الاستصحاب

اشارة

سرشناسه:خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1279 - 1368.

عنوان و نام پديدآور:الاستصحاب / تاليف الامام الخميني.

مشخصات نشر:تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)، 1417ق.= 1375.

مشخصات ظاهري:يو، 456 ص.: نمونه.

فروست:كوثر.

شابك:11000ريال

وضعيت فهرست نويسي:برون سپاري.

يادداشت:عربي.

يادداشت:كتابنامه: ص. [429] - 447؛ همچنينن به صورت زيرنويس.

يادداشت:نمايه.

موضوع:استصحاب

موضوع:اصول فقه شيعه

شناسه افزوده:موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني (س)

رده بندي كنگره:BP161/8/خ8الف5 1375

رده بندي ديويي:297/312

شماره كتابشناسي ملي:م 76-9041

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

هوية الكتاب

الاستصحاب

تأليف

الفقيه الاصولي، الاستاد الاكبر، العلامة المجدد

آية اللَّه العظمى السيد روح اللَّه الموسوي

الامام الخميني

مؤسسة تنظيم و نشر آثار الامام الخمينى قدس سره

ص: 7

مقدّمة التحقيق

اشارة

ص: 8

ص: 9

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للَّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف

الأنبياء و المُرسلين محمّدٍ و آله الطيبين الطاهرين

و بعد، فالاستصحاب أحد أوتاد و ركائز البناء الفقهي الأصيل، و دعامة هامة من دعائمه، جعله الشارع المُقدّس طريقاً و باباً من طُرق و أبواب العلم التي يُحدد العالم الفقيه وظيفته العملية بها.

و قد بدأ الاستصحاب- كسائر العلوم المُختلفة- بسيطاً في مستواه و حجمه و كيفيته، ثمّ تطوّر و توسّع بفعل العوامل الزمانية و مُتطلباتها المُتكثرة و المُتجددة، حتى بلغ القمة و الذروة بأيدي العلماء المُبتكرين المجددين من ناحية الدقة و العمق و الاستيعاب.

و المعروف بين الاصوليين أنَّ «الاستصحاب» يُطلق على امور:

الأوّل: استصحاب حال الشرع؛ أي استصحاب الحكم الشرعي الثابت بدليلٍ سمعي من كتاب أو سنّة.

الثاني: استصحاب حال الإجماع؛ و المُراد به استصحاب الحكم الثابت

ص: 10

بالإجماع، و قد مثَّل له الشافعية: بالمُتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة، فإنَّه يجب عليه بالإجماع المُضي فيها قبل وجدان الماء، فيستصحب هذا الحكم حال الوجدان أيضاً، إلى أن يدل على أنَّ رؤية الماء قاطع للصلاة(1).

هذا و قد يُطلق أيضاً استصحاب الحال و يراد به الأعم من استصحاب حال الإجماع (2).

الثالث: استصحاب حال العقل- و قد يُسمّى باستصحاب النفي الأصلي- و هو استصحاب حُكم العقل بالبراءة الأصلية، كاستصحاب البالغ لبراءته التي كانت ثابتة له حال الصغر. على ما هو المعروف بين جمع من الاصوليين، خلافاً لصاحب «الفصول» رحمه اللَّه تعالى فإنَّه عمَّمه لكلِّ حكمٍ ثبت بالعقل، سواءً كان حكماً تكليفياً أم وضعياً، حتى استصحاب عدم الملكية الثابت قبل تحقق موضوعها(3).

الرابع: استصحاب حال اللغة فيما لو ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى، و شك في حصول النقل.

الخامس: الاستصحاب القهقريّ أو القهقرائي، أو المقلوب، و هو أصل عُقلائي خاص بباب اللغة، مثاله إثبات اتحاد المعنى الذي نفهمه من اللفظ في زماننا، مع ما يفهمه المُعاصرون لزمان صدور النص.

المُناسب هنا و المعروف بين المتأخرين من «الاستصحاب»، هو المعنى المختلف فيه الذي قد عرّفه الاصوليّون بتعاريف مختلفة و عبائر شتّى، منها: «إبقاء ما كان»


1- انظر عدّة الاصول: 303.
2- نفس المصدر.
3- الفصول الغروية: 366.

ص: 11

و «إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلًا على ثبوته في الزمان الأوّل» و «الشكّ المسبوق باليقين» لكنّ الإمام قدس سره عدل عن طريقة القوم و صحّح التعاريف بناءً على المباني المختلفة. فمن قال بأنَّه أصل عملي و يكون وظيفة عملية في مقام الشك، يجب تعريفه ب «إبقاء ما كان» و لا يصحّ له إطلاق الحجّة عليه لعدم كونه ناظراً إلى الحكم الواقعي و لا حجة عليه بل الاستصحاب هذا من المسائل الفقهية. و من قال بأنَّه حجة على الواقع و اعتبره الشارع بجعل اليقين طريقاً إلى متعلقه في زمان الشك، فيعرّفه ب «اليقين السابق على الشك في البقاء الكاشف عن متعلقه في زمن الشك». و لو قال إنَّ اعتباره ليس لأجل الطريقية عن الواقع بل لأجل التحفظ عليه، وجب تعريفه ب «اليقين الملحوق بالشك» أو «الشك في بقاء الشي ء المسبوق باليقين به».

فما في كلمات بعض من الخلط بين التعاريف و المباني غير وارد مورد التحقيق و التدقيق. كما أنَّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره من كون التعريف واحداً على جميع المباني غير قابل للتصديق.

و قد كتب في الاستصحاب و تطرّق لهذا الموضوع كلُّ من صنّف في علم اصول الفقه- على الأعم الأغلب- فاسهبوا فيه تدقيقاً و تحقيقاً، و حققوا تقدّماً في هذا السبيل و بالخصوص على يد الروّاد النوابغ، فخلَّفوا تراثاً ضخماً، و منجزات عظيمة.

و الذي نريد تقريره الآن هو إلقاء نظرة خاطفة سريعة حول أعيان الأعلام و مشاهير العلماء و على أهم مُنجزاتهم في ذلك المضمار حسب التسلسل الزمني فنقول:

إنَّ أوّل من وصلنا قوله في حُجية الاستصحاب هو رئيس الملّة و فخرها و عمادها الشيخ أبو عبد اللَّه محمَّد بن محمَّد بن النعمان المفيد العُكبري البغدادي رضوان اللَّه تعالى عليه المتوفى سنة 413 ه حيث قال:

و الحكم باستصحاب الحال واجب؛ لأنَّ حكم الحال ثابت بيقين، و ما ثبت

ص: 12

فلن يجوز الانتقال عنه إلّا بواضح الدليل (1).

و تطرَّق لموضوع الاستصحاب أيضاً علم الهدى الشريف المرتضى السيد أبو القاسم علي بن الشريف أبي أحمد الحسين نقيب الطالبيين الموسوي المتوفى سنة 436 ه في كتابه «الذريعة إلى اصول الشريعة».

و كذلك شيخ الطائفة الإمام الكبير الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى سنة 460 ه في كتابه الحافل الموسوم ب «عُدّة الاصول».

و أيضاً السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي المتوفى سنة 585 ه في «غنية النزوع إلى علمي الاصول و الفروع».

و المحقق الحِلّي الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي المتوفى سنة 676 ه في «معارج الاصول».

و العلّامة الحلّي الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن الشيخ سديد الدين يوسف بن زين الدين علي بن المطهر الأسدي المتوفى سنة 726 ه في كتبه الاصولية كافة و التي منها «نهاية الوصول إلى علم الاصول».

و الشهيد الأوّل الشيخ شمس الدين أبو عبد اللَّه محمّد بن الشيخ جمال الدين مكي ابن الشيخ شمس الدين محمَّد النبطي العاملي الجزيني المُستشهد سنة 786 ه في «القواعد و الفوائد».

و الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي المُستشهد سنة 965 ه في «تمهيد القواعد».

و العلّامة الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي المتوفى سنة 1011 ه في «معالم الدين و ملاذ المجتهدين».


1- التذكرة بأصول الفقه« ضمن مصنفات الشيخ المفيد» 9: 45.

ص: 13

و علم الأئمّة الأعلام الشيخ بهاء الدين محمَّد ابن الشيخ عز الدين الحسين الحارثي الهمداني العاملي الجبعي المتوفى سنة 1030 ه في «زبدة الاصول».

و العلّامة المولى الشيخ عبد اللَّه بن محمَّد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني المتوفى سنة 1071 ه في «الوافية في اصول الفقه».

و العلّامة الكبير المحقق الميرزا أبو القاسم الگيلاني القمي المتوفى سنة 1231 ه في كتابه الشهير «القوانين المحكمة».

إلى أن جاء دور رائد المدرسة الاصولية و المؤسس لأرقى مرحلة من مراحلها الفكرية العلمية أعني الشيخ الأعظم المرتضى ابن الشيخ محمّد أمين الأنصاري المتوفى سنة 1281 ه فكتب «فرائد الاصول» الذي تمكّن فيه من إحداث قفزة نوعية فريدة في المسائل الاصولية التي تعرّض لها و بحثها و منها موضوع الاستصحاب.

و في آخر هذا العرض لا بأس بتقديم فهرست مختصر يجمع أسماء أهم الكتب و الرسائل و التعليقات التي دوّنها المتأخرون حول موضوع الاستصحاب بالخصوص، و إلّا فإنَّ كلّ من كتب- تقريباً- في علم الاصول لا بُدّ و أنَّه طرق ذلك الباب و تعرّض له بنحوٍ و آخر. فنذكر من ذلك:

1- (الاستصحاب و إثبات حجيته و ما يتعلّق به) للُاستاذ الأكبر المحقق المُجدد الشيخ محمَّد باقر بن محمَّد أكمل البهبهاني قدس سره المتوفى سنة 1206 ه.

2- (الاستصحاب و إثبات حجيته) للمحقق الكبير السيد المجاهد الأمير محمّد صاحب «مفاتيح الاصول» ابن الأمير السيد علي الطباطبائي صاحب «رياض المسائل» المتوفى سنة 1242 ه.

3- (حاشية على موضوع الاستصحاب من القوانين) للشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره.

ص: 14

4- (الاستصحاب) للشيخ ميرزا أبو القاسم ابن ميرزا محمَّد علي النوري الطهراني الشهير بكلانتري المتوفى سنة 1292 ه، و هذا الرجل من أبرز و أشهر تلاميذ الشيخ الأعظم المرتضى الأنصاري قدّس سرهما و هو جدّ الشيخ ميرزا محمَّد الثقفي أبي زوجة الإمام الراحل 0.

5- (الاستصحاب) لآية اللَّه الفقيه الكبير السيد محمّد كاظم بن عبد العظيم الطباطبائي اليزدي النجفي المتوفى سنة 1337 ه.

6- (رسالة في الاستصحاب) لآية اللَّه الشهيد السعيد السيد حسن المدرس المستشهد سنة 1350 ه.

حول الكتاب و مؤلفه سماحة الإمام رضوان اللَّه عليه:

إنَّ أوّل ما يستوقف الباحث في هذه الرسالة الشريفة هو جمع مصنفه العظيم بين الدقتين العقلية و العُرفية، و إعمال كل منهما في موضوعها المناسب لها، و هذه مزية فريدة في نوعها لم يتصف بها إلّا الأوحدي من المحققين، ذلك أنَّ من طبيعة البحوث العقلية أن تصهر ذهنية صاحبها في بوتقة الدقّ، فلا يعود يرى إلّا زاويتها، و هو بهذا يبتعد عن سليقته العرفية.

فعلى هذا فإنّنا نرى منهجية الإمام قدس سره في هذا الكتاب و هو يغوص في بحث عقلي دقيق عند تحقيقه القضايا السالبة و مناط الصدق و الكذب فيها، و ما يكاد يفرغ منها حتى يسبغ عليها من عقليته الفلسفية الجبارة قوالب مُحكمة من الحكمة المُتعالية.

و بنفس هذه الروح و السليقة المُترعة بالحكمة يرد على المحقق الأصفهاني قدس سره القائل بأنَّ مفهوم النصف المُشاع موجود بالقوة، و لكنّه مع ذلك يعود إلى سليقته العرفية القويمة فيبني على أنَّ الملكية المُشاعة أمرٌ اعتباري عُقلائي غير قائمٍ على

ص: 15

المسائل الفلسفية، كما أنَّ الأشياء إنّما تتصف بالربع و النصف في محيط العقلاء.

و من دقته في المسائل العقلية ما أفاده في جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية و الأحكام الشرعية المستكشفة عن العقلية حيث منعهما الشيخ الأعظم الأنصاري مستدلّاً بأنَّ العقل مدرك لمناطات أحكامه و لا يطرأ الشك في موضوع حكمه و استشكل عليه جلّ من تأخر عنه. لكنّ الإمام قدّس سرّه بعد دفع الإشكالات الواردة على كلام الشيخ، فصّل بين حكم العقل و بين حكم الشرع المستكشف من العقل، فمنع من جريان الاستصحاب في الأوّل و صحّح في الثاني لأنَّه يمكن أن يشك في صدق عنوان قبيح على الموضوع فيشك في بقاء الحكم الشرعي فيستصحب الحكم مثل ما إذا غرق مؤمن فيحكم العقل و كذا الشرع بوجوب إنقاذه و حسنه، فإذا شك في صدق عنوان السابّ للَّه على الغريق فلا يجوز استصحاب حكم العقل للشك في حسنه لكن حكم الشرع بوجوب إنقاذه باقٍ بحكم الاستصحاب.

و من هذه الموارد ما أفاده في انحصار أدلّة الاستصحاب في الأخبار و كونه حكماً شرعيّاً تعبّدياً من قبل الشرع أمّا كون الاستصحاب إمضاءً للسيرة العقلائية مطابقاً لما عند العقلاء، فأنكره قائلًا: إنَّ بنائهم من باب حصول الوثوق و الاطمئنان لهم ببقاء ما كان، لندرة وجود الرافع للشي ء الثابت مع وجود مقتضيه؛ لكنّ الاستصحاب المذكور في الأخبار المدّعى ثبوته و حجّيته- سواء قلنا بكونه مختصاً بالشك في المقتضي أم لا- غير ما عند العقلاء؛ لأنَّ الأخبار واردة في بيان حكم تعبّدي و هو وجوب العمل على اليقين السابق و ليس لسان أدلّته الإحالة إلى حكم معلوم مرتكز لدى العقلاء.

و منها ما أفاده في توضيح الأحكام الوضعية و كيفية جعلها و جعل السببية و العلل التكوينية و التشريعية و الخلط الواقع في كلام بعض المتأخرين من تشبيه

ص: 16

التشريع بالتكوين (و للإمام قدس سره في تفصيل الحق عن الباطل رسالة مستقلة أيضاً غير ما ذكره هنا، ردّاً لكلام العلّامة الحائري غير مطبوع بعد).

و ذكر أقسام الأحكام الوضعية باعتبار أنحاء جعله: فمنها ما يكون مجعولًا بتبع التكليف كالجزئية، و منها ما يكون مجعولًا بتبع اشتراط التكليف به مثل اشتراط الاستطاعة للحجّ، و منها المجعول أصالة و هو أيضاً على اقسام: المجعول ابتداءً كالخلافة و القضاوة و السببية، و المجعول عقيب شي ء اعتباري كحق السبق و التحجير، و المجعول عقيب شي ء تكويني مثل الحدود الشرعية و القصاص و ضمان الإتلاف و الملكية عقيب الإحياء و الحيازة، و المجعول عقيب أمر تشريعي قانوني نحو العهدة عقيب عقد الضمان و من ذلك العقود و الإيقاعات.

و من الموارد التي تظهر دقته العقلية و استظهاره العرفي ما ذكره في جريان استصحاب الزمان و الزماني في الثالث من التنبيهات.

أمّا جريان الاستصحاب في الزمان و الحركة فلصدق البقاء عقلًا و عرفاً، أمّا العقل فما هو المقرّر عنده وجود الحركة القطعية و وجوده واحد متصرّم متجدّد فكلّ من الحركة و الزمان موجود واحد ذو هوية شخصية و أمّا عند العرف فظاهر لأنّهم يرون اليوم باقياً إلى الليل و الحركة إلى السكون. و كذا يجري في الزمانيات مع أنَّ من الزمانيات ما تكون وحدته بنحوٍ من الاعتبار مثل التكلم و الدليل عليه أيضاً صدق البقاء عند العرف.

ثمّ أنَّ الإمام قدس سره تبعاً للمتقدمين عنون الشبهة العلّامة النراقي ذيل التنبيه و هو أنَّ استصحاب وجوب الشي ء بعد زمان معارض لاستصحاب عدم وجوب ذلك الشي ء المتقيد بذلك الزمان فلعلّ التقيد بالزمان جزء الموضوع. و بعد التعرض لكلام الشيخ الأعظم و المحقق الخراساني و المحقق النائيني و العلّامة الحائري رحمهم اللَّه و الجواب

ص: 17

عن إشكالاتهم على النراقي، أورد إشكالًا مستقلًا عليه و هو أنَّ الموضوع إن كان هو الشي ء فلا يجري استصحاب عدم وجوبه الأزلي لأنَّ اليقين السابق قد زال قطعاً لوجوب الشي ء قبل ذلك الزمان. و إن كان هو الشي ء المتقيد بالزمان فلا يجري استصحاب وجوب الشي ء لعدم يقين سابق و حيث لا منافاة بين وجوب الشي ء و عدم وجوبه المتقيد بالزمان فيجتمع الأمران و لا تعارض.

و جرى قدس سره على هذه الوتيرة في الرد على الشيخين الأنصاري و الحائري رحمهما اللَّه تعالى فأفاد أنَّ التقدّم الطبعي و الرتبي خارجان عمّا يفهمه العرف من قوله عليه السلام:

(لا ينقض اليقين بالشك)

لأنّهم يفهمون منه التقدّم الخارجي. و نظراً لتأصّل الحس العرفي في نفسه الشريفة لم يجد بُدّاً من أن يقول بأنَّ العرف الدقيق كما يكون مرجعاً في تحديد المفاهيم كذا فهو مرجع في تشخيص مصاديقها.

و انظر إلى تحقيقه في الجواب عمّا اشتهر من عدم جواز التمسك بعمومات أدلّة القرعة إلّا في موارد عمل الأصحاب، بدعوى كثرة المخصصات المُستهجنة الواردة عليها، حيث أفاد أنَّ مصب عمومات القرعة هو التنازع و تزاحم الحقوق، فيكون الأصحاب عاملين بعمومها فأين التخصص الكثير المُستهجن؟!

هذا بعض ما نستطيع تقديمه في هذا المختصر ممّا لاح لنا من نظرات استجليناها، و إلّا فالقارئ الفطن اللبيب يتمكن من أن يستشف ملامح الفكر المُبدع الدّفاق بالثراء العلمي و ما احتواه من إبداعات و مواهب غنية كل الغنى في كلِّ ما يرجع إلى الموضوع.

ص: 18

منهج التحقيق:

1- مقابلة النسخة المطبوعة مع الأصل الذي هو بخط السيد الإمام قدس سره.

2- تقطيع النص و ضبطه، و وضع علامات الترقيم المتعارفة في هذا المجال.

3- استفدنا من هذه العلامة [] و تسمى بالعضادتين في موارد:

أ- لإضافة يقتضيه سياق الجملة.

ب- لإضافة من المصدر.

ج- لتصحيح كلمة.

4- الإشارة إلى موضع الآيات القرآنية الشريفة و ذلك بذكر اسم السورة و رقم الآية.

5- تخريج الأحاديث الشريفة من مظانّها الرئيسية.

6- تخريج الأقوال و ما يحوم حولها و يجري مجراها من دعاوى أو توهمات أو إشكالات و غير ذلك، و عزوها إلى قائليها بذكر مصادرها و منابعها الأصلية قدر الإمكان.

7- تعريف الأعلام و الرواة المذكورين في أصل الكتاب بصورة مختصرة.

8- إعداد فهارس فنية عامّة توفّر الوقت و تسهل من أمر الاستفادة من مطالب الكتاب.

هذا و لا يفوتنا هنا أن نسجل شكراً جزيلًا و ثناءً وافراً لسماحة آية اللَّه الشيخ مجتبى الطهراني حفظه اللَّه تعالى لتصحيح الكتاب و تحقيقه في طبعته الاولى.

و الحمد للَّه كثيراً، و صلاته و سلامه على محمَّدٍ و آله بكرة و أصيلًا.

مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره

فرع قم المقدّسة

شعبان 1417 ه. ق.- دي 1375 ه. ش.

ص: 19

ص: 20

ص: 21

ص: 22

ص: 23

الاستصحاب

ص: 24

ص: 25

بسم اللَّه الرَّحمنِ الرَّحيم

الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالَمِين وَ صلّى

اللَّهُ على مُحَمَّدٍ وَ آلهِ الطّاهِرين،

وَ لَعْنَةُ على أَعدائِهمْ أجْمَعين

ص: 1

فصل في تعريف الاستصحاب

اشارة

و قد عُرِّف بتعاريف (1) لا يخلو شي ءٌ منها من الإشكال، بل لا يخلو كلام الأعلام في هذا الباب من الاضطراب و المناقضة صدراً و ذيلًا، و بعد تحقيق حقيقة الاستصحاب يظهر صدق ما ادّعيناه.

فنقول: إنَّ الاستصحاب إمّا أن يكون أصلًا عمليّاً كأصالة الحلّ و الطهارة، و يكون وظيفة عمليّة في مقام الشكّ، و يكون موضوعه الشكّ في شي ءٍ مُتيقَّن سابقاً، من غير أن يكون اعتباره لأجل التحفّظ على الواقع، فلا يكون حينئذٍ حُجّة على الواقع، و لا طريقاً مجعولًا، فإطلاق الحجّة عليه غير صحيح، كإطلاق الحجّة على أصالتي الطهارة و الحلّية.

فبناءً عليه يكون تعريفه ب «إبقاء ما كان» و أمثاله (2) ممّا لا مانع منه، سواءً اريد منه


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 318 سطر 12، الوافية: 200، القوانين المحكمة 2: 53 سطر 10، الفصول الغروية: 366 سطر 13، كفاية الاصول: 435، حاشية الآخوند على الرسائل: 171، فوائد الاصول 4: 407، نهاية الدراية 3: 3 سطر 4.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 318 سطر 12، الفصول الغروية: 366 سطر 13، مناهج الأحكام و الاصول: 224 سطر 31.

ص: 2

الإبقاء العمليّ الذي هو وظيفة المُكلَّف (1)، أو الحُكم بالإبقاء من قِبَل الشارع (2).

و لا يخفى: أنَّه حينئذٍ يكون مسألة فقهيّة و لو في الاستصحابات الحُكميّة؛ فإنَّه على كلا التقديرين يكون وظيفة عمليّة غير ناظرة إلى الحُكم الواقعيّ، و لا حُجّة عليه، و لا طريقاً إليه.

و إمّا أنْ يكون حُجّة على الواقع، سواء كان أصلًا اعتبر لأجل التحفّظ على الواقع، كأصالة الاحتياط في الشبهة البَدْويّة، أو طريقاً كاشفاً عنه كسائر الأمارات الكاشفة عن الواقع، فحينئذٍ يكون مسألة اصوليّة، و إطلاق الحُجّة عليه صحيح؛ فإنَّ معنى الحُجّية هو كون الشي ء مُنجِّزاً للواقع؛ بحيث لو خالفه المكلَّف مع قيامه عليه يكون مُستحقّاً للعُقوبة.

مثلًا: لو قام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة البَدويّة، يصير الاحتمال حُجّة على الواقع؛ بمعنى أنَّه لو احتمل المُكلَّف وجوب شي ءٍ فتركه، و كان واجباً واقعاً، يصير مُستحقّاً للعقوبة عليه، و هذا معنى تنجيز الواقع، و المُنجِّز هو الحُجّة على الواقع، و ليس المُراد بالحُجّة في الاصول القياس المنطقيّ، و إن اشتبه على بعض الأعاظم حتّى العلّامة الأنصاري قدّس سرّه (3).


1- فوائد الاصول 4: 307، أجود التقريرات 2: 343، درر الفوائد: 509.
2- حاشية الآخوند على الرسائل: 172 سطر 3، حاشية الكفاية( تقريرات السيد البروجردي) 2: 339.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 2 سطر 12، و قد اختاره المحقّق الهمداني في حاشيته على الرسائل، و حكاه عن البعض أيضاً العلّامة الأنصاري: هو الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمّد أمين بن شمس الدين بن أحمد بن نور الدين بن محمّد صادق الأنصاري، الإمام الفقيه المؤسس شيخ مشايخ الإمامية، و أحد جهابذة العلماء و أثبات المُحقّقين، من ذرّيّة الصحابي الجليل جابر بن عبد اللَّه الأنصاري السلمي الخزرجي، ولد في الثامن عشر من ذي الحجّة عام 1214 ه في مدينة دزفول، تفقّه على عمّه الفقيه الكبير الشيخ حسين الأنصاري، ثمّ على الفقيه السيّد محمّد نجل السيّد علي الطباطبائي، و الفقيه المُتبحّر شريف العلماء المازندراني، و المحقق المولى أحمد النراقي و آخرين، و تخرَّج من معهد درسه جماعة من أعاظم العلماء، منهم: السيّد ميرزا محمّد حسن الحسيني الشيرازي، و الشيخ ميرزا حبيب اللَّه الرشتي، و الفقيه الشيخ جعفر التستري، و الفقيه الكبير السيّد حسين الكوهكمري التبريزي، و المحقق الشيخ محمّد كاظم الخراساني و غيرهم، توفّي ليلة الثامن عشر من جمادى الثانية عام 1281 ه، و دفن في النجف الأشرف. انظر: أعيان الشيعة 10: 117، ريحانة الأدب 1: 189، معارف الرجال 2: 399/ 410.

ص: 3

و بالجملة: إطلاق الحُجّة على الاستصحاب- بناءً على كونه أصلًا لحفظ الواقع أو أمارة لإثباته- صحيح، و لكن تعريفه حينئذٍ ب «إبقاء ما كان» و مثله ليس على ما ينبغي؛ لأنَّ الاستصحاب بناءً عليه أمر يكون حكم الشارع أو بناء العقلاء أو حكم العقل دليلًا على اعتباره، و يجب على المُكلَّف العمل على طبقه وجوباً طريقيّاً للتحفّظ على الواقع، و لا يكون نفس الحكم الشرعيّ أو نفس عمل المُكلَّف.

فكما أنَّ خبر الثقة الذي هو طريق إلى الواقع و حُجّة عليه شي ء، و إيجاب العمل على طبقه شي ء آخر، و العمل عليه شي ء ثالث، فلا يصحّ أن يقال: إنَّ خبر الثقة هو وجوب العمل على طبقه، أو العمل على طبقه، فكذلك الاستصحاب.

فلا بُدَّ من تعريفه- بناءً عليه- إمّا ب «الكون السابق للشي ء الكاشف عن بقائه في زمن الشكّ فيه»، أو «اليقين السابق الكاشف عن مُتعلَّقه في زمن الشكّ»، أو «الشكّ المسبوق باليقين بالشي ء».

فلو قلنا: إنَّ الاستصحاب أمارة على الواقع كسائر الأمارات، و وجه اعتباره عند العقلاء أو الشارع أنَّ الثابت يدوم، فيكون «الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن الشكّ فيه» هو حقيقة الاستصحاب، فهذا التعريف صحيح و لو بناءً على أخذه من الأخبار.

و أمّا لو قلنا: بأنَّ اعتباره الشرعيّ إنّما يكون بجعل اليقين طريقاً إلى مُتعلَّقه في زمان الشكّ، فتكون حقيقته: «أنّها اليقين السابق على الشكّ في البقاء، الكاشف عن مُتعلَّقه في زمن الشكّ».

و لو قلنا: بأنَّ اعتباره ليس لأجل الطريقيّة إلى الواقع، بل لأجل التحفّظ عليه، و أنَّ إيجاب العمل على طبق الحالة السابقة لأجل التحفّظ عليها، فيكون أصلًا و حُجّةً على الواقع، نظير أصالة الاحتياط في الشبهات البَدويّة في الأعراض و النفوس، فتكون

ص: 4

حقيقته: «أنّها الشكّ في بقاء الشي ء المسبوق باليقين به، أو اليقين الملحوق بالشكّ» فيكون ما جعله الشارع حُجّة على الواقع هو اليقين السابق الغير الكاشف عن الكون اللّاحق أو الشكّ المسبوق به، كما أنَّ ما جعله حُجّة عليه في باب الاحتياط في الأعراض و النفوس- بناءً على وجوبه (1)- هو الاحتمال.

و بما ذكرنا: يتّضح النظر في كثير ممّا ذكره الأعلام في المقام، فإنّك ترى أنَّ من جعل الاستصحاب أصلًا عمليّاً و وظيفة عمليّة للشاكّ يبحث عن حُجّيته (2).

و من جعله حُجّة على الواقع عرَّفه: «بأنَّه الحكم بإبقاء ما كان»(3).

و من عرَّفه: «بأنَّه الإبقاء العمليّ، و يكون فعلًا للمكلّف» يجعله من المسائل الاصوليّة، و يبحث عن حُجّيته (4).

و هذه مناقضات وقعت في كلامهم، و عليك بالتأمّل التامّ في المقام.

و قد اتّضح أيضاً ممّا ذكرنا: أنَّه لا يمكن تعريفه بشي ء يكون مورداً للنقض و الإبرام على جميع المسالك؛ لعدم الجامع بينها، فإنَّ من جعله أصلًا عمليّاً لا بُدَّ و أن يجعل الشك موضوعاً، و يقول: إنَّه وظيفة للشاكّ عند قصور اليد عن الواقع، و من جعله أمارة على الواقع لا بُدَّ و أن لا يعتبر الشكّ على نحو الموضوعيّة، و هما ممّا لا يجتمعان.

و كذا لا جامع بين القول بالطريقيّة و الأماريّة على الواقع، و بين القول بأنَّه حُجّة على الواقع و أصل كأصل الاحتياط، فمن أراد تعريفه بجامع تجتمع عليه الأقوال المُتقابلة فقد أخطأ الغرض، إلّا أن يراد بالجامع الغرض منه على بعض الاعتبارات.

و ينبغي التنبيه على أمرين:


1- أوثق الوسائل: 268 السطر ما قبل الأخير، و انظر هداية الأبرار للكركي: 230، فوائد الاصول 3: 385.
2- كفاية الاصول: 436.
3- انظر معالم الدين: 227 و 228، بحر الفوائد: 2 سطر 22 مبحث الاستصحاب، رسائل الشيخ الأنصاري: 319 سطر 7.
4- درر الفوائد: 509- 511.

ص: 5

الأمر الأوّل: الاحتمالات التي في الباب

إنَّه يُحتمل- بحسب التصوّر و مقام الثبوت- أن يكون الاستصحاب أصلًا عمليّاً كأصالة الحلّ و الطهارة.

و يُحتمل أن يكون أصلًا شرعيّاً للتحفّظ على الواقع، و يكون حُجّة عليه.

و يُحتمل أن يكون أمارة شرعيّة، كخبر الثقة بناءً على أن يكون اعتباره من قِبَل الشرع.

و يُحتمل أن يكون أمارة عُقلائية، كخبر الثقة بناءً على كون اعتباره من جهة بناء العقلاء.

و يُحتمل أن يكون أصلًا عُقلائيّاً يكون بناء العُقلاء على العمل به لا لأجل طريقيّته إلى الواقع، بل لحِكْمة دفع الحرج، كأصالة الصحّة بناءً على كونها من الاصول العُقلائيّة التي شُرّعت عندهم لأجل حِكْمة دفع الحرج، لا لأجل الطريقيّة العُقلائيّة.

و يُحتمل أن يكون دليلًا عقليّاً من العقليّات الغير المُستقلّة؛ أي التي تنتهي إلى الحكم الشرعيّ لا بالاستقلال، بل بضمِّ مُقدِّمة شرعيّة، كالحكم بالمُلازمة بين وجوب الشي ء و وجوب مقدّمته.

و أمّا احتمال كونه من العقليّات المُستقلَّة فممنوع؛ لأنّها هي القضايا العقلية المُنتهية إلى الحكم الشرعيّ بلا توسّط شي ءٍ آخر وراء الحكم العقليّ، كالحكم بأنَّ الظلم قبيح، و تجويزه على الشارع قبيح، و القبيح محال عليه، فينتج: أنَّ الظلم حرام بحسب حكم الشرع.

و لا يخفى: أنَّ الاستصحاب- بناءً على أخذه من العقل- لا يكون من العقليّات المُستقلّة؛ لاحتياجه إلى خطاب شرعيّ يُجعل صغرى للكبرى العقليّة.

ثمّ اعلم: أنَّ القائل بأنَّ الاستصحاب أصلٌ عمليّ يمكن أن يأخذه من الأخبار و هو واضح، و يمكن أن يأخذه من بناء العُقلاء؛ لإمكان أن يكون اصلًا عُقلائيّاً بنى

ص: 6

العُقلاء على العمل به لمصالح، كدفع الحرج و رَغَد العيش.

اللهمَّ إلّا أن نُنكر الأصل العُقلائيّ مُطلقاً و نقول: ما عند العُقلاء لا يكون إلّا الطرق كما هو المعروف (1) و لكنَّه غير مُسلَّم.

و القائل بأنَّه دليل اجتهاديّ يمكن أن يأخذه من بناء العقلاء أو حُكم العقل، و يمكن أن يأخذه من الأخبار؛ بادّعاء أنَّ مفادها هو اعتباره من حيث طريقيّته و كاشفيّته عن الواقع.

و من بعض ما ذكرنا يظهر النظرُ في بعض ما أفاده الشيخ الأنصاريّ في هذا المقام فراجع (2).

الأمر الثاني: الاستصحاب ليس من الأدلّة الأربعة

اشارة

إنَّ الاستصحاب- بناءً على ما عرَّفناه- ليس من الأدلّة الأربعة إذا اخذت حُجّيته من الأخبار؛ لأنَّ الأدلّة الأربعة؛ أي الكتاب و السُنّة و الإجماع و العقل، هي الأدلّة التي اقيمت منها على الحُكم الفرعيّ، لا الأعمّ منها و ممّا اقيمت على الحُكم الأصليّ؛ أي المسألة الاصولية.

مثلًا: إذا قام خبر الثقة على حُرمة العصير العنبيّ، و دلَّ ظاهر الكتاب على اعتباره يكون الدليل على حُرمة العصير هو خبر الثقة، لا ظاهر الكتاب، و كذا لو دلّت الأخبار على اعتبار خبر الثقة، و قام خبر الثقة على حُرمة العصير، يكون الخبر القائم على حُرمته من الأدلَّة الأربعة، لا الأخبار الدالَّة على اعتباره.

فالاستصحاب بناءً على ما ذكرنا:

من أنَّه عبارة عن نفس الكون السابق الكاشف عن بقائه في اللّاحق.


1- انظر مثلًا فوائد الاصول 4: 485.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 319 سطر 4.

ص: 7

أو اليقين السابق الملحوق بالشكّ في البقاء.

أو الشكّ المسبوق باليقين (1).

هو الدليل أو الحُجّة على الحكم الفرعيّ الكُلّي، و ليس هو من الأدلّة الأربعة:

أمّا الإجماع و الكتاب فظاهر.

و أمّا العقل فلأنَّ المفروض أنَّه اخذ من الأخبار.

و أمّا السُّنّة فلأنَّ قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

(2) دليل اعتبار الاستصحاب، كدلالة آية النبأ(3) على اعتبار خبر الثقة، فكما أنَّ الآية دليل على الدليل، و يكون الدليل على الفرع الفقهيّ هو خبر الثقة لا آية النبأ، فكذلك الدليل في الفقه أو الحُجّة في الفقه هو نفس الاستصحاب، و

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

دليل على اعتباره، فليس الاستصحاب- بناءً على أخذه من الأخبار- من الأدلَّة الأربعة، بل هو دليل برأسه.

و لعلَّ السرَّ في ذهاب القُدماء من اصحابنا إلى انحصار الأدلَّة في الأربعة(4):

أنَّ العامّة الذين هم الأصل في تدوين الاصول عدّوا الاستصحاب من الأدلّة العقليّة كالقياس و الاستقراء(5)، و قُدماء أصحابنا إلى زمان والد شيخنا البهائيّ لم يُعهد تمسّكهم بالأدلّة النقليّة في حُجّية الاستصحاب على ما حُكي (6) ....


1- ذكر في صفحة 3.
2- انظر التهذيب 1: 8/ 11، الوسائل 1: 174/ 1- باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
3- سورة الحجرات 49: 6.
4- انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 277 و 287 و 2: 511، عدّة الاصول: 130 سطر 10.
5- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 453 و 454 بضميمة أنَّ من تمسّك بالأدلّة العقليّة على حجّية الاستصحاب يكون معدوداً عنده من الأدلّة العقلية، كما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه في رسائله: 318 سطر 5.
6- الحاكي هو الشيخ حسين العاملي صاحب العقد الطهماسبي على ما في رسائل الشيخ الأنصاري: 319 سطر 10. والد شيخنا البهائي: هو الشيخ عزّ الدين الحسين بن عبد الصمد بن شمس الدين محمَّد بن علي الحارثي اللويزاني العاملي، من ذرّية الحارث الهمداني الذي كان من خواصّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، المولود سنة 918 ه من العلماء المشاهير، و أعيان الحديث و أثباته، و كان أديباً مناظراً مليح الشعر و النثر، ذا تفنّن في العلوم، يروي عن جملة من أعلام عصره، منهم الشهيد الشيخ زين الدين الجبعي العاملي، و السيد حسن بن جعفر الحسيني الكركي، و له أيضاً تلامذة فضلاء، منهم: ولده الشيخ البهائي، و الشيخ رشيد الدين ابن الشيخ إبراهيم الأصفهاني و غيرهم، و من تصانيفه: العقد الطهماسبي، وصول الأخيار إلى اصول الأخبار، شرح القواعد، حاشية الإرشاد، الأربعون حديثاً، تحقيق القبلة، ديوان شعره، توفّي بالبحرين سنة 984 ه بقرية المصلّى من قرى هجر و دفن فيها. انظر أمل الآمل 1: 74/ 67، رياض العلماء 2: 108، تكملة أمل الآمل للسيد الصدر: 182/ 145. و الشيخ البهائي: هو المحقق الكبير الشيخ بهاء الدين محمّد ابن الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الجبعي، علم الأئمّة الأعلام، و سيّد علماء الإسلام، كانت له اليد الطولى في معرفة المذهب، و جمع من العلوم ما لم يجمعه أحد، فوقف على حقائقها و دقائقها، و مؤلفاته بأسرها محط أنظار العلماء و الادباء، مشحونة بالتحقيق، طافحة بالفضل، نذكر منها: زبدة الاصول، الحبل المتين، مشرق الشمسين، الحديقة الهلالية، تشريح الأفلاك، حاشية على شرح العضدي، خلاصة الحساب، حواشي الكشاف و غير ذلك، اشتغل على جملة من علماء عصره منهم: والده المحقق الشيخ عز الدين الحسين، و العلّامة عبد اللَّه بن شهاب الدين اليزدي، و محمّد باقر اليزدي، و أفضل القائني، و اعتماد الدين محمود، و أحمد الكچائي و غيرهم، كان مولده في بعلبك سنة 953 ه، و توفّي في أصفهان سنة 1030 ه. انظر طبقات أعلام الشيعة 5: 85، لؤلؤة البحرين: 16/ 5، أعيان الشيعة 9: 234.

ص: 8

و أمّا المتأخّرون ممّن قارب عصرنا فقد أنكروا كون موضوع علم الاصول هو الأدلّة بما هي أو ذاتها، و زعموا أنَّه لو جُعل الموضوع هو الأدلّة تصير مسألة حُجّية خبر الواحد و الاستصحاب و نحوهما من المبادئ التصديقيّة(1). و قد مرَّ في مباحث الألفاظ تحقيق الحال في موضوع الاصول و المسائل الاصوليّة فراجع (2).

و بما ذكرنا: تكون مسألة حُجّية الاستصحاب و خبر الثقة من المسائل الاصوليّة، و إلى ما ذكرنا يرجع قول بعض السادة الفحول (3)، حيث جعل الاستصحاب دليلًا على


1- كفاية الاصول: 22، فوائد الاصول 1: 27 و 28، نهاية الأفكار 1: 19.
2- مرّ في مناهج الوصول 1: 51- 54، و له قدّس سرّه رأي آخر تجده في أنوار الهداية 1: 270.
3- فوائد السيّد بحر العلوم: 116 الفائدة 35. و السيّد بحر العلوم: هو الإمام المعظّم، علّامة العلماء الأعلام، فخر فقهاء الإسلام، محطّ رجال الأفاضل المتبحّرين، و مناخ ركاب الجهابذة المحققين الآية العظمى السيد محمّد مهدي ابن السيد مرتضى ابن السيد محمّد البروجردي الطباطبائي، ولد في كربلاء المقدّسة سنة 1155 ه، فنما من تلك الاصول الطاهرة غصنه المونق، و سما على الأنجم الزاهرة بدره المشرق، فتلمّذ على جماعة من أساطين العلم منهم: الاستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني، و السيد الأجل المير عبد الباقي الخاتون آبادي، و العلّامة الفيلسوف السيد ميرزا مهدي الأصفهاني، و العلّامة المحقق الشيخ يوسف البحراني و آخرون، و تلمّذ عليه جماعة من أعيان الطائفة كالفاضل النراقي، و حجة الإسلام الشفتي، و العلّامة المحقق الشيخ أسد اللَّه التستري، و السيد صدر الدين العاملي، و الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، و السيد جواد العاملي و غيرهم، أشهر مؤلّفاته: كتاب المصابيح في الفقه، الدرّة النجفية، الفوائد الرجالية، ديوان شعر كبير، الفوائد الاصولية و غير ذلك، توفّي في شهر رجب سنة 1212 ه، و دفن بجوار شيخ الطائفة الإمام الطوسي قدّس سرّهما العزيز. انظر الفوائد الرضوية: 676، طرائف المقال 2: 377، الكنى و الألقاب 2: 67، مستدرك الوسائل 3: 383.

ص: 9

الحكم في مورده، و جعل قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

دليلًا على الدليل، نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة، على ما نقل عنه العلّامة الأنصاريّ (1)، و استشكل عليه بما هو غير وارد عليه بعد التأمّل فيما ذكرنا فراجع (2).

تنبيه في ضابط المسألة الاصولية و أنَّ الاستصحاب منها

يظهر من العلّامة الأنصاري هاهنا أنَّ المناط في كون المسألة اصوليّة أن يكون إجراؤها في مواردها مختصاً بالمجتهد، و أن لا يكون للمقلِّد حظّ فيها، و بنى عليه كون الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مسألة اصوليّة(3).

و لا يخفى ما فيه: فإنَّ كثيراً من المسائل الفقهيّة و القواعد الفرعيّة لا تكون كذلك، كقاعدة: «ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده» و عكسها؛ فإنَّ الاطلاع على حدود تلك القاعدة و مقدار سريانها لا يمكن إلّا للمجتهد، و لا حظّ للمقلّد فيها، فالمُستفاد من قاعدة «ما لا يضمن» هو أنَّ كلَّ معاملة لا يُضمن بصحيحها لا يُضمن بفاسدها، و بعد تتميم هذه القاعدة يحتاج في تشخيص أنَّ أيّة معاملة لا يُضمن بصحيحها و أيّتها يُضمن إلى اجتهاد.

و بما ذكرنا من المناط في اصوليّة المسألة في مباحث الألفاظ(4) يظهر أنَّ الاستصحاب مسألة اصولية، سواءً اخذ من الأخبار أم لا.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 320 سطر 14 و 18.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 320 سطر 14 و 18.
3- نفس المصدر السابق: 320 سطر 5- 8.
4- انظر مناهج الوصول 1: 51- 54.

ص: 10

ص: 11

فصل حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة

اشارة

قد فصّل العلّامة الأنصاري رحمه اللَّه بين الأحكام الشرعيّة المُستفادة من الدليل الشرعيّ، و المُستفادة من الدليل العقليّ، فذهب إلى عدم الجريان في الثانية.

و محصّل كلامه تقريباً: أنَّ موضوع الأحكام العقليّة بجميع قيوده معلوم مُفصّل لدى العقل، و لا يُعقل طروّ الشكّ في موضوع حُكمه، و تكون تمام الحيثيّات- حتّى عدم الرافع- من قيود الموضوع، و تكون مناطات أحكامه معلومة مُفصَّلة، و الأحكام الناشئة من إدراك تلك المناطات مُفصّلة مُبيّنة، لا يحوم حولها الشكّ إلّا من حيث الشكّ في عنوان الموضوع، فالشكّ و إن كان في الرافع يرجع إلى الشكّ في تبدّل عنوان الموضوع.

و بالجملة: حُكم العقل بحسن عنوان أو قُبحه ممّا لا يتبدَّل مع حفظ ذاك العنوان، و مع الشكّ في تبدّل العنوان لا يكون للعقل حُكم جزماً، فاستصحاب حُكم العقل مع القطع بعدمه لا معنى له.

و كذا لا يجري استصحاب الحكم الشرعيّ المُستكشف منه؛ لأنَّ الحكم المُستكشف أيضاً يكون للعنوان الذي أدرك العقل مناطه فيه، فيكون الحكم الشرعيّ

ص: 12

التابع للحكم العقليّ مُتعلّقاً بعين العنوان الذي يكون الحكم العقليّ مُتعلّقاً به، فلا يمكن طروّ الشكّ مع بقاء الموضوع، فلا بُدَّ فيه من الشكّ في تبدّله، فلا يبقى موضوع الاستصحاب.

هذا في الأحكام العقليّة و الشرعيّة المُستفادة من حُكم العقل.

و أمّا المُستفادة من الأدلَّة الشرعيّة، فجريان الاستصحاب- بناءً على كونه دليلًا ظنيّاً- مُمتنع؛ لعين ما ذكرنا.

و أمَّا بناءً على أخذه من الأخبار فلا مانع منه؛ فإنَّه تابع لتحقّق موضوعه و معروضه عُرفاً، فقد يحكم الشارع بحرمة شي ءٍ، و يشك في الآن الثاني في بقاء مناطه مع بقاء الموضوع عُرفاً، فيستصحب الحكم الشرعيّ (1) انتهى.

الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري و جوابها

و أورد عليه جُلُّ من تأخّر عنه تارة: بأنّا لا نسلّم لزوم تبيّن موضوع حكم العقل و مناطه؛ لإمكان أن يكون العقل قاطعاً بوجود المناط في موضوع مركّب من امور، أو مُقيّد بقيود على سبيل الإجمال و الإهمال، و لم يكن ما تعلّق به المناط مُفصّلًا عنده، فإذا زال قيد أو جزء غير مقوّم له يشكّ في بقاء ما هو المناط، فلا يجري استصحاب نفس الحُكم العقليّ، و لكن جريان الحكم المُستكشف منه ممّا لا مانع منه مع بقاء الموضوع عُرفاً؛ لاحتمال بقاء المناط في الناقص (2).

و اخرى بأنَّ المُلازمة بين حُكم الشرع و العقل- موضوعاً و مناطاً- إنّما هي في


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 325 سطر 1 و 378 سطر 7.
2- حاشية الآخوند على الرسائل: 176 سطر 23، فوائد الاصول: 4: 321 و 451، أجود التقريرات 2: 352 سطر 10، نهاية الأفكار 4: 22 و 23، درر الفوائد: 516.

ص: 13

مقام الكشف و الدلالة، لا بحسب الواقع، فيحتمل أن يكون هناك ملاك آخر بحسب الثبوت قائم بالناقص، غير المناط القائم بالكامل (1).

و ثالثة: بأنَّ مناط الحكم الشّرعيّ يمكن أن يكون قائماً بالأعمّ ممّا قام به مناط الحكم العقليّ، فتكون دائرة حكمه أوسع؛ أي يكون مناط الحكم العقليّ في الواجِد للخصوصيّة، و مناط الحكم الشرعيّ في الأعمّ من الواجد و الفاقد، و مع فقد الخصوصيّة الغير المقوّمة للموضوع عرفاً يستصحب؛ لاحتمال بقاء الحكم الشرعيّ (2).

أقول: لا يخلو شي ء من الإشكالات من نظر:

أمّا الأوّل: فلعدم تعقّل كون العقل جازماً بالمناط في موضوع مركّب على سبيل الإجمال و الإهمال؛ لأنَّ من شأن العقل أن يحلّل المركّب و المقيّد إلى أجزاء و قيود بسيطة، فيلاحظ كلّ جزءٍ من غير انضمامه إلى الآخر، و المقيّدَ و القيدَ من غير انضمام كلّ إلى الآخر، فإذا لاحظ جزءاً فإمّا أن يدرك فيه الملاك أو لا، فإن أدرك فيه فإمّا أن يدرك فيه تمام الملاك أو بعضه:

فعلى الأوّل: يحكم بأنَّ هذا الجزء تمام الموضوع، و سائر الأجزاء كالحجر إلى جنب الإنسان.

و على الثاني: يلاحظ الأجزاء واحداً بعد واحد حتّى يطّلع على ما هو تمام مناط حكمه مُنضمّاً إلى هذا الجزء.

و إن لم يدرك فيه الملاك: يقطع بأنَّ حكمه بالحسن أو القبح غير ناش منه؛ فإنَّ الملاك المشكوك فيه لا ينتج الحكم المقطوع به بالبداهة، فالإجمال في حكم العقل ممّا لا يعقل.


1- حاشية الآخوند على الرسائل: 177 سطر 9، كفاية الاصول: 438 سطر 3، أجود التقريرات 2: 352 سطر 14، نهاية الأفكار 4: 21 سطر 6 و 23 سطر 2.
2- كفاية الاصول: 438 سطر 5، فوائد الاصول 4: 322 و 451، حاشية الكفاية( تقريرات السيّد البروجردي) 2: 343.

