، وبها كمل حكمها وكيف كان فالعبارة ليست بذاك.
قوله: «وشرائط وجوبها شرائط وجوب الحج».
بمعنى التمكّن من أفعالها، وبالمحتاج إليه من الزاد والراحلة، والقدرة على الفعل بدناً أو مالاً، إلى غير ذلك، فيجب حينئذٍ في العمر مرّةً على الفور، كالحج.
ويُفهم من ذلك أنه لا يشترط فى وجوبها الاستطاعة للحجّ معها، بل لو استطاع لها خاصة وجبت، وكذا الحجّ بطريق أولى، وهو أجود الأقوال في المسألة.
والقول الآخر إنّ كلّاً منهما لا يجب إلا مع الاستطاعة للآخر.
وفصل ثالث، فأوجب الحجّ مجرّداً عنها، وشرط في وجوبها الاستطاعة للحجّ، وهو مختار الدروس (1).
قوله: «وقد تجب بالنذر وما في معناه والاستئجار والإفساد والفوات».
أراد بمعناه العهد واليمين، وقد كان يمكن إدراج الاستئجار ونحوه في ذلك؛ لاشتراكها
ص: 408
• والدخول إلى مكّة مع انتفاء العذر
-------------------------------------------------------------------
في كون سببها من المكلف لا بأصل الشرع.
والمراد بالإفساد إفساد العمرة، فإنّه يجب حينئذٍ إتمامها وقضاؤها، كالحج، وبالفوات فوات الحجّ، فإنه حينئذٍ يجب عليه أن يتحلل من إحرامه بعمرة مفردة، بأن يقلب إحرامه إلى إحرام العمرة بالنيّة، ثم يأتى ببقية أفعالها ويتحلّل.
قوله: «والدخول إلى مكّة مع انتفاء العذر».
من العذر دخولها لقتال مباح أو لخوفٍ، وأن يكون الداخل عبداً لم يأذن له السيّد في النسك.
ووجوب العمرة بالدخول من باب الوجوب التخييري، فإن الواجب عليه أن لا يدخلها إلا محرماً، ولما كان الإحرام لا يستقل عبادةً بنفسه، بل إمّا أن يكون بحج أو عمرة، تخيّر الداخل بينهما، فإن اختار الحجّ أجزاً، ووصف إحرامه بالوجوب من حيث كونه أحد أفراد الواجب التخييري، وإن اختار العمرة فكذلك، وحينئذٍ فلا وجه لإفرادها هنا بالذكر إلاكون الباب لها.
لكن يبقى هنا بحث، وهو أنّ الدخول إلى مكّة إذا كان لا يصح إلا بإحرام، والإحرام لا يصح اختياراً للخارج عن المواقيت إلا من أحدها، والإحرام لا يستقل بنفسه، بل في ضمن أحد النسكين: الحجّ أو العمرة، وكان كلّ واحد منهما واجباً على الداخل تخييراً، ومن شأن الواجب المركب من أمورٍ أن يوصف كلّ واحدٍ منها بالوجوب، كان الإحرام مطلقاً موصوفاً بالوجوب بالنسبة إلى قاصد مكة، إلّا ما استثني، وحينئذٍ لا يتصور الحجّ المندوب ولا العمرة للخارج عن مكّة القاصد إليها ممّا لم يستثن مع أنّ الأصحاب ذكروا أن الحجّ المندوب يجب بالشروع فيه، وأنّ أوّل أفعاله - وهو الإحرام - خاصّة ينوي به الندب، وعلى هذا لا يتم ذلك في النائي الخارج عن مكة، بل ولا في المقيم فيها إذا افتقر إلى الخروج إلى الميقات لأجل الإحرام، فإنّه يصير حينئذٍ خارجاً عنها فيفتقر في دخوله إلى الإحرام، فينبغي تدبّر ذلك.
ص: 409
• وعدم تكرار الدخول ويتكرّر وجوبها بحسب السبب.
وأفعالها ثمانية النيّة، والإحرام والطواف، وركعتاه، والسعي والتقصير، وطواف النساء، وركعتاه.
-------------------------------------------------------------------
ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بمنع كون الدخول إلى مكّة - إذا كان متوقفاً على أحدهما - مقتضياً لوجوبه، وإنّما يتم ذلك إن وجب الدخول، أما بدونه فلا، وإنّما يكون أحدهما شرطاً في جواز الدخول وبدونه يحرم، ولا يلزم من ذلك وجوب أحدهما، بل يكون غاية ذلك أنّه إن أراد الدخول أحرم بأحدهما، وإن لم يُرد استغنى عنهما، فيكون حكمه في ذلك حكم الطهارة بالنسبة إلى الصلاة المندوبة، فإنّها لا تصح بدونها، ولا يلزم من ذلك وجوب الطهارة لها.
ولو أطلق على هذا المعنى الوجوب الشرطي صح، كما عبروا في الأذان بوجوب الترتيب بين فصوله مع كونه مندوباً.
وممّا يشبه هذا الفرض مسّ خط المصحف وقراءة العزائم للجنب، فإنّهما محرَّمان بدون الطهارة، ولا يلزم من ذلك وجوب الطهارة لهما، بل إنّما تجب مع وجوبهما وإلّا كانت شرطاً للجواز لا غير؛ ولذا عبروا في أوّل الكتاب بأنّ الطهارة تجب لأحدهما إن وجب.
وحينئذٍ فنقول هنا: إن وجب دخول مكّة على المكلف بنذرٍ وشبهه وجب عليه أحد الأمرين، ونوى من أول النسك الوجوب، وإلا نوى الندب بالإحرام، وأكمله بنية الوجوب، كما قرّروه.
لكن الإشكال يبقى في قولهم إنّ العمرة أو أحد النسكين يجب الدخول مكّة بقول مطلق، فإنّ إطلاق الوجوب لا يصح على ما قرّرناه، إلا أن يُحمل على الوجوب الشرطي، أي يشترط في جواز الدخول أحد الأمرين، أو يُحمل على ما لو وجب الدخول واللّه أعلم.
قوله: «وعدم تكرار الدخول عطف على «انتفاء» والمعنى أن من يتكرّر دخوله إليها كالحشّاش والحطّاب وناقل الميرة، ومن كانت له صنعة يتكرّر دخوله وخروجه لا يجب عليهم الإحرام لدخول مكّة
ص: 410
• وتنقسم إلى متمتّع بها ومفردة.
• فالأُولى تجب على من ليس من حاضري المسجد الحرام، ولا تصحّ إلّا في أشهر الحجّ،• وتسقط المفردة معها، ويلزم فيها التقصير، ولا يجوز حلق الرأس، ولو حلق لزمه دم ولا يجب فيها طواف النساء.
والمفردة تلزم حاضري المسجد الحرام، وتصح في جميع أيّام السنة،
-------------------------------------------------------------------
بعمرة ولا بحج؛ لما في ذلك مع التكرار من الحرج والمشقة، بكونه مُحْرماً في أكثر زمانه.
ويتحقّق التكرّر بالدخول في المرّة الثانية، فيسقط عنه الحكم في الحكم في الثالثة مع تقارب الوقتين عادةً، ولم أقف على شيء يقتضي تحديده، فالمحكم في ذلك العرفُ الدال على كونه مكرّراً.
قوله: «تنقسم إلى متمتّع بها ومفردة».
لا يخفى ما في العبارة سابقاً ولاحقاً من التهافت كما أشرنا إليه فيما سلف، فإنّه ذكر أوّلاً في صورتها أفعال عمرة التمتّع خاصةً، ثم ذكر في بيان أفعالها أفعال عمرة الإفراد، ثم قسمها - معيداً للضمير إلى العمرة التي قد عدد أفعالها - إلى مفردة ومتمتّع بها، وكان حقّ العبارة تقديم هذا التقسيم، وذكر أفعال كلّ واحدٍ على حدةٍ.
قوله: «فالأُولى تجب على من ليس من حاضري المسجد الحرام».
وهو من بعد عنه بثمانية وأربعين ميلاً، كما مرّ في الحجّ.
قوله: «وتسقط معها المفردة».
يُفهم من لفظ السقوط أنّ المفردة واجبة بأصل الشرع على كلّ مكلّف، كما أنّ الحجّ مطلقاً يجب عليه، وأنّها إنما تسقط عن المتمتّع إذا اعتمر عمرته تخفيفاً، ومن قوله:
«والمفردة تلزم حاضري المسجد الحرام عدم وجوبها على النائي من رأس، وبين المفهومين تدافع ظاهراً.
وكأنّ الموجب لذلك كون عمرة التمتّع أخفّ من المفردة، فكانت المفردة بسبب ذلك
ص: 411
• وأفضلها ما وقع في رجب.
• ومن أحرم بالمفردة ودخل مكّة جاز أن ينوي التمتّع ويلزمه دم.
ولو كان في غير أشهر الحجّ لم يجز.
ولو دخل مكّة متمتّعاً • لم يجز له الخروج حتى يأتي بالحج؛ لأنه مرتبط به.
-------------------------------------------------------------------
أكمل، وهي المشروعة بالأصالة، المفروضة قبل نزول آية التمتّع (1)، فكانت عمرة التمتّع قائمة مقام الأصليّة، مجزئةً عنها، وهي منها بمنزلة الرخصة من العزيمة، ويكون قوله: «والمفردة تلزم حاضري المسجد الحرام» إشارة إلى ما استقر عليه الحال وصار هو الحكم الثابت الآن بأصل الشرع، ففي الأول إشارة إلى ابتدائه، والثاني إلى استقراره
قوله: «وأفضلها ما وقع في رجب».
لما ورد من أنّ العمرة الرجبية تلى الحجّ في الفضل (2)، ويحصل بالإحرام فيه وإن أكملها في غيره.
وروي أيضاً أفضلية العمرة في شهر رمضان(3)، وأنها تعدل حجّة(4).
قوله: «ومن أحرم بالمفردة ودخل مكّة جاز أن ينوي التمتّع، ويلزمه دم».
إنما يجوز ذلك إذا لم تكن المفردة متعيّنةً عليه بسبب من أسباب التعيين، وإلا لم يصحّ.
قوله: «لم يجز له الخروج حتّى يأتي بالحج؛ لأنه مرتبط به».
وذلك لأن عمرة التمتّع داخلة في حجّه وكالجزء منه، كما ورد في الخبر(5).
ص: 412
• نعم، لو خرج بحيث لا يحتاج إلى استئناف إحرام جاز، • ولو خرج فاستأنف عمرةً تمتّع بالأخيرة.
• ويستحب المفردة في كلّ شهر، وأقله عشرة أيّام. ويكره أن يأتي بعمرتين بينهما أقل من عشرة، وقيل: يحرم والأوّل أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «نعم، لو خرج بحيث لا يحتاج إلى استئناف إحرام جاز».
بأن يرجع قبل شهر من حين إحلاله، أو من حين إحرامه، وقد تقدم البحث في ذلك في أوّل الحجّ.
قوله: «ولو خرج فاستأنف عمرةً تمتّع بالأخيرة».
وتصير الأُولى عمرةً مفردةً، وفي افتقارها إلى طواف النساء وركعتيه حينئذٍ وجهان، وقد تقدّم الكلام في ذلك.
قوله: «ويستحب المفردة في كلّ شهر، وأقله عشرة أيّام، ويكره أن يأتي بعمرتين بينهما أقل من عشرة أيّام، وقيل: يحرم، والأوّل أشبه».
قد اختلف الأخبار(1) وأقوال الأصحاب في أقل ما يجب أن يكون بين العمرتين، فقيل: لا يكون في السنة إلا عمرة واحدة(2)، وقيل : في الشهر ذلك(3). وبه أصحّ الروايات(4)، وقيل : أقله عشرة أيّام(5).
ص: 413
ويتحلّل من المفردة بالتقصير والحلق أفضل، وإذا قصر أو حلق حلّ له كلّ شيء إلا النساء، • فإذا أتى بطواف النساء حلّ له النساء.
• وهو واجب في المفردة بعد السعي على كل معتمر من امرأة وخصيّ وصبيّ.
-------------------------------------------------------------------
ولم يجعل المرتضى بين العمرتين حدّاً (1)، واختاره المصنّف وجماعة (2)، وهو أقوى، والأخبار منزلة على مراتب الاستحباب؛ لئلا تتنافى، فالأفضل الفصل بينهما بعشرة أيّام، وأكمل منه بشهرٍ، وأكثر ما ينبغي أن يكون بينهما السنة.
قوله: «فإذا أتى بطواف النساء حلّ له النساء».
هذا إذا كان المعتمر رجلاً، فلو كان امرأة فالظاهر أنّ حكمها كذلك إذ لا ريب في تحريم الرجال عليها بالإحرام، فيستصحب إلى أن تفرغ منه.
والظاهر أن الصبيّ المميّز بحكم الرجل، بمعنى أن النساء يحرّ من عليه بالإحرام إلى أن يطوف طوافهنّ.
وتظهر الفائدة في منعه منهنّ تمريناً قبل البلوغ، وتحريماً بعده لو أخلّ به، أو اتّفق بلوغه قبله.
قوله: «وهو واجب [في المفردة ] بعد السعي على كل معتمر من امرأةٍ وخصيّ وصبي».
إدخال الصبيّ في الحكم، وعطفه على من يُحكم عليه بالوجوب - الذي هو من باب خطاب الشرع المختص بالمكلّفين - على وجه التجوز من حيث منعه منهن، كما يمنع البالغ وإن لم يخاطب بالتحريم.
ويمكن أن يريد بالوجوب معناه اللغوي، وهو الثبوت، فإنّه أعم من الوجوب بالمعنى الشرعي، ويصحّ تعلّقه بالصبي، فإنّه ثابت عليه بالمعنى المذكور.
ص: 414
• ووجوب العمرة على الفور.
-------------------------------------------------------------------
قوله: ووجوب العمرة على الفور.
هذا في العمرة المتمتّع بها ظاهر، كالحج، بمعنى وجوب المبادرة إليها عند الاستطاعة، وحضور وقتها، وما يتوقّف عليه، كالسفر مدّةً يحضر معها وقته، وأما في المفردة فبمعنى وجوب المبادرة إليها بعد الفراغ من الحجّ. وفي رواية معاوية بن عمّار بعد أيّام التشريق (1).
وزاد في الدروس جواز تأخيرها إلى استقبال المحرّم، قال: «وليس هذا القدر منافياً للفوريبة»(2).
ويشكل بوجوب إيقاع الحجّ والعمرة المفردة في عام واحد، إلا أن يريد بالعام اثني عشر شهراً، ومبدؤها زمان التلبس بالحجّ.
وربما قيل بتأخيرها عن الحجّ، حتى يمكن الموسى من الرأس. هذا كله في العمرة الواجبة بأصل الشرع. أما الواجبة بالسبب فوقتها عند حصوله.
ص: 415
ص: 416
والنظر في أركان أربعة:
-------------------------------------------------------------------
كتاب الجهاد
هو فعال من الجهد بفتح الجيم. وهو لغةً: المشقّة، يقال: جهد الرجل في كذا، أي جدّ فيه وبالغ (1). ومنه - في الدعاء - الاستعاذة من جهد البلاء ؛ أو من الجهد، بالضم والفتح معاً، وهو الوسع والطاقة(2)، تقول : أنفق على جهدك، أي على طاقتك.
وشرعاً: بذل الوسع بالنفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص.
وعرّفه الشهيد (رحمه اللّه) بأنه: بذل النفس والمال في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان (3). وأراد بالأوّل إدخال جهاد المشركين، وبالثاني جهاد الباغين.
وهو غير مانع. فإنّ إعزاز الدين أعم من كونه بالجهاد المخصوص، كما لا يخفى.
ص: 417
• وهو فرض على كلّ مكلّف حُرّ ذكرٍ غير هم، فلا يجب على الصبيّ، ولا على المجنون، ولا على المرأة، ولا على الشيخ الهمّ، ولا على المملوك.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وهو فرض على كلّ مكلّفٍ حُرّ ذكرٍ غير هم - إلى قوله - ولا على المملوك».
اعلم أن الجهاد على أقسام:
أحدها: أن يكون ابتداءً من المسلمين للدعاء إلى الإسلام، وهذا هو المشروط بالبلوغ والعقل والحُرّيّة والذكورية ونحوها، وإذن الإمام أو من نصبه، ووجوبه على الكفاية اجماعاً.
والثاني: أن يدهم المسلمين عدو من الكفّار، يريد الاستيلاء على بلادهم أو أسرهم أو أخذ مالهم وما أشبهه من الحريم والذرّيّة.
وجهاد هذا القسم ودفعه واجب على الحر والعبد والذكر والأنثى إن احتيج إليها، ولا يتوقّف على إذن الإمام ولا حضوره ولا يختص بمن قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم قدرة المقصودين على المقاومة.
ويتأكّد الوجوب على الأقربين فالأقربين.
ويجب على من قصده بخصوصه المدافعة بحسب المكنة، سواء في ذلك الذكر والأُنثى والسليم والأعمى والمريض والأعرج والعبد،وغيرهم، فإن علم أنّه يُقتل لم يُعذر في التأخّر بوجه، وإن لم يعلم القتل بل جوّز السلامة والأسر ورجا السلامة مع المدافعة فكذلك، وإن علم أنّه يُقتل مع عدم الاستسلام وجب عليه الاستسلام، فإنّ الأسر يحتمل معه الخلاص.
والثالث: أن يكون بين المشركين أسيراً أو غيره، ويغشاهم عدو، ويخشى المسلم على نفسه، فيدفع عنها بحسب الإمكان على وجه يدفع به الضرر عن نفسه.
وهذا أيضاً لا يتوقّف على الشرائط المتقدّمة.
ومقصود المصنّف من الباب المعقود له الشرائط هو الأوّل، فمن ثَمَّ أطلق الاشتراط.
ص: 418
• وفرضه على الكفاية. بشرط وجود الإمام
-------------------------------------------------------------------
قوله «وفرضه على الكفاية».
معنى وجوبه على الكفاية أنّ الخطاب به عام على جميع الناس، فإذا قام به من يحصل الكفاية بجهاده سقط عن الباقين سقوطاً مراعىً باستمرار القائم به إلى أن يحصل الغرض المطلوب منه شرعاً.
كلّ ذلك مع عدم استنفار الإمام شخصاً على الخصوص، فيجب عليه النهوض وإن حصلت الكفاية بغيره.
وفروض الكفايات كثيرة، قد مضى ذكر جملة منها في الكتاب.
وضابطها: كلّ مهمّ دينيّ تعلّق غرض الشارع بحصوله حتماً، ولا يقصد به عين من يتولاه. ومن أهمّه الجهاد بشرطه، وإقامة الحجج العلمية والجواب عن الشبهات الواقعة على الدين، والتفقه، وحفظ ما يتوقّف عليه من المقدّمات العلمية والحديث والرجال، فيجب نسخ كتبه و تصحيحها وضبطها على الكفاية، وإن كان المكلّف بذلك عاجزاً عن بلوغ درجة التفقه قطعاً، فإنّ ذلك واجبٌ آخر.
ومنه روايتها عن الثقات، ورواية الثقة لها ليحفظ الطريق، ويصل إلى من ينتفع به، فينبغي التيقّظ في ذلك كله، فإنّه قد صار في زماننا نسياً منسيّاً.
ومن فروض الكفايات القيام بالصناعات والحِرَف التي يتوقّف عليها نظام النوع وإن كانت وضيعةً، فإنّها موصوفة بالوجوب عند عدم قيام أحد بها.
ولا بعد في اختلاف درجات الواجب شرعاً، كما في الصلاة وغيرها من الواجبات.
ومنها دفع الضرر عن المسلمين وإغاثة المستغيثين في النائبات المشتمل على إطعام الجائعين، وكسوة المحتاجين، وإزالة فاقتهم وإنقاذ الغرقى ونحوه للقادر عليه، وأفراده غير منضبطةٍ.
ومنها ردّ السلام، وتحمّل الشهادة وإقامتها، والقضاء، وتجهيز الموتى.
قوله: «بشرط وجود الإمام».
ص: 419
• أو من نصبه للجهاد.
• ولا يتعيّن إلّا أن يعيّنه الإمام؛ لاقتضاء المصلحة، أو لقصور القائمين عن الدفع إلا بالاجتماع، أو يعينه على نفسه بنذرٍ وشبهه.
-------------------------------------------------------------------
أراد بوجوده كونه ظاهراً مبسوط اليد متمكناً من التصرّف.
قوله: «أو من نصبه للجهاد».
يتحقّق ذلك بنصبه له بخصوصه، أو بتعميم ولايته على وجه يدخل فيه الجهاد، فالفقيه في حال الغيبة وإن كان منصوباً للمصالح العامة لا يجوز له مباشرة أمر الجهاد بالمعنى الأوّل.
قوله: «ولا يتعين إلا أن يعينه الإمام لاقتضاء المصلحة» إلى آخره.
اعلم أنّ فرض الكفاية قد يوافق فرض العين في وجوبه على الجميع، وذلك في مطلق فرض الكفاية إذا ظنّ كلّ واحدٍ عدم قيام من فيه الكفاية به، فيجب على الجميع القيام عيناً، ولا يخرجه ذلك عن كونه كفائياً، فإن معنى كونه كفائياً سقوطه عن البعض عند قيام بعض آخر فيه الكفاية، وهذا وصف له بإحدى جهاته. وقد ظهر بذلك أن قوله: «ولا يتعيّن إلا أن يعيّنه» إلى آخره ليس استثناء من كونه كفائياً، بل ذكر لبعض أحكامه، وهو كون الشخص المعين لا يجب عليه القيام به حتماً، إلا بأسباب ثلاثة:
أحدها تعيين الإمام له وإن كان غير محتاج إليه للقتال بسبب قيام من فيه الكفاية، فإنّ الإمام قد يرى في نهوضه معهم مصلحة من جهةٍ أُخرى، كجودة رأيه، وحسن تدبيره، وأشباه ذلك.
وثانيها: قصور القائمين عن فرض الكفاية بحيث يتوقّف على قيامه، فيجب عليه أيضاً ذلك عيناً وإلا فلا يلزم من قصور القائمين الوجوب على من لم يقم عيناً؛ لجواز تعدّده بحيث لما علموا بقصور القائمين نهضوا مع زيادتهم عن الكفاية، فيجب القيام عليهم كفايةً أيضاً.
وثالثها: تعيينه الجهاد على نفسه بنذر وشبهه حيث ينعقد النذر، فيجب عليه القيام عيناً وإن استغني عنه؛ لأنه راجح في الجملة.
ص: 420
وقد تجب المحاربة على وجه الدفع، كأن يكون بين أهل الحرب • ويغشاهم عدوٌّ يخشى منه على نفسه، فيساعدهم دفعاً عن نفسه، ولا يكون جهاداً.
-------------------------------------------------------------------
إذا تقرّر ذلك فلا يخفى ما في عبارة المصنّف من التهافت والقصور عن تحصيل المراد، فإنّ الظاهر كون قوله «أو لقصور القائمين» معطوفاً على قوله «لاقتضاء المصلحة» المجعول علةً لتعيين الإمام، فيكون المعنى أنه يجب مع تعيين الإمام له، الناشيء من اقتضاء المصلحة تعيينه له، أو من قصور القائمين فتكون العلة في الثاني مركبةً من قصور القائمين وتعيين الإمام، مع أنّ القصور علّة لوجوب النهوض مستقلّة، كما أن تعيين الإمام علة بذاتها أيضاً وإن لم يكن هناك قصور، وكذا مع النذر وشبهه.
ولو جعل قوله «أو لقصور» إلى آخره معطوفاً على المستثنى - وهو قوله: «أن يعيّنه الإمام» ليكون قسيماً لتعيين الإمام، مغايراً له - جاز، إلّا أنه خلاف الظاهر.
وفيه أيضاً عطف الاسمية على الفعلية وليس بالغاً حدّ المنع، مع أنّ قوله «أن يعينه الإمام» في قوّة الاسم؛ لتأويلهما بالمصدر، وهو التعيين.
وفي العبارة أيضاً - على التقدير الأوّل - أنّ التعيين لقصور القائمين تعيين لاقتضاء المصلحة، فذكره بعده في قوة التكرار.
ويندفع على تقدير تعيّنه بأنّ عطف بعض أفراد العام عليه لمزية خاصة به حسن واقع في الفصيح، وهو هنا كذلك، فإنّ قصور القائمين أبلغ أفراد المصلحة وأهمها، فيحسن ذكره. وهذا يندفع أيضاً بعطفه على الأوّل. وأمّا عطف قوله «أو يعينه بنذر وشبهه» على «تعينه» أولاً فلا إشكال فيه.
قوله: «ويغشاهم عدو يخشى منه على نفسه فيساعدهم دفعاً عن نفسه ولا يكون جهاداً».
أي يجب عليه قصد المدافعة، فلا يكفى قتالهم بدونه وإن لم يقصد الجهاد، لأن الفعل الواحد الواقع على وجوه مختلفة بعضها سائغ وبعضها محرم إنّما يتميّز بالنيّة، كمسح رأس اليتيم، فلو ترك القصد كان مأثوماً، ضامناً لما يحترم من النفوس والأموال.
ص: 421
• وكذا كلّ من خشي على نفسه مطلقاً، أو ماله إذا غلبت السلامة.
-------------------------------------------------------------------
وهل يشترط في العدوّ الهاجم كونه كافراً، أم يجوز دفعه وإن كان مسلماً ؟ قيل بالأوّل، و به صرّح الشيخ في النهاية (1)؛ لتحريم قتل المسلم وظاهر الأكثر عدم الاشتراط؛ لأنّه مدافعة عن نفسه والمسلم يجوز دفعه كذلك.
وأشار المصنّف بقوله ولا يكون جهاداً إلى أن حكم الشهيد من عدم تغسيله وتكفينه لا يلحق المقتول هنا، وكذا حكم الجهاد من تحريم الفرار وقسمة الغنيمة.
نعم هو بمنزلة الشهيد في الأجر، وإطلاق الأخبار بكونه شهيداً (2) ينزل على ذلك.
قوله: «وكذا كلّ من خشي على نفسه مطلقاً، أو ماله إذا غلبت السلامة».
أشار بالإطلاق إلى أنّ الخائف على نفسه من القتل يجب عليه الدفاع، سواء غلّب السلامة به أم لا؛ لأنّ غايته على تقدير تركه إلى العطب، بخلاف المال، فإنّما تجب المدافعة عنه مع ظنّ السلامة، فقوله «إذا غلّبت السلامة» شرط المال خاصة، وغلب - بالتشديد - يفيد معنى ظنّ؛ لأنه رجحان أحد الطرفين.
