سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -
عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.
مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -
مشخصات ظاهری:ج.
شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :
یادداشت:عربی.
یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .
یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).
یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).
یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).
یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).
یادداشت:کتابنامه.
موضوع:اصول فقه شیعه
شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -
شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه
رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390
رده بندی دیویی:297/312
شماره کتابشناسی ملی:1093921
ص :1
ص :1
ص :2
ص :3
ص :4
ص :5
البحوث السابقة کانت مقدمات . و المهم هو المقاصد و الخاتمة .
و المقصدُ الأول فی الأوامر ، و هی مورد الابتلاء فی الفقه من أوّله إلی آخره ، و هی کثیرة جدّاً ، إمّا تعییناً و إمّا تخییراً ، معلَّقاً أو منجّزاً ، عینیّاً أو کفائیّاً ، توصّلیاً أو تعبّدیاً ...
فی هذا المقصد بحوث مهمّة ، کمباحث الإجزاء و اقتضاء الأمر للنهی عن الضدّ و أمثال ذلک ممّا له الأثر العلمی و العملی .
و هذا المقصد موضوعه الأمر مادّةً و صیغةً .
و البحث أوّلاً عن مادّة الأمر .
ثم عن الصّیغة .
ص:6
و فیه بحوث :
1 - ما معنی مادّة الأمر ؟
2 - هل المادّة تدلّ علی الوجوب ؟
3 - هل یعتبر فی مفهوم الأمر : العلوّ ، أو الاستعلاء ، أو لا هذا و لا ذاک ؟
قال تعالیٰ : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... » (1)و فی الحدیث : « إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم » (2) و نحو ذلک - کتاباً و سنّةً - کثیر ، فما هو مدلول هذه المادّة ؟ و هل المعنیٰ واحد أو متعدّد ؟
قیل : المعنی الموضوع له مادّة الأمر واحد و لیس بمتعدّد ، وعلیه المحقّقان المیرزا و الأصفهانی .
و قیل : لمادّة الأمر معانٍ متعدّدة ، فعدّ فی (الکفایة) سبعة ، و ذکر بعض أکثر من عشرین معنیٰ .
ثم أرجعوا تلک المعانی الکثیرة إلی معنیین ، لکنّهم اختلفوا فی
ص:7
تعیینهما :
قال صاحب (الفصول) هما : الطلب و الشأن ، و قوّی فی (الکفایة) القول بأنّهما : الطلب و الشیء ، و قال السید البروجردی : الطلب و الفعل ، و قیل :
الطلب و معنی أخص من الشیء و أعمّ من الفعل ، و قیل بدل الطلب : إبراز الاعتبار النفسانی .
هذه أهمّ الآراء فی هذا المقام .
فأمّا بناءً علی تعدّد المعنی للفظ « الأمر » ، فأقوی الأقوال المذکورة هو القول الرابع ، و یظهر ذلک من النظر فیها :
أمّا رأی صاحب (الفصول) (1) فواضح الضّعف ، إذ لا حکایة للفظ « الأمر » عن « الشأن » و لا ینسبق منه إلی الذهن .
و أمّا رأی صاحب (الکفایة) (2) من أن المعنی الحقیقی للفظ « الأمر » هو « الطلب » و « الشیء » و أنّ استعماله فی مثل « الغرض » و « الحادثة » و « الفعل » ، و نحوها هو من باب اشتباه المصداق بالمفهوم ، لأنّ « الشیء » مصداق « الغرض » مثلاً ، و لکونه مصداقاً له تخیّل أن مفهوم « الأمر » هو « الغرض » ، فقولک : « جئتک للأمر الفلانی » لیس معناه : جئتک للغرض الفلانی ، بل المعنی جئتک للشیء الفلانی ، إلّا أنه مصداقٌ للغرض ، کما یکون مصداقاً للحادثة و للفعل ... و هکذا ...
فهذا رأی المحقق الخراسانی ، لکنْ فیه :
ص:8
إنّ « الشیء » یطلق علی : الجوهر ، و العرض ، من الفعل و غیره ، و علی ذات الباری عزّ و جلّ ، لکنّ « الأمر » لا یصحّ إطلاقه علی هذه الموارد ، فلا یقال فی زید : إنه أمرٌ ، و فی الأخبار إنه یقال للّٰه« شیء » لکنّه « شیء بخلاف الأشیاء » (1) فیطلق علیه « الشیء » و لکنْ لا یطلق « الأمر » .
و قد استشکل المحقق الأصفهانی تعبیر صاحب (الکفایة) عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق ، ببیان : إن اشتباه المفهوم بالمصداق إنما یکون فی موردٍ یوضع اللفظ للمصداق بما أنه مصداق و بما هو کذلک و یستعمل فیه مع هذا اللّحاظ ، فیدّعی وضعه للمفهوم ، کما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع ، فیدّعی وضعه للغرض بالحمل الأوّلی . أما مع عدم الوضع للمصداق فلا یکون ادّعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بین المفهوم و المصداق ، و الحال فی المعانی المذکورة کذلک ، إذ لم یوضع اللّفظ لمصادیقها جزماً ، فالمتّجه علیٰ هذا التعبیر بالاشتباه ، لا غیر (2) .
قال السید الاستاذ بعد إیراده : و أنت خبیر بأنَّ هذا التعبیر کما یمکن أن یراد به ما ذکره المحقق الأصفهانی ، یمکن أنْ یراد به ما قصده المحقق الخراسانی ، إذ یصحّ التعبیر به عن دعوی الوضع للمفهوم مع استعماله فی المصداق لتخیّل استعماله فی المفهوم ، و یکون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق فی مقام الاستعمال الذی لوحظ طریقاً لمعرفة الوضع (3) .
و أمّا رأی السید البروجردی (4) ، فقد ظهر ما فیه ممّا تقدّم ، لأنه قد
ص:9
خصّ « الأمر » ب « الفعل » مع کونه یطلق علی غیر الفعل أیضاً . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : فإنّ « الفعل » لا ینسبق إلی الذهن من لفظ « الأمر » .
فظهر أن الحق کون مفهوم « الأمر » أوسع دائرة من « الفعل » و أضیق من « الشیء » .
و أمّا رأی القائل بأن مدلول « الأمر » هو الاعتبار النفسانی و إبرازه (1) ، فإنّ المولیٰ یجعل - فی عالم الاعتبار - علی ذمّة المکلَّف الحکم و یبرز اعتباره ب « الأمر » ، ففیه :
صحیح أن هناک ألفاظاً و صیغاً موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانی ، مثل صیغ العقود ، حیث تعتبر الملکیّة - مثلاً - و یبرز هذا الاعتبار بلفظ « بعتُ » ، لکنَّ هذا مطلبٌ و کون مدلول هذه الصیغة هو ذاک الاعتبار و إبرازه مطلبٌ آخر .
فالحقّ هو القول الرابع من الأقوال المذکورة .
هذا ، و ذهب المحقّقان المیرزا و الأصفهانی إلی أن مفهوم لفظ « الأمر » هو المعنی الواحد الجامع بین المعانی بنحو الاشتراک المعنوی .
أمّا المیرزا فقال : بأنه موضوع لِما هو عبارة عن « واقعة لها أهمیّة » (2)و فیه :
أوّلاً : إن هذا لا ینسبق من لفظ « الأمر » إلی الذهن .
ص:10
و ثانیاً : إنه یستلزم مجیء « الأهمیّة » إلی الذهن من قولنا « الأمر » المهم ، فیکون الکلام : الواقعة ذات الأهمیة مهمّة ، و هو کما تریٰ . کما یستلزم تجرید لفظ « الأمر » من « الأهمیّة » فی قولنا : أمر غیر مهم .
و أمّا الأصفهانی فقال (1) : إن مفهوم « الأمر » عبارة عن الإرادة البالغة حدّ الفعلیّة ، سواء کانت تشریعیّة أو تکوینیّة ، فیطلق « الأمر » فی جمیع الموارد بلحاظ کونها قابلةً لتعلّق الطلب و الإرادة ... قال السید الاستاذ : و ما ذکره لا أریٰ فیه خدشاً فلا ضیر فی الالتزام به (2) ، لکن شیخنا الاستاذ أورد علیه :
أوّلاً : أین انسباق الإرادة و الطلب من مثل : «ألا إِلَی اللَّهِ تَصِیرُ الأمُورُ » (3)؟
و ثانیاً : إنه فی مورد التشریع یصدق الأمر ، و لکنه أعم من الحقیقة ، و أمّا فی مورد التکوین فلا صدق أصلاً ، فإن اللّٰه تعالیٰ یرید مثلاً خلق فلانٍ ، لا أنه یأمر بخلقه ، فلا یصدق الأمر علی الإرادة لا لغةً و لا عرفاً .
و ثالثاً : قیاس ما نحن فیه علی « المقصد » و « المطلب » - بأن « الأمر » یطلق علی الفعل بلحاظ قابلیّته لتعلّق الإرادة تکویناً و تشریعاً ، نظیر إطلاق « المقصد » و « المطلب » علی بلحاظ تلک القابلیّة - فیه : إنه قیاس مع الفارق ، لأنه متی اطلق « المطلب » علی فعلٍ فإنه یتبادر إلی الذهن معنی الطلب من نفس الإطلاق ، أمّا إذا قیل : هل فَعَل فلانٌ الأمر الکذائی ؟ فلا ینسبق من لفظ « الأمر » مفهوم « الطّلب » .
و بعد التحقیق فی الأقوال و النظر فی أدلّتها ، فقد اختار شیخنا دام بقاه ،
ص:11
أن الاشتراک لفظی ، و لیس بمعنوی ، و أن للفظ « الأمر » معنیین مختلفین ، لوجوه :
الأوّل : التبادر ، فإن المتبادر فی مثل « هل تعلّق أمر زید بکذا » ؟ غیر ما یتبادر من مثل « هل زید فعل الأمر الکذائی » ؟
و الثانی : إن جمع « الأمر » بمعنی « الطلب » هو « الأوامر » و بالمعنی الآخر هو « الاُمور » . و اختلاف صیغة الجمع دلیل اختلاف المعنی فی المفرد .
و الثالث : إن « الأمر » بالمعنی الأول یقبل الاشتقاق ، و بالمعنی الثانی جامد .
و تلخّص :
إن المعنی مختلف ، و لا یتم إرجاعهما إلی معنیً واحد ، و الاشتراک بینهما لفظی .
و قد تقدَّم إن المعنی الأول هو « الطلب » و المعنی الثانی هو معنیً أعم من الفعل و أخص من « الشیء » و هذا القول للمحقّق العراقی (1) و قد ذکر السید الاستاذ أنّه لا یرد علیه ما ورد علیٰ صاحب (الکفایة) کما لا یرد علیه ما ورد علیٰ المحقق النائینی (2) .
هذا تمام الکلام فی البحث الأول .
و لا یخفی ، أنْ لا ثمرة لهذا النزاع ، لأن مقتضی الأصل فی حال تردّد المفهوم هو - علی کلّ تقدیرٍ - أصالة البراءة .
ص:12
و الحق : إنه یعتبر فی « الأمر » العلوّ ، و أنه لا أثر لأمر المستعلی ، لأن الأمر مفهوماً و عقلاءً من شئون العالی ، و لا أمر للدانی المستعلی ... و لا فرق فی العالی بین أنْ یکون علوّه بحقٍّ أو یکون بغیر حق .
و من الواضح أن جمیع الأوامر الشرعیّة صادرة عن العالی ، و علوّه تعالیٰ بالحق ، بل کلّ علوٍّ بالحق فإنّه من علوّه .
قبل الورود فی البحث نقول : هل مفهوم الأمر عبارة عن الطلب ، أو الطلب الخاص المبرز ، أو المجموع المرکب هو الأمر ، أو أنه ینتزع الأمر من الطلب المبرز للطلب النفسانی ؟
الظاهر هو الأخیر ، و الشاهد علیه انتزاع الأمر من قولک « آمرک » المقترن بالطلب النفسانی واقعاً .
فهل « الأمر » الذی هو عبارة عما ذکر یدل علی الوجوب ؟
فیه خلاف .
فقیل : إن مادّة الأمر حقیقة فی الندب .
و قیل : إنها مشترکة بین الوجوب و الندب ، و الاشتراک معنوی .
و قیل : لمادّة الأمر ظهور وضعی فی الوجوب .
و قیل : بل ظهور إطلاقی .
و قیل : دلالتها علی الوجوب إنما هی بحکم العقل .
و قیل : بل بالسّیرة العقلائیّة .
ص:13
و استدلّ للقول بدلالة مادّة الأمر علی الجامع المشترک بین الوجوب و الندب :
أوّلاً : بصحّة التقسیم ، لأن الأمر ینقسم إلی الأمر الوجوبی و الأمر الندبی ، و صحّة التقسیم لا یکون إلّا إذا کان القسمان داخلین فی المقسم ، فمعنی الأمر هو المقسم .
و فیه : إن هذا التقسیم صحیح ، لکنّه لیس بما للمادّة من المعنی الحقیقی ، بل هو بالمعنیٰ المستعمل فیه ، و هذا لا یثبت المعنی الحقیقی الموضوع له .
و ثانیاً : باستعمال المادّة فی موارد الندب .
و فیه : إن الاستعمال أعمّ من المعنی الحقیقی و المعنی المجازی .
و مستند القول بوضع مادّة الأمر للندب هو قولهم : فعل المندوب طاعة ، و کلّ طاعة مأمور بها ، فالمندوب مأمور به .
و فیه : أوّلاً : هذا القیاس إنْ تم فیدلّ علی استعمال المادّة فی الندب ، أما کون الندب هو الموضوع له فلا یثبته ، لأن الأعمّ لا یدلّ علی الأخص ، لاحتمال الوضع للمشترک المعنوی بین الوجوب و الندب .
و ثانیاً : القیاس المذکور یشتمل علی مصادرة ، فقولهم ، « کلّ طاعة مأمور بها » أوّل الکلام .
و استدلّ للقول بوضع مادّة الأمر للوجوب بوجوه :
الأوّل : قوله تعالی : «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
ص:14
یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ » (1). فاللّٰه سبحانه قد رتّب ما یلزمه الطلب الوجوبی و هو :
1 - الحذر عن المخالفة ، فإنّ مخالفة الأمر الندبی لا حذر فیها
2 - الفتنة و العذاب الألیم ، فإنّه لا یترتب علی مخالفة الأمر الندبی العذاب الألیم .
و من الواضح : أنّ الأثرین المذکورین یترتّبان علی مخالفة أمر الإمام علیه السلام أیضاً ، فالأوامر الواردة فی الکتاب و المرویّة عن النبی و الأئمة ظاهرة فی الوجوب .
و الثانی : قوله صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : « لو لا أنْ أشقّ علی امّتی لأمرتهم بالسواک » (2) .
و تقریب الاستدلال :
1 - إن فی « الأمر » مشقة ، و هذا دلیل علی أنّه للوجوب ، إذ لیس فی الندب مشقة .
2 - إن من المسلَّم به کون السواک مندوباً ، و مفاد الحدیث عدم کون المندوب مأموراً به ، و معنی ذلک أنه فی مورد الندب لا یأتی الوجوب .
* أجاب المحقّق الخراسانی عن الاستدلال بالآیة و نظائرها و بالحدیث المزبور :
بأنّ غایة ما یستفاد منها استعمال مادّة الأمر فی الوجوب ، و الاستعمال أعم من الحقیقة .
ص:15
و أورد الاستاذ دام بقاه : بأن دلالة الآیة علی ترتب العذاب علی مخالفة الأمر - بما هو أمر - ظاهرة من دون أیّة قرینةٍ أو عنایة ، و لذا استفاد الشیخ و الطبرسی (1) فی تفسیریهما ، و کذا کبار الاصولیین ، دلالة الآیة علی الوجوب ...
و هکذا الکلام فی الحدیث ، و کلامنا فی دلالة أوامر الکتاب و السنّة .
فإن قلت : فقد ورد أن الأمر منه ما هو فرض و منه ما هو نفل .
قلت : لکنّ الکلام فی ثبوته .
و الحاصل : عدم تمامیة جواب صاحب (الکفایة) .
* و أجاب المحقّق العراقی رحمه اللّٰه (2) : بأنّ الاستدلال بالآیة و الروایة موقوف علی القول بتقدّم التخصّص فی مورد دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص ، و هو باطلٌ ، لعدم وجود أصل فی المقام المزبور یقتضی ذلک .
و ما قیل من أنّه مقتضی أصالة العموم ، ففیه : إن مدرک جریان الأصل المذکور هو السیرة العقلائیّة ، و هی هنا منتفیة و مفقودة .
و أمّا انطباق تلک الکبریٰ علی ما نحن فیه ، فهو من جهة أنّ عدم ترتّب العذاب و الفتنة علی مخالفة الأمر الندبی ، لا یُعلم هل هو من جهة عدم وجود الأمر فی مورد الاستحباب فالخروج موضوعی ، أو أنه یوجد الأمر لکنّه مخصّص .
قال شیخنا دام بقاه : إنّ هذا الجواب و إنْ کان دقیقاً و قد ارتضاه بعضهم ، لکن لا یمکن المساعدة علیه .
فأجاب فی الدورة السّابقة بعدم ابتناء الاستدلال بالآیة و الروایة علی
ص:16
القاعدة المذکورة حتی یجاب عنه بما قال ، لأنّ وجه الاستدلال هو إن حدود مفاهیم الألفاظ یرجع فیها إلی أهل اللّسان ، سواء کانت تلک القاعدة موجودةً أو لا ، و قد رأینا أن النبیّ صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم - و هو أفصح الناس - یفید کلامه أنّ الطلب الندبی غیر داخلٍ فی مفهوم الأمر . هذا بالنسبة إلی الحدیث .
و کذا بالنسبة إلی الآیة ، فإنّ اللّٰه سبحانه قد رتّب علی الأمر - بما هو أمر شیئاً لا یترتَّب علی الطلب الندبی ، و هو الفتنة و العذاب الألیم ، و بذلک یظهر حدّ المعنی و مفهوم اللّفظ ، بغضّ النظر عن القاعدة ، و لذا نری أنّ من الاصولیین من لا یلتفت إلی القاعدة أو یلتفت إلیها و لکنّ مبناه أن مقتضی الأصل لیس هو تقدّم التخصّص ، و مع ذلک یستدل بالآیة و الروایة ، و هذا من شواهد ما ذکرناه .
و أجاب دام بقاه فی الدورة اللّاحقة بما هو أدق فقال :
إنه یعتبر فی مورد دوران الأمر بین التخصیص و التخصّص أنْ یکون قابلاً لهما ، کخروج زید عن « أکرم العلماء » ، أمّا المورد الذی لا یکون الحکم فیه قابلاً للتخصیص ، فلیس بموضوع لکبری تلک القاعدة ، و الآیة الکریمة من هذا القبیل ، لأنّ ترتّب العذاب بلا استحقاقٍ له محال ، کما فی قوله تعالی :
« وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولاً » (1)، و استحقاق العذاب من الأحکام العقلیّة ، و الأحکام العقلیّة لا یدور أمرها بین التخصیص و التخصّص ، فمورد عدم استحقاق العقاب - و هو الأمر الندبیّ - خارج خروجاً تخصّصیاً ، فالکبریٰ غیر منطبقة علی الآیة المبارکة .
* و قد یجاب : بأنّ « الأمر » یقابل « النهی » أی الزجر ، و کما أنّ الزجر
ص:17
ینقسم إلی الزجر التنزیهی و الزجر التحریمی ، فکذلک الأمر - بقرینة التقابل - ینقسم إلی الوجوبی و الندبی .
و فیه : إن انقسام النهی إلی القسمین أوّل الکلام ، و علی فرض التسلیم فهل هو تقسیم علی الحقیقة أو الأعمّ من الحقیقة و المجاز ؟
ثم قال شیخنا دام ظلّه : بأن الحق فی الجواب عن الاستدلال بالآیة و الروایة و أمثالهما هو :
إن الأمر کما اطلق فی الکتاب و السنّة و دلّ علی الوجوب ، کذلک قد اطلق فی موارد لا یمکن حمل الأمر فیها علی الوجوب ، کما فی قوله تعالی :
« إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » (1)لوضوح أنّ مطلق العدل و مطلق الإحسان لیسا بواجبین ، مع تعلّق الأمر بهما ، و یؤیّد ذلک : الروایات الواردة فی أنّ الأوامر الواردة عن الشارع منها : ما قام الدلیل علیٰ الرخصة فیها ، و منها : ما ورد فی النفل ، و منها : ما کان عزیمة .
و أضاف فی الدورة اللّاحقة : أنّ الآیة الکریمة - بالخصوص - قد طبّقها الإمام علیه السلام فی غیر مورد الوجوب ، و ذلک فی روایةٍ صحیحة :
قال الکلینی رحمه اللّٰه : محمد بن یحیی ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن الحسین بن عمر بن یزید ، عن أبیه قال :
اشتریت إبلاً و أنا بالمدینة مقیم ، فأعجبتنی إعجاباً شدیداً ، فدخلت علی أبی الحسن الأوّل ، فذکرتها له ، فقال : ما لک و للإبل ؟ أما علمت أنها کثیرة المصائب ؟ قال : فمن إعجابی بها أکریتها ، و بعثت بها مع غلمانٍ لی إلی
ص:18
الکوفة ، فسقطت کلّها ، ثم دخلت علیه فأخبرته بذلک ، فقال : «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ » (1).
فمن الواضح : أن شراء الإبل لم یکن بحرامٍ ، و لکنّ الإمام نهاه ، فخالف الرجل النهی ، ثم ابتلی بذهاب ماله ، و هنا قرأ الإمام الآیة المبارکة مستشهداً بها ، لیدلّ علی ترتّب الفتنة - أی البلیّة الدنیویة - علی المخالفة مع الإمام المعصوم فی مورد غیر الوجوب و الحرمة ، کما أنّ العذاب الألیم الأُخروی یترتب علی مخالفة الوجوب و الحرمة .
و بذلک یظهر سقوط الاستدلال بالآیة للقول بدلالة الأمر علی الوجوب .
و بعد وضوح عدم تمامیّة القول بالدلالة اللّفظیّة علی الوجوب ، فهل تدلّ المادّة - و کذا الصیغة - علی الوجوب بالدلالة الإطلاقیّة ؟
إنّ أحسن ما استدلّ به لهذا القول تقریبان :
أحدهما : للمحقّق العراقی قدّس سرّه ، فقال ما حاصله (2) : إنّ الأمر موضوع للطلب ، و الطلب حقیقة تشکیکیّة ، ذات شدّةٍ و ضعف ، و الأمر التشکیکی مرتبته الشدیدة الکاملة لیس إلّا الحقیقة ، فهی بسیطة لا مرکّبة ، أمّا مرتبته الضعیفة الناقصة فمرکّبة من الحقیقة و من عدم المرتبة التامّة الکاملة .
هذا فی مقام الثبوت ، و بناءً علیه ، فإنّه فی مقام الإثبات ، إذا أراد المرتبة الناقصة و هو الندب - لزم بیان زائدٌ یدلّ علی ذلک - بخلاف المرتبة التامّة الکاملة و هو الوجوب ، فلکونها نفس الحقیقة فقط فلا یحتاج إرادتها إلی مئونةٍ
ص:19
زائدة - . و حینئذٍ ، ففی کلّ موردٍ لا یوجد فیه البیان الزائد لإفادة المرتبة الناقصة ، کان مقتضی أصالة الإطلاق إرادة الحقیقة التامّة للطلب ، و هو المرتبة الشدیدة ، أی الوجوب .
هذا ، و قد قرَّب الإطلاق بوجهٍ آخر أیضاً لکنّه یرجع إلی الوجه المذکور .
قال شیخنا دام بقاه فی الدورتین جواباً عن هذا الوجه : بأنّ الحقیقة التشکیکیة کالحقیقة المتواطیة فی عدم کفایتها لإفادة الحقیقة ، فکما أنَّ لفظ « الأسد » - مثلاً - الموضوع للحیوان المفترس ، لا یمکن أنْ یدل علیٰ إرادة فردٍ بخصوصه ، بل یحتاج إلی بیانٍ زائد ، کذلک لفظ « النور » - مثلاً - بالنسبة إلی مرتبةٍ من المراتب ، سواء کانت الشدیدة أو الضعیفة ، لأن اللّفظ الموضوع لمرتبتین من الحقیقة ، لا یکفی مجرّد استعماله للدلالة علی إحداهما و إنْ کانت القویّة و الشدیدة ، و ما ذکره من أنّ المرتبة التامّة غیر محتاجة إلی مئونةٍ زائدة ، ممنوع .
و علی الجملة ، فإنّ لفظ « الأمر » موضوع للطلب الذی هو حقیقة تشکیکیّة مثل النور ، و هو موجود فی الطلب الشدید و الطلب الضعیف علی السواء ، و کما لا یمکنه إفادة الشدید بلا مئونة بیانٍ ، کذلک إفادة الضّعیف ، و إنما یفید أصل الطلب فقط ... هذا کلّه أوّلاً .
و ثانیاً : - و قد أفاده فی الدورة اللّاحقة - إنّ الخطابات الشرعیّة کلّها ملقاة إلی العرف العام ، و منها ما یشتمل علی الأمر - مادةً أو صیغةً - فلا بدّ و أنْ یکون الإطلاق و التقیید فیه بضابطةٍ یدرکها العرف العام ، لیتمکّنوا من التفهیم و التفهّم
ص:20
علی أساسها ، و ما ذکره المحقق العراقی قدّس سرّه من الضابط - و هو کون المرتبة العلیا الشدیدة غیر محتاجة إلی البیان الزائد ، و أنّ المرتبة الدانیة و الضعیفة هی المحتاجة إلیه ، فمتی لم یکن بیانٌ حمل علی العلیا - أمر لا یدرکه العرف العام و لا یفهمه ، و لذا لا یمکن للشارع أنْ یحتجّ علی المکلَّفین علی أساسها فی أوامره فی الکتاب و السنّة ...
و ثانیهما : للسید البروجردی قدّس سرّه فقال (1) : إن مدلول مادّة الأمر - و کذا صیغته - و المعنی المستعمل فیه ، إنشائی و لیس بإخباری ، فلمّا یقول :
أمرتک بکذا ، أو یقول : صلّ ، فهو ینشئ و یُوجد الطلب بذلک فی عالم الاعتبار .
و هذا الطلب الإنشائی غیر قابلٍ للتشکیک ، لکونه اعتباریّاً ، و الامور الاعتباریة بسیطة لا حرکة فیها ، إذ التشکیک إنما یکون فی الامور التی فیها الشدّة و الضعف و تجری فیها الحرکة ، إلّا أن الطلب الإنشائی یقع فیه التشکیک بالعرض - أی من خارج ذاته - ، لأن الطلب کذلک ینقسم إلی ثلاثة أقسام ، فهو طلب إنشائی مع مقارنات شدیدة ، و طلب إنشائی مع مقارنات ضعیفة ، و طلب إنشائی بلا مقارنات مطلقاً ، فالأول : کأنْ یطلب منه المشی و یدفعه بیده ، أو یطلب منه الضرب و یصیح علیه ، و الثانی : کأنْ یطلب منه الکتابة و یومی إلیه بیده ، و الثالث : أن یطلب منه أحد الأفعال مجرَّد طلب ... فیکون الأول کاشفاً عن شدّة الطلب و قوة الإرادة النفسانیة ، و الثانی : کاشفاً عن الطلب النفسانی الضعیف ، و الثالث بلا شدّةٍ و لا ضعف ... إذنْ ، قد یتّصف الطلب الإنشائی بالشدّة و الضعف لکن من خارج ذاته .
ص:21
و من الطلب الإنشائی غیر المقارَن بشیء ینتزع الوجوب ... و الدلیل علیه هو السیرة العقلائیة ، و علی أساسه یترتّب استحقاق العقاب بین الموالی و العبید .
هذا ، و لا یخفیٰ اختلاف کلامه رحمه اللّٰه ، ففی أوّله قال بأنّ الوجوب ینتزع من الطلب الإنشائی المقترن بالمقارنات الشدیدة ، و الندب ینتزع من المقترن بالمقارنات الضعیفة ، أمّا فی آخره فیذکر أن نفس الطلب منشأ لانتزاع الوجوب . بل یذهب إلی جواز أن یقال بعدم وجود انشاء طلب فی موارد الندب ، و أن المندوبات لیست إلّا إرشاداً إلی الملاکات و المناطات ، فینحصر الطلب بموارد الواجبات فقط .
هذا حاصل کلامه مع التوضیح .
و الفرق بینه و بین تقریب المحقّق العراقی : أن العراقی یری أن مادّة الأمر و کذا الصیغة - مبرزة للصّفة النفسانیة ، و البروجردی یری أن الطلب الإنشائی إیجاد و لیس بإبراز .
و قد تکلّم شیخنا دام بقاه علی هذا التقریب بعد توضیحه بوجوه :
أحدها : إن السید البروجردی ذکر أنّ الطلب المقترن بالمقارنات الشدیدة هو الوجوب ، و هو کاشف عن الإرادة الشدیدة ، و المقترن بالمقارنات کاشف عن الإرادة الضعیفة ، و غیر المقترن بأحدهما طلب متوسّط .
و فیه : إن الطلب إمّا وجوبی و إمّا ندبی ، و أمّا المتوسط بینهما - غیر المتّصف بالوجوب أو الندب - فغیر قابل للتصوّر ، نعم ، نفس الإرادة تقبل المراتب کما هو الحال فی کلّ أمرٍ تشکیکی ، لکن المفروض کون الطلب أمراً
ص:22
إنشائیاً ، و الأمر الإنشائی متّصف بأحد الأمرین و لا یتصوّر برزخ بینهما .
و ثانیها : قوله بالتشکیک العرضی فی الطلب بعد نفی التشکیک الذاتی عنه .
نقول : ما المراد من التشکیک العرضی و الذاتی هنا ؟ تارةً یقال :
الخصوصیّة الکذائیة موجودة فی الشیء الفلانی بالذات ، أو إنها موجودة فیه لا بالذات بل بسبب أمر خارج . و اخریٰ : یکون المراد من العرضی فی مقابل الذاتی هو المجاز فی مقابل الحقیقة .
إنْ کان مراده : أن الشدّة و الضعف وصفان للمقارن للطلب ، أما الطلب فیتّصف بهما بالعرض کاتّصاف الجالس فی السفینة بالحرکة .
فهذا کلام متین ، لکن البحث لیس فی المجاز ، و المقصود إسناد الشدّة و الضعف إلی الطلب علی نحو الحقیقة .
و إنْ کان مراده : أن الطلب الإنشائی یتّصف حقیقةً بالشدّة و الضعف ، لکنَّ المقارنات کانت السبب فی هذا الاتّصاف ، کاتّصاف البیاض بالضعف بسبب اختلاطه بالسواد .
فهذا غیر صحیح ، إذ لا یکون اقتران الطلب بالصّیاح مثلاً - فی مثال الشدید - سبباً لأنْ یوصف الطلب حقیقةً بالوجوب ، و لا یکون اقترانه بالترخیص فی الترک مثلاً - فی مثال الضعیف - سبباً لأن یتصف الطلب حقیقةً بالضعف و الندب ... و قیاس ذلک باختلاط البیاض بالسواد فی غیر محلّه ...
لوضوح الفرق بین الاختلاط و فی الموجودات الخارجیة ، و بین الاقتران و فی الامور الاعتباریة .
و ثالثها : قوله فی آخر التقریب : بأنّ من عدم الاقتران بالمقارنات
ص:23
الضعیفة ینتزع الوجوب ، و العقلاء یرون استحقاق العقاب علی المخالفة فی ما یکون من هذا القبیل .
و هذا کلامٌ متین قوی ، و سنؤکّد علیه .
و رابعها : إنه یقول فی نهایة المطلب : إنّ البعث لا یتحقّق بدون الوجوب ، و هو فی المندوبات إرشاد إلی المصالح ، فقوله « صلّ » یقوم مقام التحریک الخارجی و البعث التکوینی ، و هو ینافی الترخیص فی الترک .
و هذا معناه أن الأحکام الشرعیّة منحصرة بالوجوب و الحرمة فقط - و أن الزجر التنزیهی إرشاد إلی المفاسد ، کالأوامر الندبیّة التی هی إرشاد إلی المصالح - و لا یُظنّ الالتزام به من أحدٍ من الفقهاء ، و حتی السیّد البروجردی نفسه لا یلتزم به ، و إلّا فکیف یفتی بالاستحباب الشرعی فی المستحبات ، و بالکراهة الشرعیّة فی المکروهات ؟
و أیضاً ، فهو کلام مخالف لصریح النصوص فی تقسیم الأمر إلی الواجب و المندوب .
و الحقیقة هی : دعوی إن التنافی بین البعث و التحریک و بین الترخیص فی الترک ، صحیحة فی التکوینیات ، و کلامنا فی البعث و الطلب الاعتباری ، و قیاسه علی التکوینی غیر صحیح .
و تلخّص : عدم تمامیّة هذا التقریب أیضاً .
و بعد أنْ ظهر ضعف الأقوال المتقدّمة فی دلالة الأمر علی الوجوب ، و أنّه لا یدل - لا مادّةً و لا صیغةً - علی الوجوب ، لا بالوضع و لا بالإطلاق ، فالمبنی الباقی هو الدلالة علی الوجوب بحکم العقل ، و هو مسلک المحقق
ص:24
النائینی ، و تبعه المحققون من تلامذته (1) ، و حاصله :
إن الحاکم فی باب وظیفة العبد تجاه المولیٰ و أوامره و نواهیه إنما هو العقل ، فإنّه یحکم بأنّ المولی إذا أمر عبده بشیء فمقتضی وظیفة العبودیّة هو أنْ یمتثل الأمر و یلبّی الطلب ، إلّا إذا جاء من المولیٰ الترخیص و الإذن فی الترک ، و لذا لو لم یمتثل ثم اعتذر بعدم نصب المولی القرینة علی الإلزام ، فلا یقبل عذره و لم یقبح عقابه .
و علی الجملة ، فلما لم تکن الدلالة علی الوجوب لا بالوضع و لا بالإطلاق ، فهی بحکم العقل من باب حقّ الطاعة .
و فیه إشکال : و هو أنه إذا کانت الدلالة عقلیّة ، و لا دور للّفظ فیها ، فما معنی جمع المیرزا نفسه و سائر الفقهاء بین الأمر ، و بین « لا بأس بالترک » بالجمع الدلالی ؟ إنهم فی مثل هذین الدلیلین یقولون بأنّ الأمر ظاهر فی الوجوب ، و قوله « لا بأس » نصٌّ فی جواز الترک ، فترفع الید عن ظهور الأمر بالنصّ علی جواز الترک ، مع أنّ المفروض أنّ الدلالة علی الوجوب لیست من ناحیة اللّفظ أصلاً ، بل هی من العقل ، فلا معنی لظهور الأمر فی الوجوب ، و لتقدیم النصّ علیه .
و کذلک الکلام فی باب الإطلاق و التقیید ، و العام و الخاص ، فإنّ المیرزا و أتباعه یقولون بأنَّ المقیّد و المخصِّص قرینة للمطلق و للعام ، و بها ترفع الید عن ظهورهما فی العموم و الإطلاق ، لأنّ الأمر - فی مثل « أعتق رقبةً » - قد تعلَّق بصرف الوجود بنحو الإطلاق ، ثم فی قوله « أعتق رقبةً مؤمنة » یتعلَّق الأمر بالرقبة بنحو التقیید ، فإمّا ترفع الید عن ظهور القید فی القیدیّة ، فلا
ص:25
یجب عتق الرقبة المؤمنة ، و إمّا ترفع الید عن إطلاق « أعتق رقبةً » فلا یکفی عتق الکافرة ، فبین الخطابین منافاة ، و عند دوران الأمر یقولون بلزوم الأخذ بالدلیل المقیِّد ، لکون الأمر بعتق المؤمنة ظاهراً فی عتق خصوص هذا الفرد من الرقبة ، و نسبته إلی الأمر المطلق نسبة القرینة إلی ذی القرینة ، و القرینة ظهورها مقدَّم علی ظهور ذی القرینة .
فیرد علیهم : إنَّ القرینة و ذا القرینة و غیر ذلک من شئون اللَّفظ ، فما ذکروه إنّما یتمُّ علی مبنی قرینیّة المقیَّد و المخصِّص .
و کذا یتمّ ُ تقدیم المقیِّد و المخصِّص بمناط أظهریّتهما من المطلق و العام ، و هو مسلک الشیخ الأعظم ، کالجمع بین لفظی « الأسد » و « یرمی » حیث أن ظهور الأسد فی الحیوان المفترس لفظی ، و ظهور یرمی فی رمی السهم إطلاقی ، و یتقدَّم الظهور للفظ « یرمی » - مع کونه اطلاقیاً - علی ظهور « الأسد » مع کونه وضعیّاً .
أمّا بناءً علی ما ذهبوا إلیه من أنّ دلالة الأمر علی الوجوب بحکم العقل ، فإنَّ مقتضی القاعدة هو الورود لا التقیید ، لأنّ حکم العقل بالوجوب تعلیقی لا تنجیزی ، من جهة کونه معلَّقاً علی عدم الرخصة فی الترک ، فهو یقول : کلّما جاء الأمر و لا دلیل علی الرخصة فهو للوجوب ، فإنْ قام الدلیل علی الرخصة تقدَّم من باب الورود ، لأنه یرفع موضوع حکم العقل .
فظهر وجود التنافی بین کلماتهم فی المقام ، و کلماتهم فی باب الإطلاق و التقیید و باب العام و الخاص .
و تلخَّص : أن دلالة الأمر علی الوجوب لا تتم بحکم العقل ، ما لم یرجع الوجوب إلی اللّفظ ، و ذلک بأحد امور ثلاثة :
ص:26
إمّا دعوی التبادر . و هی مردودة ، لأنّ المفروض عدم انسباق الوجوب من حاق لفظ مادّة الأمر أو صیغته .
و إمّا دعوی الظهور الإطلاقی . أی انصراف المادّة أو الصیغة إلی الوجوب ، و قد ظهر عدم تمامیّة هذه الدعوی عند الکلام علی تقریب المحقق العراقی .
أقول : و بذلک یظهر التأمّل فی کلام السیّد الاستاذ ، فإنّه - بعد أنْ ذکر أن صحّة تقسیم الأمر إلیٰ الإیجاب و الندب دلیل علیٰ کون اللفظ موضوعاً للأعم من الطلب الوجوبی و الندبی ، و أنّ صحة مؤاخذة العبد بمجرَّد مخالفة الأمر ظاهرة فی ظهور الأمر فی الوجوب - قال : « و یمکن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعمّ مع الالتزام بأنه ینصرف مع عدم القرینة إلیٰ الطلب الوجوبی و الإلزامی و ینسبق إلیه ، فیتحفَّظ علیٰ ظهور کلا الأمرین المزبورین - أعنی التقسیم و المؤاخذة - و تکون النتیجة موافقة لمدّعی صاحب (الکفایة) و إنْ خالفناه فی المدّعی و الموضوع له » (1) .
و إمّا دعوی السیرة العقلائیّة ، بأنها قائمة علی استفادة الوجوب عند عدم القرینة علی الرخصة ... و لا ریب فی وجود هذه السیرة ، فإنّهم یحملون أوامر المولی - مع عدم القرینة علی الرخصة - علی الوجوب ، و یرون استحقاق العقاب علی المخالفة ... و قد ذکر المحقق الأصفهانی فی المعاملات أن منشأ هذه السیرة هو حفظ الاُمور المعاشیّة ، و یبقی إمضاء الشارع المقدس لهذه السیرة ، و ذلک ثابت بوضوح من الروایة التالیة :
الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم قالا : « قلنا
ص:27
لأبی جعفر علیه السلام : ما تقول فی الصلاة فی السّفر ؟ کیف هی ؟ و کم هی ؟ فقال : إن اللّٰه عزّ و جلّ یقول : «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِی الأَرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ » فصار التقصیر فی السفر واجباً کوجوب التمام فی الحضر . قالا : قلنا : إنما قال اللّٰه عزّ و جل «فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُنَاحٌ » و لم یقل :
افعلوا ، فکیف أوجب ذلک کما أوجب التمام فی الحضر ؟ فقال علیه السلام :
أ و لیس قد قال اللّٰه عزّ و جلّ فی الصفا و المروة : «فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَا » ... » (1) .
فهما یسألان الإمام علیه السلام أنه لو قال : « افعلوا » لدلّ علی الوجوب ، و لم یقل ؟ فدلالة الصّیغة علی الوجوب من المرتکزات فی الأذهان ، و الإمام علیه السلام لم ینف هذا الارتکاز العقلائی ، بل أمضاه بسکوته .
فالروایة تدل علی المدّعی بوضوح ، و طریق الشیخ الصّدوق إلی زرارة صحیح .
رجوع القضیّة إلی السیرة العقلائیّة .
أمّا الوجوه السابقة ، فقد عرفت ما فیها .
و أمّا حکم العقل ، فقد عرفت أن هذا المسلک منهم لا یلائم الجمع الدلالی ، علی أنه أخص من المدّعی ، لاختصاصه بأحکام المولی الحقیقی ، فهناک یحکم العقل بحق الطاعة ، و لکنّ المدّعی هو دلالة المادّة و الصیغة علی الوجوب فی مطلق الصادر من العالی إلی الدانی .
ص:28
و علی الجملة ، فالدلیل الصحیح - فی صیغة الأمر - هو السیرة ، و علی المختار ، فلا إشکال فی الجمع الدلالی ، و هذه السیرة ممضاة ، و قد ذکرنا النص الدالّ علی الإمضاء ، و یوجد فی الأخبار ما یدل علی ذلک أیضاً غیره کالروایة التالیة :
عن معاویة بن عمّار عن أبی عبد الله علیه السلام قال : « العمرة واجبة علی الخلق بمنزلة الحج علی من استطاع » .
فقد نزّل العمرة بمنزلة الحج الذی قال اللّٰه فیه «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » و لسانه لسان الإیجاب ، فتکون العمرة واجبة کذلک ، و علّل الوجوب بقوله : « لأن اللّٰه یقول : «وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ » » (1) فکان الاستدلال بصیغة الأمر و هو « أتمّوا » .
و سند الروایة معتبر بلا إشکال .
و إذا کانت السّیرة علی دلالة الصیغة علی الوجوب ممضاة ، فهی فی دلالة المادّة علیه ممضاة بالأولویّة القطعیّة ، و إنْ کانت النصوص مختلفة :
فعن أبی بصیر قال : « سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : إن الناس أکلوا لحوم دوابّهم یوم خیبر ، فأمر رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم بإکفاء قدورهم و نهاهم عنها و لم یحرّمها » (2) .
فقد یستظهر من هذه الروایة عدم دلالة مادّة الأمر علی الوجوب فتأمّل ، و السند صحیح .
ص:29
و فی المقابل ما یدلّ علی کونها للوجوب :
فعن أبی عبد الله علیه السلام قال : « رکعتان بالسّواک أفضل من سبعین رکعة بغیر سواک ، قال رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم : لو لا أنْ أشقّ علی امّتی لأمرتهم بالسّواک » (1) .
فهی تفید أن الأمر للوجوب بلا شک ، لأنّ السّواک مستحب ، و لو أمر لزمت المشقّة علی الاُمّة ، و من الواضح أن المشقة فی الإیجاب ... و فی سند هذا الخبر إشکال من جهة اشتماله علی « جعفر بن محمد الأشعری » إلاّ بناء علی اعتبار رجال کتاب کامل الزیارات ، و عدم الاستثناء من رجال نوادر الحکمة ، مضافاً إلی اعتماد الأصحاب علیه .
و هذا تمام الکلام فی دلالة مادّة الأمر و صیغته علی الوجوب .
ص:30
إنه و إنْ تعرضنا لصیغة الأمر بتبع البحث عن المادّة ، لکن ینبغی تفصیل الکلام فی جهتین :
الجهة الاُولیٰ : فی معنی صیغة الأمر .
فقد وقع الخلاف بین الأعلام فی معنی صیغة الأمر .
فقیل : إن للصیغة معانٍ عدیدة ، أحدها هو الطلب ، و المعانی الاخری هی : التهدید ، و التعجیز ، و الإهانة ، و الاختبار ... و هکذا ، فقولک : « صلّ » معناه الطلب الإنشائی ، و فی قوله تعالی «کُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِینَ » (1)تدلّ الصیغة علی التعجیز ، و معناها فی «تَمَتَّعُواْ فِی دَارِکُمْ ثَلاَثَةَ أَیَّامٍ » (2)هو التهدید ، و هکذا ...
و القول الآخر : هو وحدة معنی الصیغة فی جمیع الاستعمالات ، و هو الطلب الإنشائی ، غایة الأمر أنه تارةً : یکون الداعی لاستعمال الصیغة فی الطلب الإنشائی هو الطلب الجدّی ، و اخری : یکون الداعی لاستعمالها فیه هو التهدید أو غیره مما ذکر .
و القول الثانی هو مختار صاحب (الکفایة) (3) ... فهو یری وقوع الاشتباه
ص:31
هنا بین المفهوم و الداعی ، کما قال بوقوع الاشتباه بین المفهوم و المصداق فی مدلول مادّة الأمر ، کما تقدّم .
و قد اختار الاستاذ - فی هذه الجهة - قول المحقق الخراسانی ، قال :
و الارتکاز ، و الوجدان ، و الاستعمالات ، کلّها تثبت هذا القول ، و قصاری ما یمکن أن یقال هو : إن الصیغة فی الطلب الإنشائی حقیقة ، و فی غیره مجاز .
أقول : و کما وقع الإشکال فیما ذکره من الاشتباه بین المصداق و المفهوم کما تقدّم ، کذلک فیما ذکره من الاشتباه بین المفهوم و الداعی ، فقد أفاد السید الاستاذ بأنّ ما ذهب إلیه من کون الصیغة مستعملة لإیجاد الطلب إنشاءً و إنما یختلف الداعی إلیه ، غیر معقول ثبوتاً « فإنّ الداعی - بحسب ما یصطلح علیه - هو العلّة الغائیّة ، بمعنیٰ ما یکون فی تصوّره سابقاً علیٰ الشیء و فی وجوده الخارجی مترتّباً عنه ، فیقال : « أکل » بداعی تحصیل الشبع ، فإن الشبع تصوّراً سابق علیٰ الأکل و بلحاظ ترتّبه علیٰ الأکل ینبعث الشخص إلیٰ الأکل ، و لکنه وجوداً یترتب علیٰ الأکل و یتأخّر عنه ، وعلیه : فصلاحیّة الأمور المذکورة - من تمنٍّ و ترجٍّ و تعجیز و تهدید و امتحان و سخریة - لأنْ تکون داعیاً للإنشاء فی الموارد المختلفة ، یصحّ فی فرض ترتّب هذه الأمور علیٰ الإنشاء وجوداً و أسبقیّتها علیه تصوّراً ، و لیس الأمر فیها کذلک ... » .
ثم قال - بعد أن أوضح وجه عدم کون الأمر فیها کذلک - « فالأولیٰ : أن
ص:32
یقال فی هذه الموارد : إنّ الصیغة مستعملة فیها فی معناها الحقیقی و بداعی البعث و التحریک ، إلّا أنّ موضوع التکلیف مقیَّد ، فالتکلیف وارد علیٰ الموضوع الخاص لا مطلق المکلَّف ، ففی مورد التعجیز یکون التکلیف الحقیقی معلَّقاً علیٰ قدرة المکلَّف بناءً علیٰ ادّعائه ، فیقال له فی الحقیقة : إنْ کنت قادراً علیٰ ذلک فأت به ، فحیث أنه لا یستطیع ذلک و لا یقدر علیه لا یکون مکلَّفاً ، لا بلحاظ عدم کون التکلیف حقیقیّاً بل بلحاظ انکشاف عدم توفّر شرط التکلیف فیه و عدم کونه مصداقاً لموضوع الحکم ، فموضوع الحکم هاهنا هو القادر لا مطلق المکلَّف ، و هکذا یقال فی التهدید ... » (1)انتهی .
لکنّ منشأ هذا الإیراد هو الجمود علیٰ لفظ « الداعی » و أخذه بالمعنیٰ الفلسفی ، و هو یندفع بإمکان أن یکون المراد من الداعی معنیً آخر غیره ، کما ذکر هو - دام ظله - فی بحث شرطیّة القدرة للتّکلیف (2) من أن الشرط قد یطلق و یراد به معناه الفلسفی و هو العلة الغائیة ، و قد یطلق و یراد به معنی غیر ذلک ، و إنّ شرطیة القدرة للتکلیف لیس المقصود بها المعنیٰ الفلسفی للشرطیّة ، بل المقصود بها المعنیٰ الآخر ... بل لقد ذکر فی معنیٰ « الغرض » أنه قد یطلق و یراد منه ما یساوق العلّة الغائیّة ، و هو المعنیٰ الاصطلاحی للغرض و الداعی ، و قد یطلق و لا یراد منه هذا المعنیٰ ، بل یراد منه معنیً عرفی یساوق المقصود .
و من العجیب ذکره مثال الأکل من أجل الشبع هنا للدلالة علیٰ جواز
ص:33
إرادة غیر المعنیٰ الفلسفی من « الغرض » قال : و هو بهذا المعنیٰ قابل للانفکاک عن العمل و إنْ عبّر عنه بالغرض فیقال : غرضی من هذا العمل و مقصودی کذا مع عدم ترتّبه علیه ، بل یمکن أن یترتب و یمکن أن لا یترتب ، کأکل الخبز بغرض الشبع ... » (1) .
الجهة الثانیة : فی معنی « نفس الأمر » فی کلام الکفایة .
قال صاحب (الکفایة) - فی بحث الطلب و الإرادة (2) - : الإنشاء قول یقصد به ثبوت المعنیٰ فی نفس الأمر ، و قد سبقه فی هذا القول الشهید الأول قدّس سرّه ، و إنْ اختلف مرادهما :
فالمحقّق الخراسانی یری أن الإنشاء قول یتحقّق به مفاد کان التامّة ، فی قبال الإخبار فإنه قول یحکی عن مفاد کان الناقصة ، فالإنشاء عنده موجد للمعنیٰ ، غیر أنه یوجد بوجود منشأ انتزاعه ، و مراده من « نفس الأمر » هو أن ذلک المعنی یخرج بواسطة الإنشاء عن حدّ فرض الفارض ، أما قبله فهو علی حدّ فرض الفارض ، فلمّا یقال : ملّکتک الدار مثلاً ، تکون ملکیّة الدار للطرف الآخر قبل الإنشاء من قبیل افتراض کون الإنسان حجراً ، أمّا بعده ، فالملکیّة تخرج عن هذا الحدّ ، و یصبح الطرف مالکاً للدار ، لکنْ لیس فی الخارج بإزاء الدار و صاحبها شیء ، و إنما یتحقّق الوجود للملکیّة بوجود منشأ انتزاعها و هو الإنشاء .
فهذا معنیٰ : إن الإنشاء قول یقصد به ثبوت المعنیٰ فی نفس الأمر ...
ص:34
و قد ظهر أیضاً الفرق عنده قدّس سرّه بین الإنشاء و الإخبار . و ظهر أن مراده من « نفس الأمر » هو ما یقابل فرض الفارض .
و هذا غیر ما هو المصطلح عند الفلاسفة ، حیث یجعلون وعاء « نفس الأمر » وعاءً فی قبال وعاء الذهن ، و وعاء الخارج ، فوعاء الخارج و وعاء الذهن ظرفان لوجود الماهیّة ، و للماهیة ظرف فی عالم التصوّر هو نفس الأمر .
کما أنّه غیر مصطلح الاصولیین ، فهم یریدون من « وعاء الأمر » ثبوت الشیء ثبوتاً غیر قائم بالاعتبار ، کالملازمة بین « تعدّد الآلهة » و بین « الفساد » المستفادة من الآیة المبارکة ، فإنها موجودة فی وعاء نفس الأمر ، و لا تدور مدار الاعتبار ، بخلاف ملکیّة زید للدار ، فإنَّ قوامها الاعتبار ، و لیس لها واقعیّة کواقعیة الملازمة المذکورة .
و أما الشهید الأوّل ، فقد ذکرنا أنه قد استعمل هذا المصطلح ، و لکنّه أراد من قوله « نفس الأمر » - فی العبارة المذکورة - الاحتراز عن الإنشاء المکرَّر ، فقول المنشئ : ملّکتک الدار قول قصد به ثبوت الملکیّة للمشتری ، فإذا قاله ثبت ذلک ، فلو قاله مرةً اخری فلا یحصل به المعنیٰ ، لأنه لو حصل لکان من تحصیل الحاصل .
و یقول المحقق الخراسانی : کلّما تکرّر القول حصل فرد من ذلک المعنی الإنشائی ، إلاّ أنه یکون تأکیداً ، لا أنّ الصیغة - فی المرّة الثانیة - خارجة عن الإنشائیّة .
و الحاصل :
إنه فی الصیغة الإنشائیّة یُقصد ثبوت و وجود المعنی بنفس الصّیغة ،
ص:35
بدون أیّة حکایةٍ ، و الثبوت هو بنحو مفاد کان التامّة ، بخلاف الإخبار ، فإنه بنحو مفاد کان الناقصة و هو حکایة عن الثبوت .
هذا فی الصیغة ، أی صیغة افعل ، الدالّة علی الطلب .
و کذلک الحال فی بقیّة المعانی الإنشائیّة ، فالمعنی فی جمیعها هو إیجاد الطلب ، غیر أن الدواعی تختلف .
و کذلک الحال فی الاستفهام و الترجّی و التمنّی ، فهو إیجاد الاستفهام بالوجود الإنشائی بداعی الاستفهام الحقیقی ، أو بداعی الإنکار ، و إیجاد للترجّی إنشاءً - و هو فی حق الباری تعالی جائز کما فی قوله : «لَّعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشَی » (1)و لیس حقیقةً ، لامتناعه فی حقّه لاستلزامه الجهل و العجز - و هکذا إیجاد للتمنّی إنشاءً ...
و هذا توضیح مبنی صاحب (الکفایة) فی الصیغة الإنشائیّة .
و خالف المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه (2) ، و ذکر أنّ ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی من کون اللّفظ فی الصّیغ الإنشائیّة موجداً للمعنیٰ ، غیر معقول ، فقال فی مقام الإشکال علیه ما توضیحه :
إنّه لا یتصوّر لأیّ معنیً من المعانی إلاّ نحوان من الوجود ، فهو إمّا وجود بالذات ، و إمّا وجود بالجعل و الاعتبار .
و الأوّل : إمّا الوجود الذهنی ، و إمّا الوجود الخارجی الواقعی ، لکنّ إیجاد المعنی فی عالم الذهن لا یمکن بسبب اللّفظ ، بل العلّة للوجود الذهنی هو
ص:36
التصوّر فقط ، و کذلک إیجاده فی الخارج ، لأنّ الوجود الخارجی معلولٌ لعلّته ، فإنْ وجدت وجد و إلّا فلا .
و الثانی : فإنَّ الوجود الجعلی عبارة عن وجود المعنیٰ بوجود اللّفظ ، فاللّفظ یکون وجوداً للمعنی فی عالم الاعتبار ، و هو کما یکون باللّفظ یکون بالکتابة أیضاً .
فما ذهب إلیه المحقق الخراسانی غیر صحیح ، إذ لا یعقل إیجاد المعنی باللّفظ لا ذهناً و لا خارجاً .
بل المعقول و المتصوَّر هو أنّا نوجد المعنی وجوداً جعلیّاً ، أیْ نعتبر وجود اللّفظ وجوداً له ، لا أنّ اللّفظ یکون واسطةً و سبباً لوجود المعنی کما قال المحقّق الخراسانی ، ففی الحقیقة لمّا نقول : « افعل » فهو من مقولة الکیف المسموع ، فإذا تلفّظنا به وجد فی الخارج بوجودٍ بالذات ، و تکون هذه الصیغة وجوداً جعلیّاً اعتباریّاً للبعث و الطلب ، لا أن الطلب و البعث یوجد بتوسّط هذا اللّفظ و هذه الصیغة .
قال : فهذه حقیقة الإنشاء ، و لا بدّ أنْ یحمل علیه کلام المحقّق الخراسانی .
قال شیخنا دام بقاه :
أمّا حمله کلام المحقّق الخراسانی علی مسلکه ففیه : إن فی عبارة (الکفایة) ما یمنع عن الحمل المذکور ، و ذلک أنه مثَّل - لکون الإنشاء موجداً للملکیّة و مخرجاً لها عن فرض الفارض - بإیجاد الملکیّة فی مورد الحیازة ، فإنّه قد ورد فی مباحث کتاب إحیاء الموات أنَّ « من حاز ملک » ، و هو ظاهر
ص:37
فی کون الحیازة سبباً لوجود الملکیّة ، و لیس وجودها بالوجود اللّفظی و الجعلی . و أیضاً : فقد تقرّر فی کتاب الإرث أنّ « ما ترک المیّت من مالٍ أو حقٍّ فلوارثه » فالملکیّة الحاصلة قهراً للوارث بموت مورّثه لیست بالوجود الجعلی و الاعتباری ...
و مع وجود هذه الجملة فی کلام المحقّق الخراسانی کیف یحمل کلامه علی ما ذهب إلیه ؟
و أیضاً ، فقد صرَّح المحقّق الخراسانی ، فی مقام بیان حقیقة الإنشاء فی الترجّی و التمنّی ... بأنّ المعنی المنشأ بالصیغة فی ظرف الإنشاء وجود جزئی ، لأنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد ، و الوجود مساوق للتشخّص ، إلاّ أنه - أی المعنیٰ - فی نفس الوقت کلّی .
و لا ریب أنّ هذا مطلب معقول ، کما لو تصوّرنا الإنسان النوعی ، و الحیوان الجنسی ، فإنه من حیث وجوده شخصی ، للقاعدة المذکورة ، مع أنّ النوع و الجنس کلیّان ، و صیغة الإنشاء کذلک ، فقولک : « ملّکتک » أو قولک :
« صلّ » یدلّ علی معنی جزئی هو المنشأ لک بهذا اللّفظ ، لکنّه کلّی أیضاً ، لأن القضایا الحقیقیّة تنحلّ و تتعدّد بعدد الموضوعات ... مع کون الإنشاء واحداً .
و هکذا ، فمن الممکن إیجاد الملکیّة الکلیّة بإنشاء واحدٍ ، فإنّه معنی کلّی ، مع أنه من حیث وجود الإنشاء جزئی ، کما فی قوله تعالیٰ : «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ » (1)حیث أن ملکیّة الخمس من جهة هذا الإنشاء جزئیّة ، لکن الملکیّة معنیً کلّی ، و المالک هو طبیعی المسکین من بنی هاشم .
ص:38
و إذا کان المحقق الخراسانی یصرِّح بما ذکرناه ، فکیف یحمل کلامه علی مبنی المحقق الأصفهانی من أن الإنشاء إیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ ، إذ یستحیل تصوّر کلیّة المنشأ حینئذٍ ، لأن وجود اللّفظ حقیقی شخصی ، فهو جزئی .
و تلخّص : إن کلامه غیر قابلٍ للتنزیل علی مسلک المحقّق الأصفهانی .
و أمّا إشکاله علیه : بأن إیجاد المعنی بالوجود الخارجی أو الذهنی غیر مسببٍ عن وجود اللّفظ ، لعدم کون اللّفظ فی سلسلة علل الوجود الذهنی و لا فی سلسلة علل الوجود الخارجی ، فالتحقیق عدم وروده علیه ، لأنّه یقول بوجود المعانی الإنشائیة وجوداً اعتباریّاً ، و من المعقول ثبوتاً أنْ یعتبر العقلاء سببیّة اللّفظ للوجود الاعتباری ، فیمکن أن یقع فی سلسلة علل وجوده ، فصحیح أنّ وجود الطلب فی عالم الذهن یرجع إلی التصوّر ، و وجوده خارجاً یرجع إلی المصلحة و الغرض ، و یکون العلم بالغرض علةً للوجود الخارجی التکوینی للطلب فی النفس ، لکنّ الکلام فی الوجود الاعتباری ، و لا مانع من أن یعتبر العقلاء اللّفظ - مثل بعت - سبباً للمعنی و هو الملکیّة الاعتباریة ، بحیث تدور الملکیّة فی عالم الاعتبار وجوداً و عدماً مدار وجود الصیغة و عدمها .
فما ذکره المحقق الخراسانی أمر معقول ، و لا یرد علیه ما ذکر .
نعم ، إنّ هذا الاعتبار بحاجةٍ إلی دلیلٍ فی مقام الإثبات .
و تلخّص : إن البحث مع صاحب (الکفایة) یرجع إلی مقام الإثبات ، فالقول بأنّ ما ذهب إلیه غیر معقول ، غیر صحیح ، فلا یمکن المساعدة علی
ص:39
ما جاء فی (نهایة الدرایة) و فی (المحاضرات) (1) .
و أمّا مختار المحقق الأصفهانی من أنّ حقیقة الإنشاء إیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ ، فسیأتی الکلام علیه .
هذا تمام الکلام علی مبنی المحقّق الخراسانی .
و ذهب السیّد الخوئی فی (المحاضرات) (2) إلی أنّ صیغة « افعل » مبرزة للاعتبار النفسانی ، لا أنها موجدة له فی وعاء الاعتبار - و هذا متّخذ من برهان المحقق الأصفهانی من أنّ الصیغة لا یمکن أن تکون سبباً للوجود مطلقاً - و أیضاً : فإن معانی الصّیغة مختلفة ، لا أنها موضوعة لمعنی واحدٍ و الدواعی مختلفة ... فالمعنی هو الامتحان ، و التهدید ، و الطّلب ... فهو مخالف (للکفایة) فی کلتا الجهتین ...
و حاصل کلامه : إن صیغة افعل حقیقةٌ فی إبراز اعتبار الشیء فی الذمّة ، و استعمالها فی موارد التعجّب و التهدید و غیر ذلک ، مجازی ، و معناها مختلفٌ و لیس بواحدٍ .
و خلاصة وجه هذا الرأی :
أوّلاً : إنّ الامور الاعتباریة تحصل بمجرّد الاعتبار و من دون حاجةٍ إلی سبب ، مع أنّ الألفاظ لا یمکن أن تکون أسباباً لمثل هذه الاُمور .
و ثانیاً : إنّ حقیقة الوضع هی « التعهّد » کما تقدَّم فی محلّه ، فکأنّ
ص:40
الشارع قد تعهّد - مثلاً - أن یبرز اعتباره للصّلاة فی ذمّة المکلّف بلفظ « صلّ » ، و کذلک کلّ أمر بشیءٍ ، فإنّه متعهّد باستعمال صیغة « افعل » لإبراز أمره و طلبه ... و هذا هو المرتکز فی الأذهان .
فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقریر هذه النظریّة ما حاصله :
أمّا أن حقیقة الوضع هو التعهّد ، فقد تقدّم فی محلّه ما فیه .
و أمّا أنّ المعنی الحقیقی لصیغة الإنشاء هو إبراز اعتبار ثبوت الشیء ، فغایة ما استدلّ لهذه الدعویٰ هو وجود هذا المعنیٰ - أی إبراز اعتبار ثبوت الشیء فی الذمّة - فی مثل قول المولیٰ : « صلّ » و نحوه ... و فیه : إن هذا لا یکفی لأنْ یکون دلیلاً للمدّعیٰ ، ففی موارد استعمال صیغة الأمر ، حیث یکون الداعی بعث العبد نحو الفعل ، توجد الإرادة لتحقّق الفعل ، و العقلاء یرون فی تلک الموارد أن المولی قد وضع الفعل علی ذمّة المکلّف ، و أنها مشغولة یقیناً به ، فلما ذا لا تکون الإرادة هی المعنی للصّیغة ؟ و لما ذا لا یکون المعنی : اعتبار ثبوت المادّة فی ذمّة الطرف المقابل ؟
و الحاصل : إنه فی مورد استعمال صیغة الأمر ، یوجد اعتبار ثبوت الفعل فی الذمّة بلا ریب ، لکن کون هذا المعنی هو الموضوع له الصیغة من أین ؟ فالدلیل أعمّ من المدّعی .
هذا أوّلاً .
و ثانیاً : قوله بتعدّد المعنی فی الصّیغ الإنشائیّة ، غیر موافقٍ للارتکاز العرفی ، و ذلک لأنّ أهل اللّسان لا یفرّقون فی معنی « اعملوا » بین مورد استعماله فی التهدید و مورد غیر التهدید مثلاً .
و ثالثاً : إن المصداقیّة من شئون الحمل الشائع ، و المناط فیه هو الاتحاد
ص:41
الوجودی ، و حینئذٍ ، کیف یتّحد التعجّب - الذی هو صفة نفسانیّة - مع صیغة افعل ، لتکون الصیغة مصداقاً لمفهوم التعجّب ؟ فقوله بأن الصیغة تارةً یکون المبرَز بها التعجّب إذا استعمل فیه ، لا یمکن تعقّله .
و رابعاً : إن اعتبار ثبوت الشیء فی الذمّة ، معنی اسمی ، و هذا ینافی مسلک (المحاضرات) فی المعنی الحرفی و الهیئة من أنه عبارة عن التضییق فی المعانی الاسمیة ... فإذا کان هذا معنی هیئة افعل ، فکیف یکون موضوعاً لإبراز الاعتبار ، و وجوب الشیء ؟
هذا ، و قد وافق الاستاذ المحقق الخراسانی فی وحدة المعنی فی الصیغ الإنشائیّة .
و أمّا قوله بأنها موجدة ، فقد أشکل علیه :
أوّلاً : بأن الإرادة فی نظر هذا المحقق نفس الطلب ، و مفهومهما واحد ، و الاختلاف فی المصداق ، لکنْ لا یُفهم « الإرادة » من صیغة افعل ، و مقتضی الاتّحاد بین الإرادة و الطلب أنْ لا تکون موضوعة للطلب .
و ثانیاً : إنّ الإرادة لیست من الامور القابلة للإنشاء ، أی لا تقبل أنْ توجد باللّفظ ، کما هو الحال فی الجواهر مثلاً .
و ثالثاً : إن الإرادة مفهوم اسمی ، و لم نجد فی الهیئات هیئة مدلولها معنیً اسمی .
و أمّا مبنی المحقق الأصفهانی من أنّ مدلول الصیغة وجود المعنی بالوجود اللّفظی ، فالألفاظ عین وجود المعانی لکن بالوجود الاعتباری
ص:42
للمعنی ، و هذا معناه أنْ لا یکون فی مورد الصّیغة وضع و موضوع و موضوع علیه ...
ففیه : إنّ مبناه فی حقیقة الوضع هو أنّ اللّفظ یوضع علی المعنی کوضع العلم علی رأس الفرسخ مثلاً ، فما ذهب إلیه فی وضع الصیغة ینافی مختاره فی حقیقة الوضع بصورةٍ عامّة ؛ لأنه یقتضی المغایرة و التعدّد بین الموضوع و الموضوع علیه ... و لو لا هذا التنافی فإنّ مسلکه قریب من الواقع .
و بعد ذکر المبانی المطروحة فی معنی الصیغة و النظر و المناقشة فیها ، قال شیخنا دام بقاه ، و بالنظر إلی مختاره فی حقیقة الوضع من أنها « العلامتیّة » :
إن الألفاظ إنما هی للوصول إلی المعانی و إبراز الأغراض و المقاصد ، فالصبیّ الذی لا یمکنه التلفّظ إذا أراد شیئاً من الأشیاء تحرّک نحوه - إن أمکنه التحرّک - و أخذه ، و إلّا فیلجأ إلی غیره ، کأنْ یأخذ بید أبیه و یمدّها نحو الشیء أو یضعها علیه ، و هذا هو المقصود من « البعث النسبی » فی کلام المحقق الأصفهانی ، و « النسبة الإرسالیّة » فی کلام المحقق العراقی ، لکنّ هذا الطفل عند ما یمکنه الإشارة نحو الشیء الذی یریده ، فإنّه یستخدمها بدل الأخذ بید أبیه مثلاً ، فإنْ یتمکن من التلفّظ فلا شک أنه یستخدم اللّفظ للدلالة علی أنّه یرید الشیء الفلانی ، فیقول لأبیه مثلاً : أعطنی کذا ...
فالألفاظ دوالّ و کواشف و علائم ... و هذا هو الأصل فیها .
وعلیه ، فإنه مع التمکّن من التلفّظ ، یتحقّق بیان المراد و إبرازه بواسطة اللّفظ ، و تکون الألفاظ مبیّنات و مبرزات للمرادات ، و هذا معنی «عَلَّمَهُ
ص:43
الْبَیَانَ » (1)، فمن تمکّن من اللّفظ و أمکنه إفهام مقصوده به ، لا یحتاج إلی الإشارة ، و لا إلی البعث و التحریک التکوینی الخارجی ، و لذا تکون الإشارة أو التحریک الخارجی هی الدالّة علی المقصود حیث لا یمکن اللّفظ .
و سواء کان الدالّ علی المقصود هو اللّفظ أو التحریک الخارجی ، فإنّه لا ینظر إلیه إلّا بالنظر غیر الاستقلالی ، بل إنّه - فی هذه الحالة - یکون النظر الاستقلالی نحو المبعوث و المبعوث إلیه ، أمّا اللّفظ أو التحریک الخارجی الذی تحقق به البعث ، فإنّه مغفول عنه ، و وجوده وجود حرفی لا استقلالی ...
و هذا البعث هو « البعث النسبی » فی اصطلاح المحقّق الأصفهانی ، إنه یقول بأنّ نفس هذا البعث الخارجی التکوینی یوجد و یتحقّق بکلمة « افعل » .
و المحقق العراقی یشبّه الطلب بالصیغة بإرسال الطیور الجارحة نحو الصید ، فکأنّ الآمر یرسل المأمور بأمره « افعل » نحو تحصیل الشیء الذی یریده منه ، فالمدلول عنده رحمه اللّٰه - هو الإرسال و لازم ذلک هو الطلب .
و الحاصل : إن هذا أمر ارتکازی لا یمکن إنکاره ، و عباراتهم - و إنْ اختلفت فی بیانه - مشیرة إلی هذا الأمر .
لکنّ التحقیق : أن هذه النسبة البعثیّة التکوینیّة التی تقوم الصیغة مقامها لا توجد بالصیغة ، بل إنها تکون مبرزة لها ، فالباعث یظهر و یبرز مقصوده باللّفظ بدلاً عن التحریک الفعلی نحوه ... فلیس « افعل » هو « البعث » کما قال المحقق الأصفهانی ، بل إنه دالٌّ علی البعث و مبرز له ، لکنّه مبرز للبعث - کما قلنا - لا لثبوت الشیء فی ذمّة الطرف المقابل کما قال المحقق الخوئی ... فإنْ لوحظ هذا البعث النسبی باللّحاظ الاستقلالی أصبح مدلول لفظ « أبعثک » ،
ص:44
و لذا قال السید البروجردی : إن الطلب إن لوحظ باللّحاظ الاسمی الاستقلالی استعمل لفظ البعث و الأمر فیقول : آمرک ، و إن لوحظ باللّحاظ الآلی استعملت صیغة « افعل » ... لکنّ التحقیق أنه « البعث » و لیس « الطلب » .
و بما ذکرنا ظهر التحقیق فی المقام ، و اختلافات الأنظار فیه .
لقد تقدّم طرف من هذا البحث فی مبحث دلالة مادّة الأمر علی الوجوب ، و هنا نقول :
إنه قد نفی المحقق الخراسانی (1) البُعد عن أن تکون صیغة الأمر دالّة علی الوجوب بالدلالة الوضعیّة ، و استدلّ علی ذلک بالتبادر ، و أیّده بسیرة العقلاء ، و أنهم لا یقبلون اعتذار العبد إذا خالف الأمر عند ما لا توجد قرینة .
ثم ناقش صاحب (المعالم) قدّس سرّه فی قوله (2) بأنّ الصّیغة مستعملة فی أخبارنا فی الندب بکثرة ، و ذلک یمنع من التمسّک بأصالة الحقیقة للحمل علی الوجوب ، بل یکون من المجاز المشهور ، و مقتضی القاعدة فی مثله هو التوقّف ... فأجاب المحقق الخراسانی :
أوّلاً : إن استعمال الصّیغة فی الوجوب أیضاً کثیر ، فکثرة استعمالها فی الندب لا توجب نقلها عن الوجوب أو حملها علی الندب .
و ثانیاً : إنّ کثرة الاستعمال إنما توجب الحمل أو تستلزم التوقّف فیما إذا کانت بدون قرینة ، و أمّا إذا کانت موارد استعمالها مصحوبة بالقرینة ، فمثل هذا
ص:45
الاستعمال و إنْ کثر فلا یثبت المجاز المشهور ، لیلزم التوقّف عن حمل الصیغة المجرّدة عن القرینة علی الوجوب ... و من المعلوم أنّ الصیغة فی الأدلّة الشرعیّة متی دلّت علی الاستحباب فهی مقرونة بالقرینة اللّفظیّة أو الحالیّة علی الندب .
و ثالثاً : إنّ ما ذکره صاحب (المعالم) قدّس سرّه منقوضٌ بکثرة تخصیص العمومات حتی قیل : ما من عامٍ إلاّ و قد خُص ، فلو کانت کثرة الاستعمال فی غیر المعنی الموضوع له اللّفظ موجبةً لنقل اللّفظ عن معناه الحقیقی ، أو حمله علی غیر معناه ، أو التوقّف ، لزم سقوط أصالة العموم ، و هو کما تریٰ ... فما نحن فیه کذلک .
هذا ، و قد أورد علیه السیّد البروجردی (1) :
بالفرق بین کلامه و کلام (المعالم) ، فذاک یقول : أخبار الأئمة ، و هو یقول السنّة ، و المراد منها فی الاصطلاح الحدیث النبوی .
و فیه : المراد من السنّة فی لسان الفقهاء و الاصولیین : قول المعصوم أو فعله أو تقریره .
و بأنّ کثرة استعمال اللّفظ فی غیر الموضوع له - و لو مع القرینة - یوجب انس الذهن بالمعنیٰ ، و ینتهی إلی المجاز المشهور .
و فیه : إنه لیس کذلک ، فلفظ « القمر » یستعمل فی استعمالات الناس فی غیر الموضوع له بکثرةٍ مع القرینة ، و لکنْ لا یصل إلی حدّ الاستغناء عن القرینة فیکون مجازاً مشهوراً یوجب التوقّف .
ص:46
و أورد علیه فی (المحاضرات) (1) :
بالفرق بین المقام و باب الخاص و العام ، فهناک ألفاظ موضوعة للدلالة علی العموم ، و لا یکون استعمالها فی غیره موجباً للمجاز ، و أمّا فیما نحن فیه فیوجد معنیان : الوجوب و الندب ، و قد استعمل اللّفظ - أی الصیغة - فی غیر الموضوع له إلی حدٍّ کثیر یوجب التوقف .
و فیه : إن صاحب (الکفایة) لا یقول بأن کثرة استعمال العام فی الخاص یوجب أن یکون مجازاً مشهوراً ، بل یقول : تخصیص العام بکثرةٍ لا یوجب خروجه عن الدلالة علی العموم بحیث یسقط أصالة العموم ، فکذلک ما نحن فیه ، فلا یوجب کثرة استعمال الصیغة فی الندب خروجها عن کونها موضوعةً للوجوب بحیث یسقط أصالة الحقیقة .
قال الاستاذ : بل الحقّ - فی الإشکال علی المحقق الخراسانی فی هذا المقام - أن یقال :
أمّا دعوی التبادر ، فإنه یعتبر أن یکون التبادر من حاقّ اللّفظ لا من خارجه من إطلاقٍ أو سیرة ، و تحقّقه هنا أوّل الکلام ، لأن تبادر الوجوب :
إمّا هو من المادّة ، فهی لیست إلاّ المعنی الحدثی .
و إمّا من الهیئة ، و مدلول الهیئة عنده عبارة عن الطلب ، و هو غیر الوجوب ، أو عن البعث النسبی کما قال المحقق الأصفهانی ، و هو غیر الوجوب .
و إمّا عن المرکَّب من المادّة و الهیئة ، و هو لیس له وضع علی حدة .
ص:47
علی أنّ الصیغة تستعمل فی الندب - و بدون أیّ عنایةٍ - کاستعمالها فی الوجوب ، کأن نقول : اغتسل للجنابة ، و نقول : اغتسل للجمعة .
هذا بالنسبة إلی استدلاله بالتبادر .
و أمّا مناقشته لصاحب (المعالم) فالإنصاف : أنّ استعمال الصیغة فی غیر الوجوب کثیر جدّاً ، و لعلّه الغالب علی استعمالها فی الوجوب ، و دعوی اقتران تلک الاستعمالات بالقرینة مقبولة ، لکن إنکار وصولها إلی حدّ المجاز المشهور مشکل .
و تنظیره ما نحن فیه بقضیّة ما من عامٍّ إلّا و قد خص . فیه : إنه خلاف مبناه فی باب العامّ و الخاص ، فإنّه یری أن العام مستعمل فی معناه و هو العموم ، إلاّ أن الخصوص یستفاد من دالٍّ آخر ، فتعدّد الدالّ هو الدلیل علی التخصیص ، لا أن العام قد استعمل فی غیر ما وضع له ... و حینئذٍ ، فلصاحب (المعالم) أنْ یقول بالفرق بین المقامین ، و أن استعمال الصّیغة فی الندب مجاز .
و علی الجملة ، فقد ظهر سقوط الاستدلال بالتبادر للقول بدلالة الصیغة علی الوجوب ، و کان هذا هو الوجه الأوّل .
الثانی : الکتاب و السنّة . فقد ذکر أصحاب ( المعالم ) و(البدائع) و(هدایة المسترشدین) (1) آیاتٍ و روایات من الکتاب و السنّة دالّةً علی الوجوب ، کقوله تعالی : «مَا مَنَعَکَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ » (2)فإنّه یدلُّ علی کون الصیغة دالّة علی
ص:48
الوجوب ، لکونه ذمّاً و توبیخاً علی المخالفة لقوله عزّ و جلّ «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِکَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ » (1)و «... فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِینَ » (2).
و فیه :
أوّلاً : هل کانت هذه الاستعمالات عاریةً عن القرینة ؟
و ثانیاً : سلّمنا ، لکنّه استعمالٌ ، و هو أعمّ من الحقیقة .
نعم ، مثل قوله تعالیٰ «وَأَتِمُّوا ... » (3)- بضمیمة کلام الإمام علیه السلام - یدلُّ علی الوجوب ، و لکنْ هل هذه الدلالة وضعیّة أو إطلاقیّة ؟
الثالث : العقل . و هذا طریق المحقق النائینی (4) الذی سلکه المتأخرون أیضاً ، و حاصله : إنّه إذا صدر أمر من المولی الحقیقی ، فإنّ العقل یحکم علی العبد بمقتضی قانون حکم الطّاعة - بلزوم الإطاعة و باستحقاقه العقاب إذا خالف .
و قد تکلّمنا علی هذا الوجه سابقاً . و حاصل الکلام هنا :
إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، لأن المدّعی هو أعمّ من أن یکون الأمر صادراً عن المولی الحقیقی ، و لا یختص بمورد استدلاله ... فالأمر یدلّ علی الوجوب فی أوامر الناس بعضهم بعضاً ، مع عدم وجود حکم عقلی مستند إلی حق الطاعة ، إلّا مع القرینة علی الرخصة ، هذا أولاً .
و ثانیاً : إنّ الأحکام العقلیّة - سواء فی موارد المولی الحقیقی أو العرفی - تنتهی إلی حسن العدل و قبح الظلم ، و هما حکمان کلّیان ، فالعقل یری
ص:49
ضرورة إطاعة العبد لمولاه لأنها عدل ، و عدم عصیانه لأنه ظلم ، و الظلم إنما یتحقق حیث یصدق العصیان ، و إذ لا عصیان - کما لو لم یکن أمر المولی إلزامیّاً - فلا ظلم ... و هذه هی کبری حکم العقل .
و الحاصل : إنه لا حکم للعقل إلّا بقبح الظلم بمعصیة أوامر المولی ، أمّا مع الشک فی دلالة أمره علی الوجوب و الإلزام ، فلا یحکم العقل بقبح مخالفته ، إلّا أن یقال بأنّ للعقل حکماً ظاهریّاً مفاده : کلّما شککت فی أمر أنه إلزامی أو لا ، لزم علیک امتثاله و إلّا فأنت ظالم ، ... و من الواضح عدم وجود هکذا حکم ظاهری احتیاطی من العقل .
و بعبارة أخریٰ - کما فی (المنتقی) (1) - إنه بعد إدراک العقل أن إنشاء الطلب یمکن أن یکون عن إرادة حتمیّة کما یمکن أن یکون عن إرادة غیر حتمیّة ، و أن المنشأ عن إرادة غیر حتمیة لا یلزم امتثاله ، کیف یحکم بلزوم الامتثال بمجرّد الإنشاء ما لم یدّع ظهور الصیغة فی کون الإنشاء عن إرادة حتمیة ، و هو خلاف المفروض ؟ و هل یجد الإنسان فی نفسه ذلک ؟ ذلک ما لا نستطیع الجزم به بل یمکن الجزم بخلافه .
و علی الجملة ، فإنّ مطلب المیرزا إنما یتمُّ لو ثبت أنّ للعقل هکذا حکم کما توجد فی الشریعة أحکام ظاهریّة إلی جنب الأحکام الواقعیّة ، أو تقوم سیرة عقلائیّة علی أنّه متی وردت الصیغة المجرّدة عن المرخّص فی الترک فالطلب إلزامی ، و إلّا ، فإنّ المرجع هو البراءة عقلاً و شرعاً ، و عدم کفایة قانون حقّ الطاعة علی التحقیق .
الرابع : الظهور الإطلاقی فی الوجوب .
ص:50
ذهب صاحب (الکفایة) (1) إلی أن الوجوب عبارة عن الطلب بلا تقیید ، و أن الاستحباب عبارة عن الطلب المقیَّد بالترخیص فی الترک ، فهو المحتاج إلی البیان ، و الوجوب غیر محتاج إلیه .
و قال المحقق الأصفهانی (2) : إن الوجوب عبارة عن البعث الأکید ، و الاستحباب عبارة عن البعث غیر الأکید ، و لازم الأوّل عدم الترخیص فی الترک ، و الثانی لازمه الترخیص فیه ، و حینئذٍ یحتاج إلی البیان ، بخلاف الوجوب ، فإن نفس الصّیغة کافیة فی إفادته ، لأن الأمر العدمی - و هو هنا عدم الترخیص - لا یحتاج إلی بیان .