ص: 14

و بعبارة اخرى أنَّ حكم العقل دائماً إنّما يتعلّق بالعناوين الكلّية المُبيّنة عنده، و عروض التركيب الخارجيّ لا يوجب الإهمال و الإجمال في موضوعه تأمّل (1).

و أمّا الثاني: فلأنَّ الناقص إذا كان له ملاك آخر تامّ، يكون موضوعاً مُستقلّاً لحكم مستقلّ شرعيّ، كما أنَّ التامّ مع وجود الملاك التامّ فيه يكون موضوعاً لِحكم آخر مُستقل؛ لأنَّ موضوعات الأحكام تلاحظ مجرّدة عن اللّواحق الغريبة في مقام تعلّق الأحكام بها، فالناقص- بما أنَّه شي ء بحياله- قائم به الملاك، ملحوظ في مقام الموضوعيّة، و يتعلّق به حكم، و التامّ أيضاً كذلك، فلا يجري الاستصحاب فيه؛ للعلم بزوال الحكم الأوّل، و الشكّ في وجود حكم آخر.

و جريان استصحاب الحكم الكلّي في المقام (2) ممنوع، و لو على تسليم جريانه في الجملة؛ لأنَّ الجامع بين الحكمين غير مجعول، بل المجعول هو كلّ واحد منهما مُستقلّاً مُتعلّقاً بموضوعه، و الجامع أمر انتزاعيّ عقليّ غير متعلّق للجعل، و لا موضوع لأثر شرعيّ، و في مثله لا يجري الاستصحاب.

و ممّا ذكرنا يتّضح الإشكال في الثالث؛ فإنَّ العقل إذا أدرك المناط التامّ لموضوع يدرك أنَّ حكم الشرع تعلّق بهذا الموضوع بما هو هو، مع قطع النظر عن كليّة اللّواحق، و مع التجريد عنها، و إذا كان بحسب الواقع مناط قائم بعنوان أعمّ منه، لا بدّ و أن يتعلّق به حكم آخر مستقلّ غير مرتبط بالحكم المُتعلّق بالعنوان الأخصّ، فالإشكال الوارد على الثاني وارد عليه أيضاً.


1- وجهه: أنَّ العقل لا يحيط بجميع وجوه الأشياء و جميع المناطات، فحينئذٍ يمكن الحكم بحسن موضوع مركّب من عدّة امور من باب القدر المتيقّن، و مع ذهاب بعض الأجزاء أو الحيثيّات يستصحب الحكم الشرعيّ المستنبط من العقليّ، كما أفاد المشايخ رحمهم اللَّه منه قدّس سرّه .
2- انظر نهاية الأفكار 4: 26 و 27.

ص: 15

في تحقيق الحال في المقام

هذا، و التحقيق في المقام أن يقال: إنَّه لو سلّمنا أنَّ العناوين المُبيّنة المُفصّلة- التي يدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها- إنَّما تكون في نظر العقل مع التجرّد على كافّة اللّواحق و العوارض الخارجيّة حسنة أو قبيحة ذاتاً، فلا يمكن أن يشكّ العقل في حكمه المُتعلّق بذلك العنوان المدرك مناطه.

و لكن تلك العناوين الحسنة و القبيحة قد تصدق على موضوع خارجيّ؛ لأنَّ الوجود الخارجيّ قد يكون مجمع العناوين المُتخالفة، فالعناوين المُتكثّرة المُمتازة في الوجود العقليّ التحليليّ قد تكون مُتّحدة غير مُمتازة في الوجود الخارجيّ، و يكون الوجود الخارجيّ بوحدته مصداقاً للعناوين الكثيرة، و تحمل عليه حملًا شائعاً، فإذا صدقت عليه العناوين الحسنة و القبيحة يقع التزاحم بين مناطاتها، و يكون الحكم العقليّ في الوجود الخارجيّ تابعاً لما هو الأقوى بحسب المناط.

مثال ذلك: أنَّ الكذب بما أنَّه كذب- مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجيّ- قبيح عقلًا، و إنجاء المؤمن من الهلكة حسن، و كلّ من الحسن و القبح ذاتيّ بالنسبة إلى عنوانه بما أنَّه عنوانه، و لكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجيّ إذا صدقا عليه، فيرجّح ما هو أقوى ملاكاً و هو الإنجاء، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجيّ المنجي مع كونه كذباً.

و كذا إيذاء الحيوان بما أنَّه حيوان قبيح عقلًا، و دفع المؤذي حسن لازم عقلًا، و في صورة صدقهما على الموجود الخارجيّ يكون الحسن أو القبح تابعاً لما هو أقوى مناطاً.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنَّه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجيّ، من غير أن يصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجيّ حَسَناً محضاً حُسْناً ملزماً،

ص: 16

فيكشف العقل منه الوجوب الشرعيّ، ثمّ يشكّ في صدق عنوان قبيح عليه ممّا هو راجح مناطاً، فيقع الشكّ في الموضوع الخارجيّ بأنَّه حسن أو قبيح، و قد يكون بعكس ذلك.

مثال الأوّل: أنَّ إنقاذ الغريق حسن عقلًا، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقل بلزوم إنقاذه، و يكشف الحكم الشرعيّ بوجوبه، ثمَّ يشكّ في تطبيق عنوان السابّ للَّه و رسوله عليه في حال الغرق، و حيث يكون تطبيق هذا العنوان عليه ممّا يوجب قبح إنقاذه، و يكون هذا المناط أقوى من الأوّل أو دافعاً له، فيشكّ العقل في حسن الإنقاذ الخارجيّ و قبحه، و يشكّ في حكمه الشرعيّ.

مثال الثاني: أنَّه قد يكون حيوان غير مؤذٍ في الخارج، فيحكم العقل بقبح قتله، ثمّ يشكّ بعد بلوغه في صيرورته مؤذياً، فيشكّ في حكمه الشرعيّ، فاستصحاب الحكم العقليّ في مثل المقامات ممّا لا مجال له؛ لأنَّ حكم العقل مقطوع العدم، فإنَّ حكمه فرع إدراك المناط، و المفروض أنَّه مشكوك فيه.

و أمّا الحكم الشرعيّ المستكشف منه- قبل الشكّ في عروض العنوان المزاحم عليه- فلا مانع من استصحابه، إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجيّ لا يضرّان ببقاء الموضوع عرفاً، كالمثالين المُتقدّمين؛ فإنَّ عنوان السابّ و المؤذي من الطوارئ الّتي لا يضرّ عروضها و سلبها ببقاء الموضوع عرفاً.

فتلخّص ممّا ذكرنا: جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المُستكشفة من الحكم العقليّ.

ص: 17

فصل حول التفصيل بين الشكّ في الرافع و المقتضي

اشارة

ما ذكرناه في الفصل السابق أحد تفصيلي العلّامة الأنصاريّ في الاستصحاب، و ثانيهما: هو التفصيل بين الشكّ في المُقتضي و الشكّ في الرافع، فاختار عدم الجريان في الأوّل (1).

و لمّا كانت هذه المسألة مهمّة بحسب الآثار الفقهية، و من مطارح أنظار المُحقّقين المُتأخّرين عنه، فلا بد من بسط الكلام فيها حتّى يتّضح ما هو الحقّ:

فنقول: الظاهر من كلمات الشيخ أنَّ مراده من المُقتضي في مقابل الرافع هو ما يكون معروفاً بين الأعلام (2): من أنَّ المُستصحب إذا كان له استعداد بقاء و استمرار، و اقتضاء دوام و قرار، و شكّ في حدوث أمر رافع له، يكون من الشكّ في الرافع، و أمّا إذا شكّ في مقدار استعداد بقائه و قابليّة دوامه، و كان الشكّ في زواله من ناحية ذلك، فيكون من الشكّ في المُقتضي، و ليس مراده من المُقتضي هو مناطات الأحكام،


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 328 سطر 17.
2- انظر مشارق الشموس: 76 سطر 11، و درر الفوائد: 521، و نهاية الأفكار 4: 78 و غيرها.

ص: 18

و لا المُقتضي في باب الأسباب و المُسبّبات الشرعيّة، كالعقد المُقتضي للملكيّة، و الوضوء المُقتضي للطهارة.

و ما ذكرنا هو الظاهر من كلامه في موارد(1)، و المعروف من مذهبه، و إن أوهم خلافه ما صرّح به في ذيل قول المحقّق في «المعارج» في حجّة القول التاسع: بأنَّ كلام المحقّق يرجع إلى مختاره لو كان مراده من دليل الحكم في كلامه- بقرينة تمثيله بعقد النكاح- هو المقتضي، و يكون حكم الشكّ في وجود الرافع حكم الشكّ في رافعيّة الشي ء(2).

فإنَّ مراد المُحقّق من المُقتضي هو الذي في باب الأسباب و المُسبّبات الشرعيّة، كعقد النكاح المُقتضي للحلّية، و مرادَه من الرافع هو رافع هذا الاقتضاء، كما هو صريح ذيل كلامه (3)، و هذا الذيل يمكن أن يكون قرينة على أنَّ مراده من دليل الحكم في الصدر هو المُقتضي كما أفاد الشيخ.

فحينئذٍ: لو رجع كلام المُحقّق إلى مختار الشيخ لكان مراده أيضاً من المقتضي هو الذي في باب الأسباب و المُسبّبات.

و لكنّ الظاهر من كلامه في ذيل أخبار الاستصحاب ما هو المعروف


1- كما في رسائل الشيخ الأنصاري: 326 سطر 5 و 336 سطر 10 و 340 سطر 4 و غيرها.
2- نفس المصدر السابق: 361 سطر 7.
3- معارج الاصول: 210. و المحقق الحلي: هو الشيخ الإمام الفقيه أبو القاسم جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحيى بن سعيد الهذلي الحلّي، ولد سنة 602 ه، و نشأ في بيت عريق في العلم باذخ بالمجد، أخذ الفقه عن والده الشيخ الحسن بن يحيى، و السيد شمس الدين فخار بن معد الموسوي، و الشيخ الفقيه نجيب الدين محمّد بن جعفر بن نما الحلّي الربعي، و السيد نجم الدين محمّد بن زهرة و آخرين، و تفقّه به أعاظم منهم: الإمام العلّامة الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، و الشيخ الحسن بن داود الحلّي، و العلّامة الأديب صفي الدين الحلي، و جلال الدين محمّد بن محمّد الكوفي الهاشمي الحارثي، توفّي في شهر ربيع الآخر سنة 676 ه، و ترك آثاراً جليلة منها: المعارج في اصول الفقه، نهج الوصول إلى علم الاصول، شرائع الإسلام، النافع في مختصر الشرائع، المسلك في اصول الدين و غير ذلك. انظر قاموس الرجال 2: 378، نقد الرجال: 69/ 20، رجال ابن داود: 62/ 304.

ص: 19

من مذهبه (1)، فبناءً عليه لا يرجع كلام الشيخ إلى كلام المُحقّق فإنَّ المحقّق ذهب:

إمّا إلى إنكار الاستصحاب مطلقاً إن كان مراده من دليل الحكم هو إطلاق الأدلّة أو عمومها، و من الشكّ في الرافعيّة هو الشكّ في التقييد أو التخصيص.

أو كان مراده من المُقتضي و الرافع هو قاعدة المُقتضي و المانع كما حمل الشيخ كلامه عليه أوّلًا(2).

أو إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقتضي- أي السبب الشرعيّ- قد اقتضى المُسبّب مُطلقاً، كعقد النكاح الذي اقتضى الحلّية مُطلقاً، و شك في ألفاظ أنّها رافعة له أم لا، فيستصحب حكم المُقتضي إلى أن يعلم الرافع، و لا يرجع شي ء ممّا ذكر إلى ظاهر كلام الشيخ و ما هو المعروف من مذهبه.

فما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه (3): من أنَّ التأمّل في كلام المُحقّق و الشيخ يعطي أنَّ مرادهما من المُقتضي هو مقدار استعداد المُستصحب (4) ناش من عدم التأمّل في كلام المُحقّق، فراجع كلامه المنقول من «المعارج» اللّهم إلّا أن يكون مراده من


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 10.
2- نفس المصدر: 329 سطر 6 و 7.
3- بعض أعاظم العصر المقصود منه هو: الإمام الفقيه الشيخ محمّد حسين ابن الشيخ عبد الرحيم النائيني النجفي، ولد في سنة 1277 ه في بلدة نائين من نواحي مدينة يزد، قرأ على الشيخ محمّد باقر ابن الشيخ محمّد تقي الأصفهاني و الميرزا محمّد حسن النجفي، و الميرزا أبي المعالي، و السيد إسماعيل الصدر، و الإمام الشيخ محمّد حسن الشيرازي، و أمّا تلاميذه فكثيرون نذكر منهم: المغفور له آية اللَّه العظمى السيد الخوئي، و الفقيه الكبير الشيخ موسى الخوانساري، و المحقق الفقيه الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، و السيّد جمال الدين الگلپايگاني، و الفقيه الكبير الشيخ حسين الحلي و غيرهم. توفّي بالنجف الأشرف 26 جمادى الأولى سنة 1355 ه، و ترك مؤلّفات جمّة منها: تقريرات عنه في الاصول، و رسالة في نفي الضرر، و تنبيه الامّة، و رسالة في أحكام الخلل في الصلاة و غيرها. انظر أعيان الشيعة 6: 54، معارف الرجال 1: 284/ 140، نقباء البشر 2: 593/ 1021.
4- انظر فوائد الاصول 4: 325.

ص: 20

المحقّق هو الخوانساري (1)، لكنّه خلاف ظاهر كلامه.

ثمّ إنَّه توهّم أمراً آخر: و هو أنَّه لو كان المُراد من المُقتضي هو ملاك الأحكام أو المُقتضي في باب الأسباب و المُسبّبات بحسب الجعل الشرعيّ تأسيساً أو إمضاء، للزم- مع عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المُقتضي- سدّ باب جريان الاستصحاب مُطلقاً، و هو مساوق للقول بعدم الحُجّية مطلقاً؛ فإنَّه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم، أو إحراز بقاء المُقتضيات الشرعيّة في باب الأسباب و المُسبّبات لمن لا يوحى إليه إلّا من طريق الأدلّة الشرعيّة؛ فإنَّه لا يمكن إثبات كون الوضوء المُتعقّب بالمذي، و النكاح المُتعقّب بقول الزوج «أنت خليّة» مقتضيين لبقاء الطهارة و علقة الزوجيّة، فما من مورد إلّا و يشكّ في المُقتضي بأحد الوجهين (2) انتهى.

و أنت خبير بما فيه: فإنَّ الاقتضاء بالمعنى المعروف من الشيخ لا طريق إلى إحرازه في الأحكام الشرعيّة أيضاً إلّا من قبل الدليل الشرعيّ، كما اعترف به فيما بعد، فلو دلّ الدليل الشرعيّ على أنَّ الحكم الفلاني مستمرّ ذاتاً لو لا الرافع إلى الأبد، أو إلى غاية كذائيّة، يستكشف منه المُقتضي بمعنى الملاك، فلا يكون الشكّ حينئذٍ في بقائه من قبيل الشكّ في المقتضي، لا بالمعنى المعروف، و لا بمعنى الملاك.

و بالجملة: لمّا لا يكون حكم إلّا عن ملاك، فأصل الحكم يكشف عن أصل


1- يأتي تخريجه في صفحة 29. و المحقق الخوانساري: هو الشيخ الحسين بن جمال الدين محمّد بن الحسين الخوانساري الأصفهاني، فقيه متضلّع، و متكلّم محقّق، و حكيم كبير، مشهور الاسم، بعيد الصيت، حسن الشعر و الإنشاء بالعربية و الفارسية، انتهت رئاسة الشيعة في زمانه إليه، ولد سنة 1016 ه، و توفيّ سنة 1098 ه، له تلامذة أجلاء منهم: ولده الشيخ جمال الدين محمّد، و أخوه رضي الدين محمّد، و المدقق الشيرواني، و المولى محمّد بن عبد الفتاح التنكابني و له مؤلّفات كثيرة منها: مشارق الشموس في شرح الدروس، الجواهر و الأعراض، حاشية على شرح الإشارات، رسالة في التشكيك، تفسير سورة الفاتحة، و غير ذلك. انظر أعيان الشيعة 6: 148، رياض العلماء 2/ 57، جامع الرواة 1: 235.
2- فوائد الاصول 4: 325 و 326.

ص: 21

الملاك، و استمراره عن استمراره، و كذا الاقتضاء في باب الأسباب و المُسبّبات إنّما يستكشف من الأدلّة الشرعيّة، فكما أنَّ إحراز المُقتضي للبقاء و مقدار استعداد المُستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل، كذلك إحرازه بالمعنيين الآخرين.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ المُقتضي بأيّ معنىً كان لا يوجب سدّ باب الاستصحاب- لو قيل بعدم جريانه- إلّا في الشكّ في الرافع، كما اتّضح أنَّ المُقتضي في كلام المُحقّق غير ما هو المعروف من مذهب الشيخ.

في ذكر أخبار الاستصحاب

اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا: فالذي اعتمد عليه الشيخ في التفصيل المذكور هو دعوى ظهور أخبار الباب فيه (1) فلا بد من ذكرها، و تذييل كلّ منها بما يناسبه، و ما يمكن أن يكون مستنداً له:

[فمنها: صحيحة الاولى لزرارة]

اشارة

فمنها:

ما عن محمّد بن الحسن (2) بإسناده عن الحسين بن


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 8 و 361 سطر 1 و 2.
2- هو الإمام الكبير و الفقيه الشهير الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة على الإطلاق، كان إماماً في التفسير و الاصول و الرجال و الحديث، من أعيان الأئمّة و أعلامها، الذي له المكانة السامية الراسية عند الامة، و المنزلة الكبرى في الرئاسة و السؤدد، صاحب التصانيف المفيدة الممتعة التي لا تزال في طليعة المراجع الإسلامية، و مناقبه كثيرة، و فضائله مشهورة، و بركاته معروفة، كان مولده سنة 385 ه في طوس، و تفقّه على عَلم الشيعة الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، و عَلم الهدى الإمام السيد أبي القاسم علي بن الحسين المرتضى، و الشيخ أبي عبد اللَّه أحمد بن عبد الواحد البزّاز، و الشيخ أبي عبد اللَّه الحسين بن عبيد اللَّه بن الغضائري و خلائق، و تخرَّج به جماعة منهم: الفقيه آدم بن يونس النسفي، و الشيخ محمّد بن علي الكراجكي، و الشيخ محمّد بن أبي القاسم الطبري، و الشيخ الفقيه سعد الدين بن البراج، و الشيخ الفقيه سليمان بن الحسن الصهرشتي و آخرون، توفّي في الثاني و العشرين من المحرّم سنة 460 ه. انظر تنقيح المقال 3: 104/ 10563، سفينة البحار 2: 97، الأعلام للزركلي 6: 84.

ص: 22

سعيد(1) عن حمّاد(2) عن حَريز(3) عن زُرارة(4) قال قلت له: الرجل ينام و هو على وضوء، أ توجب الخفقة(5) و الخفقتان عليه الوضوء؟

فقال: (يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، و إذا نامت العين و الاذن و القلب وجب الوضوء).

قلت: فإن حُرِّك إلى جنبه شي ء و لم يعلم به؟

قال: (لا حتّى يستيقن أنَّه قد نام، حتّى يجي ء من ذلك أمرٌ بيّن، و إلّا فإنَّه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ، و إنّما ينقضه بيقين آخر)

(6).


1- الحسين بن سعيد: ابن حماد بن سعيد بن مهران الأهوازي، من أصحاب الإمام الرضا و الإمام الجواد و الإمام الهادي عليهم السلام، كان جليل القدر، عظيم المنزلة، أوسع أهل زمانه علماً بالفقه و الآثار و المناقب و غير ذلك من علوم الشيعة، صاحب المصنّفات المعتمدة المعوّل عليها عند الطائفة، أصله كوفيّ و انتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز ثمَّ تحوَّل إلى قم و توفّي فيها، روى عن أبان بن عثمان، و إبراهيم بن أبي محمود، و الحسن بن علي الوشاء، و عبد اللَّه بن مسكان، و محمَّد بن إسماعيل بن بزيع و خلق، و عنه إبراهيم بن هاشم، و بكر بن صالح، و سعد بن عبد اللَّه، و علي بن مهزيار و آخرون. انظر رجال الشيخ الطوسي: 372/ 17 و 399/ 1 و 412/ 6، الفهرست للشيخ الطوسي: 58/ 220، الفهرست لابن النديم: 277، معالم العلماء: 40/ 257.
2- حمّاد: هو أبو محمّد بن عيسى الجهني البصري، أصله من الكوفة و سكن البصرة، و كان ثقة في حديثه صدوقاً، و ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، و أقرّوا له بالفقه، عدَّه الشيخ في أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، مات غريقاً بوادي قناة بالمدينة سنة 209 ه، و له نيف و تسعون سنة. انظر رجال النجاشي: 142/ 370، رجال الشيخ الطوسي: 174/ 152 و 346/ 1، التحرير الطاوسي: 150/ 114، رجال البرقي: 21 و 48 و 53.
3- حريز: هو ابن عبد اللَّه السجستاني أبو محمد الأزدي، من أهل الكوفة، عدَّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، روى عن إسحاق بن عمّار، و بريد بن معاوية، و بكير بن أعين، و سدير الصيرفي، و آخرين، و روى عنه أيوب بن نوح، و خلف بن حمّاد، و صفوان بن يحيى، و محمّد بن سنان و غيرهم. انظر رجال الشيخ الطوسي: 181/ 275، رجال ابن داود: 71/ 393، مجمع الرجال 2: 92.
4- زرارة: هو ابن أعين الشيباني أبو الحسن، شيخ أصحابنا في زمانه و متقدّمهم، و كان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل و الدين، صادقاً فيما يرويه، و ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:( لو لا زرارة لظننت أنَّ أحاديث أبي عليه السلام ستذهب) و في قول آخر له عليه السلام:( فإذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس) و أومأ إلى زرارة، مات رضوان اللَّه تعالى عليه سنة 150 ه. انظر رجال النجاشي: 175/ 463، اختيار معرفة الرجال 1: 345، تنقيح المقال 1: 438/ 4213.
5- الخفقة: يقال خفق برأسه خفقة أو خفقتين إذا أخذته سِنَة من النعاس، فمال برأسه دون سائر جسده. مجمع البحرين 5: 154- خفق.
6- التهذيب 1: 8/ 11، الوسائل 1: 174/ 1 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 23

و الظاهر أنَّ لزرارة كانت أوّلًا شبهة حكميّة، و لم يعلم أنَّ الخفقة و الخفقتين تنقضان الوضوء:

إمّا للشكّ في مفهوم النوم، و أنه هل يشمل الخفقة و الخفقتين أم لا.

و إمّا للشكّ في كونهما ناقضتين مُستقلّتين مع علمه بعدم دخولهما تحت عنوان النوم.

و إمّا للشكّ في أنَّ النوم الناقض هل هو النوم الغالب على الحواسّ، أو الأعمّ منه و من الخفقة و الخفقتين اللتين هما من المراتب الضعيفة للنوم، مع القطع بدخولهما تحت عنوانه.

فعلى هذا يكون معنى قوله: «الرجل ينام» إمّا أنَّه تحقّق منه النوم حقيقة، و لكن لا يعلم أنَّ النوم الناقض ما هو، و إمّا أنَّه دخل في فراش النوم و اضطجع فيه و تهيّأ له؛ فإنَّه يقال: إنَّه ينام.

و بالجملة: تكون الشبهة في الفقرة الاولى حكميّة و أجاب الإمام عليه السلام: بأنَّ النوم الغالب على العين و القلب و الاذن موجب للوضوء.

ثمّ حدثت شبهة اخرى له: بأنَّ النوم الغالب على تلك الحواسّ ممّا لا سبيل له إليه إلّا بالأمارات، فذكر بعض الأمارات الظنّية، مثل حركة شي ء إلى جنبه، و أنّها أمارة شرعيّة على النوم في صورة الشكّ في تحقّق النوم أو لا؟

فأجاب: بأنَّه

(لا، حتّى يستيقن أنَّه قد نام، و يجي ء من ذلك أمرٌ بيّن).

و أمّا قوله:

(و إلّا فإنَّه على يقين من وضوئه ...)

إلى آخره، ففيه احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أنَّ الجزاء محذوف؛ أي إن لم يستيقن أنَّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، و قوله:

(فإنَّه على يقين ...)

إلى آخره صغرى و كبرى و تعليل للجزاء(1)، و هذا


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 329 سطر 22.

ص: 24

اظهر الاحتمالات، و يستفاد منها حينئذٍ قاعدة كلّية؛ بدعوى أنَّ الظاهر منه كونه بصدد بيان قاعدة كلّية، و ذكر الوضوء إنّما هو لكونه مورد السؤال، لا لدخله في موضوع الحكم (1).

بل يمكن أن يقال: إنَّه مع الشكّ في قيديّته لا ترفع اليد عن ظاهر قوله:

(و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ)

(2).

و يمكن الخدشة في الدعويين: بأنَّ إلقاء القاعدة الكلّية المستفادة من اختلاف المعلول و العلّة في المقام لا يقتضي السراية لغير باب الوضوء، و يصحّ التعليل و القياس بعد كون المورد ناقضاً واحداً هو النوم، فإلقاء القاعدة الكلّية لإفادة تمام موارد باب الوضوء.

و أمّا الدعوى الثانية: فغير وجيهة؛ لأنَّ الكلام المحفوف بما يصلح للقرينيّة لا يمكن فهم القاعدة الكلّية منه، و إن شكّ في قرينيّة الموجود.

و بالجملة: لا يمكن الأخذ بالإطلاق مع الشكّ في قرينيّة ما يحفّ بالكلام، و أمّا إلغاء الخصوصيّة بمناسبة الحكم و الموضوع (3) فهو حقّ سيأتي بيانه على جميع التقادير.

و لكن هاهنا شبهة: و هي أنَّ الظاهر على هذا الاحتمال أنَّ قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

يكون صغرى لقوله:

(و لا ينقض اليقين بالشكّ)

فأراد الإمام عليه السلام إجراء استصحاب الوضوء، مع أنَّه محكوم باستصحاب عدم النوم الناقض؛ لأنَّ الشكّ في الوضوء ناش من الشكّ في حصول الناقض، و أصالة عدم حصوله مقدّمة على استصحاب الوضوء(4).


1- فوائد الاصول: 4: 335، نهاية الأفكار 4: 41 و 42.
2- انظر كفاية الاصول: 442، فوائد الاصول 4: 337.
3- فوائد الاصول 4: 339 و 340، نهاية الأفكار 4: 43.
4- قد دفعنا تلك الشبهة بما هو الموافق للتحقيق في باب تقدّم الأصل السببيّ على المسبّبي و بيّنا سرّ تقدّمه فراجع منه قدس سرّه . انظر نهاية الأفكار 4: 39، و سيأتي بيان ذلك في صفحة 251 و 252.

ص: 25

كما أنَّ الظاهر من قوله:

(حتّى يستيقن أنَّه قد نام)

أنَّه تمسّك بأصالة عدم النوم، مع أنَّ جريان الأصل المحكوم- مقدّماً على الحاكم أو في عَرْضه- خلاف التحقيق.

و يمكن أن يجاب: بأنَّه عليه السلام كان بصدد بيان جواب المسألة؛ أي شبهة نقض الوضوء و عدمه، لا بنحو الصناعة العلميّة، و أنَّ نكتة عدم وجوب الوضوء- بعد كونه على يقين من وضوئه و يقين من عدم نومه- هي جريان الأصل الحاكم أو المحكوم.

نعم: أفاد زائداً على جواب الشبهة: بأنَّ هذا ليس مُختصّاً بباب الوضوء، بل الميزان هو عدم نقض اليقين بالشكّ، و هذا كجواب المُفتي للمستفتي في نظير المسألة، مع إرادة المُفتي إلقاء قاعدة كلّية تفيده في جميع الموارد، لا بيان المسألة العلميّة، و كيفيّة جريان الاصول، و تمييز حاكمها من محكومها، فلا محيص حينئذٍ إلّا من بيان نتيجة المسألة؛ و أنَّ الوضوء المتيقّن لا ينقض بالشكّ في النوم، و أمّا كون عدم نقضه لجريان أصالة بقاء الطهارة، أو أصالة عدم الناقض للوضوء، فهو أمر غير مرتبط بالمستفتي؛ فإنَّ منظوره بيان تكليفه من حيث لزوم الإعادة و عدمه، لا الدليل عليه موافقاً للصناعة.

لا يقال: إنَّ النوم و الوضوء ضدّان، و أصالة عدم الضدّ لا تثبت الضدّ الآخر، فلا محيص إلّا من إجراء استصحاب الوضوء.

فإنه يقال: إنَّ النوم من النواقض الشرعيّة للوضوء، لا من الأضداد التكوينيّة، فالتعبّد بعدم تحقّق الناقض للوضوء تعبّد ببقاء الوضوء شرعاً، و يرفع الشكّ ببقاء الوضوء تأمّل (1).

فتحصّل من ذلك: أنَّ معنى الرواية على هذا الاحتمال: «أنَّه إن لم يستيقن أنَّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء؛ لأنَّه على يقين منه، و كلّ من كان على يقين من شي ء لا ينقض يقينه بالشكّ أبداً».


1- وجهه ما يأتي في باب الاستصحاب في باب الأصل السببي و المسبّبي منه قدّس سرّه . و ذلك في صفحة 251 و 252.

ص: 26

الاحتمال الثاني: و لعلّه أقرب الاحتمالات، أن يكون الجزاء المُقدّر غير ما ذكره الشيخ (1) و يكون قوله:

(و إلّا)

راجعاً إلى قوله:

(لا حتّى يستيقن)

فيكون المُقدّر: «و إن وجب قبل الاستيقان لزم نقض اليقين بالشك»، و قوله:

(فإنَّه على يقين)

قرينة على المُقدّر، و بيان لفساد نقض اليقين بالشكّ و لزومه أيضاً، و عليه تكون استفادة الكلّية أقرب و أوفق بفهم العرف.

الاحتمال الثالث: أنَّ الجزاء هو قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

فحينئذٍ لا بدّ من تقدير، كقوله: «فيجب البناء على يقين من وضوئه» أو «يجري على يقينه» أو يكون ذلك كناية عن لزوم البناء العمليّ على اليقين (2).

و أمّا القول بأنَّ الجزاء هو نفس قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

من غير تقدير بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائيّة(3)، فهو في غاية الضعف؛ فإنَّ قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

لو صدر بداعي الإنشاء يصير المعنى: فليحصِّل اليقين بالوضوء مع أنَّ البعث إلى تحصيله خلاف المقصود، أو يكون المُراد إنشاء تحقّق اليقين في زمان الشكّ اعتباراً و تعبّداً، فلا يتناسب مع قوله:

(و لا ينقض اليقين بالشكّ)

؛ لأنَّ اعتبار إلغاء الشكّ مع اعتبار بقائه متضادّان.

و تأويل هذه الإخباريّة إلى الإنشائيّة لا يوجب أن يكون المعنى: «أنَّه يجب البناء العمليّ على طبق اليقين بالوضوء»(4) كما يظهر بالتأمّل في أمثالها من الجمل الخبريّة الصادرة بداعي الإنشاء.

فما ادعاه بعض أعاظم العصر قائلًا: إنَّه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو


1- تقدّم تخريجه في صفحة 23.
2- انظر نهاية الأفكار 4: 41.
3- فوائد الاصول 4: 337، نهاية النهاية 2: 172.
4- نهاية الأفكار 4: 41.

ص: 27

نفس قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

بتأويل الجملة الإخباريّة إلى الإنشائيّة- مع جعل الاحتمال المُتقدّم ضعيفاً غايته (1)- لا ينبغي أن يصغى إليه؛ فإنَّه مع كونه خلاف الظاهر، يرد عليه الإشكال المُتقدّم.

و على أيّ حال: لو جعلنا الجزاء ما ذكر بنحو التقدير، أو بجعل الخبريّة إنشائية، لا يمكن استفادة الكبرى الكلّية من الرواية؛ فإنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين بالشك)

حينئذٍ يصير عطفاً على الجزاء، و لا يفيد إلّا مفاده؛ أي يكون عبارة اخرى عن قوله: «فيجب البناء على طبق اليقين بالوضوء»، و لا يصحّ جعله كبرى كلّية؛ للخروج عن قانون المحاورة و طرز الاستدلال؛ فإنَّ قانون الاستدلال على نحوين:

أحدهما: ذكر المُتقدّمتين ثمّ الاستنتاج، فيقال: «الخمر مسكر، و كلّ مسكر حرام، فالخمر حرام» أو يقال: «إنَّه على يقين من وضوئه فشكّ، و كلّ من كان على يقين من شي ء فشكّ يجب البناء على يقينه، فيجب عليه البناء على يقينه من وضوئه».

و ثانيهما: ذكر النتيجة أوّلًا، ثمّ الاستدلال عليها، و حينئذ لا بدّ من تخلل كلمة «لأنَّ» و أمثالها فيقال: «الخمر حرام؛ لأنَّه مسكر»، و يقال: «يجب البناء على اليقين بالوضوء؛ لأنَّه من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشكّ».

فلو جعلنا قوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

جزاء، يكون المعنى: «أنَّه لا يجب عليه الوضوء» أو «يجب عليه البناء العمليّ على يقينه السابق من وضوئه» و هذه نتيجة البرهان، فقوله:

(و لا ينقض اليقين بالشكّ)

لو كان برهاناً عليها لا بدّ و أن يصدّر بما يفيد العلّية، فجعل قوله:

(فإنَّه على يقين)

صغرى للكبرى (2) لا يجتمع مع جعله جزاء للشرط و جملة إنشائيّة(3)؛ فإنَّه على الإنشائيّة يصير نتيجة للبرهان، لا صغرى له.


1- فوائد الاصول 4: 336 و 337. و مراد الإمام قدّس سرّه من الاحتمال المتقدّم هو الاحتمال الأوّل لا الثاني فتأمل.
2- نفس المصدر 4: 335.
3- نفس المصدر 4: 336 و 337.

ص: 28

و العجب من المُحقّق المُتقدّم؛ حيث جمع بين القولين غفلةً عمّا يلزمه، و أعجب منه أنَّه جعل ما قوّاه الشيخ ضعيفاً؛ للزوم التكرار في الجواب من غير تكرّر السؤال (1)، مع أنَّ هذا الإشكال إنّما يلزم على احتماله؛ فإنَّ مُقتضى إنشائيّة الجملة أن يكون المعنى «أنَّه لا يجب عليه الوضوء» و هذا تكرار بلا مُوجب، و أمّا على احتمال الشيخ فلم يذكر الجواب، و ذكر قوله: (و إلّا) توطئة لإقامة البرهان و بيان القاعدة الكلّية.

و كيف كان: فالاحتمال المذكور أسوأ الاحتمالات و أضعفها.

الاحتمال الرابع: أن يكون الجزاء قوله:

(و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ)

و يكون قوله:

(فإنَّه على يقين)

توطئة للجواب (2).

و هذا الاحتمال أقوى من الثاني، و أسلم من الإشكالات، و لا يرد عليه ما تقدم:

من إجراء الأصل المُسبّبيّ مع وجود الأصل السببيّ (3)؛ لأنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين أبداً بالشك)

لا يكون حينئذٍ كبرى لقوله:

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

، بل لقوله «فإن لم يستيقن أنَّه قد نام» المقدّر، المفهوم منه أنَّه على يقين من عدم النوم، مع كونه مفروضاً تأمّل.

هذا، و لكنّه أيضاً خلاف الظاهر؛ لخلوّ الجزاء عن الفاء، و تصدير قوله:

(فإنَّه على يقين)

بها بلا وجه، و كون التوطئة خلاف الاسلوب الكلاميّ، و احتياج ارتباط الشرط و هو قوله:

(و إن لم يستيقن أنَّه قد نام)

مع الجزاء إلى تأويل.

ثمّ إنَّه على هذين الاحتمالين و إن لم يحمل قوله:

(و لا ينقض)

على الكبرى الكلّية كما أشرنا إليه، لكن يمكن استفادة الكلّية؛ بإلغاء الخصوصيّة عرفاً، و مُناسبة الحكم و الموضوع؛ ضرورة أنَّ العرف يرى أنَّ اليقين لكونه مُبرماً مُستحكماً لا ينقض بالشكّ


1- نفس المصدر.
2- انظر كفاية الاصول: 441 و 442.
3- تقدّم في صفحة 24 و 25.

ص: 29

الذي لا إبرام فيه و لا استحكام.

و أمّا ما قيل في مقام التأييد: من أنَّ الظاهر من الكبرى ورودها لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء، و استقرّت عليه طريقتهم (1) فسيأتي ما فيه (2).

تقريبات الأعلام في اختصاص حجّيّة الاستصحاب بالشكّ في الرافع

ثمّ اعلم: أنَّه يظهر من الشيخ و من تبعه- في اختصاص حُجّية الاستصحاب بالشكّ في الرافع- تقريبات في كيفيّة استفادته منها:

أحدها: ما هو ظاهر كلامه في موضعين من «الرسائل»- تبعاً للمحقّق الخوانساري (3)- من أنَّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل، و الأقرب إليه- على فرض المجازيّة- هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاء و الاستمرار، و قد يطلق على مُطلق رفع اليد عن الشي ء و لو لعدم المقتضي له، فالأرجح هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المُستمرّ، فعلى هذا يتقيّد اليقين بما تعلّق بالأمر المُستمرّ، و المُراد من اليقين هو الطريقيّ لا وصفه.

فمحصّل المعنى: «أنَّه لا ينقض المُتيقّن الثابت كالطهارة السابقة» أو «أحكام اليقين الطريقيّ» أي أحكام المتيقّن الكذائيّ المُستمرّ شأناً كنفس المُتيقّن.

و كيف كان: فالمُراد إمّا نقض المُتيقّن، و هو رفع اليد عن مُقتضاه، و إمّا نقض أحكام اليقين؛ أي الثابتة للمُتيقّن من جهة اليقين، و المُراد حينئذٍ منه رفع اليد عنها(4).


1- فوائد الاصول 4: 338، نهاية الأفكار 4: 43.
2- يأتي في صفحة 37.
3- مشارق الشموس: 76 سطر 11.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 9 و 361 سطر 2، و انظر 369 سطر 12.

ص: 30

و ثانيها: ما أفاده بعض المحقّقين (1) في تعليقته على «الرسائل» و هو أنَّ النقض ضدّ الإبرام، و متعلّقه لا بدّ و أن يكون له اتّصال حقيقة أو ادّعاء، و معنى إضافة النقض إليه رفع الهيئة الاتّصاليّة، فإضافته إلى اليقين و العهد باعتبار أنَّ لهما نحو إبرام عقليّ، ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد، و بالترديد في ذلك الاعتقاد.

فحينئذٍ نقول: قد يراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد عن آثار اليقين السابق حقيقة في زمان الشكّ، و هذا المعنى إنّما يتحقّق في القاعدة، و أمّا في الاستصحاب، فليست إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق، بل هي باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المُسامحة و الاعتبار؛ إذ لا ترفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب أصلًا، و إنّما ترفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ.

و ليس هذا نقضاً لليقين، كما أنَّ الأخذ بالحالة السابقة ليس عملًا به، بل هو أخذ بأحد طرفي الاحتمال، فلا بدّ من تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديريّ له؛ بحيث يصدق بهذه المُلاحظة أنَّ الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين، و رفع اليد عنه نقض له.

و معلوم أنَّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفاً، بل لوجوده التقديريّ حينئذٍ وجود تحقيقيّ يطلق عليه لفظ اليقين كثيراً في العرف؛ أ لا ترى أنّهم يقولون: ما عملت بيقيني، و أخذت بقول هذا الشخص الكاذب، و رفعت اليد عن يقيني بقوله.


1- بعض المحقّقين: المراد منه هنا هو الفقيه الكبير إمام عصره الشيخ آغا رضا ابن العالم الفقيه الشيخ محمّد هادي الهمداني النجفي، المولود في حدود سنة 1250 ه، كان على جانب عظيم من طهارة القلب و سلامة الذات و البعد عن زخارف الدنيا، ذا اطّلاع واسع في الفقه و اصوله و خبرة و تضلّع فيهما، تلمّذ على الإمام المجدّد السيد محمّد حسن الشيرازي، و الإمام الشيخ محمّد تقي الشيرازي، و العلّامة الفقيه الميرزا حسن ابن ميرزا خليل الطهراني، تخرّج به جماعة كثيرون منهم: السيّد محسن الأمين، و الأخوان الشيخ أحمد و الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء، و الشيخ عبد الحسين أسد اللَّه التستري، و السيد حسن الصدر، و الشيخ آغا بزرگ الطهراني، توفّي بسامراء 28 صفر سنة 1322 ه. انظر أعيان الشيعة 7: 19، نقباء البشر 2: 776/ 1260، معارف الرجال 1: 323/ 158.

ص: 31

و أمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المُقتضي فبعيد جدّاً، بل لا يساعد عليه استعمال العرف أصلًا، فتعميم اليقين في قوله:

(اليقين لا ينقض بالشكّ)

بحيث يعمّ مثل الفرض بعيد في الغاية(1) انتهى كلامه.

و ثالثها: ما ذكره بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه، و ملخّصه مع طوله بعد الإشكال على الشيخ بأنَّ المُراد باليقين ليس هو المُتيقّن: هو أنَّ المُراد من نقض اليقين نقضه بما أنَّه يستتبع الحركة على وفقه، فأخذ اليقين في الأخبار باعتبار كونه كاشفاً لا صفة، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المُتيقّن، و لهذا تكون إضافته إلى اليقين شائعة، دون العلم و القطع؛ و ليس ذلك إلّا لأنّهما يُستعملان غالباً في مقابل الظنّ و الشكّ، بخلاف اليقين؛ فإنَّ إطلاقه غالباً بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضي المُتيقّن، فتختصّ أخبار الباب بما إذا كان المُتيقّن ممّا يقتضي الجري العمليّ على طبقه؛ بحيث لو خلّي و طبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن.

و هذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمُتيقّن اقتضاء البقاء؛ فإنَّه في مثل ذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المُتيقّن، و يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ، بخلاف غيره؛ فإنَّ الجري العمليّ فيه بنفسه ينتقض، و لا تصح هذه العناية فيه.

و بتقريب آخر: يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه؛ بمعنى أنَّ الزمان الذي يشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان مُتعلق اليقين عند حدوثه، و هذا إنّما يتمّ إذا كان المتيقّن مرسلًا بحسب الزمان؛ لكي يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدوداً بزمان خاصّ، و مقيّداً بوقت مخصوص، و إلّا ففيما بعد ذلك الحدّ يكون المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر، فلا يكون من نقض اليقين بالشكّ (2) انتهى.


1- انظر حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 16.
2- فوائد الاصول 4: 374- 376.

ص: 32

تحقيق الحقّ في الشكّ في الرافع و المقتضي

أقول: قبل بيان وجه النظر في كلام الأعلام نذكر ما هو التحقيق في المقام، فاعلم أنَّ اليقين قد يلاحظ بما أنَّه صفة قائمة بالنفس، كالعطش و الجوع و الخوف و الحزن، و من الصفات القائمة بها، من غير لحاظ إضافته إلى الخارج، و قس عليه الشكّ و الظنّ.

و قد يلاحظ بما أنَّه مضاف إلى الخارج، و أنه كاشف كشفاً تامّاً عن مُتعلّقه، و الظنّ [كشفاً] ناقصاً، و الشكّ غير كاشف أصلًا، بل يضاف إلى الخارج إضافة ترديديّة.

لا إشكال في أنَّ اليقين بحسب الملاحظة الاولى لا يكون مُمتازاً عن الظنّ و الشكّ بالإبرام و الاستحكام و عدمهما، بل الإبرام و الاستحكام- بحسب هذه الملاحظة- إنّما يكون في كيفيّة قيامها بالنفس بحسب مبادئها المحصّلة لها فيها، فقد تكون مبادئ حصول الشكّ قويّة؛ بحيث لا يزول بسهولة، و تكون مبادئ حصول القطع و اليقين ضعيفة؛ بحيث يزول بتشكيك ما، و قد يكون الحال بخلاف ذلك.

و بالجملة: سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس و عسر زوالها تابعان لمبادئ حصولها، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشكّ، و لا الظنّ من الشكّ.

و أمّا بحسب الملاحظة الثانية- أي إضافتها إلى الخارج- فاليقين مُبرم محكم ذاتاً دون الشكّ و الظنّ، فكأنَّ اليقين حبل مشدود أحد طرفيه على النفس، و طرفه الآخر على المُتيقّن، و يكون حبلًا مُبرماً مفتولًا مُستحكماً، و إن كانت مبادئ حصوله ضعيفة غير مستحكمة، بخلاف الظنّ و الشكّ، فإنّهما بحسب هذه الإضافة غير محكمين و لا مُبرمين، و إن كانت مبادئ حصولهما قويّة مُستحكمة.

و بالجملة: امتياز اليقين عن الشكّ- في كونه كالحبل المُبرم دون الشكّ- إنّما هو

ص: 33

بحسب تعلّقهما بالخارج، و هذا واضح.

و أمّا الجري العمليّ على طبق اليقين فهو خارج عن حقيقته، بل يكون من آثاره و أحكامه العقليّة أو العقلائيّة، فلا يكون إبرامه و استحكامه متفرّعين على الجري العمليّ، بل هو تابع لهما، و كذا إبرامه و استحكامه و كونه كالحبل المشدود دون الشكّ لا ارتباط لها بالمتيقّن، بل هي من مقتضيات ذاته، سواءً تعلّق بأمر مُبرم أو غيره، كما أنَّ الشكّ غير مبرم بأيّ شي ء تعلّق.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الإبرام و الاستحكام من مقتضيات ذات اليقين، و أنَّ مقابلهما من مقتضيات ذات الشكّ في حال ملاحظتهما مُتعلّقين بالخارج و مُضافين إلى المُتعلّق، و لا يكون الإبرام و الاستحكام عارضين له من المُتيقّن، و لا من وجوب الجري العمليّ على طبقه، كما أنَّ اليمين المؤكّدة يتوهّم لها إحكام و إبرام باعتبار نفس ذاتها المضافة إلى المتعلّق، ففي قوله تعالى: «وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها»(1) إنّما نسب النقض إليها، لا باعتبار كونها من الكيفيّات المسموعة القائمة بنفس المُتكلّم، و لا باعتبار كون متعلّقها أمراً مستمرّاً مُبرماً، و لا باعتبار الجري العمليّ على طبقها، بل باعتبار ذاتها المضافة إلى مُتعلّقاتها، فكأنَّ اليمين بواسطة هذه الإضافة حبل مُبرم مشدود أحد جانبيه على عنق الحالف، و الآخر على مُتعلّقه، فبهذه الملاحظة نسب إليها النقض، كما أنَّ اليقين إنّما نسب إليه النقض بهذه الملاحظة.

فما أفاده الشيخ العلّامة: من أنَّ نسبة النقض باعتبار كون مُتعلّقه مُبرماً(2)- كما أفاده ثاني العلمين المُتقدّمين من كون النسبة باعتبار الجري العمليّ (3)- ممنوع، خصوصاً ثانيهما.


1- سورة النحل 16: 91.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 19 و 361 سطر 4 و 369 سطر 15.
3- فوائد الاصول 4: 373 و 374.

ص: 34

و في كلامه مواقع للنظر، كتفريقه بين العلم و القطع، و بين اليقين (1) ممّا هو واضح البطلان، و سيأتي النظر في تقريبه الثاني (2).

بيان جواب تقريب المولى الهمدانيّ رحمه اللَّه

و أمّا ما أفاده أوّل العلمين: من أنَّ نسبة النقض باعتبار اليقين التقديريّ في زمان الشكّ، لا اليقين المُتعلّق بالحالة السابقة(3).

ففيه:- مضافاً إلى عدم لزوم هذا التقدير في صحة نسبته إليه؛ فإنَّ اليقين المحقّق في زمان الشكّ و إن تعلّق بالحالة السابقة، لكن تصحّ نسبة النقض إليه، و يقال هذا اليقين المُتعلّق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشكّ، و يُبنى عليه في زمان الشكّ- أنَّ الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعليّ لا التقديريّ؛ لأنَّ قوله في الصحيحة المُتقدّمة:

(و إلّا فإنَّه على يقين من وضوئه)

مُرتبط بالكبرى التي بعده؛ أي قوله:

(و لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ)

سواءً جعل صغرى لها كما هو الظاهر أو توطئة لذكرها.

و لا شبهة في أنَّ المراد باليقين في

(فإنَّه على يقين من وضوئه)

هو اليقين المُتعلّق بالوضوء في الزمان السابق، لا اليقين المُقدّر المُعتبر، فلا بدّ أن يراد من اليقين في الكبرى هو هذا اليقين، لا التقديريّ؛ لعدم صحّة التفرقة بينهما، ضرورة عدم صحّة أن يقال: إنَّه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمان السابق، و لا ينقض اليقين التقديريّ بالشكّ.

هذا مضافاً: إلى أنَّ مناسبة الحكم و الموضوع إنَّما تقتضي أن لا ينتقض اليقين


1- نفس المصدر.
2- يأتي في صفحة 36.
3- انظر حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 22.

ص: 35

الواقعيّ الذي له إبرام و استحكام بالشكّ، لا اليقين التقديريّ الاعتباريّ.