ووجوب المدافعة عن المال بالشرط كما تقتضيه العبارة - هو الأولى، سواء تضرّر بقواته أم لا ؛ لأنّ في تركه تضييعاً، وهو غير جائز.
وقيل: لا تجب المدافعة عن المال إلا مع اضطراره إليه وغلبة ظن الظفر، وبه قطع في الدروس(3). وهو أقوى. وقطع العلّامة بعدم الوجوب مطلقاً (4).
والحريم كالنفس في وجوب الدفاع عنه مع الإمكان. ولو عجز وأمكن الهرب فيهما وجب.
ص: 422
ويسقط الجهاد بأعذار أربعة • العمى • والزَمَن كالمُقْعَد • والمرض المانع من الركوب والعدو، والفقر الذي يعجز معه عن نفقة طريقه وعياله، وثمن سلاحه. • ويختلف ذلك بحسب الأحوال.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «العمى».
وإن وجد الأعمى قائداً، ويتحقّق العمى بذهاب البصر من العينين معاً، فيجب على الأعور والأعشى وغيرهما.
قوله: «والزَّمَن كالمقعد».
وإن وجد مطيّةً ومعيناً، ولا يلحق به الأعرج الذي يمكنه المشي بدون مشقّةٍ.
قوله «والمرض المانع من الركوب والعدو».
أي المانع من مجموعهما من حيث هو مجموع، فيسقط عنه وإن قدر على أحدهما، كما يسقط عمّن تقدّم مع إمكان الركوب خاصةً، أو العَدْو خاصةً، فإنّ الراكب قد يحتاج إلى العدو بأن يصير ماشياً بقتل دابته ونحوه، ومن يقدر على العدو قد يحتاج إلى الركوب.
قوله: «ويختلف ذلك بحسب الأحوال».
أي بحسب أحوال الشخص بالنسبة إلى ما يحتاج إليه من النفقة له ولعياله، وما يحتاج إليه من السلاح من سيف وقوس وسهام ورمح وغير ذلك، فإنّ من الناس من يُحسن الرمي بالسهم خاصةً فيعتبر في حقه، ومنهم من يُحسن الضرب بالسيف فيعتبر في حقه، ومنهم من يعتاد النفقة الواسعة وهو من أهلها فيعتبر في حقه، وهكذا.
وكذلك الفقر يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأشخاص، فقد يطلق الفقير على شخص مع ملكه لمال كثير، وغيره يُعدّ غنيّاً بذلك المال.
ويجوز اعتباره في المرض أيضاً، فإنّ الأمراض تختلف في اعتبارها بالنسبة إلى أحوال الجهاد وأنواعه، فإنّ بعض أفراد الجهاد لا يحتاج إلى ركوب ولا عدو، فلا يعتبران في المرض.
ص: 423
فروع ثلاثة
الأوّل: • إذا كان عليه دَيْنٌ مؤجّل فليس لصاحبه منعه، ولو كان حالّاً وهو معسر قيل له منعه وهو بعيد.
الثاني: • للأبوين منعه عن الغزو ما لم يتعين عليه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «إذا كان عليه دَيْنٌ مؤجّل - إلى قوله - وهو بعيد».
إطلاق المؤجل يشمل ما لو كان يحلّ قبل رجوعه من الجهاد بحسب العادة وعدمه، وما لو كان به رهن أو ترك مالاً في بلده مقابلة الدين وعدمه، والأمر فيه كذلك؛ لعدم استحقاق المطالبة حينئذٍ.
ويحتمل في الذي يحلّ أجله قبل رجوعه عادةً جواز منعه؛ لاستلزامه تعطيل حقه عند استحقاقه.
وأما المعسر فالأقوى أنّه ليس له منعه مطلقاً.
والقول بجواز منعه بخصوصه غير معلوم القائل، وإنما ذكر الشيخ في المبسوط (1) كلاماً يدخل فيه المعسر، لا بخصوصه
قوله: «للأبوين منعه عن الغزو ما لم يتعين عليه».
المراد بالأبوين الأب والأم المسلمان العاقلان، فلو كانا كافرين أو مجنونين لم يعتبر إذنهما. وفي إلحاق الأجداد بهما قول (2) قويّ.
ولو كانا مع الأبوين ففي اعتبار إذن الجميع أو سقوط الأجداد وجهان أجودهما الأوّل. وفي اشتراط حُرِّيَّتهما في ولاية المنع قولان أقربهما العدم.
والمراد بتعينه عليه أن يأمره الإمام به، أو يكون في المسلمين ضعف بحيث يتوقّف الأمر عليه، فيسقط اعتبارهما حينئذٍ ؛ لوجوبه عليه عيناً، كما يسقط اعتبار إذنهما في الواجبات العينيّة، كالصلاة.
ص: 424
الثالث: • لو تجدد العذر بعد التحام الحرب لم يسقط فرضه على تردّد، إلا مع العجز عن القيام به.
-------------------------------------------------------------------
وكما يعتبر إذنهما في الجهاد يعتبر في سائر الأسفار المباحة والمندوبة والواجبة الكفائية مع قيام من فيه الكفاية، فالسفر إلى طلب العلم إن كان لمعرفة العلم العيني، كإثبات الصانع، وما يجب له ويمتنع عليه، والنبوة والإمامة والمعاد، لم يفتقر إلى إذنهما، وإن كان لتحصيل الزائد منه على الفرض العيني كدفع الشبهات، وإقامة البراهين المروجة للدين زيادة على الواجب، كان فرضه كفايةً، فحكمه وحكم السفر إلى أمثاله من العلوم الكفائية كطلب التفقه أنه إن كان هناك قائم بفرض الكفاية اشترط إذنهما.
وهذا في زماننا فرض بعيد؛ فإنّ فرض الكفاية في التفقه لا يكاد يسقط مع وجود مائة فقيه مجتهد في العالم.
وإن كان السفر إلى غيره من العلوم الأدبية مع عدم وجوبها توقف على إذنهما.
هذا كله إذا لم يجد في بلده من يُعلّمه ما يحتاج إليه، بحيث لا يجد في السفر زيادةً يعتدّ بها، لفراغ أو جودة أستاد بحيث يسبق به إلى بلوغ الدرجة التي يجب تحصيلها سبقاً معتداً به، وإلّا اعتبر إذنهما أيضاً.
قوله: «لو تجدد العذر بعد التحام الحرب لم يسقط - إلى قوله - إلا مع العجز عن القيام به».
إذا تجدّد العذر بعد التحام الحرب، فإن كان خارجيّاً، كرجوع الأبوين وصاحب الدين لم يعتبر رجوعه؛ لعموم الأوامر الدالة على الثبات (1) حينئذٍ، وإن كان ذاتيّاً، كالمرض والعمى والإقعاد، ففي السقوط،قولان أقربهما ذلك؛ لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب.
وقال ابن الجنيد: يجب الثبات هنا أيضاً(2). وهو ضعيف.
نعم، لو لزم من رجوعه تخاذلاً في المسلمين وانكساراً اتجه عدم السقوط.
ص: 425
• وإذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب، ولو كان على سبيل الأُجرة لم يجب.
• ومن عجز عنه بنفسه وكان موسراً وجب إقامة غيره. وقيل : يستحب. وهو أشبه.
• ولو كان قادراً فجهّز غيره سقط عنه ما لم يتعين.
-------------------------------------------------------------------
واعلم أنّ ظاهر العبارة كون الخلاف في القسم الأوّل خاصة والموجود في كتب الخلاف كونه في الثاني.
قوله: «وإذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب، ولو كان على سبيل الأُجرة لم يجب».
والفرق بين الأمرين أنّ الإجارة لا تتمّ إلّا بالقبول وهو نوع اكتساب لا يجب تحصيله للواجب المشروط به بخلاف البذل، فإنّه يتحقّق بالإيجاب خاصةً، وهو من فعل الباذل.
ووجوب القبول على المبذول له هو المشهور، بل لم ينقلوا فيه خلافاً، وقد تقدّم في الحجّ مثله.
وذهب بعض الأصحاب إلى اشتراط كونه بوجه لازمٍ كالنذر، أو قبوله البذل، وإلا لم يجب(1). والأول أقوى.
قوله: «ومن عجز عنه بنفسه وكان موسراً وجب إقامة غيره، وقيل: يستحب. وهو أشبه».
الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه، أو أمر الإمام له بذلك، وإلا فلا؛ لأصالة البراءة، فيكون الاستئجار واجباً على الكفاية، كما يجب النهوض على القادر.
قوله: «ولو كان قادراً فجهز غيره سقط عنه ما لم يتعين».
يتحقّق التعين بتوقف الأمر عليه؛ لقوته، أو رأيه، أو بأمر الإمام له، وبدونه تجوز الاستنابة؛ لأنّ الغرض من الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمّن زاد عمّن فيه الكفاية بحصول من فيه الكفاية تحصيله على المكلف بالواجب، بنفسه أو بغيره.
ص: 426
ويحرم الغزو في أشهر الحُرُم إلا أن يبدأ الخصم، أو يكونوا ممن لا يرى للأشهر حرمةً.
• ويجوز القتال في الحرم، وقد كان محرَّماً فنُسخ.
• ويجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام مع المكنة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويجوز القتال في الحرم، وقد كان محرماً فنُسخ».
نسخه قوله تعالى: «فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ»(1).
وكذلك قيل: نسخت تحريم القتال في الأشهر الحرم مطلقاً؛ لجواز قتل من لا يرى لها حرمة، ومن بدأ بالقتل فيها (2).
قوله: «ويجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام مع المكنة».
المراد بشعائر الإسلام الأمور التي تختص بشرعه، كالأذان والصلاة(3) وصوم شهر رمضان ونحو ذلك.
قيل: وأصل الشعار الثوب الملاصق للبدن(4)، استعير للأحكام اللاصقة اللازمة للدين الخاص.
وفي الصحاح : شعار القوم في الحرب علامتهم ليعرف بعضهم بعضاً(5).
وهذا المعنى هنا أولى بمعنى علامات الإسلام التي يعرف بها الفاعل كونه مسلماً، كالعبادات المذكورة.
واحترز بمن يضعف عن إقامتها عن ذي القوة أو العشيرة، بحيث يمنعه ذلك من أذى
ص: 427
• والهجرة باقية ما دام الكفر باقياً.
-------------------------------------------------------------------
المشركين، ويقدر على إقامة الشعار، فلا يجب عليه الهجرة، ومع ذلك يستحبّ له الهجرة؛ لئلا يكثر به سواد المشركين.
ولو تعذرت على من يجب عليه لمرض أو عدم نفقة فلا حرج لقوله تعالى: «إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ»(1) وإليه أشار المصنّف بقوله «مع المكنة».
وألحق الشهيد (رحمه اللّه) - فيما نُقل عنه (2) - ببلاد الشرك بلاد الخلاف التي لا يتمكّن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فيجب عليه الهجرة منها - مع إمكان انتقاله - إلى بلدٍ يحصل فيه إقامة الشعار.
قوله: «والهجرة باقية ما دام الكفر باقياً».
نبّه بذلك على خلاف بعض العامة، حيث زعم انقطاعها بالفتح (3)، لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «لا هجرة بعد الفتح»(4).
وهو معارض بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «لا تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»(5). وحينئذٍ فيُحمل الخبر الأوّل على الهجرة من مكة؛ لأنها صارت دار الإسلام، فلا يلزم نفي الهجرة من غيرها.
ولا يرد أن الأصل عدم الإضمار، وإجراء العام على عمومه؛ لأن ذلك حيث لا يلزم تنافي الأخبار، وإلا وجب الجمع بينها ما أمكن ولو بما هو أبعد من الإضمار والتخصيص، وهو موضع وفاقٍ.
ص: 428
ومن لواحق هذا الركن المرابطة
• وهي الإرصاد لحفظ الثغر، وهي مستحبّة ولو كان الإمام مفقوداً؛ لأنّها لا تتضمّن قتالاً، بل حفظاً وإعلاماً. ومن لم يتمكّن منها بنفسه يستحبّ • أن يربط فرسه هناك.
ولو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام وفقده، • وكذا لو نذر أن يصرف شيئاً في المرابطين على الأصح، وقيل: يحرم، ويصرفه في وجوه البرّ، إلا مع خوف الشنعة، والأوّل أشبه.
-------------------------------------------------------------------
وأُجيب أيضاً بأن الهجرة المنفية هي الفاضلة، كفضلها قبل الفتح؛ لقوله تعالى: «ولَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْح»(1).
قوله: «وهى الإرصاد لحفظ الثغر».
الثغر هنا هو الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام، بحيث يخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكلّ موضع يخاف منه يقال له: ثغر، لغةٌ (2).
قوله: «أن يربط فرسه هناك».
لينتفع بها من يرابط بغير فرس، فهي بمعنى إباحة الانتفاع بها على هذا الوجه.
قوله: «وكذا لو نذر أن يصرف شيئاً في المرابطين على الأصح» إلى آخره.
القول للشيخ (رحمه اللّه) (3)، وحاصله أنّ من نذر شيئاً للمرابطين حال الغيبة، بل حال عدم تمكّن الإمام وبسط يده وإن كان حاضراً، كما اتفق في مورد النصّ(4)، وجب صرف المنذور في وجوه البر إن لم يكن سمع نذره أحد من المخالفين، أو اشتهر بينهم أنه نذر ذلك،
ص: 429
• ولو آجر نفسه وجب عليه القيام بها ولو كان الإمام مستوراً. وقيل: إن وجد المستأجر أو ورثته ردّها، وإلا قام بها، والأُولى الوجوب من غير تفصيل.
-------------------------------------------------------------------
بحيث يخاف بترك صرف المنذور في المرابطين من تشنيعهم عليه بعدم الوفاء بالنذر، أو بأنّه لا يرى صحة النذر للمرابطين منهم، ونحو ذلك، فإن حصل له خوف من ذلك وجب عليه صرفه في المرابطين.
ومستند هذا التفصيل رواية (1) تدلّ ظاهراً عليه، وحملها على النذر لمرابط لا يسوغ صرف النذر إليه لا مطلق المرابط أولى. والأقوى صحة النذر ووجوب الوفاء به كما عيّن مطلقاً.
قوله: «ولو آجر نفسه وجب عليه القيام بها ولو كان الإمام مستوراً، وقيل: إن وجد المستأجر أو ورثته ردّها، وإلا قام بها، والأُولى الوجوب من غير تفصيل».
القول للشيخ (رحمه اللّه) (2): استناداً إلى الرواية (3). ومختار المصنّف أقوى؛ لأنه طاعة فضلاً عن كونه مباحاً يصح الاستئجار عليه.
ص: 430
وفيه أطراف:
وهم ثلاثة: البغاة على الإمام من المسلمين، وأهل الذمة وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة، ومن عدا هؤلاء من أصناف الكفّار.
• وكلّ من يجب جهاده فالواجب على المسلمين النفور إليهم، إما لكفّهم، وإما لنقلهم إلى الإسلام.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وكلّ من يجب جهاده - إلى قوله - وإما لنقلهم إلى الإسلام».
غاية الكفّ يتحقّق في البغاة؛ لأنّهم مسلمون، فيُطلب بجهادهم كفّهم عن أهل الحقّ ورجوعهم عن البغي وفي باقي الكفّار إذا لم يقدر على نقلهم إلى الإسلام، بأن كان فيهم قوة وقد قصدوا المسلمين بحيث لا يرجى نقلهم، وأما إذا كان في المسلمين قوة قصدوا بسببها الكفّار رجاء نقلهم إلى الإسلام تحققت الغاية الأخرى.
وقد يتحقّق للجهاد غاية ثالثة، وهي التزامهم بشرائط الذمة.
وممّا ذكرناه يُعلم أنّ قولهم: «إمّا لكفّهم وإما لنقلهم إلى الإسلام» ليس لفاً ونشراً مرتّباً، على أن يكون «لكفّهم» للقسم الأوّل ممّن يجاهد، و «النقلهم» للقسمين الأخيرين؛ بناءً على أنّ البغاة مسلمون، وإنّما يُطلب كفّهم عن الخروج عن طاعة الإمام، وفي الحقيقة كل واحدة من الغايتين يمكن طلبها لكلّ واحدٍ من الأقسام أما للقسمين الأخيرين فظاهر مما بيّنّاه،
ص: 431
• فإن بدأوا فالواجب محاربتهم، وإن كفّوا وجب بحسب المكنة، وأقله في كلّ عام مرّة.
وإذا اقتضت المصلحة مهادنتهم جاز لكن لا يتولّى ذلك إلا الإمام أو من يأذن له.
-------------------------------------------------------------------
وأما البغاة فإنّهم عندنا كفّار مرتدّون، فقد يُطلب نقلهم إلى الإسلام مع الإمكان.
فإن قيل: إذا كانوا مرتدّين فارتدادهم فطري، فكيف يُطلب إسلامهم، مع أنه لا يقبل توبة هذا القسم من المرتدّين عندنا؟
قلنا: قد قَبِل علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) توبة من تاب من الخوارج وهو أكثرهم، وقد قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لخارجي لم يرجع: «لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسم اللّه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدأ بقتالكم»(1). وهذا يدل على أن لهذا النوع من المرتدين حكماً خاصاً.
وجاز أن يكون السبب - مع النص - تمكن الشبهة من قلوبهم، فيكون ذلك عذراً في قبول توبتهم قبل دفعها، كما أن أحكام المرتدّين ليست جارية عليهم مع التوبة.
قوله: «فإن بدأوا فالواجب محاربتهم وإن كفّوا وجب بحسب المكنة، وأقله في كلّ عام مرّة». لا شك أن وجوب (2) محاربتهم مع بداء تهم به إنّما يجب أيضاً مع المكنة، فإطلاق الوجوب فيه وتقييد ابتدائنا لهم بالمكنة يوهم وجوب الأوّل مطلقاً، وليس كذلك، وإنّما قيد الثاني بملاحظة تتمة القيد، وهو وجوبه في كلّ عام مرّةً، بمعنى أنّ المكنة وإن كانت معتبرةً في الأمرين لكن الأوّل لا يتقيد بقيد آخر، فيجب مع المكنة مطلقاً، والثاني إنما يجب مع المكنة في كلّ عام مرّةً، لقوله تعالى: «فَإِذَا أَنسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ» (3) أوجب بعد انسلاخها الجهاد، والأصل عدم وجوب الزائد عن المرّة؛ بناءً على أن الأمر لا يقتضي التكرار، كذا احتجّوا له، وفيه نظر واضح(4).
ص: 432
• والأُولى أن يبدأ بقتال من يليه، إلا أن يكون الأبعد أشد خطراً.
ويجب التربص إذا كثر العدوّ وقلّ المسلمون، حتى تحصل الكثرة للمقاومة، ثم تجب المبادرة.
-------------------------------------------------------------------
وأيضاً فالمكنة مختلفة في الموضعين، فإنّ المراد منها في الأوّل القدرة على مدافعتهم وردّهم عن بلاد الإسلام وكفّ أذاهم، وفي الثاني القدرة على مقاومتهم وقهرهم، بحيث يقتلوا أو يُسلموا أو يلتزموا بشرائط الذمة إن كانوا من قبيلها.
والتحقيق أنّ الوجوب كلّ عام مرّةً ليس مطلقاً في الوجود والعدم، بل تجب الزيادة عليها مع الحاجة إليه كخوف قوة العدو مع الاقتصار عليها، وأدائه إلى ضعف المسلمين عنهم، ونحو ذلك، ويجوز تركه في السنة والسنين أصلاً مع العذر، مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عددٍ أو عدةٍ، أو لحصول مانع في الطريق من عدم الماء ونحوه، أو رجاء رغبة العدو في الإسلام زيادة على حالة قتالهم ونحو ذلك مما يراه الإمام من المصلحة، فيجوز حينئذٍ تركه بهدنةٍ وغيرها، كما صالح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قريشاً عشرين سنةً(1)، وأخر قتالهم حتّى نقضوا عهده، وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وأما إذا بدأ العدو بالقتال وجب جهاده مع الإمكان مطلقاً.
قوله: «والأُولى أن يبدأ بقتال من يليه، إلا أن يكون الأبعد أشد خطراً». هذا الحكم على وجه الوجوب؛ لقوله تعالى: «قَتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ» (2) والأمر للوجوب.
ويستثنى من ذلك ما لو كان الأبعد أشد خطراً، فإنّه يسوغ حينئذٍ الانتقال إليه، كما فَعَل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالحارث بن أبي ضرار، لما بلغه أنه يجمع له (3)، وكان بينه وبينه عدوٌّ أقرب،
ص: 433
• ولا يبدأون إلا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام، ويكون الداعي الإمام أو من نصبه، • ويسقط اعتبار الدعوة فيمن عرفها.
ولا يجوز الفرار إذا كان العدوّ على الضعف أو أقلّ، • إلا لمتحرّفٍ كطالب السعة، أو موارد المياه، أو استدبار الشمس، • أو تسوية لأمته،• أو لمتحيّز إلى فئةٍ قليلةً كانت أو كثيرةً.
-------------------------------------------------------------------
وبخالد بن سفيان كذلك(1). ومثله في جواز الانتقال إلى الأبعد ما إذا كان الأقرب مهادناً لا ضرر منه.
وكما يجب قتال الأقرب قبل من يليه كذا يجب قتال القريب قبل من يليه أيضاً، وهكذا.
قوله: «ولا يبدأون إلا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام».
محاسن الإسلام هي الشهادتان والتوحيد والعدل والنبوة والإمامة وجميع شرائع الإسلام.
قوله: «ويسقط اعتبار الدعوة فيمن عرفها».
سواء كانت المعرفة نشأت من الدعاء إليه، أو من بلوغه ومعرفته الغرض من القتال، ومع ذلك يستحبّ الدعاء قبل القتال، كما فعل عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعمرو (2) وغيره. مع علمهم بالحال.
قوله: «إلا لمتحرّفٍ».
هو بالتاء المثناة من فوق والمراد به الانتقال من حالته التي هو عليها إلى حالةٍ هي أدخل في تمكنه من القتال كما ذكر من الأمثلة.
قوله: «أو تسويةٍ لأمته».
اللأمة - بالهمزة - هي الدرع، ويُجمع على «الأم» بفتح اللام وسكون الهمز، ولوم بضم اللام وفتح الهمز، ومثله نزع شيء، أو لبسه، أو نحو ذلك.
قوله: «أو لمتحيّز إلى فئة قليلة كانت أو كثيرةً».
المراد بالتحيّز إلى فئة الانضمام إليها ليستنجد بها في القتال مع صلاحيتها له.
ص: 434
• ولو غلب عنده الهلاك لم يجز الفرار، وقيل: يجوز؛ لقوله تعالى: «وَلَا تُلْقُواْ بأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ». والأوّل أظهر؛ لقوله [تعالى]: «إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا».
• وإن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات، ولو غلب على الظن السلامة استحبّ، وإن غلب العطب قيل : يجب الانصراف، وقيل: يستحبّ، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
ويشترط أن لا تكون بعيدةً جداً، بحيث يخرج بالتحيز إليها عن كونه مقاتلاً عادةً.
ولو وصل إليها في زمانٍ لا يخرج عن الوصف، لكن بدا له حينئذٍ الانتقال إلى أخرى جاز، بشرط أن لا يخرج بمجموع التحيّز عن الوصف، لا بكلّ واحدٍ على انفراده مع اتصال الانتقال، أمّا لو طرأ بعد القتال معها اعتبر كلُّ على حدةٍ.
واعلم أنّ هذا الاستثناء في الموضعين إنّما هو للمختار، أما المضطر - كمن عرض له مرض أو فقد سلاحه - فإنّه يجوز له الانصراف حيث شاء.
قوله: «ولو غلب عنده الهلاك لم يجز له - إلى قوله - لقوله تعالى: «إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا».
فرض المسألة فيما إذا كان العدوّ على الضعف أو أقلّ، مع كونه من جملة فئة، أمّا لو كان المسلم وحده فسيأتي الخلاف فيه.
ومنشأ القولين من دلالة الإطلاقين (1) على المراد.
والأقوى وجوب الثبات، وطريق الجمع منع كون الثبات على هذا الوجه إلقاء باليد إلى التهلكة، بل إلى الحياة الباقية المخلّدة، فلا تعارض بين الإطلاقين.
قوله: «وإن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات - إلى قوله - وهو الأشبه».
وجه الوجوب اشتماله على حفظ النفس الواجب دائماً، ووجه الاستحباب ذلك، إلّا أنّ عدم المنع من النقيض لما فيه من تحصيل الشهادة على تقديرها، وهو أمر مطلوب، ولظاهر قوله تعالى: «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٌ كَثِيرَةً» (2) فإن فيه ترغيباً في الثبات، وليس ببعيد.
ص: 435
• ولو انفرد اثنان بواحدٍ من المسلمين لم يجب الثبات، وقيل: يجب، وهو المرويّ.
ويجوز محاربة العدوّ بالحصار، ومنع السابلة دخولاً وخروجاً، وبالمجانيق، وهدم الحصون والبيوت، وكلّ ما يرجى به الفتح.
ويكره قطع الأشجار ورمي النار وتسليط المياه إلا مع الضرورة.
• ويحرم بإلقاء السم، وقيل: يكره، وهو أشبه، فإن لم يمكن الفتح إلا به جاز.
• ولو تترسوا بالنساء أو الصبيان منهم كفّ عنهم، إلّا في حال التحام الحرب،
-------------------------------------------------------------------
قوله: ولو انفرد اثنان بواحدٍ من المسلمين - إلى قوله - وهو المرويّ».
هي رواية الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : كان يقول: «من فرّ من رجلين في القتال من الزحف فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ»(1).
وفي الرواية ضعف، ووجوب الثبات قويٌّ مع عدم ظنّ العطب.
قوله: «ويحرم بإلقاء السم، وقيل: يكره، وهو أشبه».
التحريم قول الشيخ في النهاية (2)، واختاره ابن إدريس(3)؛ استناداً إلى رواية السكوني أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نهى عنه (4).
والرواية مع ضعفها يمكن حملها على الكراهة؛ لجواز قتالهم بأنواع العذاب. نعم، لو أدّى إلى قتل نفس محترمة حرم لذلك، كما أنه لو توقف الفتح عليه وجب. والعجب في ذلك من ابن إدريس المانع من العمل بخبر الواحد الصحيح.
قوله: «ولو تترسوا بالنساء والصبيان منهم كفّ عنهم إلا في حال التحام الحرب».
يجب حينئذٍ توقي الترس ما أمكن لأنه محترم ولو توقّف الوصول إليهم بقتله جاز، كما يجوز قتل الترس المسلم كذلك.