وعلیه ، فکلّما جاءت الصیغة مجرّدة عن البیان فی الترخیص ، کان مقتضی إطلاقها هو الوجوب .
قال الاستاذ فی الدورة السابقة :
و هذا ثبوتاً صحیح ، إلّا أن الکلام فی مقام الإثبات ، إذ العقلاء لا یرون وجود مرتبتین للبعث ، إحداهما أکیدة ، و الاخری غیر أکیدة ، فصیغة « اغتسل » سواء فی غسل الجنابة و الجمعة ، و لا فرق عندهم فیها ... هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنه لیس لهیئة افعل وضعان ، بل الوضع الواحد ، و هی موضوعة للنسبة البعثیّة ، و التأکّد و عدمه أمران زائدان علی حقیقة البعث ، و خارجان عن مدلول الهیئة ، فلو کان التأکّد مدلول الهیئة - وضعاً أو ظهوراً - لزم أن یکون استعمالها فی غیر الأکید مجازاً .
و للمحقّق العراقی تقریب آخر (3) . قال :
ص:51
إن الوجوب عبارة عن نفس الطلب المعبَّر عنه بالطّلب التام ، و هو غیر محدودٍ بحدّ ، بخلاف الندب ، فإنه محدود بحدّ النقص ، فالندب محتاج إلی بیانٍ زائد ، و حیث لا بیان ، فمقتضی الإطلاق هو الوجوب .
قال الاستاذ : و فیه :
أوّلاً : إنّه سواء کان الإرادة ، أو الفعل النفسانی ، أو الطلب الإنشائی ، أو الطلب الاعتباری ، فهو - بأیّ معنیً أخذ - محدود .
و ثانیاً : إن المفروض وضع الهیئة لنفس الطلب ، لا الطلب غیر المحدود - بأن یکون عدم المحدودیّة داخلاً فی المفهوم - فلا مرتبة فی مفهومه ، وعلیه ، فکما أن المرتبة النازلة من الطلب محتاجة إلی البیان ، کذلک المرتبة العالیة .
هذا ، و إلی ما ذکر من الکلمات یرجع کلام مثل الشیخ الیزدی الحائری (1) القائل بأنّ الندب عبارة عن الإرادة مع الإذن فی الترک ، و الوجوب هو الإرادة بلا إذنٍ فی الترک ... فإنّه بعد إرجاعه إلی ما تقدّم یرد علیه ما ورد علیه ، و إلّا فظاهر کلامه غیر صحیح ، لأن الإرادة من الامور التکوینیة ، و الوجوب و الندب من الأمور الاعتباریّة التشریعیّة .
و أیضاً ، فالإرادة من مقدّمات الطلب و لیست نفس الطلب .
و تلخّص : عدم تمامیة الاستدلال - لدلالة الصیغة علی الوجوب - بالآیة و الروایة و بالعقل و بالتبادر و بالظهور الإطلاقی .
الخامس : السیرة العقلائیة .
ص:52
فإنّ السیرة العقلائیّة قائمة علی ترتیب الأثر إلزاماً علی صیغة افعل ، و هی سیرة عامّة ، غیر مختصّة بالموالی و العبید ... کما تقدّم فی مادّة الأمر .
و قد کان هذا هو المرتکز بین أصحاب الأئمة علیهم السلام ، و تشهد به ضروراتٌ من الفقه .
فالوجوب لیس لفظیّاً و لا عقلیّاً ، بل هو عقلائی .
و مما یشهد به فی الفقه مسألة خیار الغبن ، فإن المستند العمدة علی ثبوت هذا الخیار هو تخلّف الشّرط ، إذ الشرط الارتکازی بین العقلاء فی المعاملة هو المساواة بین الثمن و المثمن ، فبناء العقلاء فی سائر معاملاتهم علی المساواة بینهما کاشف عن وجود هذا الشرط فی کلّ معاملة ، و لو مع عدم التلفّظ به فی متن العقد .
فکما یکون البناء العقلائی هناک ذا أثر من هذا القبیل ، و لدی التخلّف یستند إلی ذلک ، کذلک البناء العقلائی فیما نحن فیه ، علی ترتیب أثر الوجوب و الإلزام علی صیغة افعل ، کاشف عن دلالتها علی الوجوب .
و هذا هو التحقیق عند الاستاذ فی الدورة اللّاحقة .
أقول :
و لکن ، هل لهذه السیرة ملاک أو لا ؟ و کیف تحقق مع العلم باستعمال الصیغة فی الندب بقدر استعمالها فی الوجوب إن لم یکن أکثر ؟
و من هنا یرجع المطلب إلی الإطلاق ، بالبیان الذی ذکره فی الدّورة السابقة . من أن الوجوب - فی الحقیقة - أمر اعتباری منتزع من البعث و عدم الترخیص فی الترک ، و أنّ الندب أمر اعتباری منتزع من البعث و الترخیص فی الترک ، فلیس الوجوب و الندب إلّا أمرین منتزعین ، هذا فی الواقع ، و کذلک
ص:53
الحال فی مقام الإثبات عند العقلاء ، فإنّهم یرون البعث من المولیٰ و عدم ترخیصه فی الترک منشأً لانتزاع الوجوب بلا حالةٍ منتظرة ، وعلیه ، فإن الندب هو المحتاج إلیٰ البیان الزائد ، أمّا الوجوب فلا ، و مع الشک ، یکون مقتضی الاطلاق هو الوجوب ، فکان هذا الإطلاق هو الملاک لبناء العقلاء فی حمل الکلام علیٰ الوجوب .
ص:54
ص:55
ص:56
ذهب صاحب (الکفایة) (1) قدّس سرّه : إلی أنّ الجملة الخبریّة مستعملة فی نفس مدلولها ، و هو النسبة ، ففی الماضی : النسبة التحقّقیة ، و فی المضارع : النسبة الترقّبیة ، ففی قوله علیه السلام « یعید » و « أعاد » - مثلاً - قد استعملت الجملة - فی حال الإنشاء - فی نفس المعنی المستعملة فیه فی حال الإخبار ، غیر أنّ الداعی یختلف ، فهو هنا عبارة عن الطلب ، و فی الإخبار عبارة عن الحکایة .
و الحاصل : إن الفرق بین الجملتین و اختلافهما إنّما هو بداعی الاستعمال ، و الفرق بین صیغة الأمر و الجملة الخبریّة هو : إن المستعمل فیه فی الصیغة عبارة عن الطلب الإنشائی ، و فی الجملة هو النسبة ، فبها یُنشأ النسبة البعثیّة ، أو البعث النسبی .
و ذهب السید الخوئی (2) : إلی أنّ الاختلاف بین الاخبار و الإنشاء لیس من ناحیة الداعی إلی الاستعمال ، بل إن المستعمل فیه فی مثل « یعید » فی کلام الامام علیه السلام هو اعتبار الإعادة فی ذمّة المکلّف ، فتکون الجملة الإخباریة فی مقام الإنشاء مبرزةً للاعتبار .
و هذان القولان هما العمدة فی المقام .
ص:57
و قال الاستاذ دام بقاه فی الدورة اللّاحقة : بأنّ الحق مع المحقّق الخراسانی ، لعدم مجیء مدّعیٰ القول الثانی إلی ذهن أحدٍ ممن سمع قول الإمام علیه السلام « یعید الصلاة » و نحوه ، أو رواه ، بل إن مفاد هذه الجملة - فی قول الإمام ذلک کما فی الخبر ، جواباً عن السؤال عن حکم الصّلاة الواقع فیها الخلل الکذائی - نفس مفادها فی مقام الإخبار ، و المستعمل فیه فی کلا المقامین هو الإعادة ، غیر أنّ القرائن الحالیّة أو المقامیّة أفادت أنّ الداعی للاستعمال فی مثل مورد الجواب عن السؤال المزبور مثلاً هو الطلب ، و لمّا کان استعمال الجملة بهذا الداعی ، فلا مجال لتوهّم لزوم الکذب .
و یبقی الکلام فی وجه دلالة الجملة الخبریّة فی مقام الطلب مثل « یعید » ، علی الوجوب ، فإنّ ما ذکره المحقق الخراسانی من أن نفس الإتیان بالجملة یکفی للدلالة علی کون الطلب لزومیّاً لا یرضی المولی بمخالفته ، غیر وافٍ بالمدّعی ، بل الحق أنّ الدلالة إنما هی بالسیرة العقلائیّة ، القائمة علی الطلب الجدّی اللّزومی ، ما لم تقم قرینة علی الخلاف ... و توضیح ذلک :
إنه و إنْ کان الأصل فی السیرة العقلائیّة عدم التعبّد ، لکنّ المفروض أنّ مدلول الجملة هو النسبة البعثیّة - إمّا بنحو الإیجاد أو بنحو الإبراز ، علی الخلاف - و حینئذٍ ، فإنّ الوجود الاعتباری للبعث لا بدّ و أنْ یکون واجداً لآثار الوجود التکوینی له ، لکونه نازلاً منزلته ، کما هو الحال فی جمیع التنزیلات ، و لا أقل من وجود الآثار الظاهرة ، و إلّا لم یکن للتنزیل معنی ، فمثلاً : عند ما جعل اللّٰه سبحانه فی آیة المباهلة (1) علیّاً علیه السلام نفس الرسول صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم - و هو جعل اعتباری بلا تردید - فإنّه یقتضی وجود الآثار
ص:58
المتحقّقة فی النفس النبویّة فی نفس الإمام علیه السلام إلّا ما خرج عقلاً أو نقلاً ، لأنّ النفس الولویّة أصبحت بمنزلة النفس النبویّة ، و کذا الحال فی مثل « الطواف بالبیت صلاة » ... و هکذا ، فإن الآثار - خاصّةً البیّنة منها - لا بدّ و أنْ تترتّب ، إلّا مع قیام القرینة علی العدم ، ...
و علی هذا ، فإنّ من أظهر آثار البعث التکوینی هو الانبعاث ، للتلازم الواضح بینهما ، و هذا الأثر لا بدّ من أن یترتّب علی البعث الاعتباری ، سواء کان بالصّیغة أو بالجملة ، سواء علی مبنی المشهور من أن صیغة افعل مثلاً تدل علی الإیجاد - أی إیجاد الطلب - ، أو علی مبنی المحقق الأصفهانی من أنها بعثٌ بالجعل و المواضعة ، أو علی المختار من أنها مبرزة للبعث الاعتباری - و لیست موجدة - ... و الحاصل : إن أظهر آثار البعث التکوینی هو التلازم بینه و بین الانبعاث من ناحیة الباعث ، فلا یمکن أنْ یکون بعثٌ بدون انبعاث من ناحیة الباعث ، فیکون الحال فی البعث الاعتباری کذلک ، لکونه قائماً مقام التکوینی و منزّلاً بمنزلته ... إلّا إذا جاء من قبله المرخّص للترک ، و هذا خلاف الأصل .
فظهر : أن الدالّ علی الوجوب هو السیرة العقلائیّة ، و السرّ فی ذلک هو عدم التفکیک و الانفکاک بین البعث و الانبعاث من ناحیة الباعث ... و هذا عین الوجوب ... خذ و اغتنم .
، فی النظر فی کلامٍ للسید البروجردی فی هذا المقام :
و ملخّص ما ذکره رحمه اللّٰه کما جاء فی تقریر بحثه تحت عنوان :
هاهنا نکتة لطیفة یعجبنا ذکرها :
إنّ الأوامر و النواهی الصادرة عن النبی و الأئمة - علیهم الصلاة و السلام -
ص:59
علیٰ قسمین ، فمنها : ما صدر عنهم بعنوان إظهار السلطنة و الحاکمیّة و إعمال المولویّة ، نظیر الأوامر الصادرة عن الموالی العرفیّة بالنسبة إلیٰ عبیدهم ، کما فی الأوامر و النواهی الواردة عنهم فی الجهاد و میادین القتال . و منها : ما صدر عنهم لبیان الأحکام الإلهیّة ، نظیر إفتاء المفتی الفقیه .
فأمّا القسم الأوّل ، فیجب إطاعته و یحرم مخالفته ، و أمّا القسم الثانی فلا تکون مخالفته حراماً موجباً للفسق بما هی مخالفة تلک الأوامر و النواهی ، بل بما هی مخالفة أحکام اللّٰه تعالیٰ ، لکون هذا القسم من أوامرهم و نواهیهم ارشادیّاً لا مولویّاً ... .
ثم قال : و الأوامر و النواهی المنقولة عن أئمّتنا بل عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله جلّها ارشادیة بالمعنیٰ المذکور ، و لیست بمولویّة (1) .
أقول (2)
لکنَّ مقتضی الأدلّة هو : إنّ الأوامر و النواهی الصادرة عن المعصومین کلّها مولویة ، و هذا هو الأصل فیها إلّا ما قام الدلیل علیٰ إرشادیّته ، بل إنّ مفاد الأدلّة أنّ کلّ ما یصدر عنهم تجب إطاعتهم فیه ، لأنّ الأحکام مفوّضة إلیهم ، و لهم الولایة المطلقة ، فلا فرق بین قول اللّٰه عز و جل فی القرآن الکریم و قولهم الثابت عنهم ، فی أن کلیهما حکم إلهی یجب امتثاله .
أمّا بالنسبة إلیٰ أوامر النبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، فما ذکرناه موضع وفاقٍ بین الخاصّة و العامّة ، و یدل علیٰ ذلک قوله تعالیٰ : «مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » (3)ففی الصحیح عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام :
ص:60
« إنّ اللّٰه أدّب نبیّه فأحسن أدبه ، فلمّا أکمل له الأدب قال : «وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ » ثم فوّض إلیه أمر الدین و الأُمّة لیسوس عباده فقال عزّ و جلّ «مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » . و إنّ رسول اللّٰه - صلّی اللّٰه علیه و آله - کان مسدّداً موفّقاً مؤیّداً بروح القدس ، لا یزلُّ و لا یخطئ فی شیء ممّا یسوس به الخلق ، فتأدّب بآداب اللّٰه . ثم إنّ اللّٰه عز و جل فرض الصلاة ... فأضاف رسول اللّٰه ... فأجاز اللّٰه عز و جل له ذلک ... » .
و مثله غیره فی « باب التفویض إلیٰ رسول اللّٰه و إلی الأئمة فی أمر الدین » من کتاب الکافی (1) و غیره ، ممّا جاء التصریح فیه بثبوت هذه المنزلة للنبی صلّی اللّٰه علیه و آله و سلّم ، و اشتمل علیٰ موارد من الأحکام التی وضعها فی الأبواب المختلفة ... و کذلک کلمات المفسرین من الفریقین بذیل الآیة المبارکة ، فإنّهم قالوا بأنها تدل علیٰ أنّ کلّ ما أمر به النبی فهو أمرٌ من اللّٰه ، و کلّ ما نهیٰ عنه فهو نهی منه (2) .
و أمّا بالنسبة إلیٰ الأئمة - علیهم السلام - فیدلُّ علیه النصوص العامّة فی أنّهم بمنزلة النبی صلّی اللّٰه علیه و آله (3) و أنهم الورثة له (4) و أن طاعتهم مفروضة کطاعته (5) ، و النصوص الخاصّة الکثیرة کما قال غیر واحدٍ من الأکابر ، أو
ص:61
المستفیضة کما قال الشیخ المجلسی کما سیأتی ، کالصحیح عن أبی عبد اللّٰه علیه السلام : « إنّ اللّٰه عزوجلّ أدّب نبیّه علیٰ محبّته فقال : « وَإِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ» ثم فوّض إلیه فقال عزّ و جل : « مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » و قال عز و جل : «مَّنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ » . و إنّ نبی اللّٰه فوّض إلیٰ علی و ائتمنه ، فسلّم و جحد الناس » (1) .
و بثبوت هذه المنزلة لهم صرّح جماعة من الأساطین من الفقهاء و المحدّثین :
قال الوحید البهبهانی - فی معانی التفویض الذی رمی به بعض الرواة - :
« الرابع : تفویض الأحکام و الأفعال ، بأنْ یثبت ما رآه حسناً و یردّ ما رآه قبیحاً ، فیجیز اللّٰه إثباته و ردّه ، مثل : إطعام الجدّ السّدس ، و إضافة الرکعتین فی الرّباعیّات ، و الواحدة فی المغرب ، و النوافل أربعاً و ثلاثین ، و تحریم کلّ مسکر ... » ثم نصّ علی کثرة الأخبار الواردة فی هذا المعنیٰ (2) .
و قال أیضاً : « و قد حقّقنا فی تعلیقتنا علیٰ رجال المیرزا ، ضعف تضعیفات القمیین ، فإنهم کانوا یعتقدون بسبب اجتهادهم اعتقاداتٍ من تعدّی عنها نسبوه إلیٰ الغلو ، مثل نفی السّهو عن النبی ، أو إلیٰ التفویض مثل تفویض بعض الأحکام إلیه صلّی اللّٰه علیه و آله » (3) .
و قال صاحب ( الحدائق ) فی بحثه عن اختلاف الأخبار فی منزوحات البئر : « و احتمل بعض محققی المحدّثین من المتأخّرین کون هذا الاختلاف من باب تفویض الخصوصیّات لهم علیهم السلام ، لتضمّن کثیرٍ من الأخبار أنّ
ص:62
خصوصیّات کثیر من الأحکام مفوّضة إلیهم ، کما کانت مفوّضةً إلیه صلی اللّٰه علیه و آله » (1) .
و قال السید عبد اللّٰه شبّر : « و الأخبار بهذا المضمون کثیرة ، رواها المحدّثون فی کتبهم ، کالکلینی فی الکافی و الصفّار فی البصائر و غیرهما ، و حاصلها : إنّ اللّٰه سبحانه فوّض أحکام الشریعة إلیٰ نبیّه بعد أنْ أیّده و اجتباه و سدّده و أکمل له محامده و أبلغه إلیٰ غایة الکمال . و التفویض بهذا المعنیٰ غیر التفویض الذی أجمعت الفرقة المحقّة علیٰ بطلانه » (2) .
و قال صاحب ( الجواهر ) : « قال فی المسالک : رویٰ العامّة و الخاصّة إنّ النبی صلّی اللّٰه علیه و آله کان یضرب الشارب بالأیدی و النعال ، و لم یقدّره بعدد ، فلمّا کان فی زمن عمر ، استشار أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدّه ، فأشار علیه بأنْ یضرب ثمانین جلدة ، معلّلاً بأنه إذا شرب سکر ، و إذا سکر هذی ، و إذا هذی افتریٰ .
و کان التقدیر المزبور عن أمیر المؤمنین من التفویض الجائز لهم » (3) .
و قال الشیخ التقی المجلسی : « ... کما یظهر من الأخبار الکثیرة الواردة فی التفویض إلیٰ النبی و الأئمة صلوات اللّٰه علیهم » (4) .
و قال الشیخ المجلسی : « و ألزم علیٰ جمیع الأشیاء طاعتهم حتی الجمادات ، من السماویات و الأرضیّات ، کشقّ القمر ... و فوّض أمورها إلیهم
ص:63
من التحلیل و التحریم و العطاء و المنع ، و إنْ کان ظاهرها تفویض تدبیرها إلیهم ، « فهم یحلّلون ما یشاءون » ظاهره تفویض الأحکام ، کما سیأتی تحقیقه » (1) .
ص:64
ص:65
ص:66
الواجبات الشرعیّة هی بالضّرورة علی قسمین ، قسم : لا یحصل الغرض منه إلّا إذا اتی به بقصد القربة ، و هذا هو التعبّدی ، و قسم : یحصل منه الغرض بأیّ داعٍ اتی به ، و هو التوصّلی . فمن الأوّل : الصلاة مثلاً ، و من الثانی : دفن المیت المؤمن مثلاً .
فتارةً : نحرز کون الواجب من هذا القبیل أو ذاک ، و اخری : یقع الإشکال فیه ، کما فی العتق فی الکفّارات مثلاً ، حیث یقع الکلام فی سقوط الأمر به بمجرّد الإتیان به ، أو أنه لا بدّ فیه من قصد القربة ... و لأجل وجود هذا القسم من الواجبات فی الشریعة المقدّسة ، عقد هذا البحث ، لأن المفروض عدم وضوح حاله من جهة الأدلّة ، فتصل النوبة إلی مقتضی الاصول .
و الأصل فی هذا المقام : إمّا الأصل اللّفظی ، و إمّا الأصل العملی ، و الأصل اللّفظی ، إمّا داخلی و إمّا خارجی ، کما أن الأصل العملی إمّا شرعی و إمّا عقلی ... و المقصود من الأصل اللّفظی الداخلی هو إطلاق الصیغة ، و من الأصل اللّفظی الخارجی هو الأدلّة اللّفظیة من الکتاب قوله تعالی : «قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّینَ » (1)أو السنّة مثل قوله علیه الصّلاة و السلام :
« لا عمل إلّا بنیّة » (2) .
ص:67
فیقع البحث فی جهات :
و المقصود من ذلک هو البحث عن مقتضی الأصل اللّفظی الداخلی ، بأنْ ننظر هل للصیغة إطلاقٌ یصحّ لأن یکون رافعاً للشبهة و یوضّح حال الواجب من حیث التعبدیّة و التوصلیّة أو لا ؟
و لا بدّ من تحقیق حال الأصل اللّفظی الداخلی فی مرحلتین ، فی مرحلة الثبوت ، و أنه هل یمکن الإطلاق و التقیید أو لا ، ثم فی مرحلة الإثبات .
فإن حصلنا علی أصل لفظی من الداخل فهو ، و إلّا فمن الخارج ، و إلّا فالأصل العملی ، فنقول :
لو شککنا فی واجبٍ من الواجبات أنه توصّلی أو تعبّدی ، فهل من إطلاقٍ یثبت التوصّلیة أو لا ؟
و قبل الإجابة علی ذلک ، لا بدّ من البحث فی مقام الثبوت ، و أنّه هل من الممکن وجود الإطلاق بالنسبة إلی قصد القربة أو لا ؟
إن إمکان الإطلاق موقوف علی إمکان التقیید ، بناءً علی أن التقابل بینهما من قبیل العدم و الملکة ، فکلّ موردٍ لا یمکن فیه التقیید فلا یمکن الإطلاق ، کما فی البصر ، فالمورد الذی لا یمکن فیه البصر لا یمکن فیه العمیٰ و هو عدم البصر فی المورد القابل له - و علی هذا المبنی طرح المحقّق الخراسانی البحث ، لکنّ البحث ینقسم إلی قسمین ، هما : الإطلاق و التقیید بالأمر الأوّل ، و الإطلاق و التقیید بالأمر الثانی ، هذا من جهةٍ .
و من جهةٍ اخریٰ ، فالتقیید تارةً یکون بنحو القید و اخری بنحو الجزء ، بأنْ یکون قصد القربة فی العمل قیداً له أو یکن جزءاً له ، و هذا مقصود (الکفایة) من الشرطیّة و الشطریّة .
ص:68
فالکلام الآن فی إمکان تقیید متعلّق الأمر بقصد القربة بنفس الأمر الأوّل .
و قد تعرّض صاحب (الکفایة) (1) هنا لاُمورٍ :
(فی بیان التمییز بین الوجوب التوصّلی و الوجوب التعبّدی) .
فقال رحمه اللّٰه : الوجوب التعبّدی هو الوجوب الذی لا یحصل الغرض من الوجوب فیه إلّا بالإتیان بمتعلَّق الأمر علی الوجه القربی ، و الوجوب التوصّلی هو الوجوب الذی یحصل الغرض من الوجوب فیه بالإتیان بالمتعلَّق بأیّ داعٍ کان .
فالفرق بینهما یکون من ناحیة اختلاف الغرض .
و قد أورد علیه المحقّق الأصفهانی (2) بإشکالین تصریحاً و تلویحاً :
أحدهما : إنه لا یوجد أیّ اختلاف و افتراق بین الوجوبین أصلاً ، بل الافتراق هو فی طرف الواجبین ، لأنّ الوجوب - علی أیّ حال - إنما هو لجعل الداعی ، فسواء کان الخطاب : « صلّ » أو « اغسل ثوبک » فقد جاء الوجوب لجعل الداعی لحصول متعلَّق الأمر ، و أنه لیس الغرض من الوجوب إلّا جعل الداعی ، لکنَّ الغرض من أحدهما لا یحصل إلّا مع قصد القربة دون الآخر فإنه مطلق ، فالاختلاف من ناحیة الواجب لا الوجوب .
ص:69
و الثانی - و هو یظهر من الأوّل - فإنه بناءً علی ما ذکر ، لا وجه لجعل البحث من مباحث الصیغة ، إذ المادّة فی الواجب التوصّلی مطلقة ، و فی التعبّدی مقیّدة ، فیکون الإطلاق هنا من إطلاق الواجب و المادّة ، و لا علاقة للبحث بالصیغة ، فقول (الکفایة) : إطلاق الصیغة هل یقتضی التعبّدیة أو التوصّلیة ؟ بلا وجه .
و قد دفع الاستاذ کلا الإیرادین :
أمّا الأوّل : فبأنّ الوجوب التعبّدی و إن کان لا یختلف عن الوجوب التوصّلی ذاتاً ، لأنّ الوجوب کیفما کان فمعناه واحد ، و لا یختلفان کذلک من ناحیة الغرض الأوّلی للوجوب ، و هو جعل الداعی ، لکنهما مختلفان من جهة الغرض النهائی ، لأن الغرض من جعل الوجوب هو جعل الداعی ، و الغرض من جعل الداعی هو حصول المتعلَّق ، و الغرض من حصول المتعلَّق حصول المصلحة المترتبة علی المتعلَّق ، فلو کانت المصلحة مقیَّدة - أی کانت قائمة بالعمل المأتی به مع قصد القربة - کان الغرض من جعل الداعی هذا العمل المقیَّد ، فما لم یحصل لم یتحقّق الغرض ، و متی لم یحصل جعل الداعی بهذا الغرض لم یتحقق الوجوب ، فلا محالة لا یتحقق الغرض من الوجوب المجعول علی الصلاة - مثلاً - إلّا بالإتیان بها بقصد القربة . فقول صاحب (الکفایة) : بأن التعبّدی هو الذی لا یسقط الأمر فیه - أو لا یتحقق الغرض منه - إلّا إذا أتی به متقرّباً به ، بخلاف التوصّلی الذی هو مطلقٌ من هذه الجهة ، کلام صحیح ... و لا یرد علیه الإشکال ، لوجود الفرق بینهما فی الغرض النهائی و هو المصلحة ، و إن لم یفترقا فی الغرض الأوّلی و هو جعل الداعی .
ص:70
و أما الثانی ، فإنه غفلة منه قدّس سرّه عن مطلبین :
أحدهما : إن الصیغة مرکّبة من المادة و الهیئة ، فقولهم : « إطلاق الصیغة » مشترک ، و لذا یأتی السؤال : هل المراد إطلاق المادّة أو الهیئة ؟
و الثانی : لقد ذکر فی (الکفایة) فی الأمر الأوّل « إطلاق الصیغة » لکنه قال فی الأمر الثالث « إطلاق الصیغة یقتضی التوصّلیة » فلو التفت المحقق الأصفهانی إلی المطلبین لم یشکل علی (الکفایة) بما ذکر .
هذا کلّه فی الأمر الأوّل من الامور التی تعرّض لها فی (الکفایة) .
(فی إمکان أخذ داعی الأمر فی المتعلَّق و عدم إمکانه) .
فذهب المحقق الخراسانی إلی استحالة أخذ داعی الأمر - و هو قصد القربة - فی متعلَّق الأمر ، و تقییده به ، و ذلک لأنه إذا اخذ قصد الأمر فی المأمور به ، لم یکن للمکلَّف القدرة علی الامتثال ، فالمأمور به هو الحصّة الخاصّة من الصّلاة ، و هی المقیَّدة بداعی الأمر ، و حینئذٍ لا یتحقّق الامتثال .
قال شیخنا دام ظلّه :
إنه لم یبیّن وجه استحالة الأخذ ، ثم إنّه قد خلط بین الأخذ من ناحیة المولی و الامتثال من ناحیة المکلّف ، و جعل هذا متفرّعاً علی ذاک ، إذ قال بالنسبة إلی المحذور فی مقام الجعل « لا یمکن الأخذ » و بالنسبة إلی المحذور فی مقام الامتثال « لا یمکن امتثالها » مع تفریع هذا علی ذاک .
قال الاستاذ : و الصحیح أن یقع البحث فی مقامات :
1 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة تصوّر الآمر ؟
2 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة الإنشاء ؟
ص:71
3 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة فعلیّة الأمر ؟
4 - هل یمکن تقیید متعلَّق الأمر بقصد الأمر فی مرحلة الامتثال ؟
لا ریب أنّ المولی عند ما یرید أن یأمر بشیء ، فإنّه لا بدّ من أن یتصوّر الأمر و متعلَّق الأمر ، فهل یمکن تصوّر ذلک مع أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه أو لا یمکن ؟
حاصل الإشکال هو : إنّ « الأمر » من المفاهیم ذات التعلّق ، و الأمر بالشیء لا یتصوَّر إلّا مع تصوّر الشیء ، فالأمر بالصّلاة لا یمکن تصوّره إلّا مع تصوّر الصّلاة ، و لکن المفروض أن متعلَّق الأمر هو الصّلاة التی تعلَّق الأمر بها مع قصد القربة ، فتصوّر الأمر موقوف علی تصوّر الأمر ، و هذا هو الدور .
و بعبارة اخریٰ : إن متعلّق الأمر هو الصّلاة ، و هی مقیَّدة بقصد الأمر ، فیکون الأمر متعلَّق المتعلَّق ، أی : إن متعلَّق الأمر - الذی هو الصلاة المقیّدة بقصد الأمر - أصبح متعلَّق الأمر ، و لمّا کان الأمر متعلَّق متعلَّق الأمر ، فلا بدَّ من تصوُّره قبل الأمر کما ذکرنا ، فتوقف الأمر علی تصوّر الأمر ، و تصوّر الأمر موقوف علی تصوّر متعلّق الأمر المفروض أخذه - الأمر - فی المتعلَّق .
و هذا الإشکال إنما یلزم فی التعبّدی . أما فی التوصّلی - کالأمر بدفن المیّت مثلاً - فلا ، لأن الأمر به یتوقّف علی تصوّر الأمر ، و تصوّر الأمر یتوقّف علی تصوّر دفن المیّت ، فکان الموقوف هو الأمر ، و الموقوف علیه دفن المیت ، فلا دور .
جواب المشکینی عن إشکال الدور
و لعلّ خیر ما قیل فی حلّ مشکلة الدور هنا جواب المحقق
ص:72
المشکینی (1) ، فإنّه حاول إثبات التغایر بین الموقوف و الموقوف علیه فقال :
بأنّ المأخوذ فی متعلَّق الأمر هو طبیعی الأمر ، و لکن المتصوَّر فی طرف المتعلَّق هو شخص الأمر ، و ذلک ، لأنّ المتعلّق هو الصّلاة المقیَّدة بقصد الأمر ، لکنْ طبیعی الأمر لا شخصه و فرده ، أمّا الأمر المتعلِّق بنفس الصّلاة فهو شخص الأمر و فرده ، و هذا المقدار من الاختلاف کان لرفع الدور .
قال : و نظیر ذلک قول القائل : « کلّ خبری صادق » فإنّه تحلُّ فیه مشکلة الدور من جهة أن شخص هذا الخبر - و هو قوله : کلّ خبری صادق - موقوف علی الحکم و هو « صادق » و أمّا الحکم « صادق » فموقوف علی طبیعة الخبر لا شخص هذا الخبر ، و هنا کذلک ، إذ أنّ تصوّر شخص الأمر المتوجّه إلی الصّلاة موقوف علی تصوّر الصلاة بقصد الأمر ، لکن طبیعی الأمر لا شخصه .
و أورد علیه الاستاذ بالفرق بین المقامین ، فإن الموضوع فی تلک القضیّة هو طبیعة الخبر ، و شخص هذا الخبر - و هو قوله : کلّ خبری صادق - غیر طبیعة الخبر ، هذا صحیح . أمّا فی مقامنا هذا ، فإنّه - بعد استحالة الإهمال من الحاکم إمّا الإطلاق و إمّا التقیید ، فإنه لمّا یقول « صلّ » بقصد الأمر بالصّلاة ، لا یرید الإتیان بها بقصد مطلق الأمر بنحو اللّابشرط ، حتی الأمر المتوجّه إلی الصیام و الحج مثلاً ، فلیس المراد الصّلاة بقصد الأمر المطلق - کما لم یکن الصّلاة بقصد الأمر المهمل بالنسبة إلی خصوصیات الأمر - فتعیّن أنْ یکون المقصود الإتیان بالصّلاة بقصد شخص هذا الأمر و هو « صلّ » ، فکان شخص الأمر هو المتعلّق ، و هو نفسه متعلَّق المتعلَّق .
ص:73
ثم إنّ الاستاذ ذکر فی حلّ الإشکال : أنه إنما یلزم الدور لو کان الوجود الواحد موقوفاً و موقوفاً علیه ، أمّا مع تعدّدهما ، بأنْ یکون الموقوف - فی مرحلة التصوّر - شخصاً من الطبیعة ، و الموقوف علیه شخصاً آخر منها فلا ...
و فی مرحلة اللّحاظ و التصوّر ، فإنّ الآمر یتصوَّر أمره الذی هو فعل من أفعاله الاختیاریّة ، فالأمر الصّادر مسبوق بالتصوّر ، و لمّا کان من الامور ذات التعلُّق ، فإنّه یتصوّر متعلَّقه معه ، و المفروض أن متعلَّق المتعلَّق نفس هذا الأمر ، فلا بدَّ من تصوّره أیضاً ، فالشیء الواحد - و هو الأمر - قد تُصوُّر مرّتین ، لکن فی رتبتین ، رتبة المتعلَّق و رتبة متعلَّق المتعلَّق ، فکان الموقوف علیه شخص صورة الأمر ، و الموقوف شخص آخر من صورة الأمر ... فحصل التغایر ، إذ قد حصل للأمر بالصّلاة وجودان تصوّریان ، وجود تصوّری مقوّم للمتعلّق ، و وجود تصوّری محقّق لنفس الفعل الذی هو الأمر فی ظرف إصدار الأمر ، لأنّه یتصوّر الأمر الذی یرید إصداره ، فهو یتصوّر الصّلاة بکلّ حدودها و قیودها مع قصد الأمر بها ، ثم عند ما یرید إصدار الأمر و إیجاد هذا الفعل - أی الأمر ، فإنه من أفعال المولی کما تقدّم - یتصوّر الصّلاة بحدودها - و منها الأمر - فیتصوّر الأمر مرّتین ، و لا محذور فیه ، و لا دور .
قال : و بما ذکرنا یندفع اشکال اجتماع اللّحاظین - الآلی و الاستقلالی - فی الشیء الواحد ، من جهة أن « الأمر » بالشیء ملحوظ باللّحاظ الآلی ، فالأمر فی قوله « صلّ » إنّما یُلحظ باللّحاظ الآلی ، لأن المقصود هو البعث نحو الصّلاة ، لکنَّ المتعلَّق یلحظ دائماً باللّحاظ الاستقلالی ، و المفروض تقیّد الصّلاة بقصد الأمر ، فاجتمع اللّحاظان فی الأمر ، من جهة کونه متعلِّقاً
ص:74
و متعلَّقاً ، و هو محال .
وجه الاندفاع ، إن الملحوظ بالاستقلال هو الأمر الواقع بنحو متعلَّق المتعلَّق ، و الملحوظ بالآلیّة هو الأمر المتعلّق ، کما تقدَّم ، فلا إشکال .
قال فی (الکفایة) : لاستحالة أخذ ما لا یتأتی إلّا من قبل الأمر فی متعلّقه (1) .
و توضیح وجه الاستحالة هو : إن الأمر یحتاج إلی المتعلَّق ، و نسبته إلیه نسبة العرض إلی الموضوع ، فکما أن العرض محتاج إلی موضوع یقوم به ، کذلک الأمر ، فهو محتاج إلی ما یتعلَّق به ، وعلیه ، فیکون الأمر متأخّراً رتبةً عن المتعلّق کما هو الحال فی العرض بالنسبة إلی موضوعه ، فلو ارید فی مرحلة الجعل و الإنشاء أن یؤخذ الأمر فی متعلَّقه ، لزم کونه فی مرتبته ، فیصیر المتأخر متقدّماً و المتقدّم متأخّراً ، و هما متقابلان ، و اجتماع المتقابلین محال .
هذا من جهة .
و من جهة اخریٰ : إن الأمر موقوف علی متعلَّقه توقّف العرض علی معروضه ، و لکنْ لو اخذ الأمر فی المتعلَّق - کما هو المفروض - توقّف المتعلَّق علی الأمر ، و هذا هو الدور .
و قد أجاب المحقّقون عن ذلک بالمغایرة بین الموقوف و الموقوف علیه ، بأنّ الموقوف هو الأمر بوجوده الخارجی ، و الموقوف علیه هو الأمر بوجوده التصوّری ، و ذلک ، لأنّ المحقّق للبعث هو الوجود الخارجی للأمر ،
ص:75
أمّا الأمر الذی أخذ فی المتعلَّق کالصّلاة مثلاً و جعلت مقیَّدة بقصده ، فهو الأمر الذی یتصوّره المولی لا الأمر الخارجی .
و أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) بأنّه لیس للأمر وجود غیر وجود المتعلَّق ، حتی یقال بأنّ هذا غیر ذاک ، بل إنَّ الأمر موجود بعین وجود متعلَّقه فی مرحلة الجعل و الإنشاء ، و ذلک لأنَّ « الأمر » من الامور ذات الإضافة و التعلّق کالإرادة ، و الحبّ ، و البغض ، و الشوق ، و العلم ، و البعث ... - فلا یعقل الأمر بدون المأمور به ، کما لا یعقل الإرادة بلا مراد ... و هکذا ... ففی جمیع هذه الحقائق لا بدَّ من وجود الطرف ، و کلٌّ منها موجود بوجوده ، فالمراد بالذات - الذی موطنه النفس - هو المقوِّم للإرادة ، و هکذا الحال فی الاشتیاق و نحوه ... و حیث أنّ الوجود النفسانی للطَّرف - لا الوجود الخارجی له هو المقوّم للأمر ، فإنَّ الأمر و متعلَّقه وجودهما واحد ، و یستحیل أن یکون لهما وجودان ، لأنّ حقیقة الأمر هو البعث ، و لا یعقل البعث بلا مبعوث إلیه ، بل المبعوث إلیه الذی هو فی النفس و وجوده بالذات - و له وجودٌ بالعرض ، و هو المبعوث إلیه الذی یتحقق فی الخارج ، المسقط للأمر - موجود مع البعث بوجودٍ واحد ... فجواب القوم - من أنّ وجود الأمر موقوف علی وجود المتعلّق ، و الأمر الموجود فی المتعلَّق غیر الأمر الذی یتعلَّق بالمتعلَّق - غیر صحیح ، لأنّه یبتنی علی ثبوت وجودین ، و هو باطل .
فالجواب الصحیح عن إشکال الدور ، قد ظهر ممّا ذکره هذا المحقق عن
ص:76
جواب القوم ، و ذلک لأنه لیس هنا وجودان أحدهما موقوف و الآخر موقوف علیه ، بل وجود واحدٌ ، فلا دور .
و قد ارتضی شیخنا هذا الجواب فی الدّورة السابقة . أمّا فی الدّورة اللّاحقة ، فذکر أن له تأمّلاً فیه ، لأنّ فی الأخبار الواردة عن أهل العصمة إنّ اللّٰه تعالیٰ عالم إذ لا معلوم ، و قادر إذ لا مقدور . (1) فتأمّل .
و أمّا الإشکال بلزوم اجتماع المتقابلین - التقدّم و التأخّر - المطروح من المحقق الأصفهانی ، فتوضیحه :
أوّلاً : إن المفاهیم الإضافیة علی قسمین ، فمنها : ما لا تقابل بینهما ، و من الممکن اجتماعهما ، کالحبّ و المحبوب ، فإنهما متضایفان ، و یمکن وجودهما فی مکانٍ واحدٍ ، بأن یکون الشیء الواحد محبّاً و محبوباً معاً ، و منها :
ما یکون بینهما تقابل و لا یجتمعان فی الوجود ، و التقدّم و التأخر من هذا القبیل .
و ثانیاً : إن للتقدّم و التأخّر أقساماً ، و منها : التقدّم و التأخّر الطبعی ، و المراد منه أنْ یکون المتأخّر موقوفاً بالطبع علی المتقدّم و لولاه لم یوجد ، و المتقدّم مستغنٍ فی الوجود عن المتأخّر ، کالواحد و الاثنین .
فالإشکال فیما نحن فیه هو : أنه إذا اخذ قصد الأمر فی المتعلَّق لزم اجتماع المتقابلین بالطبع ... کما تقدَّم .
و قد أجاب عنه المحقق المذکور - و إلیه ترجع سائر الأجوبة فی المقام -
ص:77
و حاصله : إن ما هو المتقدّم طبعاً غیر ما هو المتأخّر طبعاً ، و توضیحه :
إنّ الأمر لا یکون داعیاً بوجوده الخارجی أبداً ، و الداعویّة منه محال ، إذ الداعی لا بدَّ و أن یکون مؤثّراً فی إرادة العبد کی یتحرّک نحو الامتثال ، و لا یکون کذلک إلّا إذا حصل الداعی فی وعاء النفس ، و الوجود الخارجی لا یأتی إلی عالم النفس حتی یؤثّر فی الإرادة ، بل المؤثّر فیها هو الوجود العلمی للشیء ، فإذا علم الإنسان بوجود الماء - و هو عطشان - تحرّک نحوه ، و أما إذا کان بجنبه و هو لا یعلم به فلا یتحرّک إلیه ، فالمؤثر فی الإرادة و یکون له داعویّة هو الوجود العلمی لا الخارجی .
وعلیه ، فالداعویّة هی شأن الوجود العلمی للأمر ، و لا تتحقّق الصّلاة بقصد الأمر إلّا من ناحیة الأمر الموجود بالوجود الذهنی ، فالأمر الذی اخذ فی المتعلَّق و وجب علی المکلَّف قصده هو الأمر العلمی ... بخلاف الأمر الذی یصدر من المولی متعلِّقاً بالصّلاة مثلاً ، فإنه أمر بوجوده الخارجی الواقعی .
فالوجود الخارجی للأمر هو المتعلِّق بالصّلاة ، و الذی جاء قیداً للصّلاة و وجب قصده هو الوجود العلمی للأمر ، فاندفع اشکال اجتماع المتقدّم و المتأخّر ، لأن المتقدّم غیر المتأخّر ، و لیس بینهما تقدّم و تأخّر طبعی .
و أشکل علیه شیخنا دام بقاه - تبعاً للمحقق العراقی (1) - : بأنه غیر رافع للإشکال ، لأنه إن کان المأخوذ فی متعلَّق الأمر - و هو الصّلاة - هو الصّورة العلمیّة للأمر مطلقاً ، أی و إنْ لم تکن الصورة العلمیّة مطابقة للواقع ، بأن یکون جهلاً مرکَّباً ، فما ذکره تام ... لأن الأمر بوجوده الخارجی - و هو حکم المولی
ص:78
و بعثه نحو الصّلاة - متأخّر طبعاً عن الصّلاة المقیّدة بقصد الأمر بوجوده العلمی غیر المعتبر مطابقته للواقع . و أمّا إن کان المأخوذ هو الصّورة العلمیّة المطابقة للواقع ، بأنْ یکون الصورة العلمیة لنفس ذاک الأمر الصّادر من المولی هی المحرّک و الباعث ، فالإشکال باق ، لأنّ الواقع غیر محتاجٍ إلی صورةٍ علمیّة مطابقة إلیه ، لکنَّ الصورة العلمیّة المطابقة له محتاجة له ، فما لم یتحقق أمر واقعی فلا تحصل صورة علمیّة له فی الذهن ، إذن ، فالصّورة العلمیّة متأخرة بالطبع عن الواقع ، و هو الأمر الصادر ، فهی موقوفة علیه ، لکنَّها بما أنها مأخوذة فی متعلَّق الأمر الصّادر - و المتعلَّق مقدَّم رتبةً علی الأمر - فهی متقدّمة ، فلزم اجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد .
لکنّ السیّد الاستاذ - دام ظله - نصَّ (1) علیٰ أن الإنصاف تمامیّة جواب المحقق الأصفهانی عن محذور اجتماع المتقابلین و عدم صحّة الإشکال المذکور ، فقال ما حاصله : إن ما یؤخذ فی متعلَّق الأحکام هو المفاهیم و الطبائع لا المصادیق الخارجیّة ، و العلم الذی یکون فانیاً فی متعلَّقه هو مصداق العلم و الفرد الخارجی منه ، و أما مفهوم العلم و طبیعته فلیس کذلک ، فإن العلم الطریقی بحسب مفهومه لیس فانیاً فی المعلوم و مرآةً له بل یکون متعلَّقاً للنظر الاستقلالی ، وعلیه ، فقصد الأمر إذا ثبت أنه معلول للأمر بوجوده العلمی فیکون مأخوذاً فی المتعلَّق بهذه الخصوصیة ، فالمتعلَّق یکون هو الفعل بقصد الأمر المعلوم ، و لا یخفیٰ أن العلم المأخوذ فی المتعلَّق لیس مصداق العلم کی یقال إنه فانٍ فی متعلّقه ، بل المأخوذ مفهومه و هو لا یفنی فی متعلَّقه
ص:79
کما عرفت ، فالقصد متفرّع فی مرحلة موضوعیّته عن الأمر المعلوم لا الأمر الخارجی ، فلا خلف . فالإشکال علیه ناشئ عن الخلط بین مفهوم العلم و مصداقه . فما أفاده المحقق الأصفهانی فی دفع المحذور لا نری فیه إشکالاً و لا نعلم له جواباً .
أقول :
إلّا أنّ الظاهر عدم ورود ما أفاده علیٰ التقریب المتقدّم عن شیخنا الاستاذ للإشکال علیٰ المحقّق الأصفهانی ، لأنّ محور الکلام فیه ضرورة وجود أمر واقعی لتحصل الصورة الذهنیّة عنه ، فیکون متقدّماً بالطبع و هی متأخرة عنه کذلک ، و حینئذٍ یلزم المحذور . فتأمّل .
و قد سلک المحقّق النائینی طریقاً آخر لبیان لزوم الدور من أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق ، سواء فی مرحلة التصوّر و الإنشاء و الامتثال ... و حاصل کلامه (1) هو :
إن الأحکام الشرعیّة کلّها قضایا حقیقیّة ، و معنی القضیّة الحقیقیّة کون موضوع الحکم مفروض الوجود ، فلا بدّ من فرض وجود « العقد » حتی یتوجّه الأمر بالوفاء به ، کما هو الحال فی قوله تعالیٰ «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (2)حیث الأمر بالوفاء حکم ، و متعلَّقه « الوفاء » و موضوعه هو « العقد » فیکون متعلَّق الوجوب هو « الوفاء » و « العقد » متعلَّق المتعلَّق ...
فالعقد و هو الموضوع - لا بدّ فی مرحلة الإنشاء من فرض وجوده فرضاً مطابقاً
ص:80
للواقع ، و علی هذا ، فإنّ القضیّة - کما فی الآیة المبارکة - تؤول إلی قضیّة شرطیّة مفادها : إذا تحقق عقد و حصل فی الخارج فالوفاء به واجب ... فأصبح الموضوع شرطاً ، و الشرط موضوعاً .
و علی هذا الأساس ، فإنّ الصّلاة بقصد الأمر هی متعلَّق الأمر ، و الأمر متعلَّق المتعلَّق ، فهو الموضوع ، و إذا کان موضوعاً ، لزم فرض وجوده بفرضٍ مطابقٍ للواقع کی یتوجَّه الحکم علیه ، بأن یکون قبل الحکم ، فیلزم أنْ یکون وجود الأمر مفروغاً عنه ثم جعل الحکم علیه ، و کون وجود الشیء مفروغاً عنه قبل وجوده محال .
و علی الجملة ، فمن الناحیة الکبرویّة : لا یکون فی متن الواقع وجودٌ مفروغاً عنه قبل وجوده ، و نحن فی القضایا الحقیقیّة لا بدّ و أن نری الموضوع و متعلَّق المتعلَّق مفروغاً عنه وجوده ، حتی یأتی الحکم و التکلیف علیه .
و هنا ، فإنّ الشارع یرید الأمر بالصّلاة مع قصد الأمر ، بأن یکون قصد الأمر جزءاً للصّلاة أو شرطاً ، فنفس الأمر متعلَّق هذا المتعلَّق للتکلیف ، فیجب أن یکون وجود الأمر مفروغاً عنه عند الشارع حتی یجعل الأمر ، و هذا یستلزم أن یکون الشیء قبل وجوده مفروغاً عن وجوده ، و هو محال .
و أجاب فی (المحاضرات) (1) عمّا ذکره المیرزا - رحمه اللّٰه - بما حاصله إنکار الکبریٰ ، و توضیح ذلک :
إن ملاک أخذ الموضوع مفروض الوجود فی القضیّة الحقیقیة ، المستلزم لکونه شرطاً لفعلیّة التکلیف ، إمّا هو الظهور العرفی و إمّا هو حکم العقل بذلک .
ص:81
أمّا الظهور العرفی فبأنْ یفهم العرف من القضیّة أن الموضوع قد اخذ مفروض الوجود ، کما فی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » حیث یفهم أن العقد موضوع للحکم الذی رتّبه الشارع علی فرض وجوده ، و هو وجوب الوفاء به ، لا أنه قد ترتّب الحکم علی موضوع یجب علی المکلّف تحصیله .
و أمّا الحکم العقلی ، فهو حیث یکون القید المأخوذ فی الواجب غیر اختیاری ، و بما أنه لا یعقل تعلّق التکلیف بغیر المقدور ، فلا محالة یکون مأخوذاً علی نحو مفروض الوجود .
ففی الموردین المذکورین یوجد الملاک لأخذ الموضوع مفروض الوجود .
و أما فیما عداهما ، فلا دلیل علی أن التکلیف لا یکون فعلیّاً إلّا بعد فرض وجود الموضوع ، و لذا قلنا بفعلیّة الأحکام التحریمیة قبل وجود موضوعاتها ، بمجرّد تمکّن العبد علی الإیجاد ، کالتحریم الوارد علی شرب الخمر ، فإنه فعلی و إنْ لم یوجد الخمر خارجاً ، إنْ کان المکلّف قادراً علی إیجاده بإیجاد مقدماته ، و لذا یتوجّه التکلیف علیه ، بخلاف الزوال فی « صلّ صلاة الظهر » مثلاً ، فإن المکلّف لا یتمکّن من إیجاده و لا بالشروع بمقدّماته .
(قال) : و ما نحن فیه من القسم الثالث الذی لا دلیل علی ضرورة فرض الموضوع ، لأنّه لا ربط للعرف بهذه الناحیة ، و لا ملزم من العقل بذلک ، فإنّ الأمر الذی کان متعلّقاً للداعی یحصل بمجرّد إنشاء المولی تکلیفه ، و إذا حصل أمکن الامتثال بداعیه و لا حاجة بعد ذلک إلی أخذه مفروض الوجود ، وعلیه ، فالمکلَّف حین الامتثال یجد أمراً موجوداً قد حصل من إنشاء التکلیف ، فیأتی بالفعل بداعی ذلک الأمر ، و لا داعی إلی فرض وجود الأمر حین الإنشاء ، کما
ص:82
کان الأمر کذلک فی سائر القیود غیر الاختیاریة .
و علی هذا ، فلا یلزم من أخذ قصد الأمر فی متعلَّق الأمر المحذور الذی ذکره المیرزا رحمه اللّٰه .
و قد تکلّم الاستاذ دام بقاه علی هذا الجواب :
فأجاب عنه فی الدّورة اللّاحقة : بأنه إنما یتمشّی مع إنکار رجوع القضیّة الحقیقیّة إلی القضیّة الشّرطیة ، وعلیه یمکن للمولی أن یأمر بالصّلاة بقصد الأمر مع عدم وجود الأمر الذی کان جزءاً للموضوع أو شرطاً ، و لکنّ التسلیم بذلک ، ثم القول بعدم لزوم المحذور ، جمعٌ بین المتنافیین ، و قد جاء فی (المحاضرات) (1) التصریح بکون القضیّة الحقیقیّة قضیّة شرطیّة ، و أن الموضوع مقدَّم و الحکم تال ، و یستحیل أن یتکفّل الجزاء الشرطَ وضعاً و رفعاً ، و لیس التالی إلّا مترتّباً علی المقدَّم ، و علی هذا الأساس رفع - رحمه اللّٰه التنافی بین الدلیل الحاکم و الدلیل المحکوم ، بمناط أنّ الحاکم ناظرٌ للموضوع فی المحکوم ، و یستحیل أن یکون المحکوم ناظراً لموضوع نفسه ، لوقوع المحکوم فی رتبة الجزاء ، و هی متأخرة عن رتبة الشرط و المقدَّم .
فإذا کانت القضیّة الحقیقیة شرطیّةً ، و الموضوع فی القضیة شرط ، فکیف یعقل وجود المشروط و فعلیّته قبل وجود الشرط ، و فعلیة الجزاء قبل فعلیّة المقدَّم ؟
إن المفروض - هنا - وقوع الأمر موضوعاً فی الأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، و المفروض أن الأمر المتعلّق مشروط ، فکیف یعقل وجود الشرط و المشروط
ص:83
بوجود واحد ؟
و أمّا فی مرحلة الفعلیّة ، فإشکال المیرزا وارد ، فلا یمکن أن یکون الأمر فعلیّاً مع أخذ قصد الأمر فی المتعلّق ، لأن نسبة الموضوع إلی الحکم نسبة الشرط إلی المشروط ، و یستحیل تحقق الفعلیّة للحکم بدون تحقق الفعلیّة للموضوع ، و فعلیّة الموضوع - بما أنه شرط - مقدّمة علی فعلیّة المشروط ، فیلزم من أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق وجود الشیء قبل وجود الشیء ، و فعلیّته قبل فعلیّته ، و هذا و إنْ لم یکن دوراً ، لکنْ فیه ملاک الدور ... و جواب (المحاضرات) عنه قد عرفت ما فیه .
و أجاب عنه فی الدورة السّابقة : بأنّ هناک ملاکاً ثالثاً لجعل الموضوع مفروض الوجود ... و توضیحه :
إن الحکم یترتب فی مقام الجعل علی الوجود التقدیری للمتعلَّق ، لا علی وجوده الخارجی ، و نسبة الحکم إلی المتعلَّق هی نسبة المحمول إلی الموضوع ، و من غیر الممکن أن یلحظ الحاکم الحکمَ فی ظرف لحاظه للموضوع ، فهو فی قوله «زید قائم» قد لحظ زیداً مجرّداً عن القیام ، و بلا لحاظٍ للقیام فی تلک المرتبة ، ثم حمل علیه القیام بعد لحاظه فی المرتبة التالیة ، إذن ، الحاکم یری الصّلاة مجرّدةً عن الحکم ، ثم یرتّب الحکم علیها و یقول : الصّلاة واجبة .
و علی الجملة ، فإنه یستحیل وجود الحکم فی مرتبة المتعلَّق ... فإذا کان الحکم متعلّق المتعلَّق ، فلا محالة یستحیل وجوده فی مرتبة المتعلَّق ، فلو أخذ فی المتعلّق کان مفروض الوجود لا محالة ... فلمّا نقول : الصّلاة بقصد الأمر مأمور بها ، کان قولنا «مأمور بها» هو المحمول فی القضیّة ، و هو لیس فی
ص:84
مرتبة «الصّلاة بقصد الأمر» فإنّه لا بدّ و أنْ یکون مفروض الوجود ، فالمناط فی فرض الوجود غیر منحصر بما ذکره ، بل له مناط ثالث .
و بعبارة أخری : عند ما یأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، فإنّ « الصلاة بقصد الأمر» هو المتعلّق ، فیلزم أن یراه و یلحظه المولی قبل ترتیب الحکم علیه ، و لکنّه لمّا یلحظ المتعلَّق «الصلاة» یلحظ معه متعلَّقه «الأمر» ، مع أنّ الأمر لم یرتَّب بعدُ ، فلا بدّ و أنْ یکون الملحوظ هو وجوده الفرضی التقدیری .
فالمناط لفرض الوجود :
1 - الفهم العرفی
2 - الحکم العقلی
3 - إن فی کلّ موردٍ یکون القید المأخوذ فی الموضوع غیر موجودٍ حقیقةً فی رتبة الموضوع ، و کان أخذه فی الموضوع لازماً ، فلا یکون أخذه إلّا بنحو فرض الوجود ...
و ما نحن فیه من القسم الثالث ... فالإشکال یعود .
و تلخّص : عدم تمامیّة جواب (المحاضرات) .
و أجاب المحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه (1) عن تقریب المیرزا ، بأن الأمر المأخوذ فی المتعلّق أی الصَّلاة ، المعبَّر عنه ب «متعلَّق المتعلَّق» لیس هو الأمر و الحکم المترتّب علی المتعلَّق ، بل الذی اخذ فی المتعلَّق هو الصّورة العلمیّة للأمر ، و المترتب علی المتعلَّق هو نفس الأمر ، و لا محذور فی حصول العلم بالأمر قبل حصول الأمر .
ص:85
و مما ذکرنا سابقاً من ضرورة المطابقة بین الصّورة العلمیّة و بین الواقع ، یظهر سقوط هذا الجواب ، لأنّ الصّورة العلمیّة للأمر إن طابقت الواقع - و هو الأمر الخارجی - لزم تقدّم الأمر الخارجی الواقعی علی الصّورة العلمیّة ، و المفروض عدم ترتّبه بعدُ ، فیعود إشکال اجتماع التقدّم و التأخر بالطبع فی الشیء الواحد .
و فی مرحلة الفعلیّة أیضاً یوجد المحذور :
من أنّ فعلیّة کلّ حکم تتوقّف علی فعلیّة موضوعه « متعلَّق المتعلَّق » و ما لم یصر فعلیّاً فلا یصیر الحکم فعلیّاً ، و الحاصل : إن فعلیّة الموضوع شرط لفعلیّة الحکم ، فلو قال : یجب شرب الماء ، توقّف فعلیّة التکلیف بالشرب علی فعلیة الماء و وجوده .
فلو أخذ الحکم فی الموضوع لزم کون الشیء شرطاً لفعلیة نفسه ، فتوقّف فعلیّة الشیء علی فعلیّة نفسه .
و کان محصّل جواب المحقق الأصفهانی : إن المأخوذ فی المتعلّق هو الوجود العلمی ...
و قد ظهر عدم تمامیّة هذا الجواب .
إلّا أن یقال : بأنَّ فعلیّة الحکم موقوفة علی فعلیّة موضوعه فی جمیع الموارد إلّا إذا کان الموضوع نفس الحکم ، مثل ما نحن فیه ، فإنّه فی هذه
ص:86
الصّورة لا ضرورة لفعلیّة الموضوع قبل الحکم کی یلزم فعلیّته قبل فعلیّة نفسه .
و أوضحه المحقّق الأصفهانی : إن العلّة إنّما تکون علّةً للمعلول ، و یستحیل أن تکون علّةً لعلیّة نفسها ، فلو أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه لزم المحذور المذکور . توضیح الملازمة : إن تعلّق الأمر بالصّلاة مع قصد القربة معناه : تعلّقه بها و بداعویّة الأمر إلیها ، و ذلک ، لأنّ کلّ أمرٍ یدعو إلی متعلّقه ، فلو ترتّب الأمر و الحکم علی الصّلاة مع داعویّة الأمر إلی الصّلاة ، فقد تعلّق الأمر بداعویّة نفسه و یلزم أن یکون علّةً لعلیّة نفسه .
و قد ذکر المحقق الأصفهانی هذا المحذور فی المقام الثانی ، و أشار إلی تعرّض صاحب الکفایة له فی المقام الثالث . فهو یرد علی کلا المقامین .
ثم أجاب رحمه اللّٰه عنه : بأنّ قصد الأمر إنْ اخذ علی نحو الشرطیّة أو الجزئیّة فالإشکال لا دافع له ، أمّا إذا کان المتعلّق حصّةً ملازمةً لقصد الأمر ، فهو مندفع ، و من الواضح أن للصّلاة حصصاً ، منها : الصّلاة الفاقدة لقصد الأمر ، و منها : الصلاة فی ظرف وجود قصد الأمر ، و هذه هی المتعلّق للأمر ، و إذ لا تقیّد فلا علیّة فالإشکال یندفع (1) .
و هذا هو الذی یعبِّر عنه المحقّق العراقی بالحصّة التوأمة ، فالحصّة التی کانت توأماً لقصد الأمر هی التی قد أمر بها المولی ، فلم یدخل قصد الأمر تحت الأمر لیرد الإشکال ...
ص:87
و تنظّر الاستاذ فی هذا الجواب ، بأنّ المفروض أنّا لا ندری هل المورد من الواجب التعبّدی أو التوصّلی ، فإنْ کان التقیید بقصد الأمر ممکناً تمّ الإطلاق عند الشکّ ، و أمّا مع المحذور المذکور فأصل التقیید غیر ممکن ، فکیف یتمسّک بالإطلاق ؟
فإنْ تمّ حلّ المشکل عن طریق الحصّة التوأمة ، و أنه لا تقیید فی البین ، کان للإطلاق مجال .
لکن المشکلة هی : إن المولی فی مقام البیان و لیس بمهملٍ لأمره و خصوصیات متعلَّق أمره ، فإن کانت انقسامات المأمور به و خصوصیّاته دخیلةً کان التقیید قهریّاً و إلّا فالإطلاق محکّم ، و هنا : إن کان لقصد الأمر فی المتعلَّق دخلٌ فی الغرض لزم أخذه - کما أن الإیمان إن کان له دخل فی الغرض من العتق لزم أخذه - و إلّا فلا . لکنّ المفروض أنه له دخلٌ ، فلا بدَّ من أخذه علی وجه التقیید . فما ذکره هذا المحقق لا ینفع .
و حاصل ما ذکره : إن قصد الأمر لیس شرطاً و لا شطراً ، بل إنّ متعلَّق الأمر هو الحصّة .
و حاصل إشکالنا علیه : إن قصد الأمر من الانقسامات ، و الإهمال محال ، فإنْ اخذ فهو التقیید و إنْ رفض فالإطلاق ... فالإشکال باق .
و هو مرحلة الامتثال ، و فیها وجوه من المحذور :
الأول : ما جاء فی کلام صاحب (الکفایة) و المحقق النائینی (1) و هو :
ص:88
إن قصد الأمر متأخّر عن أجزاء الصّلاة و شرائطها ، فهو متوقّف علیها ، فلو کان «الامتثال» أحد أجزاء الصّلاة و شرائطها ، لزم اجتماع التقدّم و التأخّر فیه ، إذن ، یستحیل إطاعة مثل هذا الأمر فی مرحلة الامتثال .
و الثانی : إنه لا قدرة علی امتثال الأمر « بالصّلاة بقصد الأمر» ، و ذلک لعدم تعلّق أمرٍ بالصّلاة ، و کلّ ما لم یتعلَّق به أمر فلا قدرة علی الإتیان به بقصد الأمر ، و توضیح ذلک هو : إنه لو فرض کون متعلَّق الأمر هو الصّلاة بقصد الأمر ، فلا محالة لا أمر بالنسبة إلیٰ نفس الصّلاة ، و کذلک الحال فی کلّ مرکّب ، فإنه إذا تعلَّق الأمر بالمرکّب فقد تعلَّق بمجموعة الأجزاء ، فلا یکون هناک لکلّ جزءٍ جزءٍ منها أمر علی حدة ، وعلیه فالصلاة وحدها لا أمر بها ، و الصّلاة مع قصد الامتثال لا یمکن الإتیان بها ، لعدم إمکان الإتیان بقصد الامتثال المأخوذ فیها - بقصد الامتثال .
و الثالث : إن قصد الأمر إمّا هو قید للصّلاة ، و إمّا هو جزء من أجزائها .
فإنْ کانت الصّلاة المقیَّدة متعلَّق الأمر ، کانت ذات الصّلاة غیر مأمورٍ بها کی یمکن للمکلَّف الإتیان بها بقصد أمرها ، و إنْ کانت الصَّلاة مرکّبةً من قصد الامتثال و غیره من الأجزاء ، فالامتثال محال کذلک ، لأنّ الأمر دائماً محرّک و داعٍ نحو متعلَّقه ، و لا یعقل تحریک الأمر و داعویّته لداعویّة نفسه ، إذ معنیٰ ذلک أن یصیر الشیء علّةً لعلیّة نفسه .
و قد ذکر فی (المحاضرات) (1) تبعاً للمحقق العراقی طریقاً لرفع جمیع هذه المحاذیر ، و حاصل کلامه :
ص:89
أوّلاً : إنّه لا محذور فی أنْ یکون بعض أجزاء الواجب تعبّدیاً و بعضها الآخر توصّلیّاً ، و إنْ لم یکن الواجب واجباً بأصل الشرع - إذ لا یوجد فی الشریعة هکذا واجب - بل بوجوبٍ عرضی کالنذر ، بأن یکون مجموع الصّلاة و إعطاء المال للمسکین متعلّق النذر .
نعم ، قد وقع فی الشرع کون الأجزاء کلّها تعبّدیة ، لکنّ قسماً من الشرائط توصّلی ، کالصّلاة ، فأجزاؤها تعبدیّة کلّها ، و شرائطها بعضها توصّلی کالطّهارة من الخبث ، و بعضها تعبّدی کالطّهارة من الحدث .
و ثانیاً : إنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب ینحلُّ بحسب التحلیل إلی الأمر بأجزائه ، فیکون کلّ جزءٍ من أجزائه التعبدیّة قد اتّخذ حصّةً من ذلک الأمر المتعلِّق بالمجموع ، و أصبح مأموراً به بأمرٍ ضمنی .
و بعد هذا ، فإذا لحظنا الصَّلاة بقصد الأمر وجدناها مرکّبةً من أجزاء ، أحدها : قصد الأمر ، لکنّ هذا الجزء منها توصّلی و بقیّة الأجزاء تعبدیّة ، فکان الأمر الضمنی بتلک الأجزاء بنحو التعبدیّة و یعتبر الإتیان بها بقصد الامتثال ، و أمّا قصد الامتثال ، فلیس بتعبّدی بل هو توصّلی ، و لا یحتاج سقوط الأمر به إلی قصد امتثاله .
فبهذا البیان تندفع جمیع الإشکالات :
(أمّا الأوّل) فوجه اندفاعه هو : إن قصد الامتثال إنما یکون متأخّراً عن الأجزاء و الشرائط إذا ارید منه قصد امتثال المجموع ، أمّا لو أرید منه قصد امتثال الأمر الضمنی کما ذکر ، فذلک لا یقتضی تأخّره - أی قصد امتثال الأمر - عن جمیع الأجزاء و الشّرائط ، لأنّ قصد امتثال کلّ جزءٍ بخصوصه یکون متأخّراً عن ذلک الجزء فقط دون بقیّة الأجزاء ، و لا مانع من لحاظ شیئین -
ص:90
أحدهما متقدّم علی الآخر - شیئاً واحداً ، ثمّ توجّه الأمر النفسی الواحد إلیهما ، کما تقدَّم فی بحث الصحیح و الأعم .
(و أمّا الثانی) فلأن عدم القدرة علی الامتثال إنما هو لو أراد المکلَّف الامتثال للأمر بالصّلاة بداعی أمرها النفسی الاستقلالی ، و أمّا لو أراد الامتثال لها بداعی أمرها الضمنی فهو مقدور له بعد الأمر ، و القدرة المعتبرة فی متعلّقات الأحکام إنما هی القدرة حین امتثال الأمر و إطاعته ، لا حین صدور الأمر و جعله .
(و أمّا الثالث) فإنه إنما یلزم لو کان الإتیان بالصّلاة بقصد الأمر المتعلّق بها کلّها ، لکنْ قد تقدَّم أنّ المکلَّف یأتی بالتکبیرة و القراءة و الرکوع و السجود ... بمحرکیّة الأوامر الضمنیّة المتعلّقة بها - إذ قد توجّه إلی کلّ منها أمرٌ یخصّه فکان دعوة الأمر و المأخوذة فی الصَّلاة - و هی متعلّق الأمر النفسی - داعویّة الأمر الضمنی ، فأصبح الأمر النفسی داعیاً إلی إیجاد متعلّقه و هو ذات الصّلاة ، مع داعویّة أمرها الضمنی ، فلا تحصل دعوة الأمر إلی داعویّة نفسه .
و تنظّر شیخنا الاستاذ فی هذا الطّریق الذی حاصله تعدّد الأمر بانحلاله إلی الأوامر الضمنیّة ، فقال دام ظلّه : إن هذا الانحلال اعتبار عقلی محض ، و لا واقعیّة له ، کی تنحلّ المشکلات عن هذا الطریق ، و ذلک : إنّه لا توجد أغراض متعدّدة فی المرکّب الارتباطی ، بل الغرض واحد ، و إذا کان الغرض واحداً ، فالإرادة أیضاً واحدة - لأن وحدتها أو تعدّدها تابع لوحدة الغرض و تعدّده - و إذا اتّحدت الإرادة استحال تعدّد الأمر ، لأن نسبته إلیها نسبة المعلول إلی العلّة .
ص:91
و هذا هو الإشکال الأوّل .
ثم إنّ المحقّق العراقی - و کذا فی (المحاضرات) - قد التفت إلی أن بعض هذه الأوامر الضمنیّة التی ذکرها متقدّم علی البعض الآخر رتبةً ، فلمّا یقول : کبّر بقصد الامتثال ، الامتثال لأیّ شیء ؟ و هکذا غیره ، و جمیع هذه الأوامر الضمنیّة هی بحکم الموضوع بالنسبة إلی الأمر الضّمنی بالإتیان بالصّلاة بقصد الأمر ، فهی متقدّمة علیه فی الرتبة ، لکنّ تلک الأوامر الضّمنیّة المختلفة رتبةً موجودة بوجودٍ واحدٍ ، و کیف یعقل ذلک ؟
لقد اکتفی فی (المحاضرات) بالقول بتقدّم هذه الدعوی فی مبحث الصحیح و الأعم ، لکنّ الذی ذکره هناک هو معقولیّة الوضع لأمرین مختلفین فی المرتبة ، و هو غیر ما نحن فیه ، لأن الوضع یصح حتی للمتناقضین ، أمّا کیف یوجد الموجودان المختلفان فی الرتبة بوجود واحدٍ ؟
و لذا وقع الإشکال فی شمول دلیل الاستصحاب لقاعدة الیقین ، من جهة أنَّ القاعدة متأخّرة رتبةً عن الاستصحاب ، فکیف یجعلان بجعلٍ واحدٍ و هما طولیّان ؟
إنه لا مورد لذلک إلّا الاختلاف بالطبع ، فلو تقدّم وجود علی وجودٍ تقدّماً طبعیّاً أمکن وجودهما بالوجود الواحد ، إلّا أنّ الوجود بالذات هو للمتأخر منهما ، و المتقدّم یکون وجوده بالعرض ، و لا یعقل غیر هذا ، مثلاً :
المراد بالذات ، أی الشیء المقوّم للإرادة القائم بالنفس ، متقدّم تقدّماً طبعیّاً علی الإرادة ، و هی متأخرة بالطبع عن المراد ، لکنّ وجود المراد بالذات بوجود الإرادة وجود بالعرض ، و الوجود بالذّات هو للإرادة ، و کذا المعلوم بالذات - و هو الصّورة الذهنیّة - فإنه متقدّم بالطبع علی العلم ، إذ قد یکون و لا
ص:92
یکون علمٌ به ، و العلم متأخّر عنه .
و فیما نحن فیه ، قد أصبح الأمر الضّمنی بالرکوع و السجود و ...
موضوعاً للأمر الضّمنی بقصد الامتثال ، و کلّ موضوع متقدّم طبعاً ، و الوجود بالذات هو للأمر الضّمنی بقصد الامتثال ، و من المحال وجودهما بوجودٍ واحدٍ ، لکون أجزاء المرکّب فی عرضٍ واحدٍ ، فلا یعقل وجود الأمر الضّمنی بوجود الأمر الضّمنی الآخر .
و هذا هو الإشکال الثانی علی حلّ السیّد المحقّق الخوئی تبعاً للعراقی المحقق ....
و یرد علیه ثالثاً : إن ما ذکره هنا یناقض کلماته فی موارد عدیدة من مختاراته فی الاصول و الفقه ، فهنا یلتزم بتحقّق وجودین واجبین بإیجاد و جعلٍ واحدٍ من الشارع ، أمّا فی تلک الموارد فیصرّح بما هو الصحیح من اتّحاد الجعل و المجعول ، و أنه إذا کان الجعل و الإیجاد واحداً فالمجعول و الموجد واحد أیضاً ، إنما الاختلاف بالاعتبار فقط ، فلیلاحظ کلامه فی الشرط المتأخّر ، و فی التنبیه الأوّل من تنبیهات الاستصحاب ، بل جاء فی الاستصحاب بعد استدلال المیرزا بأخبار الحلّ قوله : لا یمکن إیجاد طولیین بالإیجاد الواحد .
لکن المحقق العراقی قال (1) باستحالة أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بوجهٍ آخر - قال : و لو لا هذا الوجه من الإشکالات ، فلا استحالة ، لارتفاع الإشکالات عن الطریق المذکور - و حاصل کلامه : إن المولی إذا أراد أخذ قصد
ص:93
الأمر فی متعلَّقه ، فإنه فی مرتبة الأمر یری القرب الحاصل من قصد الأمر معلولاً لهذا الأمر ، فیری القرب فی مرتبةٍ متأخرة عن الأمر ، فلو أراد فی نفس الوقت أن یأخذ القرب فی المتعلّق لزم أن یلحظه فی مرتبةٍ متقدّمة ، فیلزم أن یجتمع فی نفسه لحاظان متباینان فی آنٍ واحد .
لکن أوْرد علیه الاستاذ : بأن الملحوظ متأخّراً هو القرب الخارجی ، و الملحوظ فی الرتبة المتقدّمة المأخوذ فی المتعلَّق هو الوجود العلمی للأمر ، و لا محذور فی اجتماعهما کما ذکر المحقّق الأصفهانی ... إنما الإشکال ما ذکرناه هناک .
هذا تمام الکلام فی أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بالأمر الأوّل ، و قد ظهر أنه محال .
و بعد الفراغ عن مبحث تقیید متعلّق الأمر بأخذ قصده فیه ، تصل النوبة إلی الإطلاق فی متعلّق الأمر ، فإنّ من الواضح أنه إنْ أمکن التقیید بذلک ، أمکن الإطلاق أیضاً ، و یکون الإطلاق مقتضیاً للتوصّلیّة .
أمّا بناءً علی استحالة التقیید - کما تقدّم - فهل الإطلاق أیضاً محال ؟
هنا بحثان :
ذهب المیرزا إلیٰ أنّ النسبة بینهما هی نسبة العدم و الملکة ، فإذا استحالت الملکة کان عدمها محالاً ، وعلیه ، إذا استحال التقیید استحال الإطلاق .
ص:94
یقول المیرزا : إن الإطلاق عدم التقیید فی المورد القابل للتقیید ، کما فی العمی و البصر ، حیث یلحظ قابلیّة المحلّ ، و لذا لا یحملان علی الحجر مثلاً ، فکلّ موردٍ غیر قابل للتقیید فهو غیر قابل للإطلاق .
و ذهب المحقّق الأصفهانی : إلیٰ أنّ التقابل بینهما من قبیل التّضاد ، لکن فی مقام الثبوت ، أما فی مقام الإثبات فالعدم و الملکة ... أمّا فی مقام الثبوت ، فلأنَّ الإطلاق هو أن یلحظَ المتعلَّق مع رفض القیود عنه ، و التقیید لحاظه مع أخذ القیود ، فکلاهما وجودی ، و بین «الأخذ» و «الرفض» تضاد . و علی هذا ، فاستحالة التقیید لا تستلزم استحالة الإطلاق .
و أمّا القول بکون النّسبة بینهما هو التضایف ، فباطل ، لأنّه و إنْ کان بین عنوانی «الإطلاق» و «التقیید» نسبة التضایف ، لکنّ الکلام لیس فی العنوان بل فی المعنون ، کما هو الحال فی النسبة بین العلّة و المعلول ، فإنّها التضایف فی العنوان ، لکن هما فی الواقع متضادّان أو نسبتهما العدم و الملکة .
هذا ، و قد اختار الاستاذ فی الدّورة السّابقة ابتداءً قول المحقق الأصفهانی ، ثم عدل عنه للإشکال التالی ، و هو : عدم جواز أخذ خصوصیّة المقسم - و هو اللّحاظ - فی القسم ، ببیان أنه بعد عدم إمکان الإهمال ، فإنّ الحاکم ، إمّا یلحظ القید و یأخذه فی الذات ، فتکون الذات بشرط شیء ، و إمّا یلحظها و یلحظ القید و یأخذ عدمه فیها ، فیکون بشرط لا ، و إمّا یلحظهما و لا یأخذ وجود القید و لا عدمه ، فیکون لا بشرط و هو الإطلاق ، فاللّحاظ قدر مشترک بین الثلاثة ، وجهة الاختصاص هی فی التقیّد و هو أخذ القید ، أو الإطلاق و هو عدم أخذه ، فیکون الإطلاق أمراً عدمیّاً لا وجودیّاً ، فإنّ الرقبة -
ص:95
مثلاً موضوع للحکم فی «أعتق رقبةً» ، و لا یعقل أن یکون الحاکم مهملاً بالنسبة إلی انقسامها إلی المؤمنة و الکافرة ، بل إنه عند الحکم یلحظها مع القید بأحد الأنحاء الثلاثة ، فاللّحاظ موجود ، و الجهة المشخّصة هی وجود القید أو عدمه ، فیکون المقیّد بشرطٍ و الإطلاق لا بشرط ، فکان الإطلاق لحاظ الماهیّة و القید مع رفض القید ، و التقیید لحاظهما مع أخذ القید ، فمن الرفض ینتزع الإطلاق ، کما أن من الأخذ ینتزع التقیید .
فما ذهب إلیه المحقق النائینی هو الصحیح من أن التقابل من قبیل العدم و الملکة علی ما سنذکره فی المراد من القابلیّة .
أمّا علی القول بتقابل العدم و الملکة ، فإنّ استحالة التقیید یستلزم استحالة الإطلاق ، فما ذهب إلیه المیرزا ینتج عدم امکان القول بتوصلیّة الواجب المشکوک فی کونه تعبدیّاً أو توصلیّاً .
لکنَّ هذا إنما یتمُّ لو کانت القابلیّة المعتبرة فی نسبة العدم و الملکة هی القابلیّة الشّخصیّة ، إلّا أنّ التحقیق هو اعتبار القابلیّة النوعیّة و الجنسیّة ، فمثلاً :
قولنا : «العقرب أعمی» صادقٌ مع أن شخص هذا الحیوان و صنفه لا یقبل البصر ، إلّا أن الجنس - و هو الحیوان - لمّا کان قابلاً للبصر صحّ اتّصاف العقرب بالعمی ، و أیضاً ، فإن النسبة قد تکون العدم و الملکة فی موارد لیست القابلیّة فیها شخصیةً ، فبین القدرة و العجز عدم و ملکة ، و الإنسان یتّصف بالعجز عن الطیران مع عدم قابلیّته له ، و لیس ذلک إلّا لأن جنسه - و هو الحیوان قابل له ، و کذا النسبة بین العلم و الجهل ، فالحجر لا یتّصف بهما لعدم القابلیّة ، أمّا الإنسان فیتّصف ، و لا شبهة فی جهله بذات الباری تعالی مع
ص:96
استحالة علمه بها ، فالعلم بذاته عزّ و جل محال ، و الجهل به صادق ، و بینهما تقابل العدم و الملکة .
إذن ، بناءً علی العدم و الملکة ، لیس فی کلّ موردٍ استحال الملکة یستحیل عدمها ، بل قد یجب ، کما فی الأمثلة المذکورة ... فإذا کانت القابلیّة المعتبرة هی القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، فلا تلازم بین الملکة و عدمها فی الاستحالة .
و تلخّص : إنه علی القول الأوّل - فی النسبة بین الإطلاق و التقیید - یکون الإطلاق واجباً ، مع استحالة التقیید ، بناءً علی اعتبار القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، لا الشخصیّة .
و أمّا علی القول بتقابل التضاد ، فإذا استحال التقیید ، فإنّ الإطلاق غیر مستحیل ، لعدم الملازمة بینهما .
و تلخّص : إمکان التقیید علی القول بالتضاد ، و علی القول باعتبار القابلیّة النوعیّة أو الجنسیّة ، فی العدم و الملکة ... و هذا هو الصحیح .
هذا تمام الکلام فی مقام الثبوت .
إنما الکلام فی مقام الإثبات ، فسواء قلنا بهذا القول أو ذاک ، فإنّ الإطلاق فی مقام الإثبات إنّما یکون مع التمکّن من التقیید ؛ و مع عدم التمکّن منه فلا إطلاق ... و توضیحه :
إنه دائماً یکون الإطلاق فی مقام الإثبات کاشفاً عن الإطلاق فی مقام الثبوت ، فمن مقام الإثبات یستکشف مقام الثبوت ، و هذه الکاشفیّة إنّما تتحقّق و یکون الإطلاق حجةً علی المراد فیما إذا تمکّن الحاکم من التقیید فی مقامی الثبوت و الإثبات ، و مع انتفاء التمکّن منه فی أحد المقامین لا یتحقّق
ص:97
الإطلاق الکاشف عن المراد ... و فیما نحن فیه : الحاکم و إنْ کان قادراً علی بیان القید فی مقام الإثبات ، إلّا أنه غیر قادر علی تقیید متعلَّق الأمر بقصد القربة فی مقام الثبوت ، فلا یکون إطلاقه فی مقام الإثبات کاشفاً عن إطلاقه فی مقام الثبوت .
و تلخّص : إنه حتی لو قلنا بإمکان الإطلاق - کما هو مبنی التضاد - أو وجوبه - علی اعتبار القابلیة النوعیّة أو الجنسیّة علی مبنی العدم و الملکة - فهو لیس بالإطلاق الکاشف عن المراد و الحجة علیه .