و أيضاً أنَّ قوله:

(أبداً)

لتأبيد الحكم المُتقدّم؛ أي عدم نقض اليقين بالشكّ مُستمرّ و مؤبّد، فلا بدّ أوّلًا من جعل الحكم، ثمّ إفادة تأبيده بلفظ

(أبداً)

الذي هو قائم مقام الإطلاق، فينحلّ عرفاً هذا الحكم المُتقيّد بالتأبيد إلى أمرين: أصل الحكم القابل للتأبيد و عدمه، و تأبيده و استمراره، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ؛ أي من أوّل وجوده إلى آخره يقدّر اليقين و ينسب إليه النقض، فلا مصحّح للتأبيد؛ فإنَّ الأمر المُستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلى آخره لا يصحّ اعتبار الاستمرار فيه ثانياً؛ فإنَّ الشي ء المُستمرّ لا يقع فيه استمرار آخر.

هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ، و إن اعتبر في أوّل زمان الشكّ، و اريد بيان تأبيد حكمه بلفظ

(أبداً)

فلا مصحّح لنسبة النقض إلى ما بعد ظرف التقدير بناءً على تحقّقه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنَّ الظاهر من تأبيد الحكم، أنَّ اليقين المتعلّق بأمرٍ سابق على الشكّ لا ينقض في ظرف الشكّ من أوّل زمانه إلى آخره.

و أيضاً قوله في ذيل الصحيحة:

(و إنّما ينقضه بيقين آخر)

ليس حكماً مجعولًا؛ ضرورة امتناع جعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنَّه بمنزلة جعل الحُجّية و الكاشفيّة له، فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المُتقدّم، فتكون تأكيداً لاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر، أو لإفادة استمراره حتّى مع وجود الظنّ إن اريد بالشكّ ما هو المصطلح، لا عدم العلم، فيفهم من هذه الغاية أنَّ المُتكلّم اعتبر ثلاثة امور:

اليقين السابق، و الشكّ المُستمرّ، و اليقين المُتأخّر، فقال: «إنَّ حكم اليقين بالأمر السابق مُستمرّ في زمان الشكّ، و لا ترفع اليد عنه إلى زمان اليقين بخلافه» فاعتبار اليقين في ظرف الشكّ ممّا لا يساعد هذه الاعتبارات.

ص: 36

و بالجملة: إنَّ التأمّل في الصحيحة صدراً و ذيلًا ممّا يشرف بالفقيه على القطع بأنَّ اليقين في الكبرى هو اليقين المُحقّق الفعليّ المتعلّق بالشي ء في الزمان السابق، لا المُقدّر المفروض في زمان الشكّ.

و بما ذكرنا: يظهر النظر في كلام بعض أعاظم العصر في تقريبه الثاني: من أنَّ صدق نقض اليقين بالشكّ يتوقّف على أن يكون زمان الشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه، و هو منحصر في الشكّ في الرافع (1).

لما عرفت: من أنَّ الظاهر من الرواية، هو اليقين المُتعلّق بالحالة السابقة المُتحقّق فعلًا، لا اليقين الآخر.

مُضافاً: إلى أنَّ ما ذكره غير تامّ في نفسه؛ لأنَّ اليقين في الشكّ في الرافع قد لا يتعلّق في أوّل حدوثه بما تعلّق به الشكّ، و في الشكّ في المُقتضي قد يكون كذلك.

تقريب آخر لشمول الأدلّة للشكّ في المُقتضي

هاهنا بيان آخر لشمول الأدلّة للشكّ في المُقتضي: و هو أنَّ الكبرى الكلّية المجعولة في باب الاستصحاب ظاهرة في أنَّ اليقين من حيث هو- بلا دخالة شي ء آخر- لا ينقض بالشكّ من حيث هو شكّ كذلك؛ ضرورة ظهور أخذ كلّ عنوان في حكم في أنَّه تمام الموضوع له بنفسه، من غير دخالة شي ء آخر وراءه، و رفع اليد عن هذا الظهور لا يجوز إلّا بصارف.

فحينئذٍ نقول: الأمر دائر بين امور:

الأوّل: أن يكون عدم انتقاض اليقين بالشكّ باعتبار مبادئ حصولهما في النفس.


1- فوائد الاصول 4: 376.

ص: 37

الثاني: أن يكون باعتبار المُتيقّن.

الثالث: أن يكون باعتبار الجري العمليّ على طبقه.

الرابع: أن يكون باعتبار نفس اليقين و الشكّ من حيث ذاتيهما.

و في غير الاحتمال الأخير يكون عدم نقض اليقين بالشكّ باعتبار غير ذاتيهما، و قد عرفت أنَّ الظاهر نفسيّتهما في ذلك (1) تأمّل.

تأييد اختصاصه بالشكّ في الرافع و الجواب عنه

ثمّ إنَّه قد ايّد القول باختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع بأنَّ أدلّة الاستصحاب إنّما وردت على طبق ارتكاز العقلاء و بنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة، و لا إشكال في اختصاص بنائهم على العمل على طبقها في الشكّ في الرافع دون المقتضي (2).

فهاهنا مقامات من البحث:

أحدها: في أصل بناء العقلاء.

و ثانيها: في وجه بنائهم.

و ثالثها: في أنَّ وجه بنائهم هل هو مطابق لوجه التعبّد بالاستصحاب في الأخبار أم لا؟

أمّا أصل بنائهم في الجملة فممّا لا إشكال فيه.

و أمّا كون بنائهم على العمل من حيث نفس اليقين بالحالة السابقة و الشكّ في بقائها، أو من حيث إنَّ نفس الكون السابق موجب للحكم بالبقاء عملًا فممنوع؛ فإنَ


1- تقدّم في صفحة 33.
2- فوائد الاصول 4: 338.

ص: 38

اليقين بالحالة السابقة بمجرده لا يكون منشأ لبنائهم؛ لعدم كاشفيّة اليقين بالحالة السابقة عن الحالة الحاضرة التي تكون ظرف الشكّ، كما هو المفروض، كما أنَّ نفس الكون السابق بما هو لا يكشف عن بقائه، و لا يوجب عملهم على طبقه؛ بحيث لو فرضنا مورداً لا يكون في البين إلّا اليقين بالكون السابق و الشكّ في البقاء- بحيث لا يحصل لهم وثوق و اطمئنان، و لا يكون عملهم مطابقاً للاحتياط- يكون بناؤهم على العمل.

و بالجملة: لا أظنّ وجود بنائهم على طبق الحالة السابقة من حيث هي، و دعوى ذلك لا تخلو من مُجازفة.

و القول: بأنَّ ذلك أمر ارتكازيّ و عاديّ لهم من غير حصول الوثوق و الاطمئنان لهم (1) ممنوع، بل رجوع الحيوانات إلى أوكارها لا يكون إلّا من جهة حصول الوثوق بالبقاء، و لا دليل على عدم حصول الوثوق للحيوانات لو لا الدليل على خلافه؛ فإنَّ حصوله ليس من مختصّات العقل، بل قد يحصل للنفس الحيوانيّة أيضاً؛ لحصوله في الامور الجزئيّة المُدركة للحيوان، فتلك الحالات النفسانيّة كما تحصل للإنسان أيضاً، تحصل لكثير من الحيوانات، أو لأجل العادة الجارية، ما قد تكون في الإنسان أيضاً، و لا ريب في أنَّه لم يكن لأجل عدم نقض اليقين بالشكّ، و لا يكون عودهم إلى محالّهم غفلة كما قيل (2) فإنَّه واضح الفساد أيضاً.

و بالجملة: الظاهر أنَّ بناء العقلاء لا يكون إلّا لحصول الوثوق و الاطمئنان لهم، و هو حاصل لهم من ندرة حصول الرافع للشي ء الثابت المُقتضي للبقاء، نظير أصالة السلامة الناشئة من ندرة حصول العيب في الأشياء و غلبة سلامتها؛ بحيث يحصل الوثوق على طبقها، فالاستصحاب العقلائيّ لا يكون إلّا العمل على طبق الوثوق


1- انظر نفس المصدر السابق 4: 332.
2- كفاية الاصول: 439، نهاية الأفكار: 4: 33 و 34.

ص: 39

الحاصل ممّا ذكرنا، و ليس هذا مطابقاً للاستصحاب المُدّعى حُجّيته.

و أمّا كون الأخبار واردة على طبق الارتكاز العقلائيّ فممنوع غاية المنع؛ لأنَّ الظاهر من الكبرى المُتلقّاة منها أنَّ ما هو موضوع لوجوب العمل هو اليقين بالحالة السابقة و الشكّ في بقائها، من غير دخالة شي ء آخر فيه، و هذا أمر تعبّديّ غير ارتكازيّ للعقلاء، كما عرفت أنَّ العلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللّاحقة.

و التعبير بأنَّه

(ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً)

لا يدلّ على إرجاعه إلى ارتكازه كما توهّم (1)؛ ضرورة أنَّ عدم نقض اليقين بالشكّ- في مثل الوضوء مع حصول مقدّمات النوم كالخفقة و الخفقتين، و تحريك شي ء إلى جنبه مع عدم التفاته إليه، و في مثل الظنّ بإصابة دم الرعاف في من حصل له الرعاف- ليس ارتكازيّاً للعقلاء؛ لأنّهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظانِّ حصول منافيات الحالة السابقة يتفحّصون عنها، كما ترى أنَّه في الصحيحة الثانية يقول:

(فإن ظننت أنَّه قد أصابه و لم أتيقّن، فنظرت فلم أرَ شيئاً)

(2) فلم يكتف بالحالة السابقة حتّى نظر إليه فصلّى.

مضافاً: إلى أنَّ هذا التعبير كثيراً ما وقع في الأخبار فيما لا يكون على طبقه ارتكاز، كما يظهر بالتتبّع فيها(3) مع أنّك قد عرفت أنَّ العمل على طبق اليقين المُتعلّق بحالة مع انقلابه إلى الشكّ في حالة اخرى لا يكون ارتكازيّاً، و الحال أنَّ مفاد الروايات هو أن لا ينقض اليقين بالشكّ من حيث ذاتيهما، من غير أن يحصل وثوق أو اطمئنان بالبقاء.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنَّ دعوى أنَّ نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته لارتكاز العقلاء غير مسموعة، فمفادها أعمّ من الشكّ في الرافع و المقتضي و مخالف لما


1- كفاية الاصول: 441، فوائد الاصول 4: 338، نهاية الأفكار 4: 35.
2- تأتي الصحيحة كاملة في صفحة 40 و 41 من هذا الكتاب.
3- كقول الإمام الرضا عليه السلام على ما في الفقه المنسوب إليه في صفحة 111:( و كل سهو بعد الخروج من الصلاة فليس بشي ء، و لا إعادة فيه، لأنّك قد خرجت على يقين، و الشك لا ينقض اليقين).

ص: 40

هو سيرة العقلاء بحسب الكبرى المجعولة و الموارد المنطبقة عليها تلك الكبرى في الأخبار.

و من هنا يعلم: أنَّ التمسّك بالسيرة العقلائيّة و بناء العقلاء على حجّية الاستصحاب في غير محلّه، كما اتّضح ممّا ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة شرعيّة.

[فمنها: صحيحة الثانية لزرارة]

اشارة

و منها:

ما عن الشيخ بإسناده عن زرارة مُضمراً، و عن الصدوق (1) في «العلل» متصدّراً بأبي جعفر عليه السلام قال قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء، فأصبت و حضرت الصلاة، و نسيت أنَّ بثوبي شيئاً و صلّيت، ثمّ إني ذكرت بعد ذلك؟

قال: (تعيد الصلاة و تغسله).

قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، و علمت أنَّه قد أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟

قال: (تغسله و تعيد).

قلت: فإن ظننت أنَّه قد أصابه و لم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه؟

قال: (تغسله و لا تعيد الصلاة).


1- الصدوق: هو الإمام رئيس المحدّثين الشيخ أبو جعفر محمّد ابن الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالصدوق، المولود بدعاء صاحب العصر الإمام المنتظر عجّل اللَّه فرجه، تطلّع إليه أهل العلم و هو في مُقتبل العمر، فاقتبسوا منه معارفه و علومه و آدابه، فكان مثار إعجاب الجميع، طاف كثيراً من البلدان، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب و الاصول، و لقي كثيراً من أعلام الشيوخ، و تحمّل عنهم الحديث في مختلف الفنون، و لم ينقطع طيلة حياته عن الدراسة و السماع و التأليف، و من أشهر تلاميذه و الآخذين عنه الإمام الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد، و الشيخ الكبير الثقة علي بن محمّد الخزّاز، و الشيخ الفاضل الفقيه الحسين بن عبيد اللَّه الغضائري، و الشيخ هارون بن موسى التلعكبري و خلائق، و أمّا آثاره العلمية فكثيرة منها: من لا يحضره الفقيه، و الأمالي، و التوحيد، و علل الشرائع، و إكمال الدين، و الخصال و غيرها، توفّي سنة 381 ه في بلدة الري و قبره لا يزال هناك. انظر رجال السيد بحر العلوم 3: 292، تاريخ بغداد 3: 89/ 1078، مقابس الأنوار: 7.

ص: 41

قلت: لم ذلك؟

قال: (لأنّك كنتَ على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً).

قلت: فإنّي قد علمت أنَّه قد اصابه و لم أدرِ أين هو فأغسله؟

قال: (تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنَّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك).

قلت: فهل عليّ إن شككت في أنَّه أصابه شي ء أن انظر فيه؟

قال: (لا، و لكنّك إنّما تريد أن تُذهب الشكّ الذي وقع في نفسك).

قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة؟

قال: (تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، و إن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة و غسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شي ء اوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ)

(1)

مورد الاستدلال بالرواية و احتمالاته

و مورد الاستدلال بالرواية فقرتان:

إحداهما قوله:

(فإن ظننت أنَّه قد أصابه ...)

إلى آخرها.

ثانيتهما قوله:

(و إن لم تشكّ ...)

إلى آخرها.

أمّا الاولى منهما ففيها احتمالات:

أحدها: أنَّه بعد الظنّ بالإصابة و النظر و عدم الرؤية، صلّى من غير حصول علم


1- التهذيب 1: 421/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 641، علل الشرائع: 361/ 1، الوسائل 2: 1006/ 2- باب 7 و 1053/ 1- باب 37 و 1063/ 2- باب 42 و 1065/ 1- باب 44.

ص: 42

أو اطمئنان له من النظر، فلمّا صلّى رأى في ثوبه النجاسة، و علم بأنّها هي التي كانت مظنونة، فعلم أنَّ صلاته وقعت في النجس.

ثانيها: هذه الصورة؛ أي عدم حصول العلم له من النظر، لكن مع احتمال حدوث النجاسة بعدها، و احتمال وقوع صلاته فيها.

ثالثها: أنَّه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة، فلمّا صلّى تبدّل علمه بالعلم بالخلاف؛ أي بأنَّ النجاسة كانت من أوّل الأمر.

رابعها: هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة حدوث النجاسة بعدها، و احتمال وقوع الصلاة فيها.

هذا و لكن تعليل الجواب ينافي إرادة الثالث، و الاحتمال الرابع المنطبق على قاعدة اليقين بعيد؛ لأنَّه لو حصل له العلم كان عليه ذكره في السؤال؛ لوضوح احتمال دخالته في الحكم، فعدم ذكره دليل على عدم حصوله، و الغفلة في مقام السؤال عن موضوعه خلاف الأصل.

مضافاً: إلى ظهور قوله:

(و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين)

في فعليّة الشكّ و اليقين، تأمّل.

مع أنَّ الظاهر أنَّ الكبرى في هذا المورد و ذيل الرواية واحدة، و لا إشكال في أنَّ الكبرى في ذيلها مُنطبقة على الاستصحاب لا القاعدة؛ ضرورة أنَّ قوله:

(و إن لم تشكّ)

معناه أنّك إن كنت غافلًا و غير متوجّه إلى النجاسة، ثمّ رأيته رطباً، و احتملت كونها من أوّل الأمر، و حدوثها فيما بعد، و ليس معناه اليقين بعدم الطهارة، فالاحتمال الرابع غير مقصود، فبقي الاحتمالان، و هما مشتركان في إفادة حجّية الاستصحاب، فلو كانت الرواية مُجملة من هذه الجهة لا يضرّ بها، و أمّا الاحتمالان فلا يبعد دعوى ظهورها في الأوّل منهما.

ص: 43

الإشكال على أقوى الاحتمالات و الجواب عنه

فحينئذ يشكل بأنَّ تعليل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد العلم بوقوعها في النجس بقوله:

(لأنّك كنت على يقين من طهارتك ...)

إلى آخره، كيف يصلح مع كون الإعادة من النقض باليقين؟!

نعم إنَّما يصلح عدم نقض اليقين بالشكّ علّة لجواز الدخول في الصلاة، لا لعدم الإعادة(1).

و توضيح الإشكال: أنَّ الظاهر من الرواية أنَّ تمام العلّة لعدم وجوب الإعادة هو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، من غير دخالة شي ءٍ آخر فيه، كاقتضاء الأمر الظاهريّ للإجزاء، أو كون إحراز الطهارة شرطاً للصلاة لا نفسها، أو كون إحراز النجاسة مانعاً لها لا نفسها، فالاستناد إلى شي ءٍ آخر غير التعليل المذكور في عدم وجوبها خروج عن ظهورها.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنَّ الأجوبة التي تمسّكوا بها في المقام لا تدفع الإشكال (2).

و غاية ما يمكن أن يقال في المقام: أنَّ وجه تخصيص زرارة هذه الفقرة بالسؤال عن العلّة أنَّ الإعادة في الفقرتين السابقتين- أي في صورة النسيان و العلم الإجماليّ- كانت موافقة للقاعدة؛ لأنَّ مقتضاها أنَّ النجاسة بوجودها الواقعيّ مانعة، و كذا الطهارة شرط بوجودها الواقعيّ على فرض شرطيّتها لها، فرأى جواب الإمام على وفق القاعدة، فلم يسأل عن علّتها، و لا ينافي ذلك سؤاله عن أصل المسألة؛ لاحتمال كون حكم اللَّه في الموردين مُخالفاً للقاعدة.


1- حكى هذا الإشكال الشيخ الأنصاري عن السيد صدر الدين شارح الوافية، لاحظ كتاب الرسائل: 331 سطر 3.
2- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 331 سطر 9، كفاية الاصول: 447، فوائد الاصول 4: 342- 352، نهاية الأفكار 4: 47 و 52.

ص: 44

و أمّا الفقرة الثالثة: أي صورة الظنّ بالإصابة و إتيان الصلاة بعد النظر و الفحص ثمّ العلم بأنّها وقعت في النجس، فلمّا كان الحكم فيها بعدم الإعادة مخالفاً للقاعدة سأل عن علّته.

و حاصل إشكاله: أنَّ المأتيّ به لمّا كان غير مطابق للمأمور به فلا بدّ من الإعادة، فما وجه الحكم بعدمها؟

فأجاب: بأنَّ حكم الشارع بعدم نقض اليقين بالشكّ عملًا موجب لموافقة المأتيّ به للمأمور به فلا تجب الإعادة.

و وجهه: أن استصحاب الطهارة موجب للتوسعة في الشرط، فيكون حاكماً على إطلاق الأدلّة الأوّلية، فيكون الجواب موافقاً للسؤال، و هذا الوجه و إن رجع إلى بعض الوجوه المذكورة، لكن مع هذا التقريب ينطبق التعليل على المورد من غير تكلّف.

و إن شئت قلت: إنَّ وجه الإشكال هو أنَّ التعليل لا يناسب عدم الإعادة.

و الجواب: أنَّ التعليل لا يرجع إليه، بل الحكم بعدم الإعادة إرشاد إلى موافقة المأتيّ به للمأمور به؛ لعدم إمكان كون الإعادة و عدمها موردين للتعبّد من غير تصرّف في المنشأ، فالتعليل راجع إلى المنشأ، فلا إشكال حينئذٍ هذا على الشرطيّة.

و أمّا بناءً على مانعيّة النجس فقد يقال: إنَّ التعليل أيضاً صحيح سواءً اخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقاً مانعاً، أو من حيث كونه منجّزاً، و سواءً كان التعليل مجموع المورد و الاستصحاب، أو خصوص الثاني؛ لأنَّ مرجع التعليل بهما إلى أنَّ النجاسة لم يكن لها منجّز، فالصلاة تكون صحيحة و لا تجب الإعادة؛ لأنَّ وجوبها ينافي عدم جواز نقض اليقين بالشكّ (1).

و فيه: أنَّه بعد فرض كون المانع هو النجاسة المعلومة، فمع عدم العلم يحرز عدم


1- فوائد الاصول 4: 346 و 347.

ص: 45

المانع، فلا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل بعد إحرازه وجداناً، فإذا كان المنظور إفادة عدم المتنجّز لا يصحّ التعليل بما يحرز العدم، و يكفي في ذلك قوله: «إنَّك شاكّ»، فلا وجه للتعليل بالاستصحاب.

و احتمال أنَّ التشبّث به لأجل إلغاء الشكّ؛ لاحتمال كون الشكّ منجّزاً، و لا بدّ من دفعه (1)، غير وجيه؛ لأنَّ الاستصحاب شأنه إحراز الموضوع، و هذا أمر زائد على إلغاء الشكّ، فلا وجه للتعليل به، بل لا بدّ في إلغائه من التعبير بمثل «لا يعتدّ بالشكّ».

و غاية ما يمكن أن يقال: أنَّ المانع هو النجس المعلوم، و مع الشكّ يحرز عدم جزء من الموضوع، و مع الاستصحاب يحرز جزؤه الآخر، فكأنَّه أراد أن يفيد أنَّ النجاسة المعلومة بكلا جزأيها مفقودة، مع إفادة أمرٍ زائد هو جريان الأصل في جزء الموضوع أيضاً تأمّل.

ثمّ لا يخفى أنَّ الإشكال المُتقدّم وارد على الاحتمال الثاني من الاحتمالات المتقدّمة أيضاً، و لا يختصّ بالأوّل.

إشكال آخر على الاحتمال المتصوّر

ثمّ إنَّ هاهنا إشكالًا ثانياً على هذا الاحتمال: و هو لزوم التفرقة بين وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس، و بين وقوع بعضها فيه؛ حيث حكم في الأوّل بعدم الإعادة دون الثاني، كما هو ظاهر قوله بعد ذلك:

(تنقض الصلاة و تعيد إذا شككت في موضع منه)

، و لذا حمل بعضهم (2) هذه الفقرة على العلم الإجماليّ، و هو خلاف الظاهر من وجوه.


1- نفس المصدر 4: 346.
2- و هو السيد صدر الدين الصدر في شرح الوافية على ما نقله عنه الشيخ الأنصاري في الرسائل: 331 سطر 12.

ص: 46

و أيضاً: يرد إشكال آخر على ذيل الرواية، و هو عدم فرق واضح بين وقوع بعض الصلاة في النجاسة مع الجهل بها، و بين احتمال حدوث النجاسة في الأثناء؛ حيث تمسّك الإمام عليه السلام في الثاني بالاستصحاب دون الأوّل.

توضيحه: أنَّ للمصلّي العالم بالنجاسة في الأثناء- سواءً احتمل طروّها في الحال، أو علم الآن بوجودها من الأوّل- ثلاث حالات: حالة الجهل بالنجاسة، و حالة العلم بها و الاشتغال بتطهيرها، و حالة الصلاة مع الطهارة الواقعيّة، و هي بعد تطهيرها و إتمام الصلاة، و الاستصحاب إنّما ينفع بالنسبة إلى حال الجهل، لا حال العلم بالنجاسة و الطهارة.

فبناءً على حمل الفقرة المُتقدّمة من الرواية على الاحتمال الأوّل- أي حصول العلم بعد الصلاة بوجود النجاسة من أوّلها، و إجراء الاستصحاب لتصحيح الصلاة بالبيان المُتقدّم- لا يبقى فرق بين الفقرتين الأخيرتين؛ لجريان الاستصحاب فيهما، فكما يجري مع احتمال حدوث النجاسة في الأثناء لتصحيح الأجزاء السابقة على العلم بها، كذلك يجري مع العلم في الأثناء بوجودها من أوّل الأمر؛ فإنَّ ظرف الجهل بالنجاسة مع الشكّ في حدوثها في موضع من ثوبه ظرف جريان الاستصحاب، و العلم اللّاحق لا يضرّه، كما لم يكن مُضرّاً في الفقرة الاولى؛ أي الاستصحاب بعد تمام الصلاة.

و أمّا حالة العلم بالنجاسة فلا يفيدها الاستصحاب، بل لا بدّ من دليل آخر في تصحيحها، و هو الأدلّة الدالّة على أنَّه إذا رعف في الأثناء غسل أنفه و يبني على صلاته (1)؛ حيث يستفاد منها أنَّ التلبّس بالنجاسة في الزمان الذي يشتغل فيه بتطهير النجاسة لا يضرّ بالصلاة.

و من هنا قد يرجّح الاحتمال الثاني في الفقرة الاولى فيقال: إنَّ تطبيق الاستصحاب


1- انظر على سبيل المثال الفقيه 1: 239/ 1056، الكافي 3: 365/ 9، التهذيب 2: 318/ 1302 و 323/ 1323 الوسائل 4: 1244/ 1 و 4- باب 2 من أبواب قواطع الصلاة.

ص: 47

في الفقرتين الأخيرتين على الثانية منهما دون الاولى يرفع الإجمال عن الفقرة الاولى المتقدّمة بحملها على احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، فيكون ذيل الرواية شاهداً على صدرها.

مُضافاً: إلى أنَّ التعبير بلفظ «فرأيت فيه» دون «فرأيته فيه» يكاد أن يستشمّ منه ذلك، كما أنَّ التعبير بقوله:

(و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك)

ظاهر في أنَّ الشك كان فعليّاً بعد الصلاة، و إلّا كان ينبغي أن يقول: «و ما كان ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» فترجيح الاحتمال الثاني مع تلك المؤيّدات و إن [كان لا يخلو من قرب و لكن يمكن دفع أصل الإشكال على الاحتمال الأوّل.

دفع الإشكال

و دفع الإشكال بأن يقال: إنَّ التمسّك بالاستصحاب- فيما إذا صلّى ثمّ رأى النجاسة مع الشكّ و الالتفات في حال الصلاة، و العلم بعدها بأنّها كانت موجودة حالها- ممّا لا مانع منه، كما عرفت تقريبه (1).

و أمّا إذا رأى في الأثناء- سواء علم بوجودها من أوّل الصلاة، أو احتمل حدوثها في البين- فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب لتصحيح الصلاة؛ لأنَّ ما يمكن التمسّك فيه به هو حالة الشكّ، و أمّا حال العلم فلا بدّ من تصحيح الصلاة بشي ء آخر، و إلّا فأدلّة إثبات المانعيّة للنجاسة(2)، أو اشتراط الطهارة(3) تدلّ على إثباتها في الصلاة التي هي حقيقة واحدة، و لها هيئة اتصاليّة، و الأكوان الغير المشغولة بالأذكار أيضاً


1- انظر صفحة 43 و 44.
2- انظر مثلًا الكافي 3: 53/ 2، التهذيب 1: 252/ 726، الوسائل 2: 1024/ 1- باب 18 من أبواب النجاسات و هي الآمرة بغسل البدن و الثياب من النجاسات لأجل الصلاة.
3- انظر مثلًا التهذيب 1: 49/ 144، الاستبصار 1: 55/ 160، الوسائل 1: 256/ 1- باب 6 من أبواب الوضوء.

ص: 48

أكوان صلاتيّة بحسب ارتكاز المُتشرّعة و دلالة ظواهر الأدلّة(1)، فالصلاة مشروطة من أوّلها إلى آخرها بالسَّتر، و النجاسة مانعة لها كذلك، فلا بدّ من الخروج عن ظاهر أدلّة الاشتراط، أو الأدلّة الدالّة على المانعيّة من دليل مخرج.

و غاية ما يدلّ على عدم الاعتبار هو الأخبار الواردة في الرعاف، و هي واردة فيما إذا حدث الرعاف في الأثناء.

و دعوى إلقاء الخصوصيّة؛ لعدم الفرق عرفاً بين حدوث النجاسة في الأثناء، و كونها من الأوّل مع الالتفات و العلم في الحال (2) ممنوعة؛ لاحتمال أن يكون لحدوثها من باب الاتفاق دخل في رفع المانعيّة، و لهذا لا يمكن الالتزام بجواز التنجيس عمداً، و الاشتغال بتطهير الثوب فوراً، ثمّ البناء على الصلاة.

فحينئذٍ نقول: إذا علم في الأثناء بأنَّ النجاسة كانت من الأوّل لا يمكن تصحيح صلاته؛ لأنَّ الاستصحاب- كما عرفت- لا يفيد بالنسبة إلى حال العلم بالتلبّس، و الأدلّة الدالّة على اشتراط الصلاة بالطهارة، أو مانعيّة النجاسة ممّا لا مخرج لها، فلا محيص عن نقض الصلاة و إعادتها بعد تطهير الثوب.

و أمّا إذا احتمل عروضها في البين فيمكن التشبّث بالاستصحاب لتصحيحها، لا لأنَّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن تثبت حدوثها، حتّى يدخل المورد تحت أدلّة حدوث الرعاف لتصحيح حال العلم بالتلبّس بالنجاسة لأجلها؛ ضرورة مثبتيّة هذا الأصل، بل لأنَّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن إنَّما هي لتصحيح حال الجهل بها، و حال العلم بالتلبّس يكون المُصلّي شاكّاً في كون هذه النجاسة الموجودة حادثة


1- مثل قوله عليه السلام:( و أمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة) انظر الكافي 3: 364/ 1، و التهذيب 2: 324/ 1325، و الوسائل 4: 1253/ 2- باب 7 من أبواب قواطع الصلاة، و كتاب الخلل في الصلاة للإمام قدّس سرّه صفحة 121 و ما بعدها لبيان كيفية الاستدلال.
2- كتاب الطهارة للمحقق الهمداني 1: 619 سطر 18.

ص: 49

حتّى لا تكون مانعة، أو باقية من الأوّل حتّى تكون مانعة، فيكون شاكّاً في مانعيّتها، فتجري أصالة البراءة العقليّة و الشرعيّة كما في اللّباس المشكوك فيه؛ فإنَّ الأظهر من الأدلّة على كثرتها هو مانعيّة النجاسة من الصلاة، لا شرطيّة الطهارة، كما يظهر لمن تدبّرها، و إن كان بعضها يوهم الشرطيّة مثل هذه الصحيحة، لكنّ المانعيّة هي الأقوى بحسب مفاد الأدلّة.

و استصحاب الطهارة في صدر هذه الصحيحة لعلّه من باب كون الطهارة و عدم النجاسة أمراً واحداً بحسب نظر العرف، و المقصود كون اللّباس خالياً عن القذارة المانعة، و هو حاصل بإجراء أصل الطهارة، و إجراء أصالة عدم عروض النجاسة.

هذا إذا كان المُراد من الأصل في ذيل الصحيحة هو أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن، كما أنَّه ربما يُستأنس من قوله:

(لا تدري لعلّه شي ء اوقع عليك)

. و إلّا فيمكن أن يقال: إنَّ المراد من الأصل أصالة عدم عروض المانع في الصلاة؛ فإنَّ النجاسة الواقعيّة لم تكن مانعة مع الجهل بها، و النجاسة المعلومة يمكن أن تكون حادثة غير مانعة، فقبل العلم بها يكون عدم عروض المانع في الصلاة التي بيده مُتيقّناً، فيستصحب إلى زمان العلم، فيغسل الثوب و يبني على الصلاة.

و لو فُرض عدم جريان أصالة عدم المانع فأصالة بقاء الهيئة الاتصاليّة أيضاً جارية، كما هو المُقرّر في محلّه.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنَّ بين الصورتين فرقاً بحسب الاصول و القواعد، كما فرّق بينهما الإمام عليه الصلاة و السلام.

فمنها: صحيحة الثالثة لزرارة

اشارة

عن أحدهما عليهما السلام قال قلت له: من لم يدرِ

ص: 50

في أربع هو أو في ثنتين، و قد أحرز الثنتين؟

قال: (يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و يتشهّد، و لا شي ء عليه، و إذا لم يدرِ في ثلاث هو أو في أربع و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها اخرى و لا شي ء عليه، و لا ينقض اليقين بالشكّ، و لا يُدخل الشكّ في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكنّه ينقض الشكّ باليقين، و يتمّ على اليقين فيبني عليه، و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات)

(1).

يظهر من هذه الصحيحة آثار التقيّة، مع عناية الإمام عليه السلام ببيان المذهب الحقّ في سترة و حجاب كما سنوضّحه.

و ما قيل: إنَّ صدورها على وجه التقية ينافي صدرها؛ حيث حكم بتعيّن الفاتحة، و هو ظاهر في انفصال الركعة(2) ممنوع؛ لأنَّ الحكم بتعيّن الفاتحة لا يدلّ عليه؛ أي على انفصال الركعة، و ليس على خلاف التقيّة؛ لما حُكي عن الشافعيّ (3) و أحمد(4)


1- الكافي 3: 351/ 3، التهذيب 2: 186/ 740، الاستبصار 1: 373/ 1416، الوسائل 5: 321/ 3- باب 10 و 323/ 3- باب 11 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 331 سطر ما قبل الأخير و 332 سطر 13، درر الفوائد: 525.
3- الشافعي: هو الفقيه الإمام أبو عبد اللَّه محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي الشافعي المكي الغزي، ولد سنة 150 ه و تلقى الفقه و الحديث على شيوخ مكة و المدينة و اليمن و بغداد منهم: مسلم بن خالد المخزومي المكي، و سعيد بن سالم القداح، و إبراهيم بن محمّد المدني، و سفيان بن عيينة، و محمّد بن الحسن الشيباني، و عبد الوهاب ابن عبد المجيد بن الصلت البصري و آخرون، و ممن تتلمذ عليه: يوسف بن يعقوب البويطي، و إسماعيل بن يحيى المزني، و الربيع بن سليمان المرادي، و خالد اليماني الكلبي، و الحسن بن علي الكرابيسي و غيرهم، توفي سنة 204 ه. انظر حلية الأولياء 9: 63/ 415، توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس، الإمام الصادق و المذاهب الأربعة 2: 175، طبقات الفقهاء للشيرازي: 71.
4- أحمد: هو الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس، إمام المذهب الحنبلي، ولد سنة 164 ه، اتّجه إلى طلب العلم و هو ابن خمس عشرة سنة، و رحل إلى الأقطار و أخذ عن شيوخها أمثال: هشيم بن بشير السلمي، و سفيان بن عيينة، و إبراهيم بن زياد، و جرير بن عبد الحميد، و عباد بن العوام الواسطي، و محمّد بن فضيل الضبي الكوفي، و أبي يوسف القاضي، و الإمام الشافعي، و تتلمذ عليه كثيرون منهم: ولداه صالح و عبد اللَّه، و أحمد بن محمّد الأثرم، و أحمد بن محمّد المروزي، و إبراهيم بن إسحاق الحربي و آخرون، خلّف آثاراً عديدة منها: المسند و الناسخ و المنسوخ و المناسك الكبير و الصغير و أشياء اخر، توفي ببغداد سنة 241 ه. انظر الإمام الصادق و المذاهب الأربعة 2: 439، سير أعلام النبلاء 11: 177/ 78، هدية الأحباب 64.

ص: 51

و الأوزاعيّ (1) القول بتعيّن الفاتحة في الركعات كلّها(2)، فالظاهر منها هو إتيان الركعتين في الفرع الأوّل و إضافة الركعة في الفرع الثاني متّصلة، كما هو قضيّة قوله:

(يركع ركعتين و أربع سجدات ...)

إلى آخره، و قوله:

(قام فأضاف إليها اخرى و لا شي ء عليه).

ثمّ إنَّه عليه السلام بعد ما أفتى بما هو ظاهر في خلاف المذهب الحقّ تقيّة، أراد بيانه في حجاب التقيّة، فأتى بالجمل الآتية لبيان عدم صحّة خلط المشكوك فيه بالمتيقّن كما يأتي بيانه.

بيان احتمالات الرواية

ثمَّ إنَّ في الرواية احتمالات:

منها: أنَّ قوله

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

يعني به لا يبطل الركعات المحرزة بسبب الشكّ في الزائدة، بأن يستأنف الصلاة، بل يعتدّ بالمتيقّنة، و لا يدخل الشكّ في اليقين؛ أي لا يعتدّ بالمشكوك فيها، بأن يضمّها إلى المحرزة، و يتمّ بها الصلاة من غير تدارك.

(و لا يخلط أحدهما بالآخر)

عطف تفسير للنهي عن الإدخال.

(و لكنّه ينقض الشكّ باليقين)

أي الشكّ في الركعة الزائدة؛ بأن لا يعتدّ بها، بل يأتي بالزيادة على الإيقان.

(و يتمّ على اليقين)

أي يبني على المتيقّن فيها، و على هذا لم يتعرّض لذكر فصل


1- الأوزاعي: هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد كيُكرم، إمام أهل الشام و فقيههم و عالمهم، ولد ببعلبك سنة 80 ه، و سكن بظاهر الفراديس بمحلة الأوزاع، ثمَّ تحول إلى بيروت، روى عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام، و قتادة، و الزهري، و مكحول، و عطاء بن أبي رباح، و محمّد بن سيرين و خلق، و كانت وفاته في صفر سنة 157 ه. انظر الوافي بالوفيات 18: 207/ 252، البداية و النهاية 10: 115، الكنى و الألقاب 2: 59.
2- تذكرة الفقهاء 3: 144، و انظر المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1: 525، المجموع 3: 361، المبسوط للسرخسي 1: 18، فتح العزيز 3: 313 و 314.

ص: 52

الركعة و وصلها في الفرعين، و هذا الاحتمال ممّا أبداه المحدّث الكاشانيّ قدس سره (1).

و منها: أنَّ قوله

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

كما أفاده المحقّق المحدّث المتقدّم، و لكنّ قوله:

(لا يدخل الشكّ في اليقين)

و قوله:

(لا يخلط أحدهما بالآخر)

يعني بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط؛ بأن يراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في المتيقّنة، و عدم خلط إحداهما بالأُخرى فيكون المراد بالشكّ و اليقين المشكوك فيها و المتيقّنة؛ أي أضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين، و الركعة إلى الثلاث المحرزة، لكن لا يدخل المشكوك فيها في المتيقّنة، و لا يخلط إحداهما بالأُخرى بأن يأتي بالركعة و الركعتين مُنفصلة لا مُتّصلة؛ لئلّا يتحقّق الاختلاط و إدخال المشكوك فيها في المُتيقّنة(2).

و لا يخفى: أنَّ هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل؛ حيث إنَّ الظاهر من النهي عن الإدخال و الخلط أنّهما تحت اختيار المُصلّي، فيمكن له الإدخال و الخلط و تركهما، و الركعة المشكوك فيها إمّا هي داخلة بحسب الواقع في المُتيقّنة أو لا، و ليس إدخالها فيها و خلطها بها باختياره، بخلاف الركعة التي يريد إضافتها إليها؛ فإنَّ له الإدخال و الخلط بإتيانها مُتّصلة، و عدمهما بإتيانها مُنفصلة.

كما أنَّه على هذا الاحتمال يكون ظهور قوله:

(و لا يُدخل الشكّ في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر)

محكّماً على ظهور الصدر في أنَّ الركعة أو الركعتين لا بدّ أن يؤتى


1- الوافي 2: 147 سطر 1- باب الشك فيما زاد على الركعتين. المحدّث الكاشاني: هو الشيخ الفقيه و الفيلسوف النبيه المولى محمّد محسن بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود، ولد سنة 1007 ه، و أخذ العلم عن السيّد ماجد البحراني، و المولى صدر الدين الشيرازي، و الشيخ البهائي، و المولى محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي، و المولى محمّد صالح المازندراني، و آخرين، و أخذ عنه طائفة من العلماء البارزين أشهرهم ولده المعروف بعلم الهدى، و العلّامة المولى الشيخ محمّد باقر المجلسي، و القاضي سعيد القمّي و غيرهم. له مصنّفات كثيرة منها: تفسير الصافي، و الوافي، و المحجّة البيضاء، و مفاتيح الشرائع، و ديوان شعره. توفّي بمدينة كاشان سنة 1091 ه. انظر جامع الرواة 2: 42، لؤلؤة البحرين: 121/ 46.
2- كفاية الاصول: 450، فوائد الاصول 4: 362 و 363.

ص: 53

بها مُتّصلة، فكأنَّه قال: «قام فأضاف إليها اخرى من غير خلط الركعة المُضافة المشكوك في كونها الرابعة أو الخامسة بالركعات المُتيقّنة» و لا يكون هذا من قبيل تقييد الإطلاق كما أفاده المُحقّق الخراساني رحمه اللَّه (1)، و تبعه غيره (2)، بل من قبيل صرف الظهور البدويّ.

و منها: أنَّ قوله

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

يعني به لا ينقض اليقين بعدم الركعة المشكوك فيها بالشكّ (3)، و يأتي في الجملتين و المُتأخّرتين الاحتمالان المُتقدّمان، فتكون الرواية دليلًا على الاستصحاب في المورد، و مخالفة للمذهب تقيّة على احتمال، و موافقة له على آخر.

و منها: ما احتمله الشيخ الأنصاريّ قدس سره (4)، و هو أردأ الاحتمالات؛ لأنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

لا ينطبق على تحصيل اليقين بالركعات بالاحتياط المُقرّر في المذهب الحقّ، و لا يدور الأمر بين الاحتمالين المشار إليهما في كلامه، حتّى إذا كان أحدهما خلاف التقيّة يحمل على الآخر اضطراراً، و لو كان مخالفاً للظاهر في نفسه، كما


1- كفاية الاصول: 450. و هو الإمام المجاهد الكبير الشيخ محمّد كاظم ابن المولى حسين الهروي الخراساني، قدوة العلماء، و اسوة الفضلاء، تفرّد بصنوف الفضل فما من فن إلّا و له القدح المُعلّى، إليه انتهت رئاسة المذهب و الملّة، ولد في عام 1255 ه بمدينة مشهد المقدّسة في اسرة دينيّة معروفة بالصلاح و التقوى و اتّجه في أوائل حياته إلى التحصيل، فتقدّم على أئمّة زمانه في الآفاق بالاستحقاق، أخذ عن جملة وافرة من أعلام عصره، كالفيلسوف الكبير الشيخ هادي السبزواري، و الحكيم المتألّه الميرزا أبو الحسن جلوه، و المولى حسين الخوئي، و الإمام المرتضى الأنصاري، و السيد محمّد حسن الشيرازي و آخرين، و تخرّج عليه جملة كبيرة من أعلام الطائفة، كالسيد حسين البروجردي، و الشيخ محمّد حسين الأصفهاني، و الشيخ ضياء الدين العراقي، و الشيخ عبد الكريم الحائري، و السيد عبد الحسين شرف الدين و آخرين، أشهر مصنّفاته: كفاية الاصول، درر الفوائد، حاشية على كتاب المكاسب، اللمعات النيّرة، حاشية على كتاب الأسفار، لبّى نداء ربّه عزَّ و جلَّ في 20 ذي الحجة سنة 1329 ه في ظروف غامضة، و ذلك بعد أن عزم على التوجّه إلى ساحات القتال للدفاع عن الوطن الإسلامي العزيز. انظر معارف الرجال 2: 323، المصلح المجاهد للُاستاذ الشهيد عبد الرحيم محمّد علي، ريحانة الأدب 1: 41.
2- فوائد الاصول 4: 362 و 363.
3- نهاية الأفكار 4: 62.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 331 السطر ما قبل الأخير.

ص: 54

أفاده رحمه اللَّه (1).

و لا يخفى: أنَّه على جميع هذه الاحتمالات لا بدّ من ارتكاب خلاف ظاهر، و هو تفكيك الجمل المُشتملة على الشكّ و اليقين؛ بأن يُراد في جملة من اليقين و الشكّ نفسهما، و في جملة يُراد من اليقين اليقين بالركعات المحرزة، أو عدم الركعة الرابعة، و في جملة يُراد بالشكّ المشكوك فيها؛ أي الركعة المُضافة، و في الاخرى الركعة المشكوك في إتيانها، كما يظهر بالتأمّل في الجمل و الاحتمالات.

بيان أظهر الاحتمالات في الرواية

و هاهنا احتمال آخر، لعلّه الأظهر منها، مع كونه سليماً عن هذا التفكيك المخالف للظاهر: و هو أن يُراد من اليقين و الشكّ في جميع الجمل نفس حقيقتهما الجامعة بين الخصوصيّات و الأفراد كما هو ظاهرهما، و لا ينافي ذلك اختلاف حكمهما باختلاف الموارد.

فيقال: إنَّ طبيعة اليقين لا تنقض بالشكّ، و لعدم نقضها به فيما نحن فيه مصداقان:

الأوّل: عدم نقض اليقين بالركعات المحرزة، و عدم إبطالها لأجل الشك في الركعة الزائدة.

و الثاني: عدم نقض اليقين بعدم الركعة الرابعة بالشكّ في إتيانها، و كلاهما داخلان تحت حقيقة عدم نقض اليقين بالشكّ.

و عدم إدخال حقيقة الشكّ في اليقين، و عدم خلط أحدهما بالآخر، له أيضاً


1- نفس المصدر.

ص: 55

مصداقان:

أحدهما: عدم الاكتفاء بالركعة المشكوك فيها من غير تدارك.

و ثانيهما: عدم إتيان الركعة المُضافة المشكوك فيها مُتّصلة بالركعات المحرزة.

هذا إذا لم نقل بظهور النهي عن الإدخال و الخلط في الفصل الاختياريّ، و إلّا يكون له مصداق واحد.

(و لكنّه ينقض الشكّ باليقين)

بالإتيان بالركعة المُتيقّنة، و عدم الاعتداد بالمشكوك فيها.

(و يتمّ على اليقين)

بإتيان الركعة اليقينيّة، و عدم الاعتداد بالمشكوك فيها.

(و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات)

عدم الاعتداد به فيما نحن فيه هو بالبناء على عدم الركعة المشكوك فيها، و الإتيان بالركعة.

و على هذا تكون الرواية مع تعرّضها للمذهب الحقّ- أي الإتيان بالركعة منفصلة- متعرضة لعدم إبطال الركعات المُحرزة، و لاستصحاب عدم الركعة المشكوك فيها، و تكون على هذا من الأدلّة العامّة لحُجّية الاستصحاب.

و هذا الاحتمال أرجح من سائر الاحتمالات:

أمّا أوّلًا: فلعدم التفكيك حينئذٍ بين الجمل؛ لحمل الرواية على بيان قواعد كلّية، هي عدم نقض اليقين بالشكّ، و عدم إدخال الشكّ في اليقين، و نقض الشكّ باليقين، و عدم الاعتداد بالشكّ في حال من الأحوال، و هي قواعد كلّية يفهم منها حكم المقام لانطباقها عليه.

و أمّا ثانياً: فلحفظ ظهور اللّام في الجنس، و عدم حملها على العهد، و حفظ ظهور اليقين بإرادة نفس الحقيقة، لا الخصوصيّات و الأفراد.

و أمّا ثالثاً: فلحفظ الظهور السياقيّ؛ فإنَّ الظاهر أنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين

ص: 56

بالشكّ)

في جميع الروايات يكون بمعنى واحد، هو عدم رفع اليد عن اليقين بمُجرّد الشكّ، و الاستصحاب أحد مصاديق هذه الكلّية تأمّل.

نعم: لا يدخل الشكّ الساري فيها؛ لأنَّ الظاهر فعليّة الشكّ و اليقين، كما في الاستصحاب و في الركعات الغير المنقوضة بالركعة المشكوك فيها، و أمّا في الشكّ الساري فلا يكون اليقين فعليّاً.

و منها: موثّقة إسحاق بن عمّار

و منها: موثّقة إسحاق بن عمّار(1)

عن أبي الحسن قال: (إذا شككت فابن على اليقين).

قلت: هذا أصل؟

قال: (نعم)

(2).

و الظاهر: أنَّ هذه الموثّقة وردت في الشكّ في الركعات الذي كان محلّ الخلاف بين المُسلمين في أنَّه هل يجب فيه البناء على الأقلّ و إتيان المشكوك فيها مُتّصلة(3) أو الأكثرِ و إتيانها مُنفصلة، فتكون كسائر الروايات الواردة بهذا المضمون؛ من البناء على النقصان، و البناء على اليقين و الجزم (4) و التعبير بمثله لعلّه من باب التقيّة؟

و يمكن أن يقال: إنَّه لا منافاة- من جهة- بين البناء على اليقين أي الأقلّ و البناء على الأكثر، و هي عدم جواز الاكتفاء بالأقلّ كما اتفقت عليه الروايات، و هذا معنى


1- إسحاق بن عمّار: ابن حيّان مولى بني تغلب أبو يعقوب الصيرفي الساباطي الكوفي، شيخ من أصحابنا، ثقة، و هو من بيت كبير من الشيعة، و له اصل مُعتمد عليه، عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، روى عن جابر بن عبد اللَّه، و سعيد الأعرج، و عبد الأعلى مولى آل سام، و عبيد بن زرارة، و القاسم بن سالم، و عبد الرحمن بن الحجاج، و المعلّى بن خنيس و طائفة، و روى عنه أبان بن عثمان، و منصور بن يونس، و سليمان بن محمّد الخثعمي، و حمّاد بن عثمان، و يونس بن عبد الرحمن و خلائق. انظر رجال النجاشي: 71/ 169، مجمع الرجال 1: 188، معجم رجال الحديث 3: 52/ 1157- 1160.
2- الفقيه 1: 231/ 1025، الوسائل 5: 318/ 2- باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3- المغني لابن قدامة 1: 675 و 676.
4- انظر على سبيل المثال التهذيب 2: 344/ 1427، قرب الإسناد: 16، الوسائل 5: 318/ 6- باب 8 و 319/ 2- باب 9 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

ص: 57

البناء على اليقين، و على الجزم، و على النقصان، و إنّما الاختلاف بينها في الإتيان بالسلام و انفصال الركعة، أو عدمه و اتصالها، فالرواية الدالّة على البناء على الأكثر تدلّ على الفصل بالسلام، و الدالّة على البناء على الأقلّ ظاهرة في الإتيان مُتّصلة، فهما مُتحدتا المضمون من جهة الإتيان بالركعة، و عدم الاكتفاء بالمشكوك فيها، و مُختلفتاه في الاتصال و الانفصال، فالتعبّد على الأكثر- من جهة وجوب الانفصال- لا ينافي الاستصحاب من جهة عدم إتيان الركعة، فالبناء على اليقين يدلّ على استصحاب عدم الإتيان، و ظاهره الإتيان مُتّصلة، و لكن ترفع اليد عنه بالأدلّة الدالّة على الإتيان منفصلة(1).