ص: 436
وكذا لو تترّسوا بالأُسارى من المسلمين وإن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلّا كذلك. • ولا يلزم القاتل دية، ويلزمه الكفّارة. وفى الأخبار: «ولا كفّارة».
ولو تعمّده الغازي مع إمكان التحرّز لزمه القود والكفّارة.
• ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونهم، إلا مع الاضطرار، • ولا يجوز التمثيل بهم، • ولا الغدر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا يلزم القاتل دية ويلزمه الكفّارة. وفي الأخبار: ولا كفّارة»(1).
لا إشكال في وجوب الكفّارة؛ لأنّها تجب مع الخطأ في نحو هذا الباب، كما دلّ عليه قوله تعالى: «فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُةٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ»(2)، وإنما الكلام في كونها كفّارة الخطأ؛ عملاً بظاهر الآية، ونظراً إلى أنه في الأصل غير قاصد للمسلم، وإنما مطلوبه قتل الكفّار فلم يجعل عامداً، وأنّ هذا القتل لما كان مأذوناً فيه شرعاً ومأموراً به لم يكن عمداً، أو كفّارة العمد؛ نظراً إلى صورة الواقع، فإنه متعمّد لقتله، وأن الآية إنما وردت فيمن قتل المسلم خطأ، ولعله أوجه.
وينبغي أن يكون من بيت المال؛ لأنه من المصالح، بل من أهمها، ولأنّ في إيجابها على المسلم تخاذل المسلمين عن حرب المشركين؛ حذراً من الغرم.
قوله: «ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء - إلى قوله - إلا مع الاضطرار».
نون «عاون» مشدّدة، ضمير جمع المؤنّث، راجع إلى النسوة، ويجوز كونها مخفّفةً، والفاعل ضمير مستتر عائد إلى المذكور، وفي بعض النسخ: «عاونوهم» وهو أشمل وأجود.
وفي حكم من ذكر الخنثى المشكل والشيخ الفاني، إلا أن يعاون برأي أو قتال.
قوله «ولا يجوز التمثيل بهم».
أي بالكفّار حين قتلهم كجدع أنوفهم وآذانهم وإن فعلوا ذلك بالمسلمين.
قوله: «ولا الغدر».
ص: 437
• ويستحب أن يكون القتال بعد الزوال.
وتكره الإغارة عليهم ليلاً، والقتال قبل الزوال إلا لحاجة، • وأن يعرقب الدابّة وإن وقفت به، • والمبارزة بغير إذن الإمام، وقيل: يحرم، • وتستحبّ المبارزة إذا ندب إليها الإمام، وتجب إذا ألزم.
-------------------------------------------------------------------
أي قتالهم بغتةً بعد الأمان، وكذا يحرم الغلول منهم؛ لقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : لا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تغدروا»(1).
قوله: «ويستحبّ أن يكون القتال بعد الزوال».
لأن أبواب السماء تفتح عنده وينزل النصر، وتقبل الرحمة، وهو أقرب إلى الليل، فيقل القتلى. وينبغى أن يكون بعد صلاة الظهرين؛ حذراً من الاشتغال عنها.
قوله: «وأن يعرقب الدابة وإن وقفت به».
أى يعرقب المسلم دابته إذا وقفت به، أو أشرف على القتل، وضمير «به» يعود إليه بدلالة المقام. ولو رأى ذلك صلاحاً زالت الكراهية، كما فعله جعفر بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمؤتة (2). ولو ذبحها كان أجود.
وأمّا دابّة الكافر فيجوز أن تعرقب؛ لأنه يؤدّي إلى أضعافهم، وإتلافها بالذكاة أولى مطلقاً.
قوله: «والمبارزة بغير إذن الإمام، وقيل: يحرم».
مستند التحريم رواية (3)، والكراهة أقوى؛ جمعاً بين الأخبار.
قوله: «و تستحبّ المبارزة إذا ندب إليها الإمام، وتجب إذا الزم».
أي تستحب وتجب إذا ندب وألزم بها شخصاً بعينه، ولو فعل ذلك من غير تعيينٍ استحبّت أو وجبت كفاية، ومع الوجوب الكفائي تستحبّ لمن لم تجب عليه.
ص: 438
فرعان:
الأوّل: المشرك إذا طلب المبارزة ولم يشترط جاز معونة،قرنه، فإن شرط أن لا يقاتله غيره وجب الوفاء له، فإن فرّ فطلبه الحربي جاز دفعه، • ولو لم يطلبه لم يجز محاربته، وقيل: يجوز ما لم يشترط الأمان، حتّى يعود إلى فئته.
الثاني: لو شرط أن لا يقاتله غير قرنه، فاستنجد أصحابه، فقد نقض أمانه، وإن تبرّعوا فمنعهم فهو في عهدة شرطه، وإن لم يمنعهم جاز قتاله معهم.
والكلام فى العاقد والعبارة والوقت.
أما العاقد فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً، ويستوي في ذلك الحُرّ والمملوك، والذكر والأُنثى.
• ولو أذمّ المراهق أو المجنون لم ينعقد، لكن يعاد إلى مأمنه وكذا كلّ حربی دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان، كأن يسمع لفظاً فيعتقده أماناً، • أو يصحب رفقةً فيتوهمها أماناً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو لم يطلبه لم يجز محاربته، وقيل: يجوز - إلى قوله - يعود إلى فئته».
عدم الجواز قوي وفاء بمقتضى الشرط، فإنّه لا يزول حتى تتغيّر تلك الحالة، ويعود إلى فئته.
قوله: «ولو أذمّ المراهق أو المجنون لم ينعقد، لكن يعاد إلى مأمنه».
هذا إذا ادّعى الحربي توهمه صحة الأمان، أما لو علم فساده ثم دخل لم يعتد به ومراد المصنّف هو الأوّل.
قوله: «أو يصحب رفقة فيتوهمها أماناً».
أي يتوهّم الصحبة المدلول عليها بالفعل تضمّناً، ويكفي في مثل ذلك دعواه.
ص: 439
• ويجوز أن يُذمّ الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب، ولا يُذمّ عاماً، ولا لأهل إقليم.
• وهل يُذمّ لقرية أو حصنٍ ؟ قيل: نعم، كما أجاز عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذمام الواحد لحصن من الحصون، وقيل: لا، وهو الأشبه، وفعل علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قضية في واقعة فلا يتعدّى.
والإمام يُذمّ لأهل الحرب عموماً وخصوصاً، وكذا من نصبه الإمام للنظر في جهةٍ يذمّ لأهلها، ويجب الوفاء بالدمام ما لم يكن متضمناً لما يخالف الشرع.
ولو أُكره العاقد لم ينعقد.
وأما العبارة، فهو أن يقول: أمنتك، أو أجرتك، أو أنت في ذمّة الإسلام، وكذاكلّ لفظ دلّ على هذا المعنى صريحاً،• وكذا كلّ كناية علم بها ذلك من قصد العاقد.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب».
المراد بالآحاد العدد اليسير، وهو يطلق على العشرة فما دون، و«يذم» - بضم أوله وكسر ثانيه - مضارع «أذمّ» أي أجار
قوله: «وهل يُذمّ لقرية أو حصن ؟ قيل: نعم - إلى قوله - وهو الأشبه».
الأقوى العدم، كما اختاره المصنّف. وقد استثنى جماعة من الأصحاب (1) الحصن الصغير، والبلد الصغير، وألحقوه بالآحاد. وفي صحته على الإطلاق نظر.
قوله: «وكذا كلّ كناية علم بها ذلك من قصد العاقد».
الكناية بالنون والمراد بها اللفظ الدال على الدمام بفحواه، دون صريحه، بحيث يعلم بالقرائن إرادة الأمان به من قصد العاقد، ويجوز كونها بالتاء المثناة من فوقٍ فإنّها كافية أيضاً.
والضابط كلّ ما دلّ على إرادة الأمان من لفظ، وكتابة، وإشارة، وغيرها.
ص: 440
• ولو قال : لا بأس عليك، أو لا تخف لم يكن ذماماً ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على الأمان.
وأمّا وقته فقبل الأسر، ولو أشرف جيش الإسلام على الظهور، فاستذم الخصم، جاز مع نظر المصلحة، ولو استذمّوا بعد حصولهم في الأسر فأذمّ لم يصحّ.
• ولو أقر المسلم أنّه أذمّ لمشرك، فإن كان في وقت يصحّ منه إنشاء الأمان قُبِل.
• ولو ادعى الحربي على المسلم الأمان، فأنكره فالقول قوله.
ولو حيل بينه وبين الجواب بموتٍ أو إغماء لم تُسمع دعوى الحربي.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو قال: لا بأس عليك، أو لا تخف - إلى قوله - ما يدل على الأمان».
لا فرق في المنضم إليه بين كونه مقاليّاً أو حالياً، كما لو طلبوا منه الأمان، أو طلبه هو منهم، ونحو ذلك مما يدلّ - بانضمامه إلى اللفظ القاصر - عليه.
قوله: «ولو أقرّ المسلم أنّه أذمّ لمشرك، فإن كان في وقت يصح منه إنشاء الأمان قُبِل».
احترز به عمّا لو وقع الإقرار بعد الأسر، فإنه لا يُقبل وإن أسنده إلى ما قبله من الحال التي يصحّ فيها الأمان؛ لأنه إقرار في حق الغير فلا يُسمع.
وكذا لو أقرّ بذلك ما فوق الواحد من المسلمين وإن كانوا ثلاثةً على الأقوى.
قوله: «ولو ادّعى الحربي على المسلم الأمان فأنكره فالقول قوله».
من غير يمين، كما صرح به جماعة(1). وعلّلوه بأنّ القتل والأسر حكمان ثابتان على الحربي، وبمجرد دعواه لا يسقطان، وإنكار المسلم لا يأتي على حقٍ يترتّب عليه، بل على ما يقتضي سقوط ما قد علم ثبوته (2).
وفي التعليل نظر؛ لأنه إن كان فى حالة يمكن المسلم فيها إنشاء الأمان ينفعه إقراره له. فينبغي على القاعدة المستمرة ثبوت اليمين، وإن كان في وقتٍ لا ينفعه، كما لو كان أسيراً،
ص: 441
• وفي الحالين يردّ إلى مأمنه، ثمَّ هو حرب.
• وإذا عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام دخل ماله تبعاً.
ولو التحق بدار الحرب للاستيطان انتقض أمانه لنفسه دون ماله.
ولو مات انتقض الأمان فى المال أيضاً إذا لم يكن له وارث مسلم، وصار فيئاً، ويختصّ به الإمام؛ لأنّه لم يوجف عليه، وكذا الحكم لو مات في دار الإسلام.
-------------------------------------------------------------------
لم يثبت عليه يمين؛ لأنّ إقراره في تلك الحال لا ينفعه، بل إنشاؤه كذلك.
ويمكن الجواب عن الأول بأن الحق في الأمان ليس منحصراً في المسلم، بل يتعلّق به وبغيره ممن يستحقّ المال والنفس، فيكون في ذلك كالوكيل الذي يُقبل إقراره، ولا يتوجه عليه يمين.
قوله: «وفي الحالين يرد إلى مأمنه، ثمَّ هو حرب».
أي في حالة إنكار المسلم، والحيلولة بينه وبين الجواب، فيرد الكافر إلى مأمنه؛ للشبهة، ولو أقام بيّنةً سمعت.
قوله: «وإذا عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن - إلى قوله - ويختص به الإمام».
نبّه بقوله: «تبعاً» على أنّ لفظ الأمان لنفسه لم يتناول ماله نصاً فإن أحدهما غير الآخر، ولكن يدخل تبعاً له؛ بناءً على أن إتلاف ماله ضرر عليه، والأمان يقتضي عدم الضرر، ومتى دخل تبعاً صار بحكم ما لو صرّح بأمانه، فإذا رجع الكافر عن الأمان بنفسه، بقي ماله على أصل الدمام إلى أن يردّ إليه، فيصير بحكمه.
وإنّما دخل في الأمان تبعاً، ولم يدخل في الحرب تبعاً؛ لأن الأصل يقتضي عدم التبعيّة فيهما، خرج منه التبعيّة في الاحترام، بدلالة القرائن على إرادته، فيبقى الباقي.
وقيده بعضهم بكون الأمان له مطلقاً، فلو كان مقيداً بكونه في دار الإسلام، انتقض أمان المال أيضاً.
ويشكل بأنّ الأمان لا يكون إلا فى دار الإسلام، ومن ثُمَّ يبطل أمانه لو انتقل إلى دار الحرب بنية الإقامة، أما لو دخله بنيّة العود لم ينتقض أمانه في نفسه ولا ماله قطعاً.
ص: 442
• ولو أسره المسلمون فاسترق مُلك ماله تبعاً لرقبته.
• ولو دخل المسلم دار الحرب مستأمناً فسرق وجب إعادته، سواء كان صاحبه في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولو أسر المسلم وأطلقوه، وشرطوا عليه الإقامة فى دار الحرب والأمن منه لم يجب الإقامة، وحرّمت عليه أموالهم بالشرط، ولو أطلقوه على مال لم يجب الوفاء به.
-------------------------------------------------------------------
وعلى الأوّل لو بعث بطلبه بعث به إليه؛ تحقيقاً للأمان فيه، ويصحّ تصرفه فيه ببيع وهبة وغيرهما، فإن مات وهو على ملكه انتقل إلى وارثه، فإن كان مسلماً ملكه ملكاً مستقراً، وإن كان حربيّاً انتقل إليه، وانتقض فيه الأمان، وصار للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمنزلة ما لا وارث له.
قوله: «ولو أسره المسلمون فاسترق مُلِك ماله تبعاً لرقبته».
هذا من تتمّة المسألة السابقة، وحيث زال أمانه في نفسه جاز أسره إذا تمكنوا منه، فإن قتلوه كان بحكم ما لو مات، وإن استرقوه زال ملكه عن ماله؛ بناءً على أنه لا يملك شيئاً، ويكون فيئاً للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كما مرّ، فقول المصنّف: «مُلِك ماله تبعاً» أراد به التبعية في الملك، لا فى المالك، فلا يستحقّه مسترقه؛ لأنه مال لم يوجف عليه، ولو أعتق بعد ذلك لم يَعُدْ إليه، أمّا لو منّ عليه عاد إليه.
قوله: «ولو دخل المسلم دار الحرب مستأمناً فسَرَق وجبت إعادته».
أي فسرق شيئاً، وإليه يعود ضمير «إعادته» وإنّما تركه لدلالة السرقة عليه، فإنّها مقتضية لمسروقٍ.
وإنّما حرم عليه خيانتهم، مع أنّ لفظ الأمان وقع لنفسه؛ لأن لازمه ترك الخيانة من الجانبين وإن لم يصرّح به، كما دخل مال الكافر تبعاً له، فدخول المال معلوم من حيث المعنى.
ص: 443
• ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر لم يكن لزوجته مطالبته، ولا لوارثها. ولو ماتت ثمَّ أسلم، أو أسلمت قبله ثمَّ ماتت طالبه وارثها المسلم، دون الحربي.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر - إلى قوله - دون الحربي».
إنّما لم يكن لها المطالبة بالمهر مع إسلامه قبلها وحياتها، ولا لوارثها بعد ذلك ؛ لأنّها من أهل الحرب ولا أمان لها على المهر، فيجوز للزوج منعها منه كما يجوز له أخذ مالها الذي في يدها، لكن لو ماتت قبل إسلامه ولها وارث مسلم انتقل إليه ما يخصّه من المهر، فإذا أسلم الزوج بعد ذلك بقي في ذمته للمسلم، ولو كان وارثها حربياً كان بحكمها، فليس له المطالبة به، وكذا لو أسلمت قبل إسلامه استقرّ المهر لها في ذمّته، ولم يسقط بإسلامه؛ لمصادفته مالكاً محترماً.
بقي في المسألة أمران:
الأوّل: أنّ إطلاق قوله «ولا لوارثها» يشمل الوارث المسلم والحربي واتّحاد الحكم فيهما متّجه من حيث إنّ إسلام الزوج قبلها أوجب جواز استيلائه على ما أمكنه من مالها الذي من جملته المهر، وكلّ ما استولى عليه منه يملكه كغيره من أموال أهل الحرب، وكونه في ذمته بمنزلة المقبوض في يده، فينبغي أن يملكه بإسلامه مع بقائها على الحرب، وحينئذٍ فلا يزيله ما يتجدّد من إسلامها، ولا موتها مع كون وارثها مسلماً، فهذا الإطلاق في محلّه.
وكذلك أطلق العلّامة في كثيرٍ من كتبه (1)، لكن ذكر في التذكرة والتحرير أن وارثها إذا كان مسلماً يجوز له مطالبته به (2). وظاهره أن الحكم فيما لو أسلم قبلها.
وينبغي على هذا أنه لو أسلمت أيضاً جاز لها المطالبة بطريق أولى؛ لأنّ حقّ المطالبة من الوارث المسلم إنّما جاء من قِبَل موتها مستحقة للمال، لكن لما لم يكن لها المطالبة لكونها حربيةً ثبت لوارثها المسلم لزوال المانع، فإذا زال المانع عنها في حياتها بإسلامها ثبت لها ذلك.
ص: 444
-------------------------------------------------------------------
ويشكل ذلك بأمرين:
أحدهما: ما أسلفناه من أنه بإسلامه قبلها صارت يده على مالها وهو غير محترم، فينبغي أن يُحكم له بملكه، فكيف يمنع من المطالبة به، ويبقى على ملكها ؟!
والثاني: أنه لم يذكر هو ولا غيره هنا جواز مطالبتها لو أسلمت بعد ذلك، مع أن اللازم من مطالبة وارثها واستحقاقه له مطالبتها واستحقاقها كما مرّ.
وقد أكّد العلّامة الشبهة المستفادة من مدلول ما حكيناه عنه، في باب النكاح، فحَكَم في الإرشاد بأنّ إسلام الزوج الحربي يوجب للحربية عليه نصف المهر إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده(1)، فإنّه لولا إمكان مطالبته به على وجه، بأن تُسلم بعد ذلك أو تخلّف وارثاً مسلماً بحيث يستحقّ المطالبة به، لم يكن لاستحقاقها المهر فائدة.
وكأنه يفرّق في تملك المسلم لمال الحربي بين العين والدين، فيمنع الاستيلاء على الدين على وجه يوجب ملكه له، بناءً على تعذّر قبضه؛ لأنّه أمر كلّي غير مشخّص، ومن ثمَّ لم يجز هبته ولا غيرها مما يشترط فيه القبض، ولو كان عيناً جاز له تملكه، واستقر ملكه عليه وإن أسلمت بعد ذلك أو خلّفت مسلماً. لكن هذا كلّه مشكل بما أسلفناه. وإطلاق عباراتهم يؤيّد ما حققناه.
الثاني: ذكر جماعة من الأصحاب (2) أنّ الحربي إذا أسلم يسقط عنه مال أهل الحرب الذي كان في ذمته إذا كان غصباً أو إتلافاً، أو غير ذلك مما حصل بغير التراضي والاستثمان، وأما ما ثبت في ذمته بالاستئمان كالقرض وثمن المعاوضات فإنّه يبقى في ذمته؛ لشبهة الأمان وإن لم يكن وقع صيغة أمانٍ.
ويؤيده ما ذكروه من أن المسلم أو الحربي لو دخل إليهم وخرج لهم بمال ليشتري به
ص: 445
الأوّل: يجوز أن يعقد العهد على حكم الإمام أو غيره ممن نصبه للحكم.
• ويراعى في الحاكم كمال العقل والإسلام والعدالة.
-------------------------------------------------------------------
شيئاً لم يجز التعرّض له لأنّه أمانة، وكذا لو دفعوا إلى أحدٍ شيئاً وديعة، لم يجز التعرض لها؛ إلحاقاً للأمانة بالأمان.
وحينئذٍ يشكل الحكم بعدم وجوب دفع المهر إليها وإن بقيت على الكفر، فإنّ المهر من باب الأمانات كثمن المبيع.
ويتوجّه الإشكال حينئذٍ على جميع أقسام المسألة، ويكون ذلك القيد الذي زاده العلّامة أقعد في الحكم من باقيها.
اللّهمّ إلّا أن يُفرّق بين المعاوضة المحضة وغيرها كالمهر، أو يُمنع أصل الحكم، ويدّعى استباحة مال الحربي مطلقاً ما لم يسبقه الأمان الخاص، ولكن عموم الآية بالأمر بأداء الأمانة (1)يشمل ما ذكروه في الوديعة.
وقد ينازع في دخول ما في الذمة، سواء كان من معاوضة محضة كالثمن أو غيرها كالمهر.
قوله: «ويراعى في الحاكم كمال العقل والإسلام والعدالة».
لا ريب في اعتبار العقل، ويخرج به المجنون والسكران والمغمى عليه وأشباههم والإسلام لتعليق الحكم عليه في الخبر (2)، وأمّا العدالة؛ فلأنّ الفاسق ظالم، وقد نهى اللّه تعالى عن الركون إليه(3).
واشترط في التذكرة - زيادة على ذلك - الفقه بأحكام الجهاد(4)، والمراد به الاجتهاد في
ص: 446
• وهل يراعى الذكورة والحُرّيّة؟ قيل: نعم، وفيه تردّد.
ويجوز المهادنة على حكم من يختاره الإمام، دون أهل الحرب، • إلا أن يعيّنوا رجلاً يجتمع فيه شروط الحاكم.
ولو مات الحاكم قبل الحكم بطل الأمان، ويردّون إلى مأمنهم.
ويجوز أن يسند الحكم إلى اثنين وأكثر، • ولو مات أحدهم بطل حكم الباقين. ويتبع ما يحكم به الحاكم، إلا أن يكون منافياً لوضع الشرع.
-------------------------------------------------------------------
مسائله، كما يقتضيه إطلاق هذا اللفظ، وبه صرّح المحقّق المحشي(1).
قوله: «وهل يراعى الذكورة والحُرّيّة؟ قيل: نعم، وفيه تردّد».
منشؤه أصالة عدم الاشتراط، وأن العبد والمرأة قاصران عن مرتبة الحكم، واشتراطهما أجود.
قوله: «إلا أن يعيّنوا رجلاً يجتمع فيه شروط الحاكم».
فتجوز المهادنة على حكم من يختارونه حينئذٍ، كما أقر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بني قريظة، حين طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل الرجال، وسبي الذراري، وغنيمة المال. فقال له النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لقد حكمت بما حكم اللّه تعالى من فوق سبعة أرقعة»(2).
قال الجوهري : الرقيع اسم سماء الدنيا، وكذلك سائر السماوات(3).
وقال الخليل: كلّ واحدةٍ رقيع للأخرى، فهي أرقعة (4).
قوله: «ولو مات أحدهم بطل حكم الباقين».
لأنّه جعل الحكم منوطاً برأي الجميع فيفوت بفواته، وهو يتحقّق بفوات بعضه، ومثله ما لو مات أحد الوصيين على الجميع.
ص: 447
• ولو حكم بالقتل والسبي و المال فأسلموا سقط الحكم في القتل.
ولو جعل للمشرك فدية عن أسراء المسلمين لم يجب الوفاء ؛ لأنّه لا عوض للحُرّ.
الثاني: يجوز لوالى الجيش جعل الجعائل لمن يدله على مصلحةٍ، كالتنبيه على عورة القلعة، وطريق البلد الخفيّ،• فإن كانت الجعالة من ماله دَيْناً اشترط كونها معلومة الوصف والقدر، وإن كانت عيناً فلا بدّ أن تكون مشاهدةً، أو موصوفةً، وإن كانت من مال الغنيمة جاز أن تكون مجهولةً، كجاريةٍ وثوبٍ.
تفریح: لو كانت الجعالة عيناً وفتح البلد على أمان فكانت في الجملة،
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو حكم بالقتل والسبي والمال فأسلموا سقط الحكم في القتل لا في المال والسبي»(1).
لأنّ الإسلام يحقن الدماء، بخلاف الاسترقاق والمال، فإنّهما يجامعان الإسلام، كما لو أسلم المشرك بعد الأخذ.
قوله: «فإن كانت الجعالة من ماله دَيْناً - إلى قوله - جاز أن تكون مجهولةٌ».
اشتراط العلم بالجعالة كما في الأُولى - واضح؛ لما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - من أنّ الجعالة شرطها العلم بالعوض، وأمّا جواز الجهالة في الثانية فللنصّ(2)، ودعاء الحاجة إليه، مع أنه سيأتي في الجعالة أنّ الجهالة تصح فيه حيث يتعذّر العلم به، ولا تكون مانعةً من التسليم ك«من ردّ عبدي فله نصفه» فيكون القسم الثاني من هذا القبيل.
ص: 448
فإن اتّفق المجعول له وأربابها على بذلها أو إمساكها بالعوض جاز،• وإن تعاسرا فسخت الهدنة، ويردّون إلى مأمنهم.
• ولو كانت الجعالة جاريةً فأسلمت قبل الفتح لم تُدفع إليه ودُفعت القيمة، وكذا لو أسلمت بعد الفتح، وكان المجعول له كافراً، ولو ماتت قبل الفتح أو بعده لم يكن له عوض.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن تعاسرا فسخت الهدنة، ويردون إلى مأمنهم».
هذا قول الشيخ (رحمه اللّه)(1)، ووجهه - مع كون الحقين متضادين - أن حق صاحب الجُعل أسبق فيقدم.
وقيل بعدم الفسخ (2)؛ لأنّ الصلح متعلّقه مصلحة عامة، وفسخه مصلحة خاصة، ومراعاة العامة،أولى، فإنّ إتلاف مال الغير عند معارضة المصلحة العامة جائز، بل قد يجب وحينئذٍ فيعطى المجعول له عوضها.
وقوّى العلّامة في المختلف اعتبار المصلحة للمسلمين، فإن كانت مصلحتهم في بقاء الصلح عوّض المجعول له عنها، ولم يفسخ الصلح، كما لو أسلمت، وإن لم يكن في إفساد الصلح ضرر على المسلمين؛ لقوتهم واستظهارهم جاز فسخه، وأُخذت الجارية مي التعاسر(3)، وهو حسن
قوله: «ولو كانت الجعالة جاريةً فأسلمت قبل الفتح لم تدفع إليه».
لا فرق هنا بين كون المجعول له مسلماً أو كافراً؛ لأنّها قد ملكت نفسها بإسلامها، فلا يجوز له استرقاقها حينئذٍ، بخلاف ما لو أسلمت بعد الفتح، فإنّها تُدفع إليه إن كان مسلماً، لأنّ طروء الإسلام على الملك لا يزيله، وإن كان كافراً دُفعت إليه القيمة؛ لأنّ الكافر لا يملك المسلم.