فظهر : استحالة أخذ القید بالأمر الأوّل فی المتعلَّق . و علی فرض إمکان الإطلاق - مع استحالة التقیید أو عدم استحالته - فلیس الإطلاق الحجّة الکاشفة عن المراد ، لأن الکاشفیّة إنما تکون حیث یمکن أخذ القید و یتمکّن من التقیید ثبوتاً .
هذا تمام الکلام فیما یتعلَّق بأخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بالأمر الأوّل .
و بعد أن ظهر عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلَّقه کالصّلاة مثلاً بالأمر الأوّل ، فهل هو ممکن بالأمر الثانی أو لا ؟
لا یخفی أن المقصود من المتعلَّق هو «الصّلاة» ، و من الحکم هو «الوجوب» و من الموضوع هو «البالغ العاقل» ، و لکلّ واحدٍ من الثلاثة انقسامات أوّلیّة و ثانویة .
و المراد من الانقسام الأوّلی هو : الانقسام من دون لحاظ الحکم ، و من الانقسام الثانوی هو : الانقسام مع لحاظ الحکم . فالصّلاة - مثلاً - تنقسم إلی ما فی الوقت و ما فی خارج الوقت ، و فی المسجد و ما فی خارج المسجد ، فهذا
ص:98
انقسام مع قطع النظر عن الحکم ، فیسمّی بالانقسام الأوّلی . و أمّا مثل الصّلاة مع قصد الأمر ، و بدون قصد الأمر ، فهو انقسام بلحاظ الحکم ، فیکون ثانویاً .
و المکلّف ینقسم إلی المستطیع و غیر المستطیع مثلاً ، و هذا انقسام أوّلی ، لأنه بقطع النظر عن الحکم ، و ینقسم إلی العالم بوجوب الحج و الجاهل بوجوبه ، و هذا ثانوی ، لأنه بلحاظ الحکم الشرعی المترتّب علی الحج .
إن الانقسامات الأوّلیة تقبل الإطلاق و التقیید ، لأنّ للمتکلّم - فی مقام لحاظ الموضوع أو الحکم أو المتعلَّق - أن یأخذ الخصوصیّة فیکون مقیِّداً ، و أنْ لا یأخذها فیکون مطلقاً .
لکنّ الکلام فی قبول الانقسامات الثانویة للإطلاق و التقیید ... فهل یمکن للمولی أن یُقیّد متعلَّق حکمه بالأمر الثانوی - بعد عدم إمکانه بالأوّلی - بأنْ یقول أوّلاً : «صلّ» ، ثم یقول بعد ذلک : الصّلاة التی أمرتک بها یجب علیک الإتیان بها بداعی الأمر ، أو لا یمکن ؟
إنه إنْ أمکنه ذلک ، کان عدم أخذه القید دلیلاً علی الإطلاق ، و بذلک یحکم بتوصلیّة الواجب المشکوک کونه تعبدیّاً أو توصلیّاً .
و بالجملة ، فإنّ المحاذیر التی کانت تمنع من أخذ هذا القید فی المتعلّق ، من الدور ، و من اجتماع المتقدّم و المتأخر ، و من استلزام عدم القدرة علی التکلیف ، و من داعویّة الأمر إلی نفسه ... کلّها منتفیة ، لأنّ الأمر متعدّد و المتعلّق متعدّد .
إن أخذ قصد الأمر هنا أیضاً غیر ممکن ، لأن حصول الامتثال و سقوط الأمر بإتیان المتعلَّق بقصد الأمر الأوّل إن کان ممکناً ، فالأمر الثانی یکون لغواً ، و إنْ لم یتحقق الامتثال ، فالأمر الأوّل باق ، و السبب فی بقائه هو عدم تحقّق الغرض منه ، لأن الأمر معلول للغرض ثبوتاً و سقوطاً ، و ما لم یحصل فهو باق ، و إذا کان المنشأ ذلک ، فإنّ حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی - مع الشک فی محصّله ، فکیف مع العلم - یکفی لأنْ یؤتی بالمتعلَّق بقصد الأمر الأوّل ، فیکون الأمر الثانی لغواً کذلک .
و تلخّص : إن الأمر الثانی لیس بمحالٍ لشیء من المحاذیر المتقدمة ، إلّا أنه محال للزوم اللّغویة ، إلّا أن یحمل علی الإرشادیّة إلی حکم العقل .
و إذ لا یمکن أخذ قصد الأمر بالأمر الثانوی ، فلا یمکن الإطلاق ، حتی یؤخذ بنتیجة الإطلاق ، و یترتب الأثر المقصود .
قال السیّد الاستاذ : و قد استشکل الأعلام فیما أفاده صاحب الکفایة ، و هم ما بین من أغفل الشقّ الأول من التردید و اقتصر فی الإیراد علی الشقّ الثانی ، و ما بین من تصدّی فی إشکاله إلی کلا شقّی التردید و هو المحقق الأصفهانی .
ثم إنه ذکر کلماتهم و ناقشها و انتهی إلی القول : بأنّ ما ذکره صاحب الکفایة فی منع تعدّد الأمر و أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر الثانی ، بالتقریب الذی ذکرناه ، لا نری فیه إشکالاً ، فالالتزام به متّجه ، و بذلک یتبیّن أنّ أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر ممنوع عقلاً (1) .
ص:100
و أمّا شیخنا الاستاذ ، فقد أجاب عن کلا الشقّین ، و أفاد ما حاصله :
أمّا الشق الأوّل ففیه : إنّ من الغرض اللّازم تحصیله ما لا یحصل إلّا بالإتیان بالعمل بقصد القربة ، و منه ما یحصل بدونه ، فمثلاً : ذکر اللّٰه تعالی بدون قصد القربة له أثر یترتّب علیه و غرض یحصل منه ، و لذکره تعالی أیضاً مرتبة أخری لا یحصل الغرض منه إلّا إذا کان مع قصد القربة ، فالغرض کما یحصل من الأمر الأوّل کذلک یحصل من الأمر الثانی ، فلا لغویّة .
و أمّا الشق الثانی ، فإن کلامه مبنی علی القول بأصالة الاشتغال فیما نحن فیه ، و لکنْ سیأتی - فی مبحث مقتضی الأصل العملی - أن فی المقام قولین :
أحدهما : البراءة ، و الآخر : هو الاشتغال ، و علی الأوّل ، لا یکون الأمر الثانی لغواً . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : حکم العقل بالاشتغال إنما هو فی فرض الشک فی حصول الغرض ، لکنّ الأمر الثانی المفید للتقیید - کما هو المفروض - یکون کاشفاً عن الغرض ، فیکون عدمه کاشفاً عن إطلاق الغرض .
و ثالثاً : إن وصول النوبة إلی حکم العقل بالاشتغال ، إنما یکون مع عدم جریان الأصل اللّفظی ، فلو جری لم یبق موضوع لحکم العقل ، لأنه إمّا وارد علیه - کما هو الصحیح - أو حاکم علیه .
و رابعاً : إنّه قد ثبت فی محلّه جریان البراءة الشّرعیة مع وجود البراءة العقلیّة ، فلا یکون حکم الشرع بالبراءة هناک لغواً ، فکذا هنا لا لغویّة لحکم الشرع بالاشتغال مع وجود حکم العقل به .
و تلخص : أنْ لا محذور عن التقیید بالأمر الثانوی .
ص:101
و ذکر السید البروجردی (1) الإشکال فی أخذ قصد الأمر الثانوی بوجهٍ آخر ، و هو : إن الأمر الأوّل قد تعلَّق بالصّلاة بلا قصد القربة ، و من المعلوم أنها بلا قصدٍ للقربة لا یترتب علیها الغرض منها ، کما أن من الواضح أنّ هکذا عملٍ لا مصلحة فیه و لا ملاک ، فلا یکون الأمر به أمراً حقیقیّاً بل هو صورة الأمر ، وعلیه ، فتعدّد الأمر لا یحلُّ المشکلة .
و أجاب الاستاذ دام بقاه عمّا ذکره بالنقض و الحلّ .
أمّا النقض ، فإنه لا ریب فی أنْ الأمر بالصّلاة لیس أمراً بالوضوء ، بل مطلوبیّة الوضوء فی الصّلاة إنما هی بأمرٍ آخر غیر الأمر المتوجّه إلی الصّلاة ، فدلیل الصّلاة قوله تعالی - مثلاً - : «أَقِمِ الصَّلاَةَ» (2)و دلیل اعتبار الوضوء فیها قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ ...» (3)لکنّ الصّلاة ذات المصلحة و الملاک هی الواجدة للوضوء ، فیکون لازم کلامه قدّس سرّه أنْ یکون الأمر المتعلّق بالصّلاة أمراً صوریّاً ، لأنّ اعتبار الوضوء فیها بأمرٍ آخر ... لکن لا یُظنُّ به الالتزام بصوریّة الأمر المتعلّق بالصّلاة .
و أمّا الحلُّ ، فإنّ صوریّة الأمر إنما هی فیما إذا کان متعلَّق الأمر أجنبیّاً عن الغرض ، أمّا إذا کانت نسبة المتعلَّق إلی الغرض نسبة المقتضی إلی المقتضی فالأمر حقیقی لا صوری .
إنّ الأمر بالصّلاة أمر بمقتضی الغرض ، غایة الأمر کون قصد الأمر متمّماً
ص:102
لهذا الاقتضاء ، کما أنّ الصّلاة لها اقتضاء حصول الغرض ، إلّا أنّ الوضوء متمّم لهذا الاقتضاء ... هذا من الجهة العقلیّة ... و من الجهة العرفیّة کذلک ، فإن أهل العرف یبعثون نحو الذات بأمرٍ و نحو قیدها بأمرٍ آخر ، فیکون للمقیَّد أمر و للقید أمر ، و لا یرون الأمر المتوجّه نحو الذات أمراً صوریّاً ، بل هو عندهم أمر حقیقةً ، و السرّ فی ذلک هو : أنّ متعلَّق الأمر إذا کان واجداً للملاک و محصّلاً للغرض و لو بنحو الجزئیة أو علی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، فالأمر عندهم أمر حقیقی لا صوری .
و علی الجملة ، فإنّ هذا الوجه أیضاً مندفع ...
و الحق : صحّة أخذ قصد الأمر فی المتعلَّق بتعدّد الأمر .
و بعد ، فإذا فرضنا عدم إمکان أخذ قصد الأمر ، لا فی متعلَّق الأمر الأوّل و لا فی متعلّق الأمر الثانوی ، فهل یمکن التقیید بوجهٍ آخر حتی یتمّ الإطلاق لعدم التقیید مع التمکّن منه ؟
إن هناک جملة من الدواعی للعمل ، کقصد محبوبیّة العمل للّٰه، أو الإتیان بالعمل بداعی أنّ اللّٰه أهل للعبادة ، أو بقصد مصلحة العمل ، أو کونه حسناً ؟
قال الشیخ الأعظم (1) بالإمکان ، فوسّع دائرة التقرّب إلی اللّٰه فی العمل العبادی ، و أنه یحصل القرب و المقرّبیة بشیء من هذه الدواعی أیضاً ، و حینئذٍ ، فلمّا کان المولی فی مقام البیان ، و کان خطابه مجرّداً عن کلّ قرینةٍ دالّة علی اعتبار شیء من ذلک ، أمکن التمسّک بالإطلاق ، و بذلک یتمّ الأصل اللّفظی لتوصّلیّة العمل المردّد بین التوصّلیّة و التعبدیّة .
ص:103
و الإشکالات ، علی ذلک ثلاثة :
قال : إنه و إنْ أمکن تعلّق الأمر بشیء من هذه الدواعی و جعله جزءاً من العمل المأمور به ، لکنّا نعلم قطعاً بعدم کونه کذلک شرعاً ، لأنّ العمل لو اتی به بداعی الأمر و من دون التفاتٍ إلی أحد تلک الدواعی ، فلا ریب فی تحقّق الغرض و حصول الامتثال و سقوط التکلیف عن المکلَّف ، و لو کان شیء منها مأخوذاً من قبل المولی و دخیلاً فی المأمور به ، لم یحکم بتحقّق الامتثال و سقوط الأمر .
و أجاب عنه فی (المحاضرات) (2) : بأن المأخوذ فی متعلَّق الأمر لیس أحد الدواعی بعنوانه ، لیرد الإشکال المذکور ، بل المأخوذ هو الجامع بینها الملغی عنه القیود - إذ الإطلاق لیس بمعنی الجمع بین القیود ، بل حقیقته رفض القیود و لحاظ عدم مدخلیّة شیء منها فی المأمور به - کما لو قال المولی : علیک الإتیان بالعمل مضافاً إلیَّ و منسوباً إلیّ ، و هذا یتحقّق بأیّ واحدٍ من العناوین المذکورة ، کأنْ یؤتی بالعمل بداعی المحبوبیة أو الحسن أو وجود المصلحة فیه ، و هکذا ... و إمکان الإتیان بأحد هذه الدواعی یکفی لإمکان الإتیان بالعنوان الجامع ، لأنّ القدرة علی حصّةٍ من الطبیعة تکفی لأنْ یأمر المولی بالطبیعة ، و لا یکون استحالة احدی الحصص - مثلاً - سبباً للعجز عن الطبیعة ... وعلیه ، فبأیّ عنوان من العناوین المزبورة وقع العمل ، فقد
ص:104
انطبق العنوان الجامع قهراً ، و کان الإجزاء عقلیّاً .
أقول :
و هذا الجواب قد ارتضاه الاستاذ فی الدورة اللّاحقة ، لکنّ الظاهر توقّف صحّته علی تمامیّة الجواب عن الإشکال الثالث الآتی عن السیّد البروجردی .
قال : تقیید المتعلَّق بهذه الدواعی غیر ممکن ، و ذلک : لأنَّ وزان الإرادة التشریعیّة وزان الإرادة التکوینیّة ، و کما یستحیل تعلّق الإرادة التکوینیّة بهذه الدواعی ، فکذلک الإرادة التشریعیّة .
و وجه الاستحالة فی التکوینیّة هو : إن حقیقة الداعی هو ما تنبعث عنه الإرادة فی نفس المکلَّف للقیام بالعمل ، و تکون الإرادة متأخّرة فی الرتبة عن الداعی ، لکونها معلولة له و هو بمنزلة العلّة لها ، و کلّ علّة فهی متقدّمة علی معلولها ، وعلیه ، فلا یمکن تعلّق الإرادة بالدّاعی ، لاستلزامه تقدّم الشیء علی نفسه ، و هو باطل .
و إذا استحال هذا فی الإرادة التکوینیّة ، استحال فی التشریعیّة ، لکونها علی وزانها.
إذن ، لا یمکن تعلّق الأمر بالعبادة مع داعی المحبوبیة و المصلحة و غیر ذلک من الدّواعی .
کلاهما متین - :
أحدهما : النقض بما ذهب إلیه المیرزا من جواز أخذ أحد هذه الدواعی فی المتعلَّق بالأمر الثانوی ، المعبّر عنه بمتمّم الجعل ... لأنّ الوجه المذکور فی تقریب الاستحالة لا یفرّق فیه بین أخذ الدواعی تلک ، فی متعلَّق الطلب الأوّل أو الثانی .
و الجواب الآخر هو الحلّ ، و ذلک : إن ما ذکره المیرزا إنما یستلزم استحالة تعلّق خصوص الإرادة الناشئة عن أحد تلک الدواعی بنفس ذاک الدّاعی ، من جهة أن الإرادة الناشئة عن داع یستحیل أن تتعلَّق بالداعی نفسه ، لکونها متأخرةً عنه ، فلا یعقل تقدّمها علیه ، و أما تعلّق إرادة اخری بذلک الدّاعی غیر الإرادة الناشئة عنه ، فلا استحالة فیه ، و نحن نقول : إنّ الواجب مرکّب من العمل الخارجی و أحد الدواعی المذکورة ، فکانت الإرادة المتعلّقة بالعمل الخارجی ناشئة عن أحد الدواعی ، لکنّ ذلک الداعی منبعث عن إرادة أخری ، فلا یلزم الدور .
و علی الجملة ، فإنّه قد تعلّقت الإرادة التشریعیّة من الشّارع بالصّلاة بداعی المصلحة ، فإنْ کان الداعی لهذه الإرادة نفس المصلحة ، لزم المحال ، لکنّ داعی المولی للإرادة التشریعیة لیس هو المصلحة ، بل محبوبیّة الصّلاة مثلاً ... و إذا اختلف الداعیان ارتفع محذور الدور .
قال : محذور الدور و عدم القدرة علی الامتثال ، الواردان علی أخذ داعی الأمر فی المتعلَّق ، یردان فی أخذ داعی المصلحة . فکما ترد الإشکالات فیما
ص:106
إذا تعلَّق الأمر بالصّلاة بداعی الأمر ، فهی واردة أیضاً فیما إذا تعلَّق بالصّلاة بداعی حسنها أو محبوبیّتها أو کونها ذات مصلحة ، إذ الأمر بعد تعلّقه بالفعل المقیَّد بإتیانه بداعی الحسن أو المحبوبیّة أو کونه ذا مصلحة ، یستکشف منه أن الحسن و المحبوبیة و المصلحة إنما هی للفعل المقیَّد ، لا لذات الفعل ، لعدم جواز تعلّق الأمر إلّا بما یشتمل علیٰ المصلحة و یکون حسناً و محبوباً ، و لا یجوز تعلّقه بالأعمّ من ذلک ، و حینئذٍ ، فترد الإشکالات بعینها . أمّا الدور :
فلأنّ داعویّة حسن الفعل أو محبوبیته أو کونه ذا مصلحة یتوقف علیٰ کونه حسناً أو محبوباً أو کونه ذا مصلحة ، و کونه کذلک یتوقف علیٰ داعویة الحسن أو المحبوبیّة أو کونه ذا مصلحة ، فیدور . و أمّا عدم القدرة فی مقام الامتثال :
فلأن الإتیان بالصّلاة بداعی حسنها - مثلاً - یتوقف علیٰ کون الذات حسنة ، و المفروض أن الحسن إنما هو للفعل المقیَّد . و بذلک یظهر تقریر التسلسل أیضاً .
أوّلاً : بالنقض ، بمثل التوهین و التعظیم و نحوهما من العناوین الانتزاعیّة القصدیّة ، فإنّ القیام لا یصدق علیه التعظیم إلّا إذا کان بقصد ذلک ، لکن قصد التعظیم بالقیام موقوف علی کون القیام من مصادیقه .
و ثانیاً : بالحلّ ، و هو الفرق بین الاقتضاء و الفعلیّة ، إذ الموقوف علی المصلحة فی العمل - و علی القصد فی التعظیم مثلاً - هو فعلیّة القصد و المصلحة ، لکنَّ الموقوف علیه المصلحة و القصد هو عبارة عن الفعل الذی فیه اقتضاء المصلحة أو التعظیم ... فلا دور .
ص:107
و هذا طریقٌ ثالث لتقیید المتعلَّق بعد فرض العجز عن تقییده بقصد الأمر الأول أو الثانی ، و عن تقییده بسائر الدواعی ، فهل یمکن للمولی أنْ یتوصّل إلی غرضه فی الواجبات العبادیّة بتقیید متعلَّق أمره بلازم قصد الأمر أو لا ؟
توضیحه : إن الأعمال التی یقوم بها المکلَّف ، إمّا هی بالدّواعی النفسانیّة الباعثة علیها ، و إمّا هی بالدّواعی الإلهیّة ، فلو قال المولی لعبده : افعل کذا لکنْ لا بداعٍ من الدّواعی النفسانیّة ، فقد أمره بالإتیان به بداعٍ إلهی ، فیکون قد أخذ فی متعلَّق المأمور به هذا القید العدمی ، لیکون مضافاً إلی المولی .
و لمّا کان المولی فی مقام البیان ، و کان بإمکانه أخذ هذا القید ، کان عدم أخذه له کاشفاً عن الإطلاق .
... هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل اللّفظی الداخلی ، و هو الجهة الاولی من جهات بحث التعبّدی و التوصّلی .
و المقصود هو الأدلة اللّفظیة ، فقد استدلّ بالکتاب و السنّة للدلالة علی أنّ الأصل فی الواجبات هو التعبدیّة لا التوصلیّة ، و أنّ ذلک مقتضی آیتین من القرآن الکریم ، و روایات کثیرة .
و تقریب الاستدلال - کما ذکر المحقق الرشتی (1) - أمّا الآیة الاُولی ، فلأن اللّام فیها للغایة و الآیة دالّة علی الحصر ، فتفید أنّ تمام الأمر و امتثاله إنما هو بالغایة من العبادة .
ثم أشکل أوّلاً : بأنّ مدلول الآیة لیس التعبدیّة ، و إلّا لزم التخصیص المستهجن لأغلبیّة الواجبات التوصّلیّة من التعبدیّة فی الفقه . و ثانیاً : بأن سیاق الآیة قرینة علی أن المراد من الذین «امروا» هم «أهل الکتاب» .
و قد اجیب عن هذا الإشکال بوجهین ، أحدهما : استصحاب الشرائع السابقة . و الآخر : بأنّ فی ذیلها «ذَلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ » (2)و هذا الجواب أدق ، و هو للمحقق الخونساری فی (مشارق الشموس) (3) .
و أمّا الآیة الثانیة ، فتقریب الاستدلال بها هو : إن الإطاعة لیس إلّا الامتثال ، و هو لا یحصل إلّا بقصد الامتثال .
و فیه : إن الطاعة تقابل المعصیة ، و هی عبارة عن مخالفة الأمر ، فالطّاعة موافقة الأمر ، و لیس الموافقة مقیَّدة بقصد الأمر . و أیضاً : فالتوصّلیات أیضاً یقع فیها الطّاعة و العصیان ، مع عدم اعتبار قصد الأمر فی الإطاعة فیها .
و استدلّ من السنّة : بالأخبار الکثیرة الواردة فی أنْ لا عمل إلّا بالنیّة ، و إنّما الأعمال بالنیّات ... و نحو ذلک (4) ...
و الجواب : إنّها أجنبیة عن اعتبار قصد القربة ، بل إنها ظاهرة فی أنّ الثواب و الأجر من اللّٰه یدور مدار النیّة ...
ص:109
إن الأصل العملی المطروح أوّلاً فی هذا المقام هو الاستصحاب ، ببیان :
أنه قد کان العمل واجباً ، و مع الإتیان به بلا قصدٍ للأمر یشک فی سقوط التکلیف ، فیکون باقیاً بحکم الاستصحاب .
و قد أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) : بعدم جریانه ، لکونه بلا أثر شرعی ، لأنّ استصحاب الوجوب لإثبات وجوب قصد الامتثال أصل مثبت ، لأنّ قصد الامتثال لیس من الآثار الشرعیة لبقاء الوجوب ، نعم هو من آثاره العقلیة .
و إنْ ارید من إجراء الاستصحاب إثبات دخل قصد الامتثال فی الغرض من الوجوب ، ففیه : إن الدخل فی الغرض و عدمه من الامور الواقعیّة ، و لیس أمراً مجعولاً من قبل الشارع کی یثبت بالتعبّد الشرعی .
و إنْ ارید من الاستصحاب إثبات موضوع حکم العقل بلزوم الطاعة ، بمعنی أنه إذا ثبت الوجوب بقاءً حکم العقل بلزوم الإطاعة کی یحصل غرض المولی من الأمر ، ففیه : إن استصحاب بقاء الوجوب لا یثبت موضوع حکم العقل بلزوم تحصیل الغرض ، لأن المفروض عدم قیام الحجّة علی غرضه من جهة التعبدیة .
فظهر سقوط هذا الاستصحاب بجمیع الوجوه .
قال الاستاذ دام بقاه : إن ما ذکره المحقق المذکور فی الإیراد علی
ص:110
الاستصحاب إنما یتم لو ارید ترتیب أثر شرعی علی الاستصحاب ، و لکنّ المستصحب فیما نحن فیه هو نفسه حکم شرعی ، و باستصحابه یثبت الموضوع للحکم العقلی ، لأنّ المستصحب هو «الوجوب» ، و إذا ثبت بقاءً تمّ اشتغال الذمّة ، و العقل یحکم بضرورة العمل لفراغها ، و لا شکّ فی عدم اختصاص حکم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التکلیف بالوجوب الواقعی ، بل یشمل الوجوب التعبّدی الثابت بالاستصحاب أیضاً ...
بل الحق فی الإشکال - و الذی غفل عنه المحقق الأصفهانی - هو عدم المقتضی للاستصحاب فیما نحن فیه ، و ذلک : لأن الوجوب إنما ینتزع من الأمر و الحکم ، فإنْ کان أمر کان الوجوب و إلّا فلا ، و هنا لا یوجد أمرٌ ، إذ الأمر الشخصی المتعلّق بالصّلاة التی هی عبارة عن الأجزاء قد سقط بالإتیان بالأجزاء ، فلا تبقی داعویّة للأمر ، إذ الأمر لا یدعو إلّا إلی متعلّقه ، فإذا تحقق سقط الأمر ، فهو غیر موجود حتی یستصحب .
و إذْ سقط الاستصحاب ، تصل النوبة إلی الأصل المحکوم به ، فهل المقام مجری البراءة أو الاشتغال ؟
إن مسألتنا من صغریات دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فإنْ کان قصد القربة واجباً فالواجب هو الأکثر و إلّا فالأقل ... مع العِلم بالتلازم بین التکلیف و الغرض ، فی الثبوت و السقوط .
و قد ذهب المحقق الخراسانی هنا إلی الاشتغال و عدم جریان البراءة مطلقاً - و إن کان مختاره فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین جریان
ص:111
البراءة الشرعیّة دون العقلیّة - و السبب فی ذلک :
أمّا فی البراءة العقلیّة ، فلأنّ المفروض عنده عدم تمکّن المولی من أخذ قصد الأمر مطلقاً فی المتعلَّق ، فلمّا تعلَّق الأمر بالصّلاة مثلاً ، حصل الیقین بوجود غرض للمولی من هذا الأمر ، و مع العلم الإجمالی بقیام الغرض إمّا بالأقل ، و هو الصّلاة بلا قصد القربة ، و إمّا بالأکثر و هو الصّلاة معه ، کان مقتضی القاعدة هو الاشتغال ، إذ لا یحصل الیقین بحصول الغرض إلّا بالإتیان بالصّلاة مع قصد القربة .
و الحاصل : إنه مع وجود المنجّز بالنسبة إلی الغرض ، و هو العلم الإجمالی ، و الشک فی حصوله بدون القصد ، یکون العقل حاکماً بالاشتغال لا محالة .
و أما البراءة الشرعیّة ، فهی غیر جاریة کذلک ، لأن المفروض عدم تمکّن المولی من وضع قصد القربة ، و کلّما لم یکن الوضع بیده فلا یکون الرفع بیده ، فلا موضوع لحدیث الرفع ، بخلاف مورد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الارتباطیین ، فقد کان مقدوراً للمولی أن یجعل السورة - مثلاً - جزءاً من المتعلَّق ، و مع الشک فی أخذه و وضعه ، یجری حدیث الرفع .
فظهر أن العمدة فی وجه نظره هو عدم إمکان أخذ القصد فی المتعلَّق مطلقاً ، أی لا بالأمر الأوّل و لا بالأمر الثانوی ، مع کون القصد دخیلاً فی الغرض .
و مما ذکرنا ظهر : أنّ الأصل یختلف باختلاف المبنی فی البحوث المتقدّمة ، فی إمکان أخذ القصد فی المتعلَّق و عدم إمکانه ، بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانوی أو بغیرهما ، و قد تقدّم إمکانه بالأمر الثانوی ، فهو یقبل الوضع ،
ص:112
فیکون قابلاً للرفع ، فلا یبقی ریب فی جریان البراءة الشرعیّة .
و أمّا البراءة العقلیّة ، فهی تجری أیضاً ، بناءً علی التحقیق من أنّ وظیفة العبد حفظ أغراض المولی و تحصیلها ، کتکالیفه ، نعم ، کلّ غرضٍ و تکلیف قامت علیه الحجّة ، و هنا لمّا کان المولی متمکّناً من البیان ، و المفروض عدم البیان ، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان متحقّق .
فالتحقیق : إن الأصل فی المقام هو البراءة عقلاً و نقلاً .
ثم إنه یرد علی صاحب (الکفایة) بأنه - و إنْ أنکر فی المقام الإطلاق اللّفظی بعدم القدرة علی التقیید - یری جریان الإطلاق المقامی ، فإذا کان المولی فی مقام بیان غرضه التام ، و کان قادراً علی أخذ کلّ خصوصیةٍ لها دخل فی غرضه ، و کانت الخصوصیّة مما یغفل عنها العامّة ، فلو لم یفعل أمکن التمسّک بالإطلاق و الحکم بالبراءة ...
و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فکان علیه قدّس سرّه بمقتضی ذلک أن یقول بالبراءة لا الاشتغال .
هذا تمام الکلام فی التعبّدی و التوصّلی .
ص:113
ص:114
ص:115
ص:116
لو وقع الفقیه فی شک بالنسبة إلی واجبٍ من الواجبات هل هو نفسی أو غیری ؟ أو هل هو تعیینی أو تخییری ؟ أو هل هو عینی أو کفائی ؟ فما هو مقتضی القاعدة ؟
المرجع عند الشک هو الأصل اللّفظی ثم الأصل العملی ... أمّا الأصل العملی الجاری فی هذا المقام - فی فرض عدم الأصل اللّفظی - فسیأتی فی مبحث مقدّمة الواجب .
و أمّا الأصل اللّفظی ، فقد قال فی (الکفایة) (1) : إطلاق الصّیغة یقتضی النفسیة و العینیة و التّعیینیة ...
و مراده رحمه اللّٰه من هذا الإطلاق هو : إن الثلاثة المقابلة لهذه الثلاثة تحتاج ثبوتاً و إثباتاً إلی بیانٍ زائد ، لأنّ الوجوب الغیری وجوب له ارتباطٌ ثبوتی بوجوبٍ آخر ، کالوضوء بالنسبة إلی الصّلاة ، ففی الوجوب الغیری تقییدٌ و اشتراط ، و کذا فی الوجوب الکفائی ، لأنه یرتبط بعدم إتیان الغیر للعمل ، فلو صدر العمل من أحدٍ فلا وجوب علیه ، و فی الوجوب التخییری تقیّد بعدم إتیان العدل ، فلو أطعم الستّین مسکیناً فلا وجوب لعتق الرقبة مثلاً ... فظهر : إن الثلاثة فی عالم الثبوت فیها تقیّد و ارتباط و اشتراط ، و هذا التقیّد بحاجةٍ إلی بیانٍ زائدٍ فی عالم الإثبات ، و لذا نری الآیة الکریمة فی
ص:117
الوضوء فیها کلمة «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ » (1)و کذا فی التخییری ، یؤتی ب «أو» و فی الکفائی کذلک .
فهذا مراد المحقق الخراسانی من الإطلاق .
ثم إنّ هذا الإطلاق یمکن أن یکون إطلاق الهیئة ، و یمکن أن یکون إطلاق المادّة .
بیان الأوّل : عند ما نشکّ فی وجوب الطهارة فی حال القراءة - مثلاً - أنه وجوب نفسی أو غیری ، لا نشک فی أصل الوجوب ، بل الشک فی أن هذا الوجوب هل هو مشروط و مقیّد بوجوب الصّلاة أو لا ؟ فإذا رجع الشک إلی اشتراط الوجوب ، فمعناه : کون مفاد الهیئة مقیداً و مشروطاً ، و مقتضی إطلاق الصیغة من جهة الهیئة هو الوجوب غیر المقیَّد بالغیر .
فهذا بیان إطلاق الهیئة لنفی الغیریّة .
و بیان الثانی : أنْ یرجع الشک - فی نفس المثال المذکور - إلی تقیّد الواجب - لا تقیّد الوجوب - فعندنا دلیلٌ علی وجوب الطهارة ، و نشک فی أنّ وجوبها هو للصّلاة ، بأنْ تکون الصلاة مقیدةً بالطهارة ، أو لا تقیّد ؟ إذ من المعلوم أنّ کلّ واجب مشروط بشرطٍ ، فالشرط یکون دخیلاً فیه ، فتکون المادّة مقیَّدةً ، و مع الشک فی التقیّد یتمسّک بإطلاق الواجب - المادّة - و تکون الصّلاة مثلاً - غیر مشروطة بالطهارة ، فلیس وجوب الطهارة غیریّاً .
هذا ، و لمّا کانت الاصول اللّفظیّة لوازمها حجةً ، فلازم إطلاق الهیئة أو المادّة هو نفسیّة الوجوب أو الواجب ، و عدم دخل القید و الشرط فیه ...
هذا توضیح مطلب صاحب (الکفایة) ، حیث تمسّک بإطلاق الصّیغة
ص:118
لإخراج ما ثبت وجوبه عن التردّد بین النفسیة و الغیریة ، و العینیة و الکفائیّة و التَعیینیة و التخییریة .
و المحقق الأصفهانی له تقریبٌ آخر للإطلاق ، یقول (1) : لیس المراد من النفسیّة أنْ یکون الشیء واجباً غیر مرتبطٍ وجوبه بشیءٍ آخر ، بل إن تقریب الإطلاق هو أنه إن کان أمران لأحدهما قید وجودی و للآخر قید عدمی ، فإنّ عدم القید الوجودی یکفی لإثبات الطرف الآخر المقیَّد بالعدم ، و تطبیق ذلک هنا هو : إنّ الواجب الغیری - کالوضوء - مقید بقیدٍ وجودیّ هو : کونه واجباً لواجبٍ آخر ، فالوضوء یجب للصّلاة ، أمّا الواجب النفسی - الصّلاة - فلیس له هذا القید ، لأنه واجبٌ لا لواجبٍ آخر ، و «لا لواجبٍ آخر» قید عدمی ، و حینئذٍ ، فعدم القید الوجودی «لواجبٍ آخر» یکفی لأنْ یکون الواجب نفسیّاً ... و هذا معنی الإطلاق ، لأنّ الذی یحتاج إلی بیانٍ زائد هو القید الوجودی «لواجب آخر» ، أمّا الذی هو واجب لنفسه فقیده «لا لواجب آخر» ، فنفس عدم التقیید بالقید الوجودی یکفی لأنْ یکون الواجب نفسیّاً لا غیریّاً .
هذا ، و قد صرَّح الاستاذ فی الدورة السابقة بمتانة بیان المحقق الأصفهانی ، و أجاب عمّا أورد علیه من أنّ العدم الذی هو فی الواجب النفسی «لا لوجوبٍ آخر» ...
إنْ کان بنحو السالبة المحصَّلة ، فإنها تصدق مع عدم الموضوع أیضاً ، فقولک : زید لیس بقائمٍ یصدق مع عدم زید ، و کذلک هنا ، فإنّ «لا لوجوبٍ
ص:119
آخر» یکون صادقاً مع انتفاء الوجوب الآخر رأساً ، و هذا باطل .
و إن کان بنحو العدم و الملکة ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، أی : لو کان وجوب آخر لکان هذا متّصفاً بعدم کونه لواجب آخر ، فهذا فی ذاته قید یحتاج إلی بیان زائد ، فیعود إلی کلام المحقق الخراسانی .
فقال الاستاذ : إنه لا وجه لأنْ ینسب إلیه القول بکون المورد من السّالبة المحصّلة ، لأنّ «لا» النافیة فی «لا لوجوبٍ آخر» هی وصف للوجوب ، فالوجوب النفسی عبارة عن الوجوب الذی تعلَّق بشیءٍ لا لواجبٍ آخر .
و أمّا القول بأنّه بناءً علی العدم و الملکة أو السالبة بانتفاء المحمول یکون قیداً ، فیحتاج إلی بیان .
ففیه : إنّ المحقق الأصفهانی یری أن القیود العدمیّة غیر محتاجة إلی بیانٍ زائد ، و إن کانت هی قیوداً فی مقام الثبوت ، و إنّما القیود الوجودیة هی التی تحتاج إلیه ، فعدم البیان علی کونه واجباً لواجب آخر ، یکفی للدلالة علی نفسیّة الوجوب .
و فی نفس الوقت ، فقد دافع الاستاذ عن بیان صاحب (الکفایة) أیضاً ، فإنّه بعد أنْ قرَّبه فی أوّل البحث ، أوضحه مرّةً أخری لیندفع عنه إشکال المحقّق الأصفهانی ، فأفاد : بأنّ مراد المحقق الخراسانی هو : إنّ الوجوب فی الواجبات الثلاثة - الغیری ، التخییری ، الکفائی - مضیَّق ، و التضییق تقیید واقعی فی الوجوب ، فهو یرید أن الغرض فی الواجب النفسی مطلق و لا ضیق فیه ، بخلافه فی الواجب الغیری ، فإنه مضیَّق ، مثلاً : الغرض من الوضوء مضیَّق بصورة وجوب الصّلاة ، و مع تضیّق الغرض یتضیَّق الوجوب ، فیرجع
ص:120
الوجوب الغیری إلی التّضیق و التقیید فی مقام الثبوت ، و یحتاج إلی بیان زائدٍ فی مقام الإثبات ... بخلاف الوجوب النفسی ، حیث تکون الطهارة مطلوبةً سواء وجبت الصّلاة أو لا .
و کذا الکلام فی التخییری و الکفائی ، فوجوب الأول مضیَّق بعدم تحقّق العدل ، و الثانی وجوبه مضیَّق بعدم قیام المکلَّف الآخر بالعمل ، بمعنی أنه یجب فی ظرف عدم قیام الغیر به لا أنه مشروط بعدمه .
فإذن ، لا یرد علیه ما ذکره المحقق الأصفهانی .
و قال السید الحکیم (1) بعدم الحاجة إلی الإطلاق أصلاً ، أمّا فی الوجوب النفسی و الغیری ، فالدلیل علی النفسیة هو السیرة العقلائیة - و لیس الدلیل ظهور اللّفظ و الإطلاق - و أمّا فی الوجوب التعیینی و التخییری ، و العینی و الکفائی ، فالدلیل علی التعیینیة و العینیة هو ظهور اللَّفظ ، و لیس الإطلاق .
أما فی الوجوب النفسی و الغیری ، فإنّ کون الغرض من النفسی ناشئاً من نفس المتعلَّق و بلا ارتباطٍ بواجبٍ آخر ، لا یستفاد من ظهور اللّفظ و لا الإطلاق یدلّ علیه ، بل إنَّ بناء العقلاء و سیرتهم علی أنّه إذا تعلَّق التکلیف بشیءٍ حملوا الوجوب فیه علی النفسیّة و لا یُقبل العذر فیه ، کما لو اعتذر لعدم امتثاله باحتمال کونه وجوباً غیریّاً و أنه کان عاجزاً عن ذلک الغیر ، فهذا العذر لا یقبل منه .
و أمّا فی القسمین الآخرین ، فظاهر اللّفظ هو الدلیل ، لأنه إذا قال المولی : «یجب علی زیدٍ أنْ یقوم» دلّ علی خصوصیةٍ اقتضت توجّه الخطاب
ص:121
إلی زید دون غیره ، فکان ظاهراً فی الوجوب العینی ، و دلَّ علی خصوصیةٍ اقتضت وجوب القیام دون غیره من الأفعال ، فکان ظاهراً فی الوجوب التعیینی ... فهذا الظهور اللّفظی موجود ، سواء تمّت مقدمات الإطلاق أو لا .
قال الاستاذ :
و فیه : إنّ السیرة العقلائیة لا بد و أنْ ترجع إلی شیء ، إذ لا تعبّد فی السیرة ، و مع عدم الدلالة اللّفظیة ، و عدم الإطلاق المفید للنفسیّة ، فلا حجّة أصلاً ، إذْ الحجة هی البیان ، و هو إمّا الظهور اللّفظی و إمّا الإطلاق و إمّا الأصل المثبت للتکلیف ، و کلّها منتف ، فتکون السیرة بلا حجة ، و هی لا تکون بلا حجة ، إذ لا تعبّد فیها .
و أمّا الظهور اللّفظی فی القسمین الآخرین ، فلا یخفی أنْ لا فرق بین الکفائی و التخییری من حیث أنّ کلّاً منهما له عدل ، إلّا أنه فی الکفائی فی طرف الموضوع ، و فی التخییری فی طرف متعلَّق الحکم ، فلمّا قال : «یجب علی زیدٍ أنْ یقوم» کان قوله ظاهراً فیما ذکره من أخذ الخصوصیّة فی طرف الموضوع و هو «زید» و فی طرف متعلّق الحکم و هو «القیام» ، فالخصوصیّة اخذت فی الطرفین ، و لکنْ هل لها بدیل أو لا ؟ إن ظاهر الکلام لیس فیه دلالة علی عدم أخذ البدل أو کفایته ، فیحتاج إلی الإطلاق ، لیدلّ علی التعیینیّة و العینیّة ...
و هذا تمام الکلام فی هذه المسألة .
و قد ظهر أنّ الحق مع (الکفایة) .
ص:122
ص:123
ص:124
قد وقع الخلاف بینهم فی مدلول الأمر الواقع عقیب الحظر - أو توهّم الحظر - و فی المسألة أقوال :
فقیل : إنه یفید الوجوب ، و هو عن السید المرتضی .
و قیل : إنه یفید الإباحة ، و إلیه ذهب جمع من الفقهاء .
و قیل : إنه تابع لما قبل الحظر .
و المختار هو : الإجمال - کما علیه صاحب (الکفایة) - فیرجع إلی مقتضی الأصل و القاعدة .
و هذه أهمّ الأقوال فی المسألة .
لکن مقتضی التحقیق فی هذه المسألة ابتناؤها علی المختار فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب ، حیث قیل هناک بدلالته علیه من باب الظهور الوضعی ، و قیل : بدلالته من باب الظهور الإطلاقی ، و قیل : من جهة حکم العقل ، و قیل : من جهة السیرة العقلائیة .
و الوجه فی ذلک هو : أنّ وقوع الأمر عقیب الحظر لا یوجب انعقاد ظهور فی اللّفظ غیر ما کان ظاهراً فیه ، إذ لا مناط للقول بظهوره فی هذه الحالة فی الوجوب ، و لا للقول بظهوره فی الإباحة ، فإمّا یبقی علی ظهوره السّابق ، و إمّا یکون مجملاً .
أمّا علی القول بأن الأمر حقیقة فی الوجوب ، فإنّه یبقی دالّاً علی ذلک ،
ص:125
لأنّه لو شک فی دلالته علی ذلک فی حال وقوعه عقیب الحظر فأصالة الحقیقة تقتضی حمل الکلام علی معناه الحقیقی ، و المفروض کونه حقیقةً فی الوجوب ... اللهم إلّا أن یقال بأنّ الحمل علی ذلک هو مع الشک فی وجود القرینة الصّارفة ، أمّا مع الشک فی صارفیّة الموجود - کما نحن فیه ، حیث وقع الأمر بعد الحظر - فلا یحکَّم الأصل المذکور ... فتأمّل .
و أمّا علی القول بدلالته علی الوجوب من باب الإطلاق ، فقد یُشکل بأنّ وقوع الأمر عقیب الحظر یحتمل الصارفیّة و القرینیّة ، و مع احتمالها فلا ینعقد الإطلاق ، بل یکون مجملاً .
و قد ذکر الاستاذ هذا الإشکال فی الدّورة السّابقة و اعتمده ... إلّا أنه عدل عنه فی الدّورة اللّاحقة ، و جعل السرّ فی عدم انعقاد الإطلاق : إن الأمر لمّا کان دالّاً علی الإرادة ، و الوجوب إرادة ، و لیس مع الإرادة فی الوجوب شیء آخر - بخلاف غیره من الأحکام ، حیث یوجد مع الإرادة فیها شیء عدمی ، أی عدم المرتبة العالیة من الإرادة - و الدالّ علی أصل الشیء فی الأمر التشکیکی یکون عند الإطلاق ظاهراً فی المرتبة العالیة منه ، فیکون الأمر ظاهراً فی الوجوب من باب الإطلاق . لکن مع کونه بعد الحظر ، یُشک فی أصل الإرادة ، و یحتمل الإباحة مثلاً ، فلا یمکنُ التمسّک بالإطلاق .
و أمّا علی القول بدلالة الأمر علی الوجوب ببناء العقلاء ، فإن بناء العقلاء دلیل لبّی ، و هل مع وقوعه بعد الحظر و احتمال قرینیة الموجود یتحقق الظهور للکلام ؟ و هل البناء المذکور موجود فی هذه الحالة ؟ إنه یؤخذ بالقدر المتیقّن ، و هو المورد الذی لیس واقعاً عقیب الحظر .
و أمّا علی القول بالدلالة بحکم العقل ، فالحق فی الإشکال هو ما ذکرناه
ص:126
من أن أصل تحقّق الإرادة فی مثل هذه الحالة مشکوک فیه ، فلا تصل النوبة إلی الإشکال - کما فی (المحاضرات) (1) - بأنّ حکم العقل بالوجوب موقوف علی عدم القرینة علی الترخیص من ناحیة المولی ، و وقوع الأمر عقیب الحظر یحتمل کونه قرینة .
و تلخَّص :
إنه علی جمیع المبانی ، لا طریق لإثبات دلالة الأمر فی المقام علی الوجوب ، إلّا علی القول بأن أصالة الحقیقة أصل تعبدی ، بضمیمة عدم صارفیّة الموجود .
و أمّا الأقوال الاخری ، من دلالته حینئذٍ علی الإباحة ، أو تبعیّته لما قبل الحظر ، و غیر ذلک ، فلا دلیل علیٰ شیء منها أصلاً . و ما ذهب إلیه السید الأستاذ دام بقاه - من أن الصیغة ظاهرة فی رفع التحریم و الترخیص فی العمل و تجویزه ، فلم یقم علیه دلیلاً إلّا ما أفاده بقوله : « کما یظهر من ملاحظة استعمالات العرف » (2) و أنت خبیر بما فیه ، لأنّ الاستعمالات الفصیحة أعمّ من الحقیقة ، و لو سلّم فخلّوه من القرینة غیر ثابت .
و لمّا کان المختار عند الاستاذ هو الإجمال ، فالنوبة تصل إلی البراءة شرعاً ، ثمّ عقلاً .
أقول :
و هلّا جری الاستصحاب - کما ذکر فی الدورة السابقة - ، أی :
ص:127
استصحاب حکم الشیء الواقع مورداً للأمر عقیب توهّم الحظر ، من الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة ؟ اللهم إلّا علی القول بعدم جریانه فی الشبهات الحکمیّة ، للتعارض بین الجعل و المجعول ، لکنّ الاستاذ لیس من القائلین بعدم جریانه فیها ، فتدبر .
ص:128
ص:129
ص:130
هل الأمر یدل علی المرّة أو التکرار ؟ أو هل یدل علی الدفعة أو الدفعات ؟
و الدفعة و الدفعات ؟
قیل : المراد بالمرّة هو الفرد ، و بالتکرار هو الأفراد .
و قیل : المراد بالمرّة هو الوجود الواحد ، و بالتکرار هو الوجودات .
و قیل : المراد بالمرّة هو الدفعة ، و بالتکرار الدفعات .
و الدّفعة تجمع مع وحدة الوجود و تعدّده ، فهی أعمّ من الفرد ، إذ الوجود الواحد المستمر یصدق علیه عنوان الدفعة ، مع اشتماله علی أکثر من فرد ، فهی أعم منه ، و هو أخص من الدفعة ، و النسبة العموم المطلق .
و الصحیح فی عنوان البحث أنْ یقال :
هل الأمر یدل علی الوجود الواحد أو علی الوجودات ... بأنْ یفسّر المرّة بالوجود و التکرار بالوجودات ، لأنّ الأمر بالطبیعة لا یسری إلی الخصوصیّات .
لأنه «الفعل» سواء فی «افعل» و «لا تفعل» ، لکنّ امتثال الأمر یحصل بصرف وجود المتعلَّق ، أمّا امتثال النهی ، فلا یحصل إلّا بترک جمیع الوجودات ، فما هو السرّ فی ذلک ؟
إن أحسن ما یقال فی ذلک هو : إنّه لا قدرة علی الإتیان بجمیع متعلَّقات
ص:131
الأمر ، فلا یمکن البعث نحو جمیع وجودات الطبیعة ، و حینئذٍ ، فتحدیده بمرتبةٍ دون اخری یحتاج إلی بیانٍ ، و عدم البیان بالنسبة إلی مراتب المأمور به یکفی للقول بأنَّ المتعلَّق هو صرف وجود الطبیعة ، و أن الامتثال یتحقق بالإتیان بفردٍ منها .
أمّا النهی ، فالحال فیه علی العکس تماماً ، لأنّ صرف الترک حاصل مع عدم النهی ، فصدور النهی لأجل صرف الترک تحصیلٌ للحاصل ، ثم تحدیده بمرتبةٍ من مراتب النهی دون غیرها یحتاج إلی بیان کذلک ، فالإطلاق یقتضی إرادة جمیع مراتب الترک .
المقدمة الثالثة : إن الأحکام الشرعیّة قضایا حقیقیّة ، فالحکم یتعدَّد علی عدد المکلَّفین ، فقوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ » (1)یتعدّد الحکم فیه علی عدد المستطیع ... هذا بالنسبة إلی الحکم ، و هل الأمر بالنسبة إلی الموضوع کذلک ، بأنْ یتعدَّد الحکم إذا تعدّد الموضوع ، کأنْ یقال بتعدّد الحکم بالصّلاة بعدد الزوال ، فی قوله : تجب الصلاة عند الزوال ؟
الحق : أنه لا ظهور لقوله «یجب الصلاة عند زوال الشمس» فی وجوب الصّلاة کلّما حصل الزوال ، فتکون واجبةً علی عدد ما یتحقق من الزوال ، إذ لا دلیل عقلی و لا وضعی علی ذلک ، بل المرجع فی مثله هو القرائن ، فإنْ کانت قرینة من مناسبة الحکم و الموضوع أو شیء من القرائن الخارجیة فهو ، و إلّا فالکلام ساکت عن الوحدة و التعدد ...
فما فی (المحاضرات) (2) من دعوی الظهور العرفی فی التعدّد فی المثال
ص:132
و نحوه ، و الظهور العرفی فی الوحدة فی الآیة و نحوها ، لا یمکن المساعدة علیه ، بل یشهد بعدم الظهور سؤال السائل عن المقصود من الآیة المبارکة قائلاً : أ فی کلّ عام (1) ؟
إنّه من حیث الدلالة الوضعیّة ، لا یدلّ الأمر لا علی الوحدة و لا علی التکرار ، و لا الدفعة و لا الدفعات ، و ذلک : لأن صیغة الأمر مرکّبة من المادّة و الهیئة ، أمّا المادّة ، فلا تدلّ إلّا علی المعنی الحدثی ، و أمّا الهیئة - سواء کانت موضوعة للبعث النسبی ، أو النسبة الإیقاعیة ، أو الطلب الإنشائی ، أو لإبراز الاعتبار النفسانی - فلیس فی مدلولها المرّة و لا التکرار و لا الدفعة و الدفعات ، هذا ، و لیس لمجموع الهیئة و المادّة وضع آخر .
إذن ، لا دلالة وضعیّة للصیغة علی شیء من المرّة و التکرار و الدفعة و الدفعات ... فلو أراد المتکلّم شیئاً زائداً عن الطبیعة کان علیه البیان ...
و الطبیعة کما تقدَّمَ - تتحقّق بالمرّة و تصدق بصرف الوجود ، فیحکم العقل فی مقام الامتثال بفراغ الذمة بالإتیان بفردٍ من أفراد الطبیعة ، لکنَّ تحقّق الامتثال به أمر ، و دلالة الأمر علی ذلک أمر آخر ، کما هو واضح .
أمّا مع الشک فی اعتبار المرّة أو التکرار ، فیشکل الأمر ، لأنّ الماهیّة من حیث هی هی لا یتعلَّق بها الغرض ، و أیضاً : لیس الغرض قائماً بالوجود الخارجی للماهیّة ، لأنّ الوجود الخارجی هو المحقِّق للغرض و المسقط للأمر ، فما هو متعلَّق الأمر حتی یکون هو الواجب ؟
ص:133
إنه سیأتی فی محلّه أن المتعلَّق هو الطبیعة ، لکنْ إمّا الطبیعة الملحوظة خارجاً کما علیه المحقق العراقی ، و إمّا الطبیعة الموجودة بالوجود التقدیری ، کما علیه المحقق الأصفهانی ، فالمتعلَّق - علی أی حال - هو الطبیعة منضمّاً إلیها الوجود ، لکنّ الوحدة و التکرار خارجان عن حقیقة المتعلَّق ، و لذا یُقیَّد المتعلَّق - و هو الطبیعة - تارة بهذا و اخری بذاک و ثالثة لا بهذا و لا بذاک ...
و حینئذٍ ، یتحقق موضوع الإطلاق ، و المفروض تمامیّة مقدّماته و إحرازها .
فإنْ فرض عدم إحراز مقدّمات الحکمة سقط الإطلاق ، و تصل النوبة إلی الأصل العملی .
و مقتضی القاعدة هو الرجوع أوّلاً إلی الاستصحاب ، لأنّ کلّاً من التکلیف بالوجود الواحد و التکلیف بالوجودات مسبوق بالعدم ، فیکون قید الوحدة أو التعدّد - و هو قیدٌ زائد علی أصل الوجود - خصوصیة زائدة لا یعلم بدخولها تحت الأمر أو عدم دخولها تحته ، و الأصل العدم .
و مع المناقشة فی هذا الاستصحاب ، تصل النوبة إلی البراءة ، و هی جاریة عقلاً و نقلاً عند الشک فی تعدّد الوجود و التکرار . أمّا بالنسبة إلی المرّة ، فتارةً : یحتمل کون المطلوب هو صرف الوجود بشرط لا عن بقیّة الوجودات ، فیکون المتعلَّق مقیّداً بعدم البقیّة و إتیانها مضرّاً بتحقق الامتثال ، و لمّا کان هذا القید قیداً زائداً و کلفةً إضافیّةً فمع الشک تجری البراءة الشرعیّة و العقلیة . و اخری : یحتمل المرّة غیر المقیّدة بعدم التکرار ، ففی جریان البراءة الشرعیة بحث ، فهی جاریة بناءً علی أن موضوعها هو «کلّ ما کان وضعه بید الشارع فله رفعه» ، لأنّ للشارع أخذ القید المذکور ، و أمّا بناءً علی أن
ص:134
موضوعها «کلّ ما کان فی وضعه کلفة» فلا تجری ، لأن المفروض عدمها هنا ، و سیأتی أن ظاهر «رفع عن امّتی ...» هو الثانی ، لکون لسانه لسان الامتنان ، و هو یکون حیث ترفع کلفة عن المکلفین ...
أمّا البراءة العقلیة فلا تجری ، لأن المفروض عدم احتمال العقاب .
و یبقی الکلام فی امتثال الأمر فی الأفراد الطولیّة فیها لو أتیٰ بها بدفعةٍ واحدةٍ ، فهل کلّها امتثال ؟ أو أنه یحصل بواحدٍ منها ؟ أو لا هذا و لا ذاک ؟ و تفصیل الکلام فی بحث الإجزاء .
ص:135
ص:136
ص:137
ص:138
هناک فی الشریعة المقدّسة واجبات قام الدلیل علی کونها موسّعةً ، و اخری قام الدلیل علی کونها فوریّة ، و من الفوریّة ما قام الدلیل علیٰ سقوطه إنْ لم یمتثل ، فهو علی سبیل وحدة المطلوب ، و منه ما قام الدلیل علی عدم سقوطه بعدم الامتثال ، فالمطلوب فیه متعدّد ، و هذا علی قسمین ، فتارةً : هو واجب فوراً ففوراً ، و اخری : لو فاتت الفوریّة انقلب إلی واجب موسّع .
لکنّ الکلام الآن فی دلالة نفس الأمر علی الفور أو التراخی ، فهل یدلّ علی ذلک دلالة وضعیّة أو لا ؟ و علی الثانی هل من دلیلٍ عامٍّ یدل أو لا ؟ و علی الأوّل هل هو عقلی أو نقلی ؟
و الحق : أنه لا دلالة للصّیغة علی الفور و لا علی التراخی ، تماماً کما تقدّم فی مبحث الوحدة و التکرار ، لأنها مرکّبة من المادّة و الهیئة ، و لا دلالة لأحدهما علی أحد الأمرین ... و لا نعید ... فالدلالة الوضعیة منتفیة .
و قد حکی عن الشیخ الحائری الیزدی (1) القول بدلالة الهیئة دلالةً عقلیةً علی الفور ، ببیان : إن وزان الإرادة التشریعیة وزان العلّة التکوینیّة ، و الأمر علّة تشریعیّة لحصول المتعلَّق ، و کما أن التکوینیة لا تنفک عن المعلول ، فالتشریعیّة کذلک ، و نتیجة عدم الانفکاک هو الفوریّة .
ص:139
و لا یتوهّم أن مراده أن الفوریّة مدلول الأمر ، بل هی لازم الإرادة التشریعیّة .
إذن ، ففی ناحیة الهیئة من الصّیغة خصوصیة توجب حکم العقل بالفوریّة .
ثمّ أورد علیه الاستاذ بما یلی :
أولاً : لقد أنکر بعضهم علیّة الأمر للمتعلَّق ، لکنّا نقول بها ، غیر أنّ هذه العلیّة ناقصة - بل إنّ علم المأمور بالأمر هو العلّة و عدم انفکاک المعلول عن العلّة إنما هو فی العلّة التامّة .
و ثانیاً : لو سلّمنا العلیّة ، فهو علّة تامّة لقابلیّة المتعلَّق للتحقّق لا لفعلیّته .
و اکتفی فی الدّورة اللّاحقة فی الجواب : بأن قیاس الإرادة التشریعیّة علی الإرادة التکوینیة فی غیر محلّه ، لأن نسبة الإرادة التشریعیة إلی المراد هی نسبة المقتضی إلی المقتضی ، لا العلّة إلی المعلول کما فی التکوینیّات .
و أمّا ما قیل فی الجواب من أنّ : الوجوب و الإیجاب متلازمان ، و الخصوصیّات الزمانیّة و المکانیة لا تدخل تحت شیء منهما ، و الفوریّة خصوصیّة زمانیّة کما هو واضح ، فلا معنی لأنْ یتعلَّق الإیجاب بها .
فقد ضعّفه الاستاذ دام بقاه :
أوّلاً : بأنَّ الإیجاب و الوجوب واحد حقیقةً ، و لیس هما أمرین بینهما تلازم .
و ثانیاً : بأنّ الشیخ الحائری قد أخذ الفوریّة من علیّة الأمر لا من جهة الإیجاب ، حتی یقال بأنّها لا توجد لا فی جهة الإیجاب و لا فی جهة الوجوب .
ص:140
و ذکر للحکم العقلی فی المقام بیان آخر ، و هو : إن الأمر بعث ، و البعث و الانبعاث متضایفان ، و المتضایفان متکافئان قوّةً و فعلاً ، فلا یعقل وجود البعث و عدم وجود الانبعاث ، فالفوریة ثابتة .
و فیه :
إن هذا القانون إنما هو فی المتضایفین التکوینیین ، لا الأمرین الحاصل بینهما التضایف بالاعتبار ، فما ذکر یتمّ بین الابوّة و البنوّة الواقعیین ، أمّا لو اعتبر شخص أباً لشخصٍ ، فهذه الابوّة الاعتباریة لا یجری فیها القانون المذکور .
هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إن الأمر بعثٌ إمکانی و لیس بعثاً فعلیّاً ، فهو ما یمکن أن یکون باعثاً إذا تعلَّق العلم به و کانت النفس مستعدة ... و إذا کان إمکانیّاً ، فالانبعاث أیضاً إمکانی ، فلا فوریّة .
ثم إنّ مقتضی الإطلاق هو عدم الدلالة علیٰ الفور أو التراخی ، کما تقدَّم فی الوحدة و التکرار تماماً ، فلا نعید ... لکنْ لا بأس بالتنبیه علی نکتةٍ و هی : إنّ هذا الإطلاق تام هنا ، سواء قلنا بحجیّة مثبتات الاصول اللّفظیّة أو لم نقل .
و توضیحه : إنّ اللّوازم العقلیّة تارةً : تکون لوازم للحکم الواقعی فقط ، و اخری : تکون لوازم للحکم الواقعی و الحکم الظّاهری معاً ، فإنْ کانت من الاولی ، فلا بدّ من إثبات حجیّة مثبتات الاصول اللّفظیة و إلّا لم یتم الإطلاق ، و إنْ کانت من الثانیة ، فالإطلاق حجّة سواء کانت المثبتات للاصول اللّفظیة حجّة أو لا .
ص:141
و فیما نحن فیه : یکون جواز التأخیر عقلاً فی الإتیان بالمأمور به من لوازم الإطلاق ، سواء کان ظاهریّاً أو واقعیّاً ، و لذا لو تمّ الإطلاق بالأصل العملی لا بالدلیل الاجتهادی کان ظاهریاً و لازمه عقلاً جواز التراخی ، فجواز التراخی لیس بلازمٍ للحکم الواقعی فقط ، فلا فرق بین القولین فی مثبتات الاصول اللفظیّة من هذه الناحیة .
فما جاء فی (المحاضرات) (1) من ابتناء تمامیّة الإطلاق علی البحث المذکور غفلة عجیبة .
و استدلّ للقول بدلالة الأمر علی الفور بآیتین من الکتاب :
1 - قوله تعالی «وَسَارِعُواْ إِلَی مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّکُمْ ...» (2) .
2 - قوله تعالی : «فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ ...» (3) .
بتقریب : إنّ المغفرة فعل اللّٰه ، فلا معنی لأن یسارعَ إلیها ، فلا بدّ من تقدیرٍ مثل کلمة «السبب» أی : سارعوا إلی سبب مغفرة اللّٰه ، کی یصحّ الأمر بالمسارعة إلیه ، لأنه من فعلنا و تحت اختیارنا ، و الإتیان بالواجبات من أظهر مصادیق أسباب المغفرة ، فالواجبات یجب المسارعة إلیها ... فالفور واجب .
و دلالة الآیة الثانیة أوضح ، فإن القیام بالواجبات من أظهر مصادیق الخیرات ، فیجب السبق إلی الواجبات بإتیانها مع الفوریة .
ص:142
و قد أجابوا عن الاستدلال بالآیتین بوجوه :
الوجه الأول : إن سیاق الآیتین یفید أن الأمر فیهما للاستحباب ، إذ لو کان وجوبیّاً لجاء فیها التحذیر من الترک . قاله صاحب (الکفایة) (1) .
و فیه : ما لا یخفی ، إذ لو کان عدم التحذیر من الترک دلیلاً علی الاستحباب ، لزم حمل کثیرٍ من الأوامر أو أکثرها علی الاستحباب . علی أنّ هیئة «افعل» تدلّ علی الوجوب بأیّة مادّةٍ من المواد کانت ، و لا فرق بین «استبقوا» و«صلّوا» .
الوجه الثانی : إن الأمر بالاستباق و المسارعة لیس مولویّاً بل هو إرشاد إلی حکم العقل بحسن المسارعة إلی تفریغ الذمّة و الخروج من عهدة الأمر المتوجّه إلی المکلَّف . قاله صاحب الکفایة و المحقق العراقی و السیّدان الخوئی و الحکیم (2) .
و أجاب العراقی : بأن للاستباق إلی الخیر و المسارعة نحوه حسناً عقلیّاً فی موردین فقط ، أحدهما : أن یکون للاستباق و المسارعة خصوصیّة کالصّلاة فی أول الوقت . و الآخر : أن یکون فی التأخیر آفة .
و بحثنا هنا فی نفس المسارعة و الاستباق ... و لیس فیهما حسن عقلی .
و لکنّه مخدوش : بأنّ فی نفس المسارعة إلی القیام بما أمر به المولی حسناً لکونه انقیاداً له ، و إنْ لم یکن فی التأخیر آفة .
بل الحق فی الجواب : إن الأمر الشرعی إنما یحمل علی الإرشاد - حیث
ص:143
یکون فی المورد حکم عقلی - إذا لزم فیه اللّغویة ، و المسارعة إلی الخیرات - و إن کان من شئون الطاعة - یترتب علیه الأثر ، و هو الأجر و الثواب ، فلیس لغواً ، فلیس إرشادیّاً . و أیضاً : فمن الناس من لا ینبعث نحو أوامر المولی بحکم العقل و لا یتّبعون إلّا الأوامر المولویّة ، فیکون لأمره بالمسارعة نحو الخیر و الطّاعة أثر ، فلیس إرشادیّاً .
الوجه الثالث : إن ظاهر «فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ » تعدّد الخیر لأنه صیغة جمع ، و إذا کانت خیراتٌ فیقع التزاحم فیما بینها ، و إذا وقع التزاحم خرجت الأفراد عن الخیریة إلّا واحداً منها ، لأن المفروض کون العمل واجباً ، لکون الأمر للوجوب و البقیّة مزاحمات للفرد الواجب ، و إذا کانت مزاحمةً خرجت عن الخیریّة ، فلازم حمل الآیة علی الوجوب هو انحصار الخیرات بخیر واحدٍ ، و هذا خلاف الآیة المبارکة ، فلا مناص من حملها علی الاستحباب ، لأن المستحبات لا تخرج عن الاستحباب بالتزاحم ... . نقله الأستاذ فی الدورة السابقة عن المحقق العراقی ثم أورد علیه :
أوّلاً : إن معنی الآیة هو الاستباق إلی أعمال الخیر و إنْ کان واحداً ، فهو کما لو قیل : فاستبقوا الواجبات ، فإنه لا یلزم تعدّد الواجب .
و ثانیاً : لو کان التزاحم فی الواجبات یخرج المزاحم عن الخیریّة تمّ ما ذکره ، و لکن المفروض أن التزاحم لا یؤدّی إلی سقوط الملاک و انعدامه ، فالمهمّ یبقی علی الخیریة بعد سقوط وجوبه بالمزاحمة مع الواجب الأهم ، و لذا لو عصی الأمر بالأهم وجب الإتیان بالمهم بناءً علی الترتّب .
و الحاصل : إن التزاحم لا یخرج العمل عن الخیریّة إلی الشرّ ، بل التزاحم وقع بالنسبة إلی وجوبه لا خیریّته . نعم ، إنما یتمُّ ما ذکره بناءً علی
ص:144
اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه الخاص ، و القائل بهذا الوجه لا یقول بالاقتضاء المذکور .
الوجه الرابع : إنّ الآیة « فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ »لا علاقة لها بالبحث ، إذ هی خطاب لعامّة الناس و ترغیب لأن یتسابقوا ، فیسبق بعضهم البعض الآخر إلی الخیرات ، و محلّ الکلام ما لو کان الإنسان مکلَّفاً بواجبٍ فهل یجب المبادرة أو لا ، سواء کان هناک مکلَّف آخر بهذا العمل أم لم یکن .
و فیه : إن المطلب بلحاظ مادّة الاستباق کما ذکره ، لکنْ فی التفاسیر کمجمع البیان (1) من الخاصّة و الرازی من العامّة (2) فی معنی الآیة : إئتوا بالطّاعات علی الفوریّة ، فهی تدل علی الإسراع نحو الطّاعات ...
و مع الغض عمّا ذکروا بتفسیر الآیة ، فلو فرض کون المدلول هو التسابق و وجود المکلَّفین و تعدّد مورد التکلیف ، فإنّ أهل العرف فی مثل هذا المورد لا یفرّقون بین صورة تعدّد المکلّف و مورد التکلیف و صورة عدم التعدّد فیهما .
الوجه الخامس : إن هذا الأمر استحبابی و لیس بوجوبی ، فقد جاء لحمل المکلّف علی السعی لتحصیل الثواب ، إذ لو حمل علی الوجوب و الإلزام لزم تخصیص الأکثر المستهجن ، و ذلک لخروج المستحبّات التی لا ریب فی کونها خیراً موجباً للمغفرة ، مع أن المسارعة إلیها لیس بواجب .
و هذا هو الجواب الصحیح عن الاحتجاج بالآیتین و یختلف عن الوجه الأول فی کیفیة الاستدلال فلا تغفل .
ص:145
ص:146
ص:147
ص:148
و بحث الإجزاء من المباحث المهمّة علماً و عملاً ، إنه یترتّب علی القول بالإجزاء عدم وجوب الإعادة و القضاء ، و علی القول بعدمه وجوبهما أو التفصیل کما سیأتی .
و قد اختلفت کلماتهم فی عنوان البحث :
فالقدماء و صاحب (الفصول) یقولون فی العنوان :إن الأمر بالشّیء هل یقتضی الإجزاء أو لا ؟ و المتأخّرون قالوا : هل إتیان المأمور به ... وعلیه المحققون : الخراسانی و الأعلام الثلاثة .
فالموضوع علی الأوّل هو «الأمر» ، و أما علی الثانی فهو «إتیان المأمور به» .
و العنوان عند المتأخرین مقیداً بقیودٍ ، سیأتی الکلام علیها بالتفصیل فی المقدّمات .
و قبل الورود فی البحث و مقدّماته ، فلا ریب فی أنّ هذا البحث من المباحث الاصولیّة ، لأن نتیجته تقع فی طریق استنباط الحکم الکلّی الشرعی ، و إنْ اختلف فی کیفیة وقوعه فی طریق الاستنباط ، إذ لا خلاف فی ترتّب الأثر علی البحث ، سواء قلنا بالإجزاء أو قلنا بعدمه ، بخلاف قسم من المسائل ، کمسألة حجیّة خبر الواحد ، فإنه لا أثر للقول بعدم حجیّته .
ص:149
ثمّ إنه إنْ کانت الواسطة فی الإثبات من الأحکام العقلیّة ، کانت المسألة عقلیّة ، و إنْ کانت أمراً لفظیّاً ، فهی مسألة لفظیّة کما هو واضح ...
فبناءً علی عنوان (الفصول) یکون البحث لفظیّاً ، لارتباطه بالدلالة اللّفظیة ، لأن اقتضاء الأمر إمّا مطابقی و إمّا تضمّنی و إمّا التزامی ، فالواسطة فی الإثبات من الدلیل اللّفظی ، و بناءً علی عنوان الجماعة ، یکون البحث عقلیّاً ، إذْ لا ارتباط لإتیان المأمور به بعالم الألفاظ .
و قد عدل القوم عن عنوان القدماء ، لعدم دلالة الأمر بالشّیء - و هو مدلول الکتاب و السنّة اللّذین هما الموضوع لعلم الاصول - علی الإجزاء .
أمّا مطابقةً فواضح .
و أمّا تضمّناً ، فکذلک ، فلا دلالة للأمر - بأیّ معنیً کان - علی الإجزاء ، لا مطابقةً و لا تضمّناً .
و أمّا التزاماً ، فقد تقرّب الدلالة بأنّ الأمر معلول للغرض القائم بالمأمور به ، فهو دالٌّ علی الغرض ، فإذا تحقق المأمور به تحقّق الغرض ، و حینئذٍ یحکم بالإجزاء ، فکان الأمر الکاشف عن الغرض دالّاً بالدلالة الالتزامیّة العقلیّة علی سقوط الغرض عند إتیان المأمور به ، و بسقوط الغرض یتحقق الإجزاء .
هذا ، و لا یعتبر فی الدلالة الالتزامیة أن یکون لزوم اللازم بلا واسطة ، بل یکفی أن یکون لازماً و لو بواسطة أو أکثر .
لکنْ فیه : إن هذا التقریب موقوف علی إثبات کون الأمر معلولاً للغرض ، و هذا فیه کلام ، و قد أنکره جماعة ، و إذا کان ذلک محتاجاً إلی الإثبات ، خرج اللّزوم عن اللزوم البیّن بالمعنی الأخص ، و حینئذٍ یحتاج إلی
ص:150
دلیل ، و إذا احتاج إلی الدلیل ، خرج عن الدلالة الالتزامیة .
و یمکن تقریب الدلالة الالتزامیة ببیانٍ آخر بأن یقال : بأنّ البعث هو المدلول المطابقی للأمر ، و لازم البعث إلی شیء - باللّزوم العقلی البیّن غیر المحتاج إلی الاستدلال - سقوطه بتحقّق المبعوث إلیه ، لعدم تعقّل بقاء البعث و الطلب مع حصول المطلوب و المبعوث إلیه ...
و بهذا البیان یصلح بحث الإجزاء لأنْ یکون من مباحث الألفاظ ، و لکنْ لا فی جمیع مسائله و إنّما فی مسألة إجزاء الأمر بالنسبة إلی نفسه ، أمّا بالنسبة إلی إجزاء المأمور به الاضطراری أو الظاهری عن الأمر الواقعی فلا .
فالصحیح هو التفصیل فی المقام ، خلافاً لمن قال بعدم کون بحث الإجزاء من مباحث الألفاظ مطلقاً ، کالمحقّق الأصفهانی رحمه اللّٰه .
لکنّ التحقیق أن یقال : إنه إن کان النظر فی عنوان البحث إلی حکم الإتیان بالمأمور به - بنفسه أو ببدله - من حیث الإجزاء ، فالبحث عقلی بلا إشکال فی جمیع مسائله ، لأن کون الإتیان بالشّیء أو بدله - الذی ثبتت بدلیّته - مسقطاً للأمر أو غیر مسقطٍ ، إنما یکون بحکم العقل ، و لا علاقة له بعالم الألفاظ .
و أمّا إنْ کان النّظر فی حدّ دلالة الأدلّة فی المسقطیّة ، بأنْ یراد البحث عن أن الأمر الاضطراری هل تدلّ أدلّته علی إجزائه عن الأمر الاختیاری أو لا ؟ و أنّ مقتضی أدلّة الأمر الظاهری هو الإجزاء عن الأمر الواقعی أو لا ؟ فإن البحث حینئذٍ یکون لفظیّاً ، لرجوعه إلی إطلاق أدلّة الأمر الاضطراری أو الأمر الظّاهری ، و عدم إطلاق تلک الأدلّة .
ص:151
و کیف کان ، فالذی فی (الکفایة) : الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء فی الجملة بلا شبهة .
فما المراد من «علی وجهه» ؟ و من «الاقتضاء» ؟ و من «الإجزاء» ؟
أمّا قید «علی وجهه» ففیه وجوه ، أحدها : قصد الوجوب فی الواجبات و الاستحباب فی المستحبات . و الثانی : الإتیان بالمأمور به بالکیفیّة التی تعلّق الأمر بها . و الثالث : الإتیان به علی الوجه المعتبر فیه عقلاً .
و قد ذهب المحقق الخراسانی و من تبعه - کالمحقق العراقی - إلی المعنی الثالث ، لأنّ اعتبار قیدٍ فی المأمور به تارةً یکون من ناحیة الشّرع ، بأنْ یأخذ شیئاً فیه علی نحو الشرطیّة أو الجزئیّة ، و لإفادة هذا المعنی یکفی عنوان «المأمور به» ، لأنّه إنْ فقد قیداً أو شرطاً خرج عن کونه مأموراً به ، لکنّ هناک قیوداً لیس أخذها من ناحیة الشارع ، مثل قصد القربة ، فإن اعتباره فی العبادات من ناحیة الشارع مستحیل - علی القول باستحالة أخذه فی متعلَّق الأمر ، کما تقدم بالتفصیل - لکنْ لا بدّ من أخذه و اعتباره ، لعدم تحقق غرض المولی من التکلیف العبادی بدونه ، فکان المعتبر له هو العقل .
فهذا هو المراد من «علی وجهه» ، و لیس قیداً توضیحیّاً کما قیل ، علی أن الأصل فی القیود هو الاحترازیة .
و تلخَّص : إن مختار (الکفایة) هو أنّ القیود المعتبرة فی المأمور به یکفی فی اعتبار الشرعیّة منها کلمة «المأمور به» ، فلزم مجیء قیدٍ آخر لإفادة اعتبار القیود العقلیّة أیضاً ، و هو کلمة «علی وجهه» .
ص:152
و بما ذکرنا ظهر أنّ تعبیر (الکفایة) أتقن من تعبیر صاحب (المفاتیح) حیث قال : «إذا أتی المکلَّف بالمأمور به علی الوجه المعتبر شرعاً ... » (1) لأنّ من القیود ما لا یمکن للشارع اعتباره ، بل المعتبر له هو العقل .
فمراد (الکفایة) - بعبارةٍ اخری - هو : إتیان المأمور به علی النهج الذی لا بدّ من أن یؤتی به ، لیکون أعمّ من التقیید الشرعی و التقیید العقلی .
و أمّا القول بأن المراد هو قصد الوجه من الوجوب و الاستحباب ، ففیه :
أوّلاً : إن الأکثر غیر قائلین باعتبار قصد الوجه فی العبادات . و ثانیاً : إنّ البحث فی الأعم من الواجبات التعبدیّة و التوصلیّة ، و ثالثاً : إن هناک خصوصیّات أخری معتبرة فی العبادات کالبلوغ و العقل و غیرهما ، و لا وجه لاختصاص هذا القید و الخصوصیّة بالذکر فی عنوان البحث .
و الحاصل : إن ما ذکره المحقق الخراسانی هو الصحیح .
و لا یرد علیه ما ذکره السیّد البروجردی (2) من أنّ عدم إمکان أخذ قصد القربة فی المتعلَّق شرعاً ، و أنَّ المعتبر له هو العقل ، هو من الأنظار الحادثة بعد الشّیخ الأعظم ، و عنوان البحث بقید «علی وجهه» مما ذکر فی الکتب قبل الشیخ ، فلا یکون الغرض من أخذه إفادة أخذ قصد الأمر بحکم العقل لا الشرع .
و ذلک : لأن «قصد الأمر» هو واحد من القیود التی لم یمکن للشارع أخذها ، فکان المعتبر لها هو العقل ، کما أشرنا إلی ذلک ، فالمعتبرات العقلیّة متعدّدة ، کعدم ابتلاء متعلَّق الأمر بالمزاحم کما ذکر بعضهم ، و کالفوریّة حیث
ص:153
قبل بأنها معتبرة بحکم العقل فی المتعلَّق ... إلی غیر ذلک ... فما ذکره رحمه اللّٰه فی الإشکال علی صاحب (الکفایة) غیر وارد.
کما أنه لیس المراد من أخذ القید المذکور هو الردّ علی القاضی عبد الجبار (1) ، إذ یکفی فی ردّه أن الصّلاة مع الطّهارة المستصحبة مأمور بها بالأمر الظاهری الشرعی ، فلا حاجة إلی قید علی وجهه ، و لو ارید من الطهارة :
الطهارة الواقعیّة ، فهی - أی الصّلاة - فاقدة لها ، و المأمور به غیر متحقّق ، فلا حاجة إلی قید «علی وجهه» کذلک .
و علی الجملة ، فالحق مع المحقق الخراسانی ، فی القید المذکور .
إنه بناءً علی التعبیر بالأمر بالشیء هل یقتضی ... یکون «الاقتضاء» بمعنی الدلالة ، أی : هل الأمر یدلّ علی الإجزاء أو لا ؟ ، و أما بناءً علی تعبیر (الکفایة) و من تبعه ، فلا محالة یکون «الاقتضاء» بمعنی العلیّة ، لأن «الإتیان» فعل ، و الفعل لا دلالة له علی شیء ، فعلی القول بالإجزاء یکون الإتیان علةً لسقوط الأمر ، و علی القول بعدمه فلا یکون علةً له .
و البحث علی الأوّل لفظی ، و علی الثانی عقلی .
لکنّ کون بحث الإجزاء عقلیّاً ، إنما هو بالنظر إلی کبری البحث ، حیث نقول : هل الإتیان بالمأمور به - بأیّ أمرٍ - یجزی عن ذلک الأمر أو لا ؟ لکنْ بالنظر إلی صغری البحث فی إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی ، و إجزاء الأمر الاضطراری عن الأمر الاختیاری ، فالبحث لفظی ، لأنّه یعود إلی حدّ دلالة أدلّة الحکم الظاهری و أدلّة الحکم الاضطراری .
ص:154
فما ذهب إلیه صاحب (الکفایة) من جعل المسألة عقلیّة ، و أن الاقتضاء بمعنی العلیّة ، إنما یتم فی الکبری ، لا فی الصغری ، و لا یخفی أن المهمّ فی مسألة الإجزاء هو البحث الصغروی فی الموردین ، فلا وجه لجعل البحث عنهما تطفلیّاً ، و لعلّه قدّس سرّه إلی هذا الإشکال أشار بقوله «فافهم» .
إذن ، لا بدّ من التفصیل ، وعلیه یکون «الاقتضاء» بمعنی العلّیة بالنظر إلی کبری البحث ، و بمعنی الدلالة بالنظر إلی البحثین الصغرویّین .
هذا ، و قد أشکل المحقق الأصفهانی بأنّ الأمر لا یمکن أن یکون علةً لسقوط الأمر ، لأن المفروض هو أن الأمر علّة للإتیان بالمأمور به ، و الإتیان به إن کان علّةً لعدم الأمر یلزم کون الشیء علةً لعدم علّة نفسه ، و هذا محال .
و بعبارة اخری : العلّة منشأ للثبوت فکیف یکون منشأ للسقوط ؟
و أجاب المحقق العراقی : بأنّ الذی کان علّةً للثبوت هو الوجود العلمی للأمر ، و الذی هو منشأ سقوط الأمر هو الإتیان بالمأمور به بوجوده الخارجی .
و قال شیخنا دام بقاه : بأنّ إشکال المحقق الأصفهانی هذا یناقض مبناه فی بحث التعبّدی و التوصّلی ، حیث ذهب هناک إلی أنّ الأمر الخارجی لیس بعلّةٍ للإتیان ، بل العلّة و الداعی للامتثال هو الوجود العلمی للأمر ، و الوجود العلمی غیر متوقّف علی الوجود الخارجی ، فمن الممکن أنْ یحصل للإنسان علم من غیر أنْ یکون له مطابَق فی الخارج .
ثم قال المحقق الأصفهانی :
إن الحق سقوط الأمر لعدم وجود علّته ، لأنّ علّة الأمر هی الغرض ، و مع تحقّقه لا تبقی علّة للأمر ، و مع انتفاء العلّة لا یبقی الأمر ، و إلّا لزم وجود المعلول بلا علّةٍ .