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنَّ الأخبار الدالّة على البناء على الأكثر و الإتيان بالركعة المُنفصلة تدلّ على أنَّ الإتيان بها إنّما يكون من باب الاحتياط، لا من باب الاستصحاب، فتنافى الأخبار الدالّة على البناء على اليقين، فلا محمل لها إلّا التقيّة، و أمّا الحمل على اليقين بالبراءة(2) فهو محمل بعيد، كما لا يخفى هذا إذا خصصنا الموثّقة بالشكّ في الركعات.

و أمّا لو قلنا بالتعميم، و أنَّ مضمونها أصل كلّي في جميع الأبواب خرج منه الشكّ في الركعات، فدلالتها على الاستصحاب ظاهرة؛ لظهورها في فعليّة الشكّ و اليقين مع وحدة المُتعلّق، فلا تنطبق إلّا على الاستصحاب.

[فمنها: رواية محمّد بن مسلم

و منها:

ما عن «الخصال» بسنده عن محمّد بن مسلم (3) عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (قال أمير المؤمنين صلوات اللَّه و سلامه عليه: من كان على يقين فشكّ


1- انظر مثلًا الفقيه 1: 225/ 992، التهذيب 2: 349/ 1448، الوسائل 5: 317/ 1 و 318/ 3- باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- نهاية الأفكار 4: 62.
3- محمد بن مسلم: ابن رياح أبو جعفر الأوقص الطحّان الثقفي الطائفي، وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه، ورع، و من أوثق الناس، و من حواري الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام، مات سنة 150 ه. انظر معجم رجال الحديث 17: 247/ 11779.

ص: 58

فليمض على يقينه؛ فإنَّ الشكّ لا ينقض اليقين)

(1).

و في رواية اخرى

(من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه؛ فإنَّ اليقين لا يدفع بالشكّ)

(2).

و الظاهر منهما: أنَّ من كان على يقين بشي ء في الزمن السابق كالطهارة مثلًا، فشكّ في اللّاحق فيها، فليمض على يقينه في زمن الشكّ، فتدلّان على الاستصحاب من جهتين:

إحداهما: أنَّ متعلّق اليقين لا يكون متقيّداً بالزمان، فمعنى قوله:

(من كان على يقين)

أي يقين بشي ء، لا بشي ء مُتقيّد بالزمان، فعلى هذا يكون الشكّ أيضاً في الزمن اللّاحق متعلّقاً بهذا الشي ء من غير تقيّده بالزمان، فكأنَّه قال: «إذا كنت في الزمن السابق مُتيقّناً بعدالة زيد، ثمّ أصابك شكّ فيها في الزمن اللّاحق، فامض على يقينك» و لا إشكال في ظهور هذا الكلام في الاستصحاب، لا الشكّ الساري، و احتماله مخالف للظاهر المُتفاهم عرفاً.

و ثانيتهما: من جهة ظهور اليقين و الشكّ المأخوذين في الرواية في الفعليين منهما؛ أي لا يدفع بالشكّ الفعليّ اليقين الفعليّ، مع أنَّ الظهور السياقيّ أيضاً يقتضي الحمل عليه.

و الإنصاف: أنّهما ظاهرتان في الاستصحاب، و لا إشكال في دلالتهما على القاعدة الكلّية.

و منها: مكاتبة عليّ بن محمّد القاسانيّ

و منها: مكاتبة عليّ بن محمّد القاسانيّ (3).

قال: كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يُصام أم لا؟


1- الخصال: 619، الوسائل 1: 175/ 6- باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
2- الإرشاد للمفيد: 159، مستدرك الوسائل 1: 228/ 4- باب 1 من أبواب الوضوء.
3- علي بن محمد القاساني: أبو الحسن من ولد زياد مولى عبد اللَّه بن العباس، من آل خالد بن الأزهر، كان فقيهاً مكثراً من الحديث، فاضلًا، من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام. انظر رجال الطوسي: 417/ 10، تنقيح المقال 2: 305/ 8481، معجم رجال الحديث 12: 148 و 149/ 8431 و 8432.

ص: 59

فكتب: (اليقين لا يدخله الشكّ، صم للرؤية و أفطر للرؤية)

(1).

قال الشيخ قدّس سرّه: و الإنصاف أنَّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب (2) و أنكر بعضهم دلالتها عليه، فضلًا عن أظهريّتها(3).

و الحقّ: أنَّ دعوى الأظهريّة كدعوى عدم الدلالة ممنوعة، بل هي ظاهرة في الاستصحاب، لكن بعض الروايات المُتقدّمة مثل صحيحة زرارة الاولى أظهر منها.

أمّا أصل دلالتها عليه، فلأنَّ الظاهر من قوله:

(صم للرؤية و أفطر للرؤية)

أنّهما تفريعان لقوله:

(اليقين لا يدخله الشكّ)

فحينئذٍ يحتمل أن يكون مقصود السائل من يوم الشكّ مطلق يوم الشكّ، سواء كان من آخر شعبان، أو آخر رمضان، و يحتمل أن يكون المراد يوم الشكّ بين شعبان و رمضان، أو بين رمضان و شوّال، و الظاهر بُعْد الاحتمال الثالث، فبقي الاحتمالان، و على أيّهما، يكون الجواب بملاحظة التفريعين المذكورين عن مطلق يوم الشك في أوّل رمضان كان، أو في آخره، فحينئذٍ لا ينطبق قوله:

(اليقين لا يدخله الشكّ)

إلّا على الاستصحاب، فيتفرّع عليه استصحاب عدم دخول رمضان، و عدم دخول شوّال إلى زمان الرؤية.

و احتمال كون المُراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان- بمعنى أنَّ اليقين بدخوله الذي يعتبر في صحّة الصوم لا يدخله الشكّ في دخوله؛ أي لا يجوز صوم يوم الشكّ من رمضان الذي تواترت الأخبار على اعتبار اليقين بدخوله في صحّة الصوم (4)- مع كمال بعده، لا يناسب تفريع كلّ من الصوم و الإفطار للرؤية عليه.


1- التهذيب 4: 159/ 445، الاستبصار 2: 64/ 210، الوسائل 7: 184/ 13- باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 334 سطر 7.
3- فوائد الاصول 4: 366، نهاية الأفكار 4: 65 و 66.
4- فوائد الاصول 4: 366.

ص: 60

كما أنَّ احتمال كون المُراد من قوله:

(اليقين لا يدخله الشكّ)

أنَّ اليقين بالتكليف لا يدخله الشكّ، فيكون المُراد أنَّ الاشتغال اليقينيّ لا بدّ له من البراءة اليقينيّة(1) غير صحيح؛ لأنَّ لازمه لزوم صوم يوم الشكّ و لو كان من آخر شعبان، فلا يناسب التفريعين.

كما لا يناسبهما احتمال كون المُراد منه أنَّ اليقين بأيّام رمضان لا يدخله الشكّ: أي لا بدّ أن تكون أيّام رمضان محرزة باليقين، و لا يجوز الصوم مع الشكّ في كون اليوم من رمضان (2)؛ لأنَّ لازمه عدم جواز صوم يوم الشكّ بين رمضان و شوّال، فالأظهر من بين الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل المُنطبق على الاستصحاب.

هذه هي الأخبار الواردة في الباب ممّا يستفاد منها حُجّية الاستصحاب.

تذييل حول الاستدلال بأدلّة قاعدتي الحلّية و الطهارة على الاستصحاب و الجواب عنه

ربما يستدلّ على اعتبار الاستصحاب بقوله:

(كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنَّه قذر)

(3) و قوله:

(الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنَّه نجس)

(4) و قوله:

(كلّ شي ء حلال حتّى


1- هذا الاحتمال ذكره الشيخ الأنصاري في مجلس بحثه على ما في بحر الفوائد: 38 سطر 5 من مبحث الاستصحاب.
2- انظر كفاية الاصول: 452، و نهاية الأفكار 4: 66- القسم الثاني- مع تقييد عدم جواز الصوم في الأخير بعنوان أنَّه من شهر رمضان.
3- المقنع للصدوق: 3، التهذيب 1: 285/ 832، الوسائل 2: 1054/ 4- باب 37 من أبواب النجاسات، مستدرك الوسائل 1: 164/ 4- باب 29 من أبواب النجاسات و الأواني، و في بعضها كلمة« نظيف» بدل« طاهر». لكن نظر الإمام قدّس سرّه إلى الموثّقة كما يظهر من نقله لكلام الآخوند.
4- الكافي 3: 1/ 3، التهذيب 1: 215/ 619- 621، الوسائل 1: 100/ 5- باب 1 من أبواب الماء المطلق، و فيها كلمة« قذر» بدل« نجس».

ص: 61

تعرف أنَّه حرام)

(1).

فإنَّ المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه ذهب في «الكفاية» إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعيّ، و دلالة الغاية على الاستصحاب، و في «تعليقته» إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعيّ و قاعدة الطهارة و الحلّية، و الغاية على الاستصحاب.

فقال في بيان الأوّل ما حاصله: إنَّ الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية، لا بما هي مشكوكة الحكم، و الغاية تدلّ على استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة و الحلّية ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه (2).

و في الثاني: إنَّ الصدر بعمومه يدلّ على الحكم الواقعيّ، و بإطلاقه على المشكوك، بل يمكن أن يقال: بعمومه يدلّ على الحكم الواقعيّ و على المشكوك فيه؛ فإنَّ بعض الشكوك اللّازمة للموضوع داخلة في العموم، و نحكم في البقيّة بعدم القول بالفصل، و الغاية تدلّ على الاستصحاب كما ذكر(3).

و فيما أفاده نظر:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ الطهارة و الحلّية الواقعيّتين ليستا من الأحكام المجعولة الشرعيّة؛ للزوم إمكان كون شي ء بحسب الواقع لا طاهراً و لا نجساً، و لا حلالًا و لا حراماً؛ لأنَّ النجاسة و الحرمة مجعولتان بلا إشكال و كلام، فلو فرض جعل النجاسة و الحرمة لأشياء خاصّة، و جعل الطهارة و الحلّية لأشياء اخرى خاصّة يلزم أن تكون الأشياء غير المُتعلّقة للجعلين لا طاهرة و لا نجسة، و لا حلالًا و لا حراماً، و هذا واضح البطلان في ارتكاز المُتشرّعة.


1- الكافي 5: 313/ 40، التهذيب 7: 226/ 989، الوسائل 12: 60/ 4- باب 4 من أبواب ما يكتسب به، باختلاف يسير.
2- كفاية الاصول: 452.
3- انظر حاشية الآخوند على الرسائل: 185 سطر 25.

ص: 62

مُضافاً إلى أنَّ الأعيان الخارجيّة على قسمين:

الأوّل: ما يستقذره العرف.

و الثاني: ما لا يستقذره، و إنّما يستقذر الثاني بملاقاته للأوّل و تلوّثه به، و التطهير عرفاً عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل، و إرجاع الشي ء إلى حالته الأصليّة غير المستقذرة، لا إيجاد شي ء زائد على ذاته، به يكون طاهراً، و الظاهر أنَّ نظر الشرع كالعرف في ذلك، إلّا في إلحاق بعض الامور غير المُستقذرة عرفاً بالنجاسات، و إخراج بعض المُستقذرات عنها.

و كذا الحلّية لم تكن مجعولة؛ فإنَّ الشي ء إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدة يكون حلالًا و إن لم يشتمل على مصلحة، فلا تكون الطهارة و الحلّية من المجعولات الواقعيّة. نعم، الطهارة و الحلّية الظاهريَّتان مجعولتان.

فحينئذٍ نقول: إنَّ قوله

(كلّ شي ءٍ حلال)

أو

(طاهر)

لو حمل على الواقعيّتين منهما يكون إخباراً عن ذات الأشياء، لا إنشاء الطهارة و الحلّية، فالجمع بين القاعدة و الحكم الواقعيّ يلزم منه الجمع بين الإخبار و الإنشاء في جملة واحدة، و هو غير ممكن، هذا أوّلًا.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ معنى جعل الطهارة و الحلّية الظاهريّتين هو الحكم بالبناء العمليّ عليهما حتّى يعلم خلافهما، و معنى جعل الواقعيّتين منهما هو إنشاء ذاتهما، لا البناء عليهما، و الجمع بين هذين الجعلين ممّا لا يمكن.

و أمّا ثالثاً: فلأنَّ الحكم الظاهريّ مجعول للمشكوك بما أنَّه مشكوك، و الحكم الواقعي مجعول للذات مع قطع النظر عن الحكم الواقعيّ، و لا يمكن الجمع بين هذين اللّحاظين المُتنافيين.

و أمّا رابعاً: فلأنَّ الحكم في قاعدة الطهارة و الحلّية يكون للمشكوك فيه، فلا محالة تكون غايتهما العلم بالقذارة و الحرمة، فجعل الغاية للحكم المغيّا بالغاية ذاتاً ممّا

ص: 63

لا يمكن.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنَّ الغاية إنّما تكون للطهارة و الحلّية الواقعيّتين؛ لأجل القرينة العقليّة، و هي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهريّ، فيكون المعنى: أنَّ الطهارة و الحلّية الواقعيّتين مُستمرّتان إلى أن يعلم خلافهما، لكن جعل الغاية للطهارة و الحلّية الواقعيّتين لازمه استمرار الواقعيّتين منهما في زمن الشكّ، لا الظاهريّتين، و يرجع حينئذٍ إلى تخصيص أدلّة النجاسات و المحرّمات الواقعيّة، فتكون النجاسات و المحرمات في صورة الشكّ فيهما طاهرة و حلالًا واقعاً، و هو كما ترى باطل لو لم يكن مُمتنعاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الجمع بين الحكم الواقعي و القاعدة و الاستصحاب ممّا لا يمكن، فلا بدّ من إرادة واحدة منها، و معلوم أنَّ الروايات ظاهرة في قاعدة الحلّ و الطهارة، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون ظهورها في القاعدتين محكّماً، و ليس كلّ ما يمكن يراد.

ص: 64

ص: 65

فصل الأحكام الوضعيّة و تحقيق ماهيّتها

اشارة

لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حال الوضع تبعاً للمُحقّق الخراساني (1)، و تحقيق المقام يتمّ برسم امور:

الأمر الأوّل تقسيم الحكم إلى تكليفي و وضعي

إنَّه لا إشكال في تقسيم الحكم إلى التكليفيّ و الوضعيّ، و الظاهر أنَّه ينقسم إليهما بالاشتراك المعنويّ، فلا بدّ من جامع بينهما، و الظاهر أنَّ الجامع هو كونهما من المقرّرات الشرعيّة؛ لأنَّ كلّ مقرَّر و قانون من مقنّن نافذ في المجتمع يطلق عليه الحكم، فيقال: حكم اللَّه تعالى بحرمة شرب الخمر، و وجوب صلاة الجمعة، و حكم بضمان اليد و الإتلاف، و حكم بنجاسة الكلب و الخنزير، و حكم بأنَّ المواقيت خمسة


1- كفاية الاصول: 454 و ما بعدها.

ص: 66

أو ستّة، و كذا يقال: حكم السلطان بأنَّ جزاء السارق كذا، و سعر الأجناس كذا و كذا.

و بالجملة: كلُّ مقرَّر و قانون عرفيّ أو شرعيّ- ممّن له أهليّة التقرير و التقنين- حكمٌ، تكليفاً كان أو وضعاً، و لا تخرج المقرّرات الشرعيّة أو العرفيّة عن واحد منهما، و لا ثالث لهما، فمثل الرسالة و الخلافة و الإمامة و الحكومة و الإمارة و القضاء من الأحكام الوضعيّة.

قال تعالى «وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا»(1).

و قال تعالى «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(2).

و قال تعالى «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(3).

فقد نصب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السلام إماماً و أميراً على الناس يوم الغدير(4)، و جعل القضاة من ناحية السلطان- كجعل الأمير و الحاكم- معروف و معلوم.

و بالجملة: لا إشكال في كون النبوّة و الإمامة و الخلافة من المناصب الإلهيّة التي جعلها اللَّه و قررها، فهي من الأحكام الوضعيّة أو من الوضعيّات و إن لم يصدق عليها الأحكام.

فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه من كون أمثال ذلك من الأحكام الوضعيّة(5) في غير محلّه، إلّا أن يرجع إلى بحث لغويّ و هو عدم صدق الحكم عليها،


1- سورة مريم 19: 49.
2- سورة البقرة 2: 30.
3- سورة البقرة 2: 124.
4- انظر كتاب الغدير للعلّامة الأميني رحمه اللَّه 1: 11.
5- فوائد الاصول 4: 385.

ص: 67

و هو كما ترى كاستيحاشه من كون الماهيّة المُخترعة- كالصلاة و الصوم- منها(1)؛ فإنَّها قبل تعلّق الأمر بها و إن لم تكن من الأحكام الوضعيّة، لكنّها لم تكن قبله من الماهيّات المُخترعة أيضاً؛ لعدم كونها حينئذٍ من المُقرّرات الشرعيّة، و إنّما تصير مُخترعات شرعيّة بعد ما قرّرها الشارع في شريعته بجعلها متعلّقة للأوامر، و حينئذٍ تصير كالجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة.

و لا فرق بين الجزئيّة و الكلّية في كونهما أمرين مُنتزعين عن تعلّق الأمر بالطبيعة، فيكون نحو تقرّرهما في الشريعة بكونهما مُنتزعين من الأوامر المُتعلّقة بالطبائع المُركّبة، فمن جعل الجزئيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة مع اعترافه بكونها انتزاعية فليجعل الكلّية أيضاً كذلك.

و على هذا: فلا مانع من جعل الماهيّات الاختراعيّة من الأحكام الوضعيّة؛ أي من المُقرّرات الشرعيّة و الوضعيّات الإلهيّة، و لكن إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من الوضعيّات يحتاج إلى تأويل.

نعم: نفس الصلاة و الصوم كنفس الفاتحة و الركوع و السجود مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بهما و صيرورتهما من المُقرّرات الشرعيّة، لا تعدّان من الأحكام الوضعيّة، و لا من الماهيّات المُخترعة.

فالتحقيق: انَّ جميع المُقرّرات الشرعيّة تنقسم إلى الوضع و التكليف و لا ثالث لهما.

نعم: صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الآخر، بل في بعضها غير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم و عدمه، بل في مطلق الوضعيّات، صدق عليها أو لا.


1- نفس المصدر 4: 385 و 386.

ص: 68

الأمر الثاني بعض موارد الخلط بين التكوين و التشريع

اشارة

إنَّه كثيراً ما يقع الخلط بين الامور التكوينيّة و التشريعيّة، فيُسري الغافل الحكم من التكوين إلى التشريع، فمن ذلك: أنَّه لمّا قرع بعض الأسماع أنَّ الامور الانتزاعيّة يكون جعلها و رفعها بمناشئ انتزاعها، فلا يمكن جعل الفوقيّة و التحتيّة للجسمين إلّا بجعلهما بوضع خاصّ، يكون أحدهما أقرب إلى المركز و الآخر إلى المُحيط، فبعد ذلك تنتزع الفوقيّة و التحتيّة منهما قهراً، و لا يمكن جعلهما و رفعهما استقلالًا، فجعل هذا الحكم التكوينيّ مقياساً للُامور التشريعيّة، فقايس الامور التشريعيّة بالأُمور التكوينيّة، فذهب إلى امتناع جعل الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة للمأمور به و رفعها عنه استقلالًا، و زعم أنَّ جعلها بجعل منشأ انتزاعها كالأُمور التكوينيّة(1)، مع أنَّ القياس مع الفارق.

و توضيح ذلك: أنَّ الامور الاعتباريّة تابعة لكيفيّة اعتبارها و جعلها، فقد يتعلّق الأمر القانونيّ بطبيعة أوّلًا على نحو الإطلاق لاقتضاء في ذلك، ثمّ تحدث مصلحة في أن يجعل لها شرط، أو يُجعل لها قاطع و مانع بلا رفع الأمر القانونيّ الأوّل، فلو قال المولى:

«أَقِيمُوا الصَّلاةَ»*(2) ثمَّ قال: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ»(3) أو قال: «يشترط في الصلاة الوضوء أو القبلة» أو قال: «لا تصلِّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» أو «لا تصلّ في الثوب النجس» ينتزع منها الشرطيّة و المانعيّة، فهل ترى أنَّه يلزم أن يرفع الأمر الأوّل و ينسخه، ثمّ يأمر بالصلاة مع التقيّد بالشرط أو عدم المانع؟! و أيّ مانع من جعل الوجوب للطبيعة المُطلقة بحسب الجعل الأوّلي، ثمّ يجعلها


1- كفاية الاصول: 456 و 457.
2- سورة البقرة 2: 43.
3- سورة المائدة 5: 6.

ص: 69

مشروطة بشي ء بجعل مُستقلّ، أو يجعل شيئاً مانعاً لها بنحو الاستقلال لاقتضاء حادث، كما غيّر اللَّه قبلة المُسلمين إلى المسجد الحرام؟! فهل كان قوله: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» إلى قوله: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ»(1) من قبيل نسخ حكم الصلاة رأساً و إبداء حكم آخر، أو كان الجعل مُتعلّقاً بالقبلة فقط؟! و مجرّد كون المُنتزعات التكوينيّة تابعة لمناشئ انتزاعها لا يوجب أن تكون الشرائط و الموانع التشريعيّة كذلك، و كذا الكلام في إسقاط شرط أو مانع.

و بالجملة: تلك الامور الاعتباريّة و الجعليّة كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها، يُمكن جعلها مُستقلًاّ بلا إشكال و ريب، كما يُمكن إسقاطها كذلك.

نعم: إنَّ الإرادة الواقعيّة إذا تعلّقت بطبيعة لا يُمكن أن تنقلب عمّا هي عليه من زيادة جُزء أو شرط أو مانع، أو إسقاطها مع بقائها على ما هي عليه؛ لأنَّ تشخّصها بتشخّص المُراد، فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغيّر المُراد، بخلاف الامور القانونيّة فإنَّها تابعة لكيفيّة تعلّق الجعل بها هذا حال الشروط و الموانع.

و كذا حال إسقاط الجزئية، فلو قال المولى: «أسقطت جزئيّة الحمد للصلاة» تصير ساقطة مع بقاء الأمر القانونيّ.

و أمّا حال جعل الجُزئيّة فتوضيحه: أنَّ الأوامر المُتعلّقة بالطبائع المُركّبة إنّما تتعلّق بها في حال لحاظ الوحدة، و لا يكون الأمر بها مُتعلّقاً بالأجزاء، بحيث ينحلّ الأمر إلى الأوامر، و لا الأمر الذي هو بسيط مبسوطاً على الأجزاء، بل لا يكون في البين إلّا أمر واحد مُتعلّق بنفس الطبيعة في حال الوحدة، و هذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الأجزاء في لحاظ التفصيل، فإذا أمر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلّا نفس طبيعتها، و تكون الأجزاء مغفولًا عنها.


1- سورة البقرة 2: 144.

ص: 70

فحينئذٍ نقول: إنَّ الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات، و إلى الأجزاء بعين دعوته إلى الطبيعة، فإذا جعل المولى جزءاً للطبيعة فقال:

(لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب)

(1) أو «اقرأ في الصلاة» أو «جعلت الفاتحة جزءاً لها» يدعو الأمر المُتعلّق بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة، كما إذا أسقط جزءاً منها تكون دعوة الأمر إلى الطبيعة دعوة إلى بقيّة الأجزاء.

و بالجملة: لا أرى وجهاً لامتناع تعلّق الجعل الاستقلاليّ- على ما ذكر- إلّا توهّم كون التشريع كالتكوين، و إلّا فلو لم يرد من المولى إلّا الأمر بطبيعة، ثمّ صدر منه أمر آخر يدلّ على اشتراطها بشي ء، أو جعل شي ء جزءاً منها، فهل يجوز للعبد ترك الشرط أو الجزء قائلًا: بأنَّه لا بدّ من صدور أمر آخر مُتعلّق بالطبيعة المُتقيّدة أو المُركبة من هذا الجزء، و لم يصدر منه على القطع إلّا الأمر بالطبيعة و الدليل الدالّ على الاشتراط أو الجزئية، و ذلك لا يكفي في الدعوة و البعث، و هل هذا إلّا كلام شعريّ مُخالف للحُجّة القطعيّة؟!

توهّم عدم قبول السببيّة للجعل و دفعه

و من موارد الخلط بين التكوين و التشريع ما يقال: إنَّ السببيّة ممّا لا تقبل الجعل لا تكويناً و لا تشريعاً، لا أصالة و لا تبعاً، بل الذي يقبله هو ذات السبب و وجوده العينيّ، و أمّا السببيّة فهي من لوازم ذاته كزوجيّة الأربعة؛ فإنَّ السببيّة عبارة عن الرشح و الإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المُسبّب، و هذا الرشح و الإفاضة من لوازم الذات، لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكوينيّ، فضلًا عن التشريعيّ، بل هي كسائر


1- عوالي اللآلي 1: 196/ 2، مستدرك الوسائل 1: 774/ 5 و 8- باب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، تفسير أبي الفتوح الرازي 1: 15.

ص: 71

لوازم الماهيّة تكوينها إنّما يكون بتكوين الماهيّة، فَعِلِّية العلّة و سببيّة السبب كوجوب الواجب و إمكان المُمكن إنّما تكون من خارج المحمول، تُنتزع عن مقام الذات، ليس لها ما بحذاء، لا في وعاء العين، و لا في وعاء الاعتبار، فالعلّية لا تقبل الإيجاد التكويني فضلًا عن الإنشاء التشريعيّ (1)، هذا ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه في وجه عدم إمكان جعل السببية.

و فيه: مُضافاً إلى خلطه بين لوازم الماهيّة و لوازم الوجود، و خلطه بين المحمول بالضميمة و خارج المحمول، و خلطه بين السببيّة؛ أي الخصوصيّة التي يصير المبدأ بها مبدأً فعليّاً للمُسبّب، و بين الرشح و الإفاضة أي المُسبّب بما أنَّه مُسبّب أنَّه خلط بين الأسباب التكوينيّة و الأسباب التشريعيّة، و قاس التشريع بالتكوين بلا وجه؛ فإنَّ نحو السببيّة التكوينيّة سواءً كانت بمعنى مبدئيّة الإفاضة، أو نفس الرشح و الإفاضة لا يكون في التشريعيّات مُطلقاً، فلا يكون العقد مُترشّحاً منه الملكيّة أو الزوجية، و التحرير مُترشّحاً منه الحرّية، كما لا تكون في العقود و الإيقاعات خصوصيّات بها تصير منشأ لحقائق المُسبّبات:

أمّا عدم المنشئية لأمر حقيقيّ تكوينيّ فواضح.

و أمّا عدم صيرورتها منشأً حقيقيّاً للاعتبار؛ فلأنَّ الاعتبارات القائمة بنفس المنشئ أو العقلاء أو الشارع، لها مناشئ تكوينيّة، لا تكون العقود و الإيقاعات أسباباً لتكوّنها فيها، فالسببيّة للُامور التشريعيّة و الاعتبارات العقلائيّة إنّما هي بمعنى آخر غير السببيّة التكوينيّة، بل هي عبارة عن جعل شي ء موضوعاً للاعتبار.

فالمُقنّن المشرّع إذا جعل قول الزوج: «هي طالق»- مع الشرائط المُقرّرة في قانونه- سبباً لرفع عُلقة الزوجيّة يرجع جعله و تشريعه إلى صيرورة هذا الكلام مع الشرائط


1- فوائد الاصول 4: 394 و 395.

ص: 72

موضوعاً لاعتبار فسخ العقد و رفع عُلْقة الزوجيّة، و لأجل نفوذه في الامّة يصير نافذاً، فقبل جعل قول الزوج سبباً لحل العقد لا يكون قوله: «أنتِ طالق» سبباً له و موضوعاً لإنفاذ الشارع المُقنّن، و بعد جعل السببيّة له يصير سبباً و موضوعاً لاعتباره القانونيّ المُتبع في امّته و قومه، من غير تحقّق رشح و إفاضة و خصوصيّة، فالسببيّة من المجعولات التشريعيّة

نعم: للشارع و المُقنّن أن يجعل المسبّبات عقيب الأسباب، و أن يجعل نفس سببية الأسباب للمُسبّبات، و الثاني أقرب إلى الاعتبار في المجعولات القانونيّة فتدبّر.

الأمر الثالث إنَّ الملكيّة ليست من المقولات حقيقة

اشارة

إنَّ تلك الامور التشريعيّة في القانون الشرعيّ أو القوانين العرفيّة لا يكون لها نحو تحقّق إلّا في عالم الاعتبار، و ليس لما يعتبر من الملكيّة و الزوجيّة و الحرّية و الرقّيّة و أمثالها إلّا وجود اعتباريّ، فلا يندرج واحد منها تحت مقولة من المقولات اندراجاً حقيقيّاً، فلا تكون الملكيّة من مقولة الجِدَة، و لا من مقولة الإضافة.

نعم: نفس مفهوم الملكيّة مفهوم إضافيّ، لكن لا يوجب ذلك اندراج الملكيّة الاعتباريّة تحت مقولة الإضافة، كما هو المعلوم عند أهله (1)، فقول بعضهم: إنَّ مقولة الجِدَة لها مراتب: أحدها الملكيّة الاعتباريّة، حتّى عدّ مالكيّة اللَّه تعالى أيضاً من مراتبها(2) لا ينبغي أن يصغى إليه.

نعم: الملكيّة تشبّه بمقولة الإضافة من وجه، و بمقولة الجِدَة من وجهٍ


1- منظومة السبزواري- قسم الحكمة: 145، الأسفار 4: 6.
2- فوائد الاصول 4: 383 و 384.

ص: 73

آخر(1)، لكنّ البحث في شباهتها بهما و عن وجهها ممّا لا يرجع إلى محصّل.

أقسام الوضعيّات

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنَّ الأحكام الوضعيّة عبارة عن كافّة المُقرّرات الشرعيّة ما عدا الأحكام التكليفيّة، حتّى أنَّ الإباحة الواقعيّة لو كان لها جعل تكون من الوضعيّات و الأحكام الوضعيّة، بعد اشتراكها كلّها في إمكان جعلها استقلالًا، و ليس حكم وضعيّ إلّا و يمكن أن يتطرّق إليه الجعل الاستقلاليّ.

[فمنها ما يكون مجعولًا بالتبع، و هو] على أنحاء:

منها: ما يكون مجعولًا بتبع التكليف؛ بمعنى انتزاعه منه، كالجزئيّة للمُكلّف به غالباً، و الشرطيّة و المانعيّة له.

و منها: ما يكون مجعولًا بتبع اشتراط التكليف به؛ أي ينتزع من اشتراطه به، كقوله تعالى «لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»(2) فإنَّ الاستطاعة لم تكن قبل هذا الجعل شرطاً للتكليف، و بعد تقييد التكليف بها انتزع منه الشرطيّة، و يمكن أن يكون دُلوك الشمس من هذا القبيل، كما يُمكن أن يكون من قيود المكلّف به كما هو الأظهر؛ فإنَّ الصلاة كما أنّها مشروطة بالستر، مشروطة بوقوعها من دُلوك الشمس إلى غَسَق الليل.

و منها: ما يكون مجعولًا أصالة و هو على أنحاء:

منها: ما يكون مُتعلّق الجعل ابتداءً من غير تخلّل واسطة تكوينية أو تشريعيّة، كالخلافة و النبوّة و الإمامة و القضاوة، و السببيّة و الشرطيّة و المانعيّة و القاطعيّة أحياناً، و من


1- انظر نهاية الدراية 3: 61 و 62.
2- سورة آل عمران 3: 97.

ص: 74

ذلك جعل المواقيت و الموقفين، و جعل الصفا و المروة و المسعى من شعائر اللَّه، و أمثال ذلك، و إن أمكن أن يقال بانتزاع بعضها من الحكم التكليفيّ.

و منها: ما يكون مجعولًا عقيب شي ء اعتباريّ أو تكويني، كضمان اليد و الإتلاف، و كحقّ السبق و التحجير، و كحقّ الرهان في باب السبق و الرماية، و كالملكيّة عقيب الإحياء و الحيازة، و من قبيله جميع الحدود الشرعيّة، و أحكام القِصاص و الدِّيات.

و منها: ما يكون مجعولًا عقيب أمر تشريعيّ قانونيّ، كالعهدة عقيب عقد الضمان، و من ذلك مفاد العقود و الإيقاعات، فإنَّ كل ذلك من التشريعيّات و الجعليّات الشرعيّة و العرفيّة التي أنفذها الشارع، و المراد من الأحكام التشريعيّة [ما هو] أعمّ من العرفيّات التي أنفذها الشارع، أو لم يردع عنها.

ثمّ اعلم: أنَّ في العقود و الايقاعات و سائر الوضعيّات ذوات الأسباب يمكن أن يلتزم بجعل السببيّة، فيقال: بأنَّ الشارع جعل الحيازة سبباً للملكيّة، و اليد سبباً للضمان، و عقد البيع و النكاح سببين لمُسبّبهما، و يمكن أن يلتزم بجعل المُسبّب عقيب السبب، و الأوّل هو الأقرب بالاعتبار و الأسلم من الإشكال، لكن في كلّ مورد لا بدّ من ملاحظة مقتضى دليله.

فقد اتضح ممّا ذكرنا: النظر في كثير ممّا أفاده المحقّق الخراساني (1) و غيره (2) في المقام، منه ما أفاده رحمه اللَّه في النحو الأوّل من الوضع، فإنَّه مع تسليم عدم تطرّق الجعل التشريعيّ مُطلقاً إلى شي ء لا وجه لعدّه من الأحكام الوضعيّة(3) فإنَّ الأحكام الوضعيّة هي الأحكام الجعليّة و المُقرّرات الشرعيّة، فلا معنى لعدّ ما لا يتطرّق إليه الجعل منها.


1- كفاية الاصول: 454 و ما بعدها.
2- فوائد الاصول 3: 17، 105 و 4: 392.
3- كفاية الاصول: 455.

ص: 75

مع أنّك قد عرفت النظر(1) في عدّ السببيّة للتكليف ممّا لا يتطرق إليه الجعل؛ فإنَّ السببيّة كالمانعيّة و الشرطيّة و الرافعيّة لأصل التكليف أيضاً من الوضعيّات المُتطرّق إليها الجعل، فإنَّ نفس دلوك الشمس إلى غسق الليل أو سببيّته للجعل و إن لم يكن مجعولًا، لكن سببيّته للوجوب يُمكن أن تكون مجعولة و مُقرّرة شرعاً، كما أنَّ الاضطرار و إن لم يكن مجعولًا، لكن يمكن جعل السببيّة لرفع التكليف له، كما يمكن رفع التكليف عقيبه، كما هو ظاهر قوله:

(رفع ... و ما اضطرّوا إليه)

(2) الرافع لحرمة الخمر في صورة الاضطرار العرفيّ.

هذا، كما أنَّ عدّ بعضهم الكاشفيّة و الطريقيّة و الحُجّية و أمثال ذلك من الوضعيّات (3) في غير محلّه؛ فإنَّ الحُجّية سواءً كانت بمعنى منجّزية التكليف، أو بمعنى قاطعيّة العذر ليست من المجعولات، كما أنَّ الطريقيّة و الكاشفيّة للكاشف و الطريق ليستا بمجعولتين، كما مرّ ذكره في محلّه (4).


1- انظر صفحة 70 و 71.
2- انظر التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، الوسائل 11: 295/ 1- باب 56 من أبواب جهاد النفس.
3- تقدّم تخريجه في الصفحة السابقة.
4- ذُكر في أنوار الهداية 1: 206.

ص: 76

ص: 77

تنبيهات

التنبيه الأوّل في اعتبار فعلية اليقين و الشك في الاستصحاب و أخذهما في موضوعه على نعت الموضوعيّة

اشارة

يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشكّ و اليقين بناءً على أخذهما موضوعاً و ركناً فيه، كما سيأتي التعرّض لذلك (1)، و ليس المُراد من فعليّتهما تحقّقهما في خزانة النفس و لو كان الإنسان ذاهلًا عنهما، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق و شكّه اللّاحق؛ لأنَّ الاستصحاب كالأمارات إنّما اعتبر لأجل تنجيز الواقع، و إقامة الحُجّة عليه، و التحفّظ على الواقع في زمن الشكّ؛ أي يكون حُجّة من المولى على


1- يأتي في صفحة 80.

ص: 78

العبد في بعض الاستصحابات، و من العبد على المولى في بعضها، و الحُجّة لا تصير حُجّة إلّا مع العلم و الالتفات (1)، فقوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

(2) أو «صدّق العادل» و إن كان لهما وجود واقعيّ علم المُكلّف [به أو لا، لكنّهما لا يصيران حُجّة على الواقعيّات بوجودهما الواقعيّ، فلو دلّ دليل على حرمة الخمر مُطلقاً، و دلّ دليل آخر على حلّية قسم منها، و لم يصل المُخصّص إلى المكلّف، و ارتكب هذا القسم، و كان بحسب الواقع محرّماً؛ أي كان المُخصّص مخالفاً للواقع، يكون المُكلّف معاقباً على الواقع، و ليس له الاعتذار بأنَّ لهذا العامّ مخصّصاً واقعاً؛ لأنَّ وجوده الواقعيّ لا يكون حُجّة لا من العبد و لا عليه، فقوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

إنّما يصير حُجّة على الواقع أو عُذراً منه إذا كان المُكلّف متوجّهاً و ملتفتاً إلى الموضوع و الحكم، فلا معنى لجريان الاستصحاب مع عدم فعلية الشكّ و اليقين

هذا مضافاً إلى ظهور أدلّته في فعليّتهما أيضاً، فحينئذٍ لو كان المُكلّف قبل الصلاة شاكّاً في الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً، و صار ذاهلًا و صلّى، ثمَّ بعد صلاته التفت إلى شكّه و يقينه لا يكون مجرىً للاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل شروعه في الصلاة؛ للذهول عن الشكّ و اليقين.

و أمّا جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إليه أيضاً(3) فمُشكل؛ لظهور أخبارها(4) في حدوث الشكّ بعد العمل، و هذا الشكّ ليس حادثاً بل كان باقياً في خزانة النفس، و يكون من قبيل إعادة ما سبق، أو الالتفات إلى ما كان موجوداً، فتجب إعادة الصلاة،


1- فوائد الاصول 4: 317 و 318.
2- التهذيب 1: 8/ 11، الوسائل 1: 174/ 1- باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
3- كفاية الاصول: 459، فوائد الاصول 4: 318.
4- يأتي ذكرها في صفحة 306- 311.

ص: 79

إمّا لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة بأن يقال: إنَّ استصحاب الحدث في حال الصلاة ممّا يوجب الإعادة، و هو و إن كان حكماً عقليّاً، لكنّه من الأحكام التي تكون للأعمّ من الحكم الواقعيّ و الظاهريّ، و إمّا لأجل قاعدة الاشتغال لو سلمت مُثبتيّة الاستصحاب.

ثمَّ إنَّ اشتراط فعليّة الشكّ و اليقين إنّما هو فيما إذا قلنا: بأخذهما في الاستصحاب على نحو الموضوعيّة؛ أي إذا كان الشكّ و اليقين ركنين فيه، و أمّا إذا قلنا: بأنَّ المُعتبر فيه هو الكون السابق و الشكّ اللّاحق، كما هو مختار الشيخ الأنصاريّ قدس سره (1)، أو قلنا: بأنَّ الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبدية بين الكون السابق و بقائه، كما يظهر من المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه في التنبيه الثاني (2)، فلا يبقى مجال للبحث عن فعليّة اليقين على كلا المسلكين، و عن فعليّة الشكّ أيضاً على المسلك الثاني.

و من هنا يرد إشكال على المحقّق الخراساني: و هو وقوع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل: من اعتبار فعليّة الشكّ و اليقين في الاستصحاب (3)، و بين ما اختاره في التنبيه الثاني: من الاكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شي ءٍ على تقدير ثبوته و إن لم يحرز ثبوته، بل الظاهر منه في أواخر التنبيه، أنَّ الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبّدية بين ثبوت الشي ء و بقائه؛ و ذلك لأنَّ لازم القول باعتبار فعليّة اليقين و الشكّ هو أخذهما في موضوعه، و لازم ما اختاره في التنبيه الثاني، هو عدم أخذهما فيه، أو لا أقلّ من عدم أخذ اليقين فيه ليكون مطابقاً لاختيار الشيخ، كما ربما يظهر من أوائل التنبيه الثاني، فيقع التهافت بينهما و لا مهرب منه.

ثمَّ إنَّ في اعتبار الشكّ و اليقين في الاستصحاب على نعت الموضوعيّة، أو عدم


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 318 و 321 سطر 16.
2- كفاية الاصول: 461.
3- نفس المصدر: 459.

ص: 80

اعتبارهما، أو اعتبار الشكّ دون اليقين، أو العكس، وجوهاً و احتمالات:

من أنَّ الظاهر من أخذ العناوين في الأحكام هو الموضوعيّة و الدخالة.

و من أنَّ العناوين المرآتيّة كاليقين و العلم و أمثالهما لو اخذت في موضوع حكم، يكون الظاهر منها هو كون الموضوع هو المرئيّ بها لا المرآة، و أنَّ الشكّ في قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

(1) لم يؤخذ موضوعاً، بل الظاهر إسقاط الشكّ و عدم صلاحيّته لنقض اليقين.

و من أنَّ اليقين غير مأخوذ في الموضوع لما ذكر في الوجه الثاني، و لكنّ الظاهر من الأدلّة، هو التعبّد بالبقاء في زمان الشكّ، و من هنا يظهر وجه الاحتمال الآخر.

و الأقوى هو الأوّل؛ فإنَّ الظاهر من جميع أدلّة الاستصحاب، هو أنَّ اليقين المُقابل للشكّ لأجل كونه أمراً مُبرماً لا ينقض بالشكّ، و أنَّ العناية في التعبّد في زمان الشكّ إنّما تكون لأجل مسبوقيّته باليقين.

و بالجملة: لا يجوز رفع اليد عن اليقين و الشكّ بعد ظهور الأدلّة في كون العناية بهما، و أنه لا ينبغي رفع اليد عن اليقين الذي هو حُجّة مُبرمة بالشكّ الذي هو غير حُجّة و غير مُبرم، و لا ينافي موضوعيّتهما كون الاستصحاب ناظراً إلى ترتيب آثار الواقع و مُعتبراً لأجل التحفّظ عليه، كما هو كذلك في باب أداء الشهادة(2)؛ فإنَّ العلم مع كونه تمام الموضوع له يعتبر لأجل التحفّظ على الواقع؛ و ذلك لأنَّ أخذ اليقين موضوعاً إنّما هو جهة تعليليّة لحفظ الواقع، من غير تقيّد بإصابته، أو تركيب بينها و بين الواقع في الموضوعيّة، أو كون الواقع تمام الموضوع.


1- تقدّم تخريجه في صفحة 78.
2- انظر الوسائل 18: 250/ 1- 3 باب 20 من أبواب الشهادات.

ص: 81

إشكال جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات و جوابه

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ اليقين و الشكّ مأخوذان فيه على جهة الموضوعيّة، لكن اخذ اليقين بما أنَّه طريق و كاشف، و أيضاً قد عرفت (1) في ذيل الصحيحة الاولى أنَّ صحّة نسبة عدم نقض اليقين بالشكّ إنّما هي في اليقين بما أنَّه كاشف عن الواقع.

فحينئذٍ: يقع الإشكال الذي أورده المُحقّق الخراسانيّ- في التنبيه الثاني في باب مؤدّيات الطرق و الأمارات، سواءً في الأحكام أو في الموضوعات- و هو أنَّ الاستصحاب متقوّم باليقين، و الأمارات مُطلقاً لا تفيد اليقين، فينسدّ باب الاستصحاب في جلّ الأحكام الوضعيّة و التكليفيّة و كثير من الموضوعات (2).

و الشيخ العلّامة الأنصاريّ و المحقّق الخراسانيّ رحمهما اللَّه في فسحة من هذا الإشكال؛ لعدم كون اليقين مُعتبراً عندهما في موضوع الاستصحاب، لكن قد عرفت (3) الإشكال في مبناهما.

و أمّا على المبنى المنصور فيمكن أن يجاب عنه: بأنَّ الظاهر من الأدلّة بمُناسبة الحكم و الموضوع هو أنَّ الشكّ باعتبار عدم حُجّيته و إحرازه للواقع لا ينقض اليقين الذي هو حُجّة و مُحرز له؛ فإنَّه لا ينبغي أن ترفع اليد عن الحُجّة بغير الحُجّة.


1- تقدّم في صفحة 32 و 33.
2- كفاية الاصول: 460.
3- تقدّم في صفحة 80.

ص: 82

و بعبارة اخرى أنَّ العرف لأجل مناسبة الحكم و الموضوع يُلغي الخصوصيّة، و يحكم بأنَّ الموضوع في الاستصحاب هو الحُجّة في مقابل اللّاحجّة، فيُلحق الظنّ المُعتبر باليقين، و الظنَّ الغير المُعتبر بالشكّ.

و يُؤيّد ذلك بل يدلّ عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية:

(لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً)

(1) الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، و لا بدّ أن تحمل الطهارة على الواقعيّة منها؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهريّة لما ذكرنا سابقاً(2).

و معلوم: أنَّ العلم الوجدانيّ بالطهارة الواقعيّة ممّا لا يمكن عادة، بل العلم إنّما يحصل بالأمارات، كأصالة الصحّة، و إخبار ذي اليد، و أمثالهما، فيرجع مفاده إلى أنَّه لا ترفع اليد عن الحُجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.

بل يمكن أن يُؤيّد بصحيحته الاولى أيضاً؛ فإنَّ اليقين الوجداني بالوضوء الصحيح أيضاً ممّا لا يمكن عادة، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحّة بعده، و يحكم بصحّته بقاعدة الفراغ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجب الشكّ فيه، فاليقين بالوضوء أيضاً لا يكون يقيناً وجدانيّاً غالباً تأمّل.

و يؤيّده أيضاً بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد بعض الأمارات، كما دلّ على جواز الشهادة و الحلف مع الاستصحاب في الغائب المُنقطع خبره إذا وصل [خبر] موته بعد ثلاثين سنة، و شكّ في إحداث الحدث في أمواله، و حدوث وارث جديد له، و كلّف القاضي الشهود ليشهدوا بأنَّ أمواله له، و ورّاثه


1- علل الشرائع: 361/ 1، التهذيب 1: 321/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 641، الوسائل 2: 1053/ 1- الباب 37 من أبواب النجاسات.
2- و ذلك في صفحة 61- 63 من هذا الكتاب، حيث أفاد قدّس سره بأن الجمع بين إرادة الطهارة الواقعية و الظاهرية مُستحيل؛ للأدلة المذكورة فراجع، و يأتي تفصيل البحث في صفحة 221.

ص: 83

منحصرون في الموجودين (1)، فلو لا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما جازت الشهادة بأنَّ أمواله له؛ لامتناع حصول اليقين الوجدانيّ بأنَّ المال ما له، فجريان الاستصحاب في مفاد الأمارات و بعض الاصول- كأصالة الصحّة- ممّا لا مانع منه.

و أمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر: من توسعة اليقين إلى الأعمّ من الوجدانيّ و ما هو بمنزلته (2)- بناءً على مسلكه من قيام الطرق و الأمارات مقام القطع الطريقيّ؛ لحكومة أدلّتها على دليله (3)- فقد عرفت في مبحث القطع ما فيه؛ من أنَّ الأمارات المتداولة المُعتبرة في الشريعة أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع لا تأسيسيّة، و ليس بناءُ العقلاء في العمل على طبق الأمارات لأجل تنزيلها منزلة القطع، بل هي أمارات مُستقلّة معمول بها، كان القطع أو لم يكن.

نعم: مع وجود القطع في مورد لا يبقى محلّ للعمل بالأمارة(4).

و بالجملة: لا دليل في باب حُجّية الأمارات يكون حاكماً على دليل الاستصحاب، و يجعل اليقين أعمّ من الوجدانيّ و غيره، و هذا واضح جدّاً.

التنبيه الثاني في أقسام استصحاب الكلّي

اشارة

المُتيقّن السابق إذا كان كلّياً في ضمن فرده و شكّ في بقائه: فإمّا أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في بقاء ذلك الفرد، و إمّا أن يكون من جهة الشكّ في تعيين الفرد و تردّده بين ما هو باقٍ جزماً و بين ما هو مرتفع كذلك، و إمّا من جهة الشكّ في تحقّق فرد آخر مع الجزم بارتفاع الفرد المُتحقّق.