ص: 449
وهم ذكور وإناث، فالإناث يملكن بالسبى ولو كانت الحرب قائمة. وكذا الذراري.
ولو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالإنبات، فمن لم ينبت وجهل سنّه أُلحق بالذراري، • والذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن كانت الحرب قائمة ما لم يسلموا.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وكذا الذراري».
الذراري جمع ذرّيّة وهم ولد الرجل، قاله الجوهري(1)، والمراد هنا غير البالغين منهم، بقرينة المقام، ولو أبدل الذراري بالأطفال كان أجود.
قوله: «والذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن كانت الحرب قائمة ما لم يُسلموا».
أي إن أسروا قبل تقضي الحرب وانقضاء القتال فإنّه يتعيّن قتلهم.
و مقتضى قوله «ما لم يسلموا» منع تعيّن قتلهم مع الإسلام، لكن لم يبين حكمهم معه، وقد حكم الشيخ (رحمه اللّه) بالتخيير فيهم مع الإسلام بين المنّ والفداء والاسترقاق، كما لو أسلموا مع أخذهم بعد تقضّي الحرب(2).
ويمكن أن يريد المصنّف بقوله فيما بعد «ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم» ما يعم الأمرين، أعني إسلامهم بعد أخذهم حال قيام الحرب وبعده.
وذهب بعض الأصحاب إلى تعيّن المنّ عليهم في هذه الصورة؛ لأنه لم يكن له استرقاقهم في حال الكفر؛ إذ يتعيّن قتلهم حينئذٍ، ففي حال الإسلام أولى (3).
ص: 450
• والإمام مخيّر، إن شاء ضرب أعناقهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وتركهم ينزفون حتّى يموتوا.
-------------------------------------------------------------------
وفيه أنّ المنع من استرقاقهم حينئذٍ إهانة لهم ليقتلوا، فلا يلزم مثله مع المنع من قتلهم بالإسلام مع أنّ الإسلام غير منافٍ للتملك، ولهذا لما امتنع قتلهم بأخذهم بعد تقضى الحرب جاز استرقاقهم، فيمكن أن يقلب الدليل، ويقال: إذا جاز استرقاقهم مع أخذهم بعد تقضي الحرب وإسلامهم، فلأن يجوز ذلك قبله أولى؛ لأنّ حكمهم في هذه الحالة أخف، ومنع استرقاقهم مع الكفر لأجل أن يفعل بهم ما هو أعظم من الاسترقاق - وهو القتل - لا ينفيه حيث لا مانع.
وأيضاً لا شبهة في أن أخذهم بعد تقضي الحرب أخف، فثبوت التخيير بين الثلاثة مع إسلامهم، وتحتم المنّ مع إسلامهم في الحالة القويّة غير جيد، فقول الشيخ (رحمه اللّه) متّجه.
قوله: «والإمام مخيّر، إن شاء ضرب أعناقهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم حتّى يموتوا».
ظاهر هذا التخيير أنه تخيير شهوة لا اجتهاد؛ لأنّ المطلوب قتلهم، بخلاف التخيير الآتي بين المنّ وغيره، فإنّه تخيير اجتهاد في المصلحة، لا شهوة، كما صرح به العلّامة (1)؛ لأنّ الإمام ولي المسلمين، فيرى لهم الأصلح من الثلاثة.
ويحتمل هنا كون التخيير كذلك، فإنّ قطع الأيدي والأرجل قد يكون أصلح ليعتبر الكفّار ويرهبوا ويرغب ضعيف العقيدة في اتباع المسلمين، ويمكن كون ضرب العنق أصلح باعتبارٍ آخر.
و «ينزفوا» بضمّ الياء وفتح الزاي، على البناء للمفعول؛ لأنّ الدم هو الفاعل للنزف لغةٌ.
قال الجوهري : يقال: نزفه الدم، إذا خرج منه دم كثير حتى يضعف، فهو نزيف ومنزوف(2).
ص: 451
• وإن أسروا بعد تقضي الحرب لم يُقتلوا، وكان الإمام مخيّراً بين المن والفداء والاسترقاق.
ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم.
• ولو عجز الأسير عن المشى لم يجب قتله؛ لأنه لا يدرى ما حكم الإمام فيه ؟ ولو بدر مسلم فقتله كان هدراً.
-------------------------------------------------------------------
ونبّه بقوله حتى يموتوا على أنه لابد من موتهم، فلو لم يموتوا بخروج الدم أجهز عليهم بغيره.
قوله: «ولو أُسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا، وكان الإمام مخيراً بين المن والفداء والاسترقاق».
هذا هو المشهور، وقيل : يجوز القتل هنا(1)، وهو ضعيف.
ولا فرق في ذلك بين الكتابي وغيره، خلافاً للشيخ، حيث نفى الاسترقاق عن غير الکتابي ؛ لأنّه لا يُقرّ على دينه(2).
ويتعيّن هنا الأصلح من الثلاثة للمسلمين، وهو في قوة رفع التخيير.
نعم، لو تساوت المصالح في الثلاثة تحقق التخيير، كما أنها لو تساوت في اثنين تخيّر فيهما خاصّةً.
ومال الفداء والمسترق من جملة الغنيمة.
قوله: «ولو عجز الأسير عن المشي لم يجب قتله؛ لأنّه لا يدرى ما حكم الإمام فيه؟» إلى آخره.
والمراد بالأسير هنا المأخوذ والحرب قائمة لا بعد انقضائها؛ لأنّ القتل عن الثاني مرتفع أصلاً، والتعليل يشعر بذلك؛ للعلم بأنّ الإمام لا يحكم بقتل هذا النوع.
وأمّا الأوّل فلأنّه لا يعلم ما حكم الإمام فيه بالنسبة إلى نوع القتل الذي يقتله به، وأيضاً
ص: 452
• ويجب أن يطعم الأسير ويسقى وإن أريد قتله.
• ويكره قتله صبراً،
-------------------------------------------------------------------
فقتله بعد انقضاء الحرب إلى الإمام، فلا يجوز لغيره، كما في الزاني المحصن ونحوه.
وكان حق العبارة نفي الجواز، لا نفي الوجوب؛ لما عرفته من التقرير.
ويمكن أن يكون نفي الوجوب على أصله، بمعنى أنّ الأسير إن عجز عن المشي ولم يتمكّن من ركوبه ولا من إيصاله إلى الإمام، فإنّه يحتمل هنا أن يقال: يجب قتله؛ لأن القتل متعين عليه، فلا يجوز للمسلم أن يتركه وينصرف؛ لما فيه من الإخلال بالواجب وتقوية الكفّار، فإنّه يستريح ويذهب إليهم، ولأنه يؤدّي إلى جعل ذلك وسيلة إلى الخلاص بالحيلة.
وعلى ما بيّناه لا يجوز قتله حينئذٍ، بل يتركه ويذهب، وعليه العمل؛ لقول زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل، فأرسله ولا تقتله، فإنّك لا تدري ما حكم الإمام فيه»(1).
ولو بدر وقتله مسلم أو كافر فلا قصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنه كافر لا أمان له.
نعم، يُعزّر قاتله وكذا الحكم لو قتله قاتل من غير عجز.
قوله: «ويجب أن يطعم الأسير ويسقى وإن أريد قتله».
أي وإن أُريد قتله في ذلك الوقت الذي يحتاج فيه إلى الطعام والشراب؛ لقول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الأسير يُطعم وإن كان قد تقدّم للقتل»(2).
قوله: «ويكره قتله صبراً».
القتل صبراً هو الحبس للقتل، فإن أريد قتله قتل على غير ذلك الوجه، كذا فسّره جماعة (3).
قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لم يقتل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رجلاً صبراً قط غير عقبة بن أبي معيط»(4).
ص: 453
• وحمل رأسه من المعركة.
ويجب مواراة الشهيد دون الحربي وإن اشتبها يوارى من كان كميش الذكر.
حكم الطفل المسبيّ حكم أبويه، فإن أسلما أو أسلم أحدهما تبعه الولد، • ولو سبى منفرداً قيل: يتبع السابي في الإسلام.
-------------------------------------------------------------------
وقيل : المراد به التعذيب حتى يموت(1). وقيل: قتله جهراً بين الناس(2). وقيل: أن يتهدّد بالقتل ثم يقتل (3).
قوله: «وحمل رأسه من المعركة».
أي حمل رأس الكافر المقتول المدلول عليه بالمقام، ولو كان في حمله نكاية للكفّار لم يكره.
قوله: «ولو سبي منفرداً قيل: يتبع السابي في الإسلام».
القول للشيخ (رحمه اللّه)، وابن الجنيد، وابن البرّاج(4)، وقوّاه الشهيد (رحمه اللّه) فيبعض فوائده(5)، وهو مذهب العامّة أجمع.
وحجّتهم في ذلك أن الدين إنّما يثبت له تبعاً، وقد انقطعت تبعيته لأبويه؛ لانقطاعه عنهما، وإخراجه عن دارهما، ومصيره إلى دار الإسلام تبعاً لسابيه المسلم، فكان تابعاً له في دينه.
ولظاهر قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): كلّ مولود يولد على الفطرة، وإنّما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجّسانه»(6) وهما معه، فإذا انقطع عنهما وزالت المعيّة انتفى المقتضي لكفره، فيرجع إلى الفطرة.
ص: 454
-------------------------------------------------------------------
ويظهر من المصنّف التوقف فيه، حيث جعله قولاً.
وكذلك العلّامة توقف فيه في أكثر كتبه(1). وفي القواعد قرّب تبعيته له في الطهارة خاصّةً(2)، وتبعه عليه ولده في الشرح(3)، وهو مذهب ابن إدريس(4)، واختاره المحقّق الشيخ عليّ في حاشيته(5).
واحتجّوا عليه بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة، وبلزوم الحرج المنفيّ(6) لو حكم بنجاسته، وبالاقتصار بالرخصة على موضع اليقين(7).
وعندي في الاستدلال من الجانبين نظر؛ فإنّا نمنع أولاً انقطاع تبعيته لأبويه بمجرد مفارقته لهما، واستقراره عند المسلم في دار الإسلام، فإنه لا دليل عليه، مع تحقق الحكم قبل السبي بنجاسته، بل قبل انفراده عنهما الموجب لاستصحابها، ولانتفاضه بما لو ماتا عنه بعد سبيهما معه، فإنّه لا يُحكم بإسلامه حينئذٍ عند الشيخ(8)، وبما لو انفرد ولد الذمیّين عنهما بمسلم في دار الإسلام، فإنّه لا يرتفع عنه حكم الكفر إجماعاً، مع تحقق المفارقة.
فإن قيل : العلة مركبة من المفارقة وملك المسلم ودار الإسلام، فلا يرد عليها ما لا يجمع الأوصاف الثلاثة، فإنّ الملك في ولد الذميين غير متحقق.
قلنا: هذه العلّة تحتاج إلى الدليل، ومع ذلك فإنّ دار الإسلام وإن ذكر في الدليل لكنّه
ص: 455
-------------------------------------------------------------------
غير معتبر في نفسه قطعاً، فإنّ السابي لو أقام به في دار الكفر للتجارة وغيرها، لحكموا بتبعيته له أيضاً، وأما الملك فيتخلّف قبل قسمة الغنيمة، وبعد الاستقلال بالسبي والانفراد، فإنّ الملك لم يتحقّق لأحدٍ عند جماعة منهم، مع تحقّق الحكم.
اللّهمّ إلّا أن يمنعوا الحكم هنا على تقدير منع الملك، فيبقى تخلّف الولد عن أبويه وانقطاعه عنهما، فإنّ الظاهر أنّ حقيقة دليلهم يرجع إليه ؛ عملاً بظاهر الخبر، وحينئذٍ فينتقض بما ذكرناه.
ثمَّ لا شبهة في أنه حيوان متفرّع من حيوانين،نجسين، ومن ثمَّ كان قبل الأسر نجساً؛ لأنّ ذلك هو مقتضى الفرعيّة، وانفراده عنهما ليس من المطهرات المعدودة، واستصحاب الحكم في ذلك حجة، ومتى ثبتت النجاسة لم يثبت الإسلام.
وأمّا الخبر فظاهره يدلّ على كون المولود على الفطرة، وذلك يقتضي أن لا يكون أحد مرتداً عن ملّةٍ، وهذا الظاهر غير مرادٍ منه، ومن ثمَّ حمله المرتضى (رحمه اللّه) على أنّ المعنى أنّ كلّ مولود يولد ليكون على الفطرة(1)، فلا دلالة للحديث حينئذٍ على مطلوبهم؛ لأنّ الكون إنّما يتحقّق بعد البلوغ.
سلّمنا دلالة صدره، لكن قوله «وإنّما أبواه يهودانه» إلى آخره، يقتضي أنه لا ينتقل إلى الكفر عن الفطرة، إلا أن يكونا يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، فولد غيرهم من أهل الملل لا يدخل فيه، إلا أن يقال: إنّ ذلك ثابت بالإجماع على عدم الفرق.
سلّمنا، لكن ذلك يتحقّق بوجوده معهما وقتاً ما، بدليل نجاسته قبل السبي، فإنّ سببها ليس إلا تأثيرهما فيه ذلك، فيستصحب مع العمل بمقتضى الخبر، فيكون الخبر دليلاً عليهم لا لهم؛ لأنّه دلّ على كونهما صيّراه قبل السبى بحكمهما في الدين، فما الذي أزاله؟
وأمّا أصالة الطهارة فحقها أن تقلب؛ لتحقق النجاسة بمجرّد الولادة، فيجب استصحابها، وهو أصل سالم عن معارضة يقين الطهارة.
ص: 456
-------------------------------------------------------------------
ودليل الحرج ليس بصالح لتأسيس الحكم؛ لتخلّفه في موارد أعظم حرجاً وضرراً منه مع بقاء النجاسة، كما لو استأجر المسلم ولد الذمّي مدة صغره، بل مطلق الكفار في المدّة الطويلة، ولم يقل أحد بالحكم بالطهارة حينئذٍ بسبب الحرج.
وأما الاقتصار بالرخصة على موضع اليقين فهو جيد في موضعه إن لم يكن هناك قائل بعدم التبعية مطلقاً، فإنه حينئذٍ لا يجوز المصير إليه، ويتعين اتباع أحد القولين، ويكون الاقتصار على الطهارة موضع اليقين، لكن الحكم بالطهارة أيضاً من دون الإسلام انفكاك غير معهودٍ شرعاً، إلا أنه مع عدم القائل بالنجاسة غير ضائر إن شاء اللّه، فلا بأس بالعمل بهذا القول.
ولو فُرض أن الطفل سبى مع أحدهما خاصّةً تبعه في الكفر، على ما صرح به الشيخ(1)، مع احتمال العدم على مذهبه؛ لما تقدّم من أنّ الحكم بكفره في الخبر معلق على شيئين، فلا يثبت بأحدهما، لكن دلالة المفهوم ضعيفة.
ولو فُرض أنهما ماتا بعد سبيهما معه فمقتضى دليل الشيخ تبعيته الآن للسابي، لكنه وافق هنا على عدم الحكم بإسلامه (2)؛ محتجاً بأنّه مولود من كافرين، فإذا ماتا أو مات أحدهما لم يُحكم بإسلامه، كما لو كانا في دار الحرب، وبأنه كافر أصلي، فلم يُحكم بإسلامه بموت أبويه، كالبالغ.
وهذه الحجّة بعينها قائمة فيما لو انفرد عنهما، والخبر على الوجه الذي ذكره يتناولهما، فالفرق غير واضح.
ثمَّ يتفرّع على القولين أُمور:
الأوّل: لو مات في يد المسلم قبل البلوغ فعلى قول الشيخ يجب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه إن بلغ الست، ويستحب قبلها، وعلى القول الآخر لا يصحّ ذلك؛ لأنه بحكم الكافر، كما لو مات مصاحباً لأبويه وإن كان ملكاً للمسلم وحكم بطهارته.
ص: 457
تفريع: • إذا أُسر الزوج لم ينفسخ النكاح، ولو استرق انفسخ؛ لتجدّد الملك،
الثاني: لو بلغ استمرّ مسلماً عند الشيخ وإن لم يُسمع منه الاعتراف بما يوجب الإسلام، كما في ولد المسلم، وعلى القول الآخر لا يُحكم بطهارته بعد البلوغ إلا أن يُظهر الإسلام، كغيره من أولاد الكفّار، فينبغي لمن ابتلي بذلك أن يعلمه ما يتحقّق معه الإسلام قبل البلوغ ويستنطقه به عند تحقق البلوغ، ليتصل الحكم بالطهارة.
الثالث: لو اشتبه سنه وبلوغه بني على أصالة العدم، فيستصحب الطهارة على القول الثاني إلى أن يعلم، وينبغي مراعاته عند ظهور الأمارات المفيدة للظن، بالاختبار لعانته، وتكرار الإقرار بالشهادتين في مختلف الأوقات.
الرابع: عدم بيعه لغير المسلم على قول الشيخ، وعلى القول الآخر يجوز، مع احتمال العدم؛ لتشبته بالإسلام، واتصافه منه ببعض الأحكام، بخلاف الكافر المحض، ومن هو بحكمه.
وبهذا يظهر أنّ القول بتبعيته في الطهارة خاصةً ليس هو أحوط القولين، بل الحكم بإسلامه أحوط في الأمر الأول والأخير.
الخامس: لو مات قريبة المسلم وله وارث مسلم فعلى قول الشيخ يشاركه إن كان في درجته، ويختص إن كان أقرب، وعلى القول الآخر الإرث للآخر خاصةً، ولو فرض أنه بلغ قبل القسمة مع تعدّد الوارث وأسلم شارك، أو اختص على الثاني.
ولو لم يكن لقريبه المسلم وارث سواه اشتري من التركة، وورث على الأوّل، وكان الميراث للإمام على الثاني، إلى غير ذلك من الأحكام.
قوله: «إذا أسر الزوج لم ينفسخ النكاح».
هذا الحكم عندنا موضع،وفاق، وإنّما نبه به على خلاف أبي حنيفة، حيث حكم بالانفساخ، بناءً على طروء الملك(1).
ومنعه ظاهر؛ فإنّ الملك لا يحصل في الكبير إلا بالاسترقاق، لا بمجرّد الأسر.
ص: 458
ولو كان الأسير طفلاً أو امرأة انفسخ النكاح؛ لتحقق الرق بالسبي. وكذا لو أُسر الزوجان، • ولو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ ؛ لأنّه لم يحدث رق. ولو قيل بتخيّر الغانم في الفسخ كان حسناً.
• ولو سبيت امرأة فصولح أهلها على إطلاق أسير في يد أهل الشرك فأطلق، لم تجب إعادة المرأة، ولو أعتقت بعوض جاز ما لم يكن قد استولدها مسلم.
ويلحق بهذا الطرف مسألتان:
الأولى: إذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن دمه، وعصم ماله ممّا يُنقل،
-------------------------------------------------------------------
والمراد بالزوج هنا البالغ، بدليل ما يأتي من قوله: «ولو كان الأسير طفلاً أو امرأةً انفسخ». والفرق تحقق الرق بمجرد الأسر فيهما دونه.
قوله: «ولو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ» إلى آخره.
ما حسّنه المصنّف،حسن كما لو ملكهما بالبيع.
وألحق به في التذكرة ما لو سباهما واحد وملكهما، فلا ينفسخ النكاح إلا بفسخه(1).
وكأنّه أراد به ما لو سباهما في حال الغيبة ممن يدخل في إذن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإنّه يملكهما دفعةً، ويتخيّر فى نكاحهما، وإلا كانت هي الأولى؛ لأنّ مجرّد السبي لا مدخل له في الحكم بالنسبة إلى الغانمين.
قوله: «ولو سبيت امرأة فصولح أهلها على إطلاق أسير في يد أهل الشرك فأطلق، لم تجب إعادة المرأة».
لفساد الصلح بكون أحد عوضيه حُرّاً، ومن ثمَّ لو كان مالاً جاز، ووجب إعادتها ما لم يكن قد استولدها،مسلم، كما نبه بقوله «ولو أُعتقت» أي أُطلقت وإنّما عبّر بالعتق؛ للحكم بملكها بالأسر، فردّها إلى الكفّار إطلاق لها من التملك، فكان كالعتق.
ص: 459
كالذهب [و الفضّة] والأمتعة، دون ما لا يُنقل كالأرضين والعقار، فإنّها للمسلمين، ولحق به ولده الأصاغر ولو كان فيهم حمل.
ولو سبيت أُمّ الحمل كانت رقاً دون ولدها منه. • وكذا لو كانت الحربية حاملاً من مسلم بوطء.مباح.
• ولو أعتق مسلم عبداً ذمّيّاً بالنذر فلحق بدار الحرب فأسره المسلمون جاز استرقاقه، وقيل: لا؛ لتعلّق ولاء المسلم به، ولو كان المعتق ذمّيّاً استرق إجماعاً.
الثانية: • إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه ملك نفسه بشرط أن يخرج قبله، ولو خرج بعده كان على رقه، ومنهم من لم يشترط خروجه، والأوّل أصحّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وكذا لو كانت الحربية حاملاً من مسلم بوطء مباح».
كما لو وطئها بشبهة، أو بنكاح متعة إن كانت كتابيّة.
قوله: «ولو أعتق مسلم عبداً ذمّيّاً بالنذر - إلى قوله - لتعلق ولاء المسلم به».
قيّد العتق بكونه بالنذر؛ تنبيهاً على عدم جواز عتق العبد الكافر تبرّعاً، ويصحّ بالنذر، وهو أحد الأقوال في المسألة.
وللشيخ قول بجوازه مطلقاً (1)، وعليه يتفرع الولاء، فإنّ شرطه كون العتق تبرّعاً، والمصنّف جمع بين العتق بالنذر وبين الولاء، وهما متنافيان، كما سيأتي.
ويمكن حمله على ولاء تضمّن الجريرة، بأن يتعاقد المولى والمعتق بعد العتق على ضمانها، فيصح فيثبت ولاؤها، وإن كان الحمل بعيداً.
وأصحّ القولين حينئذٍ أنه يسترق للعموم (2)، وتعلّق الولاء لا يمنع، فإن مات سابيه ثبت الولاء، وإلا فلا.
قوله: «إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه - إلى قوله والأول أصحّ».
ص: 460
والنظر في الأقسام وأحكام الأرض المفتوحة، وكيفيّة القسمة.
أما الأوّل: فالغنيمة هي الفائدة المكتسبة، سواء اكتسبت برأس مال، كأرباح التجارات أو غيره، أو ما يستفاد من دار الحرب.
والنظر هنا يتعلّق بالقسم الأخير، وهي أقسام ثلاثة: ما يُنقل، كالذهب والفضّة والأمتعة، وما لا يُنقل كالأرض والعقار، وما هو سبي، كالنساء والأطفال.
-------------------------------------------------------------------
اشتراط خروج العبد قبل مولاه إلى دار الإسلام في ملك نفسه هو الأقوى؛ للخبر(1)، ولأنّ إسلام العبد لا ينافي تملك الكافر له، غايته أنه تملك الكافر له، غايته أنه يجبر على بيعه، وإنما يملك نفسه بالقهر لسيّده، ولا يتحقّق إلا بالخروج إلينا قبله.
ولو أسلم بعده لم يملك نفسه وإن خرج إلينا قبله، مع احتماله؛ لإطلاق الخبر (2). ومتى مَلَك نفسه أمكن بعد ذلك أن يسترق مولاه إذا قهره.
والأمة في ذلك كالعبد.
قوله: «الغنيمة هي الفائدة المكتسبة، سواء اكتسبت برأس مال كأرباح التجارات أو غيره، أو ما يستفاد من دار الحرب».
استطرد البحث عن مفهومها لغة بالمعنى العام مع أنّ المقصود هنا هو القسم الثاني ؛ للتنبيه على أن مفهومها العام باقي عندنا على أصله، ومنه يستفاد وجوب الخمس في أرباح التجارات ونحوها؛ لعموم قوله تعالى: «أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» (3)، خلافاً للعامة حيث خصوها بالمعنى الثاني، ونقلوها عن موضوعها اللغوي إلى غنائم دار الحرب خاصّة، أو خصّوها به.
ص: 461
والأوّل ينقسم إلى ما يصحّ تملكه للمسلم، وذاك يدخل في الغنيمة، وهذا القسم يختص به الغانمون بعد الخمس والجعائل، ولا يجوز لهم التصرّف في شيءٍ منه إلّا بعد القسمة والاختصاص، • وقيل : يجوز لهم تناول ما لا بد منه، كعلف الدابّة وأكل الطعام.
وإلى ما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير، ولا يدخل في الغنيمة، بل ينبغي إتلافه كالخنزير، • أو يجوز إتلافه وإبقاؤه للتخليل كالخمر.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وقيل: يجوز لهم تناول ما لا بد منه، كعلف الدابة وأكل الطعام».
حكايته قولاً يشعر بتوقفه فيه، والأصحّ جوازه، وقد ادعى عليه العلّامة الإجماع منّا و من العامة إلّا من شدّ منهم(1)، وعموم قوله تعالى: «فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ» (2) يتناوله، والأخبار (3) ناطقة به.
ولا يشترط في تناول الطعام كونه مأكولاً بالفعل، بل كلّ ما يصلح له كالغنم، فيجوز لهم ذبح ما يحتاجون إليه، لكن يجب ردّ جلودها إلى الغنيمة؛ لأنّها ليست مأكولةً وإن احتاجوا إليها للسقاء والحذاء. ولو فضل من المأكول فضلة وجب ردّها.
ويجب الاقتصار على الأكل في دار الحرب أو المفازة التي في الطريق، أما عمران دار الإسلام التي يمكن فيها الشراء فيجب الإمساك فيها.
وتناول الأدوية ونحوها في حكم الطعام دون غسل الثوب بالصابون وإن احتيج إليه.
قوله: «أو يجوز إتلافه وإبقاؤه للتخليل كالخمر».
يستفاد من التخيير أنّه لا يجب إبقاؤُه حتماً رجاء التخليل؛ لأنّه ليس مالاً بالفعل فيجوز إراقته.
ص: 462
فروع :
الأوّل: • إذا باع أحد الغانمين غانماً شيئاً، أو وهبه لم يصح. ويمكن أن يقال: يصحّ في قدر حصته، ويكون الثاني أحق باليد على قولٍ.
ولو خرج هذا إلى دار الحرب أعاده إلى المغنم، لا إلى دافعه.
ولو كان القابض من غير الغانمين لم تقريده عليه.
الثاني: الأشياء المباحة في الأصل، كالصيود والأشجار، لا يختص بها أحد ويجوز تملكها لكلّ مسلم.