ص:155
أقول :
و قد وافق الاستاذ فی الدورة اللّاحقة علی هذا ، و لعلّه لذا فسّر الاقتضاء فی الدورة بالسّابقة بانتهاء أمد العلیّة ، و أوضحه بأن مناط علیّة کلّ علةٍ عبارة عن تحقق المعلول ، و بمجرّد تحقّقه لا یبقی مناط للعلیّة ، و الإتیان بالمأمور به یوجب انتهاء أمد علیّة العلّة ، لأن علیّتها هی لتحقق المعلول ، و مع تحقّقه فلیس لبقاء العلّة مجال .
إلّا أنّ هذا الجواب الذی وافق علیه الاستاذ ، إنّما یتم بناءً علی تبعیّة الأوامر للأغراض ، و هذا مذهب العدلیّة فقط .
و قال صاحب (الکفایة) إن المراد من الإجزاء فی عنوان البحث هو نفس معناه اللّغوی ، أی الاکتفاء ، فلیس المراد منه سقوط الإعادة و القضاء ، نعم لازمه ذلک ، أی سقوط کلیهما أو أحدهما و هو القضاء ، کما لو صلّی فی الثوب المتنجّس عن نسیان ، فإن المشهور علی الإعادة ، فإن خرج الوقت فلا قضاء .
و الحاصل : إن المراد کفایة المأتی به عن المأمور به ، فقد یسقط الإعادة و القضاء ، و قد یسقط القضاء دون الإعادة ، علی اختلاف الموارد بحسب الأدلّة .
و ما ذکره متینٌ مقبول عند الاستاذ دام بقاه .
و تعرّض صاحب (الکفایة) لبیان الفرق بین مسألة الإجزاء و مسألة المرّة و التکرار و مسألة تبعیّة القضاء للأداء ، فقال ما حاصله فی الفرق بین الإجزاء
ص:156
و المرّة و التکرار : إن البحث هناک هو فی حدّ المأمور به ، و أن متعلّق الأمر هو الوجود الواحد من الطّبیعة أو الوجودات العدیدة منها ، و البحث هنا هو بعد الفراغ من تلک الناحیة ، و أنه کلّما کان المأمور به - الإتیان به مرّةً أو تکراراً - یکون مجزیاً أو لا ؟
فلا یتوهَّم عدم الفرق بین المسألتین ...
کما أن التفریق بینهما ، بأن مسألة المرّة و التکرار لفظیّة و مسألة الإجزاء عقلیّة ، لازمه أنْ لا یکون بین المسألتین فرق علی مسلک القدماء و صاحب (الفصول) .
و أمّا الفرق بین المسألة و مسألة تبعیّة القضاء للأداء ، فإن تلک المسألة معناها کفایة الأمر الأوّل لإثبات وجوب قضاء الواجب الفائت ، فالقضاء تابع للأداء ، أو عدم کفایته بل یحتاج القضاء لأمرٍ جدید ؟ فالبحث هناک عن متعلَّق الأمر من حیث وحدة المطلوب أو تعدّده . أما هنا ، فالبحث یأتی عن إجزاء الإتیان بالمأمور به و عدم إجزائه بعد الفراغ عن تحدیده و تعیّنه . هذا أولاً .
و ثانیاً : إن الموضوع للقضاء هو عدم الإتیان بالمأمور به ، و الموضوع للإجزاء هو الإتیان بالمأمور به ، فاختلف الموضوعان .
و البحث فی الإجزاء فی مسائل :
ص:157
إن الأمر قد تعلَّق بالصّورة الملحوظة خارجاً ، و المأتی به هو نفس ذاک الذی أوجد فی الخارج ، فهل إیجاده کذلک یکفی عمّا تعلَّق به ، و یسقط الأمرُ بذلک ، أو أنه لا یجزی و لا یکفی عنه ، و الأمر باق ، فالإعادة و القضاء واجب ؟
قال الاستاذ : إن الصحیح فی عنوان البحث فی هذه المسألة أنْ یقال :
هل الإتیان بالمأمور به بنفسه أو ببدله یقتضی الإجزاء أو لا ؟ و الوجه فی ذلک تعمیم البحث للمسألتین الآتیتین ، حیث البحث فیهما صغروی ، و البحث هنا کبروی .
و علی الجملة ، فقد ذکر فی (الکفایة) أنّ العقل مستقل بالإجزاء .
و قد أوضح صاحب (الدرر) و المشکینی (1) و غیرهما کلام (الکفایة) بأن عدم الإجزاء یستلزم تحصیل الحاصل ، و هو محال ، و ذلک ، لأنّ الأمر إذا تعلَّق بشیء ، و امتثل الأمر و اتی بالشیء ، کان بقاء الأمر بعد ذلک - و هو یقتضی الامتثال و الإتیان بالمأمور به - مستلزماً لطلب الحاصل .
و قد تبع الاستاذ المحققین الأصفهانی و العراقی فی الخدشة فی هذا التقریب ، بأنّ عدم الإجزاء لیس تحصیلاً للحاصل ، بل هو إیجادٌ للوجود
ص:158
الثانی ، کما أن الإجزاء هو الاکتفاء بالوجود الأوّل ، و إیجاد الوجود الثانی و الفرد الآخر لیس بإیجاد ما تحقّق و حصل وجوده .
بل الصحیح أنْ یقال : إنه عند ما یتعلَّق الأمر بشیء و یؤتی بذلک الشیء امتثالاً للأمر بجمیع حدود الشیء و قیوده ، فبقاء الأمر بعد ذلک یستلزم وجود المعلول بلا علّة ، إذ الأمر معلول للغرض ، و لا یعقل عدم تحقّقه مع الإتیان بالمأمور به بجمیع حدوده و قیوده ، و مع تحقق الغرض من الأمر لا بقاء للأمر ، و إلّا کان معلولاً بلا علّة ... و هذا ما ذکره المحققان المذکوران ، علی مسلک المتأخرین من جعل المسألة عقلیةً کما تقدّم .
أمّا علی مسلک القدماء و صاحب (الفصول) ، فإن الأمر نفسه یدلّ علی الإجزاء ، بالدلالة اللّفظیّة اللزومیّة ، بناءً علی عموم الدلالة الالتزامیّة اللّفظیة للّزوم البیّن بالمعنی الأخص و بالمعنی الأعم معاً ، کما هو التحقیق (1) .
و علی کلّ تقدیرٍ ، فإن الامتثال حاصل و الأمر یسقط .
و لکن هل یمکن الامتثال بعد الامتثال ؟ و هل یمکن تبدیل الامتثال ؟ هذا ما تعرَّض له المحققون ، بالنظر إلی الروایات الواردة فی أکثر من موردٍ ، الظاهرة فی الامتثال بعد الامتثال ، کالإتیان بالصّلاة جماعةً بعد الإتیان بها مفرداً .
فمنهم من یصوّر المطلب - فی مقام الثبوت - عن طریق تصویر الغرض
ص:159
الأقصی من الأمر ، کالمحقّق الخراسانی و المحقق النائینی (1) . و حاصل کلامهما هو : إن الغرض من کلّ أمرٍ من الأوامر غرضان ، أحدهما : قائم بنفس متعلَّق الأمر ، و الثانی : هو الغرض الأقصی من الأمر ، فإنْ تحقّق الغرض الأقصی فلا مورد لتبدیل الامتثال ، و لکن قد یکون المتعلَّق هو الإتیان بالشیء فقط ، و الغرض الأقصی غیر حاصل منه ، فمع عدم حصوله یکون ملاک الأمر باقیاً ، و حینئذٍ یمکن تبدیل الامتثال بامتثال آخر .
و مثال ذلک : لو أمر المولی بالإتیان بالماء ، فإن الغرض المترتّب من ذلک أوّلاً هو تمکّن المولی من شرب الماء ، و الغرض الأقصی من ذلک هو رفع عطشه ، فلو جاء العبد بالماء و أراقه فی حلق المولی حصل الغرض الأقصی و لم یبق مجال لتبدیل الامتثال ، أمّا لو جاء به و لم یشربه المولی بعدُ لرفع عطشه ، أمکن للعبد تبدیل هذا الفرد من الماء بفردٍ آخر یتحقّق به الامتثال و یترتّب علیه الغرض الأقصی و هو رفع العطش .
و علی هذا تحمل روایات إعادة الصّلاة جماعةً ، فإنّه یبدّل الصّلاة المأتی بها فرادی بصلاةٍ أتی بها جماعةً ، و یقدّمهما بین یدی المولیٰ ، و هو یختار أحبَّهما إلیه کما فی الروایة .
و قال الاستاذ دام بقاه بفساد الامتثال بعد الامتثال ، و أن تبدیل الامتثال أفسد منه .
أمّا الامتثال بعد الامتثال ، ففیه : إن المفروض تعلّق الأمر بطبیعی المأمور
ص:160
به ، و المفروض اتّحاد الطبیعی مع الفرد و وجوده بوجوده ، فیکون انطباق المأمور به علی المأتی به قهریّاً ، و معه یتحقق الامتثال ، و إذا تحقق سقط الأمر ، و إذا سقط فلا موضوع للامتثال ، لوضوح تقوّمه بالأمر ، و مع عدم الأمر ، کیف یکون الوجود الثانی امتثالاً ؟
و أمّا تبدیل الامتثال ، ففیه - مضافاً إلی ما تقدّم - إنه مع تحقق الامتثال یکون تبدیله بامتثالٍ آخر انقلاباً للموجود ، و انقلاب الموجود محال ...
و به یظهر ما فی کلام بعضهم من إمکان تبدیل الفرد المأتی به بمصداقٍ آخر من الطبیعة بما أنه فرد من الطبیعة - لا بعنوان الامتثال - غیر أنّ المولی یحصّل غرضه من هذا الفرد الثانی .
فإنه لا یرفع اشکال الانقلاب ، للزومه ، سواء اتی به بعنوان الامتثال أو بعنوان الفردیّة للطبیعة .
و إن أراد القائل من التبدیل إعدام الفرد الأول و جعل الثانی بدلاً له .
فهذا خارج عن البحث ، و لا یصدق علیه عنوان التبدیل .
و إن أراد رفع الید عن الأول .
ففیه : إنْ رفع الید عن فردیة الأوّل للطبیعة ، غیر ممکن ، لأنه لیس تحت اختیار المکلّف .
و إنْ أراد رفع الید عن فردیّته من حیث الامتثال .
فهذا غیر ممکن ، و هو خلاف فرض القائل .
و أمّا ما فی (الدرر) (1) من أن له إبطال فردٍ و الإتیان بفرد آخر .
ففیه : إن إبطال الفرد بعد الإتیان به غیر معقول ، و أمّا فی أثنائه فخارج عمّا نحن فیه .
ص:161
و منهم من یصوّر المطلب - ثبوتاً - علی أساس المقدّمة الموصلة ، و هو المحقّق العراقی (1) ، قال رحمه اللّٰه تعالی : إنه لمّا أمر المولی بالماء یأتی العبد بفردین من الماء حتی یختار المولی منهما ما أحبّ ، و هذا لیس تبدیلاً للامتثال بالامتثال ، و لا الفرد بفردٍ آخر، بل هو الإتیان بفردین مقدمةً لأنْ یختار المولی ما أحبَّ منهما ، و هذا ممکن ثبوتاً ، و أمّا إثباتاً فهو مقتضی الرّوایة .
قال شیخنا : و فیه وجوه من النظر :
أوّلاً - إنه لا وجه لتنظیر المقام بمسألة المقدّمة الموصلة ، فإنّ موردها ما إذا کان ذو المقدمة واجباً علی العبد ، و له مقدمة موصلة و اخری غیر موصلة ، أمّا هنا ، فإنّ الفرد الذی یختاره المولی غیر قابل للإیجاب علی العبد بقید اختیار المولی ، لأنه بهذا القید خارج عن اختیار العبد ، فکیف یکون واجباً علیه ؟ ، فکبری المقدمة الموصلة للواجب غیر منطبقة هنا ، نعم ، یمکن أنْ یکون مقدمةً للغرض ، بأنْ یقال بإتیان العبد بفردین مقدمةً موصلةً لتحقق الغرض من الأمر ، فیکون الإتیان بالماء الموصل للغرض الأقصی هو الواجب ، لکنّ المقدمة الموصلة للغرض وجوبها نفسی - لأن کلَّ واجب فهو مقدمةٌ للغرض نفساً ، و إلّا لزم أن تصیر الواجبات النفسیة کلّها غیریة - و الواجب النفسی فی الفردین واحد ، و لا یمکن کونهما معاً واجبین نفسیین .
إذن ، فالمقدّمة الموصلة للواجب غیر معقول هنا ، و للغرض معقول ، لکنه واجب نفسی ، و إذا کان کذلک ، فأیّ الفردین هو الواجب نفساً ؟ إن کان
ص:162
الذی یختاره المولی ، فهذا خارج عن قدرة العبد فکیف یتعلّق به التکلیف ؟ و إن کان بلا قید اختیار المولی ، فأحدهما فقط هو الواجب .
و ثانیاً - إنه لا یتحقق فی المقام عنوان المقدّمة أصلاً ، لأن الفردین أحدهما واجب و الآخر مستحب أو مباح ، فأحد الفردین لا هو واجب و لا هو مقدمة للواجب ، و الآخر الذی کان مختار المولی واجب و لیس بمقدمة ، فأین المقدّمة الموصلة ؟
و ثالثاً - إن ما ذکره إنما هو بلحاظ ما ورد فی بعض الأخبار ، و سیأتی الکلام علیٰ ذلک فی مقام الاثبات .
و منهم من یصوّر المطلب ثبوتاً علی أساس الحصّة الملازمة للغرض القائم بفعل المولی ، و هو المحقق الأصفهانی (1) ، و توضیح کلامه هو : إن الحاکم بحصول الامتثال فی باب الإطاعة هو العقل ، فتارةً : یقال بدوران الامتثال مدار موافقة الأمر ، و اخری : یقال بدورانه مدار حصول الغرض من الأمر . فبناءً علی الأوّل ، فلا ریب فی أنّ الأمر یسقط بامتثاله بالاتیان بالمأمور به بجمیع خصوصیّاته ، و علی الثانی ، فقد یکون الغرض مترتّباً علی فعل العبد و قد یکون مترتّباً علی فعل المولی .
أمّا الأوّل - کما لو قال المولی : « صلّ لأن الصلاة تنهی عن الفحشاء و المنکر » فجاء بالغرض بنحو الحیثیة التعلیلیّة ، أو قال : « الصّلاة الناهیة عن الفحشاء و المنکر واجبة » ، فجاء بالغرض بنحو الحیثیة التقییدیة - فإنّه بمجرَّد امتثال العبد یحصل الغرض ، و إذا حصل فلا معنی للامتثال الثانی .
ص:163
و إنْ کان الثانی ، کما لو کان الغرض رفع العطش ، و هو موقوف علی فعل المولی ، أی شربه للماء ، فهذا لا یکون بنحو الحیثیة التقییدیّة قطعاً ، فلا یعقل أنْ یقیِّد المولی فعل العبد بشربه هو للماء ، لأن شرب المولی للماء خارج عن قدرة العبد فیستحیل تقیید تکلیفه به ، و لا یکون بنحو الحیثیة التعلیلیّة ، بأن یکون ارتفاع العطش ، المترتب علی شرب المولی للماء ، علّةً لتعلّق الأمر بمجیء العبد بالماء ، لأن رفع العطش قائم بفعل المولی ، و إرادة إتیان العبد بالماء لا یمکن أن تنشأ من الغرض القائم بفعل المولی .
و تلخّص : أنّ جمیع الأقسام غیر ممکن ثبوتاً .
بل الممکن ثبوتاً هو : أن یکون متعلَّق الأمر حصّةً من المأمور به ملازمةً لغرض المولی ، فالمأمور به هو الإتیان بالماء الذی یکون ملازماً لاختیار المولی له ... و هذا هو المعقول الممکن ثبوتاً . و تبقی مرحلة الإثبات فهل من دلیلٍ علی هذا التقریب ؟
فقال شیخنا الاستاذ بعد تقریب هذه النظریّة کما تقدّم : بأنَّ هذا البیان لا یفترق عن تقریب المحقّق العراقی فی حقیقته و جوهره ، فقد عبَّر بالحصّة الملازمة عمّا عبَّر عنه العراقی بالمقدّمة الموصلة ، أو بالحصّة التوأمة .
نعم ، هذا التقریب لا یرد علیه اشکال استلزام صیرورة الواجبات النفسیّة واجبات غیریة .
لکنْ یبقی الإشکال بأنَّ تکلیف العبد بما هو خارج عن قدرته غیر معقول ، و ذلک : لأنّ الحصّة الملازمة لاختیار المولی المحققة لغرضه ، من انقسامات المتعلَّق ، إذ الإتیان بالماء ینقسم إلی ما یقع اختیار المولی علیه و ما
ص:164
لا یقع ، سواء کان هناک طلبٌ أو لا ، فإنه انقسام متقدّم علی الخطاب ، کما أن هذا الانقسام موجود بعد الخطاب و الطلب من المولی ، و إذا کان هذا الانقسام موجوداً ، فلا ریب فی أنَّ المطلوب غیر مهملٍ ، لأن الإهمال فی مرحلة قیام الغرض و تعلّق الطلب محال ، فالمطلوب إمّا مطلق ، و هو - سواء کان جمعَ القیود أو رفضَ القیود - محال کذلک ، و إمّا مقیَّد باختیار المولی - إذْ لو کان غیر مقیَّد بذلک و کان لا بشرط لزم التوسّع إلی الحصّة غیر الملازمة لاختیاره و استیفاء غرضه - و إذا کان مقیداً باختیاره ، فإنّ هذا القید خارج عن قدرة العبد ، و لا یعقل أن یدخل تحت التکلیف المتوجّه إلیه .
هذا تمام الکلام فی مرحلة الثبوت ، و قد ظهر أنْ لا طریق صحیح إلیه .
و أمّا فی مرحلة الإثبات ، فالروایات هی فی عدّة أبواب :
1 - باب صلاة الآیات .
2 - باب الصّلاة مع المخالفین .
3 - صلاة الجماعة .
و العمدة فی المقام روایات باب صلاة الجماعة ، لأنّ فیها ما یدلُّ علی اختیار اللّٰه للعمل ، و أمّا روایات باب صلاة الآیات فلیس فیها إلّا الإتیان بالصّلاة قبل انجلاء القرص و تکرارها مرّات .
و المهمّ فی روایات باب الصّلاة جماعةً هی : روایة أبی بصیر ، حیث جعلها صاحب (الکفایة) و المحقق العراقی الدلیل علی ما ذکراه فی مقام الثبوت ، مع وضوح الفرق بین مسلکیهما ، حیث أن صاحب (الکفایة) قائل بتبدیل الامتثال ، و یجعل الروایة مؤیدةً بل یجعلها دلیلاً علی ذلک ، و العراقی
ص:165
لا یری تبدیل الامتثال و لا تعدّده ، بل عنده أنْ الامتثال یتقیّد أحیاناً بالحصّة التی یختارها اللّٰه ، کما هو ظاهر الروایة کما قال ، و الحاصل إنهما مختلفان فی الاستظهار من الروایة ، بالإضافة إلی اختلافهما فی مقام الثبوت .
لکنّ الأخبار الواردة فی باب صلاة الجماعة (1) علی طوائف :
1 - فی روایة هشام بن سالم و روایة حفص : «یصلّی معهم و یجعلها الفریضة ان شاء» .
و ظاهرها کون اختیار الامتثال بید العبد ، فهی تؤید أو تدل علی قول (الکفایة) بتبدیل الامتثال .
2 - فی روایة زرارة : «إن کان قد صلّی فإنّ له صلاة اخری» .
و ظاهرها أنها مطلوب آخر ، فهی دالة علی خلاف کلام (الکفایة) و العراقی .
3 - فی روایة الحلبی : «فصلّ معهم و اجعلها تسبیحاً» .
و ظاهرها أن الثانیة نافلة ، فلیس من تبدیل الامتثال و لا الامتثال بعد الامتثال ، فهی علی خلاف کلامهما .
4 - فی روایة إسحاق بن عمار : «صلّ و اجعلها لما فات» .
و ظاهرها أن الثانیة أیضاً واجبة ، لکنْ قضاءً لما فات .
5 - فی روایة أبی بصیر : «قلت لأبی عبد اللّٰه علیه السلام : اصلّی ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة و قد صلّیت . فقال : صلّ معهم ، یختار اللّٰه أحبّهما إلیه» .
ص:166
و هذه مستند المحقق العراقی .
6 - فی روایة الصدوق : «یحسب له أفضلهما و أتمّهما» .
قال الاستاذ :
أمّا من ناحیة السند ، فالأخبار الأربعة الاولی معتبرة ، و الخامس فی سنده کلام سیأتی ، و السادس : مرسل الصّدوق ، و مراسیله محلّ کلام ، فقیل باعتبارها مطلقاً ، و قیل بعدم اعتبارها مطلقاً ، و قیل بالتفصیل باعتبار ما أرسله مسنداً إلی المعصوم بعنوان «قال» ... و هذا الخبر لیس من ذلک .
أمّا من حیث الدلالة :
فالخبر الدالّ علی مسلک (الکفایة) هو : «یصلّی معهم و یجعلها الفریضة إنْ شاء» و لکنْ ینافیه الخبر : «صلّ و اجلعها لِما فات» ، و هو یصلح لأن یکون قرینة علی «یجعلها الفریضة» فیکون المعنی : یجعلها الفریضة الفائتة إن شاء .
هذا کلامه فی الدورة اللاحقة وفاقاً للمحاضرات . أما فی السابقة فخالفه بشدة ، لأن الفریضة تطلق علی ما یقابل النافلة ، و حاصل کلامه القول باستحباب الإعادة مخیّراً ، بأنْ یجعلها نافلةً أو فریضة أداءً أو قضاءً .
أقول :
فلا موضع للاستدلال للکفایة و العراقی فی الروایات الأربع .
و المهمّ روایة أبی بصیر ، و فی سندها کلام طویل ، لأن فی طریقها « سهل بن زیاد » و قد اختلفت کلمات القوم فیه :
فمن جهةٍ نری أن « سهل بن زیاد » :
ص:167
1 - من رجال تفسیر القمی رحمه اللّٰه .
2 - من رجال ابن قولویه رحمه اللّٰه .
3 - روی عنه الکلینی رحمه اللّٰه فی الکافی - الذی ألّفه لیکون حجةً فی الاصول و الفروع کما قال - أکثر من 2300 روایة ، و قد ذکر المحقق الخراسانی فی (حاشیة الرسائل) بأن أخبار الکافی و أمثاله مفروغ عن اعتبارها ، و قال المحقق النائینی بأن المناقشة فی أسانید الکافی دیدن من لا خبرة له .
4 - و لذا قال الحرّ العاملی و الوحید البهبهانی - رحمهما اللّٰه - عنه : ثقة .
5 - الشهید و المحقق الثانیان أخذا بروایاته ، و قال صاحب الجواهر و الشیخ الأعظم : الأمر فی سهلٍ سهل .
6 - و السید بحر العلوم و بعضهم تردّدوا فی الشهادة بضعفه .
و من جهةٍ أخری نری :
1 - إن ابن الولید و ابن بابویه استثنیاه من کتاب نوادر الحکمة .
2 - قال النجاشی : ضعیف فی الحدیث غیر معتمد علیه ، و إن أحمد بن محمد بن عیسی شهد علیه بالغلوّ و الکذب .
3 - إن الشیخ فی الفهرست ضعّفه ، و فی الإستبصار قال : ضعیف عند نقّاد الأخبار .
و التحقیق بالنظر إلی ما تقدَّم و یأتی هو التوقّف و الاحتیاط ، فالرجل لم تثبت وثاقته و لم یثبت له جرح ، و بیان ذلک یتم فی نقاط :
1 - اعتماد الکلینی علیه .
2 - معنی کلام النجاشی .
ص:168
3 - التعارض فی کلمات شیخ الطائفة .
فنقول : أمّا کونه من رجال (کامل الزیارات) و (تفسیر القمی) ، فبناءً علی إفادة ذلک للوثاقة ، فهما توثیقان عامّان یصلحان للتخصیص . و أمّا استثناء ابن الولید و ابن بابویه فغیر واضح دلالته علی الجرح ، لأن استثناء روایات الراوی لا یدل علی ضعف الراوی نفسه ، علی أن الصدوق یروی عن سهل فی (الفقیه) و قد التزم بالفتوی بما فیه .
و أمّا شهادة أحمد بن محمّد بن عیسی ، فیشکل الاعتماد علیها ، فقد ذکروا أنه کان متسرّعاً فی رمی الأشخاص ، و قضیّته مع محمّد بن عیسی بن عبید مشهورة ، علی أنّ فی نقل النجاشی أنه کان یرمی الرجل بالغلوّ ، و هذا یرجع إلی عقیدة أحمد بن محمد بن عیسی فی مفهوم الغلوّ و مصداقه .
و تبقی کلمة النجاشی : «ضعیف فی الحدیث غیر معتمد علیه» .
أمّا «ضعیف فی الحدیث» فلا یدلّ علی ضعف الرجل نفسه ، فلو کانت هذه الجملة وحدها فلا إشکال ، لکنّ قوله «غیر معتمد علیه» یمنعنا من الجزم برجوع التضعیف إلی روایاته دون نفسه .
و الشیخ و إنْ ضعَّف الرجل فی (الفهرست) و (الإستبصار) فقد وثقه فی (رجاله) ، فمن جهةٍ یتقدّم توثیقه ، لکونه فی الکتاب المعدّ للجرح و التوثیق ، و من جهةٍ نراه فی الاستبصار یقول : ضعیف عند نقّاد الأخبار ، فلیس ضعیفاً عنده فقط ، لکنْ ، لقائل أنْ یقول بأنْ الکلمة تشعر برجوع التضعیف منهم إلی أخباره لا إلی نفسه ، فتأمّل .
و اعتماد الکلینی علیه بکثرةٍ ، و فی الکتاب الموصوف بما تقدَّم ، یمنعنا من الجزم بضعفه .
ص:169
فالحق هو التوقّف ، و القول بالاحتیاط الوجوبی فی روایاته فی الأحکام الشرعیّة .
و أمّا دلالة روایة أبی بصیر - بعد أنْ ظهر عدم دلالة غیرها علی الامتثال بعد الامتثال - فقد ذکر المحقّق الأصفهانی فی (الاصول علی النهج الحدیث) (1) أنها محمولة علی الصّلاة تقیّةً ، لأن موضوعها الصّلاة فی المسجد جماعة ، و المساجد کانت فی ذلک الزمان کلّها بید العامّة و أئمتها منهم ، فکان المراد من « یختار اللّٰه أحبّهما» هو الصّلاة الاولی التی أتی بها منفرداً ، إذ الثانیة التی أتی بها تقیةً لیست بصلاةٍ ، و قد یمکن کونها محبوبةً لجهةٍ من الجهات .
و أشکل علیه الاستاذ :
أوّلاً : بأنّ فی الروایات ما یدلّ علی کون الإمام فی بعض المساجد من أصحابنا .
و ثانیاً : بأن مقتضی بعض الروایات الآمرة بالصّلاة مع القوم أحبّیّتها من التی صلّاها منفرداً .
إلّا أنه دام بقاه ذکر أنّ الروایة لا تدلّ علی مسلک العراقی ، لأنه ذهب إلی لغویّة الصّلاة الثانیة ، و الحال أنّ ظاهر لفظ «الأحب» کون التی اختارها أحبّ من الاخری ، فتلک أیضاً محبوبة .
نعم ، هناک وجه آخر لِما ذکره ، و هو أنّ فی أخبار الصّلاة معهم ما هو نصٌّ فی أنّ الصّلاة معهم کالصّلاة خلف الجدار (2) ، و هی تصلح لأنْ تکون
ص:170
قرینةً علی تعیّن الصّلاة الّتی أدّاها منفرداً للامتثال .
فبالنظر إلی ما ورد فی ثواب الصّلاة معهم ، تکون التی صلّاها جماعةً محقّقةً للامتثال ، و بالنظر إلی ما ورد من أن الصّلاة معهم کالصّلاة خلف الجدار ، تکون التی صلّاها منفرداً هی المحقّقة للامتثال ، فینتهی أمر روایة أبی بصیر إلی الإجمال ، فلا تبقی دلالة علی ما ذهب إلیه المحققان الخراسانی و العراقی ، و اللّٰه العالم .
ص:171
أنه بعد الفراغ عن کبری الإجزاء فی المسألة الاولی ، یأتی دور هذه المسألة الصغرویّة ، فإنه إذا قام الدلیل فیها علی وفاء المأتیّ به بالأمر الاضطراری لمصلحة الأمر الواقعی ، انطبقت الکبری ، و تمّ الإجزاء ... فیکون البحث هنا فی الثبوت و الإثبات کذلک ، و یقسّم إلی الإجزاء فی الوقت و سقوط الإعادة ، و الإجزاء فی خارجه و سقوط القضاء .
صور مقام الثبوت کما فی الکفایة
و قد ذکر فی (الکفایة) لمقام الثبوت أربع صور ، و حاصل کلامه :
إن العمل الاضطراری یکون تارةً وافیاً بتمام مصلحة الاختیاری ، و اخری لا یکون کذلک ، و علی الثانی تارةً : یمکن استیفاء ما فات من المصلحة ، و اخری : لا یمکن ، و علی الأوّل : تکون المصلحة تارةً لزومیّة و اخری غیر لزومیّة .
فإن کان العمل الاضطراری وافیاً بمصلحة الاختیاری تماماً ، فلا إشکال فی الإجزاء ، و إلّا ، فإنْ کانت المصلحة الفائتة لزومیّة و لا یمکن تدارکها ، فلا یمکن للمولی الأمر بهکذا عملٍ فضلاً عن أن یکون مجزیاً ، و لا یمکن للمکلَّف البدار إلیه ، و إن کان یمکن تدارکها ، فإن کانت غیر لزومیّة فلا شبهة فی جواز البدار إلی العمل و لا إشکال فی الإجزاء ، و تلک المصلحة إن کانت
ص:172
قابلة للتحصیل بالعمل ثانیاً ، فإنه یأتی به من أجل استیفائها ، و أمّا إذا کانت المصلحة لزومیّة و یمکن استیفاؤها بالعمل عن اختیارٍ ، فقد قال فی (الکفایة) بالتخییر بین الإتیان بالعمل الاضطراری فی أوّل الوقت ، و بالاختیاری المستوفی للمصلحة فی آخره ، أو ینتظر إلی آخر الوقت فیأتی بالاختیاری فقط .
و فی هذا المقام وجوه من الإشکال ، إمّا علی أصل الإجزاء فی المسألة ، و إمّا علی کلام الکفایة .
فقد أورد فی (المحاضرات) (1) علی المحقق الخراسانی - فی القسم الأخیر من کلامه ، حیث قال بالتخییر - باستحالة التخییر الذی ذکره ، لأنه من صغریات التخییر بین الأقل و الأکثر ، و هو محال ، لأن غرض المولی یتحقّق بالإتیان بالأقل ، الذی هو أحد العِدلین ، فیکون الإتیان بالأکثر - و هو العدل الآخر - معه بلا ملاک . هذا من جهة ، و من جهةٍ أخری : إنه یلزم أن یکون وجوب العمل الاضطراری الواقع فی أوّل الوقت دائراً مدار الإتیان به - بمعنی أنه لو اتی به فهو واجب و إلّا فلیس بواجب - و هذا محال ، لأن الوجوب إنّما یتحقّق بالداعی إلی الإتیان ، فلا یعقل تقیّده بالإتیان .
و الحاصل : إن ما ذکره من صغریات التخییر بین الأقل و الأکثر ، و هو محال ، للوجهین المذکورین .
و أجاب شیخنا : أوّلاً : بأن هذا الإشکال مبنائی ، لأن صاحب (الکفایة)
ص:173
یقول بالتخییر بین الأقل و الأکثر .
و ثانیاً : إن مناط استحالة التخییر بین الأقل و الأکثر هو حصول الغرض بالأقل و سقوط الأمر بذلک ، کما أشار إلیه ، و هذا حاصل فیما إذا اتی بالأقل قبل الأکثر ، کما فی التسبیحات الأربع ، أمّا فیما نحن فیه ، فإنّ الأکثر مقدَّم فی الإتیان علی الأقل ، لأن الأقل هو الصّلاة الاختیاریة المأتیّ بها فی آخر الوقت ، فلو انتظر المکلَّف حتی آخر الوقت من غیر أن یأتی بالأکثر ، فقد استوفی تمام المصلحة بالأقل ، فیکون هذا العِدل من الواجب التخییری - و هو الصّلاة الاختیاریة فی آخر الوقت - بشرط لا عن الصّلاة الاضطراریة فی أوّله ، فهی واجبة علیه بشرط أن لا یأتی بالاضطراریّة قبلها ، لا أنّها لا بشرط عن ذلک ، و المستشکل نفسه أیضاً یری أن موارد البشرطلا و البشرطشیء لیست من دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، بل هما من المتباینین ، بأن یکون الغرض مترتّباً إمّا علی الصّلاة الاختیاریة بشرط عدم تقدّم الاضطراریة ، و إمّا علی الاضطراریة فی أول الوقت و الاختیاریّة فی آخره .
و إذا کان هذا مفروض کلام (الکفایة) ، فالإشکال غیر وارد علیه ، لأن حاصل کلامه : أنّ الاختیاریّة فی آخر الوقت - بشرط عدم الإتیان بالاضطراریة فی أوّله - وافیة بتمام الغرض ، و أمّا لو أتی بالاضطراریّة فی أوّله فقد استوفی حصّةً من الغرض ، فلا محالة یجب الإتیان بالاختیاریة فی آخره لیستوفی الغرض .
و بما ذکرنا یظهر اندفاع توهّم لغویّة تشریع الصّلاة الاضطراریّة فی أوّل الوقت ، لأنَّ مفروض کلام صاحب (الکفایة) فی کیفیّة التشریع ثبوتاً هو أنّ الصّلاة الاضطراریّة فی أوّله واجدة لقسطٍ من الغرض ، و یکون کماله و تمامه
ص:174
بالإتیان بالاختیاریة فی آخره ، أمّا لو انتظر حتی آخره بدون سبق الاضطراریة و أتی بالاختیاریّة ، فقد استوفی الغرض کاملاً ، فلا لغویّة أبداً .
و أمّا الإشکال علی أصل الإجزاء فی هذه المسألة ، فالأصل فیه هو المحقق الحلّی ، و الفقیه الهمدانی فی بعض کلماته ، و إلیه ذهب السید البروجردی فقال ما حاصله (1) :
إنّ الأحکام الشرعیّة الاختیاریة موضوعها هو المکلَّف المختار ، و الأحکام الشرعیة الاضطراریّة موضوعها هو المکلَّف المضطرّ ، فوظیفة المضطرّ هو العمل الاضطراری فقط ، و هو غیر مکلَّف بتکلیفین ، کی یقال هل عمله الاضطراری یجزی عن امتثال الأمر الاختیاری أو لا یجزی ؟
فمن کان متمکّناً من الصّلاة مع الطهارة المائیّة ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إلیه بالصّلاة کذلک ، و من کان عاجزاً عن ذلک ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إلیه بالإتیان بها مع الطهارة الترابیّة ، و یشهد بذلک التقسیم فی قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَیَمَّمُواْ صَعِیداً طَیِّباً » و هو قاطع للشرکة .
وعلیه ، فالصّلاة الاضطراریة - مثلاً - لیست بدلاً عن الاختیاریة - خلافاً للمشهور - و إلیه أشار الفقیه الهمدانی فی مسألة قراءة غیر المتمکّن من القراءة الصحیحة کالأخرس (2) ، کما أنّ القدرة شرط لأصل التکلیف ، لا لفعلیّته ، لأنّ العاجز غیر مکلَّف عقلاً و شرعاً ، أمّا عقلاً ، فلأنّ جعل الداعی لغیر المتمکن من الامتثال لغو ، و أمّا شرعاً ، فلحدیث الرفع ، و هو رفع واقعی لا ظاهری .
ص:175
فلا مجال للجواب عن هذا الإشکال بالقول بکون الأحکام الاضطراریّة أبدالاً عن الأحکام الاختیاریّة ، أو القول بأن القدرة شرط للفعلیة ، و لا فعلیّة للحکم بالنسبة إلی العاجز .
و علی الجملة ، فالصّلاة بالنسبة إلی القادر و العاجز ، کالصّلاة بالنسبة إلی المسافر و الحاضر ، فکما أنّ کلّاً من المسافر و الحاضر مکلَّف بتکلیفه الخاص به ، و لا بدلیّة بینهما ، کذلک القادر و العاجز ، فلکلٍّ حکمه بحسب حاله فی عرضٍ واحد .
فلا موضوع للإجزاء فی المسألة ، لا ثبوتاً و لا إثباتاً .
و أجاب الاستاذ دام بقاه عن ذلک : بأنْ القول بعرضیّة الفعل الاضطراری مع الفعل الاختیاری - خلافاً للمشهور - لا یجتمع مع القول ببدلیّة التیمّم عن الوضوء تارةً و عن الغسل اخری .
إنه لا بدَّ من الالتزام بکون الواجب الأصلی هو الطهارة المائیّة ، حتی یصحّ القول بکون التیمّم بدلاً عن هذا و ذاک ، و إذا کان التیمّم بدلاً عن الوضوء کانت الصّلاة المأتی بها معه بدلاً عن الصّلاة مع الوضوء ، لأن بدلیّة قیدٍ عن آخر تقتضی بدلیّة المقیَّد عن مقیَّد آخر .
ثم عند ما نرجع إلی فتاوی السیّد البروجردی نفسه ، نجده فی حواشی (العروة الوثقی) ، و فی مسائل التیمّم ، یصرّح بما ذکرناه أو یوافق الماتن علی ما ذهب إلیه ممّا هو صریح فیما ذکرناه ، ففی المسألة رقم (24) یقول : «لا یترک الاحتیاط بهذا حتی فیما هو بدل عن غسل الجنابة» و فی المسألة رقم (10) : «لم یثبت بدلیّة التیمّم عن الوضوء و الغسل غیر الرافعین للحدث
ص:176
للحائض» و فی المسألة رقم (30) من کتاب الصّلاة : «الأقوی حینئذٍ وجوب الإیماء بدلاً عن السجود» .
و الحاصل : إن الأفعال الاضطراریّة أبدال عن الاختیاریة ، و لیست مجعولةً للمضطرّ إلی جنب جعل الاختیاریة للمختار ، کجعل الصّلاة المقصورة للمسافر و التمام للحاضر .
و ظاهر النصوص هو البدلیّة کذلک ، کما فی باب (وجوب الضربتین فی التیمّم سواء کان عن وضوء أم عن غسل) (1) فأی معنی لکلمة «عن وضوء» و «عن غسل» إنْ لم تکن بدلیّة ؟
ففی الصحیح عن زرارة : «هو ضرب واحد للوضوء و الغسل من الجنابة» أی الکیفیة لا تختلف ، فسواء کان بدلاً عن الوضوء أو الغسل «تضرب بیدیک مرّتین» فأیّ معنی لکلمة «للوضوء و الغسل من الجنابة» غیر البدلیة ؟
و فی موثقة عمّار : «سألته عن التیمم من الوضوء و الجنابة و من الحیض للنساء» و هو ظاهر فی البدلیّة کذلک ...
و عن (تفسیر النعمانی) : «الفریضة : الصلاة مع الوضوء ، و إن الصّلاة مع التیمّم رخصة» و هذا نصٌّ فی المطلب .
و تلخص : سقوط ما ذکره السید البروجردی .
و کذلک کلام المحقق الهمدانی ، فإنّه و إنْ قال فی (طهارته) (2) بما استشهد به السید البروجردی ، لکنّه فی (صلاته) صریح فی البدلیّة ، کما فی بحث القیام ، حیث صرّح ببدلیّة الجلوس عنه للمضطر ، و ببدلیّة الإضطجاع
ص:177
عن الجلوس للعاجز ، و الإیماء عن السجود ، بل صرّح بالبدلیّة فی آخر البحث فی مسألة : لو صلّی مضطجعاً هل علیه قصد البدلیّة أو لا ؟ و کذا لو صلّی جالساً ... (1) ؟
هذا تمام الکلام فی مقام الثبوت ، و قد ظهر اندفاع الإشکالات .
و مرجع البحث فی هذا المقام إلی أنّه هل من دلیلٍ أو أصلٍ عملی یقتضی وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل أو لا ؟ و قد جعل فی (الکفایة) البحث تارةً فی الدلیل ، و اخری فی الأصل العملی ، فقال ما حاصله : إن مقتضی إطلاق دلیل التیمّم کقوله تعالی «فَتَیَمَّمُواْ صَعِیداً طَیِّباً » (2)و قوله علیه السلام : «التیمّم أحد الطهورین» (3) هو الإجزاء فی کلّ موردٍ دلّ الدلیل فیه علی البدار و لم یُشترط الانتظار ، أو اشترط و جاء البدار عند الیأس ... و مع عدم الإطلاق فمقتضی أصالة البراءة عدم وجوب الإعادة ، لأنه بعد الإتیان بالعمل الاضطراری یشک فی حال التمکّن من الاختیاری فی وجود الأمر بالإعادة ، و هو شک فی أصل التکلیف ، و هو مجری البراءة . قال : و فی القضاء بطریقٍ أولی .
فمقتضی الدلیل ثم الأصل - فی نظر صاحب (الکفایة) - هو الإجزاء ، سواء فی الوقت و خارجه ، و إنْ علّق بعض المحققین المحشّین کالمشکینی علی الأولویّة (4) فقال لم نفهم معناها ، و الأصفهانی (5) ذکر لها وجوهاً .
ص:178
و قد أوضح المحقّق الأصفهانی (1) هذا الإطلاق ، و قرّره الاستاذ دام ظلّه بأنّه :
أوّلاً : إطلاقٌ فی مقابل «الواو» لا «أو» ، لأنّه لو کان الواجب هو الإتیان بالصّلاة مع الطهارة المائیّة بالإضافة إلیها مع الطّهارة الترابیّة لقال مثلاً : صلّ مع الطهارة الترابیة . و اخری مع الطهارة المائیّة إن ارتفع العذر ، فلمّا قال : افعل هذا العمل الاضطراری بلا ضمّ الاختیاری إلیه ، کان الکلام مطلقاً یدل علی إجزاء الاضطراری عن الاختیاری ، فلا تجب الإعادة و القضاء .
و ثانیاً : هذا الإطلاق مقامی لا لفظی ، و ذلک : لأن الإطلاق یقابله التقیید تقابل العدم و الملکة - کما تقدّم فی التعبّدی و التوصّلی - و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق ، لکنّ التقیید هنا محال أو غیر صحیح .
إن المدّعی هو إطلاق «فَتَیَمَّمُواْ »، فإنْ ارید تقیید هیئة اللّفظ و أعنی «الوجوب» ، بأنْ یکون وجوب التیمّم مشروطاً بالإتیان بالوضوء فی آخر الوقت ، فهذا غیر ممکن ، لأنّ التیمّم بدل عن الوضوء ، فکیف یتقیّد وجوب البدل بإتیان المبدل منه ؟ فإنه مع تحصیل المبدل للمصلحة لا یعقل الأمر بالبدل ... و إذا استحال تقیید الهیئة استحال الإطلاق . و إنْ ارید تقیید المادّة و هو «الواجب» ، بأنْ یکون نفس الواجب - أعنی التیمّم - مشروطاً بالإتیان بالوضوء ، کما أن الصّلاة مشروطة بالطهارة ، فهذا التقیید ممکن و لکنه غیر صحیح ، لأن معنی ذلک بطلان الصّلاة مع التیمّم ، و المفروض صحّتها فی أول الوقت ، غیر أنها غیر مستوفیة لتمام الغرض ... و إذا بطل التقیید بطل الإطلاق .
ص:179
فظهر أن هذا الإطلاق لیس بلفظی ، بل هو مقامی ، ببیان أن المولی فی مقام البیان لتمام غرضه ، و مع ذلک قد اکتفی بالصّلاة مع التیمّم ، و أوجبها علی المکلَّف سواء تمکّن من الوضوء فیما بعد أو لا ، فیکشف ذلک عن حصول غرضه بالعمل الاضطراری ، و هذا هو الإجزاء .
أقول :
ذکر الاستاذ فی الدورة السابقة : إمکان التقیید فی هیئة «فَتَیَمَّمُواْ » ببیان أن القید لیس هو الإتیان بالمبدل عنه لیکون محالاً ، بل هو إمکان الإتیان به ، و المفروض هو الإمکان ، إذ لا مانع من القول : إن کنت متمکّناً من الصّلاة بالطهارة المائیّة فی آخر الوقت فعلیک بها مع الطهارة الترابیّة فی أوّله ، و إذا أمکن هذا ، کان الإطلاق هو الإتیان بها مع الترابیة سواء أمکن الإتیان بها مع الوضوء أو لا ؟
و لا یخفی أن الثمرة مع الإطلاق اللّفظی جواز التمسّک بأصالة البیان عند الشک فی التقیید ، أمّا الإطلاق المقامی فلا یجری معه الأصل المذکور ، بل یتوقّف ثبوته علی إحراز کون المولی فی مقام البیان .
و قد أورد علی التمسّک بالإطلاق فی الآیة و الروایة المذکورتین بأنه : مع القدرة علی الطهارة المائیّة - و لو فی طول الطهارة الترابیة - ینتفی الموضوع فی الآیة و الروایة ، إذْ لا ریب فی أن المکلَّف به هو طبیعة الصّلاة المقیّدة بالطهارة المائیّة ، و بمجرّد التمکّن من فردٍ ما منها - سواءً کان فرداً عرضیّاً أو طولیّاً - یتبدّل عنوان عدم الوجدان إلی الوجدان ، فلا تیمّم ، فلا إجزاء .
إذنْ ، لا بدّ من دلیلٍ خاصٍّ یدلّ علی جواز البدار إلی الصّلاة فی أوّل
ص:180
الوقت فی حال الاضطرار ، و هذا الدلیل موجود فی مورد التقیّة ، أمّا فی محلّ الکلام فلا ... و قد ظهر عدم نهوض الآیة و الروایة و غیرهما من الأدلّة العامّة لإفادة جواز البدار فی المقام .
و هذا الإشکال یتوجّه علی صاحب (العروة) و سائر الفقهاء القائلین بجواز البدار حینئذٍ .
فذکر الاستاذ دام بقاه : أن المحقق الخراسانی قد استدلّ لعدم الإعادة و القضاء فی (شرح التبصرة) (1) بدلیلٍ خاصٍ ، و هو صحیحة ابن سنان (2) ، الدالّة علی عدم وجوب القضاء ، و بروایاتٍ معتبرة لعدم وجوب الإعادة فی الوقت ، و قد جمع بینها و بین ما عارضها من الأخبار بالحمل علی الاستحباب ، و قد أشکل هناک علی التمسّک بقاعدة الإجزاء ، بأنّه یتوقّف علی إحراز کون العمل الاضطراری وافیاً بتمام المصلحة ، أو إحراز عدم التمکّن من استیفاء ما فات منها بعد العمل الاضطراری ، و ما لم یحرز أحد الأمرین یکون إطلاق أدلّة وجوب العمل الاختیاری محکّماً ، و إلّا وصلت النوبة إلی البراءة .
قال الاستاذ : و مع غضّ النظر عمّا ذهب إلیه و استدلّ به فی (شرح التبصرة) فإنه یمکن تقریب الاستدلال بالآیة و الروایة بما یندفع به الإشکال ، بأنْ یقال : إن مقتضی «لا صلاة إلّا بطهور» (3) تقیید طبیعی الصّلاة بالطّهور ، لکنّ : «التیمّم أحد الطهورین» (4) یتقدّم علیه بالحکومة ، و مقتضی ذلک کون
ص:181
الطهارة الترابیّة فی عرض الطّهارة المائیّة ... هذا بالنسبة إلی الروایة . و أمّا الآیة :
فإن عدم الوجدان فیها ظاهر فی الإطلاق بحسب الأزمنة ، فإذا کانت الآیة معناها - کما فی الخبر (1) - : إذا قمتم إلی الصّلاة من النوم ، ففی هذا الظرف إذا لم تجدوا ماءً وجب التیمّم ، و تقیید عدم وجدان الماء بتمام الوقت یحتاج إلی مئونةٍ زائدة ، و لم یقم دلیل معناه : و إن لم تجدوا ماءً فی تمام الوقت فتیمّموا ، و مع عدمه ، فمقتضی الإطلاق وجوب التیمّم سواء وجد الماء بعده أو لا .
و الحاصل :
أوّلاً : إنه یمکن تقریب الاستدلال بالآیة و الروایة بما ذکر ، و المستشکل لم یتعرّض لذلک .
و ثانیاً : إن المحقّق الخراسانی استدلّ فی فقهه بأدلّةٍ خاصّة .
و قال المیرزا رحمه اللّٰه بعدم وجوب الإعادة للمتمکّن من الطهارة المائیة بعد الإتیان بالصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، بأن المفروض قیام الدلیل علی صحّة الصلاة مع التیمم فی أوّل الوقت ، و حینئذٍ یکون الإجزاء ضروریّاً ، لقیام النص و الإجماع و الضرورة علی عدم تعدّد الفریضة فی الوقت الواحد .
و تعقّبه شیخنا و السید الأستاذ (2) بما حاصله : إن هذا الوجه أخصّ من المدّعی ، إذ یتمّ فی الصّلاة فقط ، لقیام الإجماع بل الضرورة فیها علی عدم
ص:182
التعدّد کما ذکر ، و البحث یعمّ کلّ الأعمال الاضطراریّة .
و أما بالنسبة إلی القضاء فقال المیرزا : بأنّ القید کالإتیان بالصلاة بالطهارة المائیّة ، إنْ کان قیداً للصّلاة مطلقاً ، أی هی مقیدة بها سواء فی حال التمکن و العجز ، فهذا مخالف لمسلک العدلیّة ، للزوم کون الأمر بالصلاة مع التیمّم تکلیفاً بلا ملاک ، و المفروض وجود الأمر بها ، فلا محالة یکون الأمر بالصّلاة مع الطهارة المائیّة مقیَّداً بحال التمکن منها ، و هذا یقتضی إجزاء الترابیّة ، لأن دخل المائیّة فی الملاک هو فی حال التمکّن فقط ، و مع العجز عنها فلا دخل لها . اللهم إلّا أن تکون الطّهارة المائیّة دخیلةً فی مرتبة مصلحة الصّلاة ، بأنْ تکون الترابیّة وافیة بأصل مصلحتها ، و المائیّة یحصل بها شدّة المصلحة ، لکنّ هذا لا یمنع من القول بالإجزاء ، فالصّلاة مع الطهارة الترابیّة وافیة بالمصلحة الصّلاتیة ، و شدة المصلحة أمرٌ غیر قابلٍ للتدارک ...
و الحاصل : إن الشارع قد أمر بالإتیان بالصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، و هذا یکشف عن عدم دخل خصوص المائیّة فی المصلحة مطلقاً ، فیجوز البدار إلی الصّلاة ، و لا یبقی حینئذٍ موضوع للإعادة و القضاء لها .
و أورد علیه المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه المحقق الخوئی (2) فی (المحاضرات) و تعلیقة (أجود التقریرات) (3) ، بإمکان أن تکون المصلحة الواحدة ذات مرتبتین ، إحداهما : للصلاة مع الطهارة المائیّة ، و الاخری :
للصّلاة مع الترابیة ، أو یکون فی المورد مصلحتان ، لکلٍ من الصّلاتین مصلحة ...
ص:183
أمّا علی الفرض الأوّل : فالطهارة المائیّة دخیلة فی شدّة المصلحة ، فالصّلاة فی الوقت مع الترابیة ذات مصلحة ، و لذا امر بها ، لکنَّ مع فوت المرتبة الشدیدة من المصلحة فی الوقت ، یؤمر بالقضاء فی خارجه ، استیفاءً لتلک المرتبة الفائتة من المصلحة .
و أمّا علی الفرض الثانی ، فالطهارة المائیّة محصِّلة لمصلحةٍ ملزمةٍ قائمةٍ بالصّلاة مع الطهارة المائیة ، ففی الوقت یأتی الأمر بالصّلاة مع الترابیة لدرک مصلحتها ، لکنّ المصلحة الاخری الفائتة تستوجب الأمر بالصّلاة مع المائیة فی خارج الوقت قضاءً ، تحصیلاً للمصلحة القائمة بها .
فما ذکره المیرزا من عدم دخل المائیّة فی المصلحة إلّا فی حال التمکّن غیر صحیح ، بل أمکن تصویر دخلها بالصورتین المذکورتین أیضاً .
و قد أجاب الاستاذ : بأنَّ الصّورة الاولی ، و هی فرض دخل المائیة فی مرتبة المصلحة و الغرض ، مذکورة فی کلام المیرزا ، کما قرّرناه ، و أمّا الصورة الثانیة ، فمن الناحیة الثبوتیة لا مانع منها ، إلّا أن کلامنا فی الصّلاة مع التیمم ، و الصّلاة مع الوضوء ، و کیف یتصوّر لکلٍّ منها مصلحة مباینة لمصلحة الاخری ؟ إن المصلحة و الغرض من الصّلاة أنها «قربان کلّ تقی» (1) و «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ » (2)و «معراج المؤمن» (3) و نحو ذلک ... و هذه لیست بحیث تتحقق مع الصّلاة بالمائیة و لا تحقق معها بالترابیّة ، بل کلّ واحدٍ منهما معراج و قربان و تنهی عن الفحشاء و المنکر ... و لو کان فرقٌ فهو من
ص:184
حیث المرتبة ، و قد ذکر المیرزا أن المرتبة إذا فاتت فلا یمکن استیفاؤها .
و قال المحقق العراقی - فی بیان الإجزاء فی مقام الاثبات - بأنْ قوله علیه السلام : «التیمّم أحد الطهورین» یدل بالمطابقة علی کون التراب فرداً من الطهارة المعتبرة فی الصّلاة ، فیکون حاکماً علی قوله «لا صلاة إلّا بطهور» بتوسعة موضوعه لیشمل الماء و التراب معاً ... مع جعل الطهارة الترابیة فی طول الطهارة المائیّة .
هذا مدلول الروایة مطابقةً ، و هو یدل بالدلالة الالتزامیّة علی الإجزاء ، لأنه مقتضی التنزیل المذکور .
فإن قیل : المدلول المطابقی المذکور معارض بقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ ...» الظاهر فی تقیّد الصّلاة بالطهارة المائیّة بالخصوص ، فدلّ علی دخل هذه الخصوصیّة و لو فی المرتبة ... فلو صلّی بالترابیّة وجب علیه المائیّة ، و الحال أنّ مقتضی الروایة عدم وجوب الإعادة أو القضاء ، و فی هذا الفرض یتقدم دلالة الآیة علی دلالة الروایة ، لا لکونها بالإطلاق ، و دلالة الآیة بالوضع ، و مع الدلالة الوضعیة لا تنعقد الدلالة الإطلاقیّة ، لأن المحقق العراقی یری أن الإطلاق ینعقد إذا عدم البیان المتّصل ، و هنا کذلک ، بل لأن حجیّة هذا الإطلاق فی الروایة تنعدم بمجیء الآیة ، لکونها بیاناً منفصلاً للروایة ، و مع سقوط إطلاق الروایة عن الحجیّة بالآیة المبارکة لم یبق دلیلٌ علی الإجزاء .
قلنا : کلّ هذا صحیح علی المبنی عند المحقق العراقی ، لکنّ هنا نکتةً لأجلها یقول بالإجزاء ، و هی :
ص:185
إن الآیة المبارکة و إن دلَّت علی خصوصیةٍ و دخلٍ للطّهارة المائیّة فی الصّلاة ، لکن مع عدم امکان استیفاء مصلحتها - بعد الإتیان بالصلاة مع الطهارة الترابیّة حسب الأمر الشرعی - لا یبقی الأمر بالإعادة و القضاء .
و تلخّص : إن غایة ما تستوجبه المعارضة بین الآیة و الروایة و تقدّم الآیة هو : عدم استیفاء الطهارة الترابیة لتمام المصلحة ، لکنّ المدلول الالتزامی للروایة هو الاجزاء ، من جهة أن الطهارة الترابیة قد فوّتت المصلحة ، و لا یمکن بعد الإتیان بها استیفاء تمام المصلحة ...
و قد أورد علیه الاستاذ دام بقاه بوجوه :
الأول : إنه و إن کان دلالة الآیة المبارکة علی دخل الطهارة المائیة بالوضع کما قال ، لکنّ دلالتها فی مورد الاضطرار و الصّلاة مع الترابیة هی بالإطلاق و لیس بالوضع ، لأنها تدلّ علی وجوب الطهارة المائیة و اعتبارها ، سواء اضطرّ المکلَّف فی بعض الوقت إلی الطهارة الترابیة أو لا ... و الروایة الشّریفة تدلُّ علی إجزاء الطّهارة الترابیة بالإطلاق کذلک ، لکنَّ إطلاق الدلیل الحاکم - و هو الروایة - مقدَّم علی إطلاق الدلیل المحکوم و هو الآیة الکریمة ، فلا تصل النوبة إلی المعارضة .
و الثانی : إنّ تمسّکه بالدلالة الالتزامیّة للروایة علی الإجزاء ، بعد سقوط دلالتها المطابقیّة بالمعارضة مع الآیة علی الفرض ، موقوفٌ علی تمامیّة القول ببقاء المدلول الالتزامی للدلیل بعد سقوط مدلوله المطابقی ، و أمّا علی مبنی تبعیّة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فلا یتم .
و الثالث : - و هو العمدة فی المقام - إنّ الدلیل علی عدم الإجزاء لیس
ص:186
الآیة المبارکة - أو لیس الآیة بوحدها - بل صحیحة زرارة : «إذا لم یجد المسافر الماء فلیطلب ما دام فی الوقت فإذا خاف أنْ یفوته الوقت فلیتمّم و لیصلّ» (1)و مدلولها : إنه ما دام الوقت باقیاً فلا تصل النوبة إلی التیمّم ، و هذه الصحیحة توضّح معنی الآیة : أی : و إنْ لم تجدوا ماءً فی تمام الوقت فتیمّموا ... و لیس معناها : و إنْ لم تجدوا ماءً فی زمانٍ و إنْ کان الوقت باقیاً ... فلا إطلاق للآیة ...
فسقط استدلال المحقق الخراسانی و من تبعه کالسیّد الحکیم فی (شرح العروة) (2) .
و بذلک یظهر معنی الروایة أیضاً ، فإنّ التراب نزّل بمنزلة الماء و جعل مصداقاً للطهارة ، فی حال عدم التمکّن من الماء فی تمام الوقت ... فلا معنی للحکومة ...
و تلخّص : إن الحق عدم الإجزاء لمن عجز عن الماء فی قسمٍ من الوقت ... فإنّه لو صلّی بالتیمّم وجب علیه الإعادة ... بل إنّ وظیفته الصبر حتی آخر الوقت ، و الصّلاة مع الطهارة المائیة ... وفاقاً للقائلین بعدم جواز البدار .
هذا ، و قد بحث الاستاذ فی الدورة السابقة عن دلالة الأدلَّة العامّة مثل «کلّ شیء یضطرّ إلیه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه» (3) و مثل «حدیث الرفع» (4) و مثل «قاعدة المیسور» (5) ... و ثمّ ذکر فی الدورة اللّاحقة أنْ لا مجال لطرح تلک الأدلّة مع وجود صحیحة زرارة ، و کان حاصلها عدم جواز البدار ... هذا بالنسبة
ص:187
إلی التیمّم .
و أمّا بالنسبة إلی غیر التیمّم من الأفعال الاضطراریة ، فلا بدَّ من النظر الدقیق فی أدلَّتها الخاصّة ، فإنْ فقد الدلیل الخاص علی الحکم فیها وصلت النوبة إلی الأدلَّة العامة . و اللّٰه العالم .
قد تقدَّم أنّ الإطلاق الذی تمسّک به فی (الکفایة) ، و کذا المعارضة التی ادّعاها المحقق العراقی ، ممنوعان ، بل المرجع هو النصّ الخاص .
و مع التنزّل عن کلّ ذلک و وصول الأمر إلی الأصل العملی ، فهل المقام مجری البراءة أو الاشتغال ؟ و هل عندنا هنا أصل مقدّم علیهما ؟
قال بعض المحققین : مقتضی استصحاب وجوب الصّلاة مع الطّهارة المائیّة ، إعادة الصلاة ، فلا تصل النوبة إلی البراءة .
و ذهب صاحب (الکفایة) (1) و من تبعه کالأصفهانی و المیرزا (2) إلی البراءة . لکون المورد من صغریات الشک فی التکلیف ، و قال العراقی بالاشتغال (3) ، لکونه من دوران الأمر بین التعیین و التخییر .
فالکلام فی مرحلتین :
المرحلة الاولی : فی تقریب الاستصحاب ، لمن صلّی مع التیمّم ثم تمکّن فی بعض الوقت من الماء ، کما قال المحقق الإیروانی فی (تعلیقته)
ص:188
علی الکفایة (1) ، إن الخطاب بالصّلاة مع الطهارة المائیّة متوجّه إلی المکلَّف بمجرّد دخول الوقت ، و هو موجود إلی آخره ، فهو وجوب واحد مستمر ، غیر أنّه یکون لمن عجز عن الماء فی أول الوقت معلَّقاً علی وجدانه و التمکّن منه ، و یکون الوجوب فی حقّه فعلیّاً و الواجب استقبالیّاً ، هذا من جهة الطهارة المائیّة . و من جهة الطهارة الترابیّة ، فإنّ دلیله کالروایة : «التیمّم أحد الطهورین» یجعل الطهارة الترابیة للعاجز عن الماء ، فالنتیجة هی التخییر ، و مع فرض عدم الإطلاق الدالّ علی وفاء الصّلاة مع الطهارة الترابیة بتمام المصلحة ، یشک فی سقوط الواجب المعلَّق بإتیان الصّلاة معها ، و إذا عاد الشک إلی سقوط الواجب ، جری استصحاب بقاء وجوب الصّلاة مع الطهارة المائیة ، و هو استصحاب تنجیزی ... و معه لا مجال لغیره من الاصول .
و أورد علیه شیخنا دام بقاه :
أوّلاً : إنه من جهة یصرِّح بالوجوب التخییری لمن کان فاقداً للماء فی بعض الوقت و واجداً له فی البعض الآخر ، بین الطهارة المائیة و الطهارة الترابیّة ، و من جهةٍ اخری یقول باحتمال التعیین المقوّم للاستصحاب ، و کیف یمکن الجمع بین هذین الحکمین ؟
و ثانیاً : إن وجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة علی من أتی بها مع الطهارة الترابیّة ، إنْ کان مطلقاً ، - بمعنی وجود هذا الوجوب سواء أتی بها مع الترابیّة أو لا ؟ - فهو لا یجامع التخییر کما تقدم ، و إنْ کان مقیّداً بعدم الإتیان
ص:189
بها مع الترابیة ، کان موضوع وجوبها مع المائیة مقیّداً بمن لم یصلّ مع التیمّم ، و حینئذٍ ، فالمکلّف الذی صلّاها مع التیمم ثم تمکّن من الماء خارج عن هذا الموضوع ، و الشرط فی الاستصحاب وحدة الموضوع .
و تلخّص : إن الصحیح عدم جریان الاستصحاب ، لعدم الیقین بوجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة بالنسبة للمکلَّف فی أوّل الوقت بالتیمّم ، و مع عدم الیقین السابق بالتکلیف لا یجری الاستصحاب .
أقول :
هذا کلامه فی الدورة اللّاحقة ، أمّا فی السابقة فقد صحّح جریان الاستصحاب التعلیقی - لا التنجیزی - ثم عدل عنه کما سیأتی .
و بناءً علیٰ سقوط الاستصحاب تصل النوبة إلی البراءة أو الاشتغال ، قال المحقق العراقی فی بیان الاشتغال ما هذا توضیحه :
إنّ المفروض قیام مرتبةٍ من الغرض بالصّلاة مع الطهارة المائیة ، فإنْ کانت الصّلاة المأتی بها بالترابیة مفوتةً للغرض و لا یبقی مجال لتحصیله ، فلا أمر بالإعادة ، أمّا مع الشک فی تفویتها ذلک ، و احتمال القدرة علی تحصیل الغرض ، فإن العقل حاکم بالاحتیاط ... نظیر ما إذا امر بدفن المیّت ، و شکّ فی قابلیّة الأرض للحفر ، فإنّ مقتضی القاعدة هو الاحتیاط .
و بهذا البیان یندفع ما اورد علیه من أنه متی کان الشک فی التّکلیف - من جهة فقد الدلیل أو إجماله أو الشک فی القدرة - جری أصل البراءة ، و ما نحن فیه مورد للشک فی القدرة . وجه الاندفاع هو : إن هذا المحقق قد فرض المسألة فی صورة العلم بالغرض و الشک فی القدرة علی الامتثال ، لا الشک فی التکلیف .
ص:190
قال المحقق العراقی : و لو شک فی أنّ الصّلاة هذه مع الطهارة الترابیّة کانت وافیة بتمام مصلحتها مع المائیّة ، فالحکم هو الاحتیاط ، من جهة المبنی فی صورة دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، و ما نحن فیه حینئذٍ من صغریات تلک الصّورة ، لدوران أمر المصلحة بین قیامها بالجامع بین التیمّم و الوضوء ، فهو مخیَّر ، و قیامها بخصوص الصّلاة مع الوضوء ، فعلیه ذلک علی وجه التعیین ... و المختار فی مثله هو الاشتغال .
أمّا من النّاحیة الکبرویّة ، فالمختار وفاقاً لجماعةٍ هو البراءة لا الاشتغال .
و أمّا من الناحیة الصغرویّة ، فإنّ ما نحن فیه لیس من صغریات دوران الأمر بین التعیین و التخییر - و لذا قال فی (الکفایة) هنا بالبراءة مع ذهابه فی الکبری إلی الاشتغال - و ذلک : لما تقدَّم فی کلام المحقق الخراسانی من أنّ الأمر هنا دائر بین الصّلاة مع التیمم فی أوّل الوقت ثم الإتیان بها مرّةً اخری مع الوضوء فی آخره ، و بین الانتظار و الصّلاة مع الوضوء فی آخره ... إذن ، عندنا یقینٌ بوجوب الصّلاة مع التیمّم فی أول الوقت ، و الشک فی أنّه هل یجب علیه بالإضافة إلی ذلک - الإتیان بالصّلاة فی آخر الوقت بالطهارة المائیة أو لا ؟ فإن وجب ضمّ ذلک ، کانت الصلاتان معاً عِدلاً للصّلاة مع الطهارة المائیّة المأتیّ بها منفردةً فی آخر الوقت ... فیرجع الشک حینئذٍ إلی وجوب هذه الإضافة بعد الصّلاة مع التیمّم ، و هذا من الشک فی أصل التکلیف ، و هو مجری البراءة .
فظهر : أن الصحیح هو أن المقام - وفاقاً لصاحب (الکفایة) و أتباعه - من موارد الشک فی التکلیف ... و الأصل الجاری فیه هو البراءة . و لیس من موارد
ص:191
دوران الأمر بین التعیین و التخییر لیجری الاشتغال کما علیه العراقی أو البراءة کما علیه فی (المحاضرات) .
و أمّا ما ذکره المحقق العراقی من إرجاع المقام إلی صورة الشک فی القدرة ، و حکم العقل فیها بلزوم الاحتیاط ، نظیر مسألة دفن المیت و الشک فی القدرة علی حفر الأرض ، ففیه :
إنّ حکم العقل بلزوم الاحتیاط تحصیلاً للغرض ، إنما هو حیث یُعلم بالغرض ، بحیث لو فات لکان المکلَّف مقصّراً ، کما فی مسألة دفن المیت ، و لکنّ کلّ موردٍ علم فیه بعدم ارتباط فوت الغرض بالعبد ، بل علم باستناد فوته إلی المولی ، فلا حکم للعقل بلزوم الاحتیاط فیه ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ المفروض تجویز المولی البدار إلی الصّلاة مع الطهارة الترابیّة ، حتّی مع وجود المصلحة الزائدة فی الطهارة المائیّة المحتمل فوتها بالإتیان بالصّلاة مع التیمّم ، و لمّا کان هذا الفوت مستنداً إلی تجویز المولی ، فلا حکم للعقل بلزوم الاحتیاط .
و تلخّص : إنه لا مانع من جریان البراءة ، فالمورد لیس من موارد حکم العقل بالاحتیاط ، کما لیس من موارد دوران الأمر بین التعیین و التخییر ، بقطع النظر عن المبنی فی الکبری .
و تبقی نظریّة السید الحکیم ، فإنه قال بجریان الاستصحاب التعلیقی فی المقام (1) ، و بحکومته علی البراءة ، و تقریب ذلک :
إنّ هذا المکلَّف لو لم یأت بالصّلاة مع التیمّم فی أوّل الوقت ، لوجب
ص:192
علیه الإتیان بها مع الوضوء عند التمکن من الماء ، و هذه قضیّة تعلیقیّة ، و حیث أتی بالصّلاة مع التیمّم ، و شککنا فی سقوط وجوبها مع الوضوء بها عنه ، جری استصحاب بقاء الوجوب ، کالمثال المعروف فی الاستصحاب التعلیقی و هو : العنب إذا غلی یحرم ، حیث الحرمة معلّقة علی غلیان العنب ، فلو زالت العنبیّة و حصل الغلیان و شککنا فی بقاء الحکم المعلّق ، استصحب و أصبح فعلیّاً بتحقّق الغلیان .
و فیه بحث ، أمّا من جهة الکبری ، فالاستصحاب التعلیقی محلّ کلامٍ بین الأعلام .
و المهم جهة الصغری ، و ما نحن فیه لیس من صغریات هذا الاستصحاب ، لأنّ المناط فیه أن یکون التغیّر الحاصل قبل الشرط فی حالةٍ من حالات الموضوع المستصحب لا فی مقوّماته ، و فی المثال المعروف قد تبدّلت حالة الموضوع من العنبیّة إلی الزبیبیّة . أمّا فی المقام ، فوجوب الصّلاة مع الطهارة المائیّة له شرطان ، أحدهما : التمکّن من الماء فی الوقت ، و الآخر :
عدم الإتیان بالصّلاة مع التیمّم ، ففی ناحیة الموضوع المستصحب - و هو وجوب الصّلاة کذلک - یعتبر هذان الشرطان ، وعلیه ، فلو صلّی مع التیمم - کما هو المفروض - فقد انتفی أحد الشرطین ، فلم یحرز بقاء الموضوع ...
و تلخّص : إن أصل الموضوع و وجوده غیر محرز ، بخلاف المثال ، فهناک الموضوع موجود و قد زال وصف العنبیّة عنه ، فهو حینئذٍ مجری الاستصحاب التعلیقی علی المبنی ، و موردنا لیس من موارده ، لعدم تمامیّة أرکانه .
ص:193
إن الصلاة مع التیمّم بدل عن الصّلاة مع الطهارة المائیة ، - و لیسا فی العرض کالصّلاة قصراً أو تماماً - و إذا کانت بدلاً ، فالمعتبر فقدان الماء فی تمام الوقت ، لا الاضطرار فی بعضه ، و بمجرَّد التمکّن من الماء فی بعضه یمتنع وصول النوبة إلی البدل ، شرعاً و عقلاً ... و المشهور بین الفقهاء هو عدم جواز البدارِ ، و عدم الإجزاء .
و جمع بعضهم بین النصوص المختلفة بحمل الإعادة علی الاستحباب ، غیر تام ، إذ لیس الجمع بین «یعید» و «لا یعید» جمعاً عرفیّاً ، و مع استقرار المعارضة ، فالمرجّح أخبار عدم الإجزاء ، لأنّها مخالفة للعامّة ، لکون معظمهم علی الإجزاء .
هذا تمام الکلام علی الإعادة .
و أمّا حکم القضاء بالنسبة إلی من أتی بالعمل الاضطراری ، کالصّلاة مع التیمّم ، ثم تمکّن من العمل الاختیاری بعد انقضاء الوقت ، فمقتضی الأدلّة العامّة اللّفظیة - کالآیة المبارکة : «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء ...» و الرّوایة : «التیمّم أحد الطهورین» - هو الإجزاء .
فإنْ وصلت النوبة إلی الأصل العملی ، فهل هو البراءة أو الاشتغال ؟
قال المحقق الأصفهانی بالتفصیل ، بأنّ وجوب القضاء إنْ کان بأمر جدید - لکون موضوع الدلیل هو «الفوت» - فالأصل هو البراءة ، لأنْ المفروض عدم القدرة علی الطّهارة المائیّة فی الوقت کلّه ، فلا یصدق عنوان «فوت الفریضة» . و کذا بناءً علی القول بأن المراد من «الفوت» هو «فوت ملاک
ص:194
الفریضة» فإن فوته مشکوک فیه ، و حینئذٍ یکون التمسّک ب «من فاتته الفریضة فلیقضها کما فاتته» تمسّکاً بالدّلیل فی الشبهة الموضوعیة .
و إنْ کان وجوب القضاء بالأمر الأوّل ، فالأصل هو الاشتغال ، لجریان الاستصحاب هنا - بخلاف ما لو کان بأمر جدید ، فإنّه لا یجری استصحاب عدم الإتیان بالواجب فی الوقت ، لأنه بالنسبة إلی عنوان «الفوت» أصل مثبت ، لکونه عنواناً وجودیّاً - لأنَّ الأمر الأوّل لم یمتثل ، و لو شکّ فی امتثال الواجب بالإتیان بالصّلاة مع التیمم ، استصحب عدم تحقّق الامتثال .
لکنّ القول بأن القضاء هو بالأمر الأوّل خلاف التحقیق .
و أشکل الاستاذ : بأنْ هذا الاستصحاب کیف یجری مع الیقین بعدم الإتیان بالصّلاة مع الطهارة المائیّة فی الوقت ؟ ، و أین الشک کی یتمسّک بالاستصحاب ؟ بل إن صورة المسألة مع عدم الشک فی عدم الإتیان هی :
الشک فی وفاء هذا العمل الاضطراری بتمام مصلحة العمل الاختیاری ، لکنْ لا یجری أصالة عدم الوفاء به ، لأنه أصل مثبت ، لأن وجوب القضاء لازم عقلی له .
و الحاصل : إن الحکم فی القضاء لا یکون أشدّ من الحکم فی الإعادة ، و قد قال المحقق الأصفهانی هناک بالبراءة ، لدوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، و إذا کان القضاء بالأمر الأوّل فلا یعقل الاشتغال ، لأن المفروض عدم اشتغال ذمّته بالصّلاة مع الوضوء بل مع التیمم ، و قد أتی بالواجب . نعم لو فرض کونه مکلَّفاً بالصّلاة مع الوضوء ، و لم یأت بها مع التیمّم حتی خرج الوقت ، ثم شک فی إتیانه بالواجب ، کان القضاء بالأمر الأوّل ، و جری الاستصحاب ، لکنّ
ص:195
هذا خارج عن البحث .
و علی الجملة ، فقوله بجریان أصالة عدم الإتیان بالعمل الاختیاری غیر تام .
و أمّا أن موضوع القضاء هو «الفوت» ففیه : إن موضوع القضاء هو «عدم الإتیان» و لیس «الفوت» و إنْ اشتهر بین المتأخرین من الأعیان ، و التفصیل فی الفقه .
فالأصل الجاری فی المقام هو البراءة ، لو وصل الأمر إلی الأصل العملی .
هذا تمام الکلام فی المسألة الثانیة .
ص:196
إذا وقع الامتثال لأمرٍ ظاهری ثم انکشف الخلاف ، فهل العمل المأتی به مجزٍ عن الواقع أو لا ؟
فی هذا المقام أقوال عدیدة :
1 - الإجزاء مطلقاً .
2 - عدم الإجزاء مطلقاً .
3 - التفاصیل ، و المهمّ منها تفصیل (الکفایة) بین الاصول فالإجزاء و الأمارات فعدم الإجزاء .
و اعلم أنه :
تارةً : الشبهة موضوعیة ، سواء کان موضوع الحکم شیئاً خارجیّاً ، کالصعید بالنسبة إلی التیمّم ، أو حکماً شرعیّاً کالطهارة بالنسبة إلی الصّلاة .
و اخری : الشبهة حکمیّة .
و أیضاً : تارةً : یکون الحکم الظاهری بأصل - محرز أو غیر محرز - و اخری : بأمارة ، و ثالثة : بالقطع .
و أیضاً : تارةً : یکون کشف الخلاف بالقطع ، و اخری : بالأصل ، و ثالثة :
بالأمارة .
ص:197
و لا بدَّ من البحث فی جمیع هذه الشقوق بمقتضی الأدلّة الأولیّة ، ثمّ بمقتضی الأدلّة الثانویة ، لنعرف حدّ دلالة الدلیل الظاهری ، و أنّه إذا قام - مثلاً - علی الطّهارة ، فهل یترتَّب علیه الأثر فی ظرف الشک أو الجهل بالحکم الواقعی فقط ، بحیث یکون مجزیاً إن لم ینکشف وقوع العمل علی خلاف الواقع ، فلو انکشف ذلک وجب إعادته ، فهو محدود بهذا الحد ، أو أنه لیس بمحدودٍ به ، بمعنی أنه یکون مجزیاً و لا تجب إعادته ، نعم ، یجب العمل طبق الواقع المنکشف من حین انکشافه فی الصّلوات الآتیة مثلاً ؟
و عمدة الکلام هو مورد قیام الأصل أو القاعدة ، و قیام الأمارة ، علی الموضوع أو الحکم ، ثم انکشاف الخلاف ، و لذا جعل صاحب (الکفایة) البحث أوّلاً : فی قیام الأصل ، ثم فی قیام الأمارة ، فقال ما حاصله :
لو قام الأصل علی موضوع التکلیف لیفید تحقّق ما هو شرط التکلیف أو جزء التکلیف ، کقاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّ أو استصحابهما فی وجهٍ قوی (1) ، کان مجزیاً عن الواقع ، فلو صلّی فی ثوبٍ مشکوک الطهارة استناداً إلی القاعدة ، أو مشکوک فی کونه حلالاً استناداً إلی أصالة الحلّ ، أو استصحابهما - فی وجهٍ قوی - ثم انکشف نجاسة الثوب أو عدم حلیّته ، فالصّلاة صحیحة مجزیة عن الواقع ، لکنْ لا یصلّی فیه فیما بعد .
و استدلّ علی الإجزاء هنا بحکومة الدلیل القائم علیٰ الأصل و القاعدة علی دلیل الاشتراط ، یعنی : إن قوله علیه السلام : «کلّ شیء نظیف حتی تعلم
ص:198
أنه قذر» (1) و «کلّ شیء لک حلال» (2) و عموم قوله «لا تنقض الیقین بالشک» (3)بناءً علی جریانه هنا ، یکون حاکماً علی دلیل اشتراط الطهارة أو الحلیّة فی لباس المصلّی ، أی یکون موسّعاً لدائرة الشرط ، فیکون الثوب واجداً للطهارة أو الحلیّة ، لأن المقصود منهما هو الأعم من الطهارة و الحلیّة الواقعیة و الظاهریة . (قال) : فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لانکشاف فقدان العمل لشرطه .
فیکون حال ما نحن فیه حال «التیمّم أحد الطهورین» بالنسبة إلی «لا صلاة إلّا بطهور» ، حیث أنّ الروایة تقول بأن «الطهور» أعمّ من الماء و التراب ، و لذا تکون الصّلاة مع التیمم مجزیةً تماماً کالصّلاة مع الوضوء ، و لو انکشف الخلاف حکم بصحّة الصّلاة .
و هذا مسلک الخراسانی و من تبعه کالعراقی و البروجردی فی معنی «التیمّم أحد الطهورین» ، فهم یقولون بأنَّ تبدّل حال المکلَّف من «فقدان الماء» إلی «وجدان الماء» لا یوجب إعادة الصّلاة ، کما لا یوجب إعادتها لو تبدّل حاله من «المسافر» إلی «الحاضر» .
هذا کلامه فی الاصول الجاریة فی الموضوعات ، سواء کانت الموضوعات أشیاء تکوینیة ، کالصعید و نحوه ، أو أحکام شرعیة ، کالطهارة و نحوها .
أمّا فی الأمارات ، فقد قال بالتفصیل بین القول بالطریقیّة و القول بالسببیّة .
ص:199
أمّا علی الطریقیّة (1) فقال بعدم الإجزاء . (قال) : فإنّ دلیل حجیّته حیث کان بلسان أنه واجد لِما هو شرطه الواقعی ، فبارتفاع الجهل ینکشف أنه لم یکن کذلک ، بل کان لشرطه فاقداً . یعنی : إن دلیل اعتبار خبر الواحد - مثلاً - لا یفید الجعل ، و کذا البیّنة ، فلو قامت البینة - مثلاً - علی طهارة الثوب أو جاء خبر ثقة ، کان مقتضی قوله علیه السلام «لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا» (2) أو أدلّة اعتبار البیّنة : أنّ هذا طریق کاشف عن الطهارة ، و لا دلالة فیه علی جعلٍ من قبل الشارع للطّهارة - بخلاف قاعدة الطهارة مثلاً ، فهناک جعل شرعی للطّهارة - فبارتفاع الجهل و انکشاف الواقع یظهر أنه لم یکن الثوب طاهراً بل کان فاقداً للطهارة ، فلا إجزاء (3) .
و أمّا علی السببیّة ، فقد ذکر أربع صور - کصور الأمر الاضطراری - لأنه بناءً علی هذا القول تحصل المصلحة فی المتعلَّق - بخلاف الطریقیة حیث لا مصلحة فیه - و حینئذٍ فتارةً : تکون المصلحة المتحقّقة بقیام الأمارة وافیةً بتمام مصلحة الواقع ، و اخری : لا تکون وافیة . و علی الثانی : تارة یکون المقدار الباقی من المصلحة ممکن الاستیفاء ، و اخری : لا یمکن استیفاؤه ، و علی الأوّل : تارةً المصلحة لزومیّة ، و اخری ندبیّة . (فقال) رحمه اللّٰه : فیجزی لو کان الفاقد معه فی هذا الحال کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض ، و لا یجزی لو لم یکن کذلک ، و یجب الإتیان بالواجد لاستیفاء الباقی إن وجب و إلّا لاستحبّ ، هذا مع امکان استیفائه و إلّا فلا مجال لإتیانه .
و أمّا لو شک - و لم یحرز أنّ حجیة الأمارة علی وجه الطریقیّة أو
ص:200
السببیّة ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء (قال) : فأصالة عدم الإتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للإعادة فی الوقت .