1- انظر الكافي 7: 387/ 4، التهذيب 6: 262/ 698، الوسائل 18: 246/ 2- باب 18 من أبواب الشهادات.
2- فوائد الاصول 4: 403 و 404.
3- نفس المصدر 3: 24 و 25.
4- انظر أنوار الهداية 1: 105- 108.

ص: 84

القسم الأوّل من استصحاب الكليّ

أمّا الأوّل: فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي و الفرد فيه و ترتيب آثار كلّ منهما عليه، كما أنَّه لا إشكال في أنَّ جريان استصحاب الكلّي لا يُغني عن استصحاب الفرد؛ لأنَّ بقاء الكلّي يستلزم عقلًا كونه في ضمن هذا الفرد؛ لانحصاره به فرضاً.

و هل يغني استصحاب الفرد عن الكلّي (1) أم لا(2) أو يفصّل بين ما إذا كان الكلّي بنحو صرف الوجود، و بين ما إذا كان بنحو الوجود الساري؛ لأنَّ الكلّي اعتبر في النحو الثاني مُتّحداً مع الأفراد، فجريانه في الفرد يُغني عنه؛ لأنَّه مُتّحد معه، لا مستلزم إيّاه (3)!!

و التحقيق: عدم إغنائه عنه مُطلقاً؛ لأنَّ حيثيّة الكلّي غير حيثيّة الخصوصيّات الفرديّة في عالم الاعتبار و مقام تعلّق الأحكام بالموضوعات، فاعتبار إيجاب إكرام كلّ إنسان غير اعتبار إيجاب إكرام زيد و عمرو؛ فإنَّ الحكم قد تعلّق في الأوّل بحيثيّة إنسانيّة كلّ فرد، و هي غير الخصوصيّات الفرديّة عرفاً، فإسراء الحكم من أحد المُتّحدين في الوجود و المختلفين في الحيثيّة بالاستصحاب لا يمكن إلّا بالأصل المُثبت.

القسم الثاني من استصحاب الكلّي

اشارة

و أمّا الثاني: فالأقوى جريان استصحاب الكلّي فيه أيضاً؛ لأنَّ المُعتبر فيه هو وحدة القضيّة المُتيقنة و المشكوك فيها عرفاً، و هو حاصل؛ لأنَّه مع العلم بوجود فرد من


1- حاشية الآخوندي على الرسائل: 202 سطر 12.
2- نهاية الأفكار 4: 122.
3- انظر هامش درر الفوائد: 533.

ص: 85

الحيوان يعلم بوجود الحيوان، و مع الشكّ في كونه طويل العمر يشكّ في بقاء عين الحيوان المُتيقّن، فما هو مشكوك البقاء عين ما هو مُتيقّن الحدوث.

لا يقال: إنَّ المُتيقّن السابق مردّد بين الحيوانين، و الكلّي مُتكثّر الوجود في الخارج، فالبقّ غير الفيل وجوداً و حيثيّة، حتّى إنَّ حيوانيّة البقّ أيضاً غير حيوانيّة الفيل على ما هو التحقيق في باب الكلّي الطبيعي (1) و ما هو مشكوك البقاء ليس هذا المُتيقّن المُردّد بينهما، فلا تتّحد القضيّتان (2).

فإنَّه يقال: إنَّما يرد ذلك- بعد تسليم كون الطبيعيّ مع الأفراد كذلك عُرفاً- لو أردنا استصحاب الفرد المُردّد، دون ما إذا أردنا استصحاب الكلّي؛ فإنَّ المعلوم هو حيوان خارجيّ مُتشخّص يكون الكلّي موجوداً بوجوده، و يشك في بقاء ذاك الحيوان بعينه، فلا إشكال في جريان الأصل فيه.

لكنّ الإنصاف: أنَّه لو اغمض النظر عن وحدتهما عرفاً، فلا يُمكن التخلّص من الإشكال، سواء اريد إجراء استصحاب الكلّي المُعرّى واقعاً عن الخصوصيّة، أو استصحاب الكلّي المُتشخّص بإحدى الخصوصيّتين، أو الكلّي الخارجيّ مع قطع النظر عن الخصوصيّة؛ بدعوى أنَّ الموجود الخارجيّ له جهتان: جهة مُشتركة بينه و بين غيره من نوعه أو جنسه في الخارج، وجهة مميّزة، و العلم بوجود أحد الفردين موجب لعلم تفصيليّ بجهة مُشتركة خارجيّة بينهما؛ و ذلك لاختلال ركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير:

أمّا على التقدير الأوّل: فللعلم بعدم وجود الكلّي المُعرّى واقعاً عن الخصوصيّة؛


1- انظر رسائل ابن سينا 1: 466 و 467، الشفاء: 208- قسم الإلهيات، الأسفار 1: 273، 274 و 2: 7 و 8، درر الفوائد للآملي 1: 312، تهذيب الاصول 1: 278، مناهج الوصول 2: 72 و 77.
2- انظر نهاية النهاية 2: 193.

ص: 86

لامتناع وجوده كذلك، فيختلّ ركناه.

و أمّا على الثاني: فلأنَّ ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما؛ لأنَّ الكلّي المُتشخّص بكلّ خصوصيّة يُغاير المُتشخّص بالخصوصيّة الاخرى، فتكون القضيّة المُتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما، و قضيّة اعتبار وحدتها مع المشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال، و في المقام لا يكون الشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال، بل يعلم في الزمان الثاني إجمالًا، إمّا ببقاء الطويل، أو ارتفاع القصير، و إنَّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم، طويل العمر كان أو قصيره، فاختلّ الركن الثاني منه.

و أمّا على التقدير الثالث: فلأنَّ الجهة المشتركة بما هي مُشتركة غير موجودة في الخارج إلّا على رأي الرجل الهمدانيّ الذي يلزم منه مفاسد كما حُقّق في محلّه (1)، و على المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين، فكما لا علم تفصيليّ بإحدى الخصوصيّتين، لا علم تفصيليّ بإحدى الطبيعتين؛ لامتناع حصول العلم التفصيليّ إلّا مع وحدة الطبيعة المعلومة، فحينئذٍ يأتي فيه الإشكال المُتقدّم (2). فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيّتين عرفاً، و هي المُعتبرة في الاستصحاب، و الدليل على عرفيّة القضيّة ما ترى من عدم قبول النفوس خلافها إلّا بالبرهان، و حكم أهل العرف قاطبة ببقاء النوع الإنساني و سائر الأنواع من بدو الخلقة إلى انقراضها، و اشتهار القول بأنَّ المهملة توجد بوجود ما، و تنعدم بعدم جميع الأفراد(3)، و غيرها ممّا هي من لوازم قول الهمدانيّ.

لا يقال: يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على استصحاب بقاء النهار في الشبهة المفهوميّة: من أنَّ النهار ينتهي إلى سقوط قرص الشمس، أو يبقى إلى زوال الحمرة؛ لأنَ


1- انظر صفحة 85.
2- تقدّم في صفحة 85.
3- انظر شرح المطالع: 138 سطر 23، الجوهر النضيد: 55.

ص: 87

الاستصحاب غير جار فيه، لعدم الشكّ في الخارج؛ لأنَّ سقوط القرص معلوم، و عدم زوال الحمرة معلوم أيضاً، فالأمر دائر بين المعلومين، و إنّما الشكّ في انطباق مفهوم النهار على احدى القطعتين (1)، و كذا الحال فيما نحن فيه لدوران الأمر بين المقطوعين؛ لأنَّ الحيوان الخارجيّ إمّا باق قطعاً، أو مرتفع كذلك، فلا شكّ في الخارج، و إنّما الشكّ في انطباق عنوان الفيل أو البقّ عليه.

فإنَّه يقال: قياس ما نحن فيه على الشبهة المفهوميّة مع الفارق؛ لأنَّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة ليس إلّا في المعنى اللّغوي أو العرفيّ؛ أي يشكّ في أنَّ لفظ «النهار» موضوع إلى هذا الحدّ أو ذلك، و هو ليس مجرى الاستصحاب، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنَّ الشكّ إنّما هو في بقاء الحيوان الخارجيّ، و منشأ الشكّ إنّما هو الشكّ في طول عمره و قصره، و مثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه إلّا من جهة الشكّ في المُقتضي، و قد فرغنا من جريانه فيه (2).

و أمّا الإشكال من جهة أنَّ الشكَّ في بقاء الكلّي مُسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل المنفيّ بالأصل (3) فواضح الفساد.

الجواب عن الشبهة العبائيّة

ثمَّ إنَّه لا إشكال في أنَّه لا يترتّب على استصحاب الكلّي أثر الفرد و لا أثر غيره من لوازمه و ملزوماته؛ ضرورة أنَّ بقاء الكلّي مستلزم عقلًا لوجود الفرد الطويل، و هذا هو


1- انظر نهاية الأفكار 4: 154، حقائق الاصول 2: 458.
2- تقدّم في صفحة 32 و ما بعدها.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 371 سطر 14، و قد ذكره الشيخ بعنوان التوهّم و أجاب عنه فراجع. نعم، قد بنى عليه السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: 73 سطر 11.

ص: 88

الجواب عن الشبهة العبائيّة المعروفة(1)؛ فإنَّه مع تطهير أحد طرفي الثوب لا يجري استصحاب الفرد المُردّد، و لكن جريان استصحاب النجاسة و إن كان ممّا لا مانع منه؛ لأنَّ وجود النجاسة في الثوب كان مُتيقّناً، و مع تطهير أحد طرفيه يشكّ في بقائه فيه، إلّا أنَّه لا يترتّب على مُلاقاة الثوب أثر مُلاقاة النجس؛ فإنَّ استصحاب بقاء الكلّي أو الشخص الواقعيّ، لا يثبت كون مُلاقاة الأطراف مُلاقاة النجس إلّا بالأصل المُثبت، لأنَّ مُلاقاة الأطراف مُلاقاة للنجس عقلًا.

و ليس لأحدٍ أن يقول: إنَّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تكون المُلاقاة معها وجدانيّة؛ لأنَّ ما هو وجدانيّ هو المُلاقاة مع الثوب لا مع النجس، و استصحاب بقاء النجاسة بالنحو الكلّي و كذا استصحاب النجس الذي كان في الثوب؛ أي الشخص الواقعيّ لا يثبت أنَّ المُلاقاة مع الثوب بجميع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلّا بالاستلزام العقليّ، و فرق واضح بين استصحاب نجاسة طرف معيّن من الثوب، و بين استصحاب نجاسة فيه بنحو غير معيّن؛ فإنَّ ملاقاة الطرف المُعيّن المُستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المُستصحب وجداناً، فإذا حكم الشارع بأنَّ هذا المُعيّن نجس ينسلك في كُبرى شرعيّة هي: «أنَّ ملاقي النجس نجس» و أمّا كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقاةً للنجس الكلّي أو الواقعي فيكون بالاستلزام العقليّ.

أ لا ترى أنَّه لو وجب عليه إكرام عالم، و كان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالماً، فخرج أحدهما من البيت، و بقي الآخر يجري استصحاب بقاء العالم في البيت، و يترتّب عليه أثره لو كان له أثر، لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالماً ليكون إكرامه عملًا بالتكليف، بخلاف ما لو كان زيد عالماً و شكّ في بقاء علمه؛ فإنَّ استصحاب كونه عالماً يكفي في كون إكرامه مُسقطاً للتكليف، كما أنَّه لو شكّ في زوال


1- و هي للمحقّق السيد إسماعيل الصدر رحمه اللَّه كما في نهاية الأفكار 4: 130.

ص: 89

النجاسة المعلومة بالإجمال؛ بأن يشكّ في أنَّ الثوب الذي علم كون أحد طرفيه نجساً هل غسل أم لا؟ يجري استصحاب الكلّي، و لا يثبت كون ملاقي جميع أطرافه نجساً؛ لما عرفت.

لكن هاهنا استصحاب آخر: هو استصحاب الفرد المُردّد، و أثره نجاسة ملاقي جميع الأطراف؛ فإنَّ التعبّد بنجاسة هذا الطرف أو هذا الطرف بنحو الفرد المُردّد يكون أثره نجاسة ملاقي الطرفين من غير شبهة المُثبتيّة، فهو كاستصحاب نجاسة الطرف المُعيّن من حيث إنَّ ملاقيه محكوم بالنجاسة، و الفرق بينه و بين استصحاب الكلّي واضح؛ فإنَّ استصحاب أصل النجاسة في الثوب لا يثبت أنَّ هذا الطرف أو هذا الطرف نجس، و كذا استصحاب الشخص الواقعيّ، و أمّا استصحاب الفرد المردّد فهو كالمُعيّن، فلا إشكال في جريانه و ترتيب أثر النجاسة على ملاقيه (1).

و ما يقال: من أنَّ الفرد المُردّد لا وجود له حتّى يجري الاستصحاب فيه (2)، ليس بشي ء؛ ضرورة جواز التعبّد به و ترتيب الأثر عليه كالواجب التخييريّ، لكنّه محل إشكال، و القياس بالواجب التخييريّ مع الفارق؛ لأنَّ الواجب التخييريّ نحو وجوب على نعت التخيير، و لا يكون له واقع معيّن عند اللَّه مجهول عندنا، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنَّ النجس له واقع معيّن و مجهول عندنا، فالمعلوم هو النجس الواقعيّ المُعيّن، فيجري الاستصحاب فيه، لا في الفرد المردّد، و لازمه عدم نجاسة ملاقي الأطراف، و لا بأس به.

اللّهمّ إلّا أن يقال في المثال: إنّي عالم بأنَّ الشارع حكم بنجاسة هذا الطرف المُعيّن أو ذاك، و المُلاقي لهما مُلاق لمُستصحب النجاسة وجداناً، و هذا هو الفارق بينه و بين


1- و يؤيّد ما ذكرنا ما قاله المحقّقون في كتاب الوديعة: إنَّه لو قال عندي ثوب لفلان و مات، و لم يكن في تركته إلّا ثوب واحد، و شك الورثة في بقاء الوديعة عنده، لا يحكم بكون الثوب وديعة؛ فإنَّ استصحاب بقاء الوديعة لا يثبت كون الثوب وديعة منه قدّس سرّه انظر مفتاح الكرامة 6: 22 سطر 22.
2- نهاية الدراية 3: 71 سطر 5، حاشية المحقق الأصفهاني على المكاسب 1: 32 سطر 12.

ص: 90

الشبهة العبائيّة المدفوعة بما تقدّم (1) فتدبّر.

و أمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه في مقام الجواب عن الشبهة العبائيّة:

من منع جريان استصحاب الكلّي فيما إذا كان الترديد في محلّ المُتيقّن لا في نفسه، كما لو علم بوجود حيوان في الدار، و تردّد بين أن يكون في الجانب الشرقيّ أو الغربيّ منها، ثمّ انهدم الجانب الغربيّ و احتمل تلف الحيوان، أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصّة، و تردّد محلّها بين الطرف الأسفل و الأعلى ثمّ طهّر طرفها الأسفل، فلا يجري الاستصحاب، و لا يكون من الاستصحاب الكلّي؛ لأنَّ المُتيقّن أمر جزئيّ حقيقي لا ترديد فيه، و إنّما الترديد في المحلّ، فهو أشبه باستصحاب الفرد المُردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، و ليس من الاستصحاب الكلّي، و منه يظهر الجواب عن الشبهة العبائيّة المشهورة(2).

ففيه ما لا يخفى فإنَّ استصحاب الفرد المُردّد عبارة عن استصحابه على ما هو عليه من الترديد، و هو غير جار في المقام، و ليس المقام شبيهاً به، بل المُراد بالاستصحاب في المقام هو استصحاب بقاء الحيوان في الدار من غير تعيين محلّه، و كذا استصحاب بقاء النجاسة في الثوب من غير تعيين كونها في هذا الطرف أو ذاك، و من غير إرادة الجريان في الفرد المُردّد؛ ضرورة أنَّه مع تطهير الطرف الأسفل من الثوب ينقطع الترديد، و لا مجال لاستصحاب المُردّد، بل ما يراد استصحابه هو بقاء الحيوان في الدار و النجاسة في العباء، و هذا استصحاب الكلّي، و كون الحيوان الخاصّ فرداً جزئيّاً حقيقيّاً لا ينافي استصحاب الكلّي كما لا يخفى، كما أنَّ استصحاب الشخص الخاصّ و الجزئيّ الحقيقيّ- كاستصحاب بقاء زيد في الدار، و بقاء النجاسة المُتحقّقة الخارجيّة الجزئيّة في الثوب-


1- تقدّم في صفحة 87 و 88.
2- انظر فوائد الاصول 4: 421 و 422.

ص: 91

ممّا لا إشكال فيه؛ فإنَّه استصحاب الفرد المشكوك فيه، و لا شباهة له باستصحاب الفرد المُردّد، فسبيل الجواب عن مثل الشبهة العبائيّة هو ما عرفت (1).

القسم الثالث من استصحاب الكلّي

و أمّا الثالث: و هو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم ارتفاعه فيتصوّر على وجهين:

أحدهما: ما إذا كان منشأ الشكّ احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم؛ بحيث احتمل اجتماعها في الوجود.

و ثانيهما: ما إذا كان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارناً لزوال الفرد المعلوم، سواء كان الفرد الآخر من الجواهر أو الاعراض، فإذا احتمل مقارنة فرد من السواد في جسم مع الفرد الآخر في جسم آخر علم زواله، فهو من القسم الأوّل، و إذا احتمل حدوث فرد منه مقارناً لزوال ذلك الفرد، فهو من القسم الثاني، كما أنَّه إذا احتمل تبدّل الفرد الزائل بفرد آخر مباين له في الوجود، فهو من القسم الثاني أيضاً.

و أمّا احتمال تبدّل مرتبة من العَرَض- الذي فيه عَرْض عريض و نقص و كمال- بمرتبة اخرى فهو ليس من القسم الثالث رأساً؛ لأنَّ شخصيّة الفرد و هويّته باقية في جميع المراتب عقلًا و عُرفاً، فالحُمرة الشديدة إذا صارت ضعيفة ليس تبدّلها من الكمال إلى النقص تبدّلَ فرد بفرد آخر، أمّا عقلًا فواضح عند أهله (2).

و أمّا عُرفاً فلأنَّ المراتب عندهم في أمثالها من قبيل الحالات و الشئون للشي ء، فشدّة الحمرة و ضعفها من حالات نفس الحمرة مع بقائها ذاتاً و تشخّصاً، فالاستصحاب في مثلها من القسم الأوّل لا الثالث.


1- تقدّم في صفحة 87 و 88.
2- الأسفار 1: 427 و ما بعدها.

ص: 92

نعم: فيما إذا علم بوجوب شي ء و قطع بزواله، و احتمل تبدّله بالاستحباب يكون من القسم الثالث؛ لأنَّه من قبيل تبدّل فرد من الطلب بفرد آخر مُغاير له عرفاً و عقلًا.

و ممّا ذكرنا يتّضح: أنَّ استثناء الشيخ الأنصاريّ من عدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني من القسم الثالث ما يكون من قبيل السواد الضعيف و الشديد(1) من الاستثناء المُنقطع، كما أنَّ التفصيل بين القسمين المُتقدّمين الذي اختاره (2) ممّا لا وجه له؛ لأنَّ مقارنة الفرد لفرد آخر و عدمها لا دخل لهما في بقاء الكلّي و عدمه، كما لا يخفى.

ثمّ إنَّه قد يقال: بعدم جريان الاستصحاب فيه؛ لأنَّ العلم بوجود الفرد في الخارج إنَّما يُلازم العلم بوجود حصّة من الكلّي في ضمن الفرد الخاصّ، لا العلم بوجود الكلّي، و الحصّة الموجودة في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الاخرى في ضمن فرد آخر؛ و لذا قيل (3): نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء المُتعدّدين إلى الأبناء(4).

و لا يخفى: أنَّ هذا ناش من عدم تعقّل الكلّي الطبيعيّ و كيفيّة وجوده، و عدم الوصول إلى مغزى مُراد القوم من أنَّ نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء؛ ضرورة أنَّ الكلّي الطبيعيّ لدى المُحقّقين موجود بتمام ذاته مع كلّ فرد من الأفراد، فكلّ فرد في الخارج بتمام هويّته عين الكلّي، لا أنَّه حصّة منه، و لا تعقل الحصص للكلّي، فزيد إنسان، لا نصف إنسان، أو جزء إنسان، أو حصّة منه، فلا معنى للحصّة أصلًا.

و بالجملة: هذا الإشكال بمكان من الضعف يغني تصوّر الكلّي عن ردّه، و العجب أنَّ بعض أعاظم العصر ادّعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلّي (5)، مع كونه ضروريّ الفساد.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 17.
2- نفس المصدر: 372 سطر 14.
3- رسائل ابن سينا 1: 466، منظومة السبزواري: 99- قسم الحكمة، و انظر صفحة 85.
4- فوائد الاصول 4: 424- 425.
5- نفس المصدر 4: 424.

ص: 93

و أمّا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه: من تعدّد الطبيعيّ بتعدّد الفرد، و أنَّ الكلّي في ضمن فرد غيرُه في ضمن فرد آخر، و لذا اختار عدم الجريان مُطلقاً(1)، فهو حقّ في باب الكلّي الطبيعيّ عقلًا كما حُقّق في محلّه (2)، لكنّ جريانه لا يتوقّف على الوحدة العقليّة، بل الميزان وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها عرفاً، و لا إشكال في اختلاف الكلّيات بالنسبة إلى أفرادها لدى العرف.

و توضيحه: أنَّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته، كزيد و عمرو بالنسبة إلى الإنسان، و قد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب، كزيد و حمار بالنسبة إلى الحيوان، و قد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أو البعيد، و قد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضيّ، كأفراد الكيفيّات و الكمّيات التي هي مُشتركة في العروض على المحلّ.

و لا يخفى: أنَّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيات مختلفة عرفاً، فإذا شكّ في بقاء نوع الإنسان إلى ألف سنة يكون الشكّ في البقاء عرفاً مع تبدّل الأفراد، لكنّ العرف يرى بقاء النوع مع تبدّل أفراده، و قد يكون الجنس بالنسبة إلى أفراد الأنواع كذلك، و قد لا يساعد [عليه نظر] العرف، كأفراد الإنسان و الحمار بالنسبة إلى الحيوان؛ فإنَّ العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان، و قد لا يساعد في أفراد الأجناس البعيدة، و قد يساعد.

و بالجملة: الميزان وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها عرفاً، و لا ضابط لذلك.

و لا يبعد أن يقال: إنَّ الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد و عدم الحكم في بعضها: أنَّه قد يكون المصداق المعلوم أمراً معلوماً بالتفصيل أو بالإجمال، لكن بحيث يتوجّه ذهن العرف إلى الخصوصيّات الشخصيّة، و لو بنحو الإشارة، ففي مثله


1- انظر كفاية الاصول: 462 و 463، حاشية الآخوند على الرسائل: 203 سطر 8.
2- انظر صفحة 85.

ص: 94

لا يجري الاستصحاب؛ لعدم كون المُتيقّن الكلّي المشترك.

و قد يكون المعلوم على نحو يتوجّه العُرف إلى القدر الجامع، و لا يتوجّه إلى الخُصوصيّات، كما إذا علم أنَّ في البيت حيوانات مُختلفة، و احتمل وجود مصاديق اخر من نوعها أو جنسها، ففي مثله يكون موضوع القضيّة هو الحيوان المُشترك، و بعد العلم بفقد المقدار المُتيقّن، و احتمال بقاء الحيوان بوجودات اخر يصدق البقاء، ففي مثل الحيوان المُردّد بين الطويل و القصير في القسم الثاني لعلّه كذلك؛ لأجل توجّه النفس بواسطة التردّد إلى نفس الطبيعة المُشتركة بزعمه، فيصدق البقاء.

و أمّا ما في ظاهر كلام الشيخ الأعظم و صريح بعض الأعاظم: من أنَّ الفرق بين القسم الثاني و الثالث أنَّ في الثالث لا يحتمل بقاء عين ما كان، دون الثاني؛ لاحتمال بقاء عين ما كان موجوداً(1)، فخلط بين احتمال بقاء ما هو المُتيقّن بما أنَّه مُتيقّن الذي هو مُعتبر في الاستصحاب، و بين احتمال بقاء الحيوان المُحتمل الحدوث، ففي الآن الثاني و إن احتمل بقاء ما هو حادث، لكن هو احتمال بقاء ما هو محتمل الحدوث لا معلومه.

نعم: لو اضيف الحدوث و البقاء إلى نفس الطبيعة بلا إضافة إلى الخصوصيّات يكون الشكّ في بقاء المُتيقّن في كلا المقامين، إلّا أن يتشبّث بحكم العرف بنحو ما ذكرنا آنفاً، و المسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل؛ لعدم الخلوّ من الخدشة و الإشكال و النقض.

و بما ذكرنا: يجمع بين ما قلناه مراراً من أن كثرة الإنسان بكثرة الأفراد عرفيّة كما هي عقليّة(2)، و بين ما قلناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني و في بعض موارد القسم الثالث، و عليك بالتأمّل التامّ في موارد الجريان و عدمه.


1- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 13، فوائد الاصول 4: 425، نهاية الأفكار 4: 135.
2- انظر صفحة 91.

ص: 95

تذييل حول أصالة عدم التذكية

اشارة

إنّا و إن استقصينا البحث في مبحث البراءة في أصالة عدم التذكية التي تمسّك بها الأعلام في نجاسة الحيوان الذي شكّ في تذكيته و حرمة لحمه (1)، لكن لمّا بقي بعض الفوائد المهمّة التي لا بدّ من تحقيقها، فلا محيص عن التعرّض لها تبعاً للشيخ قدّس سرّه (2).

فنقول: قد ذكرنا سابقاً أنَّ الشبهة إمّا حكميّة أو موضوعيّة، و الحكميّة: إمّا أن تكون لأجل الشكّ في قابليّة الحيوان للتذكية لأجل الشبهة المفهوميّة، كما لو شكّ في صدق مفهوم الكلب على حيوان، أو لأمر آخر، كالشكّ في قابليّة المتولّد من الحيوانين، و إمّا أن تكون للشكّ في شرطيّة شي ءٍ للتذكية، أو مانعيّة شي ءٍ عنها، كالجلل أو غير ذلك.

و للشبهة الموضوعيّة أقسام، كالشكّ في كون حيوان كلباً أو غنماً لأجل الشبهة الخارجيّة، أو الشكّ في تحقق التذكية، أو كون لحم مأخوذاً ممّا هو معلوم التذكية، أو معلوم عدمها، إلى غير ذلك (3).

قلنا: إنَّ التذكية بحسب التصوّر يمكن أن تكون أمراً بسيطاً متحصّلًا من الامور الخمسة أو منتزعاً منها، و يمكن أن تكون مُركّباً خارجيّاً؛ بمعنى كون نفس الامور الخمسة أو الستّة هي التذكية، و يمكن أن تكون مركّباً تقييديّاً أو غير ذلك (4).

فحينئذٍ: إذا شكّ في التذكية لأجل الشكّ في قابليّة الحيوان لها، فهل تجري أصالة عدم القابليّة و تحرز الموضوع أم لا؟


1- أنوار الهداية 2: 97 و ما بعدها.
2- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 23.
3- أنوار الهداية 2: 98.
4- نفس المصدر 2: 99.

ص: 96

قد يقال: بجريانها؛ لأنَّ القابليّة من العوارض التي تعرض الحيوان في الوجود الخارجيّ، و ليست من عوارض الماهيّة أو لوازمها قبل تحقّقها، فيمكن أن يشار إلى الحيوان الموجود بأنَّ هذا الحيوان قبل وجوده لم يكن قابلًا للتذكية، و بعد تلبّسه بالوجود شكّ في صيرورته قابلًا لها، فيستصحب عدمها، و كذا الحال في المرأة التي يشكّ في قرشيّتها، و كذا سائر الأعدام الأزليّة ممّا يكون الحكم لموضوع مفروض الوجود. هذا مُحصّل ما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه (1).

تحقيق القضايا السالبة

و التحقيق: عدم جريان الأصل المذكور، و توضيحه يحتاج إلى تحقيق القضايا السلبيّة من جهتين:

إحداهما: ما مرّ سالفاً(2) في الفرق بين القضايا الموجبة و السالبة و المعدولة، من أنَ


1- انظر درر الفوائد: 219 و 220 حاشية المؤلّف قدّس سرّه، و الظاهر أنَّ ما نقله الإمام قدّس سرّه هنا من استاذه إنّما تلقّاه منه شفاهاً. شيخنا العلامة: و هو الإمام الفقيه رئيس الطائفة الشيخ عبد الكريم ابن المولى محمّد جعفر المهرجردي اليزدي الحائري، الزعيم الديني الكبير مؤسس الحوزة العلمية و الجامعة الإسلامية بمدينة قم المقدّسة، ولد في مهرجرد من قرى يزد سنة 1276 ه، تلقّى علومه عن مشاهير علماء عصره كالإمام السيد محمّد حسن الشيرازي، و الميرزا محمّد تقي الشيرازي، و الشيخ محمّد كاظم الخراساني، و السيد محمّد الفشاركي، و الفقيه الشهيد الشيخ فضل اللَّه النوري و غيرهم، كما أخذ عنه جملة من أساطين المذهب و مراجع الدين و جهابذة الزمان، و في طليعتهم آية اللَّه العظمى الإمام السيد روح اللَّه الخميني، و آية اللَّه العظمى السيد محمّد رضا الگلپايگاني، و آية اللَّه العظمى السيد شهاب الدين النجفي المرعشي، و آية اللَّه العظمى الشيخ محمد علي الأراكي رحمة اللَّه عليهم، خلّف آثاراً علمية قيّمة منها: درر الفوائد، كتاب الصلاة، تقريرات استاذه الإمام الفشاركي، توفّي ليلة السبت 17 ذي القعدة سنة 1355 ه. انظر نقباء البشر 3: 1158/ 1692، أعيان الشيعة 8: 42، ريحانة الأدب 1: 66.
2- في مباحث أوضاع الحروف و في العام و الخاص، هذا و قد عدل الإمام قدّس سرّه عمّا كان قد اختاره في أنوار الهداية 2: 101 و ما بعدها من ثبوت النسبة في مطلق القضايا، ذاهباً إلى التفصيل بين الحملية المؤوّلة و غيرها، كما هو في المتن و في مناهج الوصول 1: 86 و ما بعدها و 2: 259 و ما بعدها و لاحظ تهذيب الاصول 1: 22 و ما بعدها و 2: 24. و قد أشار قدّس سرّه إلى هذا العدول في هامش أنوار الهداية 2: 101 فلاحظ.

ص: 97

القضيّة الموجبة المركبة تكون حاكية عن موضوع و محمول و نسبة منتزعة من حصول المحمول للموضوع، و لها نحو تحقّق و لو بتبع الطرفين، و كذا المعدولة المحمول حاكية عن موضوع محقّق، و محمول له نحو تحقّق، كالأعدام و الملكات، و لنسبته إلى الموضوع نحو تحقّق في خصوص المركّبات منها.

و في حكم القضيّة المعدولة القضية الموجبة السالبة المحمول كقولنا: «زيد هو الذي ليس له القيام» ممّا لوحظ فيها اتصاف الموضوع بالمحمول، الذي هو قضيّة سالبة تحصيليّة، و كذا السالبة المحصلة بسلب المحمول فقط، لا الأعمّ منه و من سلب الموضوع، و لا بسلب الموضوع.

هذا كلّه في القضايا الحمليّة المؤوّلة كقولنا: «زيد على السطح» أو «له القيام».

و أما الحمليّات الغير المؤوّلة الحاكيات عن الهوهويّة فلا نسبة فيها، و لا كوناً رابطاً، لا واقعاً و في نفس الأمر؛ لعدم إمكان النسبة و الربط بين الشي ء و ما هو هو، و لا في القضيّة المعقولة و الملفوظة؛ لكونهما حاكيتين عن الواقع، مُنطبقتين عليه طابق النعل بالنعل، كما حقّقنا ذلك في مباحث الألفاظ فراجع.

و أمّا القضيّة السالبة البسيطة المُحصّلة، سواءً كانت بنحو الهليّة البسيطة ك «زيد ليس بموجود» أو المُركّبة السالبة بسلب الموضوع ك «العنقاء ليس بأبيض» فليس لموضوعها و محمولها و نسبتها تحقّق أصلًا؛ أي لا تحكي القضيّة عن موضوع و محمول و نسبة، بل يدرك العقل بطلان الموضوع و لا شيئيّته بتبع صورة إدراكيّة موجودة في الذهن، فيحكم ببطلانه أو ببطلان اتصافه بشي ء بحسب الواقع، من غير أن يكون كشف عن واقع مُحقّق، و سيأتي بيان مناط الصدق و الكذب في القضايا(1).

ثانيتهما: أنَّ النسبة السلبيّة ليست نسبة برأسها مقابلة للنسبة الإيجابيّة، كما عليه


1- يأتي في صفحة 100.

ص: 98

المُتأخّرون من أهل النظر(1)؛ لأنَّ حرف السلب آلة لسلب المحمول عن الموضوع، لا لنسبة إليه، فمفاد السوالب ليس إلّا سلب المحمول عن الموضوع، و حرف السلب ليس إلّا آلة لسلبه عنه، فإذا لوحظ الواقع يرى أنَّه ليس بين المحمول و الموضوع نسبة؛ أي لا يكون المحمول حاصلًا للموضوع، فلا نسبة بينهما، فإنَّها مُنتزعة من حصوله له.

و القضيّة المعقولة أيضاً تتعقّل على نعت الخارج؛ أي يكون مفادها سلب الربط بينهما، لا ربط السلب، و لا ربط هو السلب، و كذا مفاد القضيّة الملفوظة، فالقضيّة السلبيّة لا تشتمل على النسبة رأساً، كما أنَّه في الواقع ليس بين الموضوع و المحمول ربط و نسبة، فالقضيّة السالبة مفادها سلب الربط، و إلّا فإن كان مفادها ربط السلب تصير معدولة، و إن كان مفادها الربط بينهما بالنسبة السلبيّة؛ أي يكون السلب هو الربط يخرج حرف السلب عمّا هو عليه من كونه آلة لسلب المحمول عن الموضوع، مع أنَّ لازم ذلك؛ أي الانتساب السلبيّ اتصاف الموضوع و المحمول بالسلب، فيكون مفاد القضيّة معنونيّة الموضوع بسلب المحمول عنه، و معنونيّة المحمول بسلبه عنه، فتصير القضيّة السالبة مُشتملة على نسبة إيجابيّة، مع أنَّه خلاف الضرورة و خلاف الواقع الذي تكون القضيّة كاشفة عنه.

مع أنَّ القضيّة موجبة كانت أو سالبة لا بدّ و أن تكون حاكية عن نفس الأمر، كاشفة عن الواقع، فإذا لم يكن في الواقع و نفس الأمر ربط و نسبة بين الموضوع و المحمول فلا بدّ و أن تكون القضيّة حاكية عن سلب الربط و النسبة، و لا معنى لاشتمالها على ربط حتّى يقال: إنَّ النسبة السلبيّة نسبة أيضاً.

فإن قلت: لازم ما ذكرت عدم ورود الإيجاب و السلب على شي ء واحد؛ لأنَّ لازمه ورود السلب على النسبة الإيجابيّة، فمفاد القضيّة الموجبة إثبات المحمول للموضوع،


1- انظر الأسفار 1: 367، الجوهر النضيد: 40، شرح المقاصد للتفتازاني 1: 388.

ص: 99

و مفاد القضيّة السالبة قطع هذه النسبة، فالإثبات يرد على المحمول، و السلب على النسبة، و هو كما ترى

و أيضاً لازم ذلك خلوّ القضيّة عن النسبة، مع أنّها متقوّمة بها، و لا تكون القضيّة قابلة للصدق و الكذب إلّا بالنسبة.

قلت: أمّا ما ذكرت من عدم ورود الإيجاب و السلب على شي ءٍ واحد، و ورود السلب على النسبة الإيجابيّة، فممنوع جدّاً؛ لما عرفت من أنَّ مفاد القضيّة الموجبة المؤوّلة إثبات المحمول للموضوع أوّلًا و بالذات، و لازمه الإخبار بتحقّق النسبة بينهما.

و إن شئت قلت: إثبات المحمول للموضوع ملحوظ باللّحاظ الاسميّ، و تحقّق النسبة بينهما ملحوظ باللّحاظ الحرفيّ. و كذا في القضيّة السالبة يكون سلب المحمول عن الموضوع أوّلًا و بالذات، و لازمه قطع الربط، و الإخبار عن سلب النسبة بينهما، لا إثبات النسبة التي هي العدم، و لا نسبة الشي ء العدميّ؛ فإنَّهما خلاف الضرورة و الوجدان، مع أنَّ العدم ليس بشي ءٍ حتّى يقع به الربط بين الشيئين و يخبر المُتكلّم به.

نعم: يمكن لحاظ العدم بتبع الوجود و الإخبار عنه، لكن ليس مفاد القضيّة السالبة كون العدم ربطاً، أو الموضوع متّصفاً به، و هو عنوان له.

و بالجملة: ليس معنى وقوع السلب على الربط أنَّ مفاد القضيّة أوّلًا و بالذات هو سلب النسبة، حتّى تكون النسبة ملحوظة بالمعنى الاسميّ، بل المراد منه أنَّ حرف السلب يسلب المحمول عن الموضوع، و لازمه سلب الانتساب و قطع الربط، كلّ ذلك بحسب مقام الإخبار و الإثبات، فلا يلزم أن يكون الربط مورداً للسلب حتّى يكون الاعتبار في القضيّة السالبة مُخالفاً للقضيّة الموجبة، بل مفاد القضيّة السالبة نفي المحمول عن الموضوع، كما أنَّ مفاد القضيّة الموجبة ثبوته له.

ص: 100

و ممّا ذكرنا يتّضح: أنَّه لا يلزم في القضيّة السالبة لحاظ ثبوت المحمول للموضوع، ثمّ سلبه عنه.

نعم: لا بدّ من لحاظ المحمول و الموضوع في سلبه عنه، كما في إثباته له.

و أمّا لزوم خلوّ القضيّة عن النسبة، فليس بتال فاسد، فإنَّ القضيّة على التحقيق لا تتقوّم بالنسبة، و ما يقال في مقام الفرق بين الإخبار و الإنشاء: من أنَّ الإخبار ما يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه (1) فكلام مسامحيّ معلوم البطلان، حتّى في كثير من القضايا الموجبة فضلًا عن السوالب كالهليّات البسيطة؛ فإنَّه في قولنا: «زيد موجود» أو «الوجود موجود» أو «زيد زيد» لا يمكن أن يكون للنسبة خارج؛ للزوم تحقّق الماهيّة في قبال الوجود، و لزوم توسّط النسبة بين الشي ء و نفسه، و كذا في الحمليّات الغير المؤوّلة التي يكون مفادها الهوهويّة، و في القضايا السالبة مُطلقاً لا تكون نسبة، و لا للنسبة خارج بالضرورة؛ لما عرفت من أنَّ مفادها قطع النسبة و سلب الربط، فما اشتهر بينهم: من أنَّ القضيّة متقوّمة بالنسبة(2)، ممّا لا أصل له، و إن وقع في كلام أهل التحقيق و النظر لا بدّ و أن يحمل على قسم من الهليّات المُركّبة الموجبة، فالقضيّة قول مفاده إمّا الهوهويّة، أو ثبوت شي ءٍ لشي ءٍ، أو سلبه عنه، و ذلك في بعض الهليّات المُركّبة، أو ثبوت الشي ء و سلبه، و هو في البسائط، و مناط قابليّتها للصدق و الكذب هو هذا الإثبات و السلب، فنفس تصوّر الموضوع أو المحمول أو النسبة أو سلبها لا يوجب صيرورة القضيّة قضيّة، و أمّا التصديق بأنَّ هذا هذا أو ليس بهذا [فهو] موجب لتحقّق القضيّة المعقولة، و اللّفظ الحاكي عنه الدالّ عليه هو القضيّة اللفظيّة، و قد عرفت كيفيّة حكايتها عن الواقع (3).


1- انظر شرح المنظومة: 54- قسم الحكمة، المطول: 30 سطر 15، و قوانين الاصول 1: 419 سطر 13.
2- نفس المصادر المتقدّمة، و انظر شرح المطالع: 113 سطر 23، و شرح الشمسية: 68 و 69.
3- انظر مناهج الوصول 1: 87 و 88.

ص: 101

بيان مناط الصدق و الكذب في القضايا

إن قلت: فما المناط في صدق القضايا و كذبها إذا لم تكن للسالبة نسبة و واقعيّة؟

و هل الصدق إلّا المطابقة للواقع، و الكذب عدمها؟!

قلت: نعم الصدق هو المطابقة للواقع و الكذب عدمها، لكن لا يلزم منه أن تكون للكواذب واقعيّة، و للأعلام حقائق، و لا لقطع النسبة الواقعيّة حكاية عن واقع محقّق في الخارج.

و توضيحه: أنَّ الواقع عبارة عن نظام الوجود ذهناً و خارجاً؛ بحيث لا تشذّ عنه حقيقة من الحقائق و موجود من الموجودات، فإذا أخبر ب «أنَّ زيداً قائم» فإمّا أن يكون مطابقاً لصفحة الكون و نظام الوجود فهو صدق، و إلّا فلا، و إذا قيل: «شريك البارئ ليس بموجود» يكون مطابقاً للواقع؛ لأنَّ صفحة الكون خالية عنه، و الإخبار مطابق له، و إذا قيل: «إنَّه موجود» يكون مخالفاً للواقع؛ لأنَّ صفحة الكون و صحيفة الوجود خاليتان عنه، و قد أخبر بوجوده، فلا بدّ لتشخيص الصدق و الكذب من مقايسة الخبر لصفحة الوجود و نظام الكون، من مبدأ الوجود إلى منتهاه، ذهناً و خارجاً، فكلّ إخبار يكون مطابقاً لصفحة الكون و صحيفة الوجود؛ بأن يكون الإخبار عن تحقّق شي ء موجود فيها، أو عدم شي ء معدوم فيها يكون صدقاً مطابقاً للواقع، و إلّا فلا، حتّى أنَّ مثل قولنا: «الإنسان حيوان ناطق» الحاكي عن ذاتيّات الماهيّة يكون مناط صدقه مطابقته لنظام الوجود ذهناً أو خارجاً، فإنَّ الإنسان في تقرّره الذهنيّ و تحقّقه الخارجيّ حيوان ناطق، و ما ليس بموجود مُطلقاً ليس بشي ءٍ حتّى يثبت له لازم أو جزء، و لا يمكن أن يخبر عنه مُطلقاً، و ما اخبر عنه يكون له نحو تحقّق و لو ذهناً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّه ليس مناط الصدق في القضايا السالبة مطابقتها للواقع؛

ص: 102

بمعنى أن يكون في الواقع شي ء مطابق لها، بل المناط هو ما ذكرنا، و قد تكون القضيّة الموجبة في حكم القضيّة السالبة لخصوصيّة في محمولها، كقولنا: «زيد معدوم» و «شريك البارئ مُمتنع» أو «باطل» فإنَّها ترجع إلى السوالب، و يكون حكمُها حكمَها، فقولنا:

«شريك البارئ مُمتنع» في قوّة «شريك البارئ ليس بموجود بالضرورة».

إذا عرفت ما ذكرنا: يتّضح لك عدم جريان استصحاب عدم قابليّة الحيوان فيما إذا شكّ في قابليّته للتذكية، و استصحاب عدم القرشيّة فيما إذا شكّ فيها؛ فإنَّ الموضوع لعدم ورود التذكية على الحيوان هو الحيوان الغير القابل [لها] بنحو الإيجاب العدوليّ، أو الحيوان المسلوب عنه القابليّة بنحو السالبة المحصّلة مع فرض وجود الموضوع، و كون السلب بسلب المحمول أو الموجبة السالبة المحمول.

و أمّا السلب التحصيليّ الأعمّ من السلب بسلب الموضوع، فليس موضوعاً للحكم؛ فإنَّ عدم كون الحيوان قابلًا [لها] صادق في حال معدوميّته، لكنّه ليس موضوعاً لحكم بالضرورة، فموضوع الحكم لا يخلو من أحد الاعتبارات الثلاثة المُتقدّمة.

و كذا الحال في المرأة التي شكّ في قرشيّتها؛ فإنَّ من ليست بقرشيّة- بنحو السلب التحصيليّ الأعمّ من سلب الموضوع- ليست موضوعة للحكم بالحيضيّة.

فحينئذٍ نقول: إنَّ الحيوان قبل تحقّقه لا يمكن أن يتّصف بشي ء، سواء كان معنى عدميّاً أو وجوديّاً؛ لما عرفت (1) من أنَّ القضيّة السالبة لا تكشف عن حيثيّة واقعيّة، و هي سلب محض لا اتصاف بالسلب، و لا يمكن أن يكون السلب نعتاً للمعدوم؛ لأنَّ المعدوم لا شيئيّة له حتّى يتّصف بشي ء، فأصالة عدم القرشيّة و القابليّة- كأصالة عدم كون المرأة الموجودة قرشيّة، و الحيوان الموجود قابلًا للتذكية- ممّا لا أصل لها؛ لأنَّ الشي ء قبل وجوده لا يتّصف بشي ءٍ وجوديّ أو عدميّ، و لا يسلب منه بنحو السالبة المُحقّقة


1- تقدّمت الإشارة لذلك في مباحث الألفاظ، و في صفحة 96 و 97 من هذا الكتاب أيضاً.

ص: 103

الموضوع شي ء، بل هذا الحيوان و هذه المرأة قبل وجودهما ليسا بشي ء و ليس ذاتهما ذاتَهما إلّا في عالم التخيّل و وعاء الوهم، فالقضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها ليست بواحدة، و مع فرض وحدتهما لا يكون الموضوع عدم الحيوان قابلًا بالسلب التحصيليّ الأعمّ من سلب الموضوع كما عرفت (1).

و أصالة عدم الحيوان قابلًا بالسلب التحصيليّ الأعم لا تثبت كون هذا الحيوان غير قابل، و لا هو الذي لا يكون قابلًا بنحو الاتصاف بالسلب، و هذا واضح، بل و لا هذا الحيوان ليس بقابل بنحو السلب التحصيليّ مع فرض وجود الموضوع؛ لأنَّ السلب التحصيليّ أعمّ، و الموضوع للحكم أخصّ منه، و الأعمّ في حال الوجود و إن كان منحصراً مصداقه بالأخصّ، لكنّ إثبات الأخصّ من استصحاب الأعمّ مُثبت.

لا يقال: يمكن أن يكون الموضوع مُركّباً من وجود الحيوان و عدم قابليّته بنحو العدم المحموليّ لا الرابط، فيكون من الموضوعات المُركّبة المحرزة بالوجدان و الأصل، فيقال: هذا الحيوان موجود بالوجدان، و عدم قابليّته- بنحو العدم المحموليّ- محرزة بالاستصحاب.

فإنَّه يقال:- مضافاً إلى أنَّه مُجرَّد فرض لا واقعيّة له- إنَّ العدم بهذا المعنى لا يعقل أن يكون جزءاً للموضوع؛ فإنَّه بطلان صرف و لا شيئيّة محضة، و لا يمكن تعقّله إلّا بالحمل الأوّلي، و ما كان حاله كذلك لا يمكن أن يجعل موضوعاً أو يؤخذ فيه، فموضوع رؤية الدم إلى خمسين سنة لا يمكن أن يكون المرأة الموجودة مع عدم محض يعبّر عنه بعدم القرشيّة عدماً محمولياً، فلا بدّ و أن يكون السالبة المحصّلة المحقّقة الموضوع، لا نفس السلب بما أنَّه سلب، و لا الأعمّ من سلب الموضوع؛ لأنَّه يؤدّي إلى اعتبار المُتناقضين في موضوع الحكم، فإنَّ اعتبار وجود المرأة و عدم قرشيّتها- الأعمّ من سلب الموضوع-


1- تقدّم في صفحة 102 بقوله قدّس سرّه: و أمّا السلب التحصيلي الأعم ...

ص: 104

اعتبار النقيضين.

ثمّ إنَّ ما ذكرنا من عدم جريان أصالة عدم القابليّة إنّما يصحّ فيما إذا قلنا: بأنَّ القابليّة كالقرشيّة من الحيثيّات الواقعيّة التكوينيّة، و أمّا إذا قلنا بأنّها من الأحكام الوضعيّة الجعليّة، فيمكن إجراء أصالة عدم جعل القابليّة للحيوان، فإذا شكّ في قابليّة الذئب للتذكية تجري أصالة عدم جعل الشارع القابليّة لهذا العنوان بنحو القضيّة الحقيقيّة، فيحرز عدم قابليّته.

ثمَّ إنَّ أصل عدم القابليّة على فرض جريانه يُغني عن أصل عدم التذكية، و يكون حاكماً عليه و إن قلنا بأنَّ التذكية أمر بسيط محصَّل من الامور الستّة؛ لأنَّه على هذا الفرض تكون محصّلية الامور الستّة و مسبّبيتها لها شرعيّة، فيكون الترتّب شرعيّاً، و لا إشكال في أنَّ الآثار الشرعيّة تترتّب على المحصَّلات بالتعبّد بوجود محصِّلاتها، و يحكم بعدم الترتّب مع التعبّد بعدم المُحصّلات من غير شائبة المُثبتيّة فتأمّل (1).

هذا كلّه حال أصالة عدم القابليّة، و مع عدم جريانها لا بدّ من التمسّك في حرمة لحم الحيوان و نجاسته بأصالة عدم التذكية.

حال أصالة عدم التذكية

فنقول: ما ذكرنا من الاعتبارات في عدم القابليّة تأتي في عدم التذكية مع شي ء زائد، فإنَّ عنوان المذكّى- المأخوذ في موضوع الحلّية و الطهارة، أو الطهارة فقط- إنّما هو أمر وجوديّ، هو إزهاق الروح بكيفيّة خاصّة؛ أي فري الأوداج الأربعة، متوجّهاً إلى القبلة، ذاكراً عليه اسم اللَّه، مع كون الذابح مُسلماً، و آلة الذبح حديداً.