ولو كان عليه أثر ملك وهو في دار الحرب كان غنيمة؛ بناءً على الظاهر، كالطير المقصوص والأشجار المقطوعة.
-------------------------------------------------------------------
ويُعلم من ذلك أنّ النجاسة لا تثبت بالقرائن الحالية ما لم يحصل العلم بها، وإلا لم يطهر خمرهم بالتخليل.
قوله: «إذا باع أحد الغانمين غانماً شيئاً، أو وهبه لم يصح. ويمكن أن يقال: يصح في قدر حصّته، ويكون الثاني أحق باليد على قول».
هذا الاحتمال مبنيٌّ على أنّ الغانم يملك حصته من الغنيمة بالاستيلاء، لا بالقسمة، ويضعّف - على تقديره - بأنّ حصّته مجهولة، فلا يصحّ بيعها.
وأيضاً فلا يُعلم تعلق حقه بعين المبيع لجواز أن يخرج لغيره من الغانمين، أو يُجعل في الخمس، أو الجعائل، فالملك على تقديره ضعيف لا يفيد جواز نقله.
وقول المصنّف ويكون الثاني أحق باليد معطوف على قوله «لم يصحّ» لا على الاحتمال والمعنى أن البيع ونحوه وإن لم يصح لكن يكون المدفوع إليه أحق بما وصل إليه من الدافع لو كان مما يجوز الانتفاع به للغانم، كالطعام والعلف، فلا يجوز للدافع أخذه منه، بناءً على فساد البيع؛ لأنّهما في الأصل متساويان فيه.
ص: 463
الثالث: لو وجد شيء في دار الحرب يحتمل أن يكون للمسلمين ولأهل الحرب كالخيمة والسلاح، • فحكمه حكم اللقطة، وقيل: يعرف سنةً ثمَّ يلحق بالغنيمة، وهو تحكّم.
الرابع: • إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل: ينعتق نصيبه، ولا يجب أن يشتري حصص الباقين، وقيل: لا ينعتق إلا أن يجعله الإمام في
-------------------------------------------------------------------
وقد يرجح القابض باليد، كما يرجح الأول - حيث كان في يده - بها.
وهذا القول قويٌّ، حتى لو كان البيع طعاماً بطعام كان كلّ واحدٍ منها أولى من الآخر بما وصل إليه وإن كان ربويّاً.
ومَثَلُهما فى ذلك كالضيفين يتبادلان لقمة بلقمة عند عدم قرينة التخصيص، فإن ذلك يفيد إباحة التصرف فيما وصل إلى كلّ منهما، ولا يفيد ملكاً حقيقياً، فلا يصرفانه في غير ما أذن لهما فيه شرعاً.
قوله: «فحكمه حكم اللقطة، وقيل: يعرف سنةٌ ثمّ يلحق بالغنيمة، وهو تحكّم».
القول الثاني للشيخ (رحمه اللّه)(1)، أما تعريفه سنةً فلانه مال ضائع، فيكون بحكم اللقطة في وجوب التعريف، وأما جعله بعد ذلك غنيمة فبناءً على الظاهر من أنه لو كان له مالك الظهر، فيكون حينئذٍ بحكم أموال أهل الحرب.
وهو ضعيف؛ لأنه لقطة حقيقةً، فيكون له حكمها، وإنّما وجب تعريفه سنةً لذلك، فكيف يرجع غنيمة بعد التعريف الموجب لجواز التملك وغيره من أحكام اللقطة؟! فمختار المصنّف أقوى.
قوله: «إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل: ينعتق نصيبه، ولا يجب أن يشتري حصص الباقين» إلى آخره.
ص: 464
حصّته، أو حصة جماعة هو أحدهم ثمَّ يرضى هو فيلزمه شراء حصص الباقين إن كان موسراً.
وأما ما لا يُنقل فهو للمسلمين قاطبةً، وفيه الخمس والإمام مخيّر بين إفراد خُمسه لأربابه، وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه.
وأمّا النساء والذراري فمن جملة الغنائم ويختصّ بهم الغانمون، وفيهم الخمس لمستحقه.
-------------------------------------------------------------------
مبنى القولين على أنّ الغانم هل يملك حصته بالاستيلاء، أو يملك به أن يملك، وإنّما يحصل الملك الحقيقي بالقسمة؟ قيل بالأوّل (1)؛ لأنّ الاستيلاء على ما ليس بمعصوم من الأموال سبب الملك ولزوال ملك الكفّار به فلو لم يملكها المسلمون لكان ملكاً بغير مالك وعلى هذا فتكون القسمة مميّزة للحق، كالمال المشترك.
وقيل: كاشفة عن سبق الملك بالاستيلاء؛ إذ يمكن زواله قبلها بالإعراض والتلف.
وقيل بالثاني (2)؛ لأنّ الإمام يقسم الغنيمة بين الغانمين قسمة تشةٍ وإجبار، لا قسمة تراض منهم واختيار ولو ملكوا حقيقةً لم يجز ذلك إلا برضاهم، ولأنّ خفّهم يزول بالإعراض، ولا شيء من المملوك كذلك، ولعدم وجوب الزكاة على أحدٍ منهم إلى أن تتحقّق القسمة، فيجري حينئذٍ في حولها، ولدخول المولود بعد الحيازة والمدد معهم، وهو ينافي الملك.
وفي هذه الأدلّة نظر، والأوّل لا يخلو من قوة، وعليها تتفرّع هذه المسألة ونظائرها. فعلى الأوّل ينعتق نصيبه منها ولا يسري عليه؛ لأنّ الملك قهري، وهو اختيار الشيخ والعلّامة.
ص: 465
• كلّ أرض فُتحت عنوةً، • وكانت محياةً فهي للمسلمين قاطبةً، والغانمون في الجملة، • والنظر فيها إلى الإمام.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «كلّ أرض فُتحت عنوةً».
العنوة - بفتح العين وسكون النون - الخضوع والذل. يقال: عنا، يعنو: خضع وذلّ، ومنه قوله تعالى: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ»(1). والمراد هنا فتحها بالقهر والغلبة.
قوله: «وكانت محياةٌ فهي للمسلمين قاطبة والغانمون في الجملة».
المراد بكونها محياةٌ كونها كذلك وقت الفتح، ويثبت كونها مفتوحةً عنوةً بنقل من يوثق،بنقله واشتهاره بين المؤرّخين وقد عدّوا من ذلك مكّة المشرّفة، وسواد العراق، وبلاد خراسان والشام.
وجعل بعض الأصحاب (2) من الأدلة على ذلك ضرب الخراج من الحاكم وإن كان جائراً، وأخذ المقاسمة من ارتفاعها، عملاً بأن الأصل في تصرفات المسلمين الصحة، وكونها عامرةً وقت الفتح بالقرائن المفيدة للظنّ المتاخم للعلم، كتقادم عهد البلد، واشتهار تقدّمها على الفتح، وكون الأرض ممّا تقضي القرائن المذكورة بكونها مستعملة في ذلك الوقت؛ لقربها من البلد، وعدم المانع من استعمالها عادةً، ونحو ذلك مما لا يضبطه إلا الأمارات المفيدة للعلم أو ما يقاربه.
قوله: «والنظر فيها إلى الإمام».
هذا مع ظهوره وبسط يده، أما مع غيبته كهذا الزمان فكلّ أرض يدّعي أحدٌ ملكها بشراء
ص: 466
-------------------------------------------------------------------
وإرثٍ ونحوهما، ولا يعلم فساد دعواه، يقرّ في يده كذلك؛ لجواز صدقه، وحملاً لتصرفه على الصحة، فإنّ الأرض المذكورة يمكن تملكها بوجوه، منها إحياؤها ميتةً، ومنها بيعها تبعاً لأثر المتصرف فيها من بناء وغرس ونحوهما، كما سيأتي.
وما لا يد عليه لأحد يملكه، فهو للمسلمين قاطبةً كما مرّ، إلّا أن ما يتوّلاه الجائر من مقاسمتها وخراجها يجوز لنا تناوله منه بالشراء وغيره من الأسباب المملكة، بإذن أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) لنا في ذلك.
وقد ذكر الأصحاب أنه لا يجوز لأحدٍ جحدهما، ولا منعهما، ولا التصرف فيهما إلا بإذنه، بل ادعى بعضهم الاتّفاق عليه(1).
وهل يتوقّف التصرّف في هذا القسم منها على إذن الحاكم الشرعي إن كان متمكناً من صرفها فها في وجهها، بناءً على كونه نائباً عن المستحقّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومفوضاً إليه ما هو أعظم من ذلك؟ الظاهر ذلك، وحينئذٍ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين، كما سيأتي، ومع عدم التمكن أمرها إلى الجائر.
وأمّا جواز التصرّف فيها كيف اتفق لكلّ أحدٍ من المسلمين فبعيد جدّاً، بل لم أقف على قائل به؛ لأنّ المسلمين بين قائل بأولوية الجائر، وتوقف التصرف على إذنه، وبين مفوض للأمر إلى الإمام العادل (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه، فالتصرف بدونهما لا دليل عليه، وليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا (عَلَيهِم السَّلَامُ) لا لشيعتهم في التصرف فيه حال الغيبة (2)؛ لأنّ ذلك حقهم، فلهم الإذن فيه مطلقاً، بخلاف الأرض المفتوحة عنوة، فإنها للمسلمين قاطبة، ولم يُنقل عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) الإذن في هذا النوع.
وكيف كان فظاهر الأصحاب أنّ الخراج والمقاسمة لازمة للجائر، حيث يطلبه، أو يتوقّف على إذنه.
ص: 467
ولا يملكها المتصرف على الخصوص. ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها.
• ويصرف الإمام حاصلها في المصالح، مثل: سد الثغور، ومعونة الغزاة، وبناء القناطر.
• وما كانت مواتاً وقت الفتح فهو للإمام خاصةً، ولا يجوز إحياؤه إلا بإذنه إن كان موجوداً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا يجوز (1) بيعها ولا وقفها ولا هبتها».
أي لا يصحّ شيء من ذلك في رقبتها مستقلةً، أمّا لو فَعَل ذلك بها تبعاً لآثار المتصرف من بناء وغرس وزرع ونحوها فجائز على الأقوى، فإذا باعها بائع مع شيء من هذه الآثار دخلت في البيع على سبيل التبع، وكذا الوقف وغيره، ويستمر كذلك ما دام شيء من الآثار باقياً، فإذا ذهبت أجمع انقطع حق المشتري والموقوف عليه وغيرهما عنها، هكذا ذكره جمع من المتأخّرين(2)، وعليه العمل.
قوله: «ويصرف الإمام حاصلها في المصالح».
المراد بالمصالح مصالح المسلمين، مثل: بناء القناطر والمساجد، وترتيب أئمة الصلوات، والمؤذّنين، والقُضاة، والجند، ونحو ذلك.
قوله: «وما كان مواتاً وقت الفتح فهو للإمام خاصةً - إلى قوله - إن كان موجوداً».
موات هذه الأرض تلحق بالأنفال، لا يجوز إحياء شيء منه إلا بإذن الإمام مع ظهوره، وفي حال الغيبة يملكه المحيي.
ويُعلم الموات بوجوده الآن مواتاً، مع عدم سبق أثر العمّارة القديمة عليه، وعدم القرائن الدالة على كونه عامراً قبل ذلك كسواد العراق، فإنّ أكثره كان معموراً وقت الفتح، وبسببه سمّيت أرض السواد.
وما يوجد منها عامراً الآن يرجع فيه إلى قرائن الأحوال، كما مرّ قبلُ، ومنها ضرب
ص: 468
• ولو تصرّف فيها من غير إذنه كان على المتصرف طسقها.
• ويملكها المحيى عند عدمه من غير إذن.
• وكلّ أرض فتحت صلحاً فهي لأربابها، وعليهم ما صالحهم الإمام.
وهذه تُملك على الخصوص، ويصحّ بيعها والتصرّف فيها بجميع أنواع التصرّف.
ولو باعها المالك من مسلم صح، وانتقل ما عليها إلى ذمّة البائع. هذا إذا صولحوا على أنّ الأرض لهم، أما لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى وعلى أعناقهم الجزية، كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوةً، عامرها للمسلمين ومواتها للإمام.
ولو أسلم الذمّي سقط ما ضُرب على أرضه، وملكها على الخصوص.
-------------------------------------------------------------------
الخراج، وأخذ المقاسمة من ارتفاعه، فإن انتفى الجميع فالأصل يقتضي عدم تقدّم العمّارة، فيكون ملكاً لمن في يده.
قوله: «ولو تصرّف فيها من غير إذنه كان على المتصرف طسقها».
الطسق: فارسي معرّب. وأصله تسك(1)، والمراد به أجرتها.
قوله: «ويملكها المحيي عند عدمه من غير إذن».
أي في حال غيبته، وإطلاق المحيي يشمل المؤمن والمخالف والكافر، وقد صرّح به الشهيد (رحمه اللّه) في بعض ما نُقل عنه (2).
ويحتمل كون الحكم مختصاً بشيعته؛ عملاً بظاهر الإذن(3).
قوله: «وكلّ أرض فتحت صلحاً فهى لأربابها، وعليهم ما صالحهم الإمام».
هذه تُسمّى أرض الجزية؛ إذ ليس على أهلها الكفّار سوى المال المضروب على الأرض
ص: 469
• وكلّ أرض أسلم أهلها عليها فهي لهم على الخصوص، وليس عليهم فيها سوى الزكاة إذا حصلت شرائطها.
خاتمة: • كلّ أرض ترك أهلها عمّارتها، كان للإمام تقبيلها ممن يقوم بها، وعليه طسقها لأربابها.
• وكلّ أرض مواتٍ سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها. وإن كان لها مالك معروف، فعليه طسقها.
-------------------------------------------------------------------
إذا لم يقع الصلح على أنّ الأرض للمسلمين، وإلا كانت كالمفتوحة عنوةً كخيبر، وإنما تكون أرض جزيةٍ ويلزمهم ما صولحوا عليه ما داموا على الكفر، فلو أسلموا صارت -كالأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً - ملكاً لأربابها بغير عوض.
قوله: «وكلّ أرض أسلم أهلها عليها فهي لهم - إلى قوله - حصلت شرائطها».
هذا هو القسم الثالث من أقسام الأرض، وهى أرض من أسلم أهلها عليها طوعاً، وقد عُدّ من ذلك المدينة المشرفة والبحرين وأطراف اليمن، وهذه تترك في يد أربابها ملكاً لهم. يتصرّفون فيها كيف شاؤوا إذا قاموا بعمّارتها، فلو تركوها وخربت كانت للمسلمين قاطبةً وكان للإمام تقبيلها ممن يعمرها بما شاء.
قوله: «كلّ أرض ترك أهلها عمّارتها - إلى قوله - وعليه طسقها لأربابها».
وذلك كالأرض المتقدمة التي أسلم عليها أهلها، وأرض الجزية، وغيرها من المملوكات، ولا ينحصر أجرتها فيما قبل به الإمام، بل لهم الأُجرة، وما زاد من مال التقبيل لبيت المال؛ لما تقدّم من أنّ حاصلها يصير للمسلمين.
قوله: «وكلّ أرض مواتٍ سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها» إلى آخره.
الأرض الموات لا تخلو إما أن تكون مواتاً من أصلها بحيث لم يجر عليها يدٍ مالك، أو لا، والأُولى للإمام(عَلَيهِ السَّلَامُ)، لا يجوز إحياؤها إلا بإذنه في حال حضوره، وفي غيبته يملكها المحيي.
وإن جرى عليها يد مالك ثمَّ خربت، فلا يخلو إما أن يكون قد انتقلت إليه بالشراء ونحوه، أو بالإحياء، والأُولى لا يزول ملكه عنها بالخراب إجماعاً، نقله العلّامة (رحمه اللّه)
ص: 470
وإذا استأجر مسلم داراً من حربيٍّ ثمَّ فُتحت تلك الأرض لم تبطل الإجارة وإن ملكها المسلمون.
-------------------------------------------------------------------
في التذكرة عن جميع أهل العلم(1)، والثانية - وهي التي ملكت بالإحياء - لا يخلو إمّا أن يكون مالكها معيناً أو غير معيّن، والثانية تكون للإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جملة الأنفال، يملكها المحيي لها في حال الغيبة أيضاً، فإن تركها حتى خربت زال ملكه عنها، وجاز لغيره تملكها وهكذا.
والأُولى - وهي التي قد خربت ولها مالك معروف - فقد اختلف الأصحاب في حكمها، فذهب الشيخ (رحمه اللّه) إلى أنّها تبقى على ملك مالكها، لكن يجوز إحياؤها لغيره، ويبقى أحق بها، لكن عليه طسقها لمالكها (2)، واختاره المصنّف.
وذهب آخرون إلى أنها تخرج عن ملك الأوّل، ويسوغ إحياؤها لغيره، ويملكها المحيي، واختاره العلّامة(3)، وهو أقوى، والأخبار الصحيحة(4) دالّة عليه.
وشرط في الدروس إذن المالك، فإن تعذّر فالحاكم، فإن تعذّر جاز الإحياء بغير إذن(5). ودليله غير واضح.
وفي المسألة قول آخر، وهو عدم جواز إحيائها مطلقاً بدون إذن مالكها، ولا يملك بالإحياء(6)، كالمنتقلة بالشراء وشبهه، واختاره المحقّق الشيخ عليّ (رحمه اللّه)(7)، وله شواهد من الأخبار(8)، إلا أنّ الأوّل أقوى وأصح سنداً، وأوضح دلالةً، وباقي الأقوال مخرّجة.
ص: 471
يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام، • كالجعائل والسلب إذا شرط للقاتل، ولو لم يشرط لم يختصّ به.
ثمَّ بما يحتاج إليه من النفقة مدة بقائها حتى تقسم كأجرة الحافظ والراعي والناقل،• وبما يرضخه للنساء والعبيد والكفّار إن قاتلوا بإذن الإمام، فإنّه لا سهم للثلاثة.
ثمَّ يخرج الخمس، • وقيل : بل يخرج الخمس مقدّماً ؛ عملاً بالآية، والأول أشبه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «كالجعائل والسلب».
السَلَب - بفتح اللام - المال المتصل بالمقتول، كالثياب، والعمامة، والقلنسوة، والدرع، والمغفر، والبيضة، والجوشن، والسلاح والدابة المركوبة والجنيب الذي يستعين به، ونحوها.
وفي اشتراط كونه مع ذلك محتاجاً إليه في القتال نظر، وعدم الاشتراط لا يخلو من قوّة، وهو اختيار الشيخ(1).
وتظهر الفائدة في مثل الهميان الذي للنفقة، والمنطقة، والطوق المتّخذ للزينة.
قوله: «وبما يرضخه للنساء».
الرضخ العطاء الذي ليس بالكثير، والمراد هنا العطاء الذي لا يبلغ سهم الفارس إن كان المرضخ له فارساً، ولا الراجل إن كان راجلاً.
والخنثى المشكل في حكم المرأة؛ لعدم العلم بالذكورة التي هي شرط وجوب الجهاد.
وقيل: له نصف سهم ونصف رضخ (2)، كالميراث.
قوله: «وقيل: بل يخرج الخمس مقدّماً عملاً بالآية، والأول أشبه».
تقديم السلب والجعائل على الخمس متجه؛ لخروجها عن اسم الغنيمة التي أوجب اللّه
ص: 472
ثمَّ تقسم أربعة أخماس بين المقاتلة ومن حضر القتال ولو لم يقاتل، • حتى الطفل ولو ولد بعد الحيازة وقبل القسمة، • وكذا من اتصل بالمقاتلة من المدد ولو بعد الحيازة قبل القسمة.
-------------------------------------------------------------------
تعالى فيها الخمس بالآية(1)، وأما تقديم الرضخ عليه فغير واضح؛ لأن الرضخ في الحقيقة نوع من قسمة الغنيمة، غايته أنه ناقص عن السهام، وذلك غير مانع، كما أن نقص سهم الراجل عن سهم الفارس غير مؤثّر في تقديم الخمس عليه، وإطلاق اسم الغنيمة على المال المدفوع رضخاً،واضح، فوجوب الخمس فيه قويٌّ.
وفي المختلف قدّم الخمس على الجميع إن لم يشترط الإمام لأرباب الحقوق حقوقهم من غير خمس (2). والأوسط أوسط.
قوله: «حتى الطفل ولو ولد بعد الحيازة قبل القسمة».
الطفل - لغة – المولود(3)، وهو يشمل الذكر والأنثى، لكنّ المراد هنا الذكر بقرينة المقام؛ لما تقدّم من أنّ الأنثى لا سهم لها، وإطلاق الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين كونه من أولاد المقاتلة وغيرهم وبين حضور أبويه أو أحدهما وعدمه.
قوله: «وكذا من اتصل بالمقاتلة من المدد».
أي لحقوا بهم ليقاتلوا معهم، لا بمجرد المشاركة أو غيرها من الأغراض، كما لو كان تاجراً أو بيطاراً.
نعم، لو قصدوا الجهاد والصنعة معاً استحقوا.
ولو اشتبه الحال، قال الشيخ يسهم لهم؛ لأنّهم حضروا، والسهم يستحقّ بالحضور إلّا مع علم عدمه(4). وهو حسن.
ص: 473
ثمَّ يعطى الراجل سهماً، • والفارس سهمين. وقيل: ثلاثة. والأول أظهر.
و من كان له فرسان فصاعداً، أسهم لفرسين دون ما زاد، وكذا الحكم لو قاتلوا في السفن وإن استغنوا عن الخيل.
ولا يُسهم للإبل والبغال والحمير، وإنّما يُسهم للخيل وإن لم تكن عراباً.
• ولا يُسهم من الخيل للقَحْم والرازح والضرع؛ لعدم الانتفاع بها في الحرب، وقيل: يُسهم؛ مراعاة للاسم. وهو حسن.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وللفارس سهمين. وقيل: ثلاثة والأوّل أظهر».
المشهور الأوّل، وعليه العمل وإن كان في المستند (1) - من جهة النقل - ضعف.
قوله: «ولا يُسهم من الخيل القحم والرازح - إلى قوله - وهو حسن».
القحم - بفتح القاف وسكون الحاء - الكبير الهرم، والرازح - بالراء المهملة، ثمَّ الزاي بعد الألف، ثمَّ الحاء المهملة - قال الجوهري : هو الهالك هزالاً(2)، والمراد هنا الضعيف الذي لا يقوى بصاحبه على القتال والضرع - بفتح الضاد المعجمة والراء - هو الصغير الذي لا يُركب، كذا فسّره الفقهاء. وفي الصحاح : الضرع - بالتحريك - الضعيف، وإن فلاناً لضارع الجسم، أي نحيف ضعيف(3).
والقول بالمنع من الإسهام له لابن الجنيد(4)، وتردّد العلّامة(5) وجماعة(6)، وما اختاره المصنّف لا بأس به.
ص: 474
ولا يُسهم للمغصوب إذا كان صاحبه غائباً، • ولو كان صاحبه حاضراً كان لصاحبه سهمه.
ويُسهم للمستأجر والمستعار، ويكون السهم للمقاتل، • والاعتبار بكونه فارساً عند حيازة الغنيمة، لا بدخوله المعركة.
• والجيش يشارك السريّة في غنيمتها إذا صدرت عنه، وكذا لو خرج منه
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو كان صاحبه حاضراً كان لصاحبه سهمه».
وله مع ذلك الأُجرة على الغاصب.
قوله: «والاعتبار بكونه فارساً عند حيازة الغنيمة، لا بدخول المعركة».
لا إشكال في عدم اعتباره عند دخول المعركة، وإنّما الكلام في اشتراط كونه على الوصف عند الحيازة، أو يعتبر كونه كذلك عند القسمة؛ لأنّه محلّ اعتبار الفارس والراجل ليدفع إليهما حقّهما، فالذي اختاره المصنّف وأكثر الجماعة الأوّل، وهو واضح على القول بأنّه يملك بها، فلا يتحقّق الملك إلا بذلك.
وينبّه على اعتبار الثاني استحقاق المولود والمدد اللاحق بعد الغنيمة وقبل القسمة واختاره المحقّق الشيخ عليّ(1)، ولا بأس به.
وقد اختلفت نسخ القواعد في هذه المسألة، ففي بعضها اعتبار الحيازة (2) لا القسمة كما هنا، وفي بعضها اعتبارها إلى القسمة، فلا بد من وجوده فارساً في الحال بأسرها من الحيازة إلى القسمة، وفي بعضها اعتبار الحيازة أو القسمة، وظاهره الاكتفاء بأحدهما.
ويحتمل أن يكون موضع تردّد، واختيار «أو» لينبه على القولين المتقدّمين الدالين على أنّ وقت الملك هل هو الحيازة أو القسمة؟.
قوله: «والجيش يشارك السرية في غنيمتها إذا صدرت عنه».
ص: 475
سريتان، أما لو خرج جيشان من البلد إلى جهتين لم يشرك أحدهما الآخر، وكذا لو خرجت السرية من جملة عسكر البلد لم يشركها العسكر؛ لأنه ليس بمجاهد.
• ويكره تأخير قسمة الغنيمة في دار الحرب، إلّا لعذرٍ.
• وكذا يكره إقامة الحدود فيها.
-------------------------------------------------------------------
وكذا تشاركه السرية في غنيمته، وهو موضع،وفاق، فلا وجه لتركه.
وكذا لو تعدّدت السرايا الصادرة من جيش واحد، فإنّ كلّاً منها يشارك الآخر. ومثله الرسول المنفذ من الجيش لمصلحة، والدليل، والطليع، والجاسوس، ونحوهم.
قوله: «ويكره تأخير قسمة الغنيمة في دار الحرب، إلا لعذر».
لا إشكال في جواز القسمة حيث شاء، وإنما الخلاف في الأولوية، فالمشهور أنّ القسمة في أرض العدوّ هى الأولى، وأن التأخير مع عدم العذر كالخوف من المشركين أو قلة العلف ونحوهما - مكروه.
وابن الجنيد عكس الحكم، فاختار أن لا يقسم إلا بعد الخروج من دارهم(1).
والمختار الأوّل، ومستنده فعل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فإنّه كذلك كان يفعل، رواه عنه الخاصّة (2) والعامّة(3).
قوله «وكذا يكره إقامة الحدود فيها».
عُلل ذلك بالخوف من أن يحمل المحدود الغيرة، فيدخل إلى دار الحرب(4).
واستئنوا من ذلك ما لو قتل مسلماً عمداً، فإنّه يقتص منه في دار الحرب؛ لانتفاء المانع حينئذٍ، وعلى هذا ينبغي استثناء جميع الحدود الموجبة للقتل كالرجم.