فإنْ قیل : هذا الأصل معارض باستصحاب عدم کون التکلیف بالواقع - و هو النجاسة - فعلیّاً عند قیام الأمارة علی الطهارة ، و حینئذٍ یحکم بالإجزاء .
(قال) : هذا لا یجری ، و لا یثبت کون ما أتی به مسقطاً إلّا علی القول بالأصل المثبت ، و قد علم اشتغال ذمّته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی .
هذا بالنسبة إلی الإعادة فی الوقت .
و أمّا القضاء ، فلا یجب ، بناءً علی أنه فرض جدید ... و إلّا فهو واجب ...
هذا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة رحمه اللّٰه فی هذه المسألة .
و بما ذکرنا فی توضیح التفصیل المذکور عن صاحب (الکفایة) ، یتّضح اندفاع إیراد المحقق الإیروانی فی (التعلیقة) (1) بعدم الوجه فی التفصیل بین مقتضی الاصول و مقتضی القول بالسببیّة فی الأمارات ، و أنه کان علی (الکفایة) أن یذکر الصّور الأربع فی الاصول کما ذکرها بناءً علی السببیّة ، و ذلک : لما تقدَّم من أن الأصل إذا جری فلا یُوجد مصلحةً فی المتعلَّق ، بخلاف الأمارة - بناءً علی السببیّة - فهی تأتی بالمصلحة فیه ، إذ الأصل لا مصلحة فیه إلّا فی جعله ، و تلک المصلحة هی التسهیل علی المکلَّفین کما فی قاعدة الطهارة ، أو التضییق کما فی أصالة الاحتیاط ، فإنّ ملاکه هو التحفّظ علی الواقع بالإتیان بالمحتملات ، و لا توجد مصلحة فی نفس المحتملات ، و کذلک البراءة ، فإنّها توسعة و تسهیل علی المکلّفین .
ص:201
و الحاصل : إن الاصول إذا قامت لا تصیّر المتعلَّق ذا مصلحةٍ و ملاک ، بخلاف الأمارة - بناءً علی السببیّة - فإنّها إذا قامت ، کان المتعلَّق ذا مصلحة ، و حتی بناءً علی المصلحة السلوکیّة التی صوّرها الشیخ الأعظم ، لا یکون المؤدی ذا مصلحة ، فکیف بمسلک الأشاعرة ؟
فما ذکره - رحمه اللّٰه - لا یتوجّه علی تفصیل (الکفایة) .
و نقل الاستاذ دام بقاه عن المیرزا (1) خمسة إشکالات علی (الکفایة) ، فیما ذهب إلیه من الإجزاء ، فأجاب عن ثلاثةٍ منها ، و أثبت اثنین ، و ناقش المحقق الأصفهانی فیما ذکره جواباً عنهما :
إن صاحب (الکفایة) لا یری حکومة أدلّة الاصول علی أدلّة الأحکام الأوّلیّة ، فهو لا یری تقدّم أدلّة «لا ضرر» مثلاً علی أدلّة الأحکام و العناوین الأوّلیّة ، کما لا یری حکومة الأمارات علی الاصول العملیّة ، و السرّ فی قوله بعدم الحکومة فی تلک الموارد هو : أنه یری ضرورة شارحیّة الدلیل الحاکم بالنسبة إلی المحکوم ، و لا شارحیّة لأدلّة لا ضرر و لا لأدلّة الأمارات ... و إذا کان هذا هو المناط ، فإنّه لا شارحیّة لدلیل قاعدة الطهارة بالنسبة إلی الأدلّة التی اعتبرت الطهارة و الحلیّة فی لباس المصلّی ، و حینئذٍ ، کیف تتم الحکومة التی استند إلیها هنا ؟
بأنّه کان ینبغی الدقّة فی سائر کلمات المحقق الخراسانی فی (الکفایة) و
ص:202
(حاشیة الرسائل) ، فهو و إنْ خالف الشیخ الأعظم فی حقیقة الحکومة ، إلّا أنه فی تعلیقته علی کلام الشیخ فی باب التعادل و التراجیح ، حیث ذکر الشیخ کون الحکومة بنحو الشرح و التفسیر ، مثل «أی» و «أعنی» و نحو ذلک ، قال رحمه اللّٰه : الحکومة تتحقّق بکون الدلیل الحاکم معمّماً لموضوع الدلیل المحکوم أو مضیّقاً لدائرته ، و قد صرّح هناک بتقدّم أدلّة الأمارات بالحکومة علی أدلّة الاصول من جهة رفعها لموضوعها و هو الشک و الجهل ، لأن الجهل مأخوذ فی موضوع أدلّة الاصول و أدلّة الأمارات تفید الإحراز ، و لا یلزم فی الحکومة انعدام موضوع المحکوم من جمیع الجهات .
و أیضاً : فقد قال فی مبحث الاستصحاب بحکومة الأمارات علیه ، و صرّح بأنَّ الأمارات حاکمة علی جمیع الاصول (1) .
و بالنسبة إلی حکومة «لا ضرر» ، فإنّه - فی بحث التعادل و التراجیح من (الکفایة) فی کلامٍ له ناظرٍ إلی کلام الشیخ فی معنی الحکومة - یصرّح بحکومة لا ضرر علی أدلَّة الأحکام . و کذلک فی آخر مبحث البراءة من (الحاشیة) حیث یورد کلام الفاضل التونی ، فهناک أیضاً یصرّح بأنّ وزان «لا ضرر» وزان « فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ » (2)، فالإشکال المذکور من المیرزا فی غیر محلّه .
إن الحکومة إنما تتحقّق لو جعلت الطهارة و الحلیّة من قبل ، ثم جاء الدلیل علی کونهما أعمّ من الواقعیّة و الظاهریة ، و لکنّ قاعدتی الطهارة و الحلّ
ص:203
لا یفیدان الأعمیّة بل فیهما جعلٌ للطهارة و الحلّ ، و إذا کان لسانهما ذلک فلا حکومة .
بأنّ هذا أیضاً ناشئ من عدم التأمّل فی کلماته فی (الکفایة) و فی (الحاشیة) ! و معنی کلامه فی (الکفایة) فی هذا المقام هو : إن الدلیل الأوّلی لفظه : «لا صلاة إلّا بطهور» ، و مفاد قاعدة الطهارة : إن مشکوک الطهارة طاهر .
و یقول رحمه اللّٰه فی (الحاشیة) فی مباحث الاستصحاب و التعادل و التراجیح - خلافاً للشیخ - بأنّ مناط الحکومة لیس الشرح و التفسیر للدلیل المحکوم ، بل جعل الفرد لموضوع ذاک الدلیل ، فإذا أفاد الدلیل الأوّلی شرطیة الطهارة للصلاة ؛ فالقاعدة مفادها أن الشیء المشکوک فی طهارته طاهر ، فتصح الصلاة فیه ، فکان وزانهما وزان «أکرم العلماء» و «ولد العالم عالم» ... فصاحب (الکفایة) یری أن لسان دلیل القاعدة لسان التعمیم .
إن ما ذکره وجهاً للإجزاء فی مورد الاصول یجری فی مورد الأمارات بالأولویّة ، لأن فی مورد الاصول لیس إلّا التعبّد بالعمل ، أمّا فی الأمارات ، فالشارع یجعل الإحراز و الطریقیة إلی الواقع ، فیکون المصلّی مع الثوب المشکوک فی طهارته - القائم علی طهارته الأمارة - قد صلّی مع الطهارة المحرزة ، و مقتضی ذلک هو الإجزاء ، فلا وجه للتفصیل بین الاصول و الأمارات .
بأنّ مفاد دلیل القاعدة جعل الشرط و هو الطهارة و الحلیّة ، و إذا جعل
ص:204
بالأصل الشرطُ کان الإجزاء علی القاعدة ، لأن العمل أصبح واجداً للشرط ببرکة «کلّ شیء لک طاهر» أو «حلال» ، بخلاف الأمارة ، فلو قامت البیّنة علی الطهارة ، لم یکن مفادها جعل الطهارة فی الثوب ، فالأصل یفید الطهارة و الأمارة تفید إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ... و الإحراز ینعدم بکشف الخلاف کما هو واضح ، فالأصل یثبت الشرط و الأمارة لا تثبته ... و هذا هو الفرق ، و التفصیل سالمٌ عن هذا الإیراد .
هذا تمام الکلام فی الإشکالات الثلاثة .
إن موضوع الأصل قد اخذ فیه الشک فی الواقع ، فقاعدة الطهارة جاعلةٌ للطهارة للشیء ، لکنّ موضوع هذه القاعدة هو الشک فی الطهارة الواقعیّة ، و کذا الحال فی أصالة الحلّ ، و من الواضح أنّ کلّ حکمٍ مجعول فهو فی مرتبة متأخّرة عن موضوعه ، فتکون الطّهارة و الحلیّة متأخّرتین رتبةً عن الشکّ فی الحلیّة و الطهارة الواقعیّتین ، ثم إنّ هذا الشک متأخّر عن نفس الطهارة و الحلیّة الواقعیّتین .
و علی هذا ، فالمجعول فی الاصول - و هو التوسعة فی الواقع و کون الطهارة أعم من الواقعیّة و الظاهریة - متأخّر عن الواقع بمرتبتین ، و مع هذا التأخّر ، کیف تتحقق التوسعة و الحکومة ؟
و بعبارة أخری : إن من الشروط التی اعتبرها الشارع فی لباس المصلّی هو الطهارة ، فإذا تحقّق هذا الشرط تمّ الإجزاء و إلّا فلا ، و تحقّقه بالحکومة - کما ذکر فی (الکفایة) - یتوقّف علی کون الدلیل الحاکم فی مرتبة الدلیل المحکوم . و حینئذٍ ، یتحقّق الشرط بالتعمیم و التوسعة الحاصلة بالحکومة ، کما
ص:205
هو الحال فی مثل «الطواف بالبیت صلاة» ، لکن دلیل قاعدة الطهارة لیس فی عَرض دلیل اعتبار الطهارة ، بل هما فی الطول کما تقدَّم ، و مع الطولیّة یستحیل الحکومة ، و الإجزاء محال .
و حاول المحقق الأصفهانی (1) الدفاع عن رأی (الکفایة) فقال : بأنّ هذا الإشکال إنما یرد لو ارید الواقع واقعاً ، لکنّ ذلک لیس بلازمٍ ، بل یکفی تعمیمه عنواناً ، و هذا مفاد قاعدة الطهارة ، فإن مفادها جعل الطّهارة العنوانیة ، و حینئذٍ ، تترتّب علی هذه الطهارة آثار الطهارة الواقعیّة ، و منها صحة الصّلاة ، فتصحّ الصّلاة معها کما تصحّ مع الطهارة الواقعیّة .
و أورد علیه الاستاذ : بأنّ عنوان الشیء غیر الشیء ، فالطهارة العنوانیّة مغایرة للطّهارة ، و إذا کان الأثر یترتب علی الطهارة العنوانیّة فإنّما هو إلی زمان وجودها المتفرّع علی الشک فی الطّهارة الواقعیة ، و بمجرّد زوال الشک فلا یبقی موضوع للطهارة العنوانیّة ، و إذ لا موضوع فلا حکم ، لاستحالة بقاء الحکم بعد زوال الموضوع ، و حینئذٍ یبقی إطلاق دلیل الطّهارة الواقعیة بوحده .
و حاصل إشکال المیرزا هو : إن الحکومة و ترتّب الأثر علی الطهارة الظّاهریة - أو العنوانیة کما یقول المحقّق الأصفهانی - إنما یکون ما دام الشک موجوداً ، أمّا مع زواله و انقضاء ظرف الشک و انکشاف الخلاف ، فلا دلیل علی کفایة العمل بالأمر الظاهری .
ص:206
فما ذکره المحقق الأصفهانی غیر دافع للإشکال .
إنه لو تمّت هذه الحکومة - کما یقول صاحب (الکفایة) - لترتّب الأثر فی جمیع الأبواب و المسائل ، لا فی خصوص الصّلاة فی الثوب المشکوک فی طهارته ، فلا بدّ من إجراء قاعدة الطهارة فی المغسول بالماء الطاهر ظاهراً بحکم القاعدة ، و القول بطهارته بعد انکشاف الخلاف ، و الحال أنه لا یلتزم بهذا !
و أیضاً : فی قاعدة الحلّ فی الموارد المشابهة ، و کذلک فی الاستصحاب مثلاً ، فلو شک فی بقاء ملکیّة زید للکتاب ، و استصحبت الملکیة ، ثم اشتری منه و انکشف الخلاف ، فهل یقول صاحب (الکفایة) ببقاء المعاملة ؟
و الحاصل : إنْ کانت الحکومة هذه واقعیّةً ، فهی تجری فی کلّ باب و فی کلّ مسألةٍ ، و التخصیص لا وجه له ، و لکنّه لا یلتزم بذلک و لا غیره من الفقهاء ، و هذا یکشف عن کونها ظاهریةً ، و الحکومة الظاهریّة تزول بزوال الشک و انکشاف الخلاف .
و أجاب المحقّق الأصفهانی رحمه اللّٰه : بأنّ الاعتبارات علی قسمین ، منها : ما یکون فعلیّته منوطاً بالوصول ، و ما لم یصل الاعتبار إلی المکلَّف أمکن للمعتبر أن یعتبر علی خلاف ذاک الاعتبار ، و من ذلک : البعث مثلاً ، فإنه ، و کذا الزجر ، إنما یکون فعلیّاً إذا وَصَل ، و إلّا فلا باعثیّة و زاجریّة ، ففعلیّة ذلک تدور مدار الوصول ، لذا یمکن للمولی أنْ یأمر بشیء و یجعل - فی ظرف شک العبد فی الأمر - حکماً علی خلافه ، لأنه فی ظرف الشک فی
ص:207
الأمر ، لا باعثیّة لذلک الأمر حتی لو کان واقعیّاً ، لأنه غیر واصل إلی العبد و مشکوک فیه .
و منها : ما لیس فعلیّته دائراً مدار الوصول ، کالملکیّة و النجاسة مثلاً ، و لذا لا یعقل اعتبار ملکیّة الدار لزید ، و اعتبارها مع الجهل بذلک لعمر و ...
و کذا النجاسة ...
(قال) و بهذا یندفع ما أورده المیرزا علی (الکفایة) من النقض : بأنّ لازم حکومة قاعدة الطّهارة هو طهارة الملاقی للنجس حتّی بعد انکشاف الخلاف ، و ذلک : لأنَّه لمّا لم تکن فعلیّة النجاسة متقوّمةً بالوصول ، کان معنی القاعدة هو ترتیب آثار الطّهارة کالصّلاة فی هذا الثوب ، أمّا أن یقال بطهارة الملاقی للنجس فلا ، لأنَّ الشارع لا یجعل الطهارة فی النجس کی یکون ملاقیه طاهراً ، لأنّ النجاسة لیست من الأحکام المتقومة بالوصول ، بل هی حکم واقعی سواء علم به أو لا .
و الحاصل : إن مفاد القاعدة ترتیب آثار الطهارة علی الثوب بالقدر غیر المخالف لأثر النّجاسة الواقعیة ، لذا یلزم التفکیک فی ترتیب الآثار بین صحّة الصّلاة فی الثوب مثلاً ، و بین حکم الملاقی للنجس .
و أجاب الاستاذ دام بقاه : بأنّ ظاهر قاعدة الطّهارة - و کذا قاعدة الحلّ - هو جعل نفس الطّهارة و الحلیّة ، لا جعل الأحکام و الآثار ، حتی یفصَّل بینها کما ذکر . و ما نصَّ علیه من امتناع جعل الطّهارة مع وجود النجاسة الواقعیّة معناه رفع الید عن الدلیل و ما هو ظاهر فیه فی مقام الإثبات ، و هذا غیر جائز إلّا ببرهانٍ عقلیّ یقتضی ذلک ، و لا برهان من العقل ، لأنَّ المحقق الأصفهانی
ص:208
من القائلین بعدم التضاد بین الأحکام ، لکونها جمیعاً وجودات اعتباریّة ، و التضاد من لوازم الامور الواقعیّة ، و لقد نصّ فی الجمع بین الحکمین الظاهری و الواقعی علی أنْ لا تضاد بین الأحکام أنفسها ، بل التضادّ یکون إمّا بین مبادئ الأحکام و عللها ، أو بین المعلولات ، فهو إمّا فی المبدإ - أی مرحلة الملاک - و إمّا فی المنتهی - أی مرحلة الامتثال - ، و فیما نحن فیه لا یوجد التضاد أصلاً ، أمّا فی المبدإ ، فلأنّ النجاسة الواقعیّة ملاکها وجود المفسدة فی نفس الموضوع ، و الطّهارة الظاهریة ملاکها المصلحة فی الجعل و الاعتبار ، فلم تجتمع المصلحة و المفسدة فی شیء واحدٍ فلا یلزم التضاد .
و أمّا فی المنتهی فکذلک ، لأنّه ما دام الشک موجوداً فالنجاسة الواقعیة غیر محرزة ، فلا یترتب علیها وجوب الاجتناب ، و إذا زال الشک فلا موضوع للحکم الظاهری ، و وجب الاجتناب الذی هو أثر النجاسة الواقعیّة .
إذن لا تضاد ، لا فی مرحلة الملاک ، و فی مقام الامتثال .
وعلیه ، فلا مانع من الحکم الظاهری فی مقام العمل و الامتثال ما دام موضوعه موجوداً .
نعم ، إنما یتم الدفاع علی مبنی المحقق الخراسانی القائل بوجود التضاد بین الأحکام أنفسها ، و یکون الإشکال علیه بما ذکر إشکالاً مبنائیّاً .
و فی (المحاضرات) (1) الإشکال علیه حلّاً ، بعد النقض بما تقدَّم : إنّ قاعدتی الطّهارة و الحلیّة و إنْ کانتا تفیدان جعل الحکم الظاهری فی مورد الشک فی الواقع و الجهل به ، من دون نظر إلیه ، إلّا أن ذلک مع المحافظة علی
ص:209
الواقع ، بدون أنْ یوجب جعله فی موردهما انقلاباً و تبدیلاً له أصلاً .
(قال) و السبب فی ذلک : ما حققناه فی مورده من أنه لا تنافی و لا تضاد بین الأحکام فی أنفسها ، ضرورة أن المضادّة إنما تکون بین الامور التکوینیّة الموجودة فی الخارج ...
قد ظهر أنّ هذا مسلک المحقق الأصفهانی ، و أنه هو الأصل فی هذا التحقیق ، لکنَّ صاحب (الکفایة) یذهب إلی وجود التضادّ بین الأحکام فالإشکال علیه بعدمه إشکال مبنائی کما عرفت .
و أمّا قوله فی ذیل کلامه : «فالأحکام الظّاهریة فی الحقیقة أحکام عذریّة فحسب ، و لیست أحکاماً حقیقیّة فی قبال الأحکام الظاهریّة ...» (1) .
ففیه - مع احتمال کون الکلمة من المقرّر لا منه - أنه منافٍ لما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی و الحکم الظاهری ، من وجود الحکم المجعول من ناحیة الشارع فی مورد الحکم الظاهری ، و علی هذا ، فلا معنی لأنْ یکون الحکم الظّاهری مجرّد عذرٍ للمکلَّف .
و تلخّص :
ورود الإشکالین علی المحقق الخراسانی ، و بذلک یظهر أن الحق عدم الإجزاء فی موارد الاصول .
هذا تمام الکلام فی هذه الجهة .
و أمّا الأمارات ، فقد بحث عنها فی (الکفایة) من حیث إفادتها الإجزاء
ص:210
و عدم إفادتها له ، تارةً بناءً علی الطریقیة ، و اخری بناء علی السببیّة ، و ثالثة :
فیما لو شک فی السببیّة و الطریقیّة .
و لا یخفی : أنهم أخرجوا من البحث ما لو قطع بالحکم ثم انکشف الخلاف ، و کذا لو قطع بالخلاف ، و کذا ما لو قامت البیّنة علی الموضوع کالطهارة مثلاً و انکشف الخلاف بحجّة شرعیة علی النجاسة . و کذا ما لو تخیّل الفقیه حکماً ظاهریّاً و انکشف عدمه ، کما لو تخیّل ظهور لفظٍ فی معنیً و أفتی علی طبقه ثم تبیّن له عدم الظهور . (قالوا) : و الذی یدخل فی البحث ما لو کان اللّفظ ظاهراً - کالظهور فی العموم مثلاً - و أفتی علی طبقه و عمل ، ثم ظهر المخصّص له ، أو رأی أنّ «ابن سنان» فی الروایة هو «عبد اللّٰه» فأفتی بالاستناد إلیها و عمل بها لوثاقته ، ثم تبیّن أنه «محمد» علی القول بضعفه .
لکن الظاهر دخول ما لو عمل بأمارةٍ ثم انکشف الخلاف بالقطع ، و کذا دخول ما قامت الأمارة - کالبیّنة - علی موضوعٍ کالطّهارة .
و کیف کان ، أمّا بناءً علی الطریقیّة ، فالمشهور بین المحققین عدم الإجزاء . و قیل بالإجزاء .
و قد ذکر الاستاذ فی الدّورة السابقة ثلاثة ، و فی اللّاحقة خمسة وجوه ، و قد أجاب عنها کلّها :
إن الأمارة الاولی حجّة ، و الأمارة الثانیة أیضاً حجّة ، و القول بعدم الإجزاء مبناه تقدیم الثانیة ، و هذا ترجیح لإحدی الحجّتین علی الاخری بلا مرجّح .
ص:211
و فیه : إنه واضح الفساد ، لأنه مع قیام الثانیة لا حجیّة للاولی ، فالأخذ بالثانیة هو الأخذ بالحجّة ، و علی فرض التنزّل ، فإن الأمارتین تتعارضان و تتساقطان ، فلا یبقی للإجزاء وجه .
إن العمل علی طبق الأمارة السّابقة قد وقع ، و ذلک الظرف قد مضی ، و لا یمکن أن یکون للحجّة اللّاحقة أثر بالنسبة إلی ذاک العمل ، بأنْ یکون منجّزاً له ، فلا بدّ و أنْ یکون الأمارة السّابقة هی الحجّة علی العمل ، و مقتضی القاعدة حینئذٍ هو الإجزاء .
و فیه : إنّ الحجة الثانیة غیر منجّزة للعمل السابق و غیر مؤثرة فیه فی الظرف السابق ، لکن لها أثر فی التنجیز بالنسبة إلیه بقاءً ، إمّا إعادةً و إمّا قضاءً ، لأنه أثر باق ، و هذا الأثر قابل للتنجیز .
إن الحجّة الثانیة فی ظرف العمل السابق لم تکن واصلةً إلی المکلَّف کی تکون حجةً ، و قد تقرّر أن الحجیّة تدور مدار الوصول ، بل کان الواصل هو الحجّة الاولی و قد وقع العمل علی طبق الحجّة ، و مقتضی القاعدة إجزاؤه .
و فیه : إنه عند ما تقوم الحجّة الثانیة و تصل إلی المکلَّف ، تکون طریقاً إلی الواقع بالنسبة إلی جمیع الأعمال ، فإذا تبدّل رأی المجتهد من فتوی إلی اخری ، أفادت الثانیة أنّ الحکم الإلهی فی المسألة کذا ، و أن العمل السابق قد وقع علی خلاف الشریعة المقدَّسة ، إذنْ ، تجب إعادته أو قضاؤه و لا إجزاء .
إنّ القضیّة الواحدة لا تتحمَّل اجتهادین ، فحکم العمل یکون علی الاجتهاد الذی وقع علی طبقه ، و هذا هو الإجزاء .
و فیه : قد تکون القضیّة الواقعة طبق الاجتهاد السابق باقیةً إلی زمان
ص:212
الاجتهاد اللّاحق ، کما لو ذبح حیوان بغیر الحدید ، فأُکل من لحمه ، و کانت بقیة اللّحم موجودةً حین الاجتهاد الثانی بأنّه یشترط فی الذبح أن یکون بالحدید ، فلا یجوز أکل هذا اللّحم ... فإذا کان الموضوع باقیاً تحمّل اجتهادین .
و أیضاً : فإنْ الصّلاة - مثلاً - و إنْ وقعت علی طبق الاجتهاد السابق بتسبیحةٍ واحدةٍ - مثلاً - لکنّ أثرها باق ، فهی مورد للإعادة و القضاء بثلاثة تسبیحات ، فهی تتحمّل الاجتهادین بلحاظ الأثر .
لزوم العسر و الحرج و الضرر من القول بعدم الإجزاء .
و فیه : هذا اللّزوم تام لو کان الموضوع فی هذه القواعد هو الحرج و العسر و الضرر النوعیین ، و لکنه شخصی .
هذا تمام الکلام فی الوجوه المقامة علی الإجزاء .
أقول :
و الصحیح أنّها ثلاثة کما ذکر فی الدورة السابقة ، لان الوجهین الثانی و الثالث یرجعان إلی وجهٍ واحد . و الخامس یرجع إلی الأدلَّة الثانویة و کلامنا فی الأولیّة .
لکن مقتضی الصناعة إقامة البرهان علی عدم الإجزاء :
إن الدلیل القائم علی التکلیف الواقعی أو علی موضوعه الواقعی ، ذو جهتین علی مسلک العدلیة ، فهو من جهةٍ یقتضی الامتثال و الإطاعة ، فإذا قام الدلیل علی وجوب صلاة الظهر - مثلاً - کان علّةً لامتثال هذا الحکم ، فهذه جهة إنّیة . و من جهةٍ : یکون کاشفاً عن الملاک و الغرض للمولی من هذا
ص:213
الحکم ، فهو معلول للملاک ، و هذه جهة لمّیة - ینکرها الأشاعرة - .
و علی هذا ، فإنّ إجزاء صلاة الجمعة عن صلاة الظهر إنّما یتمُّ بتصرّف الدلیل القائم علیها - و هو الأمارة - فی احدی الجهتین ، و إلّا ، فإنّ دلیل الواقع یقتضی الامتثال و العقل یحکم بذلک - تحصیلاً لغرض المولی من الجهة الأولی ، و خروجاً عن اشتغال الذمّة من الجهة الثانیة - حتی یأتی البدل عن الحکم الواقعی ، کما فی قاعدة الفراغ مثلاً ، الدالّة علی قبول العمل بدلاً عن الواقع فی مرحلة الامتثال .
و الحاصل : إنه لا بدَّ و أنْ تتصرّف الأمارة فی إحدی الجهتین ، لأنه إذا تصرَّف فی مرحلة الامتثال سقط الاشتغال بالواقع ، لأن موضوع حکم العقل هنا أعمّ من الامتثال الظاهری و الواقعی ، و کذلک إذا تصرّف فی مرحلة الملاک ، لأن الحکم إنما یؤثّر فی الامتثال فیما إذا بقیت العلّة له ، و بتصرف الأمارة لا تبقی العلّة فلا یجب امتثال ذاک الحکم .
هذه کبری القضیّة .
فهل دلیل الحکم الظاهری یتمکن من التصرّف فی إحدی الجهتین المذکورتین حتی یتم الإجزاء ، أو لا ؟
مثلاً : لو أفتی المجتهد بکفایة التسبیحة الواحدة ، و عمل المقلِّد بذلک ، ثم تبدّل رأیه أو قلَّد مجتهداً آخر یفتی بوجوب الثلاث ... هذا بالنسبة إلی المقلِّد . و کذا المجتهد نفسه ، فلو أفتی طبق عامٍ لم یظفر بمخصّصٍ له ، فکان حجةً عنده ، ثم ظفر بالخاص و أفتی علی طبقه لکونه الحجة الفعلیّة ، فما هو حکم الأعمال السابقة ؟
أمّا فی مرحلة الملاک ، فلا یمکن التصحیح ، لأن الملاک کان علةً للحکم
ص:214
الأوّل ، و لا یعقل أن یصیر ملاکاً للحکم الثانی الذی قامت علیه الأمارة ، فلا الأمارة نفسها و لا دلیل اعتبارها یتکفّل تحقّق الواقع بالعمل علی طبق الأمارة ، إذْ لم تکن الأمارة إلّا کاشفةً عن الواقع ، و دلیل اعتبارها لا یفید إلّا جعل الطریقیّة لها ، و لا یوجد فی مورد قیام الأمارة أکثر من هذا ، و حال الأمارة لیس بأحسن من حال القطع ، فلو قطع بتحقّق الطهارة - مثلاً - لم یثبت الشرط الواقعی فی لباس المصلّی ، و لا یفید القطع ثبوت ملاک الطهارة الواقعیّة فیه ...
و کذا لو قطع بوجوب صلاة الجمعة .
إذن ، لا یمکن للأمارة نفسها و لا دلیل اعتبارها التصرف لا فی الملاک ، و لا فی مرحلة الامتثال ، لأنَّ حال الأمارة لیس بأقوی من حال القطع ، فکما أنه بعد انکشاف الخلاف یسقط القطع عن التأثیر و یقال ببقاء الغرض و عدم حصول الامتثال ، کذلک عند انکشاف مخالفة الأمارة للواقع .
هذا کلّه بناءً علی مسلک الطریقیّة بمعنی الکاشفیة عن الواقع ... و إذا لم یمکن ذلک ثبوتاً ، فلا تصل النوبة إلی البحث الإثباتی .
أمّا علی مسلک جعل الحکم المماثل ، أی إنه بقیام الأمارة علی وجوب الجمعة - مثلاً - یتحقّق جعلٌ من الشارع بوجوبها ، ففی المورد جعلٌ من الشارع ، و هذا الجعل لیس بلا ملاک ، فإذا امتثل العبد هذا الحکم سقط التکلیف ، لأنه حکمٌ ذو ملاک ، فلا بدٌ من القول بالإجزاء علی هذا المسلک .
لکنْ لیس الأمر کذلک ، لأن الحکم المماثل إنما یکون مجعولاً ما دام موضوعه موجوداً ، إذ لا یعقل بقاؤه بعد زوال موضوعه ، و لا ریب أن الموضوع للأمارة هو الشک ، و إنْ لم یکن الشک مأخوذاً فی لسان أدلّتها فی مقام الإثبات ، نعم ، قد قیل بکون الشک مأخوذاً فی آیة السؤال ، و هو من
ص:215
جملة أدلّة اعتبار الأمارة . لکن تقرّر فی محلّه عدم تمامیة الاستدلال بالآیة .
و علی الجملة ، فالعقل کاشف بکون الموضوع هو الشک . و حینئذٍ : ما الدلیل علی إطلاق هذا الحکم الظاهری المستفاد من الأمارة علی هذا المسلک ، بأنْ یکون باقیاً حتی بعد زوال الشک ؟
إنه لا یعقل بقاء الحکم بعد زوال موضوعه ، فإذا قامت أمارة علی خلاف الحکم السابق ، لا یبقی شک ، و حینئذٍ لا یبقی حکم مماثل للحکم الواقعی ، إذْ بقیام الأمارة علی الخلاف یکون الواقع قد انکشف ، و ظهر وقوع العمل علی خلاف الواقع ، لأن المفروض دلالة الأمارة الثانیة علی کون الواجب فی الشریعة هو صلاة الظهر لا صلاة الجمعة ... فملاک صلاة الظهر باق علی حاله ، و هو یستدعی الامتثال ، و قد وصل بالأمارة الثانیة ، و العقل یحکم بلزوم تحصیله .
و أمّا علی مسلک جعل المؤدّی ، فأمّا علی أن المراد هو جعل الشارع مؤدّی خبر زرارة - مثلاً - فی ظرف قیامه ، فلا فرق بینه و بین جعل الحکم المماثل . و أما علی أنّه لمّا یقوم خبر زرارة یکون المخبر به حکماً واقعیّاً ، بمعنی أن الإمام یعتبر قول زرارة قوله واقعاً - کما جاء فی الصحیحة فی العمری «فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی و ما قال لک فعنّی یقول» (1) - فإنه علی هذا یکون قد وسّع الإمام علیه السلام الواقع ، و جعل مفاد روایة زرارة مصداقاً له ، فإذا عمل المکلَّف علی طبقه لم یفت عنه شیء من الواقع ، و حینئذٍ یشکل القول بعدم الإجزاء .
لکنّ الجواب عنه هو : إن هذه التوسعة - علی أیّ حال - ظاهریّة و لیست
ص:216
بواقعیة ، و إلّا لزم التصویب الباطل ، و إذا کانت ظاهریّة فهی ما دام موضوعها - و هو الشک - موجوداً ، و بعد زواله ینتفی اعتبار الشارع للمؤدّی ، فتقول الأمارة اللّاحقة بوجوب صلاة الظهر ، لکون الواجب فی الشریعة هذه الصلاة لا صلاة الجمعة .
هذا کلّه بناءً علی الطریقیّة و سائر المبانی فی قبال السببیّة .
و أمّا بناءً علی السببیّة ، فقد فصّل المحقق الخراسانی بین الأمارة القائمة علی الموضوع و القائمة علی الحکم ، فقال بالإجزاء فی الاولی دون الثانیة .
أمّا السببیّة علی مسلک الأشاعرة - بناءً علی صحة النسبة إلیهم - ، و هو کون الحکم تابعاً للأمارة من البیّنة و الخبر و قول المجتهد ... و أنه لولاها فلا حکم فی الواقع ... فلا محیص عن الإجزاء ، لأن المفروض عدم وجود واقعٍ سوی ما قامت الأمارة علیه ، و إذْ لا واقع ، فلا موضوع للبحث عن الإجزاء و عدمه ، لأن المقصود من هذا البحث هو کفایة المأتی به أو عدم کفایته عن الواقع ...
لکنّ السببیّة بالمعنی المذکور محال ثبوتاً ، لأن الأمارة یعنی العَلامة ، فلا بدَّ و أنْ تقوم علی شیءٍ یکون هو ذا العلامة ، و إذا لم یکن هناک واقع فلا مفهوم للأمارة و لا معنی لأن تکون حاکیةً .
أقول :
و لا یرد علیه أنه إن کان هذا هو الإشکال ، فالعمدة فیه و المحور له عنوان «الأمارة» و هو لیس إلّا اصطلاحاً ، فلهم أن یصطلحوا شیئاً آخر یکون له
ص:217
مفهومٌ علی مسلکهم ... لأنّ المقصود لیس اللفظ بل واقع الأمر هو المقصود بأیّ لفظ کان ، و هو أنه لا بدَّ و أنْ یکون هناک شیء وراء الأمارة . و قد فصّل الاستاذ دام بقاه الکلام علیه فی الدورة السّابقة ، فذکر الإشکال عن المحققین کالعراقی و (المحاضرات) من أنّ الامارة لا بدّ و أنْ تکون حاکیة و کاشفة عن شیء ، و لا یعقل الکشف من دون مکشوف ، و الحکایة من دون محکی ، فلو توقّف ثبوته علی قیام الأمارة علیه لزم الدّور أو الخلف .
ثم أورد جواب بعض المحققین عن هذا الإشکال :
نقضاً : بأنَّ الأمارة قد تکون و لا کاشفیّة عن حکمٍ واقعی ، و الأحکام العقلیة لا تقبل التخصیص ، فلا توقّف لوجود الأمارة علی الحکم .
و حلّاً : بأنّ توقف الأمارة علی وجود المحکی و المکشوف ، لا یستلزم کون وجود المحکی و المکشوف وجوداً واقعیّاً بل هو بالوجود العنوانی ، و کذلک العلم فإنه کاشف عن وجود المعلوم العنوانی ، ففرق بین الأمارة المطابقة للواقع ، حیث لا بدّ من کون المحکی واقعیّاً ، و بین ذات الأمارة ، حیث المحکی بها هو الوجود العنوانی للمتعلَّق ، و قد وقع الخلط بینهما ، و للقائل بعدم وجود الأحکام فی متن الواقع و أن الحکم یوجد بقیام الأمارة أن یقول بکون وزان الأمارة وزان الجهل المرکّب ، فکما أن الجهل المرکّب لا واقع له ، کذلک الأمارة القائمة علی حکمٍ صوری ، فإنّها تقوم علی الوجود العنوانی للحکم . إذن ، الأمارة موقوفة علی الوجود العنوانی للحکم ، و أما الحکم الواقعی فمتوقّف علی وجود الأمارة ، فتغایر الموقوف و الموقوف علیه .
قال الاستاذ : و هذا تحقیق رشیق ، یندفع به الإشکال العقلی المذکور ،
ص:218
أعنی لزوم الدور .
لکن لا ریب فی سقوط المسلک المنسوب للأشاعرة ، لأنه خلاف الضرورة من الشرع ، إذ لازمه بطلان بعث الرسل و إنزال الکتب ، و أیضاً : لازمه اختصاص الأحکام الشرعیة بمن قامت عنده الأمارة ، و هذا خلاف المذهب ، إذ الأحکام ثابتة فی الواقع سواء علم بها أو جهلت .
و أمّا علی السببیّة بالمعنی الذی تقول به المعتزلة ، و هو وجود الواقع ، لکنّه فرع للأمارة ، فمتی قامت علی خلافه انقلب عمّا هو علیه و أصبح تابعاً لمفادها ... فلا محیص عن الإجزاء کذلک ، و هو واضح .
لکنّ السببیّة بهذا المعنی - و إن کانت معقولةً ، إذ من الممکن أن یقول بوجود الحکم ما لم تقم أمارة علی خلافه ، فلا مانع ثبوتاً - باطلة إثباتاً ، لقیام الإجماع بل الضّرورة من العدلیّة علی إطلاق أدلَّة الأحکام الواقعیّة ، و أنّها محفوظة سواء طابقتها الأمارة أو خالفتها !!
و أمّا علی السببیّة (1) ، بمعنی القول بوجود الواقع ، لکنّ الأمارة تکون مزاحمةً له ، فتکون مانعةً عنه ، مقدَّمةً علیه من باب التزاحم ... فالإجزاء واضح کذلک .
و هذا - و إنْ کان جائزاً ثبوتاً و ممکناً عقلاً - باطل شرعاً ، لبطلان التزاحم بین الأمارة و الواقع .
و أمّا علی السببیّة ، بمعنی : إن الأحکام الشرعیّة موجودة فی الواقع ،
ص:219
و هی غیر مقیَّدة بعدم قیام الأمارة علی خلافها ، و هی غیر مزاحمة ، إلّا أنّ مقتضی القاعدة عند العدلیّة : أنْ یکون أمر الشّارع بالعمل طبق الأمارة القائمة علی خلاف الواقع من أجل مصلحةٍ فیه تکون بدلاً عن مصلحة الواقع التی فاتت بسبب قیام الأمارة و العمل و السلوک علی طبقها ، فلو قامت الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة ، و کان الواجب فی الواقع صلاة الظهر ، فالحکم الواقعی باقٍ علی حاله ، غیر أنّ الأمارة صارت سبباً لحدوث مصلحةٍ فی العمل و السلوک علی طبقها ، و یتدارک بها ما فات من مصلحة الواقع .
و هذه هی المصلحة السلوکیة التی ذکرها الشیخ الأعظم قدّس سرّه .
فقد ذکر الاستاذ : أوّلاً : توضیح مسلک الشیخ لفهم مراده تماماً . و ثانیاً :
الکلام علیه ثبوتاً و إثباتاً . و ثالثاً : هل یفید الإجزاء أو لا ؟ فهنا جهات ثلاثة :
إن کلمات الشیخ فی هذا المقام مضطربة جدّاً ، غیر أنّ المتحصّل من مجموعها أنّه رحمه اللّٰه یرید الجواب عن إشکال ابن قبة بأنّ فی جعل الأمارات تفویتاً للمصالح الواقعیّة ، و هو قبیح . و أیضاً : یرید الجمع بین الطریقیّة للأمارات و السببیّة ، بمعنی : أنّ الأوامر الدالّة علی حجیّة الأمارات إنما هی أوامر طریقیة ، أی : أوامر ناشئة عن مصلحة التحفّظ علی الواقع ، فلمّا یقول : صدّق العادل ، فهذا الأمر الدالّ علی حجیّة قول العادل ، إنما نشأ - لا لمصلحةٍ فی متعلَّقه - بل عن مصلحة التحفّظ علی الواقع ، لکنْ فی حال فوت مصلحة الواقع ، فإنّ بمصلحة التسهیل علی المکلَّفین - بالعمل علی طبق الأمارة تتدارک تلک المصلحة الفائتة . فإذا قامت الأمارة علی وجوب صلاة الجمعة و الواقع صلاة الظهر - کانت المصلحة فی تطبیق العمل علی الأمارة و ترتیب
ص:220
الأثر علیها ، و هی مصلحة التسهیل علی المکلَّفین ، جابرةً لِما فات من مصلحة صلاة الظهر .
فما دلَّ علی حجیّة الأمارة - مثل صدّق العادل - إنما جاء طریقاً لحفظ الواقع ، و لیس فی متعلَّقه - و هو تصدیق العادل - مصلحة . هذا أوّلاً . و ثانیاً :
إن المجعول بذلک هو وجوب ترتیب الأثر ، إنْ کان حکماً شرعیّاً ، و معنی ترتیب الأثر هو : تطبیق العمل علی الأمارة .
و تلخّص : إنه لیست الأمارة دالّة علی وجود المصلحة فی نفس صلاة الجمعة ، بل هی فی ترتیب الأثر و تطبیق العمل علیها ، و هی مصلحة التسهیل ، و بها یتدارک المصلحة الفائتة .
أمّا ثبوتاً ، فلا یلزم محالٌ من هذا الوجه ، و لا محذور عقلی فی أنْ یجعل الشارع وجوب ترتیب الأثر علی الأمارة لمصلحة التسهیل ، و یتدارک بها ما فات عن المکلَّف من مصلحة الواقع .
و أمّا إثباتاً ، فلا ملزم به ، و قد تقدَّم أن غرض الشیخ منه دفع إشکال ابن قبة ... لکنّ المهم هو الإشکال الذی طرح فی مجلس درس الشیخ علی هذه النظریّة ثم اعتمده المتأخرون ، و ذکره فی (المحاضرات) (1) و حاصله : إن هذا الوجه یستلزم التصویب و أنْ یتغیّر الحکم الواقعی ظهر یوم الجمعة - مثلاً - من الوجوب التعیینی إلی التخییری ، و توضیحه :
إنه إذا کان الحکم الواقعی هو صلاة الظهر ، ثمّ قامت الأمارة علی وجوب الجمعة ، فطبّق المکلّف عمله علیها ، فأدّیٰ صلاة الجمعة و لم
ص:221
ینکشف الخلاف بتاتاً ، و کان عمله وافیاً بتمام مصلحة الواقع ، کان اللّازم أنْ یکون الواجب ظهر یوم الجمعة واجباً تخییریّاً بین صلاة الظهر و صلاة الجمعة ، و هذا یعنی انقلاب الواقع و تبدّله ، و هو باطل .
و قد دفع المحقق الأصفهانی (1) هذا الإشکال : بأنّه یعتبر فی الوجوب التخییری کون العدلین - مثلاً - فعلیّین ، و إلّا فهو لیس بوجوب تخییری ، و فیما نحن فیه لا تتحقّق الفعلیّة للظهر و الجمعة فی وقتٍ واحد ، لأنه ما لم تقم الأمارة علی وجوب الجمعة لم یتحقّق الموضوع و لا فعلیّة للوجوب ، و حینما تقوم الأمارة علیه فالتکلیف غیر فعلی بالنسبة إلی وجوب الظهر ، فلا فعلیّة للوجوب فیهما ، فلا یکون الوجوب تخییریّاً .
قال الاستاذ : لکنّ الوجوب التعیینی أیضاً غیر ممکنٍ هنا علی مسلک المصلحة السلوکیّة ، لأنه کما أنّ أصل الحکم تابع للملاک ، کذلک الخصوصیّة فیه تابعة للملاک ، إذن ، خصوصیة الوجوب التعیینی لا بدّ لها من الملاک کأصل الوجوب ، أمّا فی مقام الثبوت ، فبأنْ یکون الشیء ذا ملاکٍ مع خصوصیّة أن شیئاً آخر لا یقوم مقامه ، و أمّا فی مقام الإثبات ، فیحتاج إلی دلیلٍ مطلق فیدلّ علی وجوبه بنحو الإطلاق ... و علی هذا : إن کانت المصلحة السّلوکیة القائمة بصلاة الجمعة وافیةً بمصلحة الواقع - صلاة الظهر - تماماً ، فجعل الوجوب لصلاة الظهر بنحو الإطلاق محال ، لما تقدَّم من أن معنی الوجوب التعیینی لشیء أنْ لا یقوم شیء آخر مقامه و لا یسدّ مسدّه ، و المفروض أنّ صلاة الجمعة یترتّب علیها ما کان مترتّباً علی صلاة الظهر من المصلحة .
فإذا کان من المحال جعل الوجوب التخییری هنا ، بالبیان الذی ذکره
ص:222
المحقق الأصفهانی ، فکذلک جعل الوجوب التعیینی للظهر بالبیان المزبور ، لأنه حینئذٍ ترجیح بلا مرجّح .
و بهذا یسقط تصویر المحقق الأصفهانی أیضاً للسببیّة (1) ، فإنّه قال بإمکان تصویرها مع عدم لزوم التصویب ، بأنْ تکون مصلحة صلاة الجمعة مغایرةً لمصلحة صلاة الظهر و بدلاً عنها ، إذ البدلیّة مؤکّدة لوجود الواقع فضلاً عن أنْ تکون منافیة له ، و حینئذٍ لا یلزم التصویب .
و وجه سقوط هذا التصویر هو : أنّ هذا البدل ، إنْ کان غیر وافٍ لتمام مصلحة الواقع فلا بدلیّة ، و إنْ کان وافیاً ، فلا ملاک لوجوب الواقع المبدل منه علی وجه التعیین ، و یلزم الترجیح بلا مرجّح .
قال المیرزا (2) : إن مقتضی مسلک المصلحة السلوکیّة هو القول بعدم الإجزاء .
و قال الاستاذ : بأنّ هذا هو الحق ، لأنه مع انکشاف الخلاف فی الوقت أو خارجه ، ینکشف عدم إجزاء العمل المأتی به عن مصلحة الواقع ، لما تقدَّم سابقاً من أنّ وفاء العمل علی طبق الأمارة بمصلحة الواقع موقوف علی دلیلٍ یدلّ علی الإجزاء فی مقام الملاک أو فی مقام الامتثال ، و مع عدمه یکون مقتضی دلیل الحکم الواقعی عدم الإجزاء ، و هنا لا دلیل علی الإجزاء .
و قال فی (المحاضرات) (3) : بأن القول بعدم الإجزاء علی هذا المسلک إنما یتمّ بناءً علی تبعیّة الأداء للقضاء ، و هذا ما لا یمکن إتمامه بدلیل ، إذن
ص:223
لا بدّ من القول بالإجزاء علی هذا المسلک .
و توضیحه : إن فی باب القضاء قولین ، أحدهما : إن القضاء تابع للأداء ، یعنی : إن نفس الأمر بالصّلاة فی الوقت یثبت وجوبها فی خارجه بلا حاجةٍ إلی أمر جدید . و القول الآخر : عدم کفایته لذلک و أن القضاء لیس إلّا بأمر جدید ، لأنّ الأمر بالصّلاة فی الوقت أمر واحد و له متعلَّق واحد ، و لیس بنحو تعدّد المطلوب ، حتی إذا فات الوقت کان المطلوب الثانی بالأمر الإتیان بالصّلاة فی خارج الوقت ، بل الأمر قد تعلَّق بالصّلاة المقیّدة بالوقت ، فإذا خرج الوقت لم یبق الأمر بالصّلاة ، لزوال المقیَّد بزوال قیده ... و إذا کان القول بالتبعیّة باطلاً ، فالقول بعدم الإجزاء علی المصلحة السلوکیة یبطل .
و فیه : إنه لو کان القول بعدم الإجزاء متوقّفاً علی القول بالتبعیّة فالإشکال وارد ، لکنّه موقوف علی تعدّد المطلوب لا علی التبعیّة ، و تعدّد المطلوب غیر مختص بالقول بالتبعیّة ، بل هو أعم ، و ذلک : لأن المطلوب إنْ کان متّحداً ، بأنْ کان الغرض قائماً علی الصّلاة فی الوقت ، کانت الصّلاة بما هی بلا ملاک ، فإذا انتفت الحصّة الخاصّة منها ، و هی الصّلاة فی الوقت ، لم یبقَ لأصل الصّلاة وجوب ، و هذا باطلٌ ، سواء قلنا بالتبعیة أم بکون القضاء بأمر جدید .
إذنْ ، تکون ذات الصّلاة مطلوبةً ، و کونها فی الوقت مطلوب آخر ، و لکلٍّ مصلحة و ملاک ، فإذا انکشف الخلاف ظهر عدم استیفاء مصلحة الصلاة ، و هذا یعنی عدم الإجزاء ، و أنّ الإعادة أو القضاء واجب .
هذا تمام الکلام علی السببیّة بجمیع تصویراتها .
هذا ، و لو شک فی الأمارات ، و لم یظهر للمجتهد أنّ حجیّتها هی من
ص:224
باب الطریقیة أو السببیّة ، فما هو مقتضی القاعدة بالنسبة إلی الإجزاء ؟
قال المحقق الخراسانی (1) ما حاصله : وجوب الإعادة إذا انکشف الخلاف فی الوقت ، لأنه قد أتی بالعمل مع الشک بین الطریقیّة و السّببیّة ، فیشک فی وقوع الامتثال و تحقّقه ، و مقتضی قاعدة الاشتغال وجوب الإعادة .
أمّا القضاء ، فبما أنه بأمرٍ جدیدٍ ، و هو معلَّق علی صدق عنوان «الفوت» لکونه مأخوذاً فی موضوعه ، و صدقه غیر محرزٍ هنا ، فلا یجب ... و لا یتم صدق العنوان باستصحاب عدم الإتیان بالواجب ، لأنه أصل مثبت .
و أورد علیه فی (المحاضرات) (2) فی التمسّک بقاعدة الاشتغال لوجوب الإعادة إن انکشف الخلاف فی الوقت ، بأنّ المقام مجری البراءة لا الاشتغال .
و حاصل کلامه : إن مقتضی القاعدة علی القول بالسببیّة هو الإجزاء ، إذ معنی هذا القول کون الواقع هو مؤدّی الأمارة ، و مقتضی القول بالطریقیّة هو عدم الإجزاء ، و معناه أن الواقع مغایر لمؤدّی الأمارة ، فلو أتی بالعمل مع دوران الأمر ، و انکشف کونه علی خلاف الواقع ، لم تکن ذمّته مشغولةً یقیناً قبل العمل بالواقع حتی یقال بأن الاشتغال الیقینی یقتضی البراءة الیقینیّة ، و مع الشک فی اشتغال الذمّة تجری البراءة .
(قال) و بکلمةٍ أخری : لقد أوجد الشکّ بین الطریقیّة و السببیّة علماً إجمالیّاً بوجود تکلیفٍ مردّدٍ بین تعلّقه فعلاً بالعمل بالمأتی به و بین تعلّقه بالواقع الذی لم یؤت به ، إلّا أنه لا أثر لهذا العلم الإجمالی ، و لا یوجب
ص:225
الاحتیاط ، لأن هذا العلم قد تحقّق بعد الصّلاة فی ثوبٍ حکم بطهارته بالبیّنة ، فبعد الإتیان بها و انکشاف الخلاف بالأمارة مثلاً حصل العلم باشتغال الذمّة ، إمّا بما قامت علیه البیّنة و هو الطهارة ، و إمّا بما دلّت علیه الأمارة فعلاً و هو النجاسة ، لکنّ هذا العلم بالنسبة إلی مقتضی البیّنة غیر مؤثر ، و تبقی الأمارة ، لکنّه بالنّسبة إلی مقتضاها شک بدوی ، فتجری البراءة ، لأن المورد صغری لما تقرّر من أن أحد طرفی العلم الاجمالی أو أطرافه إذا کان فاقداً للأثر فلا مانع من الرجوع إلی الأصل فی الطرف الآخر ، کما لو علم بوجوب صوم یوم الخمیس علیه فصام ، ثم یوم الجمعة شک فی أنه هل کان الواجب علیه صوم الخمیس أو هذا الیوم - الجمعة - ، فإن العلم الإجمالی حینئذٍ غیر مؤثر لیوم الخمیس ، لفرض أنه قد أتی بالصوم فیه ، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة بالنسبة إلی الجمعة .
قال الاستاذ : إن تقریب المحقق الأصفهانی مبنی (الکفایة) فی (الاصول علی النهج الحدیث) بأنّه من «حیث علم عدم موافقة المأتی به للمأمور به واقعاً ، و یشک فی کونه محصّلاً لغرضه من حیث کونه ذا مصلحة بدلیّة» (1) .
فیه : إنه مع الشکّ بین السببیّة و الطریقیة لا یعلم بعدم الموافقة ، بل یحتمل الموافقة ، فلا تکون النتیجة وجوب الإعادة .
أقول :
کأن المحقق ینظر إلی حال بعد الانکشاف ، فالمکلَّف عالم بعدم الموافقة ، و الاستاذ ینظر إلی حال قبله فهو شاک . فتدبّر .
ص:226
و أمّا القول بالإجزاء - عملاً بالبراءة - کما علیه فی (المحاضرات) فلا بدّ من النّظر فی کلام (الکفایة) و أنه علی أی مسلکٍ فی السببیّة ؟
أمّا علی مسلک الأشاعرة و المعتزلة ، فإنّه لیس الحکم إلّا مفاد الأمارة ، و مع الشکّ فی أنّ مفاد أدلّة حجیّتها هو جعل الطّریقیة لها أو الموضوعیّة ، یکون أصالة عدم جعل الطریقیة معارضاً لأصالة عدم جعل الموضوعیّة ، و إذا تعارضا تساقطا ، هذا بالنسبة إلی الأصل فی المسألة الاصولیّة ، و تصل النوبة إلی الأصل فی المسألة الفقهیّة ، فإنّه - بعد أن أتی بالعمل ثمّ ظهر الخلاف - یشک فی حدوث تکلیف بالإعادة ، و حینئذٍ تجری البراءة .
لکنّ کلام (الکفایة) مبنی علی مسلک الشیخ - و هو المستفاد ممّا تقدّم عن (الاصول علی النهج الحدیث) - من أنّ العمل علی طبق الأمارة فیه مصلحة الواقع ، و أن هذه المصلحة بدل عن تلک المصلحة ، فإذا انکشف الخلاف یشک فی تحقّق البدلیّة و الوفاء بالمصلحة و عدمها ، فالشکّ حینئذٍ یرجع إلی الفراغ ، و مقتضی القاعدة هو الاشتغال لا البراءة ، و ما ذکره فی (المحاضرات) ناشئ من عدم الدقّة فی کلام (الکفایة) أو أنه اجتهاد فی مقابل النص .
هذا کلامه دام بقاه فی الدورة اللّاحقة .
و أمّا فی الدورة السابقة ، فقد وافق (الکفایة) فی القول بعدم الإجزاء من باب الاستصحاب ، ببیان : أنه بعد انکشاف الخلاف فی الوقت ، یعلم إجمالاً بأنّ الواجب علیه من أوّل الوقت کان العمل الذی أتیٰ به ، أو الحکم الذی قامت علیه الأمارة ، فیدور الأمر بین الزائل و الباقی ، فإن کان الواقع - مثلاً - مؤدی قول زرارة عن الصّادق علیه السلام بوجوب الجمعة ، فقد تحقق ، و إنْ
ص:227
کان مؤدّی قول محمد بن مسلم عنه بوجوب الظهر فهو باق فی الذمّة ، إذن ، یعلم إجمالاً بواقع مردّدٍ بین مؤدّی القولین ، فیُستصحب بقاؤه علی الذمة بوصف المعلومیة ، و نتیجة ذلک عدم الإجزاء ... و الحاصل : إن العلم الإجمالی أفاد تحقیق موضوع الاستصحاب .
و هذا الاستصحاب من قبیل القسم الثانی من أقسام الکلّی .
هذا کلّه بالنسبة إلی الإعادة .
و أمّا القضاء ، فقد وافق المحقق الخوئی صاحب (الکفایة) فی الإجزاء ، لکون «الفوت» أمراً وجودیّاً . لکنّ الصحیح أنه أمر عدمی فی الموضوع القابل ، فلا إشکال فی استصحاب عدم الإتیان بالواقع .
فتلخّص : إن فی المقام ثلاثة أقوال :
الأول : الإجزاء مطلقاً . و هو مختار (المحاضرات) .
و الثانی : عدم الإجزاء مطلقاً . و هو مختار الاستاذ .
و الثالث : التفصیل بین الإعادة و القضاء . و هو مختار (الکفایة) و المحقق الأصفهانی .
هذا تمام الکلام فی مقتضی الأدلّة الأوّلیة .
و استدل للقول بالإجزاء بوجوهٍ من الأدلّة الثانویّة ، عمدتها ما یلی :
فإنّه لا شک فی کثرة تبدّل الرأی عند الفقهاء ، علی أثر الاختیارات و المختارات فی المبانی و القواعد ، و فی علم الرجال ، و غیر ذلک ، و لا شک أنه إذا قیل بوجوب الإعادة علی المکلّفین أو القضاء ، فی حصول الضرر و الحرج علی نوع المکلّفین ، و هما مرفوعان فی
ص:228
الشریعة .
و لذا قال صاحب الجواهر ما حاصله : إنه مع کثرة تبدّل الآراء عند الفقهاء حتی فی الکتاب الواحد ، لم یکن من دأبهم محو ما کانوا أفتوا به من قبل أو کتبوه سابقاً ، و إعلام المقلّدین بالخطإ فی الفتاوی المتقدّمة منهم ، إلّا إذا رجعوا عنها بأدلّة قطعیّةٍ تثبت بطلان الفتوی السابقة .
و فیه :
أوّلاً : إنه قد تقرّر فی محلّه أن أدلّة رفع الحرج و الضرر نافیة و رافعة للتکلیف ، لا أنها تجعل و تضع التکلیف ، و الحاصل : إنها ترفع عدم الإجزاء لا أنها تضع الإجزاء .
و ثانیاً : إنه قد تقرّر فی محلّه کذلک ، أن المرفوع هو الضرر و الحرج الشخصیّین ، نعم ، بناءً علی کون المرفوع هو الحرج و الضّرر النوعیین ، فلا ریب فی تحقّقهما من الفتوی بعدم إجزاء الأعمال السابقة الواقعة علی طبق الفتوی السابقة .
و قد یضمُّ إلی الاستدلال بالقاعدتین ما دلَّ علی سهولة الشریعة و سماحتها ، و أنّ نفس التقلید جاء تسهیلاً علی المکلَّفین ، و إلّا فإنّ الحکم الأوّلی هو وجوب الاحتیاط علیهم فی الأحکام الشرعیّة ، فالقول بعدم الاجزاء ینافی حکمة التسهیل علی المکلفین .
و لکنْ فیه ما عرفت ...
علی الإجزاء ، و هو ظاهر کلام صاحب الجواهر ردّاً علی کلام العضدی فی دعوی الإجماع علی عدم الإجزاء ، و قد ادّعی المیرزا هذا
ص:229
الاجماع صریحاً (1) ، لکن عن العلامة (2) الإجماع علی عدم الإجزاء ، و الشیخ (3)کلامه صریح فی عدم الإجماع ، بل یقول بأنّ دعواها علی الإجزاء هی ممّن لا تحقیق له ، و عن صاحب (الفصول) (4) التفصیل بین ما إذا کان الموضوع باقیاً فالإجماع علی عدم الإجزاء ، و ما إذا کان غیر باق فالإجزاء .
و الحاصل : إن کلماتهم فی الإجماع مختلفة ... بل المیرزا أیضاً إنما یدّعیه فی باب العبادات ، سواء فی الصلاة و غیرها ، ففی الصّوم مثلاً إذا کان المجتهد یجوّز الارتماس علی الصائم ثم تبدّل رأیه فلا یجب قضاء الصوم ، و کذا فی الحج ، کما لو اعتمد علی فتوی فقیه العامّة و قاضی الجماعة بالهلال و عمل ، و کان یری جواز العمل علی حکم القاضی منهم ، ثم تبدّل رأیه إلی عدم الجواز ، فلا تجب الإعادة ... ففی مثل هذه الموارد لا یتردّد المیرزا فی الإجزاء . لکنه یقطع بعدم الإجزاء فی المعاملات مع بقاء الموضوع ، کما لو تزوَّج أو باع بالعقد الفارسی ، فإن المرأة إذا کانت باقیةً و تبدّل رأی المجتهد إلی اشتراط العربیّة ترتّب أثر الفساد ، و کذا فی حال بقاء الثمن و المثمن فی المعاملة ، و إن أمکن وجود الموضوع للضمان .
و الحاصل : إن المیرزا یفرّق بین العبادات و المعاملات ، و فی المعاملات بین صورة بقاء الموضوع و عدم بقائه .
ص:230
و قد أوضح المحقّق الأصفهانی فی کتاب (الاجتهاد و التقلید) (1) و فی (الاصول علی النهج الحدیث) (2) رأی صاحب (الفصول) بأنّ الواقعة قد تقع و تنقضی کما لو صلّی طبق الفتوی و تبدّل الرأی ، و قد تقع و هی غیر منقضیة کما لو قال بتحقّق التذکیة و اللّحم لا یزال باقیاً ثمّ تبدّل رأیه إلی عدمها ، ففی الصورة الاولی قال بالإجزاء ، أمّا فی الثانیة فلا .
و علی هذا ، ففی العبادات أیضاً لا بدَّ من التفصیل ، فلو کانت الواقعة غیر منقضیة و تبدّل الرأی ، وجب ترتیب أثر الفتوی اللّاحقة علی مسلک (الفصول) ، ، کما لو توضّأ بماءٍ حکم بطهارته بالفتوی الأولیٰ ، لکنّه کان باقیاً بعدُ و تبدّل الرأی ، فالصّلاة تلک صحیحة ، إلّا أن الماء لا یجوز الوضوء به مرةً أخری ، بل یجب الاجتناب عنه ، و کذا یجب تطهیر مواضع الوضوء .
و علی الجملة ، فإنّ دعوی الإجماع من المیرزا علی الإجزاء ، فی قبال دعوی العلّامة و الشیخ الأعظم قدّس سرّهما الإجماع علی العدم ، عجیبة ، و کذا کلامه فی العبادات مع تفصیل (الفصول) .
و کیف کان ، فإنّ صغری الإجماع هنا فیها ما عرفت .
و أمّا الکبری ، فلا یخفی الاحتمال بل الظنّ بکونها مستندةً إلی احدی الوجوه المُقامة فی المسألة .
هذا ... و لا بدَّ من التتبّع فی کلمات قدماء الفقهاء ، لنری هل المسألة معنونة عندهم أو لا ، لأن العمدة فی صغری الإجماع هو إجماع القدماء .
و هل المراد سیرة الفقهاء أو سیرة أهل الشرع أو سیرة العقلاء ؟
إنْ أرادوا السیرة العقلائیة ، فلا ریب فی أنّ سیرتهم علی عدم الإجزاء ،
ص:231
سواء ما کان بین الموالی و العبید بالخُصوص ، أو بین سائر العقلاء ، أمّا بین الموالی و العبید ، فواضح ، و أمّا بین غیرهم ، فإن جمیع الأخبار عند العقلاء طریق إلی الواقع ، و إذا انکشف الخلاف فهم یقولون بعدم الإجزاء .
و إنْ أرادوا سیرة المتشرّعة خاصّةً ، فهی قائمة علی الإجزاء ، لکنّ من المحتمل قریباً استنادها إلی الفتاوی .
و إنْ أرادوا سیرة الفقهاء أنفسهم ، فسیرة الفقهاء - عملاً - هو الإجزاء ، لما تقدّم عن صاحب (الجواهر) من عدم تنبیههم المقلّدین و العوام علی تبدّل آرائهم ، لأنها کانت مستندةً إلی أدلّة و حجج ، اللهم إلّا إذا قام دلیل قطعی علی خلاف الفتوی السابقة .
و هذه السیرة أیضاً مدرکیّة .
و تلخّص :
إنه لا دلیل علی الإجزاء من الأدلّة الثانویة .
بقی الکلام فی أمور نذکرها بنحو الاختصار :
قد نسب فی (التنقیح) (1) إلی المحقق الأصفهانی القول بالإجزاء فی التکلیفیّات و هی العبادات ، و فی الوضعیّات و هی المعاملات . أمّا فی المعاملات ، فلأن الملاک فیها هو المصلحة فی نفس جعل الحکم ، لا فی فعل المکلّف ، فالمصلحة قائمة بنفس جعل الحلیّة - کما فی الخل و غیره - من المحلّلات ، و الحرمة فی المحرمات - کما فی الخمر و المیتة و غیرهما - و جعل الملکیّة - مثلاً - فی المعاطاة ، و هکذا . أمّا فی العبادات فهی قائمة بالفعل -
ص:232
کالصّلاة - لا فی وجوبها .
و لمّا کانت المصلحة فی الوضعیّات فی نفس الاعتبار و الجعل ، فإنّ الاعتبار لا یتصوّر فیه کشف الخلاف ، بل إذا قامت الأمارة علی الفساد و البطلان أو بالعکس ، فإنه مع قیامها ینتهی أمد الجعل الأول و یتبدّل الموضوع ، و حینئذٍ لا معنی لعدم الإجزاء .
و کذلک الحال فی التکلیفیات ، فإنّه و إنْ کانت المصلحة فی المتعلَّق ، لکنّ الحجّة اللّاحقة لا یمکنها التأثیر فی الأعمال السّابقة الواقعة طبق الحجّة السّابقة ، إذ لا معنی لقیام المنجز أو المعذّر بالنسبة إلی ما سبق ، و إنما یکون بالنسبة إلی ما بیده من العمل ... فلا وجه لعدم الإجزاء .
هذا ما جاء فی (التنقیح) عن المحقق الأصفهانی فی (حاشیة المکاسب) ، و فی (الاجتهاد و التقلید) .
قال الأستاذ :
قد اختلف کلام المحقّق الأصفهانی فی کتبه ، و بالنّظر إلی المبنی فی الأمارات .
أمّا فی آخر کتبه - و هو : (الاصول علی النهج الحدیث) (1) - فقد ذکر أن حجیّة الأمارات ، إمّا من باب المنجّزیة و المعذّریة ، و إمّا من باب جعل الحکم المماثل ، و علی کلا القولین ، ففی العبادات لا مجال للإجزاء ، أمّا فی المعاملات ، فیمکن القول به بمناط أن المصلحة فی الوضعیّات فی نفس الجعل .
إذن ، هو قائل بالتفصیل فی هذا الکتاب علی کلا المسلکین فی حجیّة
ص:233
الأمارات .
و أمّا فی (نهایة الدرایة) (1) فاختار الطّریقیّة ، و ذهب علی أساسها إلی عدم الإجزاء فی المعاملات و العبادات معاً .
و أما فی (حاشیة المکاسب) (2) فی مبحث اختلاف المتعاملین اجتهاداً أو تقلیداً ، و کذا فی (رسالة الاجتهاد و التقلید) (3) فقد قال بعدم الإجزاء مطلقاً ، بناءً علی المنجزیّة و المعذّریة ، لأنّ معنی ذلک أن یکون مفاد الأمارة السابقة حجةً ما لم تقم أمارة أخری علی خلافها ، لأنّها عذر للمکلَّف ، فإذا قامت الاخری علی الخلاف سقطت عن المعذریّة ، کما لو کان عنده علم ، فإنه حجة ما دام موجوداً ، فإذا زال فلا حجیّة ، بل الحجّة هو الدلیل الجدید القائم علی خلافه . فهذا مقتضی هذا المسلک ، سواء للمجتهد أو المقلّد ، و سواء فی العبادات أو المعاملات .
و أمّا بناءً علی جعل الحکم المماثل ، فالتفصیل بین العبادات و المعاملات ، لأنّ الحکم المماثل فی العبادات إنّما ینشأ عن المصلحة فی المتعلَّق ، ففی صلاة الظهر - مثلاً - مصلحة ، و هذه المصلحة یجب أن تستوفی - لأنّ المصالح فی العبادات استیفائیة بخلاف المعاملات - و إذا انکشف الخلاف ظهر عدم استیفاء مصلحتها و الغرض من جعل الحکم فیها ، إذ المفروض أن صلاة الجمعة لم تستوف مصلحة صلاة الظهر ، و لا أنّ مصلحتها بدل عن مصلحة الظهر ، و حینئذٍ تجب الإعادة بمقتضی إطلاق دلیل الواقع ، و بمقتضی قاعدة الاشتغال ، و بمقتضی الاستصحاب . هذا فی العبادات .
ص:234
أمّا فی المعاملات ، فلو قامت الأمارة علی کفایة العقد بالفارسیّة مثلاً ، و المفروض جعل الشارع الحکم المماثل علی طبقها ، فإنّه تعتبر الزّوجیة أو الملکیة إذا اجری العقد ، و لیس هناک مصلحة اخری حتی إذا انکشف الخلاف یکون الواجب استیفاؤها ، بل المصلحة فی نفس جعل الحکم المماثل ، و هذه المصلحة یستحیل انقلابها بانکشاف الخلاف .
قال الاستاذ :
إنه بناءً علی جعل الحکم المماثل - و بغض النظر عن البحث المبنائی - فعند ما تقوم الأمارة اللّاحقة علی الخلاف ، ینکشف أنّ الحکم الشرعی من أوّل الأمر هو مقتضی هذه الأمارة اللّاحقة ، فهی تقول بأنّ المعاطاة فی الشرع غیر مفیدةٍ للملکیّة ، فکلّ معاملة معاطاتیّة تقع - علی نحو القضیّة الحقیقیة - فهی غیر مفیدة للملکیّة ، و حینئذٍ ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء ، و لو لا قیام الأمارة اللّاحقة علی عدم إفادتها الملکیّة ، لبقی الحکم بإفادتها الملکیّة - طبق الأمارة السّابقة - علی حاله ، لأن المفروض وجود الحکم المماثل من الشارع هناک ، لکنّ قیام الأمارة اللّاحقة یکشف عن کون الحکم الشرعی عدم الملکیّة ... نظیر الکشف الانقلابی فی باب الفضولی عند المحققین المتأخرین ، إذ معناه : إنه ما دام لم یُجز المالک فالشارع یعتبر ملکیّة الدار لمالکها ، فإذا أجاز المالک بیع الفضولی لها کشفت الإجازة الآن عن اعتبار الشارع الملکیة للمشتری من حین العقد الواقع قبل سنةٍ مثلاً ...
و بهذا یسقط التفصیل بین العبادات و المعاملات علی هذا المبنی ، و الحق عدم الإجزاء مطلقاً .
یقع البحث فی الإجزاء و عدمه ، تارةً : علی أثر تبدّل رأی
ص:235
المجتهد ، و اخری : علی أثر تبدّل تقلید المقلّد ، و عن الشیخ - رحمه اللّٰه - إن الموردین من بابٍ واحد ، فلو تبدّل رأی المجتهد ، فإنْ أمکن التوفیق بین الأعمال الواقعة طبق الفتوی السابقة و بین مقتضی الفتوی اللّاحقة فهو ، و إلّا فیجب الإعادة ، کذلک لو عدل المقلِّد عن تقلید مجتهدٍ إلی آخر ، فإنْ وافقت أعماله التی کانت علی التقلید الأوّل للتقلید الثانی فهو ، و إلّا فالإعادة .
و قد ذهب المحقق الأصفهانی إلی الفرق بین الموردین ، فاختار عدم الإجزاء فی الأوّل - و إنْ استثنی المعاملات فی (الاصول علی النهج الحدیث) - و الإجزاء فی الثانی .
أمّا رأی الشیخ ، فمبنی علی الطّریقیّة فی الأمارات ، و أن فتوی المجتهد أمارة للمقلِّد ، و قد تقدّم أن مقتضی القاعدة علی هذا المبنی هو عدم الإجزاء .
فإذا رجع المقلِّد إلی مجتهدٍ آخر ، فقد قامت عنده أمارة علی خلاف الأمارة السّابقة ، و هی قول المجتهد السّابق ، و کشفت عن عدم موافقة الأعمال السّابقة للواقع ، فعلیه الإعادة .
و أما رأی المحقق الأصفهانی فیبتنی علی أمرین :
أحدهما : إن المجتهد عند ما یتبدَّل رأیه ، فإن حجیّة الفتوی الثانیة لیست من حین اختیارها ، بل إنها کانت حجّةً من أوّل الأمر ، مثلاً : إنه قد أفتی علی طبق روایةٍ عامّةٍ فحص عن المخصّص لها و یأس عن العثور علیه ، فکانت الفتوی طبق العام ، ثم بعد مدّةٍ رجع عن تلک الفتوی لعثوره علی المخصّص ، و حینئذٍ : هذا المخصّص کان موجوداً من أوّل الأمر و کانت
ص:236
وظیفته الفتوی علی طبقها ، غیر أنه لم یعثر علیها و ما کانت واصلة إلیه ، و الآن - لمّا عثر علیها - انکشف له عدم مطابقة عمله السّابق و فتواه للواقع الذی یُؤدی إلیه المخصّص ، فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء ، إذ لو عثر علیه فی السابق لما أفتی طبق العام .
بخلاف المقلّد ، فإنّ فتوی المرجع الثانی فی حال حیاة المرجع الأوّل لم تکن حجةً بالنسیة إلیه ، لأن المفروض کونه مفضولاً بالنسبة إلی الأوّل لأعلمیّة الأول منه ، فیکون فتوی الثانی حجةً له من حین تقلیده ، و تقع أعماله السّابقة مجزیّةً ، و کذا لو قلَّد الأعلم ، ثم لفقده بعض الشرائط - کالعدالة - رجع إلی غیر الأعلم ، فإنّ فتوی هذا لم تکن حجةً قبل فقد الأعلم للعدالة مثلاً ، بل هی حجة من الآن .
و الأمر الثانی : الإشکال علی الشیخ فیما ذکره من جعل باب الاجتهاد و التقلید من قبیل الطّریقیّة ، بأنّ المستفاد من الأدلّة فی هذا الباب هو تنزیل المجتهد بمنزلة المقلّد و کونه نائباً عن مقلّده فی استنباط الأحکام الشرعیّة ، فهو نائب عنه فی الفحص عن الأدلة و النظر فیها و استخراج الحکم منها ...
و لیس فتوی المجتهد طریقاً و أمارةً للمقلِّد حتّی یقال بعدم الإجزاء فی تبدّل التقلید .
نعم ، لو کان من باب الطریقیّة أمکن القول بعدم الإجزاء ، من جهة أنّه لمّا مات المجتهد الأوّل سقطت فتواه عن الحجیّة ، و کان الحجّة علیه فتوی الثانی ، و هو یقول ببطلان فتوی الأوّل و الأعمال الواقعة علی طبقها .
لکنّ مفاد الأدلّة فی الاجتهاد و التقلید لیس الطّریقیّة .
ص:237
و تنظّر الاستاذ فی الأمرین المذکورین :
أمّا الأول ، فذکر أنّه مبنیّ علی الرجوع من الأعلم المیّت إلی غیر الأعلم الحی ، لکنّ المبنی غیر صحیح ، لأنه مع اختلاف المیّت مع الحی فی الفتوی تسقط الأدلة اللّفظیّة عن الشمول لهما ، لفرض التعارض بینهما ، لأنها إن شملت أحدهما المعیَّن دون الآخر لزم الترجیح بلا مرجح ، و اللّامعیّن لا مصداق له ، و شمولها لهما معاً غیر معقول ، و إذا سقطت تصل النوبة إلی الدلیل غیر اللّفظی و هو هنا السیرة العقلائیة ، فإنها قائمة علی تقلید الأعلم ، و القدر المتیقّن خروج تقلید المیّت ابتداءً بالإجماع ، و یبقی الاستمراری ، إذن ... إذا کان المیت أعلم فلا یجوز الرجوع إلی الحیّ حتی یقال بأنّ الحجیّة تبدأ من الآن .
و أمّا الثانی ، فذکر أن الحق مع الشیخ ، و هو الطریقیّة ، فقول المجتهد حجّة من باب الطّریقیة إلی الواقع لا من باب التنزیل و النیابة .
أمّا بناءً علی أنّ دلیل التقلید هو السیرة ، فواضح ، لأن العقلاء لا یرون فی رأی أهل الخبرة فی کلّ علم و فنٍ إلّا الطّریقیة ، و یجعلون الرأی کاشفاً عن الواقع . و أمّا إنْ کان الدلیل هو الأدلّة اللفظیّة من الکتاب و الأخبار ، فلا آیة النفر تدلّ علی النیابة و التنزیل ، و لا مثل ما ورد فی «عبد العزیز ابن المهتدی» و «یونس بن عبد الرحمن» و «زکریا بن آدم» و نحوهم الذین وردت الأخبار فی الرجوع إلیهم لأخذ معالم الدین ... فإنّها جمیعاً دلیل علی الطریقیة ، و أمّا التنزیل فلا دلیل علیه فیها .
و علی هذا ، یکون الحقّ عدم تمامیّة التفصیل المذکور ، بل هو عدم الإجزاء مطلقاً .
ص:238
أقول :
قد یقال : مفاد هذه الروایات هو طریقیّة روایات من ذکر و أمثالهم من أصحاب الأئمة علیهم السلام ، و کلامنا فی الفتوی . و قد أجبنا عن ذلک - فی بحوثنا الفقهیّة ، فی مسائل الاجتهاد و التقلید - بما حاصله : إنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الأئمة علیهم السلام کانوا یرجعون إلیهم فی أخذ الأحکام منهم لا فی نقل الروایات عنهم فقط .
إلّا أنّ لدعوی نیابة الفقیه عن المقلِّد فی استنباط الأحکام وجهاً ، و لنا هنا بیانٌ لطیف یتعلَّق بأصل تأسیس الحوزة العلمیة ، ذکرناه فی الدرس .
قال السید فی (العروة الوثقی) : « إذا قلّد من یکتفی بالمرّة مثلاً - فی التسبیحات الأربع و اکتفی بها ، أو قلّد من یکتفی فی التیمّم بضربةٍ واحدةٍ ، ثم مات ذلک المجتهد ، فقلّد من یقول بوجوب التعدّد ، لا یجب علیه إعادة الأعمال السابقة » (1) .
فذکر فی (المستمسک) (2) - بعد الکلام علی أدلّة الإجزاء - بالتفصیل - أنّه فی صورة تبدّل رأی المجتهد مقتضی القاعدة هو عدم الإجزاء . و أمّا فی صورة تبدّل التقلید کما هو مفروض المسألة :
فتارةً : یرجع إلی الأعلم ، و هنا یجب لحاظ الأعمال السّابقة مع فتاویٰ هذا الأعلم ، فإنْ کانت موافقة فهو و إلّا فعدم الإجزاء ، لأدلّة وجوب تقلید الأعلم ، سواء فی الأعمال السابقة أو اللّاحقة .
و أخری : یکون المرجوع إلیه غیر الأعلم ، فإنّ الأعمال السابقة لا تجب
ص:239
الإعادة فیها ، بل یرتّب علیها آثار الصحّة ، لأنّ الدلیل علی الرجوع إلی غیر الأعلم إن کان هو الإجماع فالقدر المتیقّن منه حجیّة قوله فی الأعمال اللّاحقة ، و إن کان الأصل - و هو التعیین فی دوران الأمر بین التعیین و التخییر - ، فإنّ الاصول العقلیّة محکومة بالاصول الشرعیّة ، و مقتضی الاستصحاب هو الإجزاء ، لأنّ المفروض وجود الحکم الظاهری فی حقّ المقلّد فی حال حیاة المجتهد الأوّل ، فلمّا مات یقع الشکّ فی ارتفاع ذاک الحکم الظاهری فیستصحب بقاؤه ، و یکون حاکماً أو وارداً علی أصالة التعیین المقتضیة حجیّة رأی المجتهد الحی و الرجوع إلیه ، و حینئذٍ ، یکون رأی الحی حجةً بالنسبة إلی الأعمال اللّاحقة فقط ، و الأعمال السابقة مجزیة .
قال الاستاذ :
إنّ الصحیح هو : أن فتاوی المجتهدین لها طریقیة لا موضوعیّة .
و أن المجعول فیها - کسائر الأمارات - نفس الطّریقیّة ، لأنها حکم وضعی یقبل الجعل ، لا أنّ المجعول هو الحکم الظاهری و ینتزع منه الطّریقیّة ، خلافاً لصاحب (المستمسک) القائل بأن الطریقیة لا تقبل الجعل .
أمّا فی الاستصحاب ، فلا خلاف فی أنه یعتبر أنْ یکون التغیّر الحاصل فی الموضوع من حالاته لا من المقوّمات .
و حینئذٍ نقول :
أمّا بالنسبة إلی المقلِّد فهل یجب علیه العدول إلی الحی تعییناً أو هو مخیَّر بین ذلک و البقاء علی تقلید المیت ؟ مقتضی القاعدة هو التعیین ، لکن «الحیاة» إنْ کانت مقوّمةً ، فلا یستصحب حجیّة رأی المیت ، و لا بدّ من الرجوع إلی الحی علی القاعدة المذکورة ، و یکون قوله حجة حتی بالنسبة إلی ما تقدّم
ص:240
فلا إجزاء ، فلا مانع من استصحاب حجیّة رأی المیت ، و المفروض کونه طریقاً لا یفرّق فیه بین الأعمال السابقة و اللّاحقة ، لکون طریقیّته بنحو القضیّة الحقیقیّة ، فالاستصحاب یجری ، و یکون حاکماً علی القاعدة العقلیة المذکورة ، وعلیه ، فلا مورد للرجوع إلی الحی .
و أمّا بالنسبة إلی المجتهد ، فإنْ تبدّل رأیه قد یکون علی أثر حصوله علی خبرٍ معارضٍ ، فإنْ کان یری الرجوع إلی المرجّحات ، و کان الراجح هو الخبر الثانی ، فلا محالة ینکشف له بطلان الفتاوی السابقة ، لسقوط الخبر الأوّل من أصله ، و إن لم یکن فی البین مرجّح ، فإمّا یقول بالتساقط ، فلا یبقی حکم سابق حتی یستصحب ، و إما بالتخییر فیکون صغری دوران الأمر بین التعیین و التخییر .
فما ذکره من التفصیل ، فی غیر محلّه .