1- يأتي وجهه في باب الاصول المثبتة منه قدّس سرّه .

ص: 105

و مقابل هذا العنوان الذي هو موضوع الحرمة و النجاسة يمكن أن يكون عنواناً وجودياً؛ هو زهوق الروح بكيفيّة أخرى غير الكيفيّة المأخوذة في التذكية، أيّة كيفيّة كانت.

و يمكن أن يكون عنواناً إيجابيّاً بنحو الإيجاب العدوليّ، أو الموجبة السالبة المحمول، أو سلبياً بنحو السالبة المُحصّلة الأعمّ من سلب الموضوع، أو السالبة بسلب المحمول.

و يمكن أن يكون مُركّباً من زهوق الروح، و عدم تحقّق الكيفيّة الخاصّة بنحو العدم المحموليّ.

هذا بحسب التصوّر، لكن بعض الفروض باطلة، ككون الموضوع عدم التذكية، أو عدم الزهوق بنحو السالبة المُحصّلة و لو بسلب الموضوع؛ ضرورة أنَّ هذا الأمر السلبيّ لا يمكن أن يكون موضوعاً للحكم و لو في حال وجود الحيوان، فالموضوع للحرمة و النجاسة هو الحيوان المُتحقّق الذي زهقت روحه بلا كيفيّة خاصّة، لا سلب زهوق الروح بكيفيّة خاصّة و لو بسلب تحقّق الحيوان، أو السلب الصادق على الحيوان في حال حياته، فالمُذكّى و مقابله هو الحيوان الذي زهقت روحه إمّا بكيفيّة خاصّة، فيكون موضوعاً للحكم بالطهارة و الحلّية، أو بغيرها فيحكم بالنجاسة و عدم الحلّية، فعدم تذكية الحيوان أو عدم كون الحيوان مذكّى- أي هذا العنوان السلبيّ بما أنَّه عنوان سلبيّ- ليس موضوعاً لحكم، لا الحرمة و النجاسة، و لا عدم الحلّية و عدم الطهارة.

نعم: ليست له الحلّية و الطهارة بنحو اللّيس الأزليّ و القضيّة السالبة الموضوع، و معلوم أنَّ هذا ليس بحكم، بل عدم حكم و تشريع، و قد عرفت حال العدم المحموليّ بنحو جزء الموضوع في احتمالات أصالة عدم القابليّة، فلا محيص إلّا أن يكون الموضوع للحرمة و النجاسة هو الحيوان الذي زهقت روحه.

ص: 106

فحينئذٍ: إمّا أن يعتبر عدم الكيفيّة الخاصّة بنحو الإيجاب العدوليّ؛ أي زهوق بغير الكيفيّة الخاصّة، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول؛ أي زهوق مُتّصف بأنَّه لم يكن بالكيفيّة الخاصّة، أو السالبة المُحصّلة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع، و هذه الاحتمالات مع كونها معقولة مُعتبرة عند العقلاء- على إشكال في الأخير تعرّضنا له في العامّ و الخاصّ (1)- يمكن تنزيل الآيات و الأخبار على واحدٍ منها.

فحينئذٍ نقول: إنَّ أصالة عدم التذكية غير جارية مُطلقاً.

أمّا إذا كان الموضوع زُهوق الروح بكيفيّة وجوديّة اخرى أو بنحو الإيجاب العدوليّ، أو الموجبة السالبة المحمول فواضح؛ ضرورة أنَّ أصالة عدم زهوق الروح بالكيفيّة الخاصّة لا تثبت العنوان الثبوتيّ، و لا الاتصاف بأمر سلبيّ، أو بسلب المحمول عنه؛ فإنَّ كلّ ذلك عناوين يكون إثباتها للموضوع من اللّوازم العقليّة لأصالة عدم التذكية.

و أمّا إذا كان عدم التذكية زُهوق الروح مسلوباً عنه الكيفيّة الخاصة بنحو السالبة المحصّلة بسلب المحمول؛ فلأنَّ نفس هذا العنوان- أي الزهوق مع سلب الكيفيّة الخاصّة بسلب المحمول، مع فرض وجود الموضوع- لم يكن له حالة سابقة، و عدم الزهوق بكيفيّة خاصّة بنحو السلب التحصيليّ الأعمّ من سلب الموضوع، أو عنوان السلب المحموليّ ليس موضوعاً للحكم، بل الموضوع هو الزّهوق المفروض الوجود بلا كيفيّة خاصّة، و استصحاب عدم الزهوق بالكيفيّة الخاصّة لا يثبت أنَّ الزّهوق المُتحقّق ليس بالكيفيّة الخاصّة.

و بالجملة: أنَّ الحيوان في حال حياته ليس مذكّى، و كذا ما يقابله؛ أي الموضوع الذي تعلّقت به النجاسة و الحُرمة، و إن صدق عليه أنَّه ليس بمذكّى و لو بسلب


1- انظر مناهج الوصول 2: 265.

ص: 107

الموضوع الذي هو زُهوق الروح، و لكنّ هذا الأمر السلبيّ ليس موضوعاً للحكم، لا في حال حياته، و لا بعد زهوق روحه، بل الموضوع هو زُهوق روحه بلا كيفيّة خاصّة بنحو سلب المحمول، و عدم زهوق الروح بالكيفيّة الخاصّة و إن كان صادقاً عليه حال الحياة و بعد الموت، لكن لا يثبت به زُهوق الروح بلا كيفيّة خاصّة بنحو السلب عن الموضوع المفروض الوجود إلّا بالأصل المُثبت.

و ممّا ذكرنا: يتّضح النظر في كلمات كثير من الأعاظم، منهم الشيخ الأعظم قدس سره؛ حيث يظهر منه التفصيل بين ما إذا رتّبت الأحكام على مجرّد عدم التذكية بنحو السالبة المُحصَّلة، و بين كونها بنحو الموجبة السالبة المحمول (1).

و منهم: المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه؛ حيث يظهر منه في «تعليقته» الفرق بين كون المذكّى و مقابله من قبيل الضدّين، أو من قبيل العدم و الملكة، فذهب إلى أنَّ أصالة عدم التذكية جارية حينئذٍ، و موجبة للحكم بأنَّ الحيوان غير مذكّى، فيكون من قبيل الموضوعات المُركّبة أو المُقيّدة المشكوك في جزئها أو قيدها، فيحرز بالأصل (2).

كلام المولى الهمدانيّ و جوابه

و منهم: المولى الهمدانيّ في «مصباحه» و «تعليقته» حيث فصّل بين الآثار التي رتّبت على عدم كون اللحم مذكّى، كعدم الحلّية، و عدم جواز الصلاة فيه، و عدم طهارته من الأحكام العدميّة المُنتزعة من الوجوديّات، التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها فيقال: الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللّحم الذي زهقت روحه، فلا يحلّ أكله، و لا الصلاة فيه، و لا استعماله فيما يشترط بالطهارة، و بين الآثار المُترتّبة على كونه غير


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 373 سطر 6.
2- حاشية الآخوند على الرسائل: 203 و 204.

ص: 108

مُذكى؛ كالأحكام الوجوديّة المُلازمة لهذه العدميّات؛ كحرمة أكله و نجاسته و تنجيس ملاقيه و غيرها من الأحكام المُعلّقة على عنوان الميتة أو غير المُذكّى (1).

و قال في خلال كلامه في تقريب مدّعاه: إنَّ ما يظهر من الشيخ أيضاً هو أنَّ الحلّية و سائر الأحكام الوجوديّة- ممّا تكون مُترتّبة على سبب حادث- تصير مُنتفية بانتفاء سببها، فالموت المقرون بالشرائط أمر مُركّب سبب للأحكام، و هو أمر حادث مسبوق بالعدم، فأصالة عدمه ممّا يترتّب عليها عدم الحلّية و الطهارة، فعدم حلّية اللحم من الذي زهقت روحه من آثار عدم حدوث ما يؤثر في حلّيته بعد الموت، لا من آثار كون الموت فاقداً للشرائط، حتّى لا يمكن إحرازه بالأصل (2)، انتهى بتوضيح و تلخيص منّا.

و فيه مُغالطة خفيّة؛ لأنَّ سلب الموت المقرون بالشرائط، الأعمّ من سلب الحيوان و سلب الموت و سلب الاقتران بالشرائط، لازمه سلب حلّية اللّحم و طهارته، الأعمّ من سلب اللحم- كما في حال عدم الحيوان، بل في حال حياته؛ لأنَّ اللّحم غير الحيوان- و من سلب الحلّية و الطهارة عنه، و هذا سلب بنحو السلب المحموليّ، و لازمه العقليّ سلب الرابط في حال تحقّق اللّحم؛ أي بعد زهوق روح الحيوان، فأصالة عدم سبب حلّية اللّحم لا تثبت أنَّ اللّحم ليس بحلال إلّا بالأصل المُثبت؛ لأنَّ لازم أصالة عدم سبب الحلّية؛ أي عدم الموت المقرون بالشرائط انتفاء حلّية لحم الحيوان، الأعمّ من انتفاء الحيوان و اللّحم، و إذا استمرّ هذا العدم الأزليّ إلى زمان وجود اللّحم يكون لازمه صدق السالبة المُحصّلة بسلب المحمول، و هو لازم عقليّ.

هذا مضافاً إلى إمكان منع كون الطهارة و الحلّية و جواز الصلاة في شي ء من الأحكام المجعولة المُسبّبة عن زهوق الروح بالكيفيّة الخاصّة، بل المجعول المُحتاج إلى السبب هو النجاسة و الحرمة و مانعيّة الميتة من الصلاة في أجزائها، على إشكال في حلّية


1- انظر مصباح الفقيه 1: 653 سطر 20، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 91 سطر 28.
2- انظر مصباح الفقيه 1: 654 سطر 13، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 91 سطر 22.

ص: 109

الأكل.

أ لا ترى أنَّ الحيوان القابل للتذكية حين حياته يكون طاهراً بلا إشكال، و تجوز الصلاة معه لو فرض حمله بل لبسه، و لا دليل على عدم حلّية أكله من جهة كونه غير مُذكّى، بل الحرمة لو كانت فهي من جهة كونه ممّا لا يؤكل و من الخبائث، مع أنَّ الموت المقرون بالشرائط مسلوب منه.

و من هنا قد يقوى في النظر أنَّ التذكية ليست سبباً للطهارة و حلّية الأكل و جواز الصلاة فيه، بل إنّما هي دافعة لما هو سبب للنجاسة و الحرمة و عدم جواز الصلاة فيه، كما تشهد له الأدلّة المُتفرّقة في أبواب النجاسات (1) و موانع الصلاة(2).

و بالجملة: ليست التذكية سبباً للطهارة و الحلّية و جواز الصلاة، بل عدم التذكية المساوق لكون الحيوان ميتة- أي زهوق الروح بخصوصيّة مغايرة للخصوصيّات المعهودة- سبب لمقابلاتها، فأصالة عدم سبب الطهارة و الحلّية و جواز الصلاة ممّا لا أصل لها.

بل لنا أن نقول: إنَّه على فرض كون تلك الأحكام مجعولة مُسبّبة عن سبب، يمكن إجراء أصالة بقاء جامع السبب المُؤثّر في الطهارة و حلّية الأكل و جواز الصلاة فيه تأمل.

و منهم: بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه (3)، و قد مرّ في مباحث البراءة كلامه و ما يرد عليه (4).

هذا حال الشبهات الحكميّة من جهة الشكّ في القابليّة، و لا يهمّنا التعرّض لسائر الشبهات الحكميّة؛ لوضوح حكمها غالباً.


1- انظر مثلًا: الكافي 3: 398/ 6 و 407/ 16 و 6: 259/ 7، التهذيب 2: 358/ 1483، الوسائل 2: 1050/ 4- باب 34 و 1080/ 2- باب 61 من أبواب النجاسات.
2- انظر مثلًا: الكافي 3: 397/ 1 و 3، التهذيب 2: 203/ 797 و 209/ 818، الوسائل 3: 250/ 1 و 251/ 2- باب 2 من أبواب لباس المصلي.
3- فوائد الاصول 3: 382.
4- مرّ في أنوار الهداية 2: 107 و 108 فلاحظ.

ص: 110

حكم الشبهات الموضوعيّة

و أمّا الشبهات الموضوعيّة فلها صورة كثيرة، يرد على جميعها الشبهة السيّالة التي مرّ ذكرها(1)، و اختصّ بعضها بشبهة زائدة.

فمنها: الشكّ في تذكية حيوان من جهة الشكّ في حصول ما هو المُعتبر في التذكية، كفري الأوداج و غيره، و هذه هي الصورة التي جرت فيها أصالة عدم التذكية، و لا شبهة فيها إلّا الشبهة المُتقدّمة السيّالة(2).

و منها: أن يكون الشكّ في جزء من الحيوان بأنَّه من معلوم التذكية، أو معلوم عدمها، فجريان أصالة الحلّ و الطهارة في الجزء ممّا لا مانع منه- بناءً على كون التذكية و عدمها من صفات الحيوان، لا من صفات الأجزاء- و تكون طهارة الأجزاء و حلّيتها من آثار تذكية الحيوان لا الجزء؛ لأنَّ السبب إنّما يرد على الحيوان، و كذا السبب المقابل، فتذكية الحيوان موجبة لطهارة الأجزاء و حلّيتها بناءً على سببيّتها لهما، و الموت بغير تذكية سبب لحُرمتها و نجاستها، و إن كانت التذكية واردة على الحيوان و كذا عدمها.

فحينئذٍ: يكون الأصل بالنسبة إلى الحيوانين ممّا لا مجرى له؛ لمعلوميّة حالهما، و جريان أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى الجزء لا معنى لها لما ذكرنا، و لا أصل يحرز كون الجزء من أيّ الحيوانين، و أصالة عدم تذكية ما اخذ منه الجزء لا معنى لها؛ لأنَّ هذا العنوان الانتزاعيّ ليس موضوعاً لحكم، و الحيوان الخارجيّ غير مشكوك فيه، فلا إشكال في جريان أصالتي الحلّ و الطهارة.


1- تقدّم في صفحة 106.
2- تقدّم في صفحة 106.

ص: 111

هذا من غير فرق بين كون الحيوانين أو أحدهما في محلّ الابتلاء، أو لا كما في الأجزاء التي علم أنّها إمَّا مأخوذة من الحيوان المعلوم التذكية في بلاد الإسلام، أو من الحيوان المحكوم بعدمها في بلاد الكفر، فبناءً عليه لا تجري أصالة عدم التذكية في الجلود المصنوعة التي نقلت إلينا من بلاد الكفر، و تكون مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المُسلمين إليهم و صنعوا بها ما صنعوا و ردّت بضاعتهم إليهم، و بين غيرها من جلود ذبائح الكفّار، لأنَّ الأمر دائر بين أخذها من معلوم التذكية، و معلوم عدمها، فلا مجرى للأصل بالنسبة إلى الحيوانين؛ لكونهما معلومين، و إنّما الشكّ في أخذها من أيّهما، و لا محرز لأخذها من غير المُذكّى، و قد عرفت عدم إجراء الأصل بالنسبة إلى الأجزاء بناءً على كون التذكية و اللّاتذكية من صفات الحيوان كما لا يبعد.

نعم: لو بنينا على جريان الأصل بالنسبة إلى كلّ جزء فلا إشكال فيه من هذه الجهة.

و منها: ما لو علم أخذ الجزء من أحد الحيوانين الذين علم إجمالًا بتذكية أحدهما و عدم تذكية الآخر، و كان الحيوانان في محلّ الابتلاء، فحينئذٍ: إن قلنا بجريان الأصل في كلا الطرفين- حيث لم يلزم منه المخالفة العمليّة- فأصالة عدم التذكية فيهما تحرز حرمة الجزء، و نجاسته و عدم حلّية الصلاة فيه. و إن منعنا جريانهما مطلقاً، أو قلنا بتعارضهما، فهل يكون حال الجزء كحال ملاقي بعض أطراف العلم الإجماليّ، فيجري فيه أصلا الحلّ و الطهارة أو لا فيكون الجزء و المأخوذ منه طرفاً للعلم، و أصلهما يكون معارضاً للأصل الآخر، فيكون حاله نظير إناءين مشتبهين قسّم أحدهما قسمين؟

الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ التذكية و إن كانت واردة على الحيوان، لكن أثرها حلّية الحيوان و طهارته بجميع أجزائه في عرْض واحد، و كذا الحال في عدم التذكية، فلا يكون الشكّ في حلّية الجزء و طهارته مُسبّباً عن الشكّ في حلّية الكلّ و طهارته، بل يكون

ص: 112

شكّهما مُسبّباً عن التذكية و عدمها، فيكون العلم الإجماليّ بحرمة الجزء و كلّه أو الطرف الآخر منجّزاً.

و لو كان الحيوانان خارجين عن محلّ الابتلاء، و قلنا بتأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم منجّزية العلم، و أغمضنا عن الإشكال الذي مرّ في باب الاشتغال (1)، فأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ منه الجُزء لا معارض لها؛ لأنَّ الطرف لخروجه عن محلّ الابتلاء لا يجري فيه الأصل، و أمّا الحيوان المأخوذ منه الجزء فيجري فيه الأصل بلحاظ الجزء الذي هو محلّ الابتلاء، كما مرّ في باب الملاقي (2).

و لو كان أحدهما محلّ الابتلاء دون الآخر: فإن كان الحيوان المأخوذ منه محلّ الابتلاء، فأصالة عدم التذكية فيه تحرز حرمة الجزء و نجاسته، و لا معارض لها.

و إن كان الآخر فالأصلان متعارضان؛ لجريانه في الخارج عن محلّ الابتلاء بلحاظ جزئه الذي هو محلّ الابتلاء. و لكنّ العلم الإجمالي بحرمة هذا الجزء و نجاسته، أو حرمة الحيوان و نجاسته منجّز.

و ممّا ذكرنا: يتّضح حال الفروض الاخرى المتصوّرة. هذا مُقتضى الاصول من حيث الجريان و عدمه، فيؤخذ بها إلّا أن يدلّ دليل على خلافها.

التنبيه الثالث استصحاب المتصرِّمات

اشارة

ربما يقال: إنَّ مقتضى تعريف الاستصحاب و أخبار الباب- من اعتبار الشكّ في البقاء فيه- عدم جريانه في الزمان و الزمانيّات المُتصرّمة المُتقضّية؛ لعدم تصوّر البقاء


1- مرّ في أنوار الهداية 2: 214- 218.
2- مرّ نظيره في أنوار الهداية 2: 251.

ص: 113

فيها(1) فأنكر شيخنا العلّامة رحمه اللَّه اعتبار الشكّ في البقاء قائلًا: إنَّ الميزان فيه هو مفاد الأخبار، و المُعتبر فيها هو صدق نقض اليقين بالشكّ و هو صادق في التدريجيّات و غيرها؛ ضرورة أنّها ما لم تنقطع وجود واحد حقيقيّ و إن كان مُتصرّماً، فلو شكّ في تحقّق الحركة أو الزمان بعد العلم بتحقّقهما فقد شكّ في تحقّق عين ما كان مُتحقّقاً سابقاً، فلا يحتاج في التمسّك بالأخبار إلى المُسامحة العرفيّة.

نعم: لو كان المُعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء أمكن أن يقال: مثل الزمان و الزمانيّات المُتصرّمة خارج عن العنوان المذكور؛ لعدم تصوّر البقاء لها إلّا بالمسامحة العرفيّة، لكن ليس هذا العنوان في الأدلّة(2)، انتهى.

و يظهر ذلك من الشيخ الأنصاريّ أيضاً حيث تفصّى عن الإشكال بأحد وجهين:

أوّلهما: أنَّ التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بلحاظ صدقه في الزمانيّات و إن لم يصدق في نفس الزمان (3).

و ثانيهما: أنَّ البقاء أعمّ من الحقيقيّ كما في الزمانيّات، و المُسامحيّ كما في الزمان، و إلّا فالعبرة بالشكّ في وجوده العلمُ بتحقّقه قبل زمان الشكّ، و إن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ (4).

تحقيق المقام

هذا و التحقيق: أنَّ الشكّ في البقاء مُعتبر في الاستصحاب و مُستفاد من الأدلّة، و مع ذلك لا إشكال في جريانه في الزمان و الزمانيّات المُتصرّمة.


1- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 14، فوائد الاصول 4: 434، نهاية الأفكار 4: 145.
2- انظر درر الفوائد: 538.
3- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 24.
4- نفس المصدر: 374 سطر 22.

ص: 114

أمّا استفادة اعتباره منها؛ فلأنَّ مُقتضى الكبرى المجعولة و هي قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

أنَّ اليقين الفعليّ لا ينقض بالشكّ الفعليّ، و لازمه أن يكون هنا شكّ فعليّ مُتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين الفعليّ، و لا يُتصوّر ذلك إلّا بأن يكون الشكّ في بقاء ما علم وجوده سابقاً، فقوله:

(لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً)

(1) عبارة اخرى عن الشكّ في بقاء الطهارة، فكيف يقال لا يستفاد ذلك من الأخبار(2)؟!

و أمّا مع اعتباره يكون الاستصحاب جارياً في الزمان و الحركة؛ فلبقاء هويّتهما الشخصيّة، و وجودهما الخارجي البسيط:

أمّا عند العقل فلما هو المُقرّر في محلّه (3) من وجود الحركة القطعيّة؛ أي الوجود المُستمر المُتدرّج، و إن كان نحو وجودها مُتصرّماً مُتقضّياً، فما دام المُتحرّك مُتحرّكاً تكون الحركة مُتحقّقة باقية بعين شخصيّته المُتدرّجة، و لكلّ موجود نحو وجود خاصّ به، يكون عدمه بعدم هذا الوجود، لا الوجود الغير اللائق به فالحركة و الزمان يكون نحو وجودهما اللائق بهما هو الوجود المُتصرّم المُتجدّد، لا الوجود الثابت، فالنافي لوجود الحركة القطعيّة و الزمان إن نفى عنهما الوجود الثابت فقد نفى عنهما ما لا يكون وجوداً لهما، و إن نفى الوجود المُتصرّم المُتجدّد عنهما فقد التزم بما هو خلاف الضرورة، فالحركة أمر مُمتدّ مُستمرّ باق بالامتداد التصرّمي و البقاء التجدّدي و الاستمرار التغيّري.

و ليس لأحدٍ أن يقول: ما هو الموجود هو الحركة التوسّطية لا القطعيّة(4)؛ لأنَ


1- علل الشرائع: 361/ 1، التهذيب 1: 421/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 641، الوسائل 2: 1053/ 1- باب 37. من أبواب النجاسات.
2- القائل هو الشيخ المحقّق الحائري كما تقدّم، و المحقّق العراقي على ما في نهاية الأفكار 4: 146.
3- الأسفار 3: 22 و 32 و ما بعدهما، و انظر شرح المنظومة: 257- قسم الحكمة.
4- الشفاء 1: 83 و 84- قسم الطبيعيات.

ص: 115

الحركة التوسّطية لو كانت موجودة- بمعنى انقطاع كلّ حدّ و آن عن سابقه و لاحقه، و وجود الحدّ الآخر و الآن الآخر بعده مُنقطعاً عن الحدّ و الآن الآخر- فلازمه إنكار الحركة أوّلًا؛ فإنَّ تبادل الآنات لا يوجب وجود الحركة، و الجزء الذي لا يتجزّأ و تتالي الآنات ثانياً؛ و لهذا تكون الحركة بمعنى التوسط و الآن السيال ممّا لا وجود لهما، بل ما هو الموجود هو الحركة القطعيّة و الزمان، لكن نحو وجودهما يكون بالامتداد التصرّمي و الاستمرار التجدّدي.

و أمّا عند العرف: فلأنّهم يرون أنَّ اليوم إذا وجد يكون باقياً إلى اللّيل، و اللّيلَ باقياً إلى اليوم، و لا ينافي ذلك اعتبار الساعات و الحدود لهما، فلعلّ ارتكاز العرف يساعد العقل في البقاء التصرّمي و الاستمرار التجدّدي.

و كيف كان: لا إشكال في صدق البقاء عُرفاً على استمرار النهار و اللّيل و كذا الحركات، فإذا تحرّك شي ء تكون حركته موجودة باقية عُرفاً إلى انقطاعها بالسكون، و لا تكون الحركة مجموع دقائق و ساعات، منضمّ بعضها إلى بعض و هذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في مقامين:

احدهما: ما أفاده الشيخ الأنصاريّ و تبعه غيره، من أنَّ استصحاب بقاء النهار أو اللّيل، لا يثبت كون الجزء المشكوك فيه مُتّصفاً بكونه من النهار أو من اللّيل، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنَّه واقع في الليل أو النهار، إلّا على القول بالأصل المُثبت مطلقاً أو على بعض الوجوه الآتية(1).

ثانيهما: أنَّه يُعتبر في الموقّتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اخذ ظرفاً لامتثالها، فيعتبر في الصيام وقوعه في الظرف المُعتبر وقوعه فيه و هو شهر رمضان، و كذا الصلاة اليوميّة لا بدّ من إحراز وقوعها في اللّيل أو النهار، فاستصحاب بقاء النهار أو اللّيل


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 374 السطر الأخير، حاشية الآخوند على الرسائل: 205 سطر 10، درر الفوائد: 541، نهاية النهاية 2: 197.

ص: 116

أو شهر رمضان- على فرض إثبات كون هذا الزمان من اللّيل أو النهار أو من شهر رمضان- لا يثبت وقوع الفعل فيه؛ فإنَّ كون الفعل مُتقيّداً بوقوعه في هذا الزمان من اللّوازم العقليّة لكون الزمان من اللّيل أو النهار(1).

هذا و لا يخفى وهن الإشكال الثاني؛ فإنَّ وقوع الفعل في هذا الزمان وجدانيّ، فإذا حكم الشارع بالاستصحاب أنَّ هذا الزمان نهار لا يحتاج إلى أمر آخر إلّا إتيان الصلاة أو الصيام فيه، كما إذا شكّ في عالميّة زيد، فيستصحب كونه عالماً لوجوب إكرامه؛ فإنَّه إذا ثبت بالاستصحاب أنَّ هذا الشخص الخارجيّ عالم لا يكون إثبات وجوب إكرامه أصلًا مُثبتاً.

هذا مُضافاً إلى إمكان أن يقال: إنَّ قوله: «يجب صوم شهر رمضان» أو «الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل» لمّا كان من القضايا الحقيقيّة يصير مفاده: أنَّ كلّ ما وجد في الخارج و كان شهر رمضان يجب الصوم فيه، و كلّ ما وجد في الخارج و كان نهاراً يجب الصلاة فيه، فإذا وجد زمان في الخارج، و حكم بالاستصحاب أنَّه شهر رمضان، يكون حكمه أنَّ الصوم فيه واجب، و كذا الصلاة، فوجوب الصوم في شهر رمضان من أحكام كون هذا الزمان شهر رمضان المحرز بالاستصحاب، و وجوب الصلاة فيه من أحكام بقاء النهار أو اللّيل، كما أنَّ وجوب إكرام هذا الشخص الموجود من أحكام كونه عالماً، و طهارة ما غسل بالماء الخارجيّ من أحكام كونه كرّاً، و لا إشكال في عدم كون أمثال ذلك من الأصل المُثبت، فالعمدة هو الجواب عن الإشكال الأوّل.

و يمكن أن يجاب عنه أوّلًا: بأنَّ الزمان عبارة عن الهويّة الخارجيّة المُستمرّة الباقية بالبقاء التصرّمي كما عرفت، فإذا علم بوجود النهار فقد علم أنَّ هذه الهويّة المُستمرّة


1- انظر فوائد الاصول 4: 436.

ص: 117

متّصفة بكونها نهاراً، و إذا شكّ في بقاء النهار يكون الشكّ في زوال تلك الصفة عنها، فالمعلوم في الزمان السابق كون هذه الهويّة المُستمرّة نهاراً، و المشكوك فيه هو بقاؤها على صفة النهاريّة.

و لا تسمع لما قيل: من أنَّ الزمان الحاضر حدث إمّا من اللّيل أو من النهار، فلا يقين بكونه منهما حتّى تستصحب حالته السابقة(1)؛ لأنَّ ذلك مساوق لإنكار بقاء الزمان و اللّيل و النهار، و قد عرفت أنَّ ما هو باق من الحركة أو الزمان نفس ما كان مُتحقّقاً سابقاً؛ لأنَّ الزمان أو الحركة ليسا مركّبين من القطعات، و الماضي و الحال و الاستقبال ليست اجزاءً للزمان بحسب الهويّة الخارجيّة لا عقلًا و لا عرفاً، بل التقطيع إنّما هو بالوهم، فتكون هويّة الزمان و الحركة أمراً بسيطاً باقياً.

و ثانياً: أنَّ التعبّد ببقاء النهار في الحال عبارة اخرى عن كون هذا الحال نهاراً؛ فإنَّ الزمان لا يكون في الزمان حتّى بنظر العرف، فإذا قيل: «تعبّد بكون النهار موجوداً في الحال عند الشكّ في بقائه» يفهم العرف منه أنَّ هذا الزمان الحاضر هو النهار، لا أنَّ النهار شي ء، و الزمان الحاضر شي ء آخر، و ليس هذا من الأصل المُثبت، و ليس كاستصحاب الكلّي لإثبات الفرد؛ لأنَّ الكلّي ليس عبارة اخرى عن الفرد في نظر العرف، و أمّا كون النهار موجوداً في هذا الزمان فهو عبارة اخرى عن كون الزمان الحاضر نهاراً.

و ثالثاً: يمكن إجراء الاستصحاب التعليقيّ على نحو التعليق في الموضوع؛ بأن يقال: لو صلّيت في الزمان السابق المعلوم كونه نهاراً لكانت صلاتي في النهار، فشككت في بقاء هذا الأمر، فاستصحب أنَّ صلاتي لو وجدت تكون في النهار، فإيجادها وجدانيّ،


1- فوائد الاصول 4: 435، و انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 19.

ص: 118

و كونها واقعة في النهار- على فرض الوجود- إنّما هو بحكم الأصل. لكن جريان الأصل التعليقيّ بنحو التعليق في الموضوع محلّ إشكال (1).

هذا حال استصحاب نفس الزمان أو ما هو مثله كالحركة.

استصحاب الزمانيّات

و أمّا غير الحركة من الزمانيّات المُتصرّمة المُتقضّية فهي على أقسام:

منها: ما يكون تصرّمه و تقضّيه ممّا لا يراه العرف، بل يكون بنظرهم ثابتاً كسائر الثابتات، كشعلة السراج التي يراها العرف باقية من أوّل الليل إلى آخره من غير تصرّم و تغيّر، مع أنَّ الواقع خلافه، و كشعاع الشمس الواقع على الجدار الذي يرونه ثابتاً غير مُتغيّر.

و منها: ما يرى العرف تصرّمه و تغيّره، لكن يكون نحو بقائه كبقاء نفس الزمان و الحركة ممّا يكون واحداً عقلًا و عرفاً، و إن كانت وحدته و بقاؤه بعين تصرّمه و تقضّيه، كصوت مُمتدّ مثل الرعد و أمثاله.

و منها: ما تكون وحدته و بقاؤه بنحو من الاعتبار، مثل ما فرضه الشيخ الأنصاريّ رحمه اللَّه بالنسبة إلى الزمان و الزمانيّات مطلقاً(2)، و لعلّ هذا الاعتبار مُحتاج إليه في هذا القسم، و هو مثل التكلّم و قرعات النبض و الساعة.

و لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأوّل منها، سواءً جرى في الزمان


1- حاصله: انَّه يشترط في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها فإذا كان التعليق راجعاً للموضوع لم يكن في البين يقين سابق بثبوت الموضوع المعلّق و بالتالي لا يقين بنفس القضية، فإذا صلّى المكلّف في ثوب يشكّ في أنَّه ممّا لا يؤكل لحمه لم يمكنه إجراء الاستصحاب؛ لعدم الجزم بتحقّق الصلاة سابقاً فيما لا يؤكل لحمه. انظر فوائد الاصول 4: 472.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 20 و 375 سطر 8.

ص: 119

و الحركة أم لا.

و القسم الثاني حاله حال نفس الزمان و الحركة، و قد عرفت جريانه فيهما من غير احتياج إلى الاعتبار الذي اعتبره الشيخ الأعظم.

و القسم الثالث أسوأ حالًا من الزمان و الحركة، و إن كان الأقوى جريانه فيه أيضاً؛ لمساعدة العرف في صدق البقاء، و أنَّ رفع اليد عنه هو نقض اليقين بالشكّ، و هذا ممّا لا شبهة فيه، لكنّ الظاهر أنَّه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي، لا القسم الأوّل أو الثالث من الثالث كما اختاره الشيخ الأعظم (1) و تبعه بعض الأعاظم (2)؛ ضرورة أنَّ العُرف يرى كلّ كلمة و كلام- في خطابة واحدة، أو مجلس وعظ واحد، من التحميد و التهليل و الشعر و النثر و غيرها- موجوداً غير ما يلحقه، و الوحدة بينها اعتباريّة حتّى في نظر العرف، فمع الاشتغال بأوّله يرى وجود الموجود الاعتباريّ بوجه من المُسامحة، لا على سبيل الحقيقة، فلم يصدق نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى المجموع إلّا بالمسامحة و التأوّل.

و قد ذكرنا في محلّه (3): أنَّ موضوعات الأحكام تؤخذ من العرف، لكن لا على وجه المُسامحة، بل على نحو الحقيقة و الدقّة العُرفيّة، و إن لم تكن على نحو الدقّة العقليّة، فصدق عدم نقض اليقين بالشكّ ليس إلّا بالنسبة إلى ماهيّة الكلام و الخطابة، كصدق البقاء بالنسبة إلى نوع الإنسان، و عدم نقض اليقين بالشكّ فيه.

ثمّ إنَّ اختلاف الدواعي لا يصير موجباً لاختلاف شخصيّة الكلام غالباً؛ لأنَّ المُتكلّم المُتشاغل بالكلام- كالخطيب و الواعظ- قد تُعرض له الدواعي المُختلفة في كلامه، مع أنَّه ما دام مُتشاغلًا به تكون وحدة كلامه محفوظة عرفاً، فوحدة


1- نفس المصدر: 375 سطر 13 و 17.
2- فوائد الاصول 4: 440 و 441.
3- ذكر في صفحة 218 و 219.

ص: 120

الكلام و عدمها لا تتقوّمان بوحدة الداعي و عدمها، لا طرداً و لا عكساً، كما يظهر بالتأمّل في موارده.

فما أفاده بعض أعاظم العصر: من أنَّه إذا شكّ في بقاء الزمانيّ لأجل احتمال قيام مبدأ آخر يقتضي وجوده فالأقوى عدم الجريان؛ لرجوعه إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، فإنَّ وحدة الكلام عرفاً إنّما تكون بوحدة الداعي (1)، ليس على إطلاقه بصحيح؛ لأنَّ الميزان في وحدة الكلام هو نفس شخصيّته و وجوده، لا الدواعي الموجبة لإيجاده.

و أمّا القسم الثالث: و هو ما يكون الزمان قيداً لأمرٍ مُستقرّ فجريان الاستصحاب فيه كجريانه في نفس الزمان إشكالًا و جواباً.

و لا يخفى: أنَّ مناط الإشكال في الأقسام الثلاثة واحد، و هو أنَّ التقضّي و التصرّم في المستصحب هل يوجب عدم جريانه أم لا؟ فكما إذا شكّ في بقاء النهار يكون استصحاب النهار مورداً للبحث، كذلك إذا قيّد الجلوس بالنهار يكون محلّ البحث ما إذا شك في بقاء النهار، و أنَّ الجلوس المُتقيّد بأمر مُتصرّم هل يجري الاستصحاب فيه أم لا؟

و أمّا استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضيّ النهار فليس مورداً للبحث هاهنا، و مناط الإشكال فيه ليس مناطه في الزمان و الزمانيّات حتّى يقال: إنَّ الزمان إذا اخذ قيداً لا يجري الاستصحاب بعده، و إذا اخذ ظرفاً يجري بعده؛ لأنَّ ذلك خروج عن محطّ البحث و مورد النقض و الإبرام، و هذا خلط واقع من الشيخ الأعظم (2)، و تبعه غيره (3).


1- انظر فوائد الاصول 4: 441.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 337 سطر 1.
3- كفاية الاصول: 465 و 466، فوائد الاصول 4: 442.

ص: 121

شبهة النراقيّ

و ممّا ذكرنا يعلم: أنَّ ذكر كلام الفاضل النراقيّ رحمه اللَّه في ذيل هذا المبحث غير مُناسب؛ لأنَّ إشكاله إنّما هو معارضة استصحاب الوجوديّ بالعدميّ في الأحكام بعد مضيّ الزمان الذي اخذ ظرفاً للواجب أو الوجوب (1)، و ليست شبهة مرتبطة بالشبهة التي في الزمان و الزمانيّات.

و كيف كان فمُحصّل إشكاله: أنَّ استصحاب الوجود دائماً معارض باستصحاب العدم الأزليّ في الأحكام، تكليفيّة كانت أو وضعيّة، فاستصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المُتقيّد بكونه بعد الزوال؛ فإنَّ عنوان الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال من العناوين التي يمكن أن تكون مُستقلّة في الحكم، فهو غير محكوم بالوجوب في الأزل، فيُستصحب عدم الوجوب الأزليّ، و يُعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.

و إشكال عدم اتصال زمان الشكّ باليقين مدفوع: بأنَّه قبل مجي ء يوم الجمعة يكون الشكّ و اليقين حاصلين، و مُتّصلًا أحدهما بالآخر(2)، و هذا الجواب منه مُجمل أو مخدوش.

و التحقيق في الجواب أن يقال: إنَّ زمان الشكّ مُتّصل باليقين بالنسبة إلى هذا


1- مناهج الأحكام و الاصول للمحقّق النراقي: 239- الفائدة الاولى سطر 3، عوائد الأيّام: 71 سطر 10 و المولى النراقي: هو الإمام الشيخ المولى أحمد ابن العلّامة الشيخ محمّد مهدي بن أبي ذر النراقي، أحد أقطاب العلم و جهابذة المحققين، و كفاه فخراً أنَّه أحد أساتذة الفقيه الأعظم الإمام المرتضى الأنصاري، ولد سنة 1185 ه في نراق من قرى مدينة كاشان، و أخذ أوّليات العلوم فيها، ثمَّ هاجر إلى العراق فأخذ عن السيد محمّد مهدي بحر العلوم، و الشيخ جعفر الكبير صاحب كشف الغطاء، و الاستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني و غيرهم. له مؤلّفات كثيرة منها: مناهج الأحكام و الاصول، عوائد الأيّام، مشكلات العلوم، ديوان شعر، معراج السعادة، توفي بنراق في 23 ربيع الثاني سنة 1245 ه، و حمل إلى النجف الأشرف. انظر أعيان الشيعة: 3: 183، هدية الأحباب: 200، مستدرك الوسائل 3: 383.
2- انظر مناهج الأحكام و الاصول للمحقّق النراقي: 239 سطر 9.

ص: 122

الموضوع المُقيّد؛ فإنَّه قبل وجود الحكم من الشارع، أو قبل بلوغ المُكلّف معلوم عدم وجوبه، و بعد ورود الحكم و بلوغه صار مشكوكاً فيه، حتّى قبل الزوال الذي هو ظرف وجوب نفس الجلوس.

و بعبارة اخرى المُتخلّل بين زمان الشكّ و اليقين هو العلم بوجوب الجلوس، لا بوجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال، و المُضرّ هو الثاني دون الأوّل؛ فإنَّه غير منافٍ للشكّ بوجوب الجلوس المُتقيّد.

و بعبارة ثالثة: أنَّه قبل ورود أمر الشارع كان وجوب الجلوس قبل الزوال، و وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال معلوم العدم، و بعد وروده صار وجوب الجلوس قبل الزوال معلوم التحقّق، و وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال مشكوكاً فيه حتى في ظرف العلم بوجوب الجلوس قبل الزوال؛ لعدم التنافي بينهما، فيستصحب وجوب الجلوس، و عدم وجوب المُتقيّد، و هما متعارضان.

ثمّ قرّر الإشكال في الأحكام الوضعيّة بنحو آخر(1) مذكور في رسائل الشيخ (2)، و أجاب عنه الأعاظم بأجوبة غالبها مخدوش فيه.

جواب الشيخ عن الشبهة و ما فيه

منها: ما افاده الشيخ الأعظم قدس سره، و محصّل إشكاله الأوّل عليه: انَّ الزمان إن اخذ ظرفاً للجلوس فلا يجري استصحاب العدم؛ لأنَّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان، و كونه أزيد، و المفروض تسليم حكم الشارع بأنَّ المُتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه، فلا وجه لاعتبار استصحاب العدم السابق.


1- نفس المصدر: 239 سطر 19.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 376 سطر 20.

ص: 123

و الحاصل: أنَّ العدم انتقض بالوجود المُطلق، و قد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب، فلا يجري استصحاب العدم، و إن اخذ قيداً للحكم أو المُتعلّق فلا يجري إلّا استصحاب العدم؛ لأنَّ انتقاض عدم الوجود المُقيّد لا يستلزم انتقاض المُطلق، و الأصل عدم الانتقاض (1).

و الإنصاف عدم ورود هذا الإشكال عليه؛ لأنَّ فرض قيديّة الزمان للجلوس أو الحكم غير مذكور في كلامه، و لا يكون دخيلًا في مدّعاه؛ لأنَّ دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائماً، لا جريان استصحاب الوجود دائماً، حتّى يرد عليه أنَّه قد لا يجري استصحاب الوجود، و ذلك فيما إذا اخذ الزمان قيداً، و هذا نظير ادّعاء أنَّ استصحاب المُسبّبي محكوم لاستصحاب السببيّ دائماً؛ فإنَّ المُدّعى ليس جريان الاستصحابين دائماً، بل المُدّعى أنَّه على فرض الجريان يكون أحدهما محكوماً.

و بالجملة: منظوره عدم جواز التمسّك بالاستصحاب لإثبات الأحكام؛ لأنَّه على فرض جريانه معارض باستصحاب العدم الأزليّ الثابت لعنوان مقيّد بالزمان المُتأخّر عن ظرف الحكم، ففرض عدم جريان استصحاب الوجوديّ غير مُنافٍ لدعواه.

و أمّا على فرض ظرفيّة الزمان، فجريان استصحاب العدم الأزلي للعنوان المُتقيّد ممّا لا مانع منه؛ لأنَّ الموضوع المُتقيّد غير الموضوع الغير المُتقيّد، فلا يكون ثبوت الوجوب للجلوس نقضاً لعدم وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال؛ لإمكان أن يكون نفس الجلوس واجباً، و الجلوس المُتقيّد غير واجب.

و بالجملة: عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غير الجلوس المُتقيّد بالزمان، فلا يكون الحكم المُتعلّق نقضاً للمُقيّد بما أنَّه مُقيّد.


1- نفس المصدر: 377 سطر 1.

ص: 124

و أمّا قوله: إنَّ المفروض تسليم حكم الشارع بأنَّ المُتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه، و جَعَلَ هذا الحكم دافعاً لاستصحاب العدم الأزليّ (1) فهو غريب؛ لأنَّ هذا بيان الاستصحاب الوجودي المُعارض باستصحاب العدم الأزليّ، فالتسليم بجريان استصحاب الوجوديّ لا يوجب الحكم بتقدّمه على استصحاب العدم الأزلي.

اللهمّ إلّا أن يكون منظوره حكومة الاستصحاب الوجودي على العدميّ، لكنّه خلاف ظاهر كلامه؛ لأنَّ الحكومة إنّما هي بعد فرض جريان المحكوم في نفسه، و هو يدّعي عدم اتصال زمان الشكّ باليقين في استصحاب العدم الأزليّ.

و هذا مع أنَّه على فرض انتقاض العدم لا يجري الاستصحاب و لو مع عدم تسليم حكم الشارع بأنَّ المُتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه، فكلامه لا يخلو من خلل، بل تناقض.

جواب المُحقّق الخراسانيّ و ردّه

و منها: ما ذكره المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه، و حاصله بتوضيح منّا: أنَّ أدلّة الاستصحاب لا يمكن أن تعمّ هذين الاستصحابين؛ لأنَّ الجمع بين لحاظ الزمان قيداً و ظرفاً ممّا لا يمكن؛ لكمال التنافي بينهما، فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد، و هو استصحاب الثبوت فيما إذا اخذ الزمان ظرفاً، و استصحاب العدم فيما إذا اخذ قيداً(2).

و فيه: إنَّ إطلاق دليل الاستصحاب يشملهما من غير لزوم الجمع بين اللّحاظين؛ لأنَّ معنى الإطلاق ليس لحاظ الحالات الطارئة و الحيثيّات العارضة، و الحكم عليها، و إلّا يرجع إلى العموم، بل معناه جعل الماهيّة تمام الموضوع للحكم من غير تقييده


1- نفس المصدر: 377 سطر 5.
2- كفاية الاصول: 466 و 467، حاشية الآخوند على الرسائل: 206 سطر 3.

ص: 125

بشي ء، فينطبق قهراً على الكثرات من غير لحاظها بوجه، فقوله: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»(1) مُطلق؛ معناه أنَّ البيع تمام الموضوع للحلّية و النفوذ، و لا تكون حيثيّة اخرى و قيد آخر دخيلين في حلّيته، فإذا كان البيع تمام الموضوع، فكلّما تحقّق مع أيّة حيثيّة أو قيد يكون موضوعاً للحلّ بما أنَّه بيع، و من غير دخالة قيد و لا لحاظه.

فقوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

يكون مُطلقاً بهذا المعنى؛ أي يكون اليقين و الشكّ تمام الموضوع للحكم بعدم الانتقاض، من غير لحاظ خصوصيّة معهما، فهو بوحدته يشمل جميع الاستصحابات بما أنّها عدم نقض اليقين بالشكّ، و كذا إطلاق المادّة عبارة عن كون النقض- بما أنَّه نقض- ملحوظاً من غير لحاظ أمرٍ آخر معه.

هذا مضافاً إلى أنَّه لو فرض لزوم الجمع بين اللّحاظين في دليل الاستصحاب لا بدّ و أن لا يشمل إلّا واحداً منهما دائماً، لا أنَّه على فرض النظر فيه يشمل أحدهما، و على فرض القيديّة يشمل الآخر، إلّا أن يكون مُراده ذلك بتأويل في ظاهر كلامه؛ بإرجاع القيديّة أو الظرفيّة إلى أدلّة الاستصحاب، و هو كما ترى و الحقّ عدم ورود هذا الإشكال عليه رأساً.

جواب المحقّق النائينيّ و الإشكال عليه

و منها: ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه، من عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ مُطلقاً، و لو لم يجر استصحاب الوجود؛ لأنَّ العدم الأزليّ هو العدم المُطلق، و انتقاضه إنّما يكون بحدوث الحادث، و إذا ارتفع بعد الحدوث لم يكن العدم الثاني هو العدم الأزليّ، و العدم المُقيّد بقيد خاصّ من الزمان أو الزمانيّ


1- سورة البقرة 2: 275.

ص: 126

مُتقوّم بوجود القيد، و لا يعقل تقدّمه على قيده.

فإذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزليّ انتقض إلى الوجود قطعاً، فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذه قيداً، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون [من العدم الأزليّ؛ لكونه مُقيّداً بما بعد الزوال، و العدم المُقيّد غير العدم المُطلق المُعبّر عنه ب «العدم الأزليّ» فالمُستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المُطلق، بل هو العدم المُقيّد بما بعد الزوال، و هو مُتقوّم بما بعد الزوال، فلا يمكن استصحابه إلّا إذا آن بعد الزوال، و لم يثبت الوجود، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.

و المفروض غير ذلك؛ لأنَّ آن بعد الزوال يكون العدم مشكوكاً فيه، فالعدم الأزلي المطلق قد انتقض بالوجوب قبل الزوال، و العدم المُقيّد لم يكن قبل الزوال مُتحقّقاً إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

نعم: لا مانع من استصحاب عدم جعل الوجوب للموضوع المُقيّد؛ لأنَّ الجعل و اللّاجعل أزليّان، فإذا جعل الزمان قيداً يختصّ كل من الجلوس قبل الزوال و بعده بجعل خاصّ، فيُستصحب عدم جعل الوجوب للجلوس بعد الزوال، لكن عدم الجعل ليس له أثر إلّا بلحاظ المجعول، و إثبات عدم المجعول بعدم الجعل مُثبت.

هذا مضافاً إلى أنَّ استصحاب البراءة الأصليّة المُعبّر عنه ب «استصحاب حال العقل»(1) لا يجري مُطلقاً؛ لأنَّ العدم الأصليّ عبارة عن اللّاحكمية و اللّاحرجية، و هذا المعنى بعد وجود المُكلّف و اجتماع الشروط فيه قد انتقض قطعاً و لو إلى الإباحة؛ لأنَّ اللّاحرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير اللّاحرجية قبل وجود المُكلّف، إذ الأوّل مستند إلى الشارع دون الثاني (2)، انتهى مُلخّصاً.


1- انظر على سبيل المثال المعتبر: 6 سطر 33، قوانين الاصول 2: 14 سطر 10 و 11، شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 453 و 454.
2- فوائد الاصول 4: 445 و 448.