ص: 476
مسائل أربع:
الأولى: المرصد للجهاد لا يملك رزقه من بيت المال، إلّا بقبضه، • فإن حلّ وقت العطاء ثم مات كان لوارثه المطالبة به، وفيه تردّد.
الثانية: • قيل: ليس للأعراب من الغنيمة شيء وإن قاتلوا مع المهاجرين، بل يرضخ لهم، ونعني بهم من أظهر الإسلام ولم يصفه، وصولح على إعفائه عن المهاجرة، وترك النصيب.
قوله: «فإن حلّ وقت العطاء ثم مات كان لوارثه المطالبة به، وفيه تردّد».
منشأ التردّد من استحقاق المطالبة قبل الموت فيكون لوارثه ذلك، كحق الشفعة وغيره، ومن أنّه لا يملكه إلا بقبضه وهو منتفٍ، ولا منافاة بين استحقاق المطالبة وعدم الملك، بل عدم استحقاق الوارث ذلك أيضاً، كما في مستحق الزكاة وغيرها من الحقوق لو مات بعد المطالبة بها وقبل القبض.
وبهذا ظهر ضعف القول الأوّل.
قوله: «قيل: ليس للأعراب من الغنيمة شيء - إلى قوله - ولم يصفه».
هذا هو المشهور بين الأصحاب، وبه رواية حسنة، وأنّ النبيّ صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على أنه إن دهمه عدوان يستفزهم ويقاتل بهم، وليس لهم في الغنيمة نصيب(1).
وإنما أنكره ابن إدريس بناءً على أصله (2). وحكاية المصنّف له قولاً يشعر بتردّده فيه.
والمراد بالأعراب هنا من كان من أهل البادية، وقد أظهر الشهادتين على وجه حكم
ص: 477
الثالثة: • لا يستحقّ أحد سَلَباً ولا نَفَلاً، في بدأةٍ ولا رجعة، إلا أن يشترط له الإمام.
الرابعة: الحربي لا يملك مال المسلم بالاستغنام، ولو غنم المشركون أموال المسلمين وذراريهم ثمَّ ارتجعوها فالأحرار لا سبيل عليهم، أما الأموال والعبيد فلأربابها قبل القسمة.
• ولو عرفت بعد القسمة فلأربابها القيمة من بيت المال، وفي رواية: تعاد على أربابها بالقيمة.
والوجه إعادتها على المالك، ويرجع الغانم بقيمتها على الإمام مع تفرّق الغانمين.
-------------------------------------------------------------------
بإسلامه ظاهراً، ولا يعرف من معنى الإسلام ومقاصده وأحكامه سوى الشهادتين.
قوله: «ولا يستحقّ أحد سلباً ولا نقلاً في بَدأةٍ ولا رجعة، إلا أن يشترط له الإمام».
قد تقدّم تعريف السلب بالتحريك، وأما النفل - بالفتح أيضاً - فهو ما يجعله الإمام لبعض المجاهدين من الغنيمة بشرط، مثل أن يقول: من قتل فلاناً المشرك، أو حمل الراية، أو عمل كذا فله كذا، بحسب ما يراه من المصلحة.
والبدأة - بفتح الباء وسكون الدال، ثمَّ الهمزة المفتوحة - السرية الأولى، أو عند دخول الجيش إلى دار الحرب، والرجعة الثانية، أو عند رجوعه.
قوله: «ولو عرفت بعد القسمة فلأربابها القيمة من بيت المال - إلى قوله - بالقيمة».
ما ذكره المصنّف من الوجه هو الوجه، لكن بشرط تفرّق الغانمين، وإلا ارتجعت العين و نقضت القسمة.
والظاهر أنّ الحكم مع تفرقهم وانحصارهم بحيث لا يعسر جمعهم كذلك.
ولو كان الحق معهم بالسوية، كالمال الممتزج بمتساوي الأجزاء لم يحتج إلى نقضها، بل رجع على كل واحد بالنسبة.
والمراد برجوعه على الإمام رجوعه بالقيمة على بيت المال يدفعه إليه الإمام لا من خاصّته.
ص: 478
والنظر في أُمور:
تؤخذ ممّن يقرّ على دينه، وهم اليهود والنصارى، • ومن لهم شبهة كتاب، وهم المجوس، ولا يقبل من غيرهم إلا الإسلام.
والفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقروا • سواء كانوا عرباً أو عجماً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ومن لهم شبهة كتاب وهُم المجوس».
نبّه بقوله «شبهة كتاب» على أنّ ما بأيدي المجوس غير معلوم كونه كتابهم؛ لما ورد من أنهم قتلوا نبيهم، وأحرقوا كتابهم، وكان باثني عشر ألف جلد ثور(1)، وفي أيديهم صحف يزعمون أنها من ذلك الكتاب، فأقروا على دينهم لهذه الشبهة، وقول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «سنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب»(2).
وخالف في ذلك ابن أبي عقيل، فألحقهم بباقي المشركين(3).
قوله: «سواء كانوا عرباً أو عجماً».
نبه به على خلاف بعض العامة، حيث زعم أنّ الجزية لا تؤخذ من العرب(4)، وهو مردود
ص: 479
• ولو ادعى أهل حرب أنّهم منهم وبذلوا الجزية لم يكلفوا البينة وأُقروا، ولو ثبت خلافها انتقض العهد.
ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والنساء.
-------------------------------------------------------------------
بالإجماع منا ومن فريقه، وفعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنّه أخذها منهم(1).
وزعم جماعة من العامة أنّ نصارى تغلب من العرب لا تؤخذ منهم الجزية، بل تؤخذ منهم الصدقة مضاعفة (2).
وذهب ابن الجنيد منّا إلى عدم أخذها منهم أيضاً، لا لذلك، بل لأنهم لا يُقرون على دينهم؛ لإخلالهم بالشرط الذي شرطه عليهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنهم لا ينصروا أولادهم(3).
واستقربه في المختلف؛ محتجاً بأنهم انتقلوا إلى النصرانية بعد الفتح، فلا يكون مقبولاً (4).
قوله: «ولو ادعى أهل حرب أنّهم منهم - إلى قوله - انتقض العهد».
إنّما لم يكلّفوا البينة؛ لأنّ الدين أمر قلبي، وشعاراته الظاهرة ليست جزءاً منه، فربما تعذّر إقامة البيئة، ولقبول قولهم في دينهم الذين يدينون به.
ويتحقّق ثبوت خلافها بإخبار شاهدين عدلين باطلاعهم عليهم بخلاف ما يدّعونه، وإن كان العدلان منهم بأن أسلما وتعدّلا ثمّ أخبرا بذلك، لا بإقرار الواحد منهم بالنسبة إليهم وإن قبل في حقه.
وحيث يثبت خلاف مدعاهم وينتقض العهد يجوز اغتيالهم، ولا يجب ردّهم إلى مأمنهم.
والفرق بينهم وبين من تقدم من أهل الحرب الذين يتوهمون الأمان فيوجب لهم الجزية،
علم هؤلاء بفساد السبب الموجب للأمان؛ لتعليقه على شيء يعلمون عدمه، مه، فيكون نفي الأمان عندهم معلوماً.
ص: 480
• وهل تسقط عن الهم ؟ قيل: نعم، وهو المروي. وقيل: لا.
• وقيل : تسقط عن المملوك.
وتؤخذ ممّن عدا هؤلاء ولو كانوا رهباناً أو مقعدين. وتجب على الفقير، وينظر بها حتى يوسر. ولو ضرب عليهم جزية، فاشترطوها على النساء لم يصحّ الصلح.
• ولو قتل الرجال قبل عقد الجزية، فسأل النساء إقرارهنّ ببذل الجزية قيل: يصحّ، وقيل: لا، وهو الأصحّ.
• ولو كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسناً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: وهل تسقط عن الهم ؟ قيل: نعم، وهو المرويّ، وقيل: لا.».
الرواية بالسقوط (1) ضعيفة، ومثله الأعمى والراهب.
وفصّل بعضهم بأنه إن كان ذا رأي وقتال أُخذت منه، وإلّا فلا (2).
والأقوى الوجوب مطلقاً؛ للعموم.
:قوله «وقيل: تسقط عن المملوك».
هذا هو الأجود، بناءً على أنه لا يقدر على شيء، وروي أنّها تؤخذ منه(3).
قوله: «ولو قتل الرجال قبل عقد الجزية - إلى قوله - وهو الأصحّ».
ما اختاره المصنّف هو الأقوى؛ لأنّ النساء لا جزية عليهن. نعم، لو كُن في حصنٍ، ولم يمكن فتحه جاز عقد الأمان لهنّ كما لو طلبن ذلك من دار الحرب ولا جزية في الموضعين.
قوله: «ولو كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسناً».
ص: 481
ولو أُعتق العبد الذمّى منع من الإقامة في دار الإسلام، إلا بقبول الجزية.
والمجنون المطبق لا جزية عليه، • فإن كان يفيق وقتاً قيل: يعمل بالأغلب ولو أفاق حولاً وجبت عليه ولو جنّ بعد ذلك.
وكلّ من بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام، أو بذل الجزية، فإن امتنع صار حربياً.
ولا حد لها، بل تقديرها إلى الإمام بحسب الأصلح، • وما قرره عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال.
-------------------------------------------------------------------
المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع مع الرجال، وإثبات الجزية على النساء.
وما حسنه المصنّف غير واضح، فإنّه كما يمتنع إقرارهنّ بالجزية،ابتداء، فكذا استدامةً للعقد السابق، فالمنع في الموضعين أقوى.
وقال شارح التردّدات:
إن معنى الاستصحاب استدامة الأمان للنساء من غير ضرب جزية عليهن، حيث قد ثبت لهن الأمان مع الرجال ضمناً، فيستصحب الوفاء(1).
وهذا التوجيه غريب؛ فإنّ السياق إنّما هو في بذل الجزية، لا في الأمان خاصّةً.
قوله: «فإن كان يفيق وقتاً قيل: يعمل بالأغلب».
الأقوى أنّ المجنون لا جزية عليه مطلقاً، إلا أن تتحقّق له إفاقة سنة متوالية : لإطلاق النصّ (2).
قوله: «وما قرّره عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال».
هذا جواب عن حجّة بعض الأصحاب، حيث حكم بأنها مقدرة بما قدره عليٌّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو
ص: 482
• ومع انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأُولى اطراحه تحقيقاً للصغار.
-------------------------------------------------------------------
على الفقير اثنا عشر درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الغنيّ ثمانية وأربعون في كل سنةٍ(1).
وتقرير الجواب أنّ ذلك محمول على اقتضاء المصلحة في ذلك الوقت هذا التقدير، فلا يجب العمل به لو اقتضت المصلحة خلافه.
وممّا يؤيد ذلك أنّ عليّا (عَلَيهِ السَّلَامُ) زاد في الوضع عمّا قدّره النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بحسب ما رآه من المصلحة(2)، فكذا القول في غيره. وهذا هو الأقوى ومختار الأكثر.
قوله: «ومع انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأُولى اطراحه تحقيقاً للصغار».
أي حيث بينا أن تقدير عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يقتضي الاستمرار، وانتفى ما يقتضي التقدير، فالأُولى اطراحه وعدم إعلام الذمّي بقدر ما عليه، بل يؤخذ منه إلى أن ينتهي إلى القدر الذي اقتضته المصلحة؛ تحقيقاً لمعنى الصغار المذكور في الآية(3)، فإنّ المشهور في تعريفه أنّه التزام الجزية على ما يحكم به الإمام من غير أن تكون مقدّرة، والتزام أحكامنا عليهم.
واقتصر بعضهم فيه على الوصف الثاني (4).
وفسّره بعضهم بأن تؤخذ الجزية من الذمّي قائماً والمسلم جالس(5)، وقيل غير ذلك(6).
وزاد في التذكرة :
أنّ الذمّي يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه ويصبّ ما معه في كفّة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمتيه. واللّهزمتان في اللحيين: مجمع اللحم بين الماضع والأُذن(7).
ص: 483
ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرض. ولا يجمع، وقيل بجوازه ابتداء، وهو الأشبه.
• ويجوز أن يشترط عليهم، مضافاً إلى الجزية، ضيافة مارّة العساكر، ويحتاج أن تكون الضيافة معلومة.
• ولو اقتصر على الشرط وجب أن يكون زائداً عن أقل مراتب الجزية.
-------------------------------------------------------------------
قوله: ولا يجمع، وقيل بجوازه ابتداء، وهو الأشبه».
احترز بقوله «ابتداء» عمّا لو وضعها على رأس بعض منهم، وعلى أرض بعض آخرَ، فانتقلت الأرض التي وُضعت عليها إلى من وُضعت على رأسه، فإنه يجتمع عليه الأمران، لكن ذلك ليس ابتداء، بل بسبب انتقال الأرض إليه.
والقول بعدم جواز الجمع هو الظاهر من صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1)، وهو الأولى.
قوله: «ويجوز أن يشترط عليهم، مضافاً إلى الجزية، ضيافة مارّة العساكر، ويحتاج أن تكون الضيافة معلومة».
بأن يقدّر القوت والأدم وعلف الدواب وجنس كلّ واحدٍ منها، ووصفه بما يرفع الجهالة وعدد أيّام الضيافة، كما فعله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع نصاری نجران وغيرهم(2).
وكما يجوز اشتراط ضيافة مارّة العساكر، يجوز اشتراط ضيافة مطلق المارّة من المسلمين، بل هذا هو المشهور في الأخبار والفتاوى، وهو الذي شرطه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
قوله: «ولو اقتصر على الشرط وجب أن يكون زائداً عن أقل مراتب الجزية».
أي اقتصر على شرط الضيافة من غير أن يصرح بكونها مضافةً إلى الجزية، كما صرح به في القسم الأوّل، فإنّ الإطلاق أيضاً يقتضي المغايرة.
ص: 484
• ولو أسلم قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر.
-------------------------------------------------------------------
ويجب كونها زائدةً على أقل ما يمكن فرضه جزيةً، كدينار مثلاً، فإنّه أقل ما يوضع على الفقير، بناءً على ما ورد في بعض الأخبار(1) من التقدير، وعلى القول بعدمه تكون الضيافة زائدةً على أقل ما تقتضي المصلحة وضعه عليهم من الجزية.
ولا يقتضي الإطلاق كون الضيافة من نفس الجزية؛ للتأسي بالنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فإنه شرط الضيافة زيادة على الدينار الذي رتّبه على كلّ نفس، ولأنه لو شرط الضيافة من الجزية، أو كان الإطلاق يقتضيه ولم يمرّ بهم أحد خرج الحول بغير جزية، ولأن مصرف الجزية مصرف الغنيمة، بخلاف الضيافة فإنّها لا تختص بذلك، بل يجوز اشتراطها لسائر المسلمين، فلابد معها من جزيةٍ، وبهذا التفسير صرّح العلّامة في التذكرة (2) وغيره.
وربما احتملت العبارة ونظائرها معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنّه مع الاقتصار على شرط الضيافة عليهم من غير أن يذكر الجزية تكون الضيافة قائمةً مقام الجزية، ويجب حينئذٍ كونها زائدة على أقل ما يجب الجزية لتتحقّق الجزية في ضمنها، وتكون في قوة جزيةٍ وضيافةٍ.
وعلى هذا الاحتمال ينبغي اختصاص ما قابل الجزية من الضيافة بأهل الفيء.
ونظير هذه العبارة في قيام الاحتمال عبارة القواعد(3).
والحقّ أنّ المراد هو المعنى الأوّل، وبه صرّح في التذكرة : محتجاً عليه بفعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واستلزام شرط الضيافة من الجزية سقوطها لو لم يمر بهم أحد (4).
قوله: «ولو أسلم قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر».
الخلاف في الثاني خاصّةً، وهو ما لو أسلم بعد الحول وقبل الأداء.
ص: 485
ولو مات بعد الحول لم تسقط، وأخذ من تركته، كالدَيْن.
وهي ستة:
الأوّل: قبول الجزية.
الثاني: أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان، مثل العزم على حرب المسلمين، أو إمداد المشركين.
• ويخرجون عن الذمة بمخالفة هذين الشرطين.
-------------------------------------------------------------------
ووجه السقوط حينئذٍ أن الجزية لا تؤخذ من المسلم، وأن الإسلام يجب ما قبله(1)، وأن أخذها مشروط بالصغار الممتنع على المسلم. وهو حسن.
ووجه العدم أنّها دين مستحق قبل الإسلام، فلا يسقط بالإسلام، كالخراج والدين.
والفرق على الأوّل أنّها عقوبة، فلا يتحقّق مع الإسلام، بخلاف الدين.
ولا فرق بين أن يُسلم ليسقط عنه الجزية أو لا، خلافاً للشيخ(2).
ويستثنى من إسلامه قبل الحول ما لو كان قبل دفع قسط ما مضى من المدة قبل الإسلام، فإنّ الوجه حينئذٍ عدم ردّه عليه، كما لو دفعها بعد الحول وقبل الإسلام واختاره في التذكرة (3)، مع احتمال ردّه، بناءً على سقوطه، كما يسقط المتخلف، والفرق تحقق الصغار للمسلم في الثاني دون الأوّل.
قوله: «ويخرجون عن الذمة بمخالفة هذين الشرطين».
لا فرق في ذلك بين أن يشترط عليهم في العقد أو لا.
ص: 486
الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين، كالزنى بنسائهم، واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم، وإيواء عين المشركين والتجسّس لهم، فإن فعلوا شيئاً من ذلك وكان تركه مشتَرَطاً في الهدنة كان نقضاً، وإن لم يكن مشترطاً كانوا على عهدهم، وفعل بهم ما يقتضيه جنايتهم من حدٍ أو تعزير.
• ولو سبّوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قتل الساب، ولو نالوه بما دونه عزروا إذا لم يكن شرط عليهم الكفّ.
الرابع: أن لا يتظاهروا بالمناكير، كشرب الخمر والزنى، وأكل لحم الخنزير، و نكاح المحرّمات، • ولو تظاهروا بذلك نقض العهد، وقيل: لا ينقض، بل يفعل معهم ما يوجبه شرع الإسلام من حدٍ أو تعزير.
-------------------------------------------------------------------
وفي حكمهما الشرط السادس، وهو التزامهم أحكام الإسلام؛ لأن الصغار لا يتحقّق بدونه على المختار من تفسيره، فكان ذكره هنا أولى.
واعلم أنّ الشرط الأول والأخير لا بد من ذكرهما في عقد الذمة لفظاً، ولا يجوز الإخلال بهما ولا بأحدهما، ولا يعتد بعقد الذمة من دونهما.
وأما الشرط الثاني فإطلاق العقد يقتضيه، ولا يجب التعرّض لذكره، وبمخالفته ينتقض العهد وإن لم يشترط فيه.
وأما باقي الشرائط فإنّما ينتقض العهد بمخالفتها مع شرطها في متن العقد، وإلّا فلا.
قوله: «ولو سبّوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قتل الساب».
وكذا القول في سبّ باقي الأنبياء والملائكة، ومثله الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عندنا.
ويجوز قتله لكلّ سامع مع الأمن، ولا يتوقّف على إذن الإمام أو نائبه وإن أمكن، وينتقض عهده.
قوله: «ولو تظاهر وا بذلك نقض العهد، وقيل: لا ينقض».
الأقوى أنّه لا ينقض إلا مع شرطه في العقد، والإخلال به.
ص: 487
الخامس: أن لا يُحدثوا كنيسةً، ولا يضربوا،ناقوساً، ولا يطيلوا بناء، ويعزّرون لو خالفوا، ولو كان تركه مشترطاً في العهد انتقض.
السادس: أن يجري عليهم أحكام المسلمين.
وها هنا :مسائل
الأولى: إذا خرقوا الذمة فى دار الإسلام كان للإمام ردّهم إلى مأمنهم، • وهل له قتلهم واسترقاقهم ومفاداتهم؟ قيل: نعم، وفيه تردّد.
الثانية: إذا أسلم بعد خرق الذمة قبل الحكم فيه سقط الجميع، عدا القود والحدّ، واستعادة ما أخذ ولو أسلم بعد الاسترقاق أو المفاداة لم يرتفع ذلك عنه.
الثالثة: إذا مات الإمام، وقد ضرب لما قرّره من الجزية أمداً معيّناً، أو اشترط الدوام، وجب على القائم بعده إمضاء ذلك.
وإن أطلق الأوّل كان للثاني تغييره بحسب ما يراه صلاحاً.
• ويكره أن يبدأ الذمّى بالسلام.
-------------------------------------------------------------------
وللشيخ قول بعدم النقض به وإن شرط عليهم؛ لأنّه لا ضرر فيه على المسلمين(1). وهو ضعيف. ومثله القول في الشرط الخامس.
والتفصيل فيها بالشرط وعدمه أقوى.
قوله: «وهل له قتلهم واسترقاقهم ومفاداتهم؟ قيل: نعم، وفيه تردّد».
ينشأ من أنّهم دخلوا دار الإسلام بأمان، فوجب ردّهم إلى مأمنهم، ومن فساد الأمان من قتلهم، فلم يبق لهم أمان ولا شبهة أمانٍ فيتخيّر الإمام فيهم بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء، وهذا هو الأقوى.
قوله: «ويكره أن يبدأ الذمّى بالسلام».
ص: 488
• ويستحبّ أن يضطر إلى أضيق الطرق.
-------------------------------------------------------------------
هذا هو المشهور، ويظهر من التذكرة(1) التحريم، والنهي المطلق في الأخبار (2)يدلّ عليه، وعلى تقدير بدأة الذمّي فليقتصر من جوابه على قوله «وعليك»؛ للخبر (3).
وفي التذكرة :
يردّ بغير السلام، بأن يقول: هداك اللّه أو أنعم اللّه صباحك، أو أطال اللّه بقاك، ولو ردّ بالسلام اقتصر على قوله: وعليك(4). انتهى.
ولو أكمل له الجواب بالسلام فالظاهر كراهته خاصةً إن لم نقل بتحريم ابتدائه به.
ولو اضطر المسلم إليه لكونه طبيباً يحتاج إليه ونحو ذلك لم يكره له السلام عليه ولا الدعاء له؛ لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وفيه (5): «إنّه لا ينفعه دعاؤك»(6).
وأمّا التسليم على باقي الملل والردّ عليهم فلم يتعرضواله، والظاهر تحريمه مع عدم الضرورة.
وينبغي أن يقول عند ملاقاتهم: «السلام على من اتبع الهدى» كما فعله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمشركي قريش(7).
قوله: «ويستحبّ أن يضطر إلى أضيق الطرق».
بمعنى منعهم من جادة الطريق إذا اجتمعوا هم والمسلمون فيه، واضطرارهم إلى طرفه الضيّق؛ لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»(8).
ص: 489
والنظر في البيع والكنائس، والمساكن، والمساجد.
• لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الإسلام، ولو استجدّت وجب إزالتها،• سواء كان البلد ممّا استجده المسلمون • أو فُتح عنوةً، أو صلحاً على أن تكون الأرض للمسلمين، ولا بأس بما كان قبل الفتح، وما استحدثوه في أرض فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم.
-------------------------------------------------------------------
وليكن التضييق عليهم بحيث لا يقعون في وَهْدةٍ، ولا يصدمون جداراً.
ولو خلت الطريق من مرور المسلمين فلا بأس بسلوكهم حيث شاؤوا.
قوله: «لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الإسلام».
ظاهر كلامهم في هذا المقام أنّ البيع والكنائس لليهود والنصارى؛ لاشتراكهم في المنع من إحداث المعابد، ولكن قال في الصحاح : إن كل واحدة من البيعة - بكسر الباء - والكنيسة للنصارى(1). فعلى هذا يكون معبد اليهود مُخلّاً بذكره، وكان عليه التنبيه بذكر باقي المعابد، كصومعة الراهب وغيرها من أنواع البيوت المتخذة لصلاتهم وعباداتهم؛ لاشتراك الجميع في الحكم، وهو المنع من إحداثه في أرض المسلمين.
قوله «سواء كان البلد ممّا استجده المسلمون».
مثل الكوفة وبغداد والبصرة وسرّ من رأى وجملة بلاد الجزائر. واحترز بالاستئناف عمّا لو كان موجوداً في الأرض قبل أن يمصرها المسلمون، فإنّه يقرّ على حاله، مثل كنيسة الروم في بغداد، فإنّها كانت في قرى لأهل الذمة، فأُقرت على حالها.
قوله: «أو فتح عنوةً أو صلحاً على أن تكون الأرض للمسلمين، ولا بأس بما كان قبل الفتح».
ص: 490
• وإذا انهدمت كنيسة ممّا لهم استدامتها جاز إعادتها، وقيل: لا.
وأمّا المساكن فكلّ ما يستجده الذمّى • لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه، ويجوز مساواته على الأشبه.
-------------------------------------------------------------------
لا خلاف في المنع من إحداث ذلك بالأرض المفتوحة عنوة؛ لأنّها صارت ملكاً للمسلمين، وأما ما كان موجوداً قبل الفتح، فإن هدمه المسلمون وقت الفتح لم يجز تجديده؛ لأنه بمنزلة الإحداث في ملك المسلمين، وإن لم يهدموه فالمشهور وجوب إقراره لهم. ولم ينقل المصنّف والأكثر في ذلك خلافاً.
ونقل في التذكرة (1) عن الشيخ (رحمه اللّه) أنه لا يجوز إبقاؤه(2)؛ لما تقدم من الدليل على المنع من الإحداث.
والعمل على المشهور. وقد فتح الصحابة كثيراً من البلاد عنوةً ولم يهدموا شيئاً من الكنائس، وحصل الإجماع على ذلك، فإنّها موجودة في بلاد الإسلام من غير نكير.
وتردّد في التذكرة (3)، حيث نقل المنع عن الشيخ ساكتاً عليه.
قوله: «وإذا انهدمت كنيسة ممّا لهم استدامتها جاز إعادتها، وقيل: لا.»
وجه الجواز أن إقرارهم على إبقائها يقتضي الإعادة؛ فإنّها تخرب على تطاول الأزمان ولأنّ الإعادة مساوية للاستدامة، ولأن المعابد من ضرورات الأديان، فإذا أقروا على الدين مكّنوا من اتخاذ المعبد، خرج منه الابتداء، فتبقى الإعادة. وفي هذه الوجوه نظر.
ووجه المنع قوله : «لا كنيسة في الإسلام»(4).
قوله: «لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه، ويجوز مساواته على الأشبه».