أقول : ظاهره فی الدورتین المناقشة فی التفصیل ، أمّا نتیجته من حیث الإجزاء و عدمه ، و الجواب عمّا إذا کان مفیداً للإجزاء و لو فی بعض الصّور - لکون الإجزاء باطلاً عند الاستاذ مطلقاً - فلم نجده .
هو القول بعدم الإجزاء مطلقاً .
إلّا فی موارد جریان «لا تعاد» ، و إلّا فی موارد لزوم (العسر و الحرج) الشخصیین .
ص:241
ص:242
ص:243
ص:244
قبل الخوض فی البحث تذکر أُمور :
إنه لا اختصاص للبحث بالواجب ، بل هو أعمّ من مقدّمة الواجب و الحرام و المستحب و المکروه .
المراد من الوجوب هنا هو : الوجوب الشرعی الغیری ، فهل یوجد وجوب شرعی متعلّق بالمقدّمة بالإضافة إلیٰ وجوب ذی المقدّمة أو لا ؟ إذن :
لیس المراد : اللّابدیة العقلیّة للمقدّمة ، فإنها مسلّمة عند الکلّ .
و لیس المراد : الوجوب الإرشادی ، لأنه إرشاد إلیٰ حکم العقل و إخبارٌ عنه ، و إن کان فی الصورة بعثاً مولویّاً ، کقوله تعالیٰ : «وأَطِیعُواْ اللّهَ » (1).
و لیس المراد : هو الوجوب الشرعی الطریقی ، أی الوجوب الذی یجعله الشارع لتنجیز الواقع ، کالاحتیاط ، لأنّ وجوب المقدّمة لیس من هذا القبیل .
و لیس وجوب المقدمة وجوباً نفسیّاً ، لأن الوجوب النفسی ینشأ من الملاک ، و وجوب المقدّمة لا ینشأ من ملاکٍ و غرض فی نفس المقدّمة ، بل من الغرض فی ذی المقدّمة .
و تلخّص : إن وجوب المقدّمة وجوب غیری تبعی ، بمعنیٰ أن هناک
ص:245
إرادةً أصلیّة متوجّهةً إلیٰ ذی المقدّمة ، و بتبعها توجد إرادة تبعیّة بالنّسبة إلیٰ المقدّمة حین تکون المقدّمة مورداً للالتفات ، أی ، فلا یلزم أن یکون وجوبها فعلیّاً ، لأنّ الآمر قد یکون غافلاً عن المقدّمة ، فهی واجبة ، بمعنیٰ أنه إذا التفت إلیها جعل لها الوجوب .
هل البحث عن وجوب المقدّمة من المبادئ الأحکامیّة کما علیه السیّد البروجردی ، أو من المسائل ؟ و إذا کان من المسائل ، فهل هو من المسائل الاصولیّة أو من المسائل الفقهیّة أو المسائل الکلامیّة ؟ و إذا کان من مسائل علم الاصول ، فهل هو من المسائل العقلیّة ، کما علیه صاحب (الکفایة) ، أو من مباحث الألفاظ کما علیه صاحب (المعالم) (1) ؟
أمّا القول بأنه من المبادئ الأحکامیّة فوجهه : إن المبادئ الأحکامیّة هی عبارة عن العوارض الطارئة علیٰ الأحکام الخمسة ، کقولنا : هل وجوب الشیء یستلزم النهی عن ضدّه أو لا ؟ إذ معنیٰ هذا العنوان : هل یوجد للوجوب هذه الخاصیّة أو لا ؟ و معنی قولنا : هل یجتمع الأمر و النهی فی الشیء الواحد ذی العنوانین أو لا ؟ هو أنّه هل للوجوب هکذا خاصیّة تمنع من اجتماعه مع النهی أو لا ؟ و هنا کذلک ، نقول : هل للوجوب الثابت لذی المقدمة هذا الأثر ، أی وجوب المقدّمة ، أو لا ؟
و فیه : إنّ کون مورد البحث من عوارض الحکم ، لا یوجب أنْ یکون من المبادئ ، و لا یخرجه عن المسائل ، ما دام تعریف المسألة الاصولیّة منطبقاً علیه .
ص:246
و کذلک کون البحث هنا عقلیّاً لا یوجب اندراجه فی مسائل علم الکلام ، لأنّ المسائل الکلامیّة مسائل عقلیّة بالمعنیٰ الأخص ، إذ هی المسائل الباحثة عن أحوال المبدإ و المعاد فقط .
فإمّا أن یکون بحثنا من المسائل الفقهیّة ، و إمّا أن یکون من المسائل الاصولیة ، فقد حکی عن بعضٍ القول بکون بحث مقدّمة الواجب من المباحث الفقهیّة ، لأنه یبحث فیه عن الحکم الشرعی للمقدّمة ، و إمّا أن یکون من المسائل الاصولیّة ، کما سیأتی .
لکنْ یردّ القول الأوّل : إن البحث هنا إنما هو عن ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذی المقدمة من حیث الحکم ، و البحث عن هذه الحیثیة لیس بحثاً فقهیّاً .
و أجاب المیرزا (1) عن القول المذکور : بأنّ الأحکام الفقهیّة مجعولة للعناوین الخاصّة و الموضوعات الواحدة بالوحدة النوعیّة ، کالصّلاة ، و الخمر مثلاً ، و المقدّمة تصدق فی الخارج علیٰ العناوین المتعددة و الحقائق المختلفة ، و لیست عنواناً لفعل واحدٍ ، فلیست من مسائل الفقه .
و فیه : إن المسألة الفقهیّة هی الأحکام الکلیّة الإلهیّة المجعولة للموضوعات و العناوین الخاصّة ، من دون فرقٍ بین کونها منطبقةً خارجاً علیٰ حقیقة واحدة کالصّلاة و الخمر ، أو علیٰ حقائق متعدّدة ، کعنوان النذر و العهد و الیمین و نحو ذلک ، فلیس من شرط المسألة الفقهیّة عدم انطباقها إلّا علی الحقیقة الواحدة .
ص:247
و أجاب المحقق العراقی (1) عن القول المذکور : من جهة أن الملاک فی المسألة الفقهیّة هو أنْ یکون ملاک الحکم الکلّی متّحداً ، سواء کان للموضوع مصادیق مختلفة أو لا ، نظیر ضمان الید ، فإنّه حکم فقهی مع اختلاف موضوعه و تعدّده ، لکون الملاک واحداً و هو « الید » فنقول : المأخوذ بالعقد الفاسد فیه ضمان ، و العقد الفاسد تارةً هو البیع ، و أخریٰ الإجارة ، و ثالثة الصّلح ، و هکذا ...
و کلّ موردٍ تعدّد فیه الملاک ، فالمسألة لیست فقهیّة ، و مسألة المقدّمة من هذا القبیل ، لأن ملاک وجوب مقدمة الحج غیر ملاک وجوب مقدّمة الصّوم ... و هکذا ... فإنّه و إن کان حکماً کلّیاً إلهیّاً ، لکنه لیس بمسألةٍ فقهیّة .
قال الاستاذ : هذا جیّد ، لکنْ لا برهان علیٰ خروج ما تعدّد ملاکه من الأحکام الکلّیة عن الفقه ، لأن ضابط المسألة الفقهیة لیس إلّا کون الحکم المستنبط حکماً کلّیاً إلهیّاً سواء تعدّد ملاکه أو اتّحد .
و للسیّد الاستاذ جواب آخر و هو : إنّ وجوب المقدّمة بعنوان أنّها مقدّمة یکون بملاک واحدٍ و هو ملاک المقدّمیة ، فإنه هو الذی یوجب ترشّح الوجوب علی المقدّمة فی کلّ الموارد ، و لیس له ملاک آخر غیره (2) .
أقول :
ظاهره أنّ « المقدمیّة » هی « الملاک » لکن الکلام فی ملاک المقدمیّة :
فتأمّل .
و تلخّص : تعیّن کون المسألة من مسائل علم الاصول ، و یکفی فی ذلک
ص:248
- بعد ثبوت عدم کونها من مسائل غیره من العلوم - انطباق تعریف العلم علیها ، فإنّه یمکن وقوع مسألة مقدّمة الواجب فی طریق الاستنباط .
و أمّا إشکال السیّد الاستاذ من أنّ ضابط المسألة الاصولیّة هو أنْ تکون نتیجتها رافعةً لتحیّر المکلَّف فی مقام العمل ، و لا یخفی أنّ هذه المسألة لا تتکفّل هذه الجهة ، فمبنیّ علی نظره فی الضّابط ، و قد تقدّم الکلام علیه فی محلّه ، فراجع .
و بما ذکرنا فی تحریر محلّ النزاع - من أن البحث فی هذه المسألة یدور حول الملازمة ، فإن ثبتت فالمقدّمة واجبة ، و إلّا فوجوبها یحتاج إلیٰ دلیل آخر - ظهر الفرق بین کون مسألة المقدّمة من مسائل الفقه و کونها من مسائل الاصول ، فإنّه إذا ثبت الملازمة ثبت الوجوب و هو الحکم الشرعی الفرعی ، و إلّا فلا .. .
فقول المحقق الإیروانی (1) بعدم الفرق ، و أن الکلام فی ذلک تطویل بلا طائل ، فی غیر محلّه .
و إذا کانت المسألة مسألةً أُصولیّةً ، فالمحقق الخراسانی و الجماعة قائلون بکونها مسألة اصولیّة عقلیّة ، فترجع إلیٰ مقام الثبوت ، و اختاره الاستاذ ، خلافاً لمن قال بأنّها مسألة لفظیّة ، و قد نسب إلی ظاهر (المعالم) فترجع إلیٰ مقام الإثبات .
قال الأستاذ : إن البحث اللّفظی یرجع إلیٰ مقام الإثبات و عالم الدّلالة ، و دلالة اللّفظ لا تخلو : إمّا أنْ تکون مطابقیّة ، و إمّا أن تکون تضمنیّة ، و إمّا أنْ تکون التزامیّة . أمّا الأولیٰ ، فإنّ وجوب ذی المقدّمة لا یدلّ علی وجوب
ص:249
المقدّمة مطابقةً ، و هذا واضح ، و أمّا الثانیة ، فإن وجوب المقدّمة لیس جزءاً من وجوب ذی المقدّمة لیدلّ علیه بالتضمّن ، بقی الثالثة ، و هی الدلالة الالتزامیّة ، و هذه یعتبر فیها کون اللّزوم - بین اللّازم و الملزوم - لزوماً بیّناً ، بأنْ یکون تصوّرهما کافیاً فی ثبوت الملازمة ، فلو کانت الملازمة محتاجةً إلیٰ برهانٍ لإثباتها ، خرجت الدّلالة عن کونها دلالة اللّفظ ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، فلیست المسألة لفظیّة ، فهی مسألة عقلیّة .
و لوجود الحکم الشرعی فی هذه المسألة ، فهی من المسائل العقلیّة غیر المستقلّة .
ص:250
لقد قسّموا المقدّمة إلیٰ أقسامٍ عدیدة ، و فی کلّ قسمٍ أقسام و أحکام :
فمنها : إن المقدّمة إمّا داخلیة و إمّا خارجیّة ، أمّا الخارجیّة - و هی أجزاء العلّة التامّة : المقتضی و الشرط و عدم المانع - فهی داخلة فی بحث المقدّمة ، لکون ذی المقدّمة - و هو المعلول - موقوفاً علیها و محتاجاً إلیها .
إنّما الکلام فی المقدّمة الداخلیّة ، و المقصود منها أجزاء المرکّب ، فهل هی واجبة بالوجوب الغیری أو لا ؟
هنا مطالب مترتّبة ، فالأول : هل أجزاء المرکّب مقدّمات داخلیّة للمرکّب أو لا ؟ و الثانی : بناءً علیٰ کونها مقدمات ، هل یجری فیها ملاک الوجوب ، أی وجوب المقدمة ؟ و الثالث : إنه علیٰ الجریان ، هل من مانعٍ یمنع عن الوجوب ؟
تارةً یراد من « المقدّمة » ما له دخل فی وجود الشیء ، و أخریٰ یراد منها : ما یتوقّف علیه الشیء .
أمّا بالإطلاق الأول ، فالأجزاء الداخلیّة خارجة عن البحث ، لأنها حینئذٍ لیست بمقدّمات ، من جهة أنها موجودة بنفس وجود المرکّب ، فتکون
ص:251
المقدّمة بهذا الإطلاق منحصرةً بأجزاء العلّة التامّة .
و أمّا بالإطلاق الثانی ، فیصدق علیٰ الأجزاء عنوان « المقدّمة » ، لکنّ الکلام لیس فی عنوان « الجزء » و عنوان « الکلّ » ، لعدم وجود التوقّف بین العنوانین المذکورین ، بل هما فی مرتبةٍ واحدةٍ ، و لا تأخّر و تقدّم بینهما ، لکونهما متضایفین ، و المتضایفان متکافئان بالقوّة و الفعل ، فلو تقدّم أحدهما علیٰ الآخر لزم المحال ، و هو تحقق الإضافة من طرفٍ واحد . بل المراد هو الاحتیاج و التوقّف فی الذات و الوجود ، و توضیح ذلک :
إن الوجود لا بدَّ و أنْ ینتهی إلیٰ الواجب ، و هذا ما لا اختلاف فیه بین العقلاء ، حتی المادیّون قائلون به ، غیر أنّ الاختلاف فی الصغری ، فهم یقولون بانتهاء الوجود إلیٰ مرکّب من أجزاء مادیّة خارجیّة ، و الإلهیّون قائلون بأنه ینتهی إلیٰ ذاتٍ لا ترکیب فیها ، لا من الأجزاء الخارجیّة و لا العقلیّة و لا الوهمیّة و لا الخیالیّة ، فهو واحد أحدی ، و هذا معنیٰ کلام أمیر المؤمنین و الأئمّة الطاهرین علیهم السّلام فی نفی الترکیب عن الذات المقدّسة کما فی نهج البلاغة ، و کتاب التوحید للشیخ الصّدوق رحمه اللّٰه و الکافی ، و هو من جملة البراهین المستخرجة من الروایات ، و حاصله : إن کلّ ما کان مرکّباً ، کان محتاجاً إلیٰ الأجزاء و موقوفاً علیها - حتی لو کان مرکّباً خیالیّاً ، و هو المجرّد عن المادّة دون الصّورة ، أو وهمیّاً حیث یتجرّد من کلیهما - لأنّ المرکّب بما هو مرکّب لا یتحقّق ذاتاً إلّا بعد وجود الجزء فی مرحلة الذات ، فجوهریّة المرکّب متوقّفة علیٰ جوهریّة الجزء ، و فی مرحلة الوجود ، فإنّ المرکّب متوقف وجوده علیٰ وجود الجزء بالتوقّف الطبعی ، فإذن : « الکلّ » متوقّف ذاتاً و وجوداً علیٰ « الجزء » .
ص:252
و قد استدلّ للقول بعدم المقدّمیة ، بأن الأجزاء عین الکلّ ، فلا احتیاج ، فلا مقدّمیة . .
و أجاب عنه المحقق الخراسانی (1) : بأنّ الجزء عبارة عمّا یلحظ لا بشرط من الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، و الکلّ یلحظ بشرط الانضمام ، فبینهما فرق من هذه الجهة ، و هو یکفی للتغایر بین « الکلّ » و « الجزء » و عدم العینیّة ، فیکون الجزء مقدمةً و الکلّ ذو المقدمة ، و اللّابشرط بشرط موقوفاً علیه و البشرط موقوف علیه ، فلا عینیّة من جمیع الجهات حتی یقال بأن الشیء لا یحتاج إلیٰ نفسه .
و قد أوضح الاستاذ ذلک : بأنّ الجزء إنْ لوحظ بشرط لا عن الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، أصبح مبایناً للکلّ ، کأنْ یلحظ الرکوع « بشرط » لا عن بقیة أجزاء الصّلاة ، فإنه حینئذٍ مباین للصّلاة و لیس بجزءٍ لها ، و إنْ لوحظ « لا بشرط » صار جزءاً ، و إنْ لوحظ « بشرط » الانضمام فهو « الکلّ » .
و الحاصل : إن الأجزاء مقدّمة للکلّ ، إذ هو محتاج إلیها فی ذاته و هی مستغنیة عنه ذاتاً ، سواء فی الاعتباریات کما تقدم أو التکوینیّات ، و لذا تریٰ أنّ ذات « الحیوان » و هو جزء « الإنسان » - مع قطع النظر عن الوجود - مستغنیة عن الإنسان ، لکن « الإنسان » فی مرحلة الذات متقوّم ب « الحیوان » ، فإنّه لو لا الحیوان لا یوجد الإنسان .
فالحال فی الاعتباریات ، کالرّکوع بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و التکوینیّات - کالمثال المذکور - واحد ، فلا فرق بین المرکّبات التکوینیّة و المرکّبات الاعتباریة فی ذلک .
ص:253
هذا فی مرحلة الذات .
أمّا فی مرحلة الوجود ، فإنّ « الجزء » یمکن أن یتحقّق و یوجد ، و لکن « الکلّ » لا یتحقّق إلّا و « الجزء » متحقّق ، فلا یلزم عدم الجزء لو فرض عدم الأجزاء الاخریٰ ، لکنّ الکلّ ینعدم بانعدام أحد أجزائه ... فالجزء مستغن عن الکلّ بمناط التقدّم و التأخّر الطبعی ، إلّا أنه لا ینافی وحدة المرتبة فی مرحلة الوجود ، و لذا قالوا : التقدّم و التأخّر طبعاً لا ینافی المعیّة وجوداً .
هذا تمام الکلام فی المطلب الأوّل .
بعد ثبوت المقدمیّة للأجزاء الداخلیّة ، فهل یوجد فیها اقتضاء الحکم بالوجوب الغیری أو لا ؟
إن کان الملاک للوجوب الغیری أنْ یکون للشیء الواجب وجود مستقل ، فهذا الملاک غیر موجود فیما نحن فیه ، لأن الأجزاء لیس لها وجود مستقلّ عن الکلّ ، بل هی موجودة بعین وجوده ، و إن کان ملاکه هو التوقّف ، فلا ریب فی وجوده فی الأجزاء ، لتوقّف الکلّ علیٰ وجودها .
إذن ، لا بدّ من التحقیق فی ملاک الوجوب الغیری .
هذا ، و فی (المحاضرات) (1) نفی وجود المقتضی و الملاک للوجوب ، للزوم اللّغویة ، لأن المفروض وجوب الکلّ ، فوجوب الأجزاء مع ذلک لغو ، إلّا أن یقال بالاندکاک بین الوجوبین لیتحقق وجوب مؤکّد .
و فیه : إنه خلط بین مرحلة المطلب الثانی - المقتضی - و مرحلة المانع ، و هو :
فإنّه إذا کانت الأجزاء واجبةً بالوجوب الغیری ، فإن
ص:254
المفروض وجوب الکلّ بالوجوب النفسی ، و هو لیس إلّا الأجزاء ، فاجتمع فی الأجزاء وجوبان ، و هو محال ، لأنه إمّا لغوٌ و إمّا اجتماعٌ للمثلین .
فمع تسلیم وجود المقتضی لاتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری ، فإنه ممنوع ، و المانع هو الإشکال المذکور .
و قد وقع النزاع بین الأکابر فی هذا المقام ، إذ قرّر صاحب (الکفایة) (1)الإشکال بما توضیحه : إنّ المحکوم بحکم الوجوب هو واقع المقدّمة لا عنوانها ، و عنوان المقدّمة حیثیّة تعلیلیّة للوجوب و لیس بحیثیّة تقییدیّة ، لأنّ متعلَّق الوجوب فی الوضوء - مثلاً - هو واقع الوضوء لا عنوان المقدّمة ، و فی أجزاء الصّلاة یکون واقع الرّکوع و السّجود و غیرهما متعلّق الوجوب لا عنوان مقدمیّتها للصّلاة ، و إذا کان الواقع ، فإنّ الرکوع و السّجود و غیرهما هی الصّلاة ، و لا مغایرة بین واقع الصّلاة و واقع هذه الأجزاء ، بل هی عین الکلّ المسمّی بالصّلاة ، و لا اختلاف بین الصّلاة و أجزائها إلّا اعتباراً ، فلو کانت الأجزاء متصفةً بالوجوب الغیری و وجوب الصّلاة نفسی ، کانت الأجزاء محکومة بحکمین وجوبیّین ، و کانت ذات فردین من الوجوب ، و بذلک یلزم اجتماع المثلین فی الشیء الواحد و هو محال .
و بما تقدَّم من کون الحیثیّة تعلیلیّة لا تقییدیّة ، یندفع توهّم کون ما نحن فیه نظیر باب اجتماع الأمر و النهی ، و کون الشیء الواحد واجباً من حیث و محرّماً من حیث آخر ، کالصّلاة فی الدار المغصوبة ، فیقال هنا کذلک ، بأن الرکوع - مثلاً - واجب نفسی من حیث کونه صلاة و غیری من حیث کونه مقدّمة .
ص:255
وجه الاندفاع هو : إن المقدّمیّة فیما نحن فیه علّة للوجوب ، و لیست بموضوعٍ للوجوب .
و بهذا البیان یتحقق المانع عن وجوب المقدّمة الداخلیّة .
و ذکر المحقق النائینی (1) : أنّ الوجوب النفسی غیر الوجوب الغیری ، کما هو واضح ، و التغایر بینهما لا ینکر ، لکنْ لا نسلّم لزوم اجتماع المثلین ، و ذلک : لتعدّد الملاک ، ثم اندکاک أحدهما فی الآخر .
و توضیحه : إن کلّاً من أجزاء الصّلاة یتوفَّر فیه ملاکان للوجوب ، أحدهما : ملاک الناهویّة عن الفحشاء و المنکر ، و هذا ملاک وجوب الصّلاة بالوجوب النفسی ، و الآخر : ملاک المقدمیّة لتحقّق الصّلاة ، و هذا ملاک الوجوب الغیری ، لأنّ تحقّق الصّلاة موقوف علیٰ تحقّق الرکوع و السجود و غیرهما ، فتکون الأجزاء مطلوبةً بالطلب النفسی و بالطلب الغیری ، و یکون الملاکان منشأً لتحقّق وجوبٍ أکید بعد اندکاک أحدهما فی الآخر ، و لا مانع من اتصاف الوجوب بالشدّة و التأکد .
و نظیره فی الفقه : وجوب صلاة الظهر و مطلوبیّتها بملاکین هما : فریضة الظهر و وجوبها نفساً بملاکه ، و أنّه لو لم یصلّ الظهر فصلاة العصر باطلة ، و هذان الملاکان یندک أحدهما فی الآخر ، و تکون النتیجة شدّة مطلوبیّة صلاة الظهر .
و کذلک الحال فی موارد تعدّد العنوان و وحدة المعنون ، کالعلم و الهاشمیّة فی وجوب الإکرام ، عند ما یجتمع العنوانان فی الشخص الواحد ، إذ
ص:256
یجتمع فیه ملاکان لوجوب الإکرام ، لکنّ الطلب واحد مؤکّد یتحقق من اندکاک العنوانین .
فارتفع المانع و المحذور بهذا البیان .
و أشکل المحقق العراقی علیٰ البیان المذکور (1) : بعدم امکان تحقّق الاندکاک مع اختلاف المرتبة ، لأنه فرع الاجتماع ، و لا اجتماع مع اختلاف المرتبة ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، لأنّ الموضوع هنا واحدٌ لا تعدّد له فی الوجود ، و مرتبة الحکم بالوجوب النفسی متقدّمة علیٰ مرتبة الوجوب الغیری ، لأنّ الوجوب الغیری ترشّح من الوجوب النفسی ، فهو بمثابة المعلول للعلّة ، و بین العلّة و المعلول اختلاف فی المرتبة کما لا یخفی ، و إذا کانا فی مرتبتین فلا یجتمعان ، و مع عدم الاجتماع فلا اندکاک .
نعم ، تارةً یکون الموضوع متعدّداً و تختلف المرتبة بینهما ، کما هو الحال فی مسألة اجتماع الحکم الواقعی و الظاهری ، فهناک موضوعان مترتّبان ، و لکلٍّ منهما حکم ، کأنْ یکون موضوع الحکم الواقعی هو الخمر بما هو خمر ، و حکمه الحرمة ، و موضوع الحکم الظاهری هو الخمر بما هو مشکوک الخمریّة ، و حکمه الحلیّة ، ففی فرض تعدّد الموضوع و وجود الطولیّة بینهما ، یمکن الجمع بین الحکمین .
لکنّ ما نحن فیه لیس من هذا القبیل ، بل الموضوع وجود واحد .
و قد یشکل علیٰ قوله بوحدة الموضوع هنا ، بناءً علیٰ ما أسّسه من أنّ الموضوع المتعلِّق به الحکم لیس الخارج ، بل هو الصّورة القائمة فی ذهن
ص:257
الحاکم و بالنظر الذی تُری خارجیّةً ، وعلیه : فإنّ الصور متباینات و یستحیل الوحدة بین صورةٍ و أخریٰ ، و إذا تعدّدت الصّورة فیما نحن فیه ، کانت صورة السجود و الرکوع و غیرهما من الأجزاء ، غیر صورة الکلّ المحقق منها و هو الصّلاة ، و مع التعدّد ، فلا اجتماع للمثلین حتی یبحث عن الاندکاک .
فأجاب : بأنّ هذا التعدّد غیر مؤثّر ، لأنه إنما یحصل فی مرحلة تعلّق الحکم ، لکنّ ذا الصورة - و هو المطابَق الخارجی - واحد لا تعدّد فیه .
و علی أیّ حالٍ ، فإنّ اجتماع المثلین لازم ، و الاندکاک محال .
فناقشه المحقق الأصفهانی (1) - و تبعه فی (المحاضرات) (2) - بأنّه صحیحٌ أنهما فی مرتبتین ، لکنْ بینهما معیّة فی الوجود ، و بهذا یتمّ الاندکاک ، لأنه فی ظرف الوجود لا فی المرتبة .
و حاصل کلام المحاضرات : إن الاندکاک بین الحکمین إنّما لا یتصوّر فیما إذا کانا مختلفین زماناً ، و أمّا إذا کانا مقارنین ، فلا مناص من الاندکاک و لا مانعیّة لاختلاف المرتبة ، کما لو کان بیاض شیء علةً لبیاضٍ آخر ، فهنا لا یقع علیٰ الجدار بیاضان بل بیاض واحد شدید . هذا فی التکوینیّات . و فی الشرعیّات کذلک ، کما لو نذر الصّلاة فی المسجد ، فإنه لا ریب فی اندکاک الوجوب النذری فی الوجوب أو الاستحباب النفسی ، مع أنّ ملاک النذر - و هو رجحان المتعلّق - متأخّر رتبةً عن ملاک الحکم النفسی ، إلّا أنهما فی عرض واحدٍ فی الزمان .
ص:258
و تنظّر الاستاذ دام بقاه فیما ذکره المحقق الأصفهانی هنا بالنقض و الحلّ : أمّا نقضاً ، فبما قاله رحمة اللّٰه تعالی علیه فی (تعلیقة المکاسب) عند کلام الشیخ الأعظم فی مسألة بیع الحق علیٰ من هو علیه ، حیث ذهب قدّس سرّه إلیٰ عدم إمکانه ، معلّلاً بلزوم الاتّحاد بین المسلَّط و المسلَّط علیه ، و هو غیر معقول ، فأشکل علیه المحقّق الأصفهانی (1) : بأنّ المتقابلین اللّذین لا یقبلان الاتّحاد فی الوجود هما العلّة و المعلول ، و أمّا المتضایفان ، فبعض الموارد منهما یقبل الاتحاد و الاجتماع فی وجود واحدٍ کالحبّ ، حیث أنّ النفس الإنسانیّة تحبّ نفسها ، فیجتمع المحبّ و المحبوب ... و السّلطنة من هذا القبیل ، و لا مانع من تسلّط الإنسان علیٰ نفسه ، و حدیث : « الناس مسلّطون علیٰ أنفسهم » و إنْ لم یکن له أصل عن رسول اللّٰه ، لکنّ معناه صحیح .
و علی هذا ، فبناءً علیٰ ترشّح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی ، یکون الوجوب النفسی علّةً للوجوب الغیری ، و لا یعقل الاندکاک و التأکّد ، لعدم تعقّل الوحدة بینهما ... فیتمّ ما ذکره المحقق العراقی بالنظر إلیٰ کلام المحقق الأصفهانی فی حاشیة المکاسب ، و لا یرد علیه إشکاله هنا .
و أمّا حلّاً ، فلقد اختلط الأمر علیٰ هذا المحقق ، بین الوجوبین و بین متعلّقی الوجوبین ، فمتعلّق الوجوب الغیری هو الجزء ، و متعلَّق الوجوب النفسی هو الکلّ ، و التقدّم و التأخّر بینهما طبعی و لیس من قبیل العلّة و المعلول ، و فی التقدّم و التأخّر الطبعی یمکن الوجود بوجود واحدٍ مثل
ص:259
الواحد و الاثنین ... أمّا المورد الذی یکون فیه أحد الوجودین ناشئاً من الوجود الآخر ، فلا یعقل الاتّحاد فی الوجود ، لأنّ أحدهما هو المؤثّر و الآخر هو الأثر ، و الوحدة بین الأثر و المؤثّر و الظل وذی الظل ، فی الوجود ، محال ، و لا یعقل الاندکاک .
و بهذا البیان یتّضح ما فی کلام (المحاضرات) من النظر و الإشکال ، ففی مثال البیاض الذی ذکره : إن کان بینهما نسبة العلیّة و المعلولیّة کما هو مفروض بحوثهم فی المقام ، فلا یعقل الاتحاد ... و لکنَّ الحق عدم وجود هذه النسبة بین الوجوب الغیری و الوجوب النفسی ، کما سیأتی تحقیق ذلک .
لکنّ للمحقق الأصفهانی رحمه اللّٰه طریقین آخرین لنفی الاندکاک :
أحدهما :
إنّ الأحکام أُمور اعتباریّة ، و الامور الاعتباریّة لا تقبل الشدّة و الضّعف ، و إنما الامور التکوینیّة هی التی تقبل ذلک ، لأنّ التأکّد یستلزم الحرکة من المرتبة الضعیفة إلیٰ المرتبة الشدیدة ، و الحرکة إنما تعقل فی التکوینیّات ، کالفاکهة ، تتحرّک فی لونها و طعمها ... و إذا انتفی التأکّد فی الحکم ، فلا یعقل وجود الحکم الواحد الأکید علیٰ أثر الاندکاک بین الحکمین . نعم ، یعقل ذلک فی مبدإ الحکم و هو الإرادة ، فإنها قابلة للصعود من الضعف إلیٰ الشدّة ، و حصول التأکّد فیها .
و ناقشه شیخنا دام بقاه بالنقض و الحلّ . أمّا نقضاً : فأورد کلام المحقق
ص:260
الأصفهانی فی رسالة الحق و الحکم (1) ، حیث ذکر هناک - فی بحثٍ له مع السیّد قدس سره ، القائل بکون الحق هو الملک (2) و المیرزا القائل بکونه مرتبةً ضعیفةً من الملک (3) إن الامور الواقعیّة علیٰ قسمین ، فمنها : الامور الواقعیّة التی لا مرتبة لها فی الخارج ، و منها : الامور الواقعیّة ذات المرتبة فی الخارج و القابلة للشدّة و الضعف ، (قال) و الاعتباریّات هی نفس الواقعیّات ، لکنّ المعتبر یعطیها الوجود الاعتباری ، فلا مانع من قبولها للشدّة و الضعف إن کانت ذات مرتبة . (قال) غیر أنّ « الملکیّة » لیست من هذا القبیل ، فلا یعقل فیها الشدّة و الضعف ، فجعل « الحق » مرتبة من « الملکیّة » غیر صحیح .
فتلخّص : إنه یوافق علیٰ الکبری ، غیر أن بحثه مع السیّد صغروی ، لکون « الملکیّة » إمّا من مقولة الجدة ، و إمّا من مقولة الإضافة ، و علی کلّ تقدیر ، فلا یعقل أن یکون لها المرتبة .
و إذا کان یریٰ صحّة الکبری ، فإنّها منطبقة فیما نحن فیه ، لأنّ الوجوب علیٰ مسلکه - عبارة عن النسبة البعثیّة ، و إذا کان البعث الاعتباری فی الحقیقة اعتباراً للبعث و التحریک الخارجی ، فمن الواضح أن البعث الخارجی ذو مراتب و یقبل الشدّة و الضعف ، فیکون ما یأخذه المعتبر فی عالم الاعتبار کذلک .
ص:261
إنه لیس معنیٰ الاندکاک أن یوجد وجوب ضعیف ثم یتحرّک نحو الشدّة ، بل القائل بالاندکاک یقول بوجود الملاکین ، و أن الملاکین یوجبان علیٰ المعتبر أنْ یعتبر المرتبة الشدیدة الأکیدة من البعث .
فما ذکره طریقاً لبطلان الاندکاک مردود .
إنه لا یعقل الإهمال فی متعلَّق البعث بل لا بدَّ من تعیّنه بالضرورة ، و حینئذٍ ، فلا یخلو أن یتعلَّق البعث الأکید الحاصل من الاندکاک ، إمّا بالأجزاء ، یعنی بکلّ واحدٍ لا بشرط عن الانضمام إلیٰ سائر الأجزاء ، و إمّا بکلّها ، أی کلّ الأجزاء أو کلّ واحدٍ بشرط الانضمام . فإنْ کانَ المتعلَّق هو الجزء ، فالمفروض أنّ الجزء لم یجب بالوجوب النفسی ، و تعلّق البعث الأکید به یکون من تعلّق الحکم بشیء لا ملاک له ، لأنّ ملاک وجوب الجزء هو الملاک الغیری ، و ملاک الوجوب الغیری لا یقتضی أزید من الطلب الغیری ... فلیس متعلَّق البعث الأکید هو الجزء ، و لا الأجزاء لا بشرط عن الانضمام .
و إنْ کان المتعلَّق له هو الکلّ ، فإنّ الکلّ لیس له إلّا ملاک الوجوب النفسی ، و البعث الأکید تابع لکلا الملاکین .
و بهذا یظهر : إنه لو اتّصفت الأجزاء بالوجوب النفسی و الغیری معاً ، و هی موجودة بوجود الکلّ ، یلزم اجتماع المثلین ، و لو ارید حلّ مشکلة الاجتماع بالاندکاک ، فإنّه - و إن کان قابلاً للتصوّر ، و هو واقع فی مثل إکرام العالم الهاشمی - غیر منطبق هنا ، لأن الحکم تابع للملاک ، و حدّ الملاک معلوم ، و لا یمکن زیادة الحکم علیٰ الملاک .
و تلخّص : إنّ هنا وجوباً واحداً فقط ، فإمّا النفسی و إمّا الغیری ، فقال المحقق الخراسانی : لیس هنا إلّا الوجوب النفسی - و إن کان ملاک الوجوب الغیری بالنسبة إلیٰ الأجزاء موجوداً - لسبق الوجوب النفسی . ثم أمر رحمه اللّٰه بالتأمّل .
ص:262
و أوضح - فی (حاشیة الکفایة) - وجه التأمّل ، بالإشکال فیما ذکره فی المتن من تعدّد الملاک ، بأنه لمّا کانت الأجزاء الداخلیّة وجودها بعین وجود الکلّ ، فلیس لها وجود منحاز عن الکلّ ، حتی یکون لها ملاک یقتضی المطلوبیّة الغیریّة لها ، و إنّما التعدّد بین الأجزاء و الکلّ اعتباری فقط ، و إذ لیس فی المقام ملاک للوجوب الغیری ، فلا وجه للقول بأنّ الوجوب النفسی هو الواقع ، لسبقه ، بل هو موجود لوجود الملاک له ، و الغیری غیر موجود لعدم وجود الملاک له .
هذا ، و فی قوله « لسبقه » أیضاً إشکال ، لأنه علیٰ فرض وجود الملاک للوجوب الغیری ، فالتعلیل المذکور غیر صحیح ، لعدم تعقّل السبق بلا لحوق ، لکونهما متضایفین ، فسبق الوجوب النفسی مستلزم للحوق الوجوب الغیری ، و الحال أنّ الوجوب الغیری محال ، للزوم اجتماع المثلین ... و هذا الإشکال وارد علیه و لا جواب عنه .
بل الصحیح أنْ یقال بوجود وجوبٍ واحدٍ و هو النفسی ، لوجود المقتضی له و عدم المانع عنه ، أمّا المقتضی فالملاک ، و أمّا عدم المانع ، فلأنّه لا یوجد ما یصح لأنْ یکون مانعاً عن تأثیر الملاک النفسی فی الوجوب ، و أمّا الوجوب الغیری فإنّ لزوم اجتماع المثلین یمنع عن تحقّقه .
لا یقال : لا محذور فی اجتماع المثلین فی الامور الاعتباریّة .
لأنّا نقول : بأنّ لزوم المحال فی المنتهی واضح جدّاً ، لأن البعث یقتضی الانبعاث ، و تحقّق الانبعاثین نحو الشیء الواحد غیر معقول ، فوجود الوجوبین محال ، و حصول الوجوب الواحد المؤکّد محال .
هذا تمام الکلام فی هذا المقام ... و یبقی الکلام فی ثمرة هذا البحث :
ص:263
قالوا : إن ثمرة البحث عن أنّ الأجزاء الداخلیّة تتّصف بالوجوب الغیری أو لا ، تظهر فی مسألة انحلال العلم الإجمالی و عدمه . ففی موارد العلم الإجمالی - حیث یکون وجوب الأقل معلوماً و وجوب الأکثر مشکوک فیه - تجری البراءة عن الأکثر ، و هنا ، إنْ قلنا بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، تکون هی الأقل المتیقّن ، لأنّها تجب ، إمّا بالوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ ، و إمّا بالوجوب الغیری المتعلّق بها ، و أمّا إن قلنا بعدم وجوبها بالوجوب الغیری ، فلا ینعقد العلم الإجمالی بالبیان المذکور .
فهل هذه الثمرة مترتّبة أو لا ؟
لقد ذکر الشیخ الأعظم قدّس سرّه - لانحلال العلم الإجمالی بین وجوب الأقلّ و وجوب الأکثر الارتباطیین - تقریبین : أحدهما : هو التقریب المتقدّم ، و حاصله : کون الأقلّ معلوم الوجوب بالعلم التفصیلی الجامع بین الوجوبین ، و یکون الشک فی الأکثر - الزائد - بدویّاً . و الثانی : إن نفس الوجوب النفسی المعلوم بالإجمال یشتمل علیٰ ما هو معلوم بالتفصیل و هو الأقل ، لکونه فی ضمن الأکثر ، و یکون الأکثر الزائد علیه مشکوکاً فیه .
فعلیٰ التقریب الأوّل یتصوّر الثمرة فی المقام .
لکنّ المحقق العراقی (1) جعل مرکز ترتّب الثمرة علیٰ عکس التقریب الأوّل ، فقال بالاشتغال بناءً علیٰ القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، لأنّه بناءً علیه لا ینحلّ العلم ، مثلاً : إنّا نعلم إجمالاً بوجوب الصّلاة إمّا مع السّورة و إمّا بدونها ، و من هذا العلم یتولَّد علم آخر ، و هو وجوب الأقل - أی
ص:264
الصّلاة بلا سورة - إمّا بالوجوب النفسی و إمّا بالوجوب الغیری ، و ذلک لأنّ الوجوب الغیری للأقل مترشّح من الوجوب النفسی المتعلّق بالأکثر ، و أن تعلّقه بالأکثر علّة لوجوب الأقل وجوباً غیریّاً ، فکان هذا العلم الإجمالی معلولاً للعلم الإجمالی الأوّل ، و إذا تنجّز التکلیف بالنسبة إلیٰ الأکثر بالعلم السّابق ، فلا یعقل انحلاله بعد ذلک بالعلم اللّاحق المتولّد منه . و بعبارة أُخریٰ ، فإنه لا یعقل زوال العلّة بالمعلول .
و الحاصل ، إنه بناءً علیٰ القول بوجوب الأجزاء بالوجوب الغیری ، لا ینحلّ العلم ، و تکون النتیجة الاحتیاط لا البراءة .
و هذا الذی ذکرناه هو مقصود المحقّق العراقی ، لا ما نسب إلیه فی (المحاضرات) (1) .
و بعد أن ذکر الاستاذ کلام القوم قال : بأنّ الحق عدم ترتّب الثمرة ، لأنّ مناط تنجیز العلم الإجمالی للأطراف هو جریان الاصول فیها و تساقطها بالمعارضة ، فلو جریٰ الأصل فی طرفٍ بلا معارض له فی غیره ، فلا موضوع للعلم الإجمالی ، و علمنا فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر یعود - فی الحقیقة - إلیٰ أنّه هل الواجب هو الأجزاء التسعة لا بشرط الجزء العاشر و هو السورة حسب الفرض ، أو أنها تجب بشرط السّورة ، فیدور أمر الأجزاء التسعة بین أنْ تکون مطلقةً عن السورة أو مقیَّدة بها ، لکنّ جریان أصالة البراءة عن الإطلاق لا موضوع له ، لأنّ الإطلاق لیس بکلفةٍ حتی یُرفع بحدیث الرفع امتناناً ، بل التقیید فیه الکلفة علیٰ المکلَّف و فی رفعها الامتنان علیه ... إذن ،
ص:265
فلا مجریٰ للأصل فی أحد الطرفین ، و یکون جاریاً فی الطرف الآخر بلا معارض .
(قال) غایة ما یمکن أن یقال : إنّ القول بوجوب الأجزاء وجوباً غیریّاً شرعیّاً ، یجوّز للفقیه أن یفتی بذلک ، و یجوز حینئذٍ قصد وجوبها علیٰ المبنیٰ ، و أمّا علیٰ القول بالعدم ، فلا یجوز الفتویٰ بذلک ، و یکون الإتیان بها بقصد الوجوب تشریعاً .
هذا تمام الکلام فی المقدّمات الداخلیّة ، و قد ظهر أنها غیر داخلة فی البحث .
ص:266
و تنقسم المقدّمة إلیٰ : مقدّمة الوجوب ، و مقدّمة الوجود ، و مقدّمة الصحّة ، و مقدّمة العلم أو : المقدّمة العلمیّة .
أمّا مقدّمة الوجوب ، فهی شرط التکلیف ، کالاستطاعة بالنّسبة إلیٰ وجوب الحج ، و هذا القسم خارج عن البحث ، لأنه ما لم یجب ذو المقدّمة فلا وجوب للمقدّمة ، فإذا وجب ذو المقدمة ، کان وجودها حاصلاً من قبل ، فلا یعقل تعلّق الوجوب بها .
و أمّا المقدّمة العلمیّة ، فهی المقدّمة الموجبة لعلم المکلَّف بحصول الامتثال و فراغ الذمة عن التکلیف ، کالصّلاة إلیٰ الجهات الأربع ، و وجوبها عقلی من باب قاعدة الفراغ ، و لیس شرعیّاً ، و بحثنا فی مقدمة الواجب إنما هو عن وجوبها شرعاً ، و مما یؤکّد ذلک : أن المقدّمة العلمیة ، یدور أمرها بین الواجب النفسی و غیر الواجب ، لأن احدی الصّلوات هی الواجب النفسی ، و الثلاثة البقیّة لیست بواجبة أصلاً ، لا نفساً و لا غیریّاً .
و مقدّمة الوجوب داخلة فی البحث ، کما هو واضح ، لأن بحثنا عن الوجوب الغیری المترتب علیه المطلوب النفسی .
و مقدّمة الصحّة ترجع إلیٰ مقدّمة الوجود ، لأنّ معنیٰ مقدمة الصحّة مقدمة تحقق المأمور به .. فهی داخلة کذلک .
ص:267
و تنقسم المقدّمة إلیٰ : المقدّمة العقلیّة ، و المقدّمة الشرعیّة ، و المقدّمة العادیّة .
أمّا العقلیّة فداخلة فی البحث ، کطیّ المسافة للحج ، فإنّه یتوقّف علیٰ طیّ المسافة و السفر ، و حینئذٍ یبحث عن وجوبها شرعاً وجوباً غیریّاً .
و أمّا الشرعیّة ، فهی المقدّمة لحصول المأمور به و تحقّقه بأخذٍ من الشارع ، کالطهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، لکنْ بعد أخذه و حکمه بامتناع الصّلاة بلا طهارةٍ تصیر هذه المقدّمة عقلیّةً ، إذ العقل یحکم بلزوم الإتیان بها ، تحصیلاً للامتثال و خروجاً عن الاشتغال .
و أمّا العادیّة ، فإنْ کان المراد منها ما جریٰ علیه العرف و العادة فی کونه طریقاً و مقدّمةً للوصول إلیٰ ذی المقدّمة ، فهی غیر داخلة فی البحث ، و إنْ کان المراد ما لا یمکن الوصول إلیٰ ذی المقدّمة عادة إلّا به ، کنصْب السلّم للصعود إلیٰ السطح ، حیث أنّ الطیران محالٌ عادةً - و إنْ لم یکن بمحالٍ عقلاً - فهی راجعة إلیٰ المقدّمة العقلیّة ، لأنّ الطیران غیر ممکنٍ من المکلَّف ... فتکون حینئذٍ داخلةً فی البحث .
ص:268
و تنقسم إلیٰ : المقدّمة السابقة ، و المقدّمة اللّاحقة ، و المقدّمة المقارنة .
و کلّ واحد من الأقسام ، تارةً مقدّمة لمتعلّق الحکم ، و أخریٰ مقدّمة للحکم .
و الحکم ، تارةً : تکلیفی ، و أخریٰ : وضعی .
أمّا المقدّمة السابقة ، کالإیجاب و القبول بالنسبة إلیٰ الملکیّة ، و کالطّهور بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، بناءً علیٰ أنه نفس الغسَلات و المسحات .
و أمّا المقدّمة المقارنة ، کالطّهور بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، بناءً علیٰ أنه الأثر الحاصل من الغسلات و المسحات .
و أمّا المقدّمة السابقة ، فسیتّضح الکلام حولها من خلال البحث عن المقدّمة المتأخّرة .
و أمّا المقدّمة المقارنة ، فلا کلام فی دخولها فی البحث .
و أمّا المقدّمة المتأخّرة ، کالإجازة فی عقد الفضولی بناءً علیٰ الکشف ، و هی المعبَّر عنها بالشرط المتأخر ، فقد عقدنا لها فصلاً مستقلّاً ، لأهمیّتها و آثارها علماً و عملاً ، و هذا تفصیل الکلام علیها :
ص:269
ص:270
ص:271
ص:272
و لا بدَّ من تنقیح مورد النزاع أوّلاً ، ثم البحث ثبوتاً و إثباتاً .
إنّ الإشکال فی الشرط المتأخّر جارٍ فی شرط الحکم التکلیفی ، و شرط الحکم الوضعی ، و شرط المأمور به ، فهو إشکال عام ، و تقریبه :
إن العلّة - سواء کانت بسیطة أو مرکّبة - فی مرتبةٍ سابقةٍ علیٰ المعلول ، و هما مقترنان فی الزّمان ... .
و إن العلّة لا بدّ و أنْ تکون مؤثّرة فی المعلول ، و إلّا یلزم الخلف ، و تأثیرها فیه موقوف علیٰ وجودها ، و إلّا فالمعدوم غیر مؤثر ، فلا یعقل حصول الأثر و هو المعلول ، قبل حصول المؤثر و الشرط فی تأثیره .
و بناءً علیٰ ما ذکر ، فإنّه فی حال تأخّر الشرط و سبق المعلول علیٰ العلّة ، لا بدّ من الالتزام بأحد أمرین ، إمّا نفی نسبة العلیّة و المعلولیّة بینهما ، و هذا خلف ، و إمّا أنْ یکون المعدوم مؤثراً فی الوجود ، و هذا محال .
و إذا کان الإشکال بهذه الصّورة ، فإنّه یعمّ الشرط المتقدّم أیضاً ، لأنّ المفروض تأثیره فی وقتٍ لیس المشروط و ذو المقدمة متحقّقاً بعدُ ، فإمّا أنْ تنفی العلّیة و المقدمیّة بینهما ، و هذا خلف ، و إمّا یقال بالتأثیر فی المعدوم ، و هذا محال ... .
و لذا قال المحقق الخراسانی بعموم الإشکال للمقدّمة السابقة أیضاً .
و من هنا أیضاً : أورد السیّد الطباطبائی الیزدی فی بحث الشروط الشرعیّة ، بتوضیح کلام الجواهر - علیٰ المنکرین للشرط المتأخر ، بأنّ إنکاره
ص:273
یستلزم إنکار الشرط المتقدّم أیضاً ، لکنّ إنکاره باطل ، لوجود الشرط المتقدّم فی التکوینیّات و الشرعیّات ، فلا مناص من قبول الشرط المتأخّر ، لوحدة المطلب بینهما ... و قد سلّم صاحب الکفایة بهذا النقض .
هذا هو الإشکال العام .
و أمّا الإشکال الخاص ، فقد قرّره المحقق النائینی (1) ، و هو :
إن القضایا الشرعیّة کلّها قضایا حقیقیّة لا خارجیّة ، إذ الشارع یفترض الموضوع موجوداً ، و یجعل الحکم للموضوع المفروض الوجود ، و إنّ الأساس لهذا الفرض من الشارع هو الواقع و هو تابع للواقع ، و النسبة بینهما نسبة المعلول إلیٰ العلّة ، و إذا کان کذلک ، کان کلّ شرط موضوعاً ، و کان کلّ موضوع شرطاً ، و علی هذا ، ترجع الشروط إلیٰ کونها موضوعات للأحکام ، سواء التکلیفیّة أو الوضعیّة .
وعلیه ، فالحکم لا بدَّ و أن یتوجّه علیٰ الموضوع المفروض الوجود بالفرض المتأثر بالواقع ، لا بالفرض اللّابشرط من الواقع ، وعلیه ، فیکون الشرط المتأخّر محالاً ، لأنّ المفروض کونه فی رتبة الموضوع ، یلحظه الحاکم و یوجّه إلیه الحکم ، و إذا کان متأخّراً لا یتحقّق الرؤیة له و الموضوعیّة للحکم .
و قد ذکرت وجوه لحلّ هذه المشکلة ، و تصحیح الشرط المتأخّر :
ما حکاه المحقّق الخراسانی عن الشیخ الأعظم قدّس سرّه : من أنّ الشرط المتأخّر غیر معقول ، و هنا لیس الشرط متأخّراً ، و إنما یکون الشیء
ص:274
بوصف التأخّر شرطاً .
و فیه :
إنّ المستفاد من کلمات الشیخ بل صریحها ، هو عدم الموافقة علیٰ الشرط المتأخّر بأیّ شکلٍ کان ، قال : و لذا قلنا بالإجازة و أنکرنا الکشف مطلقاً ، و أکّد علیٰ أن هذه قاعدة عقلیّة ، و لا یسعنا أن نؤمن بما لا نتعقّله .
علیٰ أن ما نسبه صاحب الکفایة إلیه غیر رافع للإشکال ، للزوم تأثیر المعدوم فی الموجود کذلک ، فالإشکال یعود .
ما حکاه المحقق الخراسانی و السیّد فی (حاشیة المکاسب) عن المیرزا الشیرازی (1) من أنّ الشرط المتأخّر فی الشرعیّات - کالإجازة فی عقد الفضول ، و غسل المستحاضة باللّیل لصومها - إن کان بوجوده الزمانی شرطاً للحکم أو متعلّق الحکم ، فالإشکال وارد ، لکن الشرط فی هذه الموارد هو الشرط بوجوده الدهری ، و الوجود الدهری العقلی مقارن للمشروط و لیس بمتأخّر .
و توضیحه : إن الموجودات کلّها مجتمعة فی عالم التجرّد ، و هو عالم ما فوق الزمان ، المعبّر عنه أیضاً بعالم العقل و بوعاء الدهریات و وعاء المجرَّدات ، و حینئذٍ ، یکون بینها التقارن و لیس التقدّم و التأخّر .
و فیه :
إن الخطابات الشّرعیة ملقاة إلیٰ العرف ، فعلی فرض التسلیم بما ذکر من حیث أصل المطلب - و کلّه مخدوش - فإنّ العرف لا یفهم الوجود الدهری
ص:275
أصلاً ، بل یری الموجود الزمانی ، فالإجازة الموجودة فی الزمان و فی عالم التحقّق ، هی المؤثّرة عند العرف العام . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنه یعتبر فی الشرط أن یکون مقدوراً للمکلَّف ، فالغسل من المرأة مقدور إن وجب علیها إیجاده فی الزمان و هو اللیل ، و أمّا الموجود فی دعاء الدهر ، فأیّ قدرة لها علیه کی تکون مخاطبةً به ؟
ما ذکره المحقق النراقی (1) ، من أنّ الشرط لا بدّ و أنْ یتحقّق ، فلا ریب فی لزومه ، أما اشتراط کونه مقارناً للمشروط فغیر لازم .
و فیه :
إن هذا التزام بالإشکال ، لأن البحث هو فی أن المتأخّر شرط أو لا ؟ إن لم یکن جائزاً کونه شرطاً ، فلا یعقل أخذه من قبل الحاکم ، لکنّ أخذه له دلیلٌ علیٰ دخله فی حکمه و تأثیره فی اتّصاف الصّوم من المرأة بالصّحة ، فکیف تحقّق الصحّة للصّوم الآن ، و شرطه - و هو الغسل - یأتی فی اللّیل ؟ کیف یحصل الأثر قبل مجیء المؤثّر و تحقّقه ؟
ما ذکره السیّد فی (حاشیة المکاسب) (2) من أنّ الشرط السابق و کذا الشرط المتأخّر ، موجود فی التکوینیّات و فی الشرعیّات ، مثلاً نقول : هذا الیوم أوّل الشهر ، فیوصف بالأوّلیة و تحقق له بالفعل ، مع أنّ کلّ أوّلٍ فله آخر ، و آخر الشهر لم یوجد بعدُ ، و مع کونه معدوماً فالأوّل موجود . و کذا فی
ص:276
المرکّبات الخارجیّة ، نری أنّ الجزء الأخیر دخیل فی صحة الجزء الأوّل و ترتّب أثره علیه ، مع أنه غیر موجود حین وجود الأوّل ... هذا فی العقلیّات و التکوینیّات ، و کذلک الحال فی الشرعیّات ، حیث یکون الإیجاب مقدمةً لترتّب الملکیّة علیٰ القبول المتأخّر عن الإیجاب ... .
و حلّ المطلب هو : إن المستحیل کون المعدوم مؤثّراً ، و أمّا کونه دخیلاً فی التأثیر ، فلا استحالة فیه ، بأنْ یکون الأثر من المقارن ، و یکون المتأخّر دخیلاً فی تأثیر المقارن ، فصیغة « بعت » هی المؤثّرة فی الملکیّة ، لکنَّ تأثیر « الباء » موقوف علیٰ مجیء « التاء » ، و تأثیر « التاء » موقوف علیٰ تقدّم « الباء » علیها ، فکان المتقدّم دخیلاً فی تأثیر المتأخر و کذا العکس ... فهو دخلٌ فی التأثیر ، و لیس هناک علیّة و معلولیّة .
و فیه :
کیف یکون المعدوم دخیلاً فی تأثیر الموجود غیر إخراجه الأثر من المؤثّر من القوّة إلیٰ الفعل ، أ لیس للخروج من القوّة إلیٰ الفعل منشأ ؟ إن قلتم :
لا ، لزم صدور المعلول من غیر علّة ، و هو محال ، و إن قلتم : نعم ، فکیف یکون الخروج من القوّة إلیٰ الفعلیّة فی زمانٍ سابق علیٰ وجود المخرج من القوّة إلیٰ الفعلیّة ؟ کیف یکون حصول الموجود من المعدوم ؟
ما ذکره المحقق الخراسانی - بعد أنْ عمّم الإشکال للمقدّمة السّابقة أیضاً ، ببیان : أنّ الإشکال فی المتأخّر هو تأخّر جزء العلّة عن المعلول ، و تقدّم جزئها کذلک ، لأن العلّة و المعلول متقارنان .
و قد أشکل علیه الاستاذ - کما جاء فی (المحاضرات) أیضاً : بأنّ
ص:277
المقدّمة السابقة مُعدّة و لیست بعلّة و لا جزءاً للعلّة ، حتی تکون مؤثّرة ، و تقدّم المُعدّ لا محذور فیه ، فالإشکال یختصّ بالشرط المتأخّر - و لرأیه تقریبات :
التقریب الأوّل : إن الحکم أمر نفسانی ، و لیس بخارج عن افق النفس ، - سواء کان الإرادة المبرزة کما علیه المحقق العراقی ، أو الاعتبار الناشئ من الإرادة کما هو مسلک المحقق الخراسانی - و مقتضی البرهان العقلی القائم علیٰ ضرورة السنخیّة بین العلّة و المعلول و المقتضی و المقتضیٰ ، هو أن تکون مبادئ الحکم نفسانیّة أیضاً ، و إذا کانت کذلک ، فلیس مقدّماته و مبادؤه إلّا لحاظ الموضوع و المحمول و قیود الموضوع ، و التصدیق بالغایة ، و لا ریب فی أنّ هذه کلّها مقترنة بالحکم و متحققة فی ظرفه ، و لیست بمقدّمة علیه و لا متأخرة عنه .
إذن ، رجع الشرط المتأخّر إلیٰ المقارن ، و ارتفع الإشکال فی مثل الإجازة و نحوها .
التقریب الثانی : إنه لا شکّ فی أن الباعث و المحرّک فی الإرادة هو العلم و الإدراک ، و أمّا الخارج فلیس بمؤثّر یقیناً ، و لذا لو کان الماء موجوداً فی الخارج و لا یعلم به الإنسان - و هو عطشان - لم یتحرّک نحوه و مات عطشاً ، فالمؤثّر بالوجدان للتحرّک هو الصّورة العلمیّة و الوجود اللّحاظی ، وعلیه ، فالمؤثّر فی الملکیّة هو الوجود العلمی للإجازة و لیس الوجود الخارجی ، و المفروض تحقّق الوجود العلمی فی ظرف المعاملة .
التقریب الثالث : إن الحکم لیس له مادّة و صورة ، فهو یتحقّق بمجرّد تحقق العلّة له ، و هو الفاعل و الغایة - بخلاف الموجودات الخارجیّة المادّیة ، فإنّ تحقّقها یکون بالمادّة و الصّورة و الفاعل و الغایة - و إذا کان المحقّق للحکم
ص:278
هو العلّة الفاعلیّة و العلّة الغائیّة فقط ، فمن المعلوم أنّ الغایة تتصوّر من الفاعل حین الحکم ... .
و قد أشکل المیرزا (1) علیٰ صاحب (الکفایة) فیما ذکره فی حلّ مشکل الشرط المتأخّر ، و یعتمد إشکاله علیٰ مقدّمتین :
(المقدمة الأولیٰ) فی الفرق بین القضیّة الحقیقیّة و القضیّة الخارجیّة ، و أنّ القیود المأخوذة فی موضوع القضیّة الخارجیّة ترجع إلیٰ علّة التشریع و الحکم ، دون القضیّة الحقیقیّة .
و توضیح ذلک : إن العنوان المأخوذ فی القضیّة الخارجیّة إنما هو عنوان مشیر و لیس هو الموضوع للحکم ، بل الموضوع هو الفرد المشار إلیه بالعنوان ، فلمّا یقال : أکرم من فی المدرسة ، أو یقال : قتل من فی العسکر ، فإنّه لا موضوعیّة للعنوان المذکور ، بل لزید و عمرو و هکذا غیرهما من الأشخاص ، فکان الحکم متوجّهاً إلیهم ، و علّة الحکم هو العنوان ، مثل الکون فی المدرسة و العسکر . أمّا فی القضیّة الحقیقیة ، فإن موضوع الحکم نفس العنوان ، فإذا قال : أکرم من کان صدیقی ، ترتّب الحکم علیٰ عنوان « الصداقة » و کان تطبیقه علیٰ المصادیق بید المکلّف ... بخلاف القضیّة الخارجیّة حیث یکون تطبیقه بید الحاکم .
و علی هذا ، فکلّ القیود المأخوذة فی طرف الموضوع فی القضیّة الخارجیّة ترجع إلیٰ العلّة للحکم ، و حینئذٍ ، یکون ظرف فعلیّة الحکم متّحداً مع ظرف الإنشاء ، بخلاف الحال فی القضیّة الحقیقیّة ، إذ یکون ظرف فعلیّة
ص:279
الحکم متأخّراً عن ظرف الإنشاء ، لأن القید - کالاستطاعة فی الحج - قد لا یکون عند الإنشاء متحقّقاً .
(المقدمة الثانیة) فی مراتب الحکم ، و هی عند صاحب (الکفایة) أربع :
الملاک ، و الإنشاء ، و الفعلیّة ، و التنجیز ، و أمّا عند المیرزا فاثنتان فقط ، لأنه یری أنّ الملاک علّة للحکم ، و علّة الشیء خارجة عن الشیء ، و أن التنجیز إنما هو حکم العقل باستحقاق العقاب علیٰ المخالفة ، فلیس من مراتب الحکم ...
و یبقی الإنشاء و الفعلیّة ، أمّا الإنشاء ، فهو مرحلة الجعل ، و أمّا الفعلیّة فهو مرحلة فرض وجود الموضوع و قیوده ، ففی قوله تعالی : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ ... » (1)یجعل الحکم علیٰ الموضوع المفروض وجوده و هو المستطیع ، و إن لم یکن موجوداً عند الإنشاء أصلاً ... هذا فی مرحلة الإنشاء . و أمّا مرحلة الفعلیّة ، فلا بدّ من وجوده فی وعائه المناسب له من الخارج أو الاعتبار .
(و بعد المقدّمتین) یظهر أنّ الشرط فی القضیّة الحقیقیّة لیس إلّا شرط الحکم و الجعل ، لما تقدّم من اتّحاد الظّرف فیها بین الإنشاء و الفعلیّة ، لکن القضایا الشرعیّة کلّها حقیقیّة ، و فی الحقیقیّة شرائط للجعل و شرائط للمجعول ، لاختلاف الظرف کما تقدّم ، و لذا نری أن الحکم مجعول قبل البلوغ ، لکنّ فعلیّته هی بعد البلوغ ، و علی هذا ، فیرد علیٰ المحقق الخراسانی الإشکال بأنه :
قد خلط بین شرائط الجعل و شرائط المجعول ، و بین القضیّة الخارجیّة و القضیّة الحقیقیّة ، فإنّ الذی ذکره إنما یتمّ فی مرحلة الجعل و الإنشاء ، فهناک یتحقّق لحاظ الموضوع و قیوده و لحاظ الحکم و یتحقق الإنشاء ، و ذلک شرط
ص:280
حصول الجعل ، و لیس فی القضیّة الخارجیّة شیء سوی ذلک ، إلّا أنّ فی القضیّة الحقیقیّة طائفتین من الشرائط ، فشرائط الجعل و الإنشاء غیر شرائط المجعول و مرحلة فعلیّة الحکم ، فإنّ شرط فعلیّة الحکم هو الوجود الخارجی للموضوع المتصوّر بقیوده ، و إذا کان کذلک ، صار الشرط موضوعاً ، و حینئذٍ ، فلو تأخّر الشرط لزم تقدّم الحکم علیٰ موضوعه ، و هذا محال .
و الحاصل : إن کلامنا فی شرائط الحکم ، أی فی شرائط فعلیّته ، لا فی شرائط الإنشاء و الجعل له ... و الوجود النفسانی علّة للجعل ، و لیس بعلّةٍ للفعلیّة ، بل العلّة للفعلیّة هی الوجود الخارجی الواقعی للموضوع فی افق الاعتبار .
و قد أورد علیه فی (المحاضرات) بما حاصله (1) : إن الأحکام الشرعیّة أمور اعتباریّة ، و لا تخضع إلّا لاعتبار من بیده الاعتبار ، فلا تخضع لقوانین الموجودات التکوینیّة ، و علی هذا ، فما یسمّی بالسبب أو الشرط - کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج ، و البلوغ بالنسبة إلیٰ التکلیف ، و نحو ذلک - لیس بسببٍ أو شرط للحکم ، و إنما هو الاعتبار فقط ... و إذا کان کذلک ، دار الأمر مدار کیفیّة الاعتبار ، فکما یمکن للشارع جعل الحکم علیٰ موضوع مقیَّد بقیدٍ فرض وجوده فی زمان فعلیّة الحکم و مقترناً لها ، کذلک یمکن له أن یجعل الحکم علیٰ موضوع مقیّدٍ بقیدٍ فرض وجوده ، متقدّماً علیٰ فعلیّة الحکم أو متأخراً عنها .
و علی الجملة ، فإنّ اللّازم فی القضیّة الحقیقیّة کون الموضوع مفروض
ص:281
الوجود بالفعل خارجاً بجمیع قیوده و شرائطه ، أمّا أن یکون الموجود المفروض کذلک مقارناً فی الزمان لفعلیّة الحکم ، فلا دلیل علیه ، و لیس بلازم ، لأن الحکم أمر اعتباری یدور مدار کیفیّة الاعتبار ، و مثاله فی العرفیّات هو الحال فی الحمّامات العمومیّة ، فإنّ الحمّامی یرضی الآن بدخول الشخص إلیٰ الحمّام و استحمامه فیه ، بشرط أنْ یدفع الاُجرة لدی الخروج ، فکان الرّضا منه فعلیّاً و الشرط متأخّر ... و تأثیر الإجازة فی بیع الفضول من هذا القبیل ، فإنّ الشارع یرضی بترتّب الأثر علیٰ هذه المعاملة ، لکن بشرط مجیء الإجازة ، فتکون الإجازة اللّاحقة محقّقة لهذه الحصّة من الملکیّة ، لأن الشرط أثره تحقق طرف الإضافة فی الملکیّة .
إن الکلام المذکور سابقاً من صاحب (الکفایة) ، هو فی الأصل لحلّ مشکلة الشّرط المتأخر للمأمور به ، أی الواجب ، فأخذه المحقق العراقی ، و جعله حلّاً للمشکلة فی الواجب و فی الوجوب ... ثم أصبح هذا الطریق أساس مبنی المتأخرین فی حلّ مشکلة الشرط المتأخّر ... و نحن نوضّح کلام المحقق الخراسانی قدّس سرّه فی نقاط :
الأولیٰ : إن العناوین منها ذاتیّة و منها غیر ذاتیّة ، فالذاتی ما لا یقبل التغیر ، کإنسانیّة الإنسان ، فهی لا تتغیّر بتغیّر الاعتبار و لا تختلف ، و غیر الذاتی یقبل ذلک ، کالتعظیم ، فقد تعتبر الحرکة الکذائیّة تعظیماً ، و قد لا تعتبر بل تعتبر هتکاً .
الثانیة : تارةً : یکون للشیء دخل فی التأثیر ، و اخریٰ : یکون له دخل فی التحدید ، فما کان من القسم الثانی یمکن أن یکون حین دخله فی التحدید
ص:282
معدوماً ، بخلاف القسم الأوّل ... مثلاً : یتکلّم الإنسان بکلامٍ یکون محدّداً لکلامٍ سابقٍ علیه لغیره ، و یعطیه عنوان « السؤال » ، فالکلام الذی جاء متأخّراً و اتّصف ب « الجواب » قد أثّر فی الکلام السّابق فکان « سؤالاً » ، فی وقت لم یکن « الجواب » موجوداً .
الثالثة : إنّ الحسن و القبح یختلفان بالوجوه و الاعتبارات ، فقد یتّصف الانحناء من الإنسان بالحسن ، إذا کان تواضعاً ، و قد یتّصف بالقبح إذا کان تملّقاً ، و قد لا یتّصف بشیء منهما ، کما إذا کان لرفع شیء من الأرض مثلاً .
و نتیجة هذه النقاط هی : إن المؤثّر فی الملاک لیس هو الشرط أصلاً ، و إنما دخله فیه حصول الإضافة و تخصیص العنوان المطلق به ، فکما أنّ الإذن السّابق یحصّص البیع اللّاحق و یحدّده ، و بذلک یکون البیع الصّادر لاحقاً من المأذون حصّةً من البیع ، و یصیر مضافاً إلیٰ المالک الآذن ، مع أنّ الإذن معدوم عند ترتّب الأثر علیٰ البیع ، کذلک الإذن اللّاحق ، فإنه محدّد و موجد للحصّة و محقّق للإضافة ، فکما یضاف البیع إلیٰ الإجازة السّابقة و صاحبها ، کذلک یضاف إلیٰ الإجازة اللّاحقة و صاحبها ... و کذلک الحال فی الغسل ، فإنّ أثره تحدید طبیعة الصوم بتلک الحصّة التی کانت موضوع الوجوب .
و مثال إفادة الشرط للتحدید و التحصیص فی العرفیّات ، هو المثال المذکور فی التکلّم ، و أیضاً مثل الاستقبال ، فإنّ الخروج إلیٰ خارج البلد مثلاً یختلف بالوجوه و الاعتبارات و الأسباب ، و أحدها أن یکون تکریماً للقادم ، فالخروج بهذا القصد حصّة من الخروج - فی مقابل الخروج بقصد التجارة مثلاً قد تعنون بعنوان الاستقبال ، لکونه قد اضیف إلیٰ قدوم الشخص مع أنه غیر قادم بعدُ ، فکان الذهاب إلیٰ خارج البلد - الذی هو عنوان عرضی لا ذاتی
ص:283
- معنوناً بعنوان الاستقبال بسبب ذاک الأمر المتأخّر ، و هو قدوم الشخص ...
فأصبح الأمر المتأخّر غیر الحاصل فعلاً ، محصّصاً و محدّداً للعنوان المتقدّم - و هو الذهاب - و موجباً لحسنه ، و محقّقاً للإضافة بینهما .
و هذا شرح لقول المحقّق الخراسانی بأن الشروط أطراف الإضافة فی الشروط الشرعیّة ، و لکلام المحقق العراقی من أن المؤثر محدود و الشروط وظیفتها التحدید ، و لیست بنفسها مؤثّرةً کی یقال بأن المعدوم لا یؤثّر فی الموجود .
ثم أورد علیه الاستاذ : بأنّ الإضافة لیست بأمر اعتباری کی یقال بأنه یختلف بالوجوه و الاعتبارات ، بل هی أمر واقعی ، و المتضایفان متکافئان فی القوّة و الفعل ، و لا یعقل وجود الإضافة و المضاف فی وقتٍ یکون طرف الإضافة معدوماً ، فالإضافة بلا طرفٍ خلف .
و النقض بالزمان ، من الأمس و الیوم و الغد ، حیث یضاف الیوم إلیٰ الغد و إلی الأمس مع انعدامهما .
قد أجاب عنه الشیخ الرئیس فی الشفاء (1) ، بأنّ تلک الإضافة ذهنیّة ، و فی الذّهن یجتمع السّابق و اللّاحق .
لکنّ المشکلة هی : أن هذه الإضافة خارجیّة .
فقیل : بأنّ الزمان وجود واحد متصرّم .
و فیه : و إنْ ذکره المحقق الاصفهانی (2) ساکتاً علیه : إن الحرکة وجود
ص:284
واحد ، لکنّ الإنسان عند ما یتحرّک من مکانٍ إلیٰ مکان ، فهو متوسّط بین موجودٍ و معدوم ، فکیف یتحقق إضافة الموجود إلیٰ المعدوم ؟
و علی الجملة ، فإن الحلّ الذی ذکره المحقق الخراسانی - و عمّمه المحقق العراقی - لا یجدی نفعاً لمشکلة الشرط المتأخّر ، لأنّ الإضافة بلا طرفٍ محال .
و بما ذکرنا یتضح الإشکال فیما ذکره السیّد الحکیم فی (حاشیة الکفایة) (1) و هو ما ذهب إلیه فی (حاشیة المکاسب) (2) فی الکشف ، فقال بأن تصویر الإضافة و المضاف مع عدم تحقّق المضاف إلیه غیر معقول ، لکنّ المهمّ أنّه قد وقع الخلط بین الشرط المقصود هنا ، و الشرط الذی هو جزء من أجزاء العلّة ، فالشرط هناک مؤثر إمّا فی فاعلیّة الفاعل و إمّا فی قابلیّة القابل ، و هکذا شرط یستحیل تأخّره . لکن المراد من الشرط هنا لیس بهذا المعنی ، بل بمعنی القید ، و التقیید یمکن بالأمر السّابق و اللّاحق و المقارن .
توضیح النظر : إنّ التقیید یقابل الإطلاق ، و هو لا یکون بلا ملاک علیٰ مسلک العدلیّة ، و إذا کان بملاکٍ فهو ذا دخلٍ و أثرٍ ، فإمّا یکون دخیلاً فی الملاک ، و إمّا یکون دخیلاً فی فعلیّة الملاک و حصول الغرض .
إذن : إما یکون بلا دخل أصلاً ، فهذا خلف ، لأنه قید ، و إمّا یکون ذا دخلٍ و أثر ، فکیف یکون مؤثّراً فی الموجود و هو معدوم ؟ فیعود الإشکال .
مثلاً : الزّوال قید لوجوب صلاة الظهر ، فما لم یتحقق لا ملاک للصّلاة
ص:285
و لا غرض متعلِّق بها ، و الطّهارة قید للواجب ، و هو الصّلاة ، فما لم تتحقّق الطّهارة لم تتحقّق فعلیّة الغرض من الصّلاة و إنْ کانت ذا ملاک .
فإن أراد السیّد الحکیم من کون الشرط المتأخر قیداً : إنه قید للحکم ، کأنْ یترتب الأثر علی عقد الفضول من حینه بالإجازة اللّاحقة من المالک ، فهو دخیل فی الملاک ، فکیف یکون الشرط المتأخّر دخیلاً فی الملاک و هو متقدّم ؟ و إنْ أراد منه کونه قیداً للواجب ، کما فی الغسل بالنّسبة إلیٰ صوم المستحاضة - فإنّه قید للصّوم نفسه لا لوجوبه ، لأن وجوبه متحقّق بدلیله ، غیر أن الصوم لا یؤثر إلّا مع الغسل ، ففعلیّة الأثر علیه متوقّفة علیٰ الغسل - فیکون دخیلاً أیضاً ، و دخل المعدوم فی الموجود محال .
و أمّا ما فی (المحاضرات) تبعاً للمحقق العراقی ، من القول بأنّ أثر الشرط المتأخّر هو بیان الحصّة و بیان الحصّة کما یکون من المقارن و المتقدّم ، کذلک یمکن من المتأخر أیضاً ، کما فی هذین المحقّقین و حاصل الکلام : کون الشرط المتأخر کاشفاً و بیاناً ، و لیس دخیلاً فی تحقق مقتضی العقد ، لیرد اشکال تأثیر المعدوم فی الموجود .
ففیه : إن هذا ینافی مختاره فی الفقه ، من أن الإجازة اللّاحقة دخیلة لا کاشفة فقط (1) . علیٰ أنَّ التخصّص أمر واقعی و لیس باعتباری ، فالإیمان یحصّص الرقبة واقعاً ، و الغسل المتأخر یحصّص الصّوم المتقدّم واقعاً ، و التحصّص أثرٌ ، فکیف یؤثّر المعدوم هذا الأثر ؟
ص:286
و قال السیّد البروجردی (1) بأنّ الشرائط علیٰ قسمین ، فمن الشرائط : ما له دخل فی المأمور به ، بأنْ یکون قیداً له بما هو مأمور به ، کالوضوء بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، فإنّها لولاه لیست مورداً للأمر ، مع أنه غیر دخیل فی ذاتها . و حلّ المشکلة فی هذا القسم هو : إنّ اشتراط الصّلاة و تقیّدها بالوضوء مقارنٌ للصّلاة و لیس متأخّراً ، و لمّا کان التقیّد و الاشتراط من الامور الانتزاعیّة ، فإن الواجب هو نفس القید ، و لازم ذلک هو القول بالوجوب النفسی للقیود و الشروط ، سواء تقدّمت أو تأخّرت .
إنه فی هذا القسم لم یأتِ بشیء جدید ، فالمطلب نفس مطلب المیرزا ، و قد تقدّم ما فیه من کون الشروط أجزاءً ، و بحثنا فی الشرط المتأخّر لا الجزء المتأخّر .
(قال البروجردی) القسم الثانی من الشرائط : ما له دخل فی انطباق عنوان المأمور به علیٰ معنونه ، حیث یکون المأمور به من العناوین الانتزاعیّة لا فی تحقق عنوان المأمور به ، و لا مانع من أن یکون الشیء المتأخّر دخیلاً فی ذلک .
قال الأستاذ :
و فی هذا القسم أیضاً لم یأتِ بشیء جدید ، فالمطلب نفس مطلب المحقق الخراسانی ، و مثاله الاستقبال ، و قد تقدّم أنه لا یحلّ المشکل فی اعتبار الغسل بالنسبة إلیٰ صوم المستحاضة ، فإنّ عنوان الصّوم حاصل له و لا
ص:287
دخل للغسل ، إنما الکلام فی توقف صحّته علیٰ الغسل ، فکیف یکون دخیلاً فیها و هو معدوم ؟
و فی (المحاضرات) إضافةً إلیٰ ما تقدّم : إن الشروط فی الاعتباریّات تختلف عنها فی التکوینیّات ، کالإحراق مثلاً ، فإنها فی الاعتباریّات قیودٌ و تقیّدات ، و التقیّد کما یکون بالسّابق و المقارن ، کذلک یکون باللّاحق ، و مثاله رضا الحمامی ، کما تقدّم .
أصل المطلب من المحقق الأصفهانی ، فإنّه جعل الامور ثلاثة :
العینیّات ، و الانتزاعیّات ، و الجعلیّات ، و قال : دخل المتأخّر المعدوم فی الاولی و الثانیة غیر معقول ، أمّا فی الثالثة ، فمعقول .
لکن فی (المحاضرات) خلط الاعتباریات بمثل رضا الحمّامی ، فإنّ رضا الحمّامی لیس من الامور الاعتباریة ، بل هو صفة نفسانیّة ، و سیأتی وجه التأثیر فیه .
و أمّا قوله : بأنّه قید و تقیّد .
فنقول : هل یوجد تأثیر و دخلٌ للقید أو لا ؟ إن کون الشیء قیداً لا یکون بلا ملاک ، فلا بدّ و أنْ یکون له خصوصیّة حتی یکون قیداً ، کالإیمان بالنسبة إلیٰ الرّقبة ، فإنْ کان بملاک ، وقع البحث فی التقیید ، هل أنه قید للحکم أو قید للمأمور به ؟ و حینئذٍ یعود الإشکال ، لأنه - سواء کان الأول ، کالإجازة بالنسبة إلیٰ البیع ، أو الثانی ، کالوضوء بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و الغسل بالنسبة إلیٰ الصّوم من دخل المعدوم فی الموجود .
ص:288
و أمّا رضا الحمامی بغسل الشخص فی الحمّام ، فلیس مشروطاً بدفع الاجرة فیما بعد ، و إنما هو صفة نفسانیّة تحصل من علم الحمامی بتحقّق دفع الشخص الاُجرة فیما بعد .. فهی منبعثة من العلم المقارن لها ، و لذا لو لم یکن عنده هذا الرضا لما سمح بالاغتسال إلّا مع أخذ الاجرة من قبل ... فمثال رضا الحمّامی من صغریات ما ذکره المحقّق الخراسانی من أن الشرط فی الامور النفسانیة هو العلم المقارن بها ، و إنْ کان المعلوم متأخّراً .
و أمّا معقولیّة دخل المعدوم فی الموجود فی الجعلیّات - کما ذکر المحقّق الأصفهانی - بأنْ یکون الأمر المتأخّر دخیلاً فی حصول التخضّع و التخشّع للمولی ... فنعم ، فالاحترامات و نحوها من الامور الاعتباریّة یعقل دخل الأمر المتأخّر فی الأمر السّابق فیها ، و حصول عنوان الخضوع و الخشوع له ، بل إنه واقع إثباتاً ، و قد سبقه إلیٰ ذلک المحقق الخراسانی ، و مثّل له بالاستقبال کما تقدّم .
لکنّ الکلام مع المحقق الأصفهانی فی تطبیق الکبری المذکورة علیٰ مثل الغسل للمستحاضة ، إذ کیف یکون الصّوم منها - و هی علیٰ حال القذارة - متعنوناً بعنوان الخضوع و الخشوع من جهة تعقّبه بالغسل ... فإنّ العقلاء لا یرون ذلک ، بل الشارع نفسه یأمر بالتطهّر ثمّ العبادة و الخضوع و الخشوع للّٰه...
و هذا مورد البحث ، و أنه کیف یکون الغسل المتأخّر سبباً للطّهارة حین الإتیان بالعمل المتقدّم ؟
فما ذکره المحقق الأصفهانی لا یحلّ المشکلة .
هذا تمام الکلام فی الطرق المذکورة لحلّ المشکلة ، و قد عرفت أنّ شیئاً منها لا یحلّ مشکلة الشرط المتأخّر ، بل جاء عن السیّد الاستاذ أنّه قال : « و ما
ص:289
قیل فی تصحیحه من الوجوه التی عرفتها لا تغنی و لا تسمن من جوع » (1) .
و من هنا ، فقد سلک شیخنا الاستاذ مسلکاً آخر فی مسألة الشّرط المتأخّر ، فقال دام بقاه : أمّا فی غسل المستحاضة فلا مشکلة ... لأنّ الفتوی باشتراط صومها بالغسل فی اللیلة الآتیة لا مستند لها أصلاً ، لأنّ صحیحة ابن مهزیار :
« کتبت إلیه : امرأة طهرت من حیضها أو دم نفاسها فی أول یوم من شهر رمضان ، ثم استحاضت فصلَّت و صامت شهر رمضان کلّه ، من غیر أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لکلّ صلاتین ، هل یجوز صومها و صلاتها أم لا ؟ فکتب علیه السلام : تقضی صومها و لا تقضی صلاتها ، لأن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله کان یأمر المؤمنات من نسائه بذلک » (2) .
غیر واضحة الدلالة علیٰ اعتبار الغسل و اشتراط صحّة الصوم به ، بأن یؤتی به فی اللّیلة اللّاحقة للصوم .
و أمّا الإشکال فیها بالمنافاة لما دلّ من الأخبار و غیرها علیٰ کون الزهراء الطاهرة علیها السلام بتولاً ، و بأنها تدلّ علیٰ التفصیل بین الصّوم و الصّلاة ، و هو خلاف الإجماع القطعی ، فیمکن دفعه بالتفکیک فی الحجیّة .