ص: 127

و لا يخفى ما فيه:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ العدم الأزلي و إن كان هو العدم المُطلق الغير المسبوق بالوجود، لكنّه يلاحظ بالنسبة إلى كلّ عنوان مُستقلّاً، فوجوب الجلوس المُطلق عدمه الأزليّ هو عدم وجوب الجلوس المُطلق، و وجوب الجلوس المُقيّد بما بعد الزوال عدمه الأزليّ هو عدم وجوب هذا المُقيّد، كما أنَّ العدم الأزلي للإنسان، هو عدم الإنسان من غير تقيّد بكونه في زمان كذا أو مكان كذا، و العدم الأزليّ للإنسان العالم هو عدم هذا العنوان من غير تقييد بالقيود المذكورة.

فوجوب الجلوس بعد الزوال عدمه الأزليّ بعدم هذا الوجوب المُتعلّق بالموضوع المُقيّد بما بعد الزوال، و هذا العدم عدم مطلق للوجوب المُقيّد إذا كان بعد الزوال قيداً للهيئة، و للوجوب المُتعلّق بالموضوع المُقيّد إذا كان قيداً للمادّة، و لا يكون هذا العدم مُنتقضاً؛ ضرورة انَّ انتقاضه إنّما يكون بوجوب الجلوس بعد الزوال، لا بوجوب الجلوس المُطلق؛ بحيث يكون الجلوس تمام الموضوع للوجوب من غير تقيّده بقيد، و لا بوجوب الجلوس قبل الزوال، و معلوم أنَّ عدم وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال- سواء كان القيد للوجوب أو الجلوس- غير معلوم الانتقاض، فلا مانع من جريان استصحابه.

و أمّا ما كرّره: من انَّ العدم المُتقيّد بقيد كونه بعد الزوال ليس له تحقّق قبل الزوال، فغير مرتبط بكلام الفاضل النراقيّ؛ ضرورة أنَّ العدم ليس مُتقيّداً بكونه بعد الزوال، بل العدم مُطلق، و الوجوب أو الجلوس مُقيّد، و الفرق بينهما أظهر من أن يخفى، و الظاهر أنَّ منشأ اشتباهه هو هذا الخلط، و بعد ذلك نسج على منواله ما نسج.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ ما ذكره- من أنَّ الجعل المُتعلّق بوجوب الجلوس قبل الزوال غير الجعل المُتعلّق بالوجوب بعد الزوال؛ لأنَّه بناءً على القيديّة يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مُغاير لجعل الوجوب قبل الزوال، و حيث إنَّه يشكّ في جعله بعده

ص: 128

فالأصل عدمه- دليل على استقلال المجعول أيضاً؛ لأنَّه تابع للجعل في الوحدة و الكثرة و الاستقلال و عدمه، فحينئذٍ كما يُستصحب عدم جعل الوجوب بعد الزوال، يُستصحب عدم وجوب الجلوس بعده، فلا وجه للتفكيك بين الجعل و المجعول.

و أمّا ثالثاً: فلأنَّ إنكاره استصحاب عدم الوجوب الأزليّ قائلًا: بأنَّ البراءة الأصليّة عبارة عن اللّاحكمية و اللّاحرجية، و هذا المعنى قد انتقض قطعاً و لو إلى الإباحة، ليس بشي ء؛ لأنَّه- مُضافاً إلى جواز استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ، و مضافاً إلى عدم العلم بانتقاض اللّاوجوب الأزليّ إلى الوجوب، و لو سلّم انتقاض عدم الحكم إلى الحكم؛ لعدم المُنافاة بين انتقاض عدم الحكم بالحكم، و بين عدم انتقاض اللّاوجوب إلى الوجوب- لنا أن نمنع انتقاض اللّاحرجيّة و اللّاحكمية إلى الحكم في كلّ موضوع من الموضوعات؛ لأنَّ بعض الموضوعات التي لا اقتضاء فيها لشي ءٍ من الأحكام لا بدّ و أن يبقى على اللّاحرجية و اللّاحكمية.

و لا يلزم أن يكون لكلّ موضوع اقتضاء و لو للإباحة، و عدم الاقتضاء للأحكام الأربعة لا يستلزم اقتضاء الإباحة، فيمكن أن يكون موضوع خالياً من مُطلق الاقتضاء، فيبقى على اللّاحكمية الأزليّة.

فدعوى القطع بانتقاض اللّاحكمية و اللّاحرجية إلى الحكم و الحرج في غير محلّها، بل دعوى القطع بخلافها ليست ببعيدة.

جواب شيخنا العلّامة و ما فيه

و منها: ما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه في مجلس بحثه، من أنَّ الاستصحاب الوُجوديّ حاكم على استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنَّ الشكّ في المُقيّد ناش

ص: 129

عن بقاء الوجوب السابق، و أصالة بقائه ترفع شكّه، و أمّا أصالة عدم الوجوب للموضوع المقيّد فمضادّة لحكم الأصل الوجوديّ و رافعيّته له؛ للتضادّ الواقع بينهما، لا لرافعيّته لشكّه (1).

و فيه إشكال:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ الشكّ في وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال ليس منشؤه الشكّ في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله، بل منشؤه إمّا الشكّ في أن الوجوب المجعول هل هو ثابت لمُطلق الجلوس، أو للجلوس قبل الزوال، فليس شكّه ناشئاً عن البقاء، بل عن كيفيّة الجعل.

و إمّا الشكّ في جعل وجوب مُستقلّ للموضوع المُتقيّد بما بعد الزوال، فلا يكون استصحاب وجوب الجلوس رافعاً لشكّه تأمّل.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ شرط حكومة الأصل السببيّ على المُسبّبي، أن يكون جريان الأصل الحاكم موجباً لرفع الشكّ عن المُسبّب تعبّداً؛ بمعنى أن يكون المُستصحب في الأصل المُسبّبي من الآثار الشرعيّة المُترتّبة على المُستصحب في الأصل السببيّ، كاستصحاب كرّية الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، و أمّا لو كان الشكّ مُسبّباً و لم يكن كذلك، فلا يكون الأصل حاكماً.

أ لا ترى أنَّ الشكّ في نبات لحية زيد مُسبّب عن الشكّ في حياته، و لكنّ استصحاب الحياة ليس حاكماً على استصحاب عدم نباتها، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فاستصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال واجباً إلّا بالأصل المُثبت، بل حاله أسوأ من الأصل المُثبت كما يظهر بالتأمّل.


1- انظر هامش درر الفوائد: 543 و 544.

ص: 130

الجواب عن الشبهة

هذا و التحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال: إنَّ من فرض معارضة الاستصحاب الوجوديّ و العدميّ يلزمه عدم المعارضة بينهما؛ لأنَّ المعارضة بين الأصلين إنّما تتحقّق إذا كان موضوع حكمهما واحداً، و يكون أحد الأصلين يقتضي حكماً مُنافياً للآخر.

نعم: قد تكون المعارضة بالعرض كما في أطراف العلم الإجماليّ، لكنّ منظورنا في المقام هو المعارضة بالذات، و لا بدّ فيها من وحدة الموضوع، بل سائر الوحدات التي تتوقّف عليها المعارضة.

فحينئذٍ نقول: إنَّ الاستصحاب الوجوديّ و العدميّ إمّا أن يكون موضوعهما واحداً أو لا.

فعلى الأوّل: تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما، لكنّ فرض وحدة الموضوع مُوجب لسقوط أحدهما؛ لأنَّ الموضوع إمّا نفس الجلوس، فلا يجري الاستصحاب العدمي؛ لأنَّ عدم وجوب الجُلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، فلا يكون بين الشكّ و اليقين اتّصال، و إمّا الجلوس المُتقيّد ببعد الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجوديّ؛ لعدم اليقين بوجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال.

و على الثاني: بأن يكون مفاد أحد الأصلين ثبوت الوجوب لنفس الجلوس، و مفاد الآخر عدم وجوب الجلوس المُتقيّد بما بعد الزوال، فلا منافاة بينهما؛ لإمكان حصول القطع بأنَّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أنَّه جلوس، أي يكون نفس الجُلوس تمام الموضوع للوجوب، و الجُلوس المُتقيّد بما بعد الزوال غير واجب؛ بحيث يكون الجلوس بعض الموضوع، و بعضه الآخر تقيّده بكونه بعد الزوال.

ص: 131

كما أنَّ الإنسان بما أنَّه إنسان ناطق، لا بما أنَّه ماش مُستقيم القامة، فيصحّ أن يُقال: إنَّ الإنسان ليس بناطق من حيث كونه ماشياً مُستقيم القامة، بل بما أنَّه إنسان، و فيما نحن فيه يصحّ أن يقال: إنَّ الجلوس بعد الزوال واجب بما أنَّه جلوس، و ليس بواجب بما أنَّه مُتقيّد بما بعد الزوال، و يرجع ذلك إلى أنَّ الجُلوس تمام الموضوع لا بعضه.

لا يقال: إنَّ المُطلق إذا كان واجباً يقتضي إطلاقه وجوب الجلوس في جميع الحالات، و منها الجُلوس بعد الزوال، فيصير معارضاً لعدم وجوب الجُلوس بعد الزوال.

فإنَّه يقال: ليس معنى إطلاقه أنَّ الجلوس بعد الزوال بما أنَّه جُلوس بعد الزوال واجب، بل معناه أنَّ الجُلوس بعد الزوال واجب بما أنَّه جُلوس، فلا منافاة بين وجوب الجُلوس بعد الزوال بما أنَّه جُلوس، و عدم وجوبه بما أنَّه مُتقيّد كما هو واضح، و لقد أشار إلى بعض ما ذكرنا شيخنا العلّامة في «درره»(1) فليكن ما ذكرنا تقريراً و توضيحاً لما أفاده.

التنبيه الرابع الاستصحاب التعليقيّ

اشارة

هل يجري الاستصحاب التعليقيّ مُطلقاً، أو لا يجري كذلك، أو يفصّل بين التعليق في الحكم و الموضوع، أو بين ما كان التعليق شرعيّاً و غيره؟

وجوه؛ يتّضح الحقّ ببيان امور:

الأوّل: انَّ محطّ البحث و النقض و الإبرام في الاستصحاب التعليقيّ هو أن تعليقيّة الحكم أو الموضوع هل توجب خللًا في أركان الاستصحاب و شرائط جريانه أم لا؟


1- انظر درر الفوائد: 542 و 543.

ص: 132

و على الثاني: هل يكون الاستصحاب التعليقيّ مفيداً و منتهياً إلى العمل، أو لا؛ لابتلائه بالمعارضة دائماً؟ فلا بدّ من تمحّض البحث في ذلك.

و أمّا قضيّة بقاء الموضوع و عدمه، أو إرجاعه القضيّة التعليقيّة إلى القضيّة التنجيزيّة فهي خارجة عن محطّ البحث و مورد النقض و الإبرام، فما أفاده الشيخ الأنصاريّ رحمه اللَّه من استصحاب سببيّة الشرط للمشروط(1) و إن كان حقّاً على إشكال، و يدفع به الإشكال بوجه، لكنّه خروج عن موضوع البحث، و مع ذلك لا محيص عن التعرّض له تبعاً لهم.

الثاني: انَّ التعليقات الواقعة في لسان الشرع و القضايا المشروطة كقوله:

(إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شي ء)

(2) و قوله:

(إذا نشّ العصير أو غلى حرم)

(3) تحتمل ثبوتاً لأُمور:

منها: جعل الحكم مُتعلّقاً بموضوعاتها على تقدير شي ءٍ، فيكون المجعول في قوله:

(إذا غلى العصير حرم)

هو حرمته على تقدير الغليان، و في قوله:

(إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لم ينجّسه شي ء)

هو الاعتصام على تقدير الكرّية.

و منها: جعل الحكم مُتعلّقاً بموضوع مُتقيّد: بعنوان، فيكون المجعول فيهما هو الحُرمة المُتعلّقة بالعصير المغليّ، و الاعتصام للماء البالغ حدّ الكرّ، فيكون قوله:

(إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لم ينجّسه شي ء)

عبارة اخرى عن أنَّ الكرّ لا ينجّسه شي ء، فيكون التعبير بذلك تفنّناً في البيان، أو تنبيهاً على أنَّ السّر في نجاسة المغليّ هو غليانه، و في اعتصام الماء هو كرّيته، و على هذا يكون الموضوع مُركّباً من ذات و قيد.

و منها: جعل سببيّة المُعلّق عليه للمُعلّق، فيكون مفاد القضيّتين أنَّ الغليان سبب


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 15 و 23.
2- قد تكررت هذه العبارة في الكتب الفقهية و هي مضمون عدة من الروايات، لاحظ الوسائل 1: 117، باب 9 من أبواب الماء المطلق.
3- الكافي 6: 419/ 4، التهذيب 9: 120/ 515، الوسائل 17: 229/ 4- باب 3 من أبواب الأشربة المُحرّمة.

ص: 133

للحرمة، و الكرّية للاعتصام.

و منها: جعل الملازمة بين الكرّية و الاعتصام، و الحرمة و الغليان.

كلّ ذلك مُحتمل بحسب مقام الثبوت، أمّا الأوّلان فلا كلام فيهما، و أمّا الأخيران فقد مرّ التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعيّة، و قلنا: إنَّ السببيّة و المُلازمة، و أمثالهما قابلة للجعل، و إنَّ المُنكر لإمكانه فيها خلّط بين التكوين و التشريع، و بين السببيّة الحقيقيّة التكوينيّة، و الاعتباريّة القانونيّة فراجع (1).

و أمّا بحسب مقام الإثبات و الاستظهار من الأدلّة، فهو خارج عمّا نحن بصدده، و الأدلّة مُختلفة بحسب المقامات و مناسبات الأحكام و الموضوعات.

الثالث: أنَّ التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرنا، و قد لا يكون في كلامه، لكنّ العقل يحكم به.

مثلًا: لو ورد «أنَّ الماء البالغ حدّ الكرّ لا ينجّسه شي ء، و أنَّ العصير المغليّ يحرم» يحكم العقل بأنَّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء، و أنَّ العصير إذا غلى يحرم، لكن ليس هذا من التعليق الشرعيّ، بل هو تعليق عقليّ يدركه العقل من القضيّة المنجّزة.

و هذا التعليق العقليّ قد يكون في الأحكام كما عرفت، و قد يكون في الموضوعات، كما يحكم بأنَّ الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبار و نصفاً طولًا و عرضاً و عمقاً فهو كرّ، و يحكم على الماء الناقص عن الكرّ بمنّ بأنَّه إذا زيد عليه منّ يصير كرّاً، و هذا تعليق عقليّ في الموضوع، كما أنَّ ما مرَّ تعليق عقليّ في الحكم، و يمكن أن يقع التعليق في الموضوع في كلام الشارع، و يرجع إلى التعبّد بوجود موضوع الحكم على تقدير كذائي، و ترتيب آثاره عليه على فرض تحقّقه.

الرابع: إذا اخذ عنوان في موضوع حُكم يكون ظاهراً في الفعليّة، فإذا قيل: «الكرّ


1- تقدم في صفحة 70 و 71.

ص: 134

مُعتصم» و «المُستطيع يجب عليه الحجّ» يكون ظاهراً في أنَّ الكرّ الفعليّ مُعتصم، و المُستطيع الفعليّ يجب عليه الحج و هكذا، و هذا واضح.

لكن يقع الكلام في قوله:

(لا تنقض اليقين بالشك)

(1) أنَّ الميزان فعليّة اليقين و الشكّ، أو فعليّة المُتيقّن؟ فعلى الأوّل لا ينظر إلى المُتيقّن هل هو مُتحقّق فعلًا أم لا، بخلاف الثاني.

و قد مرّ الكلام فيه سابقاً؛ و قلنا: إنَّ الحقّ- بحسب النظر إلى أدلّة الاستصحاب، و مُناسبة الحكم و الموضوع، و أنَّ اليقين لإبرامه لا يُنقض بالشكّ؛ لعدم إبرامه- انَّ الموضوع هو نفس اليقين و الشكّ بما أنَّ اليقين طريق و كاشف، فلا يُعتبر فيه إلّا فعليّة الشكّ و اليقين (2).

نعم: لا بدّ و أن يكون المُستصحب ممّا يترتّب على التعبّد به أثر عمليّ، فلو فرض أنَّ اليقين بأمر تعليقيّ يترتّب عليه أثر عمليّ لو تعبّد ببقائه لجرى الاستصحاب بلا إشكال؛ لفعليّة الشكّ و اليقين، و عدم اعتبار أمرٍ آخر، سواء كان المُتيقّن وجوديّاً أم لا، و فعليّاً أم لا؛ لعدم الدليل على كونه كذلك، فإذا تعلّق اليقين بقضيّة تعليقيّة، و فرضنا أنَّ بقاءها في زمن الشكّ يكون ذا أثرٍ شرعيّ- كما لو فُرض أن نفس القضيّة موضوعة لحكم في زمان الشكّ- لجرى الاستصحاب فيها بلا إشكال و ريب؛ لفعليّة اليقين و الشكّ، و كون المُتيقّن ذا أثرٍ شرعيّ في زمن الشكّ، أو مُنتهياً إليه، و أمّا لزوم كون المُتيقّن وجوديّاً فعليّاً فلا يُعتبر.

إذا عرفت ما ذكرنا نقول: إنَّ التعليق إذا ورد في دليل شرعيّ كما لو ورد «أنَّ العصير العنبيّ إذا غلى يحرم» ثمّ صار العنب زبيباً، فشكّ في أنَّ عصيره أيضاً يحرم إذا غلى أو لا، فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق؛ لما عرفت من أنَّ المُعتبر


1- تقدّم تخريجه في صفحة 50 و فيه« لا ينقض» و صفحه 22 و فيه زيادة« ابداً».
2- انظر صفحة 32.

ص: 135

في الاستصحاب ليس إلّا اليقين و الشكّ الفعليّين، و كون المشكوك فيه ذا أثر شرعيّ، أو مُنتهياً إليه، و كلا الشرطين حاصلان، أمّا فعليّتهما فواضحة، و أمّا الأثر الشرعيّ؛ فلأنَّ التعبّد بهذه القضيّة التعليقيّة أثره فعليّة الحكم لدى حصول المُعلّق عليه، من غير شبهة المُثبتية؛ لأنَّ التعليق إذا كان شرعيّاً معناه التعبّد بفعليّة الحكم لدى تحقّق المُعلّق عليه، و إذا كان الترتّب بين الحكم و المُعلّق عليه شرعيّاً لا ترد شبهة المُثبتيّة، فتحقّق الغليان وجداناً بمنزلة تحقّق موضوع الحكم الشرعيّ وجداناً.

كلام بعض الأعاظم و ما فيه

و العجب من بعض أعاظم العصر، حيث فسّر الاستصحاب التعليقيّ بما إذا تعلّق الحكم على موضوع مُركّب من جزءين عند فرض وجود أحد جزأيه، و تبدّلت بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر، ثمّ ناقض كلامه هذا بقوله: بعبارة أوضح، ثمّ نسج على هذا المنوال، و أورد على الاستصحاب التعليقيّ:

تارة: بأنَّ الحكم المُترتّب على الموضوع المُركّب إنّما يكون وجوده و تقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء و الشرائط؛ لأنَّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، و لا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع، فلا معنى لاستصحاب ما لا يكون موجوداً و مُقرّراً؛ لأنَّ في الاستصحاب الوجوديّ لا بدّ من وجود المُستصحب، إذ لا يُعقل التعبّد ببقاء وجود ما لا وجود له.

و اخرى بأنَّه ليس للجزء الموجود من المُركّب أثر إلّا إذا انضم إليه الجزء الآخر، فليس للعصير العنبيّ أثر إلّا إذا انضمّ إليه الغليان، و هذا ممّا لا شكّ فيه، فلا معنى لاستصحابه.

ص: 136

و ثالثة: بأنَّ هذه القضيّة التعليقيّة عقليّة؛ لأنّها لازم جعل الحكم على الموضوع المُركّب (1).

و أنت خبير بما فيه:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ ما هو مورد النقض و الإبرام بين الأعلام في الاستصحاب التعليقيّ هو ما إذا وردت قضيّة شرعيّة تعليقيّة، كقوله:

(العصير إذا نشّ و غلى حرم)

أي العصير العنبيّ، ثمّ شكّ في بقاء الحكم عند عروض حالة على الموضوع، كصيرورة العنب زبيباً، لا فيما إذا كان الحكم مُتعلّقاً بموضوع مُركّب، و كان التعليق من حكم العقل، و الفرق بينهما أظهر من الشمس؛ لأنَّ الترتّب بين المُعلّق و المُعلّق عليه في الاولى شرعيّ دون الثانية.

و بهذا تنحلّ الشبهة الثالثة؛ لأنَّ الترتّب بينهما إذا كان شرعيّاً لا يكون الأصل مُثبتاً، و توهّم رجوع القضيّة التعليقيّة إلى التنجيزيّة لبّاً، و رجوع الشرط إلى قيديّة الموضوع (2) فاسد إن اريد الرجوع عرفاً؛ ضرورة أنَّ الموضوع و الحكم في التعليقيّة مُخالف لهما في التنجيزيّة، فإنَّ الموضوع في الأولى نفس الذات، و الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع، و الحكم غير فعليّ، فأين إحداهما من الاخرى؟

و إن اريد الرجوع عقلًا فهو- على فرض تسليمه حتّى في مثل المقام- لا يفيد بعد كون الميزان في مثل المقام هو النظر العرفيّ.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ ما ذكره من أنَّ الحكم المُترتّب على الموضوع المُركّب لا وجود له إلّا بوجود جميع أجزائه، و لا يُعقل التعبّد بوجود ما لا وجود له، فلا معنى لاستصحابه.

فيه:- مُضافاً إلى أنَّ المفروض في المقام هو ورود القضيّة التعليقيّة كما عرفت،


1- انظر فوائد الاصول 4: 463- 469.
2- انظر مطارح الأنظار: 46 سطر 26، فوائد الاصول 4: 467.

ص: 137

و الحكم المُعلّق على شي ء لا يكون عدماً محضاً؛ ضرورة تعلّق الجعل به، و انَّه مُتعلّق لليقين- أنَّه ليس المُعتبر في الاستصحاب إلّا فعليّة الشكّ و اليقين، و كون المُتيقّن في زمن الشكّ ذا أثرٍ شرعيّ أو مُنتهياً إليه، فلو فرض تعلّق اليقين على أمرٍ معدوم يكون ذا أثرٍ شرعيّ في زمان الشكّ يجري الاستصحاب فيه بلا إشكال، و المفروض فيما نحن فيه أنَّ اليقين مُتعلّق بقضيّة تعليقيّة شرعيّة، موضوعها العنب، يشكّ في بقائها بعد صيرورته زبيباً، و التعبّد ببقاء هذه القضيّة الشرعيّة يكون أثره الشرعيّ هو حرمة عصيره إذا غلى، بل في مثل المثال حكم شرعيّ تعليقيّ يصير فعليّاً بتحقّق ما علّق عليه.

و أمّا ثالثاً: فلأنَّ ما ذكره من أنَّه لا اثر للجزء الموجود من المُركّب، إلّا أنَّه لو انضم إليه الجزء الآخر لثبت له الحكم.

ففيه: أنَّه يكفي في الاستصحاب كون الشي ء جزءاً لموضوع مُركّب، فإذا فرض أنَّ العنب المغليّ كان موضوعاً لحكم، و كان العنب قبل غليانه جزءاً للموضوع، و يترتّب عليه الأثر لو انضمّ إليه الغليان، فصار زبيباً فشكّ في بقاء حكمه؛ أي كونه جزءاً للموضوع فيستصحب، تأمّل.

و أمّا قوله: و هذا ممّا لا شكّ فيه، فلا معنى لاستصحابه (1)، فلا يخفى ما فيه من الخلط بين العنب و الزبيب فراجع كلامه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ جريان الاستصحاب التعليقيّ ممّا لا إشكال فيه.

ثمّ إنَّ ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره: من إجراء أصالة بقاء سببيّة الغليان للحرمة، أو أصالة بقاء المُلازمة بين الغليان و الحرمة(2) و إن كان خروجاً عن محلّ البحث، لكنّه متين في ذاته لو فُرض استفادة جعل السببيّة الشرعيّة أو المُلازمة الشرعيّة، ليكون الترتّب بين السبب و المُسبّب، و بين أحد المُتلازمين مع الآخر شرعيّاً، و إلّا يصير


1- فوائد الاصول 4: 467 و 468.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 15 و 23.

ص: 138

الأصل مُثبتاً.

لكنّه مع ذلك مُشكل؛ لأنَّ جعل المُلازمة و السببيّة و إن كان شرعيّاً لكن وجود اللّازم و المُسبّب عند وجود صاحبهما عقليّ، فيكون مُثبتاً، و إرجاعهما إلى جعل اللّازم و المُسبّب عقيب صاحبهما إنكار للمبنى.

و أمّا ما أورد عليه الفاضل المُتقدّم على ما في تقريرات بحثه: تارة بأنَّ السببيّة و المُلازمة لا يعقل أن تنالهما يد الجعل، و اخرى بأنَّ المُلازمة بين العنب المغلي و بين نجاسته و حرمته مُلازمة بين تمام الموضوع و الحكم، و الشكّ في بقاء المُلازمة بين تمام الموضوع و الحكم لا يعقل إلّا بالشكّ في نسخ المُلازمة، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ، و هو غير الاستصحاب التعليقيّ (1)، فغير واردين:

أمّا الأوّل منهما: فلما عرفت في مباحث الأحكام الوضعيّة من أنّهما قابلتان للجعل فراجع (2).

و أمّا الثاني منهما: فلأنَّ الشكّ ليس في بقاء المُلازمة بين تمام الموضوع و الحكم؛ ضرورة عدم الشكّ في حرمة العصير العنبيّ المغليّ، و إنّما الشكّ في العصير الزبيبيّ، و ليس منشؤه الشكّ في نسخ الحكم الأوّل، بل في أنَّ العنبيّة هل هي واسطة في الثبوت، أو العروض؟

و بعبارة اخرى أنَّ سببيّة الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدار العنبيّة أم لا؟ و في مثله لا يكون الشكّ في النسخ، و لعمري إنَّ هذا بمكان من الوضوح، تدبّر.


1- فوائد الاصول 4: 471 و 472.
2- أضف إلى ذلك: أنّا لو فرضنا عدم تعلّق الجعل بهما مُستقلًاّ، و لكن مجعوليتهما بمنشئهما غير قابلة للإنكار، و هذا المقدار من الجعل يكفي في جريان الاستصحاب، فلا إشكال في جريانه فيهما؛ لكون وضعهما و رفعهما بيد الشارع و لو تبعاً منه قدّس سرّه . و انظر صفحة 70- 75.

ص: 139

تذنيب حال معارضة الاستصحاب التعليقيّ مع التنجيزيّ

بناءً على جريان الاستصحاب التعليقيّ قد يقال: إنَّه معارض دائماً باستصحاب تنجيزيّ، ففي المثال المُتقدّم بعد عروض الغليان على العصير الزبيبيّ يكون استصحاب الحرمة المُعلّقة على الغليان أثره الحرمة الفعليّة بعد الغليان، و هو معارض باستصحاب الحلّية الثابتة للعصير قبل الغليان، لأنَّه إذا غلى يشكّ في حلّيته و حرمته، فيتعارض الأصلان (1).

و أجاب عنه الشيخ الأعظم قدس سره: بحكومة الاستصحاب التعليقيّ على الاستصحاب التنجيزي (2)، و لم يذكر وجهها، و لذا وقع الكلام فيها.

فقال المُحقّق الخراساني رحمه اللَّه في «تعليقته» ما محصّله: إنَّ الشكّ في الإباحة بعد الغليان مُسبّب عن الشكّ في حرمته المُعلّقة قبله، فاستصحاب حرمته كذلك المُستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكماً على استصحاب الحلّية، و الترتّب و إن كان عقليّاً لكنّ الأثر العقليّ المُترتّب على الأعمّ من الحكم الواقعيّ و الظاهريّ يترتّب على المُستصحب، فيكون استصحاب الحرمة حاكماً عليه بهذه الملاحظة.

و بالجملة: أنَّ استصحاب الحرمة التعليقيّة تترتّب عليه الحرمة الفعليّة بعد الغليان، و ينفي الإباحة بعده؛ لأنَّ نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمة الفعليّة أعمّ من أن تكون واقعيّة أو ظاهريّة، فيرتفع الشكّ المُسبّبي (3).

و قد فصّل هذا الوجه بعض أعاظم العصر مع تطويل و تفصيل، و تناقض صدر


1- ذكره الشيخ الأنصاري قدّس سرّه و بنى عليه المحقّق الإيرواني في نهاية النهاية 2: 203.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 21.
3- حاشية الآخوند على الرسائل: 208 و 209.

ص: 140

و ذيل، و لم يأتِ بشي ءٍ زائدٍ عليه (1).

و قريب منه ما في «الكفاية و حاصله بتوضيح منّا: أنَّ الغليان لمّا كان شرطاً للحرمة فلا بدّ و أن يكون غاية للحلّية، فيكون العصير حراماً بشرط الغليان، و حلالًا إلى أن يغلي، و لا مُنافاة بين الحرمة بعد الغليان و الحلّية المُغيّاة به؛ ضرورة أنَّ ثبوتهما كذلك لو كان قطعيّاً لا يضرّ أحدهما بالآخر، فضلًا عن كونهما مُستصحبين، فإذا شكّ في حرمته المُعلّقة بعد صيرورة العنب زبيباً شكّ في حلّيته المُغيّاة أيضاً، فيكون الشكّ في حلّيته و حرمته فعلًا بعده مُتّحداً خارجاً مع الشكّ في بقائه على ما كان عليه من الحلّية و الحرمة بنحو كانتا عليه؛ أي من كون الحرمة مُعلّقة و الحلّية مُغيّاة، فاستصحاب حرمته المُعلقة الملازم لاستصحاب الحلّية المُغيّاة يثبت حرمته الفعليّة بعد الغليان و انتفاء حلّيته؛ لأنَّ هذا لازم أعمّ للحكم الواقعيّ و الظاهريّ، فيترتّب عليه (2)، و الظاهر أنَّه يرجع إلى ما في «التعليقة» مع تعبير مُخلّ و تغيير مضرّ.

و حاصل الوجهين: أنَّ الحكومة تتقوّم بأمرين، احدهما: كون الشكّ سببيّاً و مُسبّبياً، و ثانيهما: نفي حكم المُسبّب لجريان الأصل في السبب، و كلا الأمرين حاصلان في المقام؛ لأنَّ الشكّ في الحلّية بعد الغليان مُسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة المُعلّقة قبله بعد عروض حالة موجبة للشكّ، و جريان الأصل فيه يثبت الحكم بوجود المُعلّق عليه، و يرفع الحكم المُضادّ له؛ أي الحلّية، لأنَّ جعل الحرمة ظاهريّة كانت أو واقعيّة لازمه استحالة جعل حكم مضادّ له.

و فيه: أنَّه لا بدّ في الحكومة من أنَّ الأصل الجاري في السبب يرفع الشكّ تعبّداً عن المُسبّب؛ أي يكون التعبّد ببقاء السبب أثره الشرعيّ هو التعبّد بحكم المُسبّب، كالتعبّد ببقاء الكرّ؛ حيث إنَّ أثره الشرعيّ طهارة الثوب المغسول به، كما سيأتي تفصيله مع سرّ


1- فوائد الاصول 4: 474 و 477.
2- كفاية الاصول: 468 و 469.

ص: 141

تقدّم الأصل السببيّ على المُسبّبي في محلّه (1).

و التعارض أوّلًا و بالذات واقع بين استصحاب نجاسة الثوب و التعبّد بطهارته، لا بين استصحاب النجاسة و بين كرّية الماء؛ لعدم التضادّ بينهما إلّا بلحاظ هذا الأثر الشرعيّ، فجريان استصحاب الكرّية لو لم يكن اثره الشرعيّ هو التعبّد بطهارة الثوب المغسول به لما رفع الشكّ عن المُسبّب، كما أنَّه لو فرض حُجّية الأصل المُثبت يتعارض الأصل المسببيّ مع السببيّ؛ لأنَّ كلًاّ منهما يرفع موضوع الآخر بالتعبد بلازمه، فتقدّم الأصل السببيّ لرفعه الشكّ عن المُسبّب، دون العكس.

و أمّا لو فرض أنَّ الأصل الجاري في السبب يكون لازمه العقليّ- الأعمّ من الواقعي و الظاهريّ- نفي حكم المُسبّب للتدافع و التضادّ بين الحكمين، فلا وجه لتقدّم أحدهما على الآخر؛ لأنَّ استصحاب الحرمة و التعبّد ببقائها كما أنَّه مضادّ للحلّية، كذلك استصحاب الحلّية و التعبّد ببقائها مضادّ للحرمة بالذات، و للاستصحاب التعليقيّ لأجله، فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.

هذا مُضافاً: إلى أنَّ ما أفاده في «الكفاية» من عدم المُعارضة بين بقاء الحلّية المُغيّاة، و الحرمة المشروطة في صورة القطع فضلًا عن استصحابهما(2).

ففيه أوّلًا: أنَّ القطع بالحلّية المُغيّاة يوجب القطع بانتفاء الحلّية ما بعد الغاية؛ لأنَّه لازم عقليّ لثبوت الحكم المُغيّا، و أمّا استصحاب الحلّية المُغيّاة فلا يثبت الحرمة بعد الغاية، فاستصحاب الحلّية المُغيّاة ممّا لا يجري؛ لأنَّ إجراءه إن كان لإثبات الحلّية قبل الغليان فهي قطعيّة، و إن كان لإثبات الحرمة و نفي الحلّية بعد الغليان، فلا يثبتهما إلّا بالأصل المُثبت؛ لأنَّ الحرمة بعد الغاية ليست من الآثار الشرعيّة للحلّية المُغيّاة، و لا من اللّوازم الأعمّ.


1- يأتي في صفحة 245- 250.
2- كفاية الاصول: 468 و 469.

ص: 142

و ثانياً: أنَّ كلامنا إنّما يكون في الحلّية و الحرمة بعد الغليان لا قبله، و في استصحاب الحلّية إلى ما بعد الغليان؛ للشكّ في أنَّ الغاية ثابتة للعصير الزبيبيّ كما هي ثابتة للعنبيّ أو لا.

ثمّ إنَّ شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه سلك مسلكاً آخر بعد الإشكال على الحكومة: و هو أنَّ الأصل السببيّ يتقدّم على الأصل المُسببيّ طبعاً، و هذا وجه آخر لتقدّمه عليه غير الحكومة.

قال رحمه اللَّه في وجه تقدّمه: إنَّ الشكّ الثاني معلول للأوّل، ففي رتبة وجود الأوّل لم يكن الثاني موجوداً، و إنّما هو في رتبة الحكم المُرتّب على الأوّل، فالأوّل في رتبة وجوده ليس له معارض، فيحرز الحكم من دون معارض، و إذا ثبت الحكم في الأوّل لم يبق للثاني موضوع، و جعل هذا وجه تقدّم الاستصحاب التعليقيّ على التنجيزيّ (1).

و فيه أوّلًا: أنَّ تقدّم العلّة على المعلول إنّما هو تقدّم عقليّ يدركه العقل من صدور المعلول عن العلّة، فيحكم بأنَّ العلّة وجدت فوجد المعلول، و أمّا في الخارج فالعلّة مع المعلول لا يتقدّم أحدهما على الآخر، و لا إشكال في أنَّ مثل:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

يكون موضوعه الشكّ بوجوده الخارجيّ، و لا تأثير للتقدّم العقليّ و الرتبيّ في موضوعيّة الموضوع، فلا يتقدّم موضوع أحدهما على الآخر بحسب موضوعيّته للحكم، و هو الوجود الخارجيّ، مع أنَّه لو فرض تقدّم أحدهما على الآخر في الخارج لا يتقدّم في جريان الأصل.

و ثانياً: أنَّ التعارض بالذات إنّما هو بين التعبّد بالأثر الشرعيّ للأصل الحاكم مع مفاد الأصل المحكوم، و هما في رتبة واحدة.

مثلًا: لو شكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء لأجل الشكّ في كرّيته لا يكون بين


1- انظر درر الفوائد: 546 و 632.

ص: 143

اصالة بقاء الكرّية، و أصالة بقاء نجاسة الثوب تعارض بالذات، بل التعارض إنّما هو بين التعبّد بطهارة الثوب المغسول بالكرّ، و بين التعبّد بنجاسة الثوب، و هما في رتبة واحدة؛ لأنَّ الشكّ في نجاسته و طهارته موضوع لهما، فاستصحاب النجاسة و التعبّد بالطهارة- المُتأخّر عن التعبّد بالكرّية برتبة- متعارضان في رتبة واحدة.

و نتيجة ذلك: أنَّ الماء كرّ، لكن لا يكون مطهّراً للثوب المغسول به، فتترتّب على الكرّية سائر آثارها كعدم الانفعال.

و لو قيل: بأنَّ استصحاب الكرّية يعارض استصحاب بقاء نجاسة الثوب بلحاظ أثره و هو طهارة المغسول به، يصير التعارض في رتبة واحدة، فلا تكون أصالة الكرّية بلا معارض، و لو في رتبة ذاتها.

حكومة الاستصحاب التعليقيّ على التنجيزيّ

و التحقيق في المقام أن يقال: إنَّ استصحاب الحرمة التعليقيّة حاكم على استصحاب الإباحة كسائر الحكومات؛ لأنَّ شرط حكومة أصل على آخر- كما أشرنا إليه (1)- أمران:

أحدهما: كون أحد الشكّين مُسبّباً عن الآخر.

و الثاني: أن يكون جريان الأصل في السبب رافعاً للشكّ عن المُسبّب تعبّداً فاستصحاب كرّية الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الكبرى الشرعيّة، من «أنَّ الكرّ مطهّر»(2) فيرفع الشكّ في أنَّ الثوب طاهر أو لا؛ لأنَّ الشكّ في


1- تقدّم في صفحة 140.
2- لم ترد هذه الكبرى في الأخبار بلفظها، و إنّما هي مُستفادة من النصوص، لاحظ مثلًا مرسلة العلّامة المذكورة في مختلف الشيعة: 3 سطر 2.

ص: 144

الطهارة و النجاسة متقوّم بطرفي الترديد، فإذا وقع التعبّد بالبناء على أحد طرفي الترديد يرفع الشكّ قهراً.

فحكومة أصالة بقاء الكرّية في الماء على أصالة بقاء نجاسة الثوب ليست لأجل رافعيّة الحكم بالكرّية لبقاء النجاسة؛ بواسطة أن التعبّد بالطهارة و لو ظاهراً ينافي التعبّد بالنجاسة و لو ظاهراً، بل لأجل أنَّ التعبّد بطهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك فيه يرفع الشكّ المتقوّم بطرفي الترديد.

و إن شئت قلت: إنَّ الشكّ في الطهارة و النجاسة شكّ واحد، و حالة ترديديّة واحدة، يكون أحد طرفيها الطهارة، و الآخر النجاسة، فإن قيست هذه الحالة الترديديّة بالنسبة إلى وجود الطهارة و عدمها تكون شكّاً في الطهارة و عدمها، و بالنسبة إلى وجود النجاسة و عدمها تكون شكّاً في النجاسة و عدمها.

و إن قيست بالنسبة إلى الطهارة و النجاسة تكون شكّاً فيهما، فلا تكون في النفس إلّا حالة واحدة ترديديّة، يكون أحد طرفيها الطهارة، و الآخر النجاسة، فإذا كان مفاد أصل هو الطهارة بلسان الأصل السببيّ يكون رافعاً للشكّ المُتقوّم بطرفي الترديد، فيصير حاكماً على الأصل المُسبّبي، و سيأتي قريباً(1) سرّ تقدّم الأصل السببي بما لا مزيد عليه فانتظر.

و ما نحن فيه يكون الحال كذلك؛ لأنَّ الشكّ في بقاء الإباحة الفعليّة للعصير الزبيبيّ المغلي مُسبّب عن بقاء القضيّة الشرعيّة التعليقيّة بالنسبة إلى الزبيب قبل غليانه، و لمّا كان التعليق شرعيّاً تكون فعليّة الحرمة مع فعليّة الغليان بحكم الشرع كما أشرنا إليه سابقاً(2)، فترتّب الحرمة على العصير المغليّ ليس بعقلي، بل شرعيّ، فحينئذٍ يكون استصحاب الحرمة التعليقيّة حاكماً؛ لأنَّ الحرمة مُتحقّقة بالفعل عند الغليان، و مُترتّبة


1- سيأتي في صفحة 245- 250.
2- تقدّم في صفحة 134 و 135.

ص: 145

على الغليان الفعليّ، فيرفع الشكّ في الحرمة و الإباحة الفعليّتين؛ لأنَّ الشكّ في الحرمة و الإباحة مُتقوّم بطرفي الترديد، فإذا كان لسان جريان الأصل في السبب هو التعبّد بحرمة المغلي يرفع الترديد بين الحرمة و الحلّية، فيصير الأصل السببيّ حاكماً على المُسببيّ.

فالقائل بالفرق بين الأصل التعليقيّ السببيّ و التنجيزيّ المُسببيّ، و بين الأصل السببيّ و المسببيّ في موارد اخر(1)، إن كان من جهة تعليقيّة الأصل، و أنَّ صيرورة التعليق فعليّاً عقليّ فقد عرفت بطلانه.

و إن كان من جهة أنَّ الحلّية و الحرمة مُتضادّتان، فإثبات أحد الضدّين يرفع الضدّ الآخر بحكم العقل، و هذا اللّازم و إن كان مُترتّباً على المُستصحب لكن لا يصحّح الحكومة، فقد عرفت بطلانه أيضاً؛ لما ذكرنا من أنَّ جريان الأصل في التعليقيّ يرفع الشكّ المتقوّم بطرفي الترديد لأجل التعبّد بأحد طرفي الترديد مُعيّناً و هو الحرمة.

أ لا ترى أنَّ أصالة بقاء الكرّية أيضاً لا ترفع نجاسة الثوب، بل ترفع الترديد بالتعبّد بطهارته.

و إن شئت قلت: إنَّ استصحاب الحرمة على تقدير الغليان جارٍ قبل حصوله، فيتعبّد لأجله ببقاء المُستصحب، و هو الحرمة على تقدير غليان عصير الزبيب مثلًا، و هذا الحكم التعليقيّ- قبل الغليان- و إن كان ثابتاً لعصير الزبيب الذي شكّ في حكمه، لكنّ لسان المُستصحب هو حرمة العصير على فرض الغليان، لا حرمة المغلي المشكوك فيه، فإذا حصل الغليان يكون لسان الدليل الاجتهاديّ المُستصحب بضميمة الوجدان هو حُرمة المغليّ، لا المغليّ المشكوك فيه، و استصحاب الحلّية المنجّزة متقوّم بالشك، فيكون لسانه إثبات الحلّية للمغليّ المشكوك فيه بما هو كذلك، و لا ريب في


1- فوائد الاصول 4: 466، نهاية النهاية 2: 203.

ص: 146

تقديم الأوّل على الثاني و حكومته عليه؛ لأنَّه بإثبات الحرمة لذات المغليّ يرفع الشكّ الذي هو موضوع استصحاب الحلّية.

و بهذا يدفع ما قد يمكن أن يتوهّم: من أنَّ المغليّ المشكوك فيه موضوع لكلا الاستصحابين، و كلّ منهما بنفس التعبّد به يرفع الشكّ، و هما مُتعارضان قبل رفع موضوع الآخر(1)؛ لما عرفت من أنَّ استصحاب الأوّل يجري قبل الغليان، و بعد الغليان يكون المُستصحب- أي الحكم التعليقيّ الذي يصير فعليّاً- متعلّقاً بذات الموضوع و رافعاً للشكّ، فلا يبقى مجال لاستصحاب الحلّية التنجيزيّة، و الحلّية التعليقيّة لا اصل لها، و لو فرض يكون مُثبتاً؛ لأنَّ التعليق عقليّ لا شرعيّ، فتدبّر فيه فإنَّه جدير به.

فالإنصاف: أنَّه لا فرق بين الحكومة في المقام و بينها في مقامات اخر، و لعلّ عدم تعرّض الشيخ الأعظم قدس سره لوجه الحكومة لذلك، و نحن لسنا الآن بصدد بيان وجه تقدّم الأصل السببيّ و ما هو التحقيق عندنا، بل بصدد أنَّ المقام كالمقامات الاخرى بلا افتراقٍ بينهما.

التنبيه الخامس استصحاب أحكام سائر الشرائع

هل يجري استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة كما يجري في أحكام شريعتنا إذا شككنا في نسخها أم لا؟ و هذه المسألة و إن لم تكن لها ثمرة ظاهرة لكن نتعرّض لها اقتفاءً لأثر القوم.

فنقول: اختار الشيخ الأعظم و من بعده الجريان قائلين إنَّ المُقتضي موجود، و هو


1- انظر نهاية النهاية 2: 203، و انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 19.

ص: 147

إطلاق أدلّة الاستصحاب، و ليس ما يصلح للمانعيّة إلّا امور يمكن دفعها:

منها: أنَّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ الآخرين لتغاير الموضوع (1).

و أجابوا عنه أوّلًا: بالنقض باستصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا(2).

و ثانياً: بالحلّ؛ فإنَّ الأحكام ثابتة للعناوين الكلّية على نحو القضايا الحقيقيّة لا للأشخاص على نحو الخارجيّة، فإذا ثبت حكم للمُستطيع أو الغنيّ أو الفقير فلا مانع من استصحاب بقائه عند الشكّ في نسخه؛ فإنَّ موضوع القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها هو هذه العناوين بنحو القضيّة الحقيقيّة، فتتّحد القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها(3).

و زاد الشيخ رحمه اللَّه أمراً آخر(4) ردّ عليه من بعده (5)، و العمدة هو الجواب الحلّي الذي ارتضاه المُحقّقون، و هو أن يدفع الإشكال المُتقدّم.

لكن هاهنا شبهة اخرى لا يدفعها هذا الجواب، و هي أنَّه من الممكن أن يكون المأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحو القضيّة الحقيقيّة، لا ينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا، كما لو اخذ عنوان اليهود و النصارى فإنَّ القضيّة و إن كانت حقيقيّة لكن لا ينطبق عنوان موضوعها على غير مصاديقه.

ففي قوله تعالى: «عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما»(6) إلى آخره كانت القضيّة حقيقيّة، لكن إذا شكّ المُسلمون في بقاء


1- الفصول الغروية: 315 سطر 30.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 8، كفاية الاصول: 470، نهاية الأفكار 4: 174، درر الفوائد: 547 و غيرها.
3- كفاية الاصول: 470، فوائد الاصول 4: 478 و 479، نهاية الأفكار 4: 174 و 175، و انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 9، درر الفوائد: 547.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 13.
5- كفاية الاصول: 471، حاشية الآخوند على الرسائل: 209 سطر 10، فوائد الاصول 4: 479 و 480، نهاية الأفكار 4: 176، درر الفوائد: 547 و 548.
6- سورة الأنعام 6: 146.

ص: 148

حكمها لهم لا يجري الاستصحاب، كما لو ثبت حكم للفقراء و شكّ الأغنياء في ثبوته لهم لا يمكن إثباته لهم بالاستصحاب، و هذا واضح جدّاً(1).

إن قلت: فكيف يستصحب الحكم الثابت للعصير العنبيّ إذا شكّ في ثبوته للعصير الزبيبيّ، و هل هذا إلّا إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر؟!

قلت: فرق واضح بين ما ذكرنا و بين مورد النقض؛ لأنَّ كلّ زبيب مسبوق بالعنبيّة بحسب وجوده الخارجيّ، فإذا وجد العنب في الخارج، و ثبت الحكم له، و صار يابساً يجري استصحاب حكمه؛ لأنَّ العنب الخارجيّ إذا يبس لا يرى العرف إلّا بقاءه مع تغيير حال، فالقضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها واحدة فيُستصحب الحكم، و أمّا المُسلمون فلم يكن كلّ واحدٍ منهم مسبوقاً بالتهوّد أو التنصّر خارجاً ثمّ صار مُسلماً، و لو كانوا كذلك لجرى في حقّهم الاستصحاب، كاستصحاب حكم العنب للزبيب.

و ممّا ذكرنا: ظهر الفرق بين استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة و أحكام الشرائع السابقة.

و لا يخفى: أنَّ مُجرّد احتمال أخذ عنوان غير منطبق على المُسلمين كافٍ في المنع؛ للزوم إحراز وحدة القضيّتين، و لا دافع للاحتمال في حكم من الأحكام المشكوك في نسخها؛ لأنَّ ظواهر الكتب المنسوخة الرائجة بينهم ليست قابلة للتمسّك بها، مع ورود الدس و التغيير عليها، و أصلها الغير المُتغيّر ليس عندهم و لا عندنا حتّى يعلم أنَّ الحكم ثابت للعنوان الكذائي، و القرآن المجيد لم يحك العناوين المأخوذة في موضوعات أحكامهم الكلّية، كما يظهر بالتأمّل فيما جعلوه ثمرة للنزاع تبعاً للمحكيّ عن «تمهيد القواعد»(2).

فتحصّل ممّا ذكرنا: عدم جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة.


1- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 10.
2- الحاكي هو الشيخ الأعظم قدّس سرّه، انظر رسائله: 382 سطر 6، تمهيد القواعد: 33 سطر 2.

ص: 149

هذا مضافاً: إلى أنَّ الشكّ فيها من قبيل الشكّ في المُقتضي؛ لعدم الدليل على إحرازه، و نحن و إن ذهبنا إلى جريانه فيه (1)، و لكن يرد هذا الإشكال على الشيخ رحمه اللَّه، و من تبعه في عدم الجريان مع الشكّ في المُقتضي (2).