ص: 491
ويقرّ ما ابتاعه من مسلم على علوه كيف كان، • ولو انهدم لم يجز أن يعلو به على المسلم، ويقتصر على المساواة فما دون.
وأمّا المساجد فلا يجوز أن يدخل المسجد الحرام إجماعاً.
• ولا غيره من المساجد عندنا.
-------------------------------------------------------------------
المراد أن لا يعلو على بناء جيرانه، دون غيرهم من المسلمين. والمنع من العلوّ موضع وفاق بين المسلمين. وأما المساواة فمنعها الشيخ (1) وجماعة (2)؛ لقوله : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(3) ولا بأس به.
ولا فرق بين كون بناء الجار معتدلاً أو في غاية الانخفاض.
نعم، لو كان نحو السرداب لم يكلف الذمّي بمثله؛ لعدم صدق البناء. وهل يعتبر في العلوّ وعدمه نفس البناء أو مجرّد الهواء؟ نظر، وتظهر الفائدة فيما كان بيت الذمي على أرض مرتفعة، ودار المسلم في منخفضة، فعلى الأوّل يجوز للذمّي أن يرتفع عنه بحيث لا يبلغ طول حائط المسلم، وعلى الثاني يعتبر ارتفاع الأرض عن المسلم من جملة البناء.
وقطع في الدروس بالأوّل، وجوز مع انعكاس الحكم أن يرتفع الذمّي إلى أن يقارب دار المسلم وإن أدى إلى الإفراط في الارتفاع(4)، وليس ببعيد.
ثمّ المنع من ذلك لحق الدين لا لمحض حق الجار، فلا يقدح في المنع رضى الجار.
قوله: «ولو انهدم لم يجز أن يعلو به على المسلم، ويقتصر على المساواة فما دون».
بناءً على جواز المساواة ابتداء، والأجود المنع، فيقتصر على الأدون.
قوله: ولا غيره من المساجد عندنا، ولو أذن لهم لم يصحّ».
ص: 492
ولو أذن لهم لم يصح الإذن لا استيطاناً، ولا اجتيازاً، • ولا امتياراً.
• ولا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور، وقيل: المراد به مكّة والمدينة، • وفي الاجتياز به والامتيار منه تردّد، ومن أجازه حده بثلاثة أيّام.
-------------------------------------------------------------------
«أُذن» على البناء للمجهول، والمراد بالآذن المسلم أي لا يجوز دخول الذمّي المسجد بإجماع الإمامية وإن أذن له المسلم في الدخول ونبّه به على خلاف أكثر العامة، حيث جوّزوا دخوله بإذن المسلم.
قوله: «ولا امتياراً».
هو افتعال من الميرة، وهو الطعام أو جلبه.
قوله: «ولا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور».
نسبه إلى الشهرة؛ لعدم الظفر بنص فيه من طرقنا، لكن ادعى في التذكرة عليه الإجماع(1)، فالعمل به متعيّن.
والقول بتحريم مطلق الحجاز أقوى؛ عملاً بدلالة العرف واللغة، فيدخل فيه البلدان مع الطائف وما بينهما.
وإنّما سُمّي حجازاً؛ لحجزه بين نجد وتهامة - بكسر التاء - بلد وراء مكّة، وقد يطلق على مكّة تهامة.
قوله: «وفي الاجتياز به والامتيار منه تردّد، ومن أجازه حده بثلاثة أيّام».
منشأ التردّد من إطلاق الأمر بإخراجهم منه (2)، ومن أنّ المتبادر منه منع السكنى والقول بالجواز أشهر.
وشرط في التذكرة إذن الإمام (3). وجوزه الشيخ بإذن وغيره (4). أما الحرم فلا يجوز لهم دخوله مطلقاً.
ص: 493
• ولا جزيرة العرب، وقيل: المراد بها مكّة والمدينة واليمن ومخاليفها، وقيل: هي من عدن إلى ريف عبادان طولاً، ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضاً.
• وهي المعاقدة على ترك الحرب مدّة معيّنةً.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولا جزيرة العرب، وقيل: المراد بها مكّة والمدينة واليمن ومخاليفها، وقيل: هي من عدن» إلى آخره.
القول الثاني هو الأشهر بين أهل اللغة، وعليه العمل.
وإنّما سُمّيت جزيرة؛ لأن بحر الهند - وهو بحر الحبشة - وبحر فارس والفرات أحاطت بها وإنّما نُسبت إلى العرب؛ لأنها منزلهم ومسكنهم ومعدنهم.
وعدن - بفتح الدال - بلد باليمن.
والريف الأرض التي فيها زرع وخصب والجمع أرياف.
وعبّادان - بفتح العين وتشديد الباء الموحدة - جزيرة يحيط بها شعبتان من دجلة والفرات.
والمخاليف: الكور، واحدها مِخْلاف.
قوله: «وهي المعاقدة على ترك الحرب مدّة معينةً».
إطلاق المعاقدة على ما ذكر، يشمل كونها بعوض وغير عوض، وكلاهما جائز، وبه صرّح في التذكرة، فإنّه زاد في التعريف قوله بعوض وغير عوض»(1).
وفي القواعد جعل بدل ذلك قوله بغير عوض» (2) زيادةً على التعريف، وأراد بذلك أنّ العوض ليس شرطاً فيها، لا أنّ ترك العوض فيها لازم بحيث ينافيها، بل يجوز اشتراط العوض فيها وإن لم تكن مبنيّةً عليه؛ لأنه شرط سائغ لا ينافي موضوعها.
ص: 494
• وهي جائزة إذا تضمنت مصلحةً للمسلمين، إما لقلتهم عن المقاومة، • أو لما يحصل به الاستظهار، أو لرجاء الدخول في الإسلام مع التربّص.
• ومتى ارتفع ذلك وكان في المسلمين قوّة على الخصم لم يجز.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وهي جائزة إذا تضمّنت مصلحةً».
يمكن أن يريد بالجواز هنا معناه الأعم، وهو ما عدا الحرام، ليدخل فيه الوجوب، وحينئذٍ فيجوز للإمام الهدنة مع المصلحة، لكن مع حاجة المسلمين إليها - لضعفهم، أو رجاء تألف الكفّار ودخولهم في الإسلام - تجب، وبهذا صرّح في القواعد(1).
ويمكن أن يريد به معناه الأخص، فلا يجب قبولها مطلقاً وإن كانت جائزةً مع المصلحة، وبهذا المعنى قطع في التذكرة :
لقوله تعالى: «وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا»(2) فيتخير المسلم في فعل ذلك برخصة قوله تعالى: «وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(3) وبما تقدّم، وإن شاء قاتل حتى يلقى اللّه شهيداً لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَتِلُونَكُمْ»(4).
- قال: - وكذلك فعل مولانا الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والنفر الذين وجههم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) [إلى هُذَيل] وكانوا عشرةً فقاتلوا حتى قُتلوا(5).
قوله: «أو لما يحصل به الاستظهار».
أي لرجاء حصول ذلك، كزيادة القوة.
قوله: «ومتى ارتفع ذلك وكان في المسلمين قوة على الخصم لم يجز».
أشار بقوله «ذلك» إلى المذكور سابقاً، وهو اعتبار المصلحة، أي ومتى ارتفعت المصلحة
ص: 495
وتجوز الهدنة أربعة أشهر، • ولا تجوز أكثر من سنةٍ، على قول مشهور.
-------------------------------------------------------------------
في الهدنة لم يجز؛ لوجوب قتال المشركين في كلّ عام إلى أن يُسلموا، أو يدخلوا في الذمة إن كانوا من أهلها، وذلك لا يُسمّى هدنة.
والمراد بالهدنة الممتنعة ما زادت مدتها عن أربعة أشهر؛ لأنّ الهدنة أربعة أشهر جائزة مع المصلحة وبدونها؛ لأنّ اللّه تعالى سوّغ ترك الحرب في هذه المدة في آية السياحة(1)، وإنما ترك القيد؛ اتكالاً على ما يذكره عن قريب.
والحاصل أنّ ترك القتال أربعة أشهر سائغ بالمهادنة وغيرها، فإذا طلبوا المهادنة ذلك القدر كان سائغاً، وفي جوازها أكثر من ذلك خلاف يأتي.
قوله: «ولا يجوز أكثر من سنةٍ على قول مشهور».
تحريم المهادنة وترك القتال مع المكنة أكثر من سنةٍ ممّا لا خلاف فيه، وقد صرّح في التذكرة بالإجماع على عدم جوازها أكثر من سنة (2)، كما أنّ جوازها أربعة أشهر فما دون إجماعي أيضاً، وإنما الخلاف فيما بين المدتين، فنسبة المصنّف الحكم الأول إلى الشهرة ليس بجيّد، وكأنّ الباعث له على ذلك استضعاف دليله مع عدم تحقق الإجماع عنده، وإن لم يعلم بالمخالف، فإنّ ذلك لا يكون إجماعاً، كما نبه عليه المصنّف في أوائل المعتبر (3).
ووجه ضعف الدلالة أنّ الشيخ(4)، والجماعة احتجوا على ذلك بقوله تعالى: «فَإِذَا أَنسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ»(5)، فإنَّه أوجب القتال عند الانسلاخ، وهو متحقق في كلّ سنة مرّةً.
وفيه أنّ الأمر لا يقتضى.التكرار.
ص: 496
• وهل تجوز أكثر من أربعة أشهر؟ قيل: لا؛ لقوله تعالى: «فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وقيل : نعم؛ لقوله تعالى: «وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا»، والوجه مراعاة الأصلح.
• ولا تصح إلى مدةٍ مجهولةٍ، ولا مطلقاً، إلا أن يشترط الإمام لنفسه الخيار في النقض متى شاء.
ولو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء، مثل التظاهر بالمناكير وإعادة من يهاجر من النساء، فلو هاجرت وتحقق إسلامها لم تعد. • لكن يعاد على زوجها ما سلّم إليها من مهر خاصةً إذا كان مباحاً، ولو كان محرَّماً لم يُعد ولا قيمته.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وهل تجوز أكثر من أربعة أشهر ؟ قيل : لا - إلى قوله - والوجه مراعاة الأصلح».
الوجه هو الوجه، والجواب عن الآية الأُولى أن الأمر لا يقتضى الفور عند المحقّقين.
والسلم في الآية الثانية - بفتح السين وكسرها - الصلح، يُذكّر ويُؤنّث، ومن ثم أعاد ضمير «لها» إليه مؤنّثاً، فإنّ التأنيث فيه أفصح، و«اللام» يجوز أن تكون بمعنى «إلى» لأنّ جنح» بمعنى مال، فتكون «اللام» هي المعدية للفعل، ويجوز أن تكون معدّيةً للفعل بنفسها، وأن تكون تعليلية بمعنى من أجلها.
قوله: «ولا تصح إلى مدةٍ مجهولة، ولا مطلقاً - إلى قوله - متى شاء».
يمكن عود الاستثناء إلى كلّ من الجملتين، أعني المتضمّنة للمدّة المجهولة والمتضمنة للإطلاق لاشتراكهما في الحكم، وهو المنع.
أمّا في المطلق فلاقتضائه التأبيد، وهو غير جائزٍ.
وأما في مجهول المدّة؛ فلأنه عقد مشتمل على أجل، فيشترط فيه العلم كغيره؛ دفعاً للضرر.
ووجه الجواز مع شرط الخيار ارتفاع الجهالة حينئذٍ، فإنّ ذلك واقع بمشيئة الجميع.
قوله: «لكن يعاد على زوجها ما سلّم إليها من مهر خاصةً» إلى آخره.
ص: 497
تفریعان :
الأوّل: إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد؛ لأنّها بحكم المسلمة.
الثاني : لو قدم زوجها وطالب المهر فماتت بعد المطالبة دفع إليه مهرها. ولو ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه، وفيه تردّد.
ولو قدمت فطلقها بائناً لم يكن له المطالبة.
ولو أسلم في العدّة الرجعية كان أحق بها.
-------------------------------------------------------------------
احترز ب«خاصّةً» عن النفقة وغيرها ممّا غرمه عليها، فإنّه لا يعاد عليه.
وكذا لا يعاد المهر إلا إذا طلبه الزوج أو وكيله من الإمام أو نائبه، فيدفعه إليه من بيت المال وإن كانت عينه باقيةً.
ويستفاد من قوله «ما سلّم إليها» أنه لو لم يكن قد سلّم إليها المهر أو بعضه لم يُدفع إليه شيء، والأمر فيه كذلك عملاً بظاهر الآية(1).
وشرط بعض الأصحاب مع ذلك كون الطلب في العدة؛ إذ لا زوجية بعد العدّة(2)، فلا تفويت حتى يعوض عنه بالمهر.
قوله: «ولو ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه، وفيه تردّد».
منشؤه من أنّ الحيلولة حصلت بالموت فلا يستحقّ مهراً، ومن سبق الإسلام عليه الموجب للحيلولة فيجب.
ويشكل بأنّ الاستحقاق مشروط بالمطالبة، لا بمجرّد الحيلولة، ولم يتحقّق إلا بعد الموت، فلم يؤثر ؛ إذ لم يمنع حينئذٍ منها، وإنما منعه الموت.
والأقوى أنّه لا شيء له.
ص: 498
أمّا إعادة الرجال فمن أمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة وما ماثل ذلك من أسباب القوّة، جاز إعادته، وإلّا منعوا منه
• ولو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقاً قيل: يبطل الصلح؛ لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه يتناول من لا يؤمن، وكلّ من وجب ردّه لا يجب حمله، وإنما يخلّى بينه وبينهم.
• ولا يتولّى الهدنة على العموم ولا لأهل البلد والصقع إلا الإمامُ أو من يقوم مقامه.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقاً قيل: يبطل الصلح» إلى آخره.
الظاهر من الإطلاق أنّه لم يقيد شرط إعادة الرجال بقيد، بل أطلق الإعادة. ووجه البطلان تناول الإطلاق من لا يؤمن افتتانه وهو غير جائز، ومن إمكان حمل المطلق على ما يصحّ.
والأقوى البطلان.
ولو أريد بالإطلاق اشتراط إعادة من يؤمن افتتانه ومن لا يؤمن مصرّحاً بذلك، كان الشرط فاسداً قطعاً، ويتبعه فساد الصلح على الأقوى.
ويمكن أن يريد هذا المعنى، ويكون نسبة البطلان إلى القيل؛ بناءً على التردد في فساد العقد المشتمل على شرطٍ فاسدٍ.
وسيأتي في البيع ما يشعر بتوقّف المصنّف في ذلك كما هنا.
قوله: «ولا يتولّى الهدنة على العموم ولا لأهل البلد والصقع إلا الإمامُ أو من يقوم مقامه».
احترز بالعموم عن هدنة غيرهما لآحاد المشركين وأهل القرية الصغيرة، فإنّه جائز كما مرّ؛ لأن جواز أمانهم يتضمّن المهادنة على ترك الحرب.
والصُقع - بضم الصاد : الناحية.
ص: 499
الأولى: كلّ ذمّي انتقل عن دينه إلى دين لا يُقرّ أهله عليه، لا يُقبل منه إلا الإسلام أو القتل. • أما لو انتقل إلى دين يُقرّ أهله، كاليهودي ينقل إلى النصرانية أو المجوسيّة قيل: يُقبل؛ لأنّ الكفر ملّة واحدة، وقيل: لا؛ لقوله تعالى: »وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ». وإن عاد إلى دينه قيل: يُقبل، وقيل : لا، وهو الأشبه.
• ولو أصرّ فقتل، هل يملك أطفاله؟ قيل: لا؛ استصحاباً لحالهم الأُولى.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «أما لو انتقل إلى دين يقرّ أهله - إلى قوله - قيل: يُقبل؛ لأن الكفر ملة واحدة، وقيل : لا ؛ للآية».
عدم القبول أقوى؛ لعموم الآية (1)، ولا يلزم من كون الكفر ملّةً واحدةً إقراره مع معارضة الآية.
والحقّ أنّه كالملة الواحدة، لا نفس الملة؛ للقطع بأنها ملل متعدّدة متباينة.
قوله: «وإن عاد إلى دينه قيل : يُقبل، وقيل: لا، وهو الأشبه».
عدم القبول أقوى؛ لعموم الآية (2) أيضاً، ولا يلزم من جواز استدامته جواز ابتدائه؛ المعارضة الآية للثاني دون الأوّل، ولأنّ الاستدامة أقوى من الابتداء، فلا يلزم من تأثير القوي في الإقرار تأثير الضعيف فيه.
قوله: «ولو أصرّ فقتل، هل يملك أطفاله؟ قيل: لا؛ استصحاباً لحالهم الأولى».
عدم تملكهم أقوى؛ لأنّه لم يقع منهم ما يوجب ذلك، ووجه التملك تبعيتهم له في الأحكام، والعموم ممنوع.
ص: 500
الثانية: إذا فَعَل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم، وليس بسائغ في الإسلام، لم يتعرّضوا، وإن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب شرع الإسلام، وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم، كالزنى واللواط، فالحكم فيه كما في المسلم. • وإن شاء الحاكم دفعه إلى أهل نحلته، ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم.
الثالثة: • إذا اشترى الكافر مصحفاً لم يصح البيع، وقيل: يصحّ ويرفع يده، والأوّل أنسب بإعظام الكتاب العزيز، ومثل ذلك كتب أحاديث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وقيل: يجوز على كراهيةٍ، وهو الأشبه.
الرابعة: • لو أوصى الذمّى ببناء كنيسة أو بيعة لم يجز؛ لأنّها معصية.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن شاء الحاكم دَفَعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم».
هذا إذا كان له - مع تحريمه عندهم - عقوبة؛ إذ لا يلزم من تحريمه ذلك، وحينئذٍ فيجوز دفعه إليهم، سواء وافقونا في العقوبة كمّاً وكيفاً، أم لا.
وإن لم يكن له عندهم عقوبة تعيّن حده؛ لئلا يعطل، وهذا التقييد هو الظاهر من عبارة المصنّف في تعليله.
قوله: «إذا اشترى الكافر مصحفاً لم يصح البيع - إلى قوله - والأول أنسب بإعظام الكتاب العزيز».
إنما قال: إنه أنسب؛ لعدم وقوفه على دليل صريح في بطلان العقد، وغاية ما فيه التحريم، وهو لا يقتضي الفساد مطلقا في العقود، فيصح البيع، ويجبر على بيعه لمسلمٍ، لكن مناسبة التعظيم لكتاب اللّه تعالى تقتضيه.
وألحق الشيخ به كتب الأحاديث النبويّة (1)، ولا ريب أنه أحوط وأولى.
قوله: «لو أوصى الذمّى ببناء كنيسة أو بيعة لم يجز؛ لأنّها معصية» إلى آخره.
ص: 501
وكذا لو أوصى بصرف شيء في كتابة التوراة والإنجيل؛ لأنها محرّفة.
• ولو أوصى للراهب والقسيس جاز، كما تجوز الصدقة عليهم.
الخامسة: يكره للمسلم أُجرة رمّ الكنائس والبيع من بناء ونجارةٍ وغير ذلك.
-------------------------------------------------------------------
المعروف من البيعة والكنيسة كونهما بيتاً لعبادتهم، فمن ثُمَّ لم تجز الوصية؛ لأنّ صلاتهم معصية، أمّا لو جعلها للمارة منهم أو ممّا يعمّ المسلمين جاز؛ لأن مجرد نزولهم ليس بمعصية، إلا أنّ في ذلك خروجاً عن مفهوم الكنيسة والبيعة.
ولو شرّك في وصيته بين النزول والصلاة، ففي بطلان الوصية في الصلاة خاصّةً، فيبنى بنصف الثلث لنزول المارّة، أو يصح من الثلث ويمنعون من الصلاة فيها، وجهان.
واعلم أنّ الشهيد (رحمه اللّه) قيد المنع بكون وصيّته في موضع لا يجوز لهم استحداثها فيه فلو كان في أرضهم صحت الوصيّة(1).
والظاهر أنّ هذا التقييد ليس بشيء، بل الكلام إنما هو مع جواز إحداثهم؛ لأن المنع هنا من جهة الوصية حيث اشتملت على محرم، فليس لنا أن ننفّذها لو ترافعوا إلينا؛ لأن المراد من صحّتها ترتّب أثرها عليها وتنفيذها، ولو لم يترافعوا إلينا لم نتعرّض لهم، وكذا القول في نظائره.
قوله: «ولو أوصى للراهب والقسيس جاز، كما تجوز الصدقة عليهم».
أي تجوز وصيّة الذمّي لهما، إذ ليست وصيّةٌ في محرَّم، فإن الصدقة عليهما وعلى غيرهما من أهل الذمة جائزة، والوصية في معناها.
وضمير «عليهم» يمكن عوده إلى أهل الذمة وإن لم يتقدّم لهم ذكر ؛ لدلالة المقام، وسياق الكلام.
ويمكن عوده إلى القسيس والراهب مجازاً، أو بناء على أن أقل الجمع اثنان أو إلحاقاً لهما بالمتعدّد، بسبب لام الجنس و إن كان ذلك لا يخلو من تكلّف، والأول أجود.
ص: 502
• يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا ندب إليه الإمام، عموماً أو خصوصاً، أو من نصبه الإمام والتأخّر عنه كبيرة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «في قتال أهل البغي».
البغي - لغة - يطلق على مجاوزة الحدّ، وعلى الظلم، وعلى الاستعلاء، وعلى الاستطالة، وعلى طلب الشيء، يقال: بغى الشيء إذا طلبه (1).
وفي عرف الفقهاء الخروج عن طاعة الإمام على الوجه الآتي.
ويمكن اشتقاق الباغي من كلّ واحدٍ من المعاني السابقة؛ لتجاوزه للحدّ المرسوم له، ولأنّه ظالم بذلك، ولاستعلائه، واستطالته على الإمام، وطلبه ذلك.
قوله: «يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا ندب إليه الإمام».
إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الخارج بين القليل والكثير حتى الواحد، كابن ملجم لعنه اللّه، وبذلك صرّح العلّامة في التذكرة والمنتهى وقواه(2)، وهو حسن.
واعتبر الشيخ (رحمه اللّه) كثرتهم ومنعتهم، فلو كانوا نفراً يسيراً كالواحد والاثنين والعشرة فليسوا أهل بغي، بل قطاع طريق، ويعتبر مع ذلك خروجهم عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية، فلو كانوا معه فليسوا بأهل بغي، وأن يكون لهم تأويل سائغ عندهم، وإلا فهم قطّاع طريق حكمهم حكم المحارب (3).
ص: 503
• وإذا قام به من فيه غناء سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام على التعيين.
والفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين، وتجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا.
ومن كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم واتّباع مدبرهم، وقتل أسيرهم.
ومن لم يكن له فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم، فلا يتبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يُقتل لهم مأسور.
مسائل :
الأولى: لا يجوز سبى ذراري البغاة، ولا تملك نسائهم إجماعاً.
الثانية: • لا يجوز تملك شيء من أموالهم التي لم يحوها العسكر، سواء كانت
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإذا قام به من فيه غناء سقط عن الباقي».
الغناء - بفتح الغين المعجمة -: النفع والإجزاء، والكلام في هذه الأحكام كما تقدّم في حرب المشركين.
قوله: «لا يجوز تملك شيء من أموالهم التي لم يحوها العسكر».
هذا موضع وفاق، وقد ادعى الإجماع على ذلك جماعة من الأصحاب (1)، حتى الشهيد في الدروس(2).
ومنه يستفاد تحريم أموال سائر فرق الإسلام وإن حكم بكفرهم، لأنّ هذا الوصف ثابت البغاة وزيادة مضافاً إلى ما دلّ عليه من الكتاب (3) والسُنّة (4).
ص: 504
ممّا يُنقل كالثياب والآلات، أو لا يُنقل كالعقارات؛ لتحقق الإسلام المقتضى لحقن الدم والمال.
وهل يؤخذ ما حواه العسكر ممّا يُنقل ويحوّل ؟ قيل: لا ؛ لما ذكرناه من العلّة، وقيل :نعم عملاً بسيرة علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو الأظهر.
الثالثة: ما حواه العسكر للمقاتلة خاصةً يقسّم للراجل سهم وللفارس سهمان، ولذي الفرسين أو الأفراس ثلاثة.
من منع الزكاة لا مستحلاً فليس بمرتد، ويجوز قتاله حتّى يدفعها.
-------------------------------------------------------------------
وكذا يحرم سبي نسائهم، وتملك ذراريهم على المشهور.
قوله: «وهل يؤخذ ما حواه العسكر ممّا يُنقل ويُحوّل ؟ - إلى قوله - وهو الأظهر».
القول بالجواز للأكثر، ومنهم المصنّف والعلّامة في المختلف(1)، ومن حُججهم سيرة عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أهل الجمل، فإنّه قسمه بين المقاتلين، ثمَّ ردّه على أربابه (2).
والقول بالمنع للمرتضى وابن إدريس(3)، وقواه في الدروس؛ محتجاً عليه بسيرة عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً في البصرة، فإنّه أمر بردّ أموالهم، فأخذت حتى القِدْر كفّأها صاحبها لما عرفها. ولم يصبر على أربابها(4).
والظاهر من الأخبار (5) أنّ ذلك بطريق المنّ لا الاستحقاق.
ص: 505
• ومن سبّ الإمام العادل وجب قتله.
وإذا قاتل الذمّي مع أهل البغى خرق الذمّة.
وللإمام أن يستعين بأهل الذمة في قتال أهل البغي.
• ولو أتلف الباغي على العادل مالاً أو نفساً في حال الحرب ضمنه.
ومن أتى منهم بما يوجب حداً واعتصم بدار الحرب، فمع الظفر يقام عليه الحدّ.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ومن سبّ الإمام العادل وجب قتله».
لأنه كافر، ويجب قتله على كل سامع مع الأمن، وقد تقدّم(1).
قوله: «ولو أتلف الباغي على العادل مالاً أو نفساً في حال الحرب ضمنه».
المراد بالعادل هنا من كان متابعاً للإمام العادل وإن كان ذميّاً.
قوله: «ومن أتى منهم ما يوجب حداً واعتصم بدار الحرب فمع الظفر يقام عليه الحدّ».
نبّه بذلك على خلاف بعض العامة، حيث ذهب إلى عدم وجوب حدّهم بذلك؛ إلحاقاً لهم بأهل الحرب (2).
وهو ممنوع؛ لأنه متلبس بالإسلام، ومعتقد وجوب العبادات الإسلامية والحدود الشرعيّة، فيقام عليه كغيره من المسلمين.
ص: 506
• المعروف هو كلّ فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه إذا عرف فاعله ذلك، أو دلّ عليه.