إنما الکلام فی قضیة إجازة المالک فی المعاملة الفضولیّة ، و لا بدّ فیها من لحاظ الأدلّة .
إنّه لا ریب فی أن مقتضی الظهور الإطلاقی للتقیید بأیّ قیدٍ ، و الاشتراط
ص:290
بأیّ شرطٍ من الشروط ، هو المقارنة بین المقیَّد و القید ، و الشرط و المشروط ... و لذا لا بدّ من إقامة دلیلٍ خاصٍّ علیٰ تأثیر الإجازة اللّاحقة فی البیع الواقع قبلُ من طرف الفضول .
فإن ارید تصحیح ذلک بالحقیقة العقلیّة الفلسفیة ، فهذا غیر ممکن ، لکنّ الفرق بین الحقیقة العرفیّة و الحقیقة العقلیّة واضح ، و لذا نری أنّ البخار - مثلاً - مباین للماء عرفاً مع أنه ماء بالحقیقة العقلیّة ، هذا من جهة ، و من جهةٍ أخریٰ ، فإنّ المدار فی الامور الاعتباریة ، کالزوجیّة و الملکیّة و غیرها من سائر أبواب العقود و الإیقاعات ، علیٰ الحقیقة العرفیّة العقلائیّة ، و حینئذٍ ، فإنْ أمکن تصویر الإضافة بین الإجازة اللّاحقة و البیع السّابق ، إضافةً حقیقیةً عقلائیةً ، انحلّت المشکلة ... فنقول :
تارة : یراد من الإجازة اللّاحقة أن تکون مؤثّرةً فی الملکیّة - التی هی الغرض من المعاملة - فهذا غیر معقول ، و اخریٰ : یراد منها تحصیص البیع و تحقیق الإضافة بینه و بین الإجازة اللّاحقة ... فهذا من الجهة العقلائیّة ممکن ، و الإشکالات إنما نشأت من جعل الإضافة حقیقةً عقلیّة ، و کذا جعل المضاف حقیقةً عقلیّة ، أمّا لو جعلنا المضاف حقیقةً عقلائیّة ، و کذا الإضافة فلا مانع ...
و المرجع فی مثله هو الارتکازات العقلائیّة .
إنه و إنْ کان المتضائفان متکافئین فی القوة و الفعل حقیقةً عقلیّةً ، لکنّ العقلاء یرون « السؤال » متّصفاً بهذا العنوان قبل مجیء « الجواب » حقیقیّةً عرفیّة ، مع کونهما متضایفین .
و أیضاً ، فإنّهم یضیفون « المجیء » إلیٰ « الغروب » إضافة حقیقةً عرفیّة ، مع أن الغروب مثلاً غیر متحقق ، و فی القرآن الکریم : «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
ص:291
رَبِّکَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ » (1).
إنه لا مانع عقلاً من أنْ تحقق الإضافة و المضاف الآن ، و یکون مجیء المضاف إلیه فیما بعد ، بأنْ تکون الإجازة اللّاحقة طرفاً للمعاملة الواقعة الآن ، و المؤثر هذه الحصّة من المعاملة ... و هذا یرجع إلیٰ نظر صاحب (الفصول) من أنّ العقد المؤثّر هو العقد المتعقّب بالإجازة ، أی العقد بوصف تعقّبه بالإجازة منشأ للأثر ... و لکنّه مخالفٌ لظواهر الأدلّة الشرعیّة و للسیرة العقلائیة ، حیث یری العرف و العقلاء کون الأثر للإجازة و الرّضا اللّاحق ، لا للعقد المتّصف بوصف التعقّب بالرّضا و الإجازة ... فالشارع یقول «إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ » (2)و وجوب الوفاء إنّما یکون حیث یضاف العقد إلیٰ الشخص ، لأن معنیٰ « أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » (3)هو أوفوا بعقودکم .. فمشکلة النظر المذکور ترجع إلیٰ مقام الإثبات من هذه الجهة .
و فی مقام الثبوت أیضاً إشکال و هو : أنه کیف یمکن تحقق وصف « التعقب » للعقد قبل حصول الإجازة و تحقّقها ؟ لأن التعقب عنوان إضافی ، و تحققه موقوف علیٰ تحقق طرفه ... .
إذن ، فطریق صاحب الفصول و إن کان وجهاً من وجوه حلّ المشکلة من جهة الشرط المتأخر ، لکنْ لا یمکن المساعدة علیه ، لما یرد علیه من الإشکال ثبوتاً و إثباتاً ، فلا یصلح لتصحیح معاملة الفضول بالإجازة اللّاحقة ، علیٰ أساس أن تکون کاشفةً و طریقاً إلیٰ تحقّق الملکیّة للمشتری ... .
و التحقیق أنْ یقال :
ص:292
إن الإجازة اللّاحقة لها دخل فی تحقق الملکیّة للمشتری ، لکنْ لا فی اعتبارها له ، لأنّ الاعتبار مقارن للإجازة ، بل إنها دخیلة فی المعتبر ، بأنْ تتحقّق الملکیة للمشتری ، فیکون مالکاً من حین العقد ، لکنّ الکاشف عن تحقّقها له هو الإجازة الواقعة فیما بعد ، فیکون اعتبار الملکیّة من حین الإجازة ، و المعتبر و هو الملکیّة - من حین العقد .
و توضیح ذلک : إنه ما لم تأتِ الإجازة ، فالعقد غیر منتسب إلیٰ المالک ، فإذا أجاز انتسب العقد إلیه ، و معنی إجازته للعقد : قبوله له علیٰ ما وقع علیه ، و المفروض وقوعه علیٰ أن تکون الدار مثلاً ملکاً من حین العقد للمشتری ، فالإجازة تتوجّه إلیٰ مقتضی العقد الواقع من قبل ... ثم إنّ الشّارع یمضی هذه الإجازة علیٰ نفس الخصوصیّة ، بأنْ یکون اعتبار الملکیّة للمشتری الآن و حین الإجازة ، و الملکیّة - و هی المتعلَّق للاعتبار - واقعةً حین العقد ... فلم یکن من تأثیر المعدوم فی الموجود ، و انحلّت مشکلة الشرط المتأخّر .. بناءً علیٰ الکشف .
و تبقی مشکلة اخریٰ : و هی أنّ مقتضی قاعدة السّلطنة و غیرها من أدلّة الملکیّة الاختیاریّة و القهریّة ، کون الدار ملکاً للمالک المجیز إلیٰ حین الإجازة ، لکنْ مقتضی «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ » أن تکون الدّار ملکاً للمشتری من حین العقد ، بالبیان المذکور ، و حینئذٍ ، تجتمع ملکیّتان علیٰ المملوک الواحد فی الحدّ الفاصل بین العقد و الإجازة ، و لمن تکون النّماءات ؟
هنا تحیّر مثل المیرزا ، و جعل المقام من قبیل مسألة الخروج من الدار المغصوبة ، حیث قال بعدم امکان القول باجتماع الوجوب و الحرمة فی الخروج ، لأن کلّاً منهما تصرّف ، بل یجب الخروج للتخلّص من الغصب ...
ص:293
و نقض بذلک علیٰ مسلک المحقق الخراسانی .
لکنّ التحقیق هو الفرق بین الموردین ، للفرق بین الأحکام التکلیفیّة و الأحکام الوضعیّة ، إذ الأولیٰ تابعة للمصالح و المفاسد فی المتعلّقات ، و الثانیة تابعة للمصالح و المفاسد فی نفس الاعتبار ، فللخروج من الدار المغصوبة مصلحة تستلزم الوجوب و مفسدة تستلزم الحرمة ، زمانهما واحد ، و المتعلّق واحد ، فیلزم اجتماع الضدّین و هو محال ... فلا مناص من القول بوجوب الخروج و عدم حرمته ، لأنّ المرکب للحکمین واحد ، و هو غیر ممکن .
أمّا فیما نحن فیه ، فالمرکب - و هو الاعتبار - متعدّد ، فالاعتبار کان لملکیّة المشتری من السّابق إلیٰ الآن ، و هو اعتبار الفضول ، و لکنّ اعتبار المالک المجیز هو الملکیّة للمشتری من الآن ، أی حین الإجازة حتی وقت العقد .
هذا ... و المهمّ حلّ مشکلة الشرط المتأخّر ، و قد تحقق ذلک .
أمّا مورد الغسل لصوم المستحاضة - و لیس فی الفقه مورد آخر غیره یکون ما هو المتأخر شرطاً للمکلَّف به - فلا یساعده مقام الإثبات ، کما تقدّم .
قال الأستاذ فی الدورة السابقة :
و کلّ موردٍ فی الفقه قام الدلیل علیه إثباتاً ، فلا بدَّ من رفع الإشکال الثبوتی فیه بلحاظ الحقیقة العرفیّة و البناء علیها ، کما لو تزوّج المریض فی مرضٍ لا یبرأ منه ، فإنْ دخل صحّ النکاح و إلّا فلا ، فالدخول متوقّف علیٰ النکاح ، و النکاح علیٰ الدخول ، و هذا دور . و حلّ المشکلة هو : أنّ الدخول شرط متأخّر ، و من حین تحقق النکاح مع الدخول المتأخر تعتبر الزوجیّة ، فکان الدخول دخیلاً فی تحصّص الحصّة .
ص:294
و أیضاً : إذا مات المیّت غیر المسلم ، و ترک ابناً صغیراً له و وارث مسلم کبیر ، وجب علیٰ الکبیر الإنفاق علیٰ الصغیر حتی یسلم عند البلوغ ، فإذا أسلم حینذاک ، کان مالکاً لما ترکه المیّت من حین الموت ، و إن لم یکن هذا الولد الوارث مسلماً من ذلک الحین ... و إنْ لم یسلم عند البلوغ ، انتقل الإرث إلیٰ الوارث المسلم .
ص:295
ص:296
ص:297
ص:298
لمّا فرغ صاحب (الکفایة) من تقسیمات مقدّمة الواجب ، شرع فی تقسیمات الواجب ، و جعل أوّلها : انقسامه إلیٰ المطلق و المشروط .
قال الأستاذ : فی هذا التقسیم مسامحة ، فإنّ کلّاً من الواجب و الوجوب ینقسم إلیٰ المطلق و المشروط ، مثال الأوّل : اشتراط الصّلاة أو إطلاقها بالنسبة إلیٰ الطهارة . و مثال الثانی : اشتراط وجوب الصّلاة أو اطلاقه بالنسبة إلیٰ زوال الشمس ... .
لکنْ بحسب الظهور الإثباتی یکون الشرط عائداً إلیٰ الوجوب ، و الانقسام حینئذٍ من انقسامات الوجوب لا الواجب .
و علی أی حالٍ ، فههنا مقدّمات :
المراد من « المطلق » و « المشروط » فی عنوان البحث هو المعنی اللّغوی للکلمتین ، أی : الاشتراط هو الارتباط ، کارتباط الصّلاة بالزوال مثلاً ، و الإطلاق عبارة عن عدم الارتباط و الإناطة و التقیید ، ، کما فی الصّلاة بالنسبة إلیٰ الإحرام مثلاً .
و أمّا ما ذکروه من التعاریف للإطلاق و الاشتراط فکلّه مخدوش ، و المقصود منها توضیح المعنی اللّغوی و العرفی ... .
ص:299
إن الإطلاق و الاشتراط أمران إضافیّان و لیسا بحقیقیّین ، إذ المطلق الحقیقی لا وجود له ، و کذا المشروط بکلّ شرطٍ ... و الحاصل : إنّ الواجبات کلّها مشروطة ، سواء العقلیّة ، کوجوب معرفة الباری تعالی ، فإنّه حکم عقلی مشروط بالقدرة ، أو الشرعیّة ، کوجوب الصّلاة و الصّوم ... فإنها مشروطة بالبلوغ و العقل و غیرهما من الشروط العامّة .
فالمراد من الواجب أو الوجوب المطلق أو المشروط کونه مطلقاً أو مشروطاً بالنسبة إلیٰ شیء ... .
تارةً یطلق « الإطلاق » ، و یراد منه « إطلاق المادّة » ، و مرادهم منها « الواجب » . و أخریٰ : یطلق « الإطلاق » ، و یراد منه « إطلاق الهیئة » ، و مرادهم منها « الوجوب » .
إن مثل « صلّ » مرکّب من مادّةٍ هی « الصّلاة » و من هیئةٍ هی « هیئة افعل » . و الشرط یرجع تارةً : إلیٰ طرف الهیئة فیقال : الوجوب مقیداً و مشروط بکذا . و اخریٰ : یرجع إلیٰ المادّة فیقال : هذا الواجب مشروط بکذا ... لکنْ لا یخفی : أنه متیٰ تقیّدت الهیئة ، و کان الوجوب مشروطاً بشرطٍ ، تقیّد الواجب بتبعه قهراً ، فاشتراط وجوب صلاة الظهر بالزوال یخرج الصّلاة - أی : الواجب - عن الإطلاق بالنسبة إلیٰ الزوال ، فلا تقع صلاة الظهر قبله بعد تقیید وجوبها به ... و هذا ما یحصل قهراً ... أمّا فی حال العکس فلا ، فلو اشترط المولی فی الواجب شرطاً و قیّده بقیدٍ ، فذلک لا یوجب التقیید و التضییق فی الوجوب ، کاشتراط الصّلاة بالطهارة ، فإنّه لا یخرج وجوبها عن التوسعة .
ص:300
و بعد الفراغ من المقدّمات و التمهیدات ، نقول :
إنّه لا ریب فی أن ظواهر الألفاظ و مقتضی القواعد النحویّة : رجوع القید إلیٰ الهیئة أی الوجوب ، فمعنیٰ قوله : إن جاءک زید فأکرمه ، هو اشتراط وجوب إکرامه و تقیّده بمجیئه ، و کذا فی : إذا زالت الشمس فصلّ ، و فی «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » ، فإن فی جمیع هذه الموارد یکون القید عائداً علیٰ الهیئة و مضیّقاً لمدلولها ، سواء قلنا بأن مدلولها البعث أو الطلب أو اعتبار اللّابدیّة ... هذا هو مقتضی معنی الکلام بحسب مقام الإثبات .
لکنَّ الشیخ الأعظم - رحمه اللّٰه - مع إقراره بذلک ، یریٰ استحالة رجوع القید إلیٰ الهیئة ، و ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، و أنه لا بدّ من رفع الید عن مقتضی مقام الإثبات بمقتضی البرهان العقلی .
و خالفه المحقّق الخراسانی و أتباعه .
و ذهب المیرزا إلیٰ رجوعه إلیٰ المادّة المنتسبة .
فالأقوال ثلاثة .
ثم إنّ الشیخ أقام علیٰ عدم رجوع القید إلیٰ الهیئة برهاناً ، و أقام علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة برهاناً ، لیدلّ علیٰ کلا الأمرین بدلیلٍ مطابقی ، و إلّا ، فإن الدلیل علیٰ عدم رجوعه إلیٰ الهیئة یدلّ بالالتزام علیٰ رجوعه إلیٰ المادّة ...
و أیضاً ، فإنّ بین برهانیه فرقاً ، سیأتی بیانه .
هذا ، و إذا کانت القیود کلّها ترجع إلیٰ المادّة کما یقول الشّیخ ، فإنه
ص:301
یتوجّه إلیه السؤال عن الفرق بین قیود المادّة و قیود الهیئة ، مع أنّ قیود الهیئة لها دخل فی أصل مصلحة الشیء ، و إذا انتفت القیود لم یکن فی الشیء مصلحة ، بخلاف قیود المادّة ، فإنّها دخیلة فی فعلیّة المصلحة لا فی أصل وجودها .
مثلاً : الزّوال قید لوجوب الصّلاة ، و معنی ذلک : أنْ لا مصلحة للصّلاة قبل الزّوال ، و إنما تتحقّق بعده ، بخلاف الطّهارة التی هی قید للواجب ، فإنّ الصّلاة ذات مصلحة بدون الطّهارة ، إلّا أن المصلحة لا تتحقّق فی الخارج و لا تحصل إلّا بتحقق الطهارة مع الصّلاة ، و کونها مع الطهارة .
فلو رجعت القیود کلّها إلیٰ المادة فما الفرق ؟
فهذا السؤال متوجّه علیٰ الشیخ ، و انتظر الجواب !!
فاستدلّ الشیخ رحمه اللّٰه لامتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة (1) بأنّ :
مفاد الهیئة معنیً حرفی ، و المعنی الحرفی جزئی ، و الإطلاق إنّما یرد علیٰ أمرٍ قابلٍ للتضییق ، و لا تضییق أکثر و أشدّ من الجزئیة ، و الشیء الجزئی لا سعة فیه حتی یضیَّق ، فهو - إذن - غیر قابل للتقیید ، سواء قلنا بأنّ التقابل بین الإطلاق و التقیید من قبیل العدم و الملکة أو لا ... لأنه بناءً علیٰ کونه من هذا القبیل : إذا کان الجزئی غیر قابل للتقیید فالإطلاق محال ، و إذا استحال الإطلاق فی الجزئی کان التقیید محالاً .
هذا ، و لا یخفیٰ أن الأساس فی هذا الوجه کون مفاد الهیئة معنیً حرفیّاً ، و أمّا إذا کان معنیً اسمیّاً کما لو قال : « إن جاءک زید فیجب إکرامه » ، فهذا الوجه غیر جارٍ .
ص:302
و الوجوه التی ذکرها القوم فی الجواب عن الدلیل المذکور ، کلّها مبنائیة :
لقد تقدَّم فی محلّه أن معانی الحروف لیست بجزئیّة ، لا جزئیة خارجیّة و لا جزئیّة ذهنیّة ، أما عدم کونها جزئیّة خارجیّة فواضح ، و أما عدم کونها جزئیّة ذهنیّة ، فلأنَّ الجزئیّة تکون باللّحاظ ، و اللّحاظ یکون فی الاستعمال ، و معانی الحروف موطنها قبل الاستعمال .
و إذْ لا جزئیّة فی معانی الحروف ، فالاستدلال یسقط .
لکن هذا الجواب مبنائی .
لیس المراد من الجزئیّة هی الجزئیّة الخارجیّة أو الذهنیّة ، بل المراد منها هی التعلّق و التقوّم بالطرفین ، و المعنی الحرفی فی ذاته متقوّم بالطرفین ، و الهیئة معنیً حرفی ، فمفادها النسبة البعثیّة - کما فی « فصلِّ » فی : « إذا زالت الشمس فصلّ » - و هذه النسبة ذات طرفین : المنسوب و المنسوب إلیه ... و کما فی « إن جاءک زید فأکرمه » ... و إذا کان هذا معنی الجزئیّة ، فإنّ الجزئیّة بهذا المعنی تقبل التّضییق ، بأنْ یُزاد فی الأطراف ، فتکون ثلاثة أو أربعة ... و هکذا .
محلّه بالتفصیل ، وعلیه ، فلا مانع من وقوع التضییق بعد تضییق ، لأنّه بعد أن قال : « صلّ فی المسجد » و حصل ب « فی » فرد من التضییق ، یمکنه أن یقول : « إن کنت متطهّرا » فیدخل علیه تضییقاً ثانیاً ... و هکذا ... إذن ، لا مانع من رجوع القید إلیٰ الهیئة بناءً علیٰ هذا المسلک .
لکن هذا الجواب أیضاً مبنائی . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : لو سلَّمنا المبنی ، فإنّ التضییق الثانی إنما یرد علیٰ أصل الصّلاة لا علیٰ تضییقها الواقع من قبل ... إذن ، لم یرجع القید إلیٰ الهیئة و مفادها - و هو الحکم - فیتم کلام الشیخ القائل بعدم رجوع القید إلیٰ الهیئة .
و تلخَّص إلیٰ الآن کون الأجوبة مبنائیة .
أحدهما للمحقق الخراسانی ، و الآخر للمحقق الأصفهانی .
أمّا جواب المحقق الخراسانی فهو : إنه لیس المقصود إنشاء الطلب ثم تقییده بقیدٍ ؛ حتی یلزم ما ذکره الشیخ قدس سره ، بل المقصود : إنشاء الطلب المقیَّد ، و لا محذور فی هذا أصلاً .
و فیه :
إنما یتمّ إنشاء الطلب المقیَّد فی مورد یکون الطلب قبل الإنشاء کذلک قابلاً للإطلاق و التقیید ، کما فی الرقبة قبل تقییدها بالإیمان ، و بناءً علیٰ کلام الشیخ ، فإنّ الطلب النسبی هو مفاد الهیئة ، و الطلب النسبی معنی حرفی ، و المعنی الحرفی جزئی ، فلا یعقل إنشاء الطلب المقیّد ... لأنّ التقیّد و الجزئیّة موجود فی ذات الطلب .
و أمّا جواب المحقق الأصفهانی فهو : إنه لو کان تقیید مفاد الهیئة تخصیصاً للطلب ، لتمّ کلام الشیخ ، لکن اشتراط مفاد الهیئة و تقییده لیس
ص:304
تخصیصاً ، و إنما هو تعلیق ، و لا مانع من تعلیق الجزئی .
و تبعه فی (المحاضرات) فقال : بأنّ طلب إکرام زید لیس مقیَّداً بمجیء زید ، و إنما هذا الطلب منوط بمجیئه ، و فرق بین باب الإطلاق و التقیید ، و باب التعلیق و التنجیز .
و فیه :
إنما یکون التعلیق حیث یعقل أن یکون للشیء حصّتان من الوجود ، کالبیع ، فإنه فی حدّ ذاته ذو فردین : البیع المنجّز ، و البیع المعلّق علیٰ قدوم الحاج مثلاً . و حینئذٍ ، یکون التعلیق محصّصاً للمعلَّق ، و ما نحن فیه کذلک ، إذ لو لا وجود التقدیرین ، من مجیء زید و عدم مجیئه ، لم یکن لقوله « إن جاءک زید فأکرمه » معنیً ... إذن ، فإنّ التعلیق یلازم الإطلاق دائماً ، و هو یستلزم التقیید کذلک ، فیبقی کلام الشیخ علیٰ حاله .
فظهر أن جمیع الأجوبة مردودة ، و کلام الشیخ علیٰ قوَّته ، لکنّ خلاصة کلامه کون الوضع فی الحروف عامّاً و الموضوع له خاصّاً جزئیّاً ، فمن یعترف بهذا فلا یمکنه حلّ الاشکال ، إلّا أنّ الحق هو أن الموضوع له فی الحروف عام کذلک ؛ فإنّ معنی الحرف یقبل العموم و السّعة ، فکما یأتی إلیٰ الذهن من کلمة « الظرفیّة » معنیً عام مستقل قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة ، کذلک یأتی من کلمة « فی » معنی له سنخ عموم قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة ، لکنه غیر مستقل ، فالإشکال مندفع .
لکنّه جواب مبنائی کذلک .
و تلخّص : إن جمیع ما ذکروه جواباً عن برهان الشیخ علی امتناع رجوع
ص:305
القید إلیٰ الهیئة ، غیر مفید ، بعد الاعتراف بکون الموضوع له الحروف خاصّاً ، لأنّ الخاص لا یقبل الإطلاق و التقیید کما هو واضح ، فلا سبیل إلّا إنکار هذه الجهة و القول - کما هو المختار - بأن المعانی الحرفیّة فیها سنخ عمومٍ ، فکما یأتی إلیٰ الذهن معنی مستقل من « الابتداء » قابل للانطباق علی کثیرین ، کذلک یأتی إلیٰ الذهن معنی غیر مستقل من « مِن » قابل للانطباق علی الموارد الکثیرة .
و هکذا یندفع برهان الشیخ ، الذی کان الدلیل الأوّل لامتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة .
و هو ما ذکره المیرزا : من أنّ المعنی الحرفی لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، و کلّ ما لا یقبل اللّحاظ الاستقلالی ، فهو لا یقبل الإطلاق و التقیید ... فالقید لا یرجع إلیٰ الهیئة و معناها حرفی .
فالمانع آلیّة المعنی الحرفی ، لا جزئیّته کما ذکر الشیخ .
قال الأستاذ
إن هذا الدلیل إنما یتوجّه ، فیما إذا کان الوجوب مستفاداً من الهیئة ، أمّا فی الجملة الاسمیة الدالّة علیٰ الوجوب فلا موضوع له ، لأنّ الوجوب حینئذٍ مدلول اسمی ، و لیس الدالّ علیه معنیً حرفیّاً .
و لذا جاء الشیخ - لما ذهب إلیه من رجوع القید إلیٰ المادّة - ببرهانین ، أحدهما : البرهان علی امتناع رجوعه إلیٰ الهیئة ، و هو ما تقدّم ، و الآخر :
البرهان علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، لیشمل ما إذا کان الدالّ علیٰ الوجوب معنیً اسمیّاً و هذا ما وعدنا سابقاً ببیانه .
ص:306
و أورد فی (المحاضرات) (1) علی هذا الدلیل بوجهین :
أحدهما : إنَّ المعنی الحرفی قد یلحظ باللّحاظ الاستقلالی ، و إذا کان یتعلّق به اللّحاظ الاستقلالی ، فالاستدلال المذکور باطل ، و قد مثّل له بما إذا علم بوجود زید فی البلد و بسکناه فی مکانٍ ، و جهل المکان بخصوصه ، فإنّ تلک الخصوصیّة تکون مورداً للالتفات و السؤال ، مع کونها معنیً حرفیّاً .
و الثانی : إن ما ذکر ، إنما یمنع عن طروّ التقیید علیٰ المعنیٰ الحرفی حین لحاظه آلیّاً ، و أمّا إذا قیّد المعنی أوّلاً بقیدٍ ، ثم لوحظ المقیّد آلیّاً ، فلا محذور فیه ، إذاً ، لا مانع من ورود اللّحاظ الآلی علیٰ الطلب المقیَّد فی رتبةٍ سابقةٍ علیه .
و تنظّر الاستاذ فی الإشکالین : بأن الأوّل و إن کان وارداً إلّا أنه مبنائی ، و أن الثانی غیر واردٍ ، لأنّ مقتضی الدقّة فی کلام المیرزا هو : أن المعنی الحرفی لا موطن له إلّا ظرف الاستعمال ، و أمّا قبل ذلک فلا وجود للمعنی الحرفی ، و بعبارة أخریٰ .... یقول المیرزا : بأنّ ذات المعنی الحرفی متقوّمة بالآلیّة ، و الاختلاف بینه و بین المعنی الاسمی جوهری ، - خلافاً للمحقّق الخراسانی - فلو قبل اللّحاظ الاستقلالی خرج عن الحرفیّة ، و هذا خلف .
الخراسانی قدس سره فی (الکفایة) بعنوان « إنْ قلت » ، و تقریره :
إنّ رجوع القید إلیٰ مفاد الهیئة یستلزم التفکیک بین الإنشاء و المنشأ ، و الإیجاب و الوجوب ، لکنّ التفکیک بین الإیجاب و الوجوب غیر معقول فی التشریعیّات ، کما أن التفکیک بینهما فی التکوینیّات غیر معقول ... و کلّما استلزم المحال محال .
و الحاصل : إن رجوع القید إلیٰ الهیئة یوجب تحقّق الإیجاب دون الوجوب ، فیقع التفکیک المحال ... لأنه إن رجع القید فی « إذا زالت الشمس فصلّ » إلیٰ الهیئة ، جاء السؤال : هل وجد الوجوب بهذا الإنشاء عند الزوال أو لا ؟ فإن کان الجواب : لم یوجد الوجوب عنده ، وقعت الحاجة إلیٰ إنشاء آخر لوجوب الصّلاة عند الزوال ، و إنْ اجیب بوجود الوجوب عند الزوال - و المفروض تحقّق الإنشاء قبل الزوال بمدّة - لزم الانفکاک بین الإنشاء و المنشأ ، و هو الإشکال .
و قد اجیب عن هذا الدلیل بوجوهٍ :
أحدها : جواب (الکفایة) (1) بالنقض بالإخبار ، فإنه یمکن الإخبار عن الشیء الآن مع کون وجود المخبر به فیما بعد ، کقولک لشخص : أزورک فی یوم الجمعة ... و وزان الإنشاء وزان الإخبار .
و فیه :
إنه قیاس مع الفارق ، لأن النّسبة بین الإنشاء و المنشأ هی نسبة الإیجاد و الوجود ، و أمّا فی الإخبار ، فهی نسبة الحاکی و المحکی ، و هذا معقول ، بخلاف ذاک .
ص:308
الفرق بین التکوینیّات و الاعتباریّات ، بدعوی أنّ عدم تخلّف الوجود عن الإیجاد إنما هو فی التکوینیّات کالکسر و الانکسار ، و أمّا فی الاعتباریّات ، فلا محذور فیه (1) .
و فیه :
إنّ الأحکام ، منها هو مختص بالوجود الاعتباری ، و منها ما هو مختص بالوجوه التکوینی ، و منها ما لا یختصّ بأحدهما بل هو حکم الوجود ، و عدم الانفکاک بین الإیجاد و الوجود من أحکام الوجود ، فإنّه - سواء فی عالم الذهن أو عالم الخارج أو عالم الاعتبار - لا یتخلّف الوجود عن الإیجاد ، فکلّ وجود له نسبتان ، أحدهما إلیٰ الفاعل و الاخری إلیٰ القابل ، و الملکیّة - و هی أمر اعتباری یوجد لها هاتان النسبتان ... .
إن الانفکاک الواقع هنا لیس بین الإنشاء و المنشأ لیرد الإشکال ، بل هو بین الإنشاء و الإرادة الحقیقیّة منه ... فقبل الزوال یوجد الإنشاء ، لکنّ الإرادة الحقیقیة بالنسبة إلیٰ الصّلاة هی فی وقت الزوال ، و الانفکاک بین الإنشاء و الإرادة الحقیقیة لا محذور فیه .
و هذا الجواب اعتمده المحقّق الإیروانی (2) .
و فیه :
إنه إذا لم تکن إرادة حقیقیّة بالنسبة إلیٰ الصّلاة قبل الزوال ، و إنه لا
ص:309
وجوب ، بل هو عند الزوال ، یتوجّه السؤال بأنّه کیف یتحقق الإرادة الحقیقیّة و الوجوب للصّلاة عنده ، و المفروض عدم وجود إنشاء آخر ؟
و الحاصل : إنه إن لم یکن عند الزوال للصّلاة وجوب ، فهذا معناه إنکار الوجود الفعلی للحکم ، و إن کان لها وجوبٌ عنده ، فإنْ کان بالإنشاء السّابق رجع إشکال الانفکاک ، و إن کان بغیره ، فالمفروض أنْ لا إنشاء آخر .
إن فی مثل : « إذا زالت الشمس فصلّ » اموراً : أحدها : الاستعمال ، و الثانی : البعث الفرضی ، و الثالث : البعث التحقیقی .
لقد استعملت هیئة « فصلّ » بعد الفاء فی البعث ، و المادّة هی الصّلاة ، و هنا : بعث له ثبوتان و إثباتان ، ثبوت فرضیٌ للبعث ، علیٰ أثر کون القید و الشرط مفروضاً ، فکان المشروط ثابتاً بالثبوت الفرضی ، و هذا الثبوت الفرضی متّحد مع الإثبات الفرضی ، بحکم الاتّحاد بین الوجود و الإیجاد ، و ثبوت تحقیقی یکون فی حال فعلیّة القید و الشرط - أی الزوال - و هذا الثبوت غیر منفک عن الإثبات التحقیقی .
فتلخّص : إن الاستعمال غیر منفک عن المستعمل فیه ، و الإثبات و الثبوت الفرضی غیر منفک أحدهما عن الآخر ، و الإثبات و الثبوت التحقیقی کذلک ، فأین الانفکاک ؟
و هذا توضیح ما جاء فی (نهایة الدرایة) (1) حیث قال : « إن الإنشاء إذا ارید به ما هو من وجوه الاستعمال ، فتخلّفه عن المستعمل فیه محال ، وجد البعث الحقیقی أم لا ، و إذا ارید به إیجاد البعث الحقیقی ... » .
ص:310
و فیه :
إن الإنشاء إمّا مبرز للمعنی و إمّا موجد ، و لا ثالث ، و علی الثانی : إمّا یوجد المعنی بعین وجود اللّفظ ، و إمّا یوجد المعنی بغیر وجود اللّفظ ، و لا ثالث .
فإن کانت الهیئة کاشفة عن المعنی و مبرزةً له ، فلا إنشاء علیٰ مسلک المشهور ، فالإنشاء إذاً موجد للمعنی ... فهل وجوده بعین وجود اللَّفظ ؟ التحقیق : إن لکلّ مفهوم و ماهیّة وجودین حقیقةً لا أکثر ، أحدهما : الوجود الذهنی ، و الآخر : الوجود الخارجی ، و أمّا غیر هذین الوجودین فلا یکون إلّا بالاعتبار ، لکنّ الواضع لیس عنده هذا الاعتبار ، فإنّه لا یعتبر الاسم وجوداً لذات المسمّی ، و ما اشتهر من وجود : الوجود اللّفظی و الوجود الکتبی ، إلیٰ جنب الذهنی و الحقیقی ، فلا أصل له : هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إن المحقق الأصفهانی یریٰ أنّ حقیقة الوضع عبارة عن اعتبار الوضع ، فإیجاد المعنی بعین وجود اللّفظ مردود ، علیٰ مسلکه فی تعریف الوضع أیضاً .
وعلیه ، فینحصر وجود المعنیٰ بأنْ یکون بغیر وجود اللَّفظ ، فإنْ کان ذاک الوجود فی ظرف وجود الهیئة و الإنشاء ، لزم الوجود الفعلی للمشروط قبل تحقّق شرطه ، و إن کان بعده ، لزم الانفکاک بین الإیجاد و الوجود .
ما ذکره المحقق العراقی (1) و یتمّ توضیحه ضمن الامور التالیة :
1 - إنّ حقیقة الحکم عند المحقّق العراقی عبارة عن الإرادة التشریعیّة
ص:311
المبرزة ، بأنْ یراد صدور الفعل من الغیر و تبرَز هذه الإرادة ، کقولک لغیرک :
« صُم » ، « صلّ » و نحو ذلک ، فمن هذه الإرادة المبرزة ینتزع عنوان الحکم .
2 - إن القیود علیٰ قسمین ، فمنها ما له دخل فی أصل المصلحة و الغرض ، و منها ما له دخل فی فعلیّة المصلحة و الغرض ... فالمرض - مثلاً - له دخل فی مصلحة استعمال الدواء ، إذْ لا مصلحة لاستعماله فی حال السّلامة ، لکنْ قد لا یتحقق الغرض فعلاً و لا تحصل المصلحة إلّا بإضافة عمل آخر إلیٰ شرب الدواء ، فیکون ذاک العمل - کالاستراحة مثلاً - دخیلاً فی فعلیّة المصلحة .
و شروط الوجوب - و هو مفاد الهیئة - ترجع کلّها إلیٰ أصل المصلحة ، و شروط الواجب ترجع إلیٰ ما یکون دخیلاً فی فعلیّة الغرض و المصلحة .
3 - الإرادة تارةً مطلقة ، و أخریٰ منوطة ، فقد یکون الشیء مطلوباً علیٰ کلّ تقدیر ، و یتقوّم به الغرض کذلک ، و قد یکون مطلوباً علیٰ بعض التقادیر ، و الغرض یترتب علیٰ حصول الشیء مقیّداً و منوطاً بذاک التقدیر ، کأنْ تکون إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فیکون حصول الغرض متقوّماً به .
4 - هناک فرق بین القید الدخیل فی تحقق الغرض ، و القید الدخیل فی تحقّق الإرادة ، فإن الدخیل فی تحقّق المصلحة دخیل بوجوده الخارجی ، و الدخیل فی تحقق الإرادة دخیل بوجوده اللّحاظی ... و علی هذا ، فإنه قبل الزوال لا توجد مصلحة للصّلاة ، لکنّ الوجود اللّحاظی للزوال موجود ، و بوجوده تتحقق الإرادة للصّلاة عند الزوال ، فتکون إرادةٌ منوطة ... فالإرادة تحصل لکنّها منوطة ، و إناطتها بالزوال لا ینافی تحقّقها قبله ... فیکون وجوب الصّلاة مشروطاً بالزوال سواء قبل الزوال أو بعده ، و إنْ کان قید الوجوب
ص:312
یتحقّق إذا زالت الشّمس ، لکنّ تحقّقه لا یخرج الحکم عن کونه وجوباً مشروطاً .
و بهذا البیان یظهر بطلان دعوی الانفکاک ... لأنّ حقیقة الحکم هی الإرادة المبرزة ، و لو لا الإبراز فلا حکم ، و إذا کانت إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فإنّ الزوال ملحوظ قبل تحقّقه ، و وجوده اللّحاظی هو المؤثّر فی الإرادة ، و بذلک یکون الحکم فعلیّاً ، و تلخّص : أنه لا انفکاک بین الوجوب و الایجاب ... نعم ، قد وقع الانفکاک بین فعلیّة الحکم و الإرادة الحاصلة قبل القید ، و بین فاعلیة الإرادة و الحکم ، لکونها منوطةً بالقید ، و هذا الانفکاک لا محذور فیه .
و لهذه الامور ، ذهب المحقق العراقی إلیٰ أن کلّ واجب مشروط ، فالوجوب و الإیجاب فیه فعلیّان ، غیر أن الفرق بین الوجوب المطلق و الوجوب المشروط فی جهتین :
الأولیٰ : إن الإرادة فی الوجوب المطلق مطلقة غیر منوطة ، بخلاف الوجوب المشروط .
و الثانیة : إنّه فی الوجوب المطلق ، توجد فعلیّة الحکم و فاعلیّة الحکم معاً ، بخلاف الواجب المشروط ، حیث فعلیّة الحکم موجودة ، أمّا فاعلیّته فلا .
و فیه :
أوّلاً : إنهم قالوا بأنّ الإرادة هی الشوق الأکید ، فالإرادة التشریعیّة هی الشوق الأکید إلیٰ صدور الفعل عن الغیر عن اختیار ، و من المعلوم أن الشوق الأکید أمر تکوینی و إبرازه تکوینی و مبرزه تکوینی ، و أمّا الحکم فأمر جعلی
ص:313
اعتباری و لیس بتکوینی ، فکیف تکون الإرادة التشریعیة المبرزة هی الحکم ؟
و ثانیاً : کیف تکون الإرادة فی الواجبات المنوطة فعلیّةً ، مع عدم تحقّق القید بعدُ ؟ إن کان المراد من « الإرادة » هو « الشوق الأکید » ففعلیّته قبل تحقق القید معقول ، و قد ظهر أن الشوق لیس الحکم ، بل الإرادة المبرزة هی الحکم ، و تحقّقها یستلزم تحقق المراد و لا یمکن الانفکاک ، لکنّ التحقق لا یعقل مع فرض الإناطة .
و ثالثاً : کیف تکون الإرادة فعلیةً و فاعلیّتها غیر متحقّقة ؟ إن هذا خلف ، لأنها إن کانت فعلیةً ، فلا یعقل تخلّفها عن فاعلیّتها ، فإذا کان الزوال دخیلاً فی المصلحة و هو غیر حاصل ، کیف یتعلّق الإرادة الفعلیّة بالمراد ؟ و کانت الإرادة الفعلیّة حاصلة ، بأنْ علم المکلَّف أنّ المولی تعلّقت إرادته قبل الزوال بالصّلاة و قد أبرز هذه الإرادة ، فلا محالة تتحقّق الفاعلیّة أیضاً ... و لا یعقل الانفکاک .
قال فی (المحاضرات) (1) : الصّحیح أن یقال : لا مدفع لهذا الإشکال بناءً علیٰ نظریّة المشهور من أنَّ الإنشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللّفظ ، ضرورة عدم امکان تخلّف الوجود عن الإیجاد ، و أمّا بناءً علیٰ نظریّتنا : من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباری فی الخارج بمبرزٍ ، من قول أو فعل ، فیندفع الإشکال من أصله .
قال : و السّبب فی ذلک هو : إنّ المراد من « الإیجاب » إمّا إبراز الأمر الاعتباری النّفسانی ، و إمّا نفس ذاک الأمر الاعتباری ، و علی کلا التقدیرین ، لا محذور من رجوع القید إلیٰ مفاد الهیئة . أمّا علیٰ الأوّل ، فلأنّ کلّاً من الإبراز
ص:314
و المبرز و البروز فعلی ، فلیس شیء منها معلَّقاً علیٰ أمر متأخّر ، و هذا ظاهر .
و أمّا علیٰ الثانی ، فلأنّ الاعتبار من الامور النفسانیّة ذات التعلّق کالعلم و الشّوق ، و کما یتعلق بأمرٍ حالی کذلک یتعلّق بأمر متأخّر ، فلا محذور من أنْ یکون الاعتبار فعلیّاً و المعتبر متأخّراً ، و التفکیک بینهما جائز .
و الحاصل : إنه بناءً علیٰ مسلک المشهور لا یجوز التفکیک ، لأنه من الإیجاد و الوجود ، و أمّا علیٰ مسلکه ، فإنه لا یقاس بالتفکیک بین الإیجاد و الوجود أصلاً .
و قال فی (حاشیة أجود التقریرات) : « و یردّه : أن الإیجاب ، إنْ ارید به إبراز المولی لاعتباره النفسانی ، فالإبراز و البروز و المبرَز کلّها فعلیّة ، من دون أنْ یکون شیء منها متوقّفاً علیٰ حصول أمرٍ فی الخارج ، و إنْ ارید به الاعتبار النفسانی ، فبما أنفذه من الصفات ذات الإضافة - کالعلم و الشوق و نحوهما - فلا مانع من تعلّقه بأمرٍ متأخّر ، فکما أنه یمکن اعتبار الملکیّة أو الوجوب الفعلیین ، یمکن اعتبار الملکیّة أو الوجوب علیٰ تقدیر ، و أین هذا من تخلّف الإیجاد عن الوجود ؟
و غیر خفی أنّ أساس هذا الإشکال یبتنی علیٰ تخیّل أن الجمل الإنسانیّة موجدة لمعانیها فی نفس الأمر ، مع الغفلة عمّا حقَّقناه من أنه لا یوجد بها شیء أصلاً ، و إنما هی مبرزات للأمور القائمة بالنفس الممکن تعلّقها بأمر متأخر ، و لأجله ذکرنا فی محلّه أنّ امتناع التعلیق فی العقود و الإیقاعات إنما هو من جهة الإجماع ، و لو قطع النظر عنه لما کان مانع عن التعلیق أصلاً » (1) .
ص:315
قال الأستاذ
فی الدورة السابقة :
لا ریب فی أنّ السیّد الخوئی یریٰ أن نسبة الإیجاب و الوجوب عین نسبة الإیجاد و الوجود ، و قد نصّ علیٰ ذلک فی (مصباح الفقاهة) حیث اعترض علیٰ الشیخ التفریق بین الإیجاب و الوجوب و بین الکسر و الانکسار فقال : « إنه لا وجه صحیح لتفرقة المصنف بین الإیجاب و الوجوب ، و بین الکسر و الانکسار ، بدیهة أن الفعل الصّادر أمر وحدانی لا تعدّد فیه بوجه ، و إنّما التعدد فیه بحسب الاعتبار فقط ، کالإیجاد و الوجود ، فإنّهما شیء واحد ... » (1) .
و لا ریب أیضاً فی قبوله لعدم جواز التفکیک بین الإیجاد و الوجود حیث قال فی نصّ کلامه السابق « و أین هذا من تخلّف الإیجاد عن الوجود » أی إنه یریٰ استحالة التخلّف بینهما .
ثمّ إنّ قوله « و غیر خفی أنّ أساس هذا الإشکال ... » إشارة إلیٰ کلام المحقق الخراسانی حیث قال : إن الإنشاءات موجدة للمعانی فی نفس الأمر ... .
و هو - أی السید الخوئی - یریٰ ورود الإشکال علیٰ مبنی الإیجاد ، و اندفاعه علیٰ مبنی الاعتبار و الإبراز .
لکنّه فی مبنی الاعتبار و الإبراز - و هو المختار عنده - قال : بأنّ المراد إن کان إبراز الاعتبار ، فالإبراز و البروز و المبرز کلّها فعلیّة ... .
فنقول : هذا متین ، إلّا أن حاصله هو الوجوب المطلق ، لأنّ لازم فعلیّة
ص:316
کلّ ذلک هو عدم الوجوب التقدیری ، و هذا یساوق انکار الوجوب المشروط ... .
قال : و إن کان المراد الاعتبار النفسانی ، فتعلّقه بأمرٍ متأخّر ممکن .
فنقول : المفروض أن الاعتبار النفسانی هو الإیجاب بنفسه ، و تعلّقه بأمرٍ متأخّر ، یعنی أنْ یکون الوجوب علیٰ تقدیر ، و هذا لیس إلّا انفکاک الوجوب عن الإیجاب ، و لمّا کان یقول بأن وزان الإیجاب و الوجوب وزان الإیجاد و الوجود ، فمعنیٰ کلامه الانفکاک بین الوجود و الإیجاد ، فیعود الاشکال . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : صریح کلامه ، أن یکون الإیجاب عین الاعتبار ، و الحال أنَّ الاعتبار النفسانی أمر تکوینی لکونه من الصفات ، و الإیجاب أمر اعتباری ، هذا .
قال الأستاذ
إن منشأ الإشکال هو الخلط - بناءً علیٰ القول بالإیجاد - بین أن یکون الإنشاء موجداً للمعنیٰ حقیقةً ، و أن یکون سبباً ، لأن تخلّف الإیجاد عن الوجود محال ، و أما تخلّف السبب عن المسبّب فممکن .
و المشهور یقولون بأنّ الإنشاء سبب ، و أن نسبة الصّیغة الإنشائیة إلیٰ المعانی المنشأة نسبة الأسباب إلیٰ المسبّبات ، أو نسبة الآلة إلیٰ ذی الآلة ، کما قال المیرزا ... .
و الحاصل : إنه لا إشکال فی العینیّة بین الوجود و الإیجاد - أی بین المصدر و اسم المصدر مطلقاً - فالنسبة بینهما هی العینیة ، بخلاف النسبة بین الأسباب و المسبّبات ، فإنها التقابل ، سواء فی التکوینیات ، حیث النار سبب
ص:317
للاحتراق ، أو فی الاعتباریّات ، إذ المشهور أن التّزویج و الزوجیّة عنوان حاصل من « أنکحت » ، و الملکیّة تحصل من الفعل فی « المعاطاة » و الصّیغة فی المعاملة الإنشائیة ... و هکذا ... .
فهذا هو الفرق ، و قد وقع الخلط بینهما ، فکان الإشکال .
و الدلیل علیٰ ما ذکرنا من أنّ القوم یقولون بکون النسبة هی نسبة السبب إلیٰ المسبب ، لا الموجد إلیٰ الموجَد هو : ما جاء فی (الخلاف) و (المبسوط) (1) من تعریف البیع : بأنه انتقال عین مملوکة من شخصٍ إلی غیره بعوضٍ مقدّر علی وجه التراضی فکان العقد سبباً و ناقلاً ... و من الواضح أن هذه السببیّة سببیّة جعلیّة عقلائیة ... کما أنهم فی الطّلاق - مثلاً جعلوا « هی طالق » سبباً للبینونة ، و فی النکاح جعلوا « أنکحت » سبباً له ، و فی الملکیة « بعت » .
و قد عرّف ابن حمزة البیع بأنه عقد یدل علی انتقال عینٍ إلی آخر (2)فقال فخر المحققین و الشهید بأنّ هذا تعریف السبب بالمسبب ، لأن العقد سبب ، و إطلاق السبب علیٰ المسبب مجاز (3) .
و بمثل ما ذکر ، تجد التصریح فی کلام العلّامة فی (القواعد) و(التذکرة) فی مسألة الوصیّة ، و کذا الشهید و الفخر فی الإیضاح ... قال العلامة فی الوصیّة : إذا کانت الملکیّة حاصلةً قبل القبول ، فالقبول إما جزء للسبب و إما شرط للملکیّة (4) .
ص:318
و فی (المسالک) فی تعریف البیع ما حاصله : إن الملکیة مسببة ، و العقد سبب لها (1) .
و فی (جامع المقاصد) : إن البیع هو نقل الملک من مالک إلی آخر بصیغةٍ مخصوصة (2) .
و ذلک صریح (المستند) حیث قال : « العقد سبب النقل ، کما أنَّ النقل سبب الانتقال . عرّفه جماعة بالعقد ، و هو غیر جیّد ... » (3) .
و الحاصل : إن الإنشاءات أسباب .
و قال المیرزا فی بحث الصحیح و الأعم : بکون الإنشاءات آلات ، و نصَّ علیٰ أنَّ المشهور کونها أسباباً (4) .
و إذا کانت الإنشاءات أسباباً لا موجدةً لمعانیها ، فلا یأتی الإشکال ، لأنّ الواقع فی الوصیّة - مثلاً - هو جعلُ السبب ، فلا یقال کیف یکون إیجاد الملکیّة الآن و وجودها بعد الموت ... بل إنه سببٌ ، و المسبّب إنْ کان مقیَّداً بقیدٍ کان السبب سبباً ناقصاً ، و لا محذور فی انفکاک السبب عن المسبب ...
نعم ، لو کان غیر مقیَّد کان الانفکاک غیر معقول ، بحکم عدم انفکاک العلّة التّامة عن المعلول ، لا بحکم عدم انفکاک الإیجاد عن الوجود ... لذا کان الانفکاک غیر معقول فی الوجوب المطلق ، و کذا فی الملکیات المنجَّزة .
هذا حلّ المشکل بناءً علیٰ قول المشهور .
و أمّا حلّه بناءً علیٰ مسلک الاعتبار و الإبراز ، فإنّ الاعتبار أمر نفسانی
ص:319
تکوینی فعلی ، و لا مانع من أن یکون المعبَّر متأخّراً عنه ... و إن من خاصیّة الاعتبار امکان تعلّقه بالأمر المعدوم فعلاً الموجود فی عالم الفرض کما فی الوصیة ، حیث یفرض الآن الملکیة بعد الموت و یحقّقه فی عالم الاعتبار .
هذا تمام الکلام علیٰ هذه المشکلة ، و باللّٰه التوفیق .
و بعد الفراغ عن البحث حول ما استدلّ به علیٰ امتناع رجوع القید إلیٰ الهیئة ، الدالّ بالالتزام علیٰ رجوعه إلیٰ المادّة ، نتعرّض للدلیل الذی أقامه الشیخ الأعظم رحمه اللّٰه علیٰ ضرورة رجوعه إلیٰ المادّة ، و هو برهان وجدانی ، فقال ما حاصله (1) :
إن العاقل إذا التفت إلیٰ شیء ، فإمّا یطلب ذلک الشیء أو لا ، و الثانی خارج عن البحث ، و علی الأوّل : فإمّا یطلبه علیٰ جمیع تقادیر وجوده أو یطلبه علیٰ بعض التقادیر ، و الأوّل خارج عن البحث ، و علی الثانی : فالتقدیر إمّا غیر اختیاری ، کمطلوبیّة الصلاة علیٰ تقدیر تحقق الزوال ، و إمّا اختیاری کمطلوبیّة الحج علیٰ تقدیر الاستطاعة ، و فی الاختیاری تارة : یکون القید داخلاً تحت الطلب ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و أخریٰ : لا یکون ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج .
یقول الشیخ : ففی جمیع صور مطلوبیّة الشیء علیٰ تقدیر حصول أمر اختیاری ، یکون الطلب فعلیّاً و المطلوب غیر فعلی ، فیکون القید دائماً قیداً للمادّة دون الهیئة ، إذ المطلوب معلَّق علیٰ شیء دون الطلب ، سواء قلنا بتبعیّة الأحکام للمصالح و المفاسد کما هو الحق ، أو بعدم التبعیة کما علیه الأشاعرة ،
ص:320
فبناءً علیٰ الأول : عند ما یتوجّه الإنسان إلیٰ الصّلاة المشروطة مصلحتها بالزوال ، فهو بالفعل ذو شوق إلیٰ الصّلاة حتی قبل الزوال ، لکنّ ظرف الصّلاة إنما هو بعده ، و کذا الحجّ علیٰ تقدیر الاستطاعة ، فإن الشوق إلیه موجود فعلاً و لا قید له ، إلّا أن الحج یکون بعد الاستطاعة ، و کذا الحال فی الصّلاة و الطهارة .
هو : إنه لا ریب فی أنّ الإیجاب من الأفعال الاختیاریّة ، و المفروض صدوره عن فاعل مختار ، فلا بدّ و أن تکون هناک مصلحة و ملاک لهذا الوجوب کما علیه أهل العدل ، فإنْ کان للتقدیر دخل فی الملاک و المصلحة ، کان الوجوب هو المقیَّد و المشروط ، و إنْ لم یکن له دخل ، فالوجوب مطلق غیر مشروط ... فالقید راجع إلیٰ الوجوب لا الواجب .
أمّا علیٰ مسلک الأشعری ، فلا بدَّ من تمامیّة الغرض الذی لأجله یصدر الحکم ، فإنّ کان القید دخیلاً فیه ، فتحقّقه بدونه مستحیل ، و مع عدم تحقّق الغرض یستحیل جعل الوجوب .
هذا تمام الکلام علیٰ رجوع القید إلیٰ الهیئة أو المادّة .
و قد تبیَّن أنّ المقتضی إثباتاً لرجوعه إلیٰ الهیئة تام ، و أن ما ذکروه مانعاً عن ذلک فی مقام الثبوت مندفع ... فالحق رجوعه إلیٰ الهیئة .
و لا یخفی ما یترتب علیٰ هذا البحث من الثمرة ... فإنّه إن رجع إلیٰ الهیئة ، لم یلزم تحصیل القید ، بل یکون الوجوب ثابتاً کلّما تحقق القید ، و أمّا إن رجع إلیٰ المادّة ، فالوجوب مطلق ، و لا بدّ من تحصیل القید ... .
ص:321
بعد أنْ تعرّضنا للقولین الأوّل و الثانی ، حیث کان الأوّل للشیخ الأعظم ، و القول الثانی لمنتقدی نظریّته من الأعلام ، القائلین برجوع القید إلیٰ الهیئة ، و هو مختار الاستاذ دام بقاه ، تصل النوبة إلیٰ الکلام فی صورة الشک فی رجوعه إلیٰ الهیئة أو المادّة ، فما هو مقتضی الأصل ... و تحقیق ذلک فی مقامین :
لقد ذکروا وجهین لکون الأصل اللّفظی و هو الإطلاق یقتضی رجوع القید إلیٰ المادّة ، و أنّ الهیئة تبقیٰ مطلقة :
و هو یتألّف من صغری : إن إطلاق الهیئة شمولی و إطلاق المادّة بدلی ، و من کبری : إنه إذا دار الأمر بین رفع الید عن أحد الإطلاقین المذکورین ، فإنّ مقتضی القاعدة أن یسقط الإطلاق البدلی و یبقی الشمولی (1) .
أمّا الکبری ، فمسلّمة عند الشیخ و المیرزا ، فهما یقولون بتقدّم الشمولی البدلی تقدَّم العام علیٰ المطلق .
ص:322
و أمّا الصغریٰ ، فلأن إطلاق الوجوب شمولی ، من جهة أن لقولنا « صلّ » إطلاقان ، أحدهما : الإطلاق المستفاد من نفس الهیئة ، و الآخر :
إطلاق الصّلاة بالنسبة إلیٰ الطهارة ... و کلّما کان الحکم فیه ثابتاً علیٰ التقدیرین - تقدیر وجود الطّهارة و تقدیر عدم وجودها - کان الإطلاق شمولیّاً ، و أمّا إطلاق المادّة الواجب - فهو بدلی ، لأن المطلوب صرف وجود الحج - مثلاً - فهو یرید حجّاً ما ... فهو إطلاق بدلی .
و إذا ضممنا الصغری إلیٰ الکبری ، حصلت النتیجة المذکورة .
و للمحقق الخراسانی بیان آخر (1) ، فإنّه قال : إن الإطلاق الشمولی یثبت الحکم لجمیع الأفراد فی جمیع الحالات ، کما فی « لا تکرم الفاسق » فإنه یشمل زیداً و عمراً و بکراً ، و یشمل کلّ واحدٍ منهم فی حال الانفراد و فی حال الانضمام إلیٰ الغیر ... و هکذا ... أمّا الإطلاق البدلی ، فإنه یثبت الحکم لکلّ فردٍ ، لکنْ فی حالةٍ واحدةٍ ، کما فی « أکرم عالماً » ، فزید العالم یجب إکرامه فی حال انفراده عن غیره ، أی منفرداً .
وعلیه ، فإنّ الحکم فی المطلق الشمولی یکون أقوی منه فی المطلق البدلی .
قال رحمه اللّٰه : لکنّ ملاک التقدّم لیس هذه الأقوائیّة ، بل إنه الأظهریّة ، و قد کان تقدّم العام علیٰ المطلق بالأظهریّة ، لکون ظهور العام بالوضع ، فکان أظهر من ظهور المطلق فی الإطلاق ... .
و تلخّص : أن المحقق الخراسانی غیر موافق مع الشیخ فی الکبری .
ص:323
و أیضاً : فإنّ المحقق الخراسانی قائل بالتفصیل فی مسألة تقدّم العامّ علیٰ المطلق ، لأنه یریٰ أنّ من مقدّمات انعقاد الإطلاق عدم القدر المتیقّن فی مقام التخاطب ، فیقول بأنّ العام قد یکون بیاناً فی مقام التخاطب ، و قد لا یکون .
أقول :
لکنّ کون المبنی و الملاک فی التقدَّم عند التعارض هو : الأقوائیّة فی الظهور هو من الشیخ فی باب التعادل و التراجیح ... فالإشکال غیر وارد علیٰ الشیخ ، نعم ، یرد علیه الإشکال بأن یقال له : بأنّ کلامکم فی الأصل فی مسألة دوران الأمر بین المطلق الشمولی و المطلق البدلی یتناقض مع کلامکم فی باب التعادل و التراجیح ، حیث جعلتم الملاک هو الأقوائیة فی الظهور .
هذا تمام الکلام علیٰ ما ذکره المحقق الخراسانی إشکالاً علیٰ الشیخ .
و أشکل فی (المحاضرات) علیٰ الشّیخ فی ناحیة صغری الاستدلال بما حاصله :
إن الإطلاق الشّمولی موجود فی مثل « أکرم عالماً » أیضاً ، فالکبری تامّة و الصّغری غیر تامة ، لأنّه فی المثال و إنْ کانت الدلالة المطابقیّة مطلوبیة إکرام صرف العالم ، لکنّ الدلالة الالتزامیة فیه هی الترخیص فی التطبیق علیٰ کلّ فرد فرد من الأفراد ، و هذا حال الإطلاق الشمولی ، إذ العقل یریٰ فی مثله تجویز الشارع تطبیق عنوان « العالم » علیٰ هذا و ذاک و ذاک ... .
فلو ارید ترجیح « لا تکرم الفاسق » فی مقام الاجتماع ، زال الترخیص
ص:324
المذکور عن « أکرم عالماً » و هذا غیر صحیح .
عن هذا الإشکال بمنع وجود الترخیص الشرعی فی التطبیق بین الأفراد فی مثل « أکرم عالماً » ، و بإنکار الدلالة الالتزامیة المذکورة ، بل إنه إذا تعلّق التکلیف بصرف الوجود ، فإنّ العقل یریٰ عدم المنع فی التطبیق علیٰ أیّ فرد شاء ... و عدم المنع عن التطبیق شیء ، و الدلالة الالتزامیّة علیٰ الترخیص فی التطبیق شیء آخر ... فالدلالة عقلیّة ، و حدّ دلالة العقل هو ما ذکرناه .
فجواب (المحاضرات) عن استدلال الشیخ غیر تام .
و الصحیح ما أجاب به المحقق الخراسانی ، من کون الملاک فی التقدّم هو الأظهریّة .
و المیرزا - رحمه اللّٰه - وافق الشیخ فی تقدیم الإطلاق الشمولی ، و استدلّ له بوجوه (1) :
إن الإطلاق - سواء فی الشمولی أو البدلی - یتوقّف علیٰ مقدّمات الحکمة ، لکنّه فی البدلی یتوقّف علیٰ مقدّمةٍ زائدة لیست فی الشمولی ، و هی : إحراز المساواة بین أفراد الطبیعة فی الوفاء بغرض المولی من الأمر ، بلا تفاوت بینها أصلاً ، و مع وجود الإطلاق الشمولی علیٰ خلافه ، و الذی مفاده ثبوت الحکم لجمیع أفراد الطّبیعة علیٰ السواء ، و إنْ اختلف الملاک فیها شدّةً و ضعفاً - حیث أن النهی عن مرتکب الکبیرة من الفسّاق أشدّ منه عن مرتکب الصغیرة ... - لا یمکن إحراز الاستواء ، فلا ینعقد الإطلاق
ص:325
البدلی ، لصلاحیّة الإطلاق الشمولی لأنْ یکون بیاناً للتعیین فی بعض الأفراد دون البعض الآخر ، لأشدیّة الملاک فیه ، کما فی المثال المتقدّم .
و الحاصل : إنه لا بدَّ فی الإطلاق البدلی من إحراز التساوی بین جمیع المصادیق حتی یمکن الامتثال بأیٍّ منها علیٰ سبیل البدلیّة ، و إلّا لزم الامتثال بالفرد الذی یتیقّن باستیفاء الملاک به ، و مع وجود الإطلاق الشمولی فی المقابل فلا یمکن الإحراز ، لأنه فی الفرد الذی یجتمع فیه الإطلاقان - و هو العالم الفاسق - لا یتحقق احرازٍ مساواته للعالم غیر الفاسق ... فیترجّح الإطلاق الشمولی علیٰ البدلی ، لکونه مانعاً عن انعقاد مقدّمات الحکمة فیه .
و أورد علیه الاستاذ : بأنّه فی کلّ مطلق أو عام ، لا بدَّ من إحراز وفاء المتعلّق بتمام ملاک الحکم ، و إنْ کانت الأفراد غیر متساویة ، و مع عدم الإحراز و الشک فی حصول الامتثال ، فلا بدَّ من الإتیان بالقدر المتیقَّن ، و الحاصل : إنه لا ریب فی ضرورة إحراز وفاء إکرام هذا الفرد المعیّن بغرض المولی من إیجاب إکرام العالم ، و کذا إحراز أنّه بترک إکرام ذلک الفرد قد تحقّق غرض المولی من نهیه عن إکرام الفاسق ... فإحراز الوفاء بالغرض لازم ، سواء فی الإطلاق الشمولی و الإطلاق البدلی .
لکنَّ الإطلاق فی کلّ خطابٍ مطلقٍ یکون محرزاً للملاک ، إذ الحکم دائماً معلول للملاک ، و إطلاقه أیضاً معلول لإطلاق الملاک ، و حینئذٍ ، فإن الإطلاق فی « أکرم عالماً » یعمّ الفاسق و العادل علیٰ حدّ سواء ، فالمقتضی لشموله للفاسق تام .
وعلیه ، فتقع المعارضة بینه و بین دلیل النهی عن إکرام الفاسق ، و لا
ص:326
مرجّح لأحدهما علیٰ الآخر ، فیسقط الأصل اللفظی الذی ادّعاه المیرزا لتقدّم الشمولی علیٰ البدلی .
إنه لو دار الأمر بین امتثال أحد التکلیفین و امتثال کلیهما ، تقدَّم الثانی . و فیما نحن فیه : إنْ أکرمنا العالم العادل دون الفاسق ، فقد حصل الامتثال لقوله « أکرم عالماً » و قوله « لا تکرم فاسقاً » بخلاف ما لو أکرمنا عالماً فاسقاً - عملاً بإطلاق أکرم عالماً - فإنه لم یمتثل التکلیف ب « لا تکرم فاسقاً » المنطبق علیٰ هذا العالم الذی أکرمناه بإطلاقه الشمولی ... إذنْ ، یترجّح الإطلاق الشمولی علیٰ البدلی .
إنّ الملاک فی الإطلاق البدلی ملاک تخییری ، و الملاک فی الشمولی تعیینی ، و من المعلوم أن الملاک التخییری لا یزاحم التعیینی ، بل التعیینی هو المقدَّم .
عن الوجهین : بأنه قد وقع الخلط بین التزاحم و التعارض ، ففی فرض وجود الحکمین و دوران الأمر بین امتثالهما معاً أو أحدهما ، فلا ریب فی تقدّم امتثالهما کلیهما ، إلّا أن الکلام فی أصل وجود الحکمین ، و أنّه هل یوجد الحکم ب « لا تکرم الفاسق » مع وجود إطلاق « أکرم عالماً » ؟
إنه لا یخفی اقتضاء البدلیّة فی « أکرم عالماً » لأنْ یکون العالم الفاسق مصداقاً له ، لکن « لا تکرم الفاسق » بمقتضی شمولیّته یدلّ علیٰ حرمة إکرامه ، فالمورد صغری التعارض لا التزاحم ، و المرجع هنا هو المرجّح فی باب التعارض و هو الأظهریّة ، و أظهریّة الإطلاق الشمولی من البدلی أوّل الکلام .
ص:327
قال الأستاذ :
و مع التنزّل عمّا فی هذه الوجوه ، و التسلیم باقتضائها تقدّم الإطلاق الشمولی ، فإنّ تقدّمه إنما یکون فیما لو کان التعارض بین الإطلاقین الشمولی و البدلی تعارضاً بالذات ، بأنْ یکون الدلیلان متنافیین ، کما فی « لا تکرم الفاسق » و « أکرم عالماً » حین یقع التعارض بینهما فی العالم الفاسق ، أمّا لو کان التعارض بالعرض - کما لو کان هناک علم إجمالی بسقوط أحدهما فی مورد الاجتماع ، مثلاً : لو ورد دلیل فی وجوب صلاة الجمعة ، و دلیل آخر فی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة ، فإنّ الدلیل القائم علیٰ عدم وجوب الصّلاتین فی ظهر یوم الجمعة ، یفید العلم الإجمالی بسقوط أحد الدلیلین - فلا تجری القاعدة المذکورة ، و هی الرجوع إلیٰ الأظهریّة .
و مورد البحث هنا من هذا القبیل ، لأنه لا تنافی بالذات بین إطلاق المادّة و إطلاق الهیئة ، فی مثل « صلّ » ، لکنّ العلم الإجمالی بتقیّد أحد الإطلاقین یمنع من الأخذ بهما أو بأحدهما ، بل الإطلاقان کلاهما ساقطان .
و الحاصل : إنه علیٰ فرض تمامیّة الکبری ، فإنّها إنما تجری فی حال کون التعارض بالذات ، أمّا مع التعارض بالعرض فلا تجری ، فالإشکال حینئذٍ یعود إلیٰ الصغری ، فلو تمّت الوجوه المذکورة لإثبات أقوائیة الإطلاق الشمولی من البدلی ، بأنْ یکون « لا تکرم الفاسق » أقوی من « أکرم عالماً » ، فلا محصّل لذلک فیما نحن فیه ، بل إنّه مع العلم الإجمالی لا یتقدّم الأقوی حتی لو کان هو الحاکم ، فإنّ الحاکم أقوی من المحکوم بحیث لا یصلح المحکوم للمعارضة معه ، و مع ذلک ، فمقتضی العلم الإجمالی بسقوط أحد الدلیلین فی مورد الاجتماع هو سقوط کلیهما .
ص:328
فتلخّص : أنه مع العلم الإجمالی بتقیّد الوجوب أو الواجب ، یخرج المورد عن قاعدة تعارض الإطلاق الشمولی و الإطلاق البدلی ، و تقدّم الأظهر منهما علیٰ الآخر .
هذا تمام الکلام علیٰ الوجوه التی أقامها المیرزا ، لتشیید الوجه الأوّل من وجهی اقتضاء الأصل اللّفظی رجوع القید إلیٰ المادّة .
و هو مبنی علیٰ قاعدة أنه لو دار الأمر بین سقوط إطلاقین أو سقوط أحدهما و بقاء الآخر ، لزم الاقتصار علیٰ الأقل ... و تقریب ذلک :
إنه لو قیّدت المادّة - أی الصّلاة - فإنّ تقییدها لا یستلزم التقیید و التضییق فی الهیئة - و هو الوجوب - ، فلو قیّدت الصّلاة بالطهارة بقی وجوبها علیٰ إطلاقه ، فهی واجبة سواء وجدت الطهارة أو لم توجد . أمّا لو قیّدت الهیئة ، کأنْ قیّد وجوب الصّلاة بالزوال ، حصل التقیید و التضییق فی المادّة و هی الصّلاة ، و لا یبقی محلّ للإطلاق فیها کما عبّر الشیخ الأعظم قدّس سرّه ... فظهر أنّ تقیید المادّة لا یستلزم تقیید الهیئة ، بخلاف العکس ، و إذا دار الأمر بین الأمرین رجع القید إلیٰ المادّة دون الهیئة ، للقاعدة المذکورة .
و قد فصّل المحقق الخراسانی فی هذه القاعدة ، بین ما إذا کان المقیِّد منفصلاً عن المطلق أو متّصلاً به ، فإن کان منفصلاً انعقد الإطلاق و تمّ الظهور ، فلو کان فی أحد الطرفین إطلاقان و فی الآخر إطلاق واحد ، و دار أمر المقیّد بین إسقاط الواحد أو الاثنین ، فمقتضی القاعدة هو الاکتفاء بالأقل و الاقتصار
ص:329
بقدر الضرورة فی إسقاط الحجة ، و أمّا إذا کان القید متّصلاً ، و دار الأمر بین أن یمنع عن انعقاد الإطلاق فی طرفٍ أو طرفین ، فلا دلیل علیٰ تقدّم الأقلّ ، لأنه مع کونه متّصلاً لم یتم الظهور و لم یتحقق الحجّة ، لیکون رفع الید عن أصالة الظهور فی الأقل مقدّماً علیه فی الأکثر .
قال رحمه اللّٰه - معلّقاً علیٰ قول الکفایة : إنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة و یرتفع به مورده ، بخلاف العکس ، و کلّما دار الأمر بین تقییدین کذلک ، کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی - : « یمکن تقریر هذا الوجه بنحو أحسن و أبعد عن الإشکال ، و هو : إنه لا مجال لمقدّمات الحکمة فی جانب المادّة ، لتمامیّة البیان بالنسبة إلیها ، و ذلک : إمّا لتوجّه القید إلیها ابتداءً ، أو لتوجّهه إلیٰ الهیئة الموجب ذلک لتقیّد المادّة أیضاً بالتبع ، و علی کلّ حالٍ ، لا یبقیٰ مجال للإطلاق فی جانبها ، فتبقیٰ المقدّمات فی جانب الهیئة سلیمةً عن المعارض ، و بذلک ینعقد لها الإطلاق » (1) .
و ذهب المحقّق الخوئی (2) - و وافقه الشیخ الاستاذ - إلیٰ أنّ ما نحن فیه لیس من قبیل دوران الأمر بین الأقل و الأکثر ، لیکون مورداً لانطباق القاعدة المذکورة ، بل إنه من قبیل دوران الأمر بین المتباینین ، و النسبة بین تقیید المادّة و تقیید الهیئة هی العموم من وجه ، فقال ما ملخّصه :
إنّ القید إن کان قیداً للهیئة واقعاً ، فمردّه إلیٰ أخذه مفروض الوجود فی
ص:330
مقام الجعل و الاعتبار ، من دون فرقٍ فی ذلک بین کون القید اختیاریاً أو غیر اختیاری . و إن کان قیداً للمادّة واقعاً ، فمردّه إلیٰ اعتبار تقیّد المادّة به فی مقام الجعل و الإنشاء ، من دون فرقٍ فی ذلک أیضاً بین کون القید اختیاریّاً أو غیر اختیاری ، غایة الأمر : إنه إن کان غیر اختیاری فلا بدَّ من أخذه مفروض الوجود ، و ذلک لما تقدَّم من أن کون القید غیر اختیاری لا یستلزم کون الفعل المقیَّد به أیضاً کذلک ، ضرورة أنّ القدرة علیه لا تتوقّف علیٰ القدرة علیٰ قیده ، فإنَّ الصّلاة المتقیّدة بالزوال مثلاً مقدورة ، مع أن قیدها و هو الزوال خارج عن القدرة .
فالنتیجة : إن تقیید کلٍّ من المادّة و الهیئة یشتمل علیٰ خصوصیّة مباینة لما اشتمل علیه الآخر من الخصوصیّة ، لأنّ تقیید الهیئة مستلزم لأخذ القید مفروض الوجود ، و تقیید المادّة مستلزم لکون التقیّد به مطلوباً للمولی ، و علی هذا ، فلیس فی البین قدر متیقّن یؤخذ به و یدفع الزائد علیه بالإطلاق .
و من هنا یظهر : إن النسبة بین تقیید المادّة و تقیید الهیئة هی العموم من وجه ، فیمکن أن یکون شیء قیداً لمفاد الهیئة دون المادّة ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ وجوب الحج ، و لذا لو استطاع المکلّف و وجب الحج علیه ثمّ زالت الاستطاعة عن اختیار منه ، بقی الحج علیٰ وجوبه ، وعلیه الحج و لو متسکعاً ، أمّا لو کانت الاستطاعة قیداً للحج فزالت لما صحَّ حجه متسکّعاً ، لفرض زوال القید . و یمکن أنْ یکون شیء قیداً لمفاد المادّة دون الهیئة ، کتقیّد الصّلاة بالطّهارة و الاستقبال و غیر ذلک . و یمکن أن یکون شیء قیداً لکلتیهما کالزّوال مثلاً بالنسبة إلیٰ صلاة الظّهر ، فإنه قید للواجب و الوجوب معاً .
و علی هذا ، فإن کان القید - المردّد أمره بین الرجوع إلیٰ المادّة أو الهیئة
ص:331
- متّصلاً ، فهو مانع عن انعقاد الظّهور من أصله ، و إن کان منفصلاً ، فالظهور منعقد فی الطّرفین ، إلّا أن العلم الإجمالی برجوعه إلیٰ أحدهما یوجب سقوط کلیهما عن الاعتبار ، لأنّ المکلَّف إن علم بأنّ المولی قد أراد منه - بدلیلٍ منفصل - احدی الحصّتین فقط ، لم یمکنه التمسّک بالإطلاق ، لدفع کون الوجوب حصّةً خاصّةً ، أو لدفع کون الواجب حصّة خاصّة .
و تلخّص : عدم تمامیّة أصل الوجه - کما عن الشیخ و من تبعه - و لا التفصیل فیه بین القید المتّصل و القید المنفصل ، کما ذهب إلیه فی (الکفایة) .
وعلیه ، فالصحیح أنْ لا أصل لفظی فی المقام .
و المرجع هو :
و لا ریب أنه هو البراءة ، لأنّ احتمال رجوع القید إلیٰ الوجوب ، یوجب الشک فی أصل الوجوب ، و مع الشک فی أصل التکلیف ، فالأصل هو البراءة بلا کلام .
ثم إن المیرزا نفی أن یکون القید راجعاً إلیٰ المادة أو الهیئة ، و ذهب (1)إلیٰ أنّه یرجع إلیٰ المادة المنتسبة إلیٰ الهیئة ، و أکّد (2) علیٰ أنّ هذا هو مراد الشیخ فی هذا المقام ، و هذا هو القول الثالث فی المسألة .
و توضیح مراده من المادّة المنتسبة إلیٰ الهیئة هو : أنّ المادّة معنیً أفرادی - فی مقابل الترکیبی - و المفرد لا یصلح للتعلیق و التقیید ، بل الذی یصلح
ص:332
لذلک هو مفاد الجملة ، فلمّا نقول : إذا زالت الشمس فصلِّ ، أو نقول : إذا زالت الشمس فالصّلاة واجبة ، لیس المعلَّق علیٰ الزّوال هو « الصّلاة » ، و إنما مفاد الجملة الإنشائیة أعنی : « فصلّ » أو الخبریة و هی : « فالصّلاة واجبة » هو الذی یمکن تعلیقه و إناطته ، فالقید - و هو الزوال - یرجع إلیٰ المادّة - و هی الصّلاة - لکنْ بانتسابها و إضافتها إلیٰ الهیئة - و هو الوجوب - ، فالصّلاة الواجبة هی المشروطة و المنوطة بالزوال ... لا « الصّلاة » وحدها ، و لا « الوجوب » وحده ... أمّا « الصّلاة » فلأنّها معنیٰ أفرادی کما ذکر ، و أمّا « الوجوب » فلأنه معنیً حرفی ، کما تقدّم سابقاً .
هذا توضیح مرامه و إنْ اختلفت کلمات المقرّر لبحثه .
و لا یرد علیٰ المیرزا ما أشکل به المحقّق الأصفهانی (1) من أنّ المحذور الموجب لاتّخاذ هذا المبنی هو عدم امکان تقیید مفاد الهیئة ، لأنه معنی حرفی ، و هو معنیٰ آلی ، و لا یقبل التقیید إلّا المعنی الاستقلالی ، لکنّ هذا المحذور لا مجال له ، لأنّ المعنیٰ الحرفی لیس بحیث لا یلحظ ، بل یلحظ لکنْ باللّحاظ الآلی ، و هذا القدر من اللّحاظ یصحّح التقیید .
وجه عدم الورود هو : أنه غفلة عن مسلک المیرزا فی المعنیٰ الحرفی ، فإنّه یقول بأنّ المعنیٰ الحرفی غیر قابل للّحاظ أصلاً ، و أنّ حکمه حکم القطع الطریقی من هذه الجهة ، فکما أن القطع الطریقی غیر ملحوظٍ للقاطع أصلاً ، و إنما یلحظ المقطوع به فقط ، کذلک المعنیٰ الحرفی .
فکان إشکال المحقق الأصفهانی غیر واردٍ ، لأنه مبنائی .
ص:333
و أورد علیه السیّد الخوئی (1) :
أولاً : بأن ما ذکره لیس فی الحقیقة إلّا رجوع القید إلیٰ الهیئة ، و إنما الاختلاف فی اللّفظ ، إذ لا فرق بین مفاد الهیئة و هو الوجوب ، و اتّصاف المادّة و إضافتها إلیٰ الوجوب .
و ثانیاً : بأنه کما لا یمکن تقیید مفاد الهیئة ، کذلک لا یمکن تقیید المادّة المضافة إلیٰ الوجوب .
فقال الأستاذ :
بأنْ ما ذکره من کونه تغییراً فی اللّفظ فقط ، عجیب جدّاً ، لأنّ من تأمّل فی کلام المیرزا و دقّق النّظر ، علم أنّ المیرزا یریٰ أنّ إضافة المادّة إلیٰ الوجوب معنیً اسمی ، و لذا أمکن تقییده ، بخلاف مفاد الهیئة ، فإنه معنیً حرفی ، فکیف یکون المادّة المنتسبة متّحداً فی الحقیقة مع مفاد الهیئة ؟
ثم إنه جاء فی تقریر بحثه فی الدورة الثانیة التعبیر ب « نتیجة الجملة » بدلاً عن « مفاد الجملة » ، و من الواضح أنه لیس تغییراً فی التعبیر فقط ، لکون « نتیجة الجملة » غیر « الجملة » .
و أیضاً ، فإن المیرزا یقول بأنّه إنْ ارید تقیید المادّة قبل ورود نسبة الوجوب علیها ، فهی لا تصلح لذلک ، لأنها معنیً أفرادی کما تقدّم ، و إنْ ارید تقییدها فی رتبة ورود النسبة علیها ، فهی مفهوم أفرادی و لا تقبل التقیید ، و تبقی الصّورة الثالثة بأنْ یرد القید علیٰ المادة بعد انتسابها إلیٰ الوجوب - و هذه البعدیة رتبیّة لا زمانیة ، و إلّا لزم النسخ - فتکون الصّلاة مقیَّدة بالزوال فی
ص:334
مرتبة بعد وقوع النسبة ، و حینئذٍ ، تکون المادّة فرعاً لو ورد النّسبة ، و فی هذه الحالة یکون معنیً اسمیّاً ... و مع هذه الخصوصیّات کیف یقال بأنّ ما ذکره المیرزا تغییر فی التعبیر فقط ؟
و هذه نصوص عباراته (1) :
« فالمعلّق فی الحقیقة هی المادّة بعد الانتساب ، لا بمعنیٰ البعدیّة الزمانیّة حتی یکون ملازماً للنسخ ، بل بمعنیٰ البعدیّة الرتبیّة » : أی لیکون معنیً اسمیاً ، أمّا فی الرتبة القبلیة فالمعنیٰ حرفی .
یقول : « فإنّ اتّصاف المادّة بالوجوب فرع وقوع النسبة الطّلبیة علیها » .
و هل یمکن إنکار الفرق بین الفرع و الأصل ؟
و علی الجملة ، فما زعم من أن الاختلاف فی اللفظ فقط ، فی غیر محلّه ، فالإشکالان مندفعان . و کذا یندفع الإشکال : بأنّ المادّة المنتسبة لیس بشیء ثالث ، فإمّا المادّة و إمّا مفاد الهیئة ، فهی ترجع إلیٰ أحدهما .
و ذلک ، لأنّ المیرزا ذکر أنّ اتصاف الإکرام بالوجوب فرع علیٰ النسبة و یتحقق بعدها ، و من الواضح أن الفرع غیر الأصل .
و الإشکال الآخر : بأنّ المادّة المنتسبة إنما انتسبت إلیٰ معنیً آلی - و هو مفاد الهیئة - فإذن ، یکون لها حکم المعنیٰ الآلی ، فلا یمکن تقییدها .
و فیه : هذا أول الکلام . ثمّ إنه قد تقدم أنّ المیرزا یقول بأن القید یرجع إلیٰ المادّة المتّصفة بالوجوب ، و هذا معنیٰ اسمی لا آلی .
ثم قال الاستاذ دام بقاه : بأنه یمکن الإیراد علیٰ المیرزا بوجوه :
ص:335
الأول : إنّ جعل مرجع القید عنوان « الإکرام الواجب » أو « وجوب الإکرام » موقوف علیٰ وجود هذه الجملة فی لفظ الکلام ، و هی غیر موجودة ، و کونها مستنبطةً لا یکفی لصحّة التقیید .
الثانی : إنه إذا کان المقیّد نتیجة الجملة ، فإنّ نتیجة الجملة لم تأتِ فی جواب الشرط بعد الفاء ، ففی : إذا زالت الشمس فصلّ ، نری أن المشروط المعلَّق هو « صلّ » و هو جملة ، و کذا فی : إذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ المعلّق هو « النهار موجود » لا « وجود النهار » الذی هو مرکّب ناقص .