التنبيه السادس في الاصول المُثبتة

اشارة

قد اختلفت كلمة أهل التحقيق في وجه اعتبار مُثبتات الأمارات دون الاصول؛ أي اللّوازم و الملزومات و الملازمات العاديّة و العقليّة إذا انتهت إلى الأثر العمليّ الشرعي، بل في الملزومات و المُلازمات الشرعيّة، سواء كان ترتّب الأثر مع الواسطة أو بلا واسطة.

فذهب المُحقّق الخراسانيّ إلى أنَّ وجهه إطلاق أدلّة الأمارات دون الاصول؛ لوجود القدر المُتيقّن في مقام التخاطب فيها، و هو آثار نفس المُستصحب بلا توسّط شي ء(3).

و ذهب شيخنا العلّامة رحمه اللَّه إلى أنَّ وجهه انصراف أدلّة الاصول عن الآثار مع الواسطة(4).

و قال بعض أعاظم العصر: إنَّ وجهه اختلاف المجعول في باب الأمارات و الاصول؛ فإنَّ المجعول في الأوّل هو الطريقيّة و الكاشفيّة، و لازمه حُجّية المُثبتات،


1- تقدّم في صفحة 32 و ما بعدها.
2- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 328 سطر 17، حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 16، فوائد الاصول 4: 373.
3- كفاية الاصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 211 سطر 9.
4- درر الفوائد: 554 و 555 و كلامه ناظر لخصوص الاستصحاب، لا لمطلق الاصول العمليّة.

ص: 150

و في الثاني هو مُجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل، و هو لا يقتضي حجّيتها(1).

و قال الشيخ الأعظم: إنَّ الوجه في عدم اعتبار مُثبتات الاصول أنَّ اللّوازم العقليّة و العاديّة ليست تحت جعل الشارع، و وجوب ترتيب الآثار المُستفاد من دليل الاستصحاب لا يُعقل إلّا في الآثار القابلة للجعل الشرعيّ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد و إيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ هو الحكم بحرمة تزويج زوجته و التصرّف في ماله، لا حكمه بنموّه و نبات لحيته؛ لأنَّ هذه غير قابلة لجعل الشارع (2).

و ما افاده الشيخ و إن كان أسدّ ما قيل في الباب، لكنّه لا يحسم به مادّة الإشكال، خصوصاً في الآثار الشرعيّة مع الوسائط العديدة، و ستعرف الإشكال فيها(3).

و التحقيق في المقام أن يقال: أمّا وجه حُجّية مُثبتات الأمارات فهو أنَّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هي أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع، و ليس فيها ما تكون حُجّيتها بتأسيس من الشرع، كظواهر الألفاظ و قول اللّغويّ على القول بحُجّيته، و خبر الثقة و اليد و قول ذي اليد على القول بحُجّيته، و أصالة الصحّة على القول بأماريّتها؛ فإنّها كلّها أمارات عقلائيّة لم يردع عنها الشارع، فراجع أدلّة حُجّية خبر الثقة ترى أنّها ليست بصدد التأسيس، بل جميعها بصدد الإمضاء لبناء العقلاء، فآية النبأ(4) ظاهرها الردع عن العمل بقول الفاسق، فيظهر منها أنَّ بناءهم هو العمل بقول الثقة مطلقاً


1- انظر فوائد الاصول 4: 484 و 486 و 487.
2- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 7.
3- يأتي في صفحة 153- 155.
4- سورة الحجرات 49: 6.

ص: 151

أو خصوص غير الفاسق، إلّا أنّهم لا يعلمون فسق الوليد(1)، فأخبر اللَّه تعالى به.

و بالجملة يظهر منها أنَّ العمل بخبر الثقة كان مورد بنائهم و ارتكازهم، و كذا الحال في غيرها من الأخبار التي بلغت حدّ الاستفاضة أو التواتر(2)، و هذا حال خبر الواحد الوارد فيه الآيات و الأخبار، فكيف بغيره ممّا هو خالٍ غالباً عن الدليل اللفظي، و ما ورد فيه بعض الروايات تكون إمضائيّة أيضاً كاليد(3)؟!

فلا إشكال في أنَّ الأمارات مطلقاً عقلائيّة أمضاها الشارع، و معلوم أنَّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع، لا للتعبّد بالعمل بها، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه و ملزوماته و ملازماته بعين الملاك الذي لنفسه، فكما أنَّ العلم بالشي ء موجب للعلم بلوازمه و ملزوماته و ملازماته مطلقاً، فكذلك الوثوق به مُوجب للوثوق بها.

و كذا الحال بالنسبة إلى احتجاج الموالي على العبيد و بالعكس، فكما يحتجّ العقلاء بقيام الأمارة على الشي ء، كذلك يحتجّون على لوازمه و ملزوماته و ملازماته مع الواسطة أو بلا واسطة شي ء، و لو حاولنا إثبات حُجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حُجّية مُثبتاتها، بل و لا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة، كما سيأتي التعرّض له إن شاء اللَّه (4)، هذا حال الأمارات.


1- الوليد: هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، و اسمه أبان بن أبي عمرو بن امية، له صحبة، و هو أخو عثمان بن عفان لأُمّه، قال ابن عبد البر: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنَّ قوله عزَّ و جلَّ:« إن جاءكم فاسق بنبإ» نزلت في الوليد بن عقبة إذ بعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به و كانت بينهم عداوة في الجاهلية فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و قال: إنّهم منعوا صدقاتهم فكان الأمر بخلافه، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه و آله، و همّ أن يغزوهم، فنزلت الآية. انظر تهذيب الكمال 31: 53/ 6723، اسد الغابة 5: 90، مجمع البيان 9: 198.
2- انظر الوسائل 18: 52- باب 8 و 75- باب 9 و 98- باب 11 من أبواب صفات القاضي
3- انظر التهذيب 9: 302/ 1079، الوسائل 17: 525/ 3- باب 8 من أبواب ميراث الأزواج. و سيأتي في صفحة 265 و ما بعدها.
4- يأتي في صفحة 154.

ص: 152

حال مُثبتات الاصول

و أمّا الاصول: و عمدتها الاستصحاب، فالسرّ في عدم حُجّية مُثبتاتها، و حُجّية لوازمها الشرعيّة، و لو مع الوسائط إذا كان الترتّب بين الوسائط كلّها شرعيّاً يتّضح بعد التنبيه على أمرين:

أحدهما: أنَّ اليقين إذا تعلّق بشي ء له لازم و ملازم و ملزوم، و كان لكلّ منها أثر شرعيّ، يصير تعلّق اليقين به موجباً لتعلّق يقين آخر على لازمه، و يقين آخر على ملازمه، و يقين آخر على ملزومه، فتكون مُتعلّقات أربعة، كلّ واحد منها مُتعلّق ليقين مُستقلّ و إن كان ثلاثة منها معلولة لليقين المُتعلّق بالملزوم.

لكن يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ مُتعلَّق لأجل استكشافه باليقين المُتعلّق به، لا اليقين المُتعلّق بغيره من ملزومه أو لازمه أو مُلازمه، فإذا تيقّنت بطلوع الفجر، و علمت منه خروج اللّيل و دخول يوم رمضان، و كان لطلوع الفجر أثر، و لخروج الليل أثر، و لدخول يوم رمضان أثر، لا يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ موضوع إلّا لأجل تعلّق العلم به، لا لأجل تعلّقه بغيره من لازمه أو ملزومه أو مُلازمه.

و كذا إذا تيقّنت بحياة زيد، و حصل منه يقين بنبات لحيته، و يقين آخر ببياضها، و كان لكلّ منها أثر شرعيّ، يجب ترتيب أثر حياته للعلم بها، و نبات لحيته للعلم به، لا للعلم بحياته، و ترتيب أثر بياضها للعلم به، لا بنبات اللّحية أو الحياة، فالعلم بكلّ مُتعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتيب أثره، و إن كان بعض العلوم معلولًا لبعض آخر.

ثانيهما: أنَّ الكبرى الكلّية في الاستصحاب و هي قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ):

إمّا أن يكون المُراد منها هو إقامة المشكوك فيها مقام المُتيقّن في ترتيب الآثار،

ص: 153

فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المُتيقّن على المشكوك فيه، كما هو الظاهر من الشيخ و من بعده من الأعلام (1).

و إمّا أن يكون المُراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع و إطالة عمره، و عدم نقضه بالشكّ، لكونه أمراً مُبرماً لا ينقض بما ليس كذلك، فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاء اليقين الطريقيّ في مقام العمل (2)، و لا يلزم منه صيرورة الاستصحاب طريقاً و أمارة كما ذهبنا إليه سالفاً(3)؛ لما عرفت في محلّه من أنَّ اليقين السابق لا يمكن أن يكون طريقاً و أمارة على الشي ء المشكوك في زمان الشكّ (4)، فلا يمكن أن يكون اعتبار بقاء اليقين إلّا إيجاب العمل على طبق اليقين الطريقيّ؛ أي التعبّد ببقاء المُتيقّن، فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة، و هي وجوب ترتيب الآثار في زمان الشكّ، و إن كان الاعتباران مُختلفين، و طريق التعبّد بوجوب ترتيب الأثر مُختلفاً، كما ستأتي الإشارة إليه (5).

إذا عرفت ذلك فنقول: إنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

إن كان بمعنى تنزيل المشكوك فيه منزلة المُتيقّن في الآثار فلا يترتّب عليه بهذا الدليل إلّا آثار نفس المُتيقّن دون آثار الآثار؛ أي لوازم اللّوازم الشرعيّة، و إن كان الترتّب شرعيّاً، فضلًا عن آثار اللّوازم و الملزومات و المُلازمات العقليّة و العاديّة، و ذلك لوجهين:

الأوّل: أنَّ آثار المُتيقّن ليست إلّا ما يترتّب عليه و يكون هو موضوعاً لها، و أمّا أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المُتيقّن، كما أنَّ أثر اللّازم أو الملزوم أو المُلازم مُطلقاً يكون


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 12، كفاية الاصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 191 سطر 14.
2- انظر نهاية الدراية 3: 97 سطر 17.
3- أنوار الهداية 1: 110.
4- تقدّم في صفحة 37 و 38 من هذا الكتاب، و انظر هامش أنوار الهداية 1: 110.
5- يأتي في صفحة 155- 157.

ص: 154

موضوعه تلك الامور لا المُتيقّن، و معنى

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

بناءً عليه أنَّ رتّب آثار المُتيقّن على المشكوك فيه، و الفرض أنَّه لم يتعلّق اليقين إلّا بنفس المُتيقّن، فإذا تعلّق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيته، و شكّ في بقائها، يكون التعبّد بلزوم ترتيب الأثر بلحاظ أثر المُتيقّن؛ و هو ما يترتّب على الحياة المُتيقّنة، لا ما ليس بمُتيقّن كنبات اللّحية؛ فإنَّ التنزيل لم يقع إلّا بلحاظ المُتيقّن و المشكوك فيه. و ذلك من غير فرق بين الآثار المُترتّبة على الوسائط الشرعيّة و العاديّة و العقليّة.

و ليس ذلك من جهة انصراف الأدلّة عن الآثار الغير الشرعيّة(1)، أو عدم إطلاقها(2)، أو عدم تعقّل جعل ما ليس تحت يد الشارع (3)، كما ذهب إلى كلٍّ ذاهب، بل لقصور الأدلّة، و خروج تلك الآثار موضوعاً و تخصّصاً، و هذا الوجه يظهر من كلام الشيخ أيضاً.

و الثاني: أنَّ دليل الأصل لا يمكن أن يتكفّل بآثار الآثار، و آثار الوسائط و لو كانت شرعيّة؛ لأنَّ الأثر إنّما يكون تحقّقه بنفس التعبّد، و لا يمكن أن يكون الدليل المُتكفّل للتعبّد بالأثر مُتكفّلًا للتعبّد بأثر الأثر؛ لأنَّ أثر المُتيقّن مُتقدّم ذاتاً و اعتباراً على أثره؛ أي أثر الأثر، لكونه موضوعاً له، فلا بدّ من جعل الأثر و التعبّد به أولًا، و جعل أثر ذلك الأثر و التعبّد به في الرتبة المُتأخّرة عن الجعل الأوّل، و لا يمكن أن يكون الجعل الواحد و الدليل الفارد مُتكفّلًا لهما؛ للزوم تقدّم الشي ء على نفسه، و إثبات الموضوع بالحكم.

و بالجملة: يرد في المقام الإشكال الذي ورد على أدلّة حُجّية خبر الثقة بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة(4).


1- درر الفوائد: 554 و 555.
2- كفاية الاصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 211 سطر 9.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 7، نهاية الأفكار 4: 178.
4- انظر أنوار الهداية 1: 297.

ص: 155

و لا يمكن دفعه بما دفع به الإشكال هناك؛ لإمكان أن يقال هناك: إنَّ قوله «صدّق العادل» قضيّة حقيقيّة تنطبق على كلّ مصداق وجد منها و لو كان مصداقاً تعبّدياً(1)، أو أن يقال: إنَّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّة(2)، أو يدّعى العلم بالمناط؛ و أنَّ المصداق المُتحقّق بنفس دليل التعبّد لا بدّ و أن يترتّب عليه الأثر(3).

و لا يأتي واحد منها في المقام؛ لأنَّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ لا يوجب حصول مصداق تعبّدي من الشكّ و اليقين حتّى ينطبق عليه عدم نقضه به، فإذا علم بعدالة زيد، و شكّ فيها، يجب ترتيب آثار العدالة عليه لقوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

فيحكم بجواز الاقتداء به، و جواز شهادته في الطلاق، فإذا كان جواز الاقتداء و الشهادة فيه موضوعاً لأثرٍ شرعيّ فلا يمكن أن يكون دليل

(لا ينقض)

حاكماً بوجوب ترتّبه عليهما؛ لعدم تكفّل هذا التعبّد لإيجاد مصداق تعبّدي لقوله:

(لا ينقض اليقين)

حتّى يقال: إنَّه قضيّة حقيقيّة تشمل ما وجد بنفس التعبّد.

كما لا يمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة عرفاً أو العلم بالمناط بعد عدم كونه مصداقاً للكبرى و لو تعبّداً، و بعد كون ترتّب الأثر على الموضوع لأجل تعلّق اليقين و هو مفقود، فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصيّة مُجازفة محضة.

و ممّا ذكرنا يُعلم أنَّه لو كان معنى:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

هو التعبّد بإبقاء اليقين و إطالة عمره لما نفع في ترتّب آثار الوسائط الشرعيّة فضلًا عن غيرها؛ لعين ما ذكرنا من الوجهين.

و ممّا ذكرنا يتّضح أيضاً: أنَّه لو كان دليل حُجّية الأمارات هو الأدلّة التعبّدية من الكتاب و السنّة لكانت مُثبتاتها أيضاً غير حُجّة؛ لأنَّ جعل الكاشفيّة و الطريقيّة


1- نفس المصدر 1: 298 و 300.
2- نفس المصدر 1: 201.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 76 سطر 1، كفاية الاصول: 341.

ص: 156

- أو ما شئت فسمّه- للأمارات تعبّداً ليس إلّا ترتيب أثرها، مع أنَّ أثر كشف كلّ موضوع هو لزوم ترتيب أثره لا غير، و أمّا أثر موضوع آخر لازم له أو ملزوم له أو ملازم إنّما هو لأجل كشفه الخاصّ به، لا أثر كشف ملزومه أو لازمه أو مُلازمه، فلا يشمله دليل التعبّد.

فالتحقيق: في الفرق بين الأمارات و الاصول في حُجّية مُثبتات الاولى دون الثانية هو ما عرفت.

بيان الفرق بين الآثار الشرعيّة و غيرها

إن قلت: بناءً على ما ذكرت لم يبق فرق بين الآثار المُترتّبة على الوسائط الشرعيّة و غيرها.

قلت: نعم لا فرق بينهما من حيث الاستفادة من دليل الأصل كقوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

لكن هاهنا أمر آخر مُوجب للزوم الأخذ بآثار اللّوازم الشرعيّة، و إن كانت مع ألف واسطة شرعيّة دون غيرها؛ و هو أنّا لو فرضنا سلسلة مُترتّبة من اللّوازم و الملزومات الشرعيّة، فصار مبدأ السلسلة؛ أي الملزوم الأوّل مشمولًا لدليل الأصل كقوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

فينسلك المُستصحب في صغرى كبرى كلّية مجعولة شرعيّة لأجل تحقّق مصداقها بالأصل، فإذا انطبقت عليه الكبرى المجعولة يتحقّق لأجله موضوع لكبرى كلّية مجعولة اخرى و بعد انطباقها عليه يتحقّق موضوع لكبرى مجعولة ثالثة، و هكذا إلى آخر السلسلة.

مثلًا: لو فرضنا أنَّ عدالة زيد كانت معلومة، فشكّ في بقائها، فدليل

(لا ينقض)

يحكم بأنَّه عادل تعبّداً، فهذا الدليل يحرز مصداقاً تعبّدياً لقوله:

«تجوز شهادة

ص: 157

العادل»

(1) فإذا شهد برؤية هلال شوّال لدى الحاكم، و ضُمَّ إليه شاهد آخر يصير موضوعاً لقوله «إذا شهد عدلان برؤية الهلال لدى الحاكم يحكم بأنَّ الغد عيد»(2).

فبحكم الحاكم تثبت عيديّة الغد، فيحرز مصداق قوله: «يجب أو تستحبّ صلاة العيد»(3) و هكذا، فدليل

(لا ينقض)

لا يتكفّل إلّا التعبّد بتحقّق مبدأ السلسلة دون غيره، فإذا ترتّبت السلسلة من اللوازم و الملزومات الشرعيّة تترتّب أحكام جميع السلسلة لا لدليل الأصل، بل للكبريات المُترتّبة المُحرزة المصاديق بما ذكرنا.

و من ذلك يعلم: أنَّ التعبّد بالملزوم الشرعيّ ينفع بالنسبة إلى ترتيب آثار اللّازم و لازم اللّازم إذا كانت شرعيّة إلى آخر السلسلة.

و أمّا التعبّد باللّازم فلا ينفع بالنسبة إلى ملزومه، و لا المُلازم بالنسبة إلى مُلازمه؛ لعدم إيجاب التعبّد باللّازم أو المُلازم اندراج ملزومه أو مُلازمه تحت كبرى مجعولة.

و كذا يعلم: أنَّ اللّوازم العاديّة أو العقليّة إذا كانت لها آثار شرعيّة لا يمكن ترتيب آثارها لأجل جريان الأصل في ملزومها، لا للانصراف، أو عدم الإطلاق، أو عدم تعقّل التعبّد لكونها تكوينيّة، أو كون المجعول فيها على نحوٍ لا يمكن ترتّب الآثار، فإنَّ كلّ ذلك خلاف التحقيق؛ بل لأنَّ ترتيب الأثر موقوف على كبرى شرعيّة يندرج الموضوع فيها كما عرفت، و ليس بالنسبة إلى الامور العاديّة أو العقليّة كبرى شرعيّة.

فإذا حكم الاستصحاب بحياة زيد، يترتّب عليه ما هو آثار الحياة بحسب الكبريات الشرعيّة، و أمّا أنَّه إذا كان حيّاً نبتت لحيته، فلم يقع في دليل شرعيّ حتى


1- انظر الوسائل 18: 288- باب 41 من ابواب الشهادات، مستدرك الوسائل 3: 213- باب 35 من أبواب الشهادات.
2- انظر الوسائل 7: 207- باب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، مستدرك الوسائل 1: 573- باب 8- من أبواب أحكام شهر رمضان.
3- انظر الوسائل 5: 94- باب 1 من أبواب صلاة العيد.

ص: 158

يترتّب عليه أثره؛ لأجل تحقّق مصداق الكبرى المجعولة، فلو فرض وجود دليل شرعي يكون مفاده التعبّد بنبات اللّحية على فرض الحياة لقلنا بترتيب آثار نباتها باستصحاب الحياة من دون شبهة الامتناع أو المُثبتيّة، فتأمّل في أطراف ما ذكرنا، فإنَّه يليق بذلك.

تتميم حول الوسائط الخفيّة

إذا كانت الواسطة بين المُستصحب و الأثر الشرعيّ خفيّة يجري الاستصحاب و يترتّب عليه الأثر، و لا يكون من الاصول المُثبتة، و المُراد من خفاء الواسطة أنَّ العرف- و لو بالنظر الدقيق- لا يرى وساطة الواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع، و يكون لدى العرف ثبوت الحكم للمُستصحب من غير واسطة، و إنّما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثر مُترتّباً على الواسطة لُبّاً، و إن كان مُترتّباً على ذي الواسطة عرفاً.

مثاله: أنَّ الشارع إذا قال: «حُرّمت عليكم الخمر» يكون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفاً، لكنّ العقل يحكم بأنَّ ترتّب الحرمة على الخمر لا يمكن إلّا لأجل مفسدة قائمة بها، تكون تلك المفسدة علّة واقعيّة للحرمة.

ثمّ لو فرض أنَّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيّات الواقعيّة للخمر، و حكم بالدوران و الترديد أنَّ العلّة الواقعيّة للحرمة هي كونها مُسكرة مثلًا، فيحكم بأنَّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة، ثمّ يحكم بأنَّ موضوع الحُرمة ليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعيّة، بل الموضوع هو المُسكر بما أنَّه مُسكر، و لمّا كان هو متّحداً في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر، و لكن الموضوع الواقعيّ ليس إلّا حيثيّة المُسكريّة؛ لأنَّ الجهات التعليليّة هي الموضوعات الواقعيّة لدى العقل، فإذا علم أنَ

ص: 159

مائعاً كان خمراً سابقاً و شكّ في بقاء خمريّته، فلا إشكال في جريان استصحاب الخمريّة و ثبوت الحرمة له.

و لا يصحّ أن يقال: إنَّ استصحاب الخمريّة لا يثبت المُسكريّة التي هي موضوع الحكم لدى العقل إلّا بالأصل المُثبت؛ لأنَّ ترتّب الحرمة إنّما يكون على المسكر أوّلًا و بالذات، و على الخمر ثانياً و بالواسطة.

و ذلك لأنَّ الواسطة عقليّة خفيّة، لا يراها العرف واسطة.

و ليس المُراد بخفاء الواسطة انَّ العرف يتسامح و ينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة مع رؤيتها؛ لأنَّ الموضوع للأحكام الشرعيّة ليس ما يتسامح فيه العرف، بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفيّ حقيقة و من غير تسامح، فالدم الحقيقيّ بنظر العرف موضوع للنجاسة، فإذا تسامح و حكم على ما ليس بدم عنده أنَّه دم لا يكون موضوعاً لها، كما أنَّه لو حكم العقل بالبرهان بكون شي ء دماً أو ليس بدم لا يكون مُتّبعاً؛ لأنَّ الموضوع للحكم الشرعيّ ما يكون موضوعاً لدى العرف.

و السرّ في ذلك: أنَّ الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الامّة إلّا كسائر الناس، و يكون في محاوراته و خطاباته كمحاورات بعض الناس بعضاً، فكما أنَّ المُقنّن العرفيّ إذا حكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها إلّا ما يفهمه العرف مفهوماً و مصداقاً، فلا يكون اللّون دماً عنده، و ليس موضوعاً لها، كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه المُلقاة إلى العرف، فالمفهومات عرفيّة، و تشخيص مصاديقها أيضاً كذلك.

فما وقع في كلام المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه و تبعه بعضهم: من أنَّ تشخيص المفاهيم موكول إلى العرف، لا تشخيص مصاديقها؛ فإنَّه موكول إلى العقل (1).


1- كفاية الاصول: 77، حاشية الآخوند على الرسائل: 212 سطر 21، ناقلًا فيها ذهاب بعض السادة- و هو الميرزا الشيرازي قدّس سرّه ظاهراً- إلى هذا القول أيضاً، فوائد الاصول 4: 494 و 574، نهاية الأفكار 4: 189، نهاية الدراية 1: 101 سطر 7.

ص: 160

منظور فيه؛ ضرورة أنَّ الشارع لا يكون في خطاباته إلّا كواحدٍ من العُرف، و لا يمكن أن يلتزم بأنَّ العرف في فهم موضوع أحكامه و مصاديقه لا يكون مُتّبعاً بل المُتّبع هو العقل.

و بالجملة: الشرع عرف في خطاباته، لا أنَّ الموضوعات مُتقيّدة بكونها عرفيّة؛ فإنَّه ضروريّ البطلان، فحينئذٍ يكون قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

قضيّة عرفيّة، فإذا رأى العرف أنَّ القضيّة المُتيقّنة عين المشكوك فيها، و أنَّ عدم ترتّب الحكم على المشكوك فيه من نقض اليقين بالشكّ يجري الاستصحاب، و لو لم يكن بنظر العقل من نقضه به، لعدم وحدة القضيّتين لديه هذا كلّه واضح.

حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ

و إنّما الكلام في الأمثلة التي ذكرها الشيخ الأعظم قدس سره، و لا يخفى أنَّ جميعها من قبيل الوسائط الغير الخفيّة، و يكون الأصل فيها مُثبتاً:

أمّا قضيّة استصحاب رطوبة النجس لإثبات تنجّس ملاقيه (1)؛ فلأنَّ العُرف هو الذي يستفيد من الأدلّة الشرعيّة الواردة في النجاسات أنَّ التنجّس لا يكون إلّا لأجل سراية النجاسة إلى المُلاقي، فمُلاقاة الثوب للرطب لا تكون موضوعاً للحكم بالغسل عند العرف، بل الموضوع هو الثوب المُتأثّر بالنجاسة الرطبة، فاستصحاب الرطوبة لا يثبت هذا العنوان، و قد عرفت أنَّ الوسائط الخفيّة ما تكون الواسطة عقليّة لا يراها العرف واسطة.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 386 سطر 19.

ص: 161

كما أنَّ استصحاب عدم الحاجب للحكم بتحقّق الغسل (1) مُثبت؛ لأنَّ الواسطة عرفيّة لا عقليّة.

و كذا استصحاب عدم هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان لإثبات كون الغد عيداً(2) مُثبت بلا إشكال و ريب؛ لأنَّ العيد هو اليوم الأوّل من شوّال، و الأوّلية عبارة عن مبدئية سلسلة أيّام الشهر، و هو أمر بسيط لا يثبت باستصحاب عدم حدوث شوّال أو بقاء شهر رمضان.

نعم: لو كان الأوّل مُركّباً من وجود يوم و عدم يوم مثله أو ضدّه قبله فيمكن إثباته بالوجدان و الأصل، لكن على فرض تسليمه لا يفيد ذلك بالنسبة إلى إثبات عنوان سائر الأيّام، فإثبات ثامن ذي الحجّة و تاسعه و عاشره باستصحاب عدم هلال ذي الحجّة أو بقاء ذي القعدة مُثبت؛ فإنَّ كون اليوم الثامن- بعد مضيّ سبعة أيّام من اليوم الأوّل- عقليّ لا شرعيّ.

فما ادّعاه بعض أعاظم العصر: من ثبوت جميع أيّام الشهر بالأصل إذا قلنا بأنَّ الأوّل مُركّب (3) فيه ما فيه، تأمّل (4).

هذا مُضافاً إلى أنَّ كون الأوّل مركّباً ممّا ذكر واضح الفساد.

فحينئذٍ: يبقى الإشكال في الأحكام- المُترتّبة على اليوم الأوّل، أو العيد، أو اليوم الثامن و التاسع و العاشر في أعمال الحج، و كذا سائر الأحكام المُتعلّقة بعناوين الأيّام- في قالبه.

و لقد تصدّى لدفع الإشكال المُحقّق المُتقدّم ذكره بما لا يخلو عن غرابة، و هو


1- نفس المصدر: 387 سطر 1 و 7.
2- نفس المصدر: 387 سطر 1 و 7.
3- فوائد الاصول 4: 498.
4- وجهه أنَّه يمكن ان يقال: إنَّ الثاني مركّب من وجود يوم و كونه مسبوقاً بالأوّل، فإذا ثبت الأوّل بالأصل و الوجدان، يثبت الثاني بهما أيضاً و هكذا منه قدّس سرّه .

ص: 162

الالتزام بأنَّ اليوم الأوّل في موضوع الأحكام غير اليوم الأوّل الواقعيّ؛ فإنَّه عبارة عن يوم رؤية الهلال، أو اليوم الواحد و الثلاثين من الشهر الماضي، فالمراد من ثامن ذي الحجّة هو الثامن من رؤية الهلال، أو ما بعد انقضاء ثلاثين يوماً من ذي القعدة، سواء كان مُطابقاً للواقع أو لا(1).

و لا يخفى ما فيه؛ فإنَّه مُخالف للضرورة عند جميع المُسلمين، فما من مُسلم إلّا و يعلم بالضرورة أنَّ يوم عيد الفطر هو اليوم الأوّل من شوّال و يوم عيد الأضحى هو اليوم العاشر من ذي الحجّة و هكذا، مع مخالفة ما ذكر للأدلّة الشرعيّة كما يظهر بالتتبّع و مُراجعة الأخبار(2).

لكنّ الذي يسهّل الخطب أنَّ بناء المُسلمين من صدر الإسلام إلى الآن على ترتيب آثار العيديّة على يوم رؤية الهلال، و يجعلون يوم الرؤية أو اليوم الذي بعد يوم الشكّ أو الذي بعد انقضاء ثلاثين يوماً من الشهر السابق اليوم الأوّل، و ثانيه الثاني و هكذا، لا من جهة أنَّ موضوع الحكم الشرعيّ غير الموضوع الواقعيّ؛ فإنَّه ضروريّ البطلان، بل لأنَّ هذا حُكم ظاهريّ ثابت من الصدر الأوّل إلى الآن من غير إشكال في جميع الطبقات.

بل يظهر ذلك من الأدلّة اللّفظية أيضاً بعد التتبّع،

فما نُقل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أنَّه قال: (إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين يوماً، و صوموا الواحد و ثلاثين)

(3).

و عن أبي جعفر أو أبي عبد اللَّه عليهما السلام قال: (شهر رمضان يُصيبه ما يُصيب


1- انظر فوائد الاصول 4: 499 و 500، و انظر( تقرير بحث المحقّق النائيني): 335.
2- كما دلّ على عدم توفيق مثل قتلة الإمام الحسين عليه السلام لعيدي الفطر و الأضحى فإنَّه ظاهر في أنَّ المدار على واقع العيدين، و إلّا لأدركوهما بشهادة العدلين و نحوها. فانظر الكافي 4: 170/ 3، الفقيه 2: 114/ 488، الوسائل 7: 213/ 2، 3- باب 13 من أبواب أحكام شهر رمضان.
3- التهذيب 4: 161/ 454، الوسائل 7: 192/ 16- باب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان.

ص: 163

الشهور من النقصان، فإذا صمت تسعة و عشرين يوماً ثم تغيّمت السماء فأتمّ العدّة ثلاثين يوماً)

(1) لا يراد منها إلّا أنَّ الحكم الظاهريّ هو تكميل العدّة، فأمره بتكميل العدّة بعد قوله:

(شهر رمضان يصيبه النقصان كسائر الشهور)

كالنص على أنَّ تكميل العدّة عند احتمال الزيادة و النقصان حكم ظاهريّ، و جعل الواحد و الثلاثين يوم الصوم أو يوم الفطر أيضاً حُكم ظاهريّ.

و بالجملة: لا إشكال في أنَّ المراد بالشهر و العيد و يوم النحر و غير ذلك من الأيّام في موضوع الأحكام ليس إلّا الأيّام الواقعيّة، كما لا إشكال في أنَّ بناء المُسلمين و الأئمّة عليهم السلام على العمل بالظاهر، و ترتيب آثار الواقع على اليوم الواحد و الثلاثين من رؤية هلال شهر شعبان أو شهر رمضان، و ترتيب آثار الأوّل عليه، و الثاني على ما بعده و هكذا.

تذييل و يذكر فيه امور

الأمر الأوّل إنَّ استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمُثبت

أنَّه قد عرفت سابقاً(2) أنَّ استصحاب الفرد لا يغني عن الكلّي و بالعكس، فإذا تعلّق حُكم بالإنسان، فاستصحاب بقاء زيد لا يُثبت آثار الإنسان، لا لأنَّ الفرد مُقدّمة


1- التهذيب 4: 155/ 429، الاستبصار 2: 62/ 199، الوسائل 7: 189/ 1- باب 5 من ابواب أحكام شهر رمضان.
2- تقدّم في صفحة 84.

ص: 164

للكلّي (1)؛ فإنَّه خلاف التحقيق، بل لأنَّ حيثيّة الإنسانيّة- في عالم الاعتبار و تقدير موضوعيّة الموضوع للأحكام- غير حيثيّة الفرديّة و إن كان الفرد مُتّحداً مع الطبيعي خارجاً، لكن لمّا كانت العناوين الطبيعيّة موجودة بوجود الفرد لدى العرف، فإذا تعلّق حكم بعنوان يسري إلى مصداقه الخارجيّ، فإذا شكّ في بقاء العنوان للمتشخّص الخارجيّ يمكن استصحابه و ترتيب الأثر عليه، فإذا شكّ في بقاء عنوان الخمر المُنطبق على الموجود الخارجيّ يستصحب بقاء الخمر، و يترتّب عليه أثرها.

و بالجملة: فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي، و بين استصحاب العنوان المُنطبق على الخارج لترتيب أثره عليه؛ فإنَّ ذلك استصحاب نفس العنوان المُتحقّق في الخارج، فهو كاستصحاب نفس الكلّي لترتيب آثاره.

و الحاصل: أنَّ هاهنا اموراً ثلاثة:

أحدها: عنوان الكلّي بما أنَّه كلّي.

و الثاني: عنوان الفرد الذي هو مُتّحد معه خارجاً، و مختلف اعتباراً و حيثيّة.

و الثالث: عنوان الكلّي المُتحقّق في الخارج المُتشخّص في العين، و يجري الاستصحاب في الأوّل و الثالث لترتيب آثار العنوان دون الثاني:

أمّا في الأوّل فلا كلام فيه، و أمّا في الثالث فلا ينبغي الإشكال فيه؛ لأنَّ الفرق بين العنوان الكلّي و الخارجيّ بالتشخّص و اللّاتشخص، و إلّا فنفس العنوان محفوظ، فإذا تعلّق حكم بعنوان الكرّ يكون هذا الحكم مُتعلّقاً بكلّ ما هو كرّ في الخارج بعنوان أنَّه كرّ فترتيب آثار الكرّية باستصحاب كرّية الماء الخارجيّ ممّا لا مانع منه، و أمّا استصحاب وجود المائع الخارجيّ أو الوجود الخارجيّ- المُتّحد مع الكرّ لترتيب آثار الكرّية- فلا يجري إلّا على القول بالأصل المُثبت.


1- قوانين الاصول 1: 141 سطر 8.

ص: 165

و ممّا ذكرنا: يتّضح حال العناوين المُتّحدة مع المُستصحب في الخارج ممّا هي من قبيل الخارج المحمول، كاستصحاب الوجود لترتيب الوحدة أو التشخّص؛ فإنَّ ذلك مُثبت أيضاً، فضلًا عمّا هو من قبيل المحمول بالضميمة كالملكيّة و الغصبيّة و السواد و البياض؛ فإنَّ كلّ ذلك من قبيل المحمول بالضميمة، إلّا أنَّ الضميمة في الأوّلين من الاعتبارات العقلائيّة، بخلاف الأخيرين فإنَّهما من الأعراض الخارجيّة.

فما ادّعاه المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه: من الفرق بين المحمول بالضميمة و الخارج المحمول (1)، ففيه ما لا يخفى.

كما أنَّ في تمثيله للخارج المحمول بالملكيّة و الغصبيّة(2) مناقشة، بل قد يكون في بعض المحمولات بالضميمة ممّا لا يكون بنظر العرف كذلك فيجري الاستصحاب لكونه من الوسائط الخفيّة.

الأمر الثاني استصحاب الأحكام الوضعيّة

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة كجريانه في الأحكام التكليفيّة؛ لما تقدّم (3) من أنَّ الوضعيّات بأقسامها ممّا يتعلّق بها الجعل مُستقلّاً، و لو فرض عدم تعلّقه بها إلّا بمنشئها(4) فلا إشكال أيضاً في جريانه فيها؛ لكون وضعها و رفعها بيد الشارع.

إنّما الإشكال في أنَّ استصحاب وجود الشرط، أو عدم المانع، أو عدم الشرط،


1- كفاية الاصول: 474.
2- كفاية الاصول: 474.
3- تقدّم في صفحة 68.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 350 سطر 11.

ص: 166

أو وجود المانع هل يجري لإحراز وجود قيد المُكلّف به أو عدمه؟ فاستصحاب الوضوء يحرز كون الصلاة مُتقيّدة بالطهارة، و استصحاب عدم لابسيّة غير المأكول يحرز كون الصلاة بلا مانع، و استصحاب عدم الشرط أو وجود المانع يحرز أنَّ الصلاة وجدت غير مُقيّدة بوجود الشرط أو وُجدت مع المانع أو لا، أو يفصّل بين استصحاب الشرط و عدم المانع، فيحرز الأوّل دون الثاني؟

و ما النكتة في أنَّ جريان استصحاب الوضوء(1) و طهارة الثوب ممّا لم يقع فيهما إشكال، و أمّا استصحاب عدم لابسيّة غير المأكول صار مورداً للنقض و الإبرام (2)، مع أنَّ الطهارة الحدثيّة من قيود الصلاة!، كما أنَّ الطهارة الخبثيّة من قيودها، أو النجاسة من موانعها؟!

و لا يمكن أن يقال: إنَّ الطهارة من شرائط المُصلّي لا الصلاة، و عدم المأكوليّة من موانع الصلاة بحسب الأدلّة(3) فإحراز طهارة المُصلّي بالاستصحاب يكفي لصحّة صلاته، لكنّ استصحاب عدم لابسيّة المُصلّي لغير المأكول لا يثبت تقيّد الصلاة بعدم كونها مع المانع إلّا بالأصل المُثبت (4).

و ذلك لأنَّ الصلاة لو لم تتقيّد بالطهارة يلزم أن تصحّ مع عدم الطهارة و لو عمداً، و لم يلتزم به أحد، و لو كانت الطهارة عنواناً للمصلّي كالاستطاعة للزم عدم وجوب الصلاة مع عدم التطهير.

هذا مُضافاً إلى أنَّ ظاهر الأدلّة أيضاً يقتضي اشتراط الصلاة بها كقوله:

(لا صلاة


1- مفتاح الكرامة 1: 288 سطر 19، جواهر الكلام 2: 359.
2- انظر الرسائل الفشاركية: 394، رسالة اللباس المشكوك للمحقّق النائيني 2: 293 المطبوعة ضمن منية الطالب، نهاية التقرير( تقرير بحث آية اللَّه السيد البروجردي) 1: 184 و 185، مستمسك العروة الوثقى 5: 344 و 346.
3- كموثقة ابن بكير المروية في الكافي 3: 397/ 1، التهذيب 2: 209/ 818، الوسائل 3: 250/ 1- باب 2 من ابواب لباس المصلّي.
4- انظر نهاية التقرير 1: 185.

ص: 167

إلّا بطهور)

(1) و ظاهر الأدلّة الواردة في النهي عن الصلاة في النجس (2)، كالأدلّة الواردة في عدم جوازها في غير المأكول من غير فرق بينهما.

و الذي يمكن أن يقال: إنَّ الميزان في التخلّص من الأصل المُثبت كما ذكرنا أن يصير المُستصحب مُندرجاً تحت كبرى شرعيّة، فإذا استصحبت الطهارة الخبثيّة أو الحدثيّة يصير الموضوع مُندرجاً تحت الكبرى المُستفادة من قوله:

(لا صلاة إلّا بطهور)

؛ فإنَّ المُستفاد منه أنَّ الصلاة مُتحقّقة بالطهور بعد حفظ سائر الجهات، فإذا قال الشارع: «إنَّ الصلاة تتحقّق بالطهور»، و قال في دليل آخر: «إنَّ الطهور مُتحقّق» يحكم بصحّة الصلاة المُتحقّقة مع الطهور الاستصحابيّ، و يجوز الاكتفاء بالصلاة معه، و كذا فيما إذا كان لابساً لغير المأكول يحرز فساد صلاته؛ فإنَّ استصحاب لابسيّة وَبَر غير المأكول ممّا يندرج الموضوع به في قوله: «الصلاة في وَبَر غير المأكول فاسدة».

و أمّا استصحاب عدم لابسيّة غير المأكول فممّا لا يندرج به الموضوع تحت كبرى شرعيّة؛ لعدم ورود دليل شرعيّ ب «أنَّ الصلاة مُتحقّقة إذا لم تكن في غير المأكول» و إنّما هو أمر عقليّ ينتزع من قوله: «الصلاة في كلّ شي ءٍ من غير المأكول فاسدة»، فيحكم العقل بأنَّ الصلاة إذا وجدت في غير ذلك لا تكون فاسدة.

هذا غاية ما يمكن أن يفرّق بينهما.

و لكن مع ذلك لا يخلو من نظر؛ لإمكان أن يقال: إنَّ مثل قوله:

(لا صلاة إلّا بطهور)

إنّما هو بصدد جعل شرطيّة الطهور للصلاة، أو الإرشاد إليها، و مثل قوله:

«الصلاة في وَبَر ما لا يؤكل فاسدة»، أو «لا تصلّ فيه»(3) إنّما هو بصدد جعل المانعيّة


1- التهذيب 1: 49/ 144، الاستبصار 1: 55/ 160، الوسائل 1: 222/ 1- باب 9 من أبواب أحكام الخلوة.
2- انظر الكافي 3: 405/ 5، التهذيب 1: 263/ 766 و 279/ 819 و 2: 358/ 1485، الاستبصار 1: 189/ 662، الوسائل 2: 1017/ 2- باب 13 و 1020/ 10- باب 14 من ابواب النجاسات.
3- انظر علل الشرائع: 342/ 2، التهذيب 2: 209/ 820، الوسائل 3: 251/ 5- باب 2 من أبواب لباس المصلّي، مستدرك الوسائل 1: 201/ 2- باب 2 من أبواب لباس المصلّي.

ص: 168

أو الإرشاد إليها، و أمّا صحّة الصلاة أو تحقّقها مع وجود الشرط أو فسادها و عدم تحقّقها مع وجود المانع فعقليّ لا شرعيّ.

اللّهم إلّا أن يقال: إنَّ قوله:

(لا تصلّ في وَبَر ما لا يؤكل لحمه)

و إن يستفاد منه الوضع، لكن ليس مفاده إلّا النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، و لا شكّ في أنَّه كبرى شرعيّة مُتلقّاة من الشارع ينتزع العقل منها الشرطيّة، فإذا ضمّ إليها «أنَّ هذا الملبوس ممّا لا يؤكل» يستنتج منهما «أن لا تصلّ فيه، و أنَّ الصلاة فيه فاسدة».

و كذا قوله:

(لا صلاة إلّا بطهور)

الظاهر في أنَّ الصلاة مع الطهور صلاة و إن ينتزع منه الشرطيّة، لكن لا تكون هذه الكبرى ساقطة، و ليست الشرطيّة فيها و لا المانعية في السابقة مفاد الاولى منهما، بل مفاد ذلك أنَّ الصلاة مع الطهور صلاة، فإذا ضمّ إليه قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

المُستفاد منه أنَّ الطهور مُتحقّق يستنتج منهما «أنَّ الصلاة مع هذا الطهور صلاة» فيستفاد من الدليلين توسعة نطاق الشرط، و كذا في جانب المانع.

و بالجملة: لا معنى لرفع اليد عن قول الشارع: «إنَّ الصلاة في هذا الوَبَر الاستصحابيّ فاسدة» أو «الصلاة مع الطهور الاستصحابيّ صلاة» بمُجرّد أنَّ الدليلين يُستفاد منهما الشرطيّة أو المانعية.

الأمر الثالث جريان الأصل بلحاظ الأثر العدميّ

قد مرّ في مطاوي المباحث السالفة(1) أنَّ الظاهر من الكبرى المجعولة في باب الاستصحاب؛ أي قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

هو اعتبار بقاء اليقين، و أنه لمّا كان


1- تقدّم في صفحة 32 و 33.

ص: 169

أمراً مُبرَماً كأنَّه حبل مشدود بين المُتيقّن و المُتعلّق لا ينقض بالشكّ الذي لا استحكام فيه؛ لكونه حالة ترديديّة، فلا ينبغي أن ينقض الأمر المُستحكم المُبرَم بالأمر الغير المُبرم، و لعلّ هذا سرّ التعبير بقوله في صحيحة زرارة:

(و لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك).

و بالجملة:

الظاهر من الدليل هو اعتبار بقاء اليقين في عالم التشريع، و يحكم العقل تخلّصاً عن اللغوية بأنَّ الجعل الشرعيّ لا بدّ له من اثر يكون تحت يد الشارع، و يترتّب على هذا الاعتبار، لكن لا يلزم أن يكون الأثر أمراً وجوديّاً و لا أثراً عمليّاً، بل لو ترتّب عليه عدم لزوم العمل أو جواز ترك الإتيان فلا مانع منه، و ليس في أدلّة الاستصحاب لفظ «العمل» و مثله حتّى يُقال: إنَّه ظاهر في الأثر الوجوديّ، و ترك العمل ليس عملًا، و عدم ترتيب الأثر ليس أثراً.

و ما قد يقال: من أنَّ المُراد بالنقض هو النقض العمليّ (1)، إن كان المُراد منه أنَّ مفهوم العمل مأخوذ في الدليل فهو ظاهر الفساد، و إن كان المُراد أنَّه لا بدّ في الجعل من أثر يكون تحت يد الشارع لئلّا تلزم اللّغويّة فهو حقّ، لكنّ رفع الكلفة عن المُكلّف و عدم إلزامه بالعمل و أمثال ذلك ممّا تُخْرج الجعل عن اللّغوية، فاستصحاب عدم التكليف و الوضع- و كذا استصحاب عدم الموضوعات لرفع الآثار المجعولة عليها- ممّا لا مانع منه، تأمّل.

الأمر الرابع أثر الحكم الأعمّ من الواقعي و الظاهري

قد اشتهر بين الأعلام أنَّ الأثر الغير الشرعيّ و الشرعيّ بواسطة أمر غير شرعيّ لا يترتّب على المُستصحب إذا كان له واقعاً، و أمّا إذا كان للحكم الأعمّ من الواقعيّ


1- انظر على سبيل المثال كفاية الاصول: 444، درر الفوائد: 552.

ص: 170

و الظاهريّ فيترتّب عليه؛ لتحقّق موضوعه الحقيقيّ وجداناً، فوجوب الموافقة و حرمة المخالفة و استحقاق العقوبة من الآثار العقليّة التي تترتّب على الحكم الاستصحابيّ؛ لكونها من آثار الحكم سواءً كان بخطاب استصحابيّ أو خطاب واقعيّ (1).

و لا يخفى ما فيه من التسامح؛ لأنَّ حُرمة المخالفة و وجوب المُوافقة و استحقاق العُقوبة كلّها من آثار الحكم الواقعيّ عقلًا، و أمّا الأحكام الظاهريّة فليست في موافقتها و لا مخالفتها من حيث هي شي ءٌ؛ لأنّها أحكام طريقيّة للتحفّظ على الواقع، فخطاب

(لا تنقض)

كخطاب «صدّق العادل» مثلًا ليس من الخطابات النفسيّة التي يحكم العقل بوجوب موافقتها و حُرمة مخالفتها من حيث هي، و لا يكون في موافقتها ثواب، و لا في مخالفتها عقاب إلّا انقياداً أو تجرّياً، و إنّما يحكم العقل بلزوم الإتيان بمؤدّياتها لكونها حُجّة على الواقع، فيحكم العقل من باب الاحتياط بلزوم موافقتها، لا لكونها أحكاماً ظاهريّة؛ بل لاحتمال انطباقها على الواقع، فاستحقاق العقوبة إنّما هو على مخالفة الواقع لا الحكم الظاهريّ.

التنبيه السابع في مجهولي التاريخ

اشارة

لا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشكّ في أصل تحقّق شي ء، و لا في جريانه مع الشكّ في تقدّمه و تأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان، فإذا شكّ في تحقّقه يوم الخميس أو الجمعة يحكم بعدم وجوده إلى يوم الجمعة إذا كان الأثر مُترتّباً على عدمه كذلك،


1- كفاية الاصول: 475 و 476، نهاية الأفكار 4: 187، الحاشية على كفاية الاصول( تقرير بحث آية اللَّه السيد البروجردي) 2: 421- 422.

ص: 171

لا على حدوثه فيه أو تأخّره عن يوم الخميس، و هذا واضح.

إنّما الإشكال و الكلام فيما إذا لوحظ بالنسبة إلى حادث آخر؛ كما إذا علم حدوث الكرّية و المُلاقاة و شكّ في المُتقدّم منهما.

و مُجمل الكلام فيه: أنَّ الحادثين إمّا أن يكونا مجهولي التاريخ أو أحدهما كذلك.

فعلى الأوّل: لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مُترتّباً على عدم تقدّم أحدهما على الآخر أو مُقارنته له بنحو كان التامّة، فاستصحاب عدم تحقّق عنوان تقدّم دخول زيد على عمرو في البيت جارٍ كاستصحاب سائر العناوين المتضايفة معه كذلك.

و كذا لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مُترتّباً على سلب اتصاف أحدهما بأحد العناوين على نحو كان الناقصة، فاستصحاب أنَّ زيداً لم يكن مُقدّماً على عمرو في دخول البيت ممّا لا مانع منه؛ لتماميّة أركانه، فإنَّه قبل دخولهما يصدق أنَّ زيداً لم يكن مُقدّماً على عمرو في الدخول بنحو السلب المُحصّل الصادق مع نفي الموضوع.

و كذا إذا كان الأثر مُترتّباً على تقدّم دخول زيد على عمرو بنحو