-------------------------------------------------------------------
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قوله: «المعروف هو كل فعل حسن اختص بوصفٍ زائد إلى قوله أو دلّ عليه».
المراد بالفعل الحسن هنا الجائز بالمعنى الأعم، الشامل للواجب والمندوب والمباح والمكروه.
وقد عرّفوه بأنه ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله، أو ما لم يكن على صفةٍ تؤثر في استحقاق الذمّ، ويقابله القبيح.
وخرج بقوله «اختص بوصف زائد على حسنه» المباح فإنّه لا يختص بوصف زائدٍ.
ولا بدّ من إخراج المكروه أيضاً؛ لأنّه ليس بمعروف، مع دخوله في تعريفي الحسن، بل قد صرّحوا بدخوله فيه، وأنه يقابل القبيح خاصة، والمراد به الحرام.
وفي خروج المكروه بالوصف الزائد نظر؛ لأنه لم يشترط في الوصف كونه راجحاً، ولا شكّ أنّ الوصف المرجوح يطلق عليه اسم الوصف الزائد على الحسن، وكأنّه لمّا أُخرج المباح من المعروف اقتضى خروج المكروه بطريق أولى، لكن هذا القدر لا يكفي في صحة التعريف.
وقوله «إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه» قيد للمعروف من حيث يؤمر به، لا له في حدّ ذاته؛ لأنّ العلم به غير شرط في كونه حسناً ومعروفاً.
ص: 507
• والمنكر كلّ فعل قبيح عرف فاعله قبحه، أو دلّ عليه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إجماعاً،• ووجوبهما على الكفاية، يسقط بقيام من فيه كفاية، وقيل: بل على الأعيان، وهو أشبه.
-------------------------------------------------------------------
وقد يطلق الحسن على ما له مدخل في استحقاق المدح، فيتناول الواجب والمندوب خاصّةً.
وكأنّ إرادة هذا المعنى هنا أولى، ليتحقّق خروج المكروه، ولا يجوز أن يريد المصنّف هذا المعنى، وإلا لاستغنى عن زيادة القيود في التعريف.
قوله: «والمنكر كلّ فعل قبیح عرف فاعله قبحه، أو دلّ عليه».
المراد بالقبيح الحرام كما مرّ، وتعريفه ما ليس للعالم بحاله القادر عليه أن يفعله، أو الذي على صفةٍ تؤثر في استحقاق الذم وعلى هذا فالمكروه خارج من القسمين، فلا يتحقّق النهي عنه ولا الأمر به، وكان ينبغي إدراجه في النهي ؛ فإنّ النهي عنه مستحبٌّ، كالأمر بالمندوب، كما صنع بعض الأصحاب(1).
والظاهر أنّ سبب إهماله عدم دخوله في اللفظين - أعني المعروف والمنكر - واشتهار استعمال العنوان بهذين اللفظين.
ويمكن دخوله في المندوب باعتبار استحباب تركه، فإذا كان تركه مندوباً تعلّق الأمر به وهذا هو الأولى.
قوله: «ووجوبهما على الكفاية، يسقط بقيام من فيه كفاية، وقيل: بل على الأعيان، وهو أشبه».
ما اختاره المصنّف (رحمه اللّه) من وجوبه على الأعيان مذهب الشيخ (رحمه اللّه)(2) وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين (3)؛ عملاً بعموم الآيات(4) والأحاديث(5).
ص: 508
والمعروف ينقسم إلى الواجب والندب، فالأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب، والمنكر لا ينقسم فالنهي عنه كله واجب.
• ولا يجب النهي عن المنكر ما لم تكمل شروط أربعة:
الأوّل: أن يعلمه منكراً، ليأ من الغلط في الإنكار.
-------------------------------------------------------------------
وأقوى القولين الأول؛ لقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»(1)، ولأن الغرض الشرعي وقوع المعروف وارتفاع المنكر، ولا يظهر تعلّق الغرض بمباشر معيّن، والعمومات غير منافية لذلك؛ لأن الواجب الكفائي يخاطب به جميع المكلّفين، كالواجب العيني، وإنّما يسقط بقيام بعضهم به عن الباقين، حتى لو لم يمكن حصوله إلا بقيام الكلّ وجب القيام على الكلّ، فقد اشتركا في الحكم من هذه الجهة، وفي سقوط الوجوب بعد حصول المطلوب من ترك المنكر وفعل المعروف؛ لفقد شرط الوجوب الذي هو إصرار العاصي.
وإنما تظهر فائدة القولين في وجوب قيام الكلّ به قبل حصول الغرض - وإن قام به من فيه الكفاية - على القول بالوجوب العيني، وسقوط الوجوب عمّن زاد على من فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر، بل بظنّ قيام من فيه الكفاية على ما هو المشهور بينهم، وإن كان هذا القسم موضع النظر.
قوله: «ولا يجب النهي عن المنكر ما لم تكمل شروط أربعة» إلى آخره.
لا فرق في الاشتراط بالأمور الأربعة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتخصيصه النهي لا يظهر وجهه.
وقد يناقش في اعتبار الشرط الأول؛ نظراً إلى أنّ عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم، وإنّما ينافيه نفس الأمر والنهي؛ حذراً من الوقوع في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وحينئذٍ فيجب على من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة عدلين أن يتعلم ما يصح معه الأمر والنهي،
ص: 509
الثاني: • وأن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب.
الثالث: • أن يكون الفاعل له مُصرّاً على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع، سقط الإنكار.
-------------------------------------------------------------------
ثمَّ يأمر أو ينهي كما يتعلّق بالمحدث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل شروطها، وحينئذٍ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حالة جهله، وبين وجوبهما عليه، كما تجب الصلاة على المحدث والكافر، ولا تصح منهما على تلك الحالة.
قوله: «وأن يجوز تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب».
المراد بالتجويز في هذا المحلّ أن لا يكون التأثير عنده ممتنعاً، بل يكون ممكناً بحسب ما يظهر له من حاله، وهذا يقتضي الوجوب ما لم يعلم عدم التأثير وإن ظنّ عدمه؛ لأنّ التجويز قائم مع الظنّ، وهذا هو الذي يقتضيه إطلاق الأوامر، لكن المصنّف (رحمه اللّه) والعلّامة أسقطا الوجوب بظنّ العدم، مع فرضهما في أوّل كلامهما التجويز في الوجوب(1).
وفي الدروس جعل شرط الوجوب إمكان التأثير (2)، وأطلق، وهو أجود.
نعم، يتمشى ذلك في الشرط الرابع، كما ذكره؛ لأنّ الضرر المسوغ للتحرّز منه يكفي فيه ظنه، كما في نظائره من الموارد الشرعيّة، بخلاف الأول؛ لأنّ غايته أن يظهر عدم التأثير، ولا ضرر فيه، ومن ثَمَّ قيل (3) هنا: إنّ الوجوب عند عدم تجويز التأثير يندفع، دون الجواز، بل الاستحباب بخلافه مع ظنّ الضرر، فإنّ الجواز يرتفع أيضاً مع الوجوب.
قوله: «وأن يكون الفاعل له مُصرّاً على الاستمرار - إلى قوله - سقط الإنكار».
لا إشكال في الوجوب مع الإصرار، وإنّما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع، فإنّ الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم.
وفي الدروس أنه مع ظهور الأمارة يسقط قطعاً (4).
ص: 510
الرابع: وأن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجه الضرر إليه أو إلى ماله، أو إلى أحدٍ من المسلمين سقط الوجوب.
• ومراتب الإنكار ثلاث بالقلب، وهو يجب وجوباً مطلقاً، وباللسان، وباليد.
ويجب دفع المنكر بالقلب أوّلاً، كما إذا عرف أنّ فاعله ينزجر بإظهار الكراهة وكذا إن عرف أنّ ذلك لا يكفي، وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر، وجب واقتصر عليه.
-------------------------------------------------------------------
ويلحق بعلم الإصرار اشتباه الحال، فيجب الإنكار وإن لم يتحقّق الشرط الذي هو الإصرار. ومثله القول في الأمر بالمعروف.
وينبغي عند فقد هذا الشرط - مع سقوط الوجوب - ثبوت تحريمه أيضاً، وكذا القول في الشرط الرابع.
قوله: «ومراتب الإنكار ثلاث بالقلب، وهو يجب وجوباً مطلقاً».
اعلم أنّ الإنكار القلبي يطلق في كلامهم على معنيين:
أحدهما: إيجاد كراهة المنكر في القلب، بأن يعتقد وجوب المتروك، وتحريم المفعول، مع كراهته للواقع.
والثاني: الإعراض عن فاعل المنكر، وإظهار الكراهة له بسبب ارتكابه.
والمعنى الأول يجب على كلّ مكلّفٍ؛ لأنّه من مقتضى الإيمان وأحكامه، سواء كان هناك منكر واقع أم لا، وسواء جوّز به التأثير أم لا، إلا أن هذا المعنى لا يكاد يدخل في معنى الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر؛ لاقتضائهما طلب الفعل والترك، ولا طلب في هذا المعنى، فلا يُعدّ معتقده أمراً ولا ناهياً، بخلاف المعنى الثاني، فإنّ الإنكار والطلب يتحقّقان في ضمنه، ووجوبه مشروط بالشرائط المذكورة؛ لأنّه يظهر على فاعله حتماً، ويجري فيه خوف ضرر وعدمه، وتجويز التأثير وعدمه، ومن هذا يُعلم أنّ المعنى الأوّل لا يدخل في إطلاق قوله « ولا يجب النهي ما لم تكمل شروط أربعة».
ص: 511
ولو عرف أنّ ذلك لا يرفعه انتقل إلى الإنكار باللسان، مرتباً الأيسر من القول فالأيسر.
• ولو لم يرتفع إلا باليد، مثل الضرب وما شابهه جاز.
-------------------------------------------------------------------
إذا تقرّر ذلك فقول المصنّف «ومراتب الإنكار ثلاث بالقلب، وهو يجب وجوباً مطلقاً» إن أراد به المعنى الأول - كما هو الظاهر من الإطلاق - أشكل دخوله في مراتب الإنكار والنهي، وبأنّ هذا القسم لا يشترط بالشروط المذكورة، مع دخوله في مطلق النهي أوّلاً وآخراً، إلا أن يقال: قيد الإطلاق هنا في قوة الاستثناء مما تقدّم.
وإن أراد به المعنى الثاني، كما يشعر به قوله ويجب دفع المنكر بالقلب أولاً كما إذا عرف إلى آخره، لم يكن للتقييد بالإطلاق فائدة؛ لأنّ إظهار الكراهة الذي جعله معنى الإنكار القلبي ثانياً مشروط بتجويز التأثير وانتفاء المفسدة، كغيره من باقي المراتب بغير إشكال، فاللازم حينئذٍ إما ترك الإطلاق، أو ترك التشبيه بقوله «كما إذا عرف أنّ فاعله ينزجر» إلى آخره.
ويمكن أن يكون (رحمه اللّه) قد حاول ذكر المعنيين معاً، فأشار إلى الأوّل بالإطلاق، وإلى الثاني بالتمثيل المذكور، إلا أنّ نظم العبارة بذلك غير جيّدٍ.
وكذلك عبارة العلّامة في سائر كتبه، بل فيها ما هو أزيد تهافتاً، فإنّه يصرح بجعل الواجب القلبي المطلق هو إظهار الإعراض(1).
وكأنّ الأُولى في ذلك كله ترك قيد الإطلاق، وإرادة المعنى الثاني؛ لأنه هو الذي يدخل في حقيقة الطلب، ويمكن عدّه في الأمر والنهي.
قوله: «ولو لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب وما شابهه جاز».
ويجب فيه الاقتصار على الأسهل فالأسهل كما في اللسان، فلا يبرح بالضرب مع حصول الغرض بدونه.
ص: 512
• ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب ؟ قيل: نعم، وقيل: لا إلا بإذن الإمام وهو الأظهر.
ولا يجوز لأحدٍ إقامة الحدود، إلا الإمام مع وجوده، أو من نصبه لإقامتها.
• ومع عدمه يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه.
-------------------------------------------------------------------
وجعل الضرب مثالاً؛ تنبيهاً على أن عمل اليد لا ينحصر فيه، بل يمكن تأديه بنحو فرك الأذن وغمز البدن.
والمراد بالجواز في قوله : «جاز» معناه الأعم : لأن الانتقال إلى ذلك حين لا ينفع اللسان واجب.
قوله: «ولو افتقر إلى الجراح أو القتل، هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل : لا إلا بإذن الإمام، هو الأظهر».
القول الأول للسيّد المرتضى (رحمه اللّه)(1)، وتبعه عليه العلّامة في المختلف والمنتهى، والتحرير (2) ؛ لعموم الأوامر وإطلاقها، ولأنّ القتل والجرح غير مطلوبين بالذات.
وهو حسن بالنسبة إلى الجرح، أما القتل فغير واضح؛ لأن الأدلة لا تتناوله، لفوات معنى الأمر والنهي معه؛ إذ الغرض من هذه المراتب ارتكاب المأمور أو المنهي لما طلب منه، وشرطه تجويز التأثير، وهو لا يتحقّق مع القتل، وكونه مؤثراً في غير المأمور والمنهيّ غير كافٍ؛ لأنّ المعتبر بالذات هو، والشرط معتبر فيه خاصّةً.
والقول الثاني أشهر، لكن دليله في غير القتل غير واضح. وعلى القول بالمنع يجوز ذلك للفقيه الجامع لشرائط الفتوى إن سوّغنا له إقامة الحدود حال الغيبة.
قوله: «ومع عدمه يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه».
ص: 513
• وهل يقيم الرجل الحدّ على ولده وزوجته؟ فيه تردّد.
-------------------------------------------------------------------
جواز إقامة السيد الحدّ على مملوكه هو المشهور بين الأصحاب، لم يخالف فيه إلّا الشاذ(1).
وشرطه العلم بمقادير الحدود لأن لا يتجاوز حده، ومشاهدة الموجب، أو إقرار المملوك الكامل به، أما ثبوته بالبينة فيتوقّف على الحاكم الشرعي.
وإطلاق المولى يشمل الذكر والأنثى، وعبّر الشيخ (رحمه اللّه) ب«الإنسان»(2) الشامل لهما أيضاً، وكذلك يشمل الحر والعبد.
وتردّد في الدروس في إقامة المرأة على رقيقها، والمكاتب على رقيقه، والفاسق مطلقاً(3).
وأراد المصنّف بعدم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عدم ظهوره وبسط يده، وهو حال الغيبة، وإن كانت العبارة غير جيّدة.
قوله: «وهل يقيم الرجل الحدّ على ولده وزوجته؟ فيه تردّد».
منشأ التردد من دعوى الشيخ (رحمه اللّه) ورود الرخصة في ذلك(4)، ومن أصالة المنع، وعدم ظهور موجب الترخّص. وقد ظهر بذلك أن المنع أقوى.
ويظهر من المختلف (5) أنّ موضع النزاع ما لو كان الأب والزوج بل المولى فقيهاً، وحينئذٍ فيتّجه الجواز؛ لما سيأتي من جواز إقامة الفقيه الحدود في حال الغيبة.
ولا فرق في الزوجة بين الدائم والمنقطع، ولا في الزوجين بين الحرّين والعبدين والمفترقين، فيجتمع على الأمة ولاية الزوج والسيد.
ولا فرق في الحدّ بين ما يوجب الجلد أو الرجم أو القتل. ولا يشترط الدخول.
ص: 514
• ولو ولى وال من قبل الجائر، وكان قادراً على إقامة الحدود، هل له إقامتها ؟ قيل: نعم، بعد أن يعتقد أنه يفعل ذلك بإذن إمام الحق، وقيل: لا، وهو أحوط.
ولو اضطرّه السلطان إلى إقامة الحدود جاز حينئذٍ إجابته • ما لم يكن قتلاً ظلماً، فإنّه لا تقيّة في الدماء.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «ولو ولی وال من قبل الجائر، وكان قادراً على إقامة الحدود» إلى آخره.
ظاهر كلام الأصحاب وصريح بعضهم (1) أنّ هذا المتولّي غير فقيه شرعي، وإنما جاز له إقامة الحدود على أهلها تقيّةً للجائر، كما يجوز التقيّة فى غير الحدود كالفتوى والعبادة.
وأوجبوا عليه أن ينوى النيابة عن الإمام الحق لا الجائر.
ويقرب ذلك إن بلغ الأمر حدّ الإجبار، أو كان فقيهاً، وإلا فالمنع أقرب.
ولا يتحقّق قصد النيابة عن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع عدم اتصاف النائب بصفات الفتوى، فيكون القصد غير مؤثّر في التجويز.
ولو أُريد به الفقيه لم يكن لإفراده عن تولي الفقهاء في حال الغيبة إقامة الحدود - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - وجه، إلا أن يقال: إنه باعتبار صورة النيابة عن الجائر يتوهّم المنع وإن جاز هناك، وهو ضعيف.
قوله: «ما لم يكن قتلاً ظلماً، فإنّه لا تقيَّة في الدماء».
ألحق به الشيخ (رحمه اللّه) الجرح (2)، وهو مناسب لتعليل المصنّف، فإنّ التقية المنفية في الدماء نكرة في سياق النفي فيعم.
وفي بعض العبارات لا تقيّة في قتل النفوس، فيخرج الجرح الذي لا يفضي إليه، ولا يحضرني مستند أرتب عليه الحكم.
ص: 515
• وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت. ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك.
ولا يجوز أن يتعرّض لإقامة الحدود • ولا للحكم بين الناس إلّا عارف بالأحكام، مطلع على مآخذها، عارف بكيفيّة إيقاعها على الوجوه الشرعيّة.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وقيل : يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام» إلى آخره.
هذا القول مذهب الشيخين (رحمهما اللّه)(1) وجماعة من الأصحاب(2)، وبه رواية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)(3) في طريقها ضعف، ولكن رواية عمر بن حنظلة(4)، مؤيدة لذلك، فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كلّيّة ولطف في ترك المحارم، وحسم لانتشار المفاسد، وهو قويٌّ.
ولا يخفى أنّ ذلك مع الأمن من الضرر عليه وعلى غيره من المؤمنين.
قوله: «ولا للحكم بين الناس إلا عارف بالأحكام - إلى قوله - على الوجوه الشرعيّة». المراد بالعارف المذكور الفقيه المجتهد، وهو العالم بالأحكام الشرعيّة بالأدلّة التفصيليّة، وجملة شرائطه مفصلة في مظانّها.
وهذا الحكم - وهو عدم جواز الحكم لغير المذكور - موضع وفاقٍ بين أصحابنا، وقد صرّحوا فيه بكونه إجماعياً.
وفي حكمه الإفتاء.
والفرق بينهما أنّ الحكم إنشاء قول في حكم شرعي يتعلّق بواقعة شخصية، كالحكم على زيد بثبوت دين لعمرو في ذمته، والفتوى حكمٌ شرعي على وجه كلّي، كالحكم بأنّ قول ذي اليد مقدّم على الخارج مع اليمين، أو إخبار عن حكم معيّن بحيث يمكن جعله كليّاً،
ص: 516
• ومع اتّصاف المتعرّض للحكم بذلك يجوز الترافع إليه، ويجب على الخصم إجابة خصمه إذا دعاه للتحاكم عنده.
-------------------------------------------------------------------
كقوله: «صلاة زيد باطلة؛ لأنّه تكلّم فيها عمداً» فإنّه وإن كان حكماً جزئياً لكن يمكن جعله كلّياً، بحيث يكون هذا الجزئي من جملة أفراده، كقوله: «كلّ من تكلّم في صلاته عمداً بطلت صلاته بخلاف الحكم.
وإنّما يمتنع الفتوى لغير المتصف إذا أسندها إلى نفسه، أو يطلق بحيث لا يتميّز، أما إذا حكاها عن مجتهد يجوز العمل بفتواه، فإنّ ذلك جائز، ويجوز التمسك بقوله مع عدالته، إلا أنّ مثل هذه الحكاية لا تُعدّ فتوى، بل حكاية لها أو رواية ولو أطلق عليه الفتوى كان مجازاً. وقد صرّح الأصحاب في هذا الباب من كتبهم المختصرة والمطولة وفي غيره باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله، وأن الميت لا يجوز العمل بقوله، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يُعتد بقوله من أصحابنا، وإن كان للعامة في ذلك خلاف مشهور و تحقيق المسألة في موضع آخر.
قوله: «ومع اتصاف المتعرّض للحكم بذلك يجوز الترافع - إلى قوله - للتحاكم عنده».
المشار إليه ب«ذلك» هو كونه عارفاً بالأحكام مطلعاً على مآخذها على الوجه المعتبر.
والأصل فى ذلك ما رواه عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة فتحاكما إلى السلطان وإلى القُضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه تعالى أن يكفر بها قلت كيف يصنعان؟ قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حاكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ، وعلينا رد، والراد علينا رادٌّ على اللّه، وهو على حد الشرك باللّه عزّ وجلّ»(1). ونحوه أخبار أخر.
ص: 517
• ولو امتنع وآثر المضي إلى قضاة الجور كان مرتكباً للمنكر.
-------------------------------------------------------------------
وقد استنبط الأصحاب الشرائط المعتبرة في الاجتهاد من هذا الحديث، بل من قوله «وعرف أحكامنا» فإنّ معرفتها تتوقف على ما ذكر، ودلّ أيضاً على أنّ كلّ مَنْ كان متّصفاً بذلك فهو منصوب من قبله (عَلَيهِ السَّلَامُ) على وجهٍ كلّي، ومَنْ هذا شأنه لا ينعزل بموت الإمام الناصب له وإن كان في موت المنصوب على الخصوص خلاف.
إذا تقرّر ذلك، فيجب على مَنْ عرف الأحكام على الوجه المذكور الحكم والإفتاء كفايةً، كما يجب عليه تحصيل تلك المرتبة كذلك على المشهور.
وقيل: إن وجوب تحصيلها عينيٌ (1).
وهو ضعيف، ولكن قد يصير الواجب الكفائي عينيّاً، كما إذا لم يكن ثَمَّ قائم به، فإنّه يجب على الجميع النهوض إليه إلى أن يوجد من فيه الكفاية، ولا يكفي ظنّ وصول الناهض إلى المطلوب، فإنّ على كلّ خير مانعاً.
وإنّما يجب عليه الإفتاء والحكم إذا لم يخف على نفسه أو على أحد المؤمنين، وإلّا لم يجز التعرّض إليه بحال.
قوله: «ولو امتنع وآثر المضي إلى قضاة الجور كان مرتكباً للمنكر».
الضمير المستتر يعود إلى الخصم الذي دعاه خصمه إلى قاضي الحق، فإنّه حينئذٍ باختياره المضي إلى قاضي الجور يكون مرتكباً للمنكر فاسقاً؛ لأنّ ذلك كبيرة عندنا.
وكذا القول في المدّعي إذا قدم غريمه ابتداءً إليهم، مع إمكان تحصيل حقّه بدونه. وقد روى الشيخ - في الصحيح - عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أيّما مؤمن قدم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر، فقضى عليه بغير حكم اللّه، فقد شركه في الإثم»(2).
ص: 518
• ولو نصب الجائر قاضياً مكرهاً له جاز الدخول معه؛ دفعاً لضرره، لكن عليه اعتماد الحقّ والعمل به ما استطاع.
-------------------------------------------------------------------
وعن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): قول اللّه عزّ وجلّ: «وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكّامِ»(1) فقال: «يا أبا بصير إن اللّه عزّ وجلّ قد علم أنّ في الأمة حُكّاماً يجورون، أما إنّه لم يعن حُكّام العدل، ولكنه عنى حكام الجور، يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حقٌّ فدعوته إلى حاكم أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا عليك، كان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول اللّه عزّ و جلّ: «أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ»(2)»(3).
والأخبار في ذلك كثيرة.
إذا تقرر ذلك، فيجب كفاية - السعي على رفع ذلك وإن كان الحكم بالمتخاصمين آكد.
قوله: «ولو نصب الجائر قاضياً مكرهاً له جاز الدخول معه؛ دفعاً لضرره، لكن عليه اعتماد الحق والعمل به ما استطاع».
إنما يتوقّف الجواز على الإكراه مع عدم اتصاف الحاكم بشرائط الفتوى، وتمكّنه من إجراء الأحكام على وجهها الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا جاز قبول الولاية، بل قد يجب، وبدون ذلك لا يجوز إلّا مع الإكراه.
ويتحقّق بالخوف من المخالفة على نفسه أو ماله أو عرضه، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس في احتمال الإهانة وعدمها.
ص: 519
• وإن اضطر إلى العمل بمذاهب أهل الخلاف جاز إذا لم يمكن التخلّص من ذلك ما لم يكن قتلاً لغير مستحق، وعليه تتبع الحق ما أمكن.
-------------------------------------------------------------------
قوله: «وإن اضطر إلى العمل بمذاهب أهل الخلاف جاز - إلى قوله - لغير مستحقّ».
لا فرق في ذلك بين الفقيه الشرعي وغيره، ويجب عليه حينئذٍ التعلّق من مذاهب أهل الخلاف بالأقرب إلى الحق فالأقرب إذا أمكنه
وقد روي عن زين العابدين علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «إذا كنتم في أئمة جور، فامضوا في أحكامهم، ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا»(1).
ولو حكم بمذهب أهل الخلاف مع إمكان إنفاذه بالحق كان آثماً ضامناً.
وقد تقدّم الكلام في استثناء القتل والجرح من الإكراه، وأنه لا تقيّة فيه (2). واللّه الموفق.
تمَّ القسم الأوّل من كتاب شرائع الإسلام، وهو قسم العبادات.
وبه تمَّ الجزء الأوّل من هذا التعليق على يد مصنّفه العبد الفقير إلى عفو اللّه تعالى ورحمته، وشفاعة نبيه وأئمته زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي أحسن اللّه تعالى معاملته، وشرّف خاتمته.
وفرغ منه يوم الأربعاء لثلاثة مضت من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وتسعمائة من الهجرة الطاهرة النبوية صلوات اللّه تعالى على من شرّفت به.
ونسأل من الجواد الكريم بحقه عليه وبحق ما يراه عليه حقاً أن يصلّي عليه وعلى آله الطاهرين، وأن يوفّق لإكماله، ويجعله خالصاً لوجهه، موجباً لرضاه وإقباله، نافعاً كأصله للمستفيدين، و ذخراً ناجحاً يوم الدين.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على سيّد رسله محمد وآله أجمعين.
* * *
تمَّ الجزء الثاني - بحسب تجزئتنا - ويليه في الجزء الثالث كتاب التجارة
ص: 520