الثالث : إن هذا الذی بنیٰ علیه المیرزا هنا ینافی مبناه فی « الوجوب » ، لأنه یذهب إلیٰ أن دلالة الأمر علیٰ الوجوب إنما هی بحکم العقل ، و لیست بدلالة لفظیة أو شرعیة ، و لازم کلامه هنا أن یکون الشارع قد علّق حکمه علیٰ الدرک العقلی ، أو أن العقل یعلّق حکمه علیٰ أمرٍ ، و هذا غیر معقول .
أقول :
قد یقال فی الجواب عن الإشکال الأوّل : بأنّ حکم المشروط الذی یرجع إلیه القید حکم المرجع للضمیر ، و حکم الخبر للمبتدإ ، فکما یمکن أن یکون مرجع الضمیر أو الخبر لفظاً مأوّلاً غیر مذکور فی الکلام ، کالمصدر المؤوّل من أنْ و الفعل المضارع ، کما فی قوله تعالیٰ «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَی » (1)و نحوه ... کذلک یمکن أن یکون المشروط للشرط مؤوّلاً غیر مذکور لفظاً .
و عن الثانی : بأنّه تعبیرٌ وقع فی بعض التقریرات من بعض التلامذة .
و العمدة هو الإشکال الثالث . لکنّه اشکال مبنائی ، و للمیرزا أن یقول أنا
ص:336
فی کلّ یومٍ رجل !
و علی الجملة ، فلا بدّ من التحقیق الأکثر حول نظریّة المادّة المنتسبة .
أنه بناءً علیٰ وجوب المقدّمة بحکم العقل بالملازمة : لا فرق بین الواجب المطلق و الواجب المشروط ، و أنّ مقدّمة کلا الواجبین تجب بالملازمة ، إلّا أنّ مقدّمة الواجب المطلق تکون واجبةً بالوجوب الغیری المطلق ، و مقدّمة الواجب المشروط بالوجوب الغیری المشروط ... وعلیه ، فالمقدّمة الوجودیّة للواجب المشروط واجبة ، بخلاف المقدّمة الوجوبیّة ، أی المقدّمة التی کانت شرط الوجوب ، فهذه لا یتعلّق بها الوجوب ، لا علیٰ مبنی الشیخ و لا علیٰ المبنیٰ المقابل له .
أمّا علیٰ المبنیٰ المقابل - و هو رجوع القید فی الواجب المشروط إلیٰ الهیئة - فلأنَّ ما یکون شرطاً للوجوب لا یعقل اتّصافه بالوجوب الغیری ، لأنه ما لم یتحقّق هذا الشرط فلا وجوب لذی المقدّمة ، لأنّ وجوبه موقوف علیٰ الشرط ، و المفروض عدم تحقّقه ، و إذا لم یتحقق الوجوب النفسی لذی المقدمة ، کیف یتحقق الوجوب الغیری للمقدّمة ؟
و فی ظرف تحقّق الوجوب لذی المقدّمة ، یکون الشرط متحقّقاً و الوجوب الغیری له ثابتاً ، فجعل الوجوب له - حتی یکون داعیاً لتحصیله - تحصیل للحاصل .
و أمّا علیٰ مبنی الشیخ - و هو رجوع القید إلیٰ المادّة - فالصّحیح أن یقال فی وجه عدم اتّصاف المقدّمة بالوجوب : إن قید الواجب ، تارةً : یکون قیداً
ص:337
له ، بحیث تحقق القیدیّة بالوجوب الغیری الناشئ من وجوب ذی المقدّمة ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و فی هذا القسم ، یدخل التقیید تحت الطلب ، و یجب تحصیل الطّهارة للصّلاة . و أخریٰ : یکون قیداً للواجب لکن بحیث لو حصل ، و فی هذا القسم ، لا یدخل القید تحت الطلب ، کالاستطاعة بالنسبة إلیٰ الحج .
ففی مثل الاستطاعة ، لا فرق بین المسلکین ، أمّا علیٰ المسلک المقابل فللبرهان المذکور ، و أمّا علیٰ مسلک الشیخ ، فإنّها جعلت شرطاً للواجب بالکیفیّة المذکورة ، أی بحیث لو حصلت لا بداعویّة إیجاب المولی ... فلیست واجباً غیریّاً .
و تحصّل : إنّ مثل هذه القیود لا یتعلّق بها الوجوب .
ثم إنّ صاحب (الکفایة) ذکر أنّ قسماً من المقدّمات الوجودیّة للواجب المشروط یجب تحصیله ، و هذا القسم هو العلم بالحکم ، فإنّ تحصیله لازم بحکم العقل بمنجزیّة احتمال الحکم الشرعی ، کما هو الحال فی الشّبهات الحکمیّة قبل الفحص ، فتحصیل العلم بالحکم واجب و إنْ لم یتحقق بعدُ شرط الوجوب .
بأنّ هذا الحکم العقلی إنما هو بلحاظ حفظ الواقع المحتمل ، و الخروج عن عهدة الواقع یتحقّق بالاحتیاط ، و لا یلزم تحصیل العلم .
(قال) : و الحق فی المقام : تقسیم العلم إلیٰ ما ینجرّ ترکه إلیٰ تفویت القدرة علیٰ الامتثال و الطّاعة ، و إلی ما لا ینجر ، أمّا فی القسم الأوّل ، فلا بدّ من العلم اجتهاداً أو تقلیداً ، کأحکام الحجّ و الصّلاة و نحوهما ، فمن لم یتعلَّم
ص:338
أحکام الصّلاة قبل الوقت لا یتمکّن من تعلّمها و لا من الاحتیاط بعد دخوله ، فترک التعلّم یوجب مخالفة الواقع یقیناً ، لا أنه یوجب عدم إحرازه ... و حینئذٍ یجب التعلّم دفعاً للضرر ... .
و هنا بحوثٌ أخریٰ موضعها مباحث القطع و مباحث شرائط جریان الاصول .
ص:339
ص:340
ص:341
ص:342
قسَّم صاحب (الفصول) (1) الواجب إلیٰ المعلَّق و المنجَّز ، بعد تقسیمه إلیٰ المطلق و المشروط ، و ذکر أنه تارةً : یکون الواجب و الوجوب غیر معلَّقین علیٰ شیء غیر حاصل ، و أخریٰ : یکون الوجوب غیر معلّق ، و الواجب معلقاً علیٰ أمر غیر حاصل ، فسمّی الواجب فی الأوّل بالمنجَّز و فی الثانی بالمعلَّق ، و الوجوب مطلق فی کلیهما .
و التقسیم إلیٰ المعلّق و المنجّز من انقسامات الواجب ، کما أن التقسیم إلیٰ المطلق و المشروط من انقسامات الوجوب ، و توصیف الواجب بالمطلق و المشروط إنما هو من باب الوصف بحال المتعلَّق ، فهما یرجعان فی الواقع إلیٰ الوجوب .
و علی الجملة ، الواجب إنْ کان مقیّداً بأمرٍ متأخّر فمعلّق و إلّا فمنجَّز ، فالحجّ - مثلاً - واجب مقیّد بأمرٍ متأخّر ، و هو وقوعه فی یوم عرفة ، و هو قید غیر مقدور للمکلَّف ، و قد جعل القید فی (الفصول) أمراً متأخّراً غیر مقدور ، لکنّه فی نهایة البحث جعله أعم من المقدور و غیر المقدور .
و أشکل الشیخ (2) علیٰ صاحب (الفصول) هذا التقسیم ، لأنّ « المعلّق » لیس إلّا« المشروط » فکان یکفی التقسیم إلیٰ المطلق و المشروط ، و السبب
ص:343
فی ذلک هو : إنَّ القیود کلَّها ترجع عند الشیخ إلیٰ الواجب ، فکان الواجب إمّا مقیّداً بشیء و إمّا غیر مقیَّد .
و اعترضه فی (الکفایة) (1) بأنّ هذا الإشکال غیر متوجّه إلیٰ (الفصول) ، بل یتوجّه علیٰ المشهور القائلین برجوع القیود إلیٰ الهیئات ، و أمّا تقسیم (الفصول) فالشیخ موافق علیه ، لأنّ القیود ترجع عنده إلیٰ المواد ، فینقسم الواجب إلیٰ المنجّز و المعلَّق کما فی (الفصول) و إنْ اختلفا فی التسمیة ، فذاک یسمّی بالمنجّز و المعلّق ، و الشیخ یسمّی بالمطلق و المشروط .
ثم أورد فی (الکفایة) علیٰ (الفصول) بعدم ترتّب الفائدة علیٰ هذا التقسیم - و إنْ کان صحیحاً - و کلّ تقسیم لا بدّ و أنْ یکون ذا ثمرة ، و إلّا فالتقسیمات بحسب الخصوصیّات کثیرة ، و ذلک ، لأن المقصود هو الحکم بوجوب المقدّمة ، کمقدّمات الحج قبل یوم عرفة ، و الحال أنّ خصوصیّة کون الواجب حالیّاً أو استقبالیاً ، لا یوجب تقسیم الواجب إلیٰ القسمین المذکورین ، لأنّ الأثر المقصود - و هو وجوب المقدّمة - أثر إطلاق الوجوب و حالیّته ، لا استقبالیة الواجب التی هی خاصیّة الواجب المعلّق .
و الحاصل : إنه إنْ کان الوجوب مطلقاً و فعلیّاً ، کانت المقدّمة واجبةً ، و أمّا استقبالیّة الواجب ، فلا دخل لها فی وجوب تحصیل المقدمة .
و قد دافع المحقّق الأصفهانی - و تبعه فی (المحاضرات) (2) - بأنّ تقسیم (الفصول) إنما هو للتفصّی عن الإشکال الذی أورد علیٰ وجوب تحصیل المقدمات قبل زمان الواجب ، کمقدّمات الحج ، إذْ الحکم بوجوبها کذلک
ص:344
لیس من آثار إطلاق الوجوب و فعلیّته ، فیحتاج إلیٰ تقسیم الواجب إلیٰ المعلّق و المنجز . و لعلّ هذا مراد (الکفایة) من « فافهم » ، و إنْ احتمل أنْ یکون إشارةً إلیٰ أنّ هذا التقسیم له أثر آخر - لا یترتَّب علیٰ تقسیم الواجب إلیٰ المطلق و المشروط - إذْ ما عُلّق علیه الواجب فی الواجب المعلَّق ، یمکن أن یکون من غیر المقدور للمکلّف ، بأنْ یکون وجوب الحج فعلیّاً ، و الواجب - و هو الحج معلّقاً علیٰ یوم عرفة ، الخارج عن قدرة المکلَّف .
و تلخّص : إن تقسیم (الفصول) له فائدة ، و عمدتها هو الحکم بوجوب تحصیل المقدّمات قبل مجیء زمان الواجب .
ثم أورد علیه فی (المحاضرات) :
بأنّ الواجب المعلَّق لیس قسماً من الواجب المطلق فی مقابل المشروط ، بل هو قسم منه ، لأنَّ وجوب الحج فی أوّل الأشهر الحرم بالنسبة إلیٰ یوم عرفة لیس بمهملٍ ، لأن الاهمال محال ، فهو إمّا مطلق أو مقیَّد به ، قال : لا شبهة فی أن ذات الفعل - و هو الحج - مقدور للمکلَّف ، فلا مانع من تعلّق التکلیف به ، و کذا إیقاعه فی یوم عرفة ، و أمّا نفس وجود الزمان - یوم عرفة - فهو غیر مقدور له ، فلا یمکن وقوعه تحت التکلیف ، و بما أنّ التکلیف لم یتعلَّق بذات الفعل علیٰ الإطلاق ، و إنما تعلَّق بإیقاعه فی الزمان الخاص ، فعلم أن لذلک الزمان دخلاً فی ملاک الحکم ، فیکون مشروطاً به ، إلّا أنه علیٰ نحو الشرط المتأخّر ... فظهر أنّ هذا قسم من الواجب المشروط بالشّرط المتأخّر ، لا من الواجب المطلق ... .
و قد ردّ علیه الاستاذ فی کلتا الدورتین بما حاصله :
إن قید الوجوب یفترق عن قید الواجب ، لأنه فی الأوّل دخیلٌ فی أصل
ص:345
ملاک الحکم ، کالزّوال بالنسبة إلیٰ صلاة الظهر ، إذ لا ملاک و مصلحة لها قبله ، و فی الثانی دخیل فی فعلیّة المصلحة ، کالطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، و علی هذا ، فإنّ مرتبة قید الواجب تکون متأخرةً عن مرتبة قید الوجوب ... و کلّ هذا ثابت عند السیّد الخوئی أیضاً ، و حینئذٍ یقال له : کیف یکون الشرط المتأخّر قیداً للواجب ، و مع ذلک یکون دخیلاً فی ملاک الحکم ، فیکون الشیء الواحد موجوداً فی مرتبتین ؟
إنه إنْ أمکن الواجب المعلَّق لزم تحصیل المقدّمات التی لو لم یحصّلها المکلَّف فات عنه الواجب فی ظرفه ، و لذا عبّروا عنها بالمقدّمات المفوّتة ، کما لو لم یتعلَّم المکلَّف کیفیّة القراءة قبل وقت الصّلاة فاتته الصّلاة ... فعلیٰ القول بالواجب المعلَّق ، یکون الوجوب محقّقاً و الواجب معلّقاً علیٰ القید و یجب تحصیل المقدّمة ، و علی القول بعدم الواجب المعلَّق ، فلا یوجد وجوب قبل زمان الواجب ، و لا دلیل علیٰ وجوب تحصیل المقدّمة .
و من الواضح ، أن ثبوت الوجوب و عدم ثبوته یدوران مدار تحقّق الملاک و عدم تحقّقه ، فیکون البحث فی مرحلتین ، مرحلة الثبوت و مرحلة الإثبات ... فلسان الآیة : «وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً » (1)لسان الواجب المعلَّق ، لأنه قد علّق الحج علیٰ الاستطاعة ، و معنی ذلک :
وجوب الحج عند تحقّقها ، فإذا تحقّق الزاد و الرّاحلة له قبل أشهر الحج ، وجب علیه الحج فی زمانه ... فکان الوجوب الآن و الواجب بعدُ ... و إذا وجب لزم تحصیل المقدّمات ... .
ص:346
و الکلام الآن فی مقام الثبوت .
و قد ذکرت وجوهٌ للمنع :
ما ذکره فی (الکفایة) (1) عن بعض معاصریه و هو المحقق النهاوندی صاحب (تشریح الاصول) و ینسب إلیٰ المحقّق الفشارکی أیضاً : و ملخّصه : إن الإرادة - سواء التکوینیّة أو التشریعیّة - لا یمکن أن تتعلّق بأمرٍ متأخّر ، فکما أنّ الإرادة التکوینیة - و هی متعلقة بفعل المرید نفسه - لا تنفک عن المراد زماناً ، لأنها غیر منفکة عن التحریک ، و هو لا ینفک عن الحرکة خارجاً ، کذلک الإرادة التشریعیّة - و هی متعلقة بفعل الغیر - لا تنفکّ عن الإیجاب زماناً ، و هو غیر منفک عن تحریک العبد خارجاً ، و لازم ذلک استحالة تعلّق الإیجاب بأمر استقبالی ، لاستلزامه وقوع الانفکاک بین الإیجاب و التحریک ، و هو مستحیل ، و حیث أن القول بالواجب المعلّق یستلزم الانفکاک المذکور ، فهو محال .
و أجاب صاحب (الکفایة) عن هذا الوجه بجوابٍ ینحلُّ إلیٰ ما یلی :
أوّلاً : إنّ الإرادة کما تتعلَّق بأمر حالی ، کذلک تتعلَّق بأمر استقبالی ، ضرورة أن تحمّل المشاقّ فی تحصیل المقدّمات ، فیما إذا کان المقصد بعید المسافة و کثیر المئونة ، کالکون فی مکّة - مثلاً - لیس إلّا لأجل تعلّق الإرادة به ، و هو الباعث علیٰ تحمّل المشاق . و قولهم فی تعریف الإرادة بأنّها الشّوق المؤکّد المحرّک للعضلات نحو المراد ، لا ینافی ذلک ، لأن کونه محرّکاً
ص:347
للعضلات نحو المراد یختلف حسب اختلاف المراد من حیث القرب و البعد ، و من حیث کونه محتاجاً إلیٰ مئونة و مقدّمات قلیلة أو کثیرة ، أو غیر محتاج .
و ثانیاً : إنّه لا یشترط فی الإرادة التحریک الفعلی للعضلات ، فقولهم کذلک فی تعریف الإرادة ، إنما هو لبیان مرتبة الشوق ، إذ المراد قد یکون أمراً مستقبلاً غیر محتاج فعلاً إلیٰ تهیئة مئونة أو تمهید مقدّمة .
و ثالثاً : إنّ الإرادة التشریعیّة هی : البعثُ لإحداث الداعی للمکلَّف علیٰ المکلَّف به ، و هذا لا یکاد یتعلّق إلّا بأمرٍ متأخرٍ عن زمان البعث ، لأنّ إحداث الداعی له لا یکون إلّا بعد تصوّر المکلّف للمأمور به و ما یترتّب علیٰ فعله و ترکه ، و لا یکاد یکون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة یکون البعث نحو أمرٍ متأخرٍ عن البعث بالزمان .
و أورد الاستاذ علیٰ صاحب (الکفایة) بأنّ الإرادة - سواء کانت بمعنیٰ الاختیار أو بمعنیٰ الشّوق الأکید ... - لا تنفک عن المراد ، و المورد الذی ذکره لا إرادة فیه نحو المقصود ، فالقاصد للکون فی مکة و المتحرّک الآن نحوها ، لا إرادة له بالنسبة إلیٰ مکّة ، لأنّ تلک الإرادة هی الکون بمکة . و قوله : بأنّه لو لا الإرادة لذی المقدّمة لم تحصل الإرادة للمقدّمة ، ففیه : أنّه لا برهان علیٰ نشوء الإرادة بالمقدّمة عن الإرادة لذی المقدّمة ، بل البرهان قائم علیٰ الخلاف ، لأنّ إرادة المقدّمة موقوفة علیٰ تحقّق المقدّمة قبل ذی المقدّمة ، و تحقّق ذی المقدّمة بدون المقدّمة محال ، فکیف تنشأ الإرادة للمقدّمة من إرادة ذی المقدّمة ؟
و أمّا قوله بضرورة الانفکاک فی الإرادة التشریعیّة ، فسیأتی الکلام علیه
ص:348
عند التعرّض لکلام المحقق الأصفهانی .
ثم أجاب الاستاذ عن الوجه الأوّل : بأنّ قیاس الإرادة التشریعیّة علیٰ الإرادة التکوینیّة فی غیر محلّه ، إذ المراد فی التکوینیّة لا ینفک عن الإرادة ، بخلاف التشریعیّة ، و إلّا لما وقع العصیان أبداً ، فالانفکاک فی الإرادة التشریعیّة واقع و حاصل ، فلا مانع من الواجب المعلَّق من ناحیة لزوم الانفکاک .
علیٰ أنَّ الواقع فی الإرادة التشریعیّة هو : الإرادة من المولیٰ ، ثم نفس الطلب من العبد ... و لا شیء آخر فیها ، أمّا الإرادة المتعلّقة بالطّلب من المولی ، فهی غیر منفکّة من الطلب ، و سیأتی فی کلام المحقق الأصفهانی أنّ هذه الإرادة تکوینیّة و إنْ کان متعلّقها تشریعیّاً و هو الطلب ، فلما أراد « الصّلاة » من العبد أنشأ قائلاً « صلّ » . و أمّا نفس الطلب ، فإنّه قد ینفکّ عن المطلوب ، إذ العبد قد یطیع و یُوجد الصّلاة و قد لا یطیع ، و قدّ تقدّم أن قیاس الإرادة التّشریعیة علیٰ الإرادة التکوینیّة باطل ... و بعبارةٍ اخری :
إن النسبة بین الإرادة التّکوینیّة و المراد ، نسبة العلّة التامّة إلیٰ المعلول ، و لا یعقل الانفکاک بینهما ، لکن النّسبة بین الإرادة التّشریعیّة و المراد هی نسبة المقتضی إلیٰ المقتضی ، و الانفکاک و التخلّف بینهما کثیر ، کما هو معلوم .
ذکره المحقق الخراسانی أیضاً (1) ، و حاصله : إن التکلیف مشروط بالقدرة ، و بانتفائها ینتفی ، سواء قلنا إنّ ذات الخطاب ، مع قطع النظر عن حکم العقل ، یقتضی البعث إلیٰ الحصّة المقدورة ، کما هو مسلک المیرزا ، أو
ص:349
أن مقتضی حکم العقل قبح تکلیف العاجز کما هو مسلک المحقّق الثانی و من تبعه ، و إذا کانت القدرة دخیلةً فی التکلیف ، ففی الواجب المعلَّق لا قدرة علیٰ المکلَّف به فی ظرف التکلیف ، فالتکلیف غیر ممکن .
و فیه :
إنّ القدرة شرط علیٰ کلّ حالٍ ، لکنْ فی ظرف العمل بالتکلیف لا فی ظرف الحکم و الخطاب ، و إلّا یلزم بطلان کثیر من التکالیف ، کالتکالیف التدریجیة کالحج مثلاً ، و المفروض فی الواجب المعلّق وجودها فی ظرف الامتثال ... فهذا الوجه مردود حلاً و نقضاً .
أقول : و بهذا یتبیَّن أنّ الأقوال فی اعتبار القدرة فی التکلیف ثلاثة ، و ما ذکره الاستاذ فی الجواب عن الوجه الثانی هو القول الثالث ، و هو للسیّد المحقّق الخوئی ، و سیأتی الکلام علیٰ ذلک بالتفصیل فی محلّه .
ما ذکره المیرزا (1) ، من أنّ الحکم لمّا کان منوطاً بأمرٍ خارج عن القدرة ، فإنه لا بدّ و أنْ یکون مفروض الوجود لدی إنشاء الحکم و جعله ، فما لم یفترض الحاکم وجوده لم یمکنه إنشاء الحکم ... و توضیحه :
إن المیرزا یریٰ أن المجعول فی القضیّة الحقیقیّة هو الحکم علیٰ فرض وجود الموضوع ، و مراده من الموضوع هو کلّ ما له دخل فی تحقق إرادة الحاکم بالنسبة إلیٰ الحکم ، فتکون جمیع القیود المُناط بها الحکم دخیلةً فی الموضوع ، فلذا عبَّر بأن کلّ شرط موضوع و کلّ موضوع شرط ، فإنْ کان الحکم مفترضاً لزم افتراض الموضوع بجمیع قیوده ، و إن کان فعلیّاً لزم فعلیّة
ص:350
الموضوع بجمیع قیوده .
هذه هی الکبریٰ ، و علی ضوئها یظهر بطلان الواجب المعلَّق ، لأنَّ الزمان الآتی خارج الآن عن القدرة ، فلا بدّ من فرض وجوده الآن حتی یفرض وجوده الحکم ، إلّا أن المدعی فی الواجب المعلَّق فعلیّة الحکم مع فرض وجود الزمان الذی هو من قیود الموضوع ، لکنّ فعلیّة الحکم مع کون الموضوع مفروض الوجود و غیر فعلی محال ، لأنه یستلزم - مثلاً - کون الحج واجباً الآن ، سواء وجد یوم عرفة فیما بعد أو لا ، و هذا تکلیف بغیر المقدور .
و فیه :
إن هذا الوجه یبتنی علیٰ إنکار الشرط المتأخّر ، و قد تقدّم امکانه .
و موجز الکلام هنا : إنّه لا شک فی ضرورة فرض وجود یوم عرفة حتی یصدر الحکم بوجوب الحج ، و لکنْ لمّا کان دخله فی الحکم فی المستقبل ، فإن اللّازم فرض وجوده فی ذاک الظرف ، إلّا أن فرض وجوده فی ذلک الظرف لا یستلزم أن یکون الحکم غیر فعلی الآن ، بل الحکم فعلی و تحقّق الواجب یکون فیما بعد عند ما یتحقّق قیده ، إذ لا مانع برهاناً من التقدّم الزمانی لما هو المتأخّر رتبةً ... و هذا معنیٰ کلامه (الکفایة) من أن الزمان المتأخّر مأخوذ بنحو الشّرط المتأخّر .
ما ذکره المحقّق الأصفهانی (1) - قال الأستاذ : و هو المهمّ - و توضیحه :
أوّلاً : إن المراد فی الإرادة التشریعیّة صدور الفعل من العبد بما هو عبد عن اختیارٍ منه ، و فی هذه الحالة یلزم علیٰ المولیٰ إنشاء الحکم بداعی جعل
ص:351
الداعی للعبد ، لیتحرّک نحو الامتثال و تحقیق غرض المولی ... و هذه حقیقة الإرادة التشریعیّة ، فی قبال الإرادة التکوینیّة ، التی هی إرادة صدور الفعل من النفس لا من الغیر ، فکان الفرق بین الإرادتین : أن متعلَّق الإرادة فی التکوینیّة هو الفعل ، و متعلَّقها فی التّشریعیّة هو الإنشاء و البعث بداعی جعل الداعی ...
فکلتا الإرادتین تکوینیّة ، غیر أنَّ المتعلَّق فی التکوینیّة هو فعل النفس ، من القیام و القعود و الأکل و الشرب ، و فی التشریعیّة هو الإنشاء المحرّک للعبد ، و الطلب منه بداعی جعل الداعی للتحرّک ... لأن « الإرادة » هی « الشوق » غیر أنّ المتعلَّق تارةً تکوینی و هو « الفعل » و اخریٰ غیر تکوینی و هو « البعث » .
و ثانیاً : إنه بصدور « البعث » یتحقّق الحکم ، غیر أنّ « البعث » من المولی ، و « الانبعاث » من العبد ، أمران متضایفان ، و المتضایفان متکافئان قوةً و فعلاً ، و علی هذا ، فإن کان البعث فعلیّاً فالانبعاث فعلی ، و إن کان إمکانیّاً فالانبعاث إمکانی ، و لا یعقل أن یکون البعث فعلیّاً و الانبعاث إمکانی ... و هذا مقتضی قانون التضایف .
و النتیجة هی : إنه إذا کان المبعوث إلیه مقیّداً بالزمان المتأخّر ، فلا امکان للانبعاث إلیه الآن ، و حینئذٍ لا یعقل وجود البعث الإمکانی نحوه ... و إلّا یلزم الانفکاک بین المتضائفین ... و إذْ لا بعث فلا حکم ... فالواجب المعلَّق - بأنْ یکون الوجوب الآن و لکنّ الواجب متعلَّق علیٰ أمر متأخّرٍ غیر حاصلٍ الآن - محال .
ثم إنه - رحمه اللّٰه - نقض علیٰ ما ذکره : بما إذا کان الفعل ذا مقدّمات ، فهو قبل حصولها غیر ممکن ، و لازم ما ذکر عدم الحکم به إلّا بعد حصولها ، فزیارة الإمام الحسین علیه السلام یتوقّف علیٰ طیّ الطّریق و المسافة ، فلا
ص:352
یحکم بوجوبها أو استحبابها قبله ، لعدم امکان الانبعاث إلیٰ الزیارة الآن ، و کذا الحج ، فلا یحکم بوجوبه الآن لعدم امکان الانبعاث ... و هکذا .
و ینتقض أیضاً : بالواجب المرکّب من أجزاء ، کالصّلاة مثلاً ، فإنه لا یوجب امکان الانبعاث إلیٰ جمیع الأجزاء من حین التکبیر ، فیلزم أنْ لا یکون بعث إلیها ، و کذا غیرها من الواجبات التدریجیّة .
و قد استقرّ رأیه فی الحاشیة : بأنّ الملاک هو البعث الإمکانی کما تقدّم ، لکنّ البعث الإمکانی یدور مدار الإمکان الاستعدادی ، فمتیٰ کان العمل المبعوث إلیه مستعدّاً و لو امکاناً ، فإمکان الانبعاث موجود فالبعث موجود ، و فی الواجب المقیّد بالزمان المتأخّر لا یوجد الآن الإمکان الاستعدادی بالنسبة إلیه ، بخلاف الواجب ذی المقدّمة ، فإنه یوجد الآن استعداد الامتثال بالنسبة إلیه ، لوجود الحرکة فی العضلات نحو المقدمة وذی المقدمة ... فالنقض غیر وارد .
بورود النقض ، و ذلک ، لأنّ معنیٰ الإمکان الاستعدادی هو قابلیّة الفعل للوجود فی وقته ، ففی الصّلاة عند التکبیر ، أو الصّوم عند الفجر ، هل یوجد استعداد بالنسبة إلیٰ الإمساک فی أوّل الفجر و فی العصر ، منذ أول الفجر ، و بالنسبة إلیٰ التکبیر و التشهد من حین التکبیر ؟ إنّه لا یمکن اجتماع الزّمانی المتأخّر مع الزمانی المتقدّم ، بملاک عدم امکان اجتماع الزمان المتقدّم مع الزمان المتأخر ، فإنّه لمّا کان المفروض کون الامساک مقیّداً بالعصر ، فلا یعقل امکانه الاستعدادی فی آن أوّل الفجر ، فلا یعقل البعث الإمکانی إلیه ، و کذلک فی مثال الصّلاة ، و هکذا ... .
بل التأمّل فی کلماته و ضمّ بعضها إلیٰ البعض ، یفید التزامه بالواجب
ص:353
المعلَّق ، لأنه قال فی المرکّب التدریجی أو الواجب المستمر بأنّ الإنشاء بداعی جعل الداعی یکون فی الزمان السّابق ، أما اقتضاؤه ، ففی الزمان اللّاحق ...
قال : « فهو لیس مقتضیاً بالفعل لتمام ذلک الأمر المستمر ، بل یقتضی شیئاً فشیئاً » و یقول : « فله اقتضاءات متعاقبة ، بکلّ اقتضاءٍ یکون بعثٌ بالحقیقة » (1) ، فکذلک الواجب المعلَّق ، فإنه فی الزمان السّابق یکون البعث ، و یکون اقتضاؤه فی الزمان اللّاحق .
و حلّ المطلب :
إنّه فی حقیقة الحکم قولان ، أحدهما : أنه أمرٌ قابلٌ للجعل الاعتباری بالاستقلال ، بأنْ یعتبر الشارع اللّابدیّة و الحرمان . و الآخر : أنه أمر انتزاعی ، و منشأ الانتزاع له هو الإنشاء بداعی جعل الداعی .
و علی الثانی ، فإن الإنشاء قد یکون فیه امکان البعث ، و هذا واضح ، و قد لا یکون ، و فی الثانی : قد یکون السبب فی عدم امکان الباعثیّة هو القُصور فی الإنشاء نفسه ، کما فی إذا زالت الشمس فصلّ ، فإذا کان کذلک ، لم یصلح لأنْ یکون منشأً لانتزاع الحکم ، و قد یکون السّبب فیه هو القصور فی المتعلّق ، کما لو کان مقیّداً بالزمان المتأخّر ، فإنّ عدم إمکان الانبعاث لیس لقصورٍ فی الإنشاء ، حتی لا ینتزع منه الحکم ، بل الحکم متحقّق الآن یقیناً ، غیر أنّ الفعل غیر قابلٍ للانبعاث نحوه فعلاً .
و تلخّص : إن القصور إذا کان فی ناحیة متعلّق الحکم - بأنْ لم یمکن الانبعاث نحوه فعلاً - فهذا لا یضرّ بانتزاع عنوان « الحکم » من الإنشاء ، عند العقلاء ... و واقع الحال فی الواجبات التدریجیّة هکذا ... و کذا فی الواجب
ص:354
المعلَّق .
و علی الأول ، فإنّ الحکم نفس المعتبر - اللّابدیة ، أو ثبوت الفعل علیٰ الذمّة - فإذا کان الملاک تامّاً ، و تحقّق الاعتبار و المعتبر ، تمّ الحکم و تحقّق ، غیر أنّ داعویّة الحکم تتحقّق فی الزمان اللّاحق ، و من المعلوم عدم تقوّم الحکم بالدّاعویة ، فیمکن الانفکاک بینهما ... فیصبح الاعتبار و المعتبر فعلیّاً ، و الفعل استقبالیّاً ، و یتم تصویر الواجب المعلّق علیٰ هذا المسلک کذلک .
و هذا تمام الکلام علیٰ مقام الثبوت ... و قد تحقّق تمامیّة الواجب المعلّق ثبوتاً ... و اللّٰه العالم .
و إنّ نتیجة البحث عن الواجب المعلّق و ثمرته ، تظهر فی وجوب المقدّمة و عدم وجوبها ، من حیث التحصیل و من حیث الحفظ إن کانت حاصلةً ... لأنه إذا ثبت الوجوب قبل الواجب ، و کان للواجب مقدمةٌ وجودیة ، بحیث لولاها فلا وجود للواجب ، فلا بدّ من تحصیلها ، أو حفظها ... لکنْ بأیّ دلیل ؟
و تظهر الثمرة أیضاً فی العلم الإجمالی فی الواجبات التدریجیّة کما سیأتی .
أمّا علیٰ القول بالملازمة بین المقدّمة وذی المقدمة ، فإنه بناءً علیٰ ثبوت الواجب المعلّق ، و علی کون وجوب ذی المقدّمة فعلیّاً ، فلا مناص من القول بوجوب المقدّمة ، لیصیر فعلیّاً ، و هذا الوجوب حکم شرعی ، فإنْ کانت المقدّمة غیر حاصلة وجب تحصیلها ، و إن کانت حاصلةً وجب حفظها .
و أمّا بناءً علیٰ إنکار الملازمة الشّرعیة بین المقدمة وذی المقدّمة ،
ص:355
فالوجه فی وجوب المقدّمة هو حکم العقل ، فإنّ العقل حاکم بلابدیّة تحصیل المقدّمة أو حفظها ... لأنّ المفروض وجوب ذی المقدّمة وجوباً فعلیّاً ، فإذا توقّف علیٰ مقدمةٍ فاللّابدیّة العقلیّة موجودة .
فتحصیل المقدّمات واجب شرعاً و عقلاً علیٰ القول بالملازمة ، و عقلاً علیٰ القول بعدم ثبوتها .
و علی هذا ، فإنّ الغسل من الجنابة و من الحیض واجب فی اللّیل مقدّمةً لصوم الغد ، لأن وجوب الصّوم فعلی و إن کان الصوم استقبالیاً ، و المقدّمة - و هی الطهارة قبل الفجر - یجب تحصیلها ، و فی الاستطاعة للحج ، عند ما تحقّقت یجب حفظها لأجل الحج ، و لا یجوز تفویتها و إنْ کان حصولها قبل أشهر الحج ، لأن وجوب الحج فعلی فحفظ مقدّمته واجب ، و کذا تهیئة المقدّمات ، لأنّ الحج وجوبه فعلی .
و علی هذا أیضاً ، یجب تعلّم المسائل التی سیبتلی بها المکلّف ، بأنْ یتعلّمها قبل البلوغ ، کی لا یؤدّی ترک التعلّم إلیٰ فوت الواجب .
و أمّا فی الواجبات التدریجیّة ... فإنّ العلم الإجمالی فی الواجبات التدریجیّة له صور :
1 - التدریجیّة باختیار المکلَّف ، مثل أن یعلم بأنّ أحد الثوبین مغصوب فیلبس کلیهما بالتدریج ... فالعلم الإجمالی هنا منجّز عند الکلّ .
2 - التدریجیة علیٰ أثر عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین ، لکن التکلیف فی کلیهما فعلی ، کأنْ یعلم بالإجمال فی ظهر یوم الجمعة بوجوب احدی الصّلاتین ، من الجمعة أو الظهر ، فالتدریجیّة هی علیٰ أثر عدم
ص:356
التمکن من الجمع ، لکنْ کلتا الصّلاتین وجوبه فعلی ... و هذا العلم الإجمالی أیضاً منجّز عند الکلّ .
3 - التدریجیّة علیٰ أثر تقیّد الواجب بمتأخّر زماناً أو زمانیّاً ، فعلیٰ القول بالواجب المعلّق ؛ بأنْ یکون الوجوب فعلیّاً و الواجب استقبالیاً ، یکون العلم الإجمالی منجّزاً ، و علی القول بعدمه ، فمحلّ خلاف ، لأنّا إنْ قلنا بدوران التنجیز مدار الفعلیة للتکلیف ، کما علیه الشیخ و صاحب (الکفایة) فالوجوب لیس فعلیّاً عندهما ، فلا تنجیز .
و تلخّص : إنه بناءً علیٰ الواجب المعلّق ، فالعلم الإجمالی منجّز و إلّا فلا ، و لذا أفتی صاحب (الکفایة) فی المضطربة الناسیة للوقت و الفاقدة للتمییز ، - و هی تعلم بتحقق الحیض لها فی الشهر - بالبراءة ، من جهة الدخول فی المسجد و الصّلاة و الوطی ، و ذلک ، لأنها لا علم لها الآن بالتکلیف الفعلی ، و علمها بتحقّقه - إمّا الآن و إمّا فی الأیام الآتیة - لیس بمنجّز ، لعدم کون المحتملین طرفین للتکلیف الفعلیّ .
إنه بناءً علیٰ إنکار الواجب المعلَّق ، یقع الإشکال فی وجوب تحصیل المقدّمات أو حفظها فی مسائل کثیرة ، مع قیام الدلیل فی مقام الإثبات ، کمسألة وجوب التعلّم للأحکام الشرعیّة قبل الابتلاء بها ، و مسألة وجوب الغسل من الجنابة قبل الفجر ، و مسألة وجوب التهیُّؤ للحج قبل أشهر الحج ...
و هکذا ... .
فتارة : القدرة غیر دخیلة فی الملاک و الغرض ، فالتحقیق : إنّ العقل
ص:357
یحکم بلزوم حفظ الأغراض اللّزومیة للمولی و عدم جواز تفویتها ، بحیث أنّ تفویتها یستتبع استحقاق العقاب عقلاً ، إلّا أنّ لهذا الحکم مقدّمات :
(المقدّمة الأولی) - و هی صغرویّة - کون القدرة علیٰ العلم غیر دخیلةٍ فی ملاک الحکم الشرعی و الغرض عنه ، فلو کانت دخیلةً فیه فی ظرف العمل ، لم یکن تحصیل القدرة علیه أو حفظها واجباً ، لأن القدرة تکون حینئذٍ موضوعاً للحکم ، و تحصیل الموضوع أو حفظه غیر لازم .
(المقدّمة الثانیة) - و هی کبرویّة - إنه کما یحکم العقل بلزوم حفظ أحکام المولی و عدم تفویتها ، کذلک یحکم بلزوم حفظ أغراضه ، و کما أن مخالفة الحکم تستتبع العقاب ، کذلک مخالفة علة الحکم و هی الغرض منه .
بل قیل : إن هذا الحکم فطری ، و قد طرحت هذه المسألة فی مباحث الاجتهاد و التقلید بمناسبة قولهم : إنه یجب علیٰ کلّ مکلّف أنْ یکون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً ، فبحثوا عن حقیقة هذا الوجوب و أنه عقلی أو شرعی ، فقیل - کما فی (المستمسک) (1) - بأنه فطری ، بملاک لزوم دفع الضرر المحتمل ، بمناط وجوب شکر المنعم ، فکان وجوب أحد الامور - علیٰ نحو التخییر - وجوباً عقلیّاً فطریّاً ، فبالنظر إلیٰ حکم العقل بشکر المنعم فهو حکم عقلی ، و بالنظر إلیٰ ملاکه - و هو الفرار من الضرر المحتمل - فهو فطری ، و لذا یوجد عند الحیوانات أیضاً .
قال الاستاذ : و فیه تأمّل ، لأنّه لو کان فطریّاً لما عصی الإنسان المکلّف ، لأنّه عاقل و یحتمل العقاب و الضرر ، فلو کان الفرار منه فطریّاً لما تحقق منه المعصیة ، لکون الأمر الفطری لا یقبل التخلّف ، فتأمّل .
ص:358
و علی الجملة ، فهو حکم عقلی ، و العقل لا یفرّق فی وجوب الحفظ بین الحکم و ملاکه ، خاصةً مع فعلیّة الغرض و تمامیّته (1) ... وعلیه ، فیجب تحصیل المقدّمة أو حفظها .
(المقدّمة الثالثة) - و هی کبرویّة أیضاً - القول بأن الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار عقاباً - و إن کان ینافیه خطاباً - فلو انتفت القدرة علیٰ الامتثال و امتنع الاطاعة باختیار من المکلّف - کما لو ألقی نفسه من شاهق مثلاً - فإنه و إن یمتنع التکلیف ، إلّا أنّ استحقاق العقاب موجود - خلافاً لمن یقول بعدم العقاب أیضاً ، و لمن یقول بإمکان الخطاب أیضاً - لأنّ الخطاب إنما هو للتأثیر فی إرادة العبد ، و فی ظرف الامتناع بالغیر ، حیث الامتناع فعلی و لو کان باختیارٍ منه ، لا یعقل الانبعاث و الانزجار ، فالخطاب لغو ، لکن موضوع استحقاق العقاب عند العقل هو مطلق الفعل المقدور و الممکن ، سواء کان مقدوراً بنفسه أو بالواسطة ، أو غیر مقدور فی ظرفٍ من الظروف .
و إذا تحققت هذه المقدّمات ، بأنْ لم تکن القدرة دخیلةً فی الملاک ، و کان حکم العقل بلزوم حفظ الملاک کحکمه بلزوم حفظ الحکم من المولیٰ ، و کان الامتناع بالاختیار لا ینافی العقاب ، کان العقاب علیٰ ترک الواجب الذی امتنع لعدم تحصیل مقدماته صحیحاً ، و إذا صحّ العقاب عقلاً ، وجب تحصیل المقدّمات أو حفظها .
ص:359
و حینئذٍ ، یبحث عن الوجوب الشرعی بقاعدة الملازمة ، بأنْ یکون هذا الحکم العقلی کاشفاً عن الحکم الشرعی بتلک القاعدة أو لا ؟
فقال المیرزا رحمه اللّٰه بالأوّل (1) بدعوی أنّ حکم العقل باللّزوم دلیل علیٰ إیجاب الشارع المقدّمة حفظاً للغرض من الحکم ، فیکون حکماً شرعیّاً متمّماً للحکم الشرعی الأوّل ... بتقریب : إن المفروض حکم العقل بلزوم حفظ الغرض ، و فی موارد الإرادة التکوینیّة ، نجد أنّ الإنسان یحفظ المقدّمة أو یسعی وراء تحصیلها لمراده التکوینی المقیّد بزمانٍ متأخّر ، فمثلاً : إذا کان یعلم بأنّه سیمرض فی الغد ، فإن الغرض بالنسبة إلیٰ النجاة من المرض موجود الآن بالفعل ، فتتحقق الإرادة التکوینیّة منه من الآن لتحصیل الدّواء اللّازم أو حفظه ... و وزان الإرادة التشریعیّة وزان التکوینیّة ، و حینئذٍ ، تتعلّق الإرادة التشریعیّة لتتمیم الجعل بالنسبة إلیٰ ذی المقدّمة ، فیکون حکماً شرعیّاً .
و فیه :
إن المفروض أنه لا قصور فی حکم العقل و کفایته لحفظ المقدّمة أو تحصیلها ، فلا حاجة إلیٰ جعل المولیٰ ، علیٰ أنّ هذا القول یبتنی علیٰ قیاس الإرادة التشریعیة علیٰ التکوینیّة دائماً ، و هذا أوّل الکلام ، ففی الإرادة التکوینیّة إذا تعلّقت بذی المقدّمة ، فإنّها تتعلّق بالمقدّمة أیضاً ، و لکن الوجوب الشرعی إذا تعلَّق بذی المقدّمة ، فوجوب مقدمته شرعاً أوّل الکلام .
ص:360
و قال السیّد الخوئی (1) ما حاصله : عدم الملازمة ، لأنّ استحقاق العقاب علیٰ ترک تحصیل المقدّمة أو حفظها ثابت بحکم العقل بلزوم حفظ غرض المولی ، فلا حاجة إلیٰ جعلٍ من الشّارع لکونه بلا أثرٍ فهو لغو ، نظیر باب الإطاعة و المعصیة ، حیث أنّ الحاکم فیه هو العقل ، و حکم الشرع فیه بوجوب الإطاعة لغو ، لعدم الأثر .
و فیه :
إنّه قیاس مع الفارق ، فإنّ الحاصل هنا و المتحقّق إنّما هو درک العقل استحقاق العقاب ، و لا أمر من الشارع ، و من الناس من لا ینبعث من مجرّد الدرک المذکور ، فلا هم یخافون العقاب و لا یطمعون فی الثواب ، بل یریدون ما أراده المولیٰ فعلاً و ترکاً ، فإذا لم یکن منه أمر أو زجر فلا یتحرّکون ، فجعل الوجوب الشرعی أو الحرمة یکون ذا أثر لهؤلاء ، و علی أثره سیتحرّکون ، فلا لغویّة فی الجعل ، بخلاف باب الإطاعة و المعصیة ، فإن المحرّک الشّرعی نحو الصّلاة موجود بقوله « صلّ » ، فلا معنی لجعل « أطیعوا » أیضاً ، لأن التأثیر فی النفس یحصل به و یتحرّک العبد نحو الامتثال ، فالأمر بإطاعة الأمر بالصّلاة لغو .
فذهب الاستاذ - بعد الإشکال فی القولین - إلیٰ أنّ الحکم الشرعی ممکن و لیس بلغوٍ ، لترتّب الثمرة علیه کما تقدَّم ، و لذا قال المحقّق الأردبیلی و من تبعه فی المقدمات المفوّتة باحتمال الوجوب الشرعی النفسی التهیّئی ،
ص:361
و لو لا الإمکان لما قالوا بذلک ... فالوجوب الشرعی بالنسبة إلیٰ المقدّمات المفوّتة - مع وجود حکم العقل - لا لغویّة فیه ، لأنّ منشأ الأمر أعم من جعل مصحّح العقاب ، و لکنّ هذا الإمکان لا یکفی للوقوع ، بل لا بدّ من الدلیل ، فالحق : إنه ممکن ، و لکنْ لا یوجد کاشف عن هذا الوجوب ، إذ الکاشف إمّا شرعی و إمّا عقلی ، أمّا الأوّل ، فلا یوجد دلیل من الشرع علیٰ وجوب المقدّمات المفوّتة ، و أمّا الثانی ، فلأنّ الملازمة لم تتم .
و تلخّص : إن المقدّمات المفوّتة واجبة بالوجوب الشرعی الغیری بناءً علیٰ القول بالواجب المعلّق ثبوتاً و قیام الدلیل إثباتاً ، بمناط اللّابدیة العقلیّة فی کلّ مورد یکون ذو المقدّمة واجباً ، و أمّا بناءً علیٰ القول بعدم ثبوت الواجب المعلّق أو استحالته ، فالمقدّمات المذکورة واجبة - تحصیلاً و حفظاً - عن طریق لزوم حفظ الغرض ، و هو حکم عقلی غیر مستتبع للحکم الشرعی ، من جهة عدم تمامیّة مقام الإثبات ... و ما تقدّم من القولین خلط بین المحذور فی مقام الثبوت و عدم المقتضی فی عالم الإثبات .
هذا ، و هناک وجوه اخریٰ للقول بوجوب المقدّمة المفوتة غیر التعلّم :
أحدها : القول بوجوب المقدمات بنحو الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، و به قال المحقّق الخراسانی و السید البروجردی (1) .
و فیه : إنّ الواجب المعلّق لیس إلّا الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، فکلّ واجب عُلّق فیه الوجوب بشرطٍ متأخّر - و هو الزمان الآتی - فهو واجب معلّق . فهذا الوجه لیس إلّا الالتزام بالواجب المعلّق .
ص:362
الثانی : القول بوجوبها بالوجوب النفسی التهیّئی ، فیجب تحصیلها أو حفظها . قاله السیّد البروجردی أیضاً (1) .
و فیه : المقدمة الواجبة کذلک هی التعلّم ، کما سیأتی . و أمّا غیره من المقدمات فلم یقم دلیل شرعی تامٌّ علیٰ وجوبه .
الثالث : القول بأنّ تفویت غرض المولی قبیح عقلاً ، بمعنیٰ أنه تعجیز للمولی من أن یجعل ما یتعلّق به غرضه من الأحکام ، و هذا متحقق فی صورة عدم تحصیل أو حفظ المقدّمة ، فهو قبیح . حکاه المحقق الأصفهانی (2) .
و فیه :
کما ذکر المحقق الأصفهانی : إنه موقوف علیٰ ثبوت استقلال العقل بلزوم تمکین المولی من أغراضه القائمة بتشریعاته و جعله للأحکام ، فیکون تعجیزه قبیحاً ، و هذا غیر ثابت ، نعم ، العقل حاکم بقبح عدم تمکینه من أغراضه القائمة بأفعال المکلَّفین ، فیمکن بذلک تعجیزه من أصل الحکم و الاعتبار ، لکنّ هذا حکم عرضی و لیس باستقلالی .
الرابع : القول بکون وجوب المقدّمة ناشئاً من الشوق ، لا من وجوب ذی المقدمة ، و لمّا کان هذا الشوق حاصلاً قبل ذی المقدّمة ، فیجب تحصیل المقدّمة أو حفظها قبله ... قاله المحقق الأصفهانی .
و توضیحه : إن إرادة المقدّمة لیست ناشئةً عن إرادة ذی المقدمة ، و إلّا یلزم إمّا انفکاک العلّة عن المعلول ، و إمّا تقدّم المعلول علیٰ العلّة ، و کلاهما محال ، و السرّ فی ذلک هو : إنّه إذا وجبت المقدّمة ، فذو المقدمة واجب
ص:363
أیضاً ، لکنْ لا برهان علیٰ أن یکون وجوب ذی المقدمة مقارناً لوجوبها ...
فقد یکون وجوب المقدمة الآن و وجوب ذی المقدمة فیما بعد . و علی هذا ، فلو قلنا بأن الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة من الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة ، لزم أحد المحذورین .
بل إرادة المقدّمة ناشئة من الشوق إلیٰ ذی المقدّمة ، فمن أراد الدرس و اشتاق إلیه ، خرج من بیته و تحرَّک نحو المدرسة ... هذا فی القضایا التکوینیّة ، و کذلک فی التشریعیّة ، فإنّ الشوق لفعل الغیر یوجب البعث إلیه ، فإنْ رأیٰ المولی توقّفه علیٰ مقدّمةٍ اشتاق إلیها و بعث نحوها ، و إنْ لم یکن البعث إلیٰ ذی المقدّمة حاصلاً فی هذا الوقت ، لکون ظرفه هو الزمان اللّاحق .
فکان الشوق کافیاً فی إیجاب المقدّمة الآن ، و إنْ لم یکن ذو المقدمة واجباً ، و وجوب المقدّمة یعنی تحصیلها أو حفظها إن کانت حاصلةً .
و فیه :
إنّ هذا الوجه لا یفید لوجوب تحصیل أو حفظ المقدّمة ، لأنَّ البعث نحو المقدّمة یکون بالوجوب الغیری ، و هو موقوف علیٰ ثبوت الملازمة بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و الوجوب الشرعی للمقدّمة . و هذا غیر ثابت ، بل التلازم بین الوجوب الشرعی لذی المقدّمة و اللابدیة العقلیة للمقدّمة ، هذا أوّلاً .
و ثانیاً : إنه بناء علیٰ تمامیّة التلازم المذکور ، تکون المقدّمة واجبةً بالوجوب الغیری ، لکن الوجوب الغیری لا یستتبع استحقاق العقاب حتی یکون التحصیل أو الحفظ واجباً ، إلّا أن یرجع إلیٰ لزوم حفظ غرض المولی
ص:364
و عدم جواز تفویته ، و هو الوجه الذی اخترناه .
هذا کلّه ، فیما لیست القدرة فیه دخیلةً فی الملاک و الغرض .
و تارة : القدرة دخیلة فی الملاک .
و قد قسّموا دخل القدرة فیه إلیٰ قسمین : أحدهما : أن تکون القدرة الدخیلة مطلقةً ، سواء کانت بالنسبة إلیٰ ذی المقدمة أو المقدمة ، قبل العمل أو فی ظرفه ، کالحکم بوجوب حفظ الإسلام و قوانینه مثلاً . و الثانی : أن تکون قدرةً خاصّة ، کأن یقول الشارع : إن کنت قادراً علیٰ کذا فهو واجب علیک ، أو یحکم العقل بلزوم القدرة علیٰ الفعل المأمور به الخاص ، من باب عدم جواز تکلیف العاجز .
فإنْ کان من قبیل الأوّل ، فالتحصیل أو الحفظ لازم کالأوّل ، لقبح تفویت غرض المولی ، و إن کان من قبیل الثانی ، فإنه یتبع کیفیّة أخذ القدرة الخاصّة ، فإنه إذا کان دخلها فی الملاک بعد الوجوب فلا یجب التحصیل أو الحفظ ، و إن کان فی وقت العمل ، جاز التفویت حتی فی ذلک الوقت .
فالأمر یرجع إلیٰ ظواهر الأدلّة فی مقام الإثبات .
فأدلّة وجوب حفظ الإسلام و نحو ذلک ، ظاهرة فی إطلاق القدرة المعتبرة ، و أمّا مثل الطّهارة بالنسبة إلیٰ الصّلاة ، فیتبع کیفیة الاستظهار من قوله تعالیٰ «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ » و نحوه ، فهذه الآیة بضمیمة «فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء » ظاهرة فی اشتراط الصّلاة بالطّهارة بالقدرة علیها فی ظرف الصّلاة و القیام إلیها ، فلا یجب تحصیلها أو حفظها قبل الوقت ... لأنّه لا یلزم تحقیق الموضوع للحکم .
هذا ، و لو شک فی أصل دخل القدرة أو فی کیفیة دخلها ، بأنْ تکون
ص:365
شبهة موضوعیّة لحکم العقل بلزوم تحصیل المقدّمة أو حفظها ، فما هو مقتضیٰ القاعدة ؟
إن کان للأحکام العقلیّة و العقلائیّة حکم طولی أخذ به ، کحکم العقلاء بقاعدة الإمکان بعد حکمهم بحجّیة الظواهر ، فالظواهر عند العقلاء حجّة ، فإنْ شکّ فی موردٍ فی إمکان التعبّد بمدلول اللفظ ، أخذوا بقاعدة الإمکان و قالوا بحجّیة الظهور ما لم یثبت استحالة التعبّد به ... و کحکم العقل باشتراط التکلیف بالقدرة ، و مع الشک فی وجودها فی مورد یحکم بلزوم الاحتیاط .
و إنْ لم یکن له حکم طولی ، وصلت النوبة إلیٰ الأصل العملی ، و ما نحن فیه من هذا القبیل ، و المرجع فیه هو البراءة العقلیّة .
و أمّا فی التعلّم - و إنّما بحثوا عنه علیٰ حدة ، لأنّه کما یکون وجودیّة ، کذلک یکون مقدمة علمیّة ، بخلاف سائر المقدّمات المفوّتة ، فإنها مقدّمة وجودیّة فقط ، إذ هی مقدّمات لامتثال التکلیف ، و التعلّم مقدّمة للامتثال تارةً و لإحراز الامتثال اخری . هذا أوّلاً .
و ثانیاً : التعلّم یجب تحصیله أو حفظه علیٰ کلّ تقدیر - بخلاف سائر المقدّمات ، فإن ذلک یدور مدار کیفیّة أخذ القدرة إطلاقاً و خصوصیّةً - فإنّ معرفة اللّٰه تعالیٰ غایة الغایات ، و لیست مقدّمةً لشیء ، و معرفة النبیّ و الوصی علیهما السلام لها الجهتان ، جهة الموضوعیّة وجهة الطریقیّة ، و معرفة الأحکام الشّرعیة تختلف جهاتها ، فالحکم یجب أن یعرف و متعلّقه کذلک ، و متعلّق المتعلّق إنْ کان ... و هکذا ... و طریق تحصیل الأحکام أو حفظها ، إمّا الاجتهاد و إمّا التقلید و إمّا الاحتیاط ... إلّا علی مسلک الأردبیلی و من تبعه من القول
ص:366
بوجوب التعلّم وجوباً نفسیاً تهیّئیاً .
فإنّه قد ذهب المحقّق الأردبیلی و صاحب المدارک (1) إلیٰ أنّ التعلّم واجب بالوجوب النفسی إلّا أنه واجب للغیر ، و هذا معنیٰ قولهم بوجوبه النفسی التهیّئی ، فهو واجب ، لکنْ لأنْ یتهیّأ المکلّف لحفظ الواقع عملاً .
و قال المشهور بعدم وجوبه بالوجوب الشّرعی ، بل هو لزوم عقلی ، فقیل : بمناط قاعدة الامتناع ، فمن ترک التعلّم ، فقد فوّت الواقع و امتنع علیه لکنْ باختیارٍ منه ، و قد تقدَّم أنه لا ینافی العقاب . و هذا رأی الشّیخ الأعظم (2) .
و قیل : بل بمناط لزوم دفع الضرر المحتمل . و هذا مختار المیرزا (3) .
و قیل بالتفصیل ، و أنّه تارة بذاک المناط ، و اخریٰ بهذا . و هذا ما ذهب إلیه السیّد الخوئی (4) .
إذا استطاع المکلّف للحج ، ثمّ فوّت الاستطاعة ، تسلب منه القدرة علیٰ الحج ، فعلیه أن یحافظ علیٰ الاستطاعة لیتمکّن من الحج الواجب علیه ، و إلّا استحق العقاب ، بمقتضیٰ قاعدة : الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فیستحقّ العقاب ، لأن امتناع الامتثال کان باختیارٍ منه .
فیقول الشیخ الأعظم : إنّ ترک التعلّم من هذا القبیل ، و القاعدة المذکورة هی المستند للحکم باستحقاق العقاب .
ص:367
و یقول المیرزا : إن العلم لا یوجب القدرة علیٰ الامتثال ، و لا الجهل بموجب للعجز عنه ، لأنّ الأحکام الشرعیّة مشترکة بین العالمین و الجاهلین بلا فرق ... فلو کان الجهل موجباً للعجز ، لاستحال تکلیف الجاهل و اختصّت الأحکام بالعالمین ... بل المیرزا یریٰ أنّ الجاهلین أیضاً مخاطبون بالأحکام الشرعیّة ، و الخطابات الشرعیّة مطلقة تعمّ الفریقین - لکنْ لا بالإطلاق ، لأنّ مخاطبة الجاهل قبیحة ، فلا بدّ من العلم ، و تقیید الخطاب بالعلم یستلزم الدّور ، فیسقط الإطلاق - و یتمّ الشمول للفریقین بنتیجة الإطلاق ، علیٰ ما تقدَّم فی مبحث التعبّدی و التوصّلی .
هذا بالنسبة إلیٰ مطلق المقدّمات المفوّتة .
أمّا فی خصوص التعلّم ، فالمیرزا لا یریٰ أنه من المقدّمات المفوّتة ، بل یقول - وفاقاً لصاحب (الکفایة) - بلزوم التعلّم ، من جهة أنّ مجرَّد احتمال التکلیف من ناحیة المولی منجّز عقلاً ، فیجب علیه الفحص عن أحکام المولی ، دفعاً للضّرر المحتمل اللّازم دفعه بحکم العقل .
و حینئذٍ نقول : إنّه لا بدَّ من التفصیل بین الموارد :
تارةً : یکون ترک التعلّم مع القدرة علیه موجباً لمخالفة الواقع ، و اخریٰ :
یکون موجباً لعدم إحراز الواقع ، بناءً علیٰ وجوب إحرازه و عدم کفایة الامتثال الإجمالی بالاحتیاط ، مع التمکّن من الامتثال التفصیلی ، أو بناءً علیٰ القول باعتبار قصد التمییز .
فإنْ کان یوجب عدم التعلّم سلب القدرة علیٰ فعل الواجب ، کان مجریٰ قاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، کما علیه الشیخ ، و لیس صغری
ص:368
قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل .
فالموارد تختلف ، فتارةً : یکون ترک التعلّم قبل الوقت موجباً لفوات أصل وجود الواجب ، کما لو لم یتعلَّم القراءة قبل الدخول فی الصّلاة ، فإنه سوف لا یکون قادراً علیٰ التعلّم ، فیفوت الواجب ، و أُخری : یکون ترک التعلّم موجباً لعدم تمکّنه من إحراز الموافقة الفضلیة مع التکلیف ، کما لو لم یتعلّم أحکام القصر و التمام و تردّد حکمه بینهما ، فهنا القدرة علیٰ أصل التکلیف موجودة ، لأنّ المختار - کما ثبت فی محلّه - أنّ الامتثال الإجمالی فی عرض الامتثال التفصیلی ، و أنّ تکرار العبادة لا یضرّ ، و أنّ قصد التمییز غیر لازم ، فإذا کانت القدرة علیٰ الواجب موجودةً ، و هو متمکّن من الاحتیاط بالصّلاة ، مرّة قصراً و مرّة تماماً ... فلا یجب التعلّم ، إذ لا ضرر محتمل حتی یلزم دفعه .
هذا کلّه مع العلم بالابتلاء مستقبلاً .
و أمّا لو شک فی ابتلائه بالحکم الشرعی فی المستقبل ، کأنْ لا یدری هل سیکون مستطیعاً ، فیجب علیه تعلّم أحکام الحج لیتمکّن من العمل فی ظرفه ، أو لا یکون ، فلا یجب علیه التعلّم ؟
إن مقتضی القاعدة العقلیّة - و هو لزوم حفظ غرض المولی علیٰ العبد ، عملاً بوظیفة العبودیّة - هو تحصیل القدرة علیٰ الامتثال و حفظ القدرة علیه ، حتی تحصل البراءة الیقینیّة ، لکنّ هذا الحکم العقلی - کسائر الأحکام العقلیّة - معلّق علیٰ عدم وجود المؤمّن من قبل المولی ، و المؤمّن هنا هو الاستصحاب ، لأنّ المفروض عدم ابتلائه الآن یقیناً ، و أنه شاک فی الابتلاء
ص:369
مستقبلاً ، فیستصحب عدم الابتلاء بالاستصحاب الاستقبالی ، و به یرتفع موضوع الحکم العقلی المذکور .
و قد نوقش فی هذا الاستصحاب بوجوه :
عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهذا القسم من أقسامه . ذهب إلیه الفقیه صاحب الجواهر (1) . لکنّه إشکال مبنائی ، و قد تقرّر فی محلّه عموم أدلّة « لا تنقض » له ، و عدم انصرافها عنه ، بل إطلاقها محکَّم ، تشمل المتیقّن السّابق و الحالی و اللّاحق بلا فرق .
إنه یعتبر فی الاستصحاب أنْ یکون المستصحب إمّا حکماً شرعیّاً ، و إمّا موضوعاً لحکم شرعی ، و « عدم الابتلاء » لیس حکماً و لا موضوعاً ، و لا یترتّب علیٰ استصحاب عدم الابتلاء أیّ أثر . قاله المیرزا (2) .
جواب السید الخوئی
و أجاب فی (المحاضرات) (3) بما ملخّصه : إن الحکم العقلی غیر قابل للتخصیص لکنّه قابل للتخصّص ، بأنْ یتصرَّف الشارع فی موضوعه و یرفعه بجعل الترخیص ، و هنا احتمال الابتلاء فی المستقبل هو الموضوع للأثر ، و هو و إنْ کان موجوداً بالوجدان ، لکنَّ الاستصحاب إذا جریٰ کان رافعاً للابتلاء الواقعی تعبّداً ، فلا یبقیٰ لقاعدة دفع الضرر المحتمل موضوع ... نظیر حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، و مجیء البیان من ناحیة الشارع ، الرافع لموضوع
ص:370
الحکم العقلی ، و کذلک هنا ، فإنّه بجریان الاستصحاب یرتفع الموضوع لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل .
قال الأستاذ :
و فیه : إن المیرزا یقول بعدم جریان هذا الاستصحاب ، لعدم توفّر الشرط فی المستصحب ، و هو کونه حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکمٍ شرعی ...
نعم ، لو جریٰ لارتفع به موضوع الحکم العقلی .
بل الصّحیح فی الجواب أن یقال : لیس الشرط فی الاستصحاب أن یکون المستصحب کذلک ، بل إن قابلیّة التعبّد للأمر المستصحب و ترتب الأثر علیه تکفی للجریان ، و فیما نحن فیه ، لمّا کان التعبّد بهذا الاستصحاب موجباً لسقوط الحکم العقلی و حصول التوسعة من ناحیة الشارع علیٰ العبد ، کان الاستصحاب ذا أثر ، و لا تلزم اللّغویة فیه .
و بعبارة أخریٰ : إن الشک فی الابتلاء الذی هو موضوع حکم العقل لیس مطلقاً و لا مهملاً ، بل هو مقیَّد بصورة عدم حکم الشارع بعدم الابتلاء فیها ، و قد أفاد الاستصحاب حکمه بعدم الابتلاء ، فارتفع الموضوع ، فلا حکم عقلی بلزوم دفع الضرر المحتمل .
و هو إشکال إثباتی و حاصله : إنّا نعلم إجمالاً بأنه سنبتلی بأغراض المولیٰ فی المستقبل ، و مع وجود هذا العلم الإجمالی تصبح جمیع موارد احتمال الابتلاء أطرافاً للعلم الإجمالی ، و حینئذٍ تکون أدلّة الاستصحاب قاصرةً عن الشمول ، إذ الاصول النافیة لا تجری فی أطراف العلم ، بسبب وقوع التنافی ، فدلیل الاستصحاب یقول : لا تنقض الیقین بالشک ، أی : سواء
ص:371
کان شکّاً ابتدائیاً أو فی أطراف العلم ، بل انقضه بیقینٍ آخر ، أی سواء کان یقیناً تفصیلیّاً أو إجمالیّاً ، فیقع التعارض بین صدر الدلیل و ذیله فی مورد العلم الإجمالی ، فلا یجری دلیل الاستصحاب فیه .
أجاب الأستاذ
إن هذا إنّما یتمّ فی صورة کون الذیل معارضاً للصّدر و لسائر أدلّة الاستصحاب حتی ما لا ذیل له منها ، و هذا غیر ممکن ، لأن فی قوله : « بل انقضه بیقینٍ آخر » أصلاً و إطلاقاً ، أمّا الأصل فهو : لا تنقض الیقین بصرف وجود الیقین ، و أمّا الإطلاق ، فإنّه شامل للیقین التفصیلی و الیقین الإجمالی ، فهذا مدلول الذیل ، وعلیه ، فأصل الذیل لیس طرفاً لسائر أدلّة الاستصحاب الدالّة علیٰ عدم نقض الیقین بالشک ، بل طرف المعارضة هو إطلاق الذیل ، لکنّ الإطلاق إنّما ینعقد لو لم یکن مانع عنه و لو احتمالاً ، و مع وجود ما یحتمل المانعیّة عنه فهو غیر منعقد ، فلا معارضة بین الذیل و أدلّة الاستصحاب ، بل هی باقیة علیٰ إطلاقها شاملةً لأطراف العلم الإجمالی ، و منها ما نحن فیه ... .
هو المانع الثبوتی ، و هو لزوم المخالفة القطعیّة للمعلوم بالإجمال . لأنّا نعلم إجمالاً بالابتلاء بغرضٍ من أغراض المولی ، فإذا جری الاستصحاب فی جمیع الأطراف لزمت المخالفة القطعیّة ، و إجراؤه فی بعضها المعیّن ترجیح بلا مرجح ، و غیر المعیّن لا حقیقة له ، فلا یجری الاستصحاب ثبوتاً ، لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیّة .
قال الاستاذ
هذا متین ، و هو دلیل صاحب (الکفایة) فی الشبهات الحکمیّة ، لکنه
ص:372
أخصّ من المدّعی ، إذ هو منجّز فیما إذا لم ینحل العلم الإجمالی .
ورود أدلَّة وجوب المعرفة و التعلّم فی مورد هذا الاستصحاب ، مثل آیة السؤال (1) و الحدیث : « طلب العلم فریضة » (2) و الخبر : « هلّا تعلّمت ... » (3) ، لأن فی غالب الموارد لا یقین بل لا اطمینان بالابتلاء ، فلو جریٰ الاستصحاب فی موارد احتمال الابتلاء لزم اختصاص الأدلّة بمورد الیقین بالغرض ، و هو فرد نادر ، و تخصیص الأکثر مستهجن ، فلا بدّ من رفع الید عن الاستصحاب .
الجواب
و فیه : إن موارد العلم الإجمالی ، و کذا موارد القطع التفصیلی ، کثیرة ، و فی جمیعها تتقدّم أدلّة التعلّم ، نعم ، یتقدّم الاستصحاب علیٰ تلک الأدلّة فی الشبهات البدویّة ، و لا یلزم من ذلک التخصیص المستهجن .
هذا ، و لا یخفی أن التعارض هنا بین أدلّة التعلّم و أدلّة الاستصحاب ، فلا یقال بأنها أمارات و الاستصحاب أصل ، فکیف التعارض ؟
و تلخص :
تمامیّة الاستصحاب المذکور .
لکنّ مخالفة الأصحاب مشکلة .
و هل یجب التعلّم علیٰ غیر البالغ ؟
قیل : لا یجب علیه تعلّم الأحکام الشرعیة التی سیبتلی بها عند البلوغ ،
ص:373
و إنْ علم بفوات الواجب أو فوات إحراز الواجب عنه ، علیٰ أثر عدم التعلّم .
و قیل : یجب علیه التعلّم کما یجب علیٰ البالغین المکلَّفین .
وجه القول الثانی
إنّ العقل حاکم بلزوم حفظ أغراض المولی و ملاکات أحکامه ، و الصبیّ إنْ لم یتعلَّم الأحکام قبل البلوغ ، فإنّ ذلک سیؤدّی إلیٰ ترک الواجبات عند بلوغه بسبب الجهل ، و بذلک تفوت أغراض المولی ، و هذا الحکم العقلی عام ، فهو موجود فی مورد البالغ و غیره ، و غیر قابلٍ للتخصیص .
و وجه القول الأول
إنّ المقتضی لوجوب التعلّم علیٰ الصبیّ موجود ، و هو الحکم العقلی المذکور ، و لکنّ المانع أیضاً موجود ، و هو حدیث رفع القلم (1) ... و توضیح ذلک :
إنّ الحکم العقلی منه تنجیزی ، و هو ما لا یقبل التصرّف من الشارع ، و منه تعلیقی ، و هو الحکم الثابت ما لم یتصرَّف الشارع ، و ما نحن فیه من قبیل القسم الثانی ، إذ قد تصرَّف الشّارع فیه بواسطة حدیث رفع القلم ، و حینئذٍ یکون الصّبی معذوراً فی فوت بعض الأحکام و الملاکات ، لعدم القدرة .
الحکم العقلی عام و لا یرتفع عمومه بحدیث رفع القلم ، و ذلک :
لأنّ وجوب التعلّم لیس شرعیّاً ، بدلیل أنه لمّا یقال للعبد : « هلّا تعلَّمت » فإنّه یسکت ، و لو کان وجوبه شرعیّاً لأجاب بعدم ثبوت الدلیل علیٰ وجوبه من قبل المولی ، و أنّه کان بحاجةٍ إلیٰ تحصیله إنْ کان ثابتاً ... فسکوته أمام الحجّة دلیل علیٰ أن وجوب التعلّم غیر تحصیلی ، أی هو وجوب عقلی ، و علی هذا ، فلا یعقل جعل الوجوب الشرعی فی مورده ، للزوم اللّغویة ... و إذا کان وجوب التعلّم غیر شرعی ، استحال أن یکون مورداً لحدیث رفع القلم ... .
هذا حلّاً .
و أمّا نقضاً ، فإنّه إذا کان حدیث رفع القلم رافعاً للحکم العقلی بوجوب تعلّم الأحکام ، فلیکن رافعاً لغیر الأحکام أیضاً ، کوجوب الإیمان باللّٰه و بالنّبی ، فالصبیّ قبل البلوغ لا یجب علیه النظر فی المعجزة مثلاً لیحصل له الإیمان ، و بعد البلوغ ، و المفروض أنّه لم ینظر فی المعجزة ، یکون معذوراً فی عدم إیمانه باللّٰه و بالرسول مدّةً من الزمن ، و هذا ما لا نظنّ التزام القائل به .
فظهر أن الحق مع المیرزا فیما ذهب إلیه .
و یبقی الکلام فی معنی حدیث رفع القلم فنقول :
أمّا أن یخصّص الحکم العقلی فغیر صحیح لما تقدَّم ، و کذلک استحقاق العقاب ، لأن المفروض تحقّق موضوع الاستحقاق عند العقل ، فلا یمکن للشارع أن یرفع الحکم ، و کذا تخصیصه المؤاخذة خاصّة ، بأن یقال باستحقاقه للعقاب غیر أنّ المؤاخذة مرتفعة بالحدیث لطفاً و امتناناً .
لکنّا نقول : بأن « القلم » فی الحدیث ، أعمّ من قلم التکلیف و قلم
ص:375
المؤاخذة ، و لا مانع من رفع قلم المؤاخذة عن الصبی علیٰ أثر التخلّف عن حکم العقل بلزوم التعلّم ، و لمّا کان الجزاء بید الحاکم - بخلاف الاستحقاق - فله إعطاء الجزاء و له عدم الإعطاء ، إذن ، یمکن رفع المؤاخذة مع کونه مستحقّاً لها ، لکونها بید المولی وضعاً و رفعاً ، و کأنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بین « الاستحقاق » و « المؤاخذة » ، و الحال أن الأوّل لیس للمولی دور فیه ، بخلاف الثانی ، فله الوضع و الرفع فیه .
و هل وجوب التعلّم إرشادی أو مولوی ، و علی الثانی ، هل هو نفسی أو غیری ؟
تارةً : یُنشأ الحکم لمصلحةٍ فی نفسه ، فالوجوب نفسی ، و أخریٰ : یُنشأ لمصلحةٍ فی متعلِّقه ، فهو وجوب غیری شرعی ، و ثالثة : یُنشأ لمصلحة التحفّظ علیٰ الواقع ، فهو وجوب طریقی .
و یقابلها : الوجوب الإرشادی ، فهو لیس بوجوبٍ شرعی ، بل إرشاد إلیٰ حکم العقل .
فهل فی نفس التعلّم مصلحة ؟ لا شک فی قیامها فی معرفة أصول الدین ، أمّا الأحکام الشرعیّة فوجد انها للمصلحة النفسیّة ممکن ثبوتاً ، بل الاعتبار یساعده ، لأنه کمال فی نفسه ، و إن کان للعلم حیثیّة المقدّمیّة للعمل أیضاً ، إلّا أنه قد اقیمت أدلّة فی مقام الإثبات علیٰ أنْ لا مصلحة للتعلّم إلّا المقدمیّة للعمل ، فلا نفسیّة ، و الأدلّة هی :
1 - إن ظاهر السؤال عن الشیء هو وجود المصلحة فی الشیء لا فی
ص:376
نفس السؤال عنه ، فمن یسأل عن الطریق یرید الوصول إلیٰ المقصد ، و لیس فی نفس سؤاله عنه مصلحة .
و فیه : إنّ قیاس وجوب التعلّم علیٰ السؤال عن الطریق قیاس مع الفارق ، لوضوح أنّ العلم بالأحکام کمال ، و لیس الاطّلاع علیٰ الطریق کمالاً .
2 - الخبر : « هلّا تعلّمت » فإنه ظاهر فی أن وجوبه من أجل العمل .
و فیه : إن معنیٰ الروایة أن العمل لا یکون بلا علم ، و لیس معناها أنّ العلم لا فائدة فیه إلّا العمل .
3 - إنه لو عمل بلا علمٍ فوقع فی خلاف الواقع ، لم یؤاخذ إلّا علی ترک الواقع ، فلو کان التعلّم واجباً نفساً ثبت مؤاخذتان ، و هو باطل .
قال الاستاذ
إن المطلوبیّة النفسیّة للتعلّم هو حکم العقل و ظاهر الأدلّة ، فیکون وزان العلم وزان العقل ، فی کونه کمالاً و وسیلةً معاً ، فقد اجتمع فی مطلوبیّة العلم حیثیة النفسیّة و حیثیّة الطریقیّة ، و لا مانع من اجتماعهما فیه بل هو واقع ، یقول تعالی : «قُلْ هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لاَ یَعْلَمُونَ » (1)و یقول :
وَمَا یَسْتَوِی الأَعْمیٰ وَالْبَصِیر وَلا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ » (2)و فی الأخبار عن رسول اللّٰه صلّی اللّٰه علیه و آله أنه قال : « العلم ودیعة اللّٰه فی أرضه » (3) و « لیس العلم بکثرة التعلّم ، إنما هو نور یقذفه اللّٰه فی قلب من یرید » (4) و لا یخفی أن کون الإنسان حاملاً لنور اللّٰه عزّ و جلّ و ودیعته شیء مطلوب بنفسه ، و کذا ظاهر
ص:377
أخبار « فضل العالم علیٰ العابد » (1) .
لکنّ الوجه الثالث - من الوجوه المتقدّمة - یمنعنا عن القول بالوجوب النفسی .
أقول :
ما هو الدلیل علیٰ بطلان ثبوت المؤاخذتین و استحقاق العقابین ؟ الظاهر : أنْ لا دلیل علیٰ البطلان لا عقلاً و لا نقلاً ، بل إنّ العقل و الاعتبار یساعدان علیٰ التعدّد ، و یبقی التسالم بین الفقهاء فقط ، فتأمّل .
إنْ کان العلم مقدّمة وجودیّة لحصول ذی المقدّمة ، أمکن القول بوجوب التعلّم وجوباً غیریّاً ، لکنّ العلم لیس مقدّمة وجودیّة ، بل هو مقدّمة علمیّة لذی المقدّمة ، و هذا ظاهر الأخبار ، فلا یمکن الالتزام بالوجوب الغیری الشرعی .
فیدور الأمر بین الوجوب الإرشادی و الوجوب الطریقی ؟
قال فی (المحاضرات) (2) : أمّا الوجوب الإرشادی بأنْ یکون ما دلَّ علیه من الکتاب و السنّة إرشاداً إلیٰ ما استقلّ به العقل من وجوب تعلّم الأحکام ...
فیرد علیه : إنه لو کان وجوبه إرشادیّاً ، لم یکن مانع من جریان البراءة الشرعیّة فی الشبهات الحکمیّة قبل الفحص ، و ذلک : لأن المقتضی له - و هو إطلاق أدلّتها - موجود علیٰ الفرض ، و عمدة المانع عنه إنّما هی وجود تلک الأدلّة ،
ص:378
و المفروض أنها علیٰ هذا التفسیر حالها حال حکم العقل ، فهی غیر صالحة للمانعیّة ، فإن موضوعها یرتفع عند جریانها ، کحکم العقل .
فالنتیجة : إنه یتعیّن الاحتمال الأخیر ، و هو کون وجوب التعلّم وجوباً طریقیّاً ، و یترتّب علیه تنجیز الواقع عند الإصابة ، لأنه أثر الوجوب الطریقی ، کما هو شأن وجوب الاحتیاط و وجوب العمل بالأمارات ، و ما شاکل ذلک ، وعلیه ، فتکون هذه الأدلّة مانعةً عن جریان البراءة فیها قبل الفحص ، و توجب تقیید إطلاق أدلّتها بما بعده .
و حاصل هذا الإشکال : إنه إذا لم یکن وجوب التعلّم شرعیّاً ، و الأوامر تحمل علیٰ الإرشاد إلیٰ حکم العقل ، فلازمه إمکان جریان البراءة الشرعیّة فی موارد احتمال الابتلاء بالحکم ، لأنه إذا کان الأمر إرشادیّاً کان وزانه وزان حکم العقل ، و حکم العقل یزول مع ترخیص الشارع ، و أدلّة البراءة الشرعیّة مرخّصة ، فالأخبار الواردة فی التعلّم کذلک لا تدلّ علیٰ الوجوب ، لحدیث الرفع و نحوه من أدلّة البراءة .
قال شیخنا :
إن هذا الإشکال لا یجتمع مع القول بقصور أدلّة البراءة الشرعیّة اقتضاءً ، و من قال بکونها غیر مطلقة - لأنها محفوفة بالقرائن العقلیّة ، فلا تشمل موارد الشبهة الحکمیّة قبل الفحص - فلا یمکنه إیراد هذا الإشکال .
إن هذا الإشکال لا یجتمع مع القول فی شرائط جریان الاصول : « و أمّا الاصول النقلیّة فأدلّتها و إنْ کانت مطلقة فی نفسها ، إلّا أنها مقیَّدة بما بعد الفحص ، بالقرینة العقلیّة المتّصلة و النقلیة المنفصلة » (1) .
ص:379
إذن ، فقد وقع الجمع فی (المحاضرات) بین المتهافتین ... و بناءً علیٰ کون أدلّة الاصول مقیَّدةً - کما ذکر - یتمّ القول بالوجوب الإرشادی ، لوجود المقتضی و عدم المانع .
لکنّه اختار الوجوب الطریقی ، و هو لا یمکنه الالتزام به ، لأن مبناه فی الوجوب الطریقی أنه یعتبر فیه أن لا یکون قبله احتمال العقاب ، بل الوجوب هو المنجّز للواقع ، و علی هذا ، فلا یمکن الالتزام بالوجوب الطریقی ، لوجود احتمال العقاب بالعقل ... و قد صرَّح بالمبنی المذکور فی أوائل مباحث البراءة ، عند دفع شبهة وجوب دفع الضرر المحتمل ، حیث قال : « و بعبارة اخریٰ : إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو ، إذ الأثر المترتّب علیه هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه علیٰ الفرض ... فتعیّن أن یکون وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادیّاً ... و الفرق بینه و بین الوجوب الطریقی : إن الوجوب الطریقی هو المنشأ لاحتمال العقاب ، و لولاه لما کان العقاب محتملاً ، علیٰ ما تقدّم بیانه ، بخلاف الوجوب الإرشادی ، فإنه فی رتبة لاحقة عن احتمال العقاب ... » (1) .
فظهر أنه قد جمع بین المتهافتین ، بل علیٰ هذا المبنی یتعیّن القول بالوجوب الإرشادی لا الطریقی .
فالحق : هو الوجوب الإرشادی ، إلّا إذا قلنا بإمکان جعل المنجّزین فیصحّ الطریقی .
تمّ الجزء الثانی ، و یلیه الجزء الثالث بعون اللّٰه .
ص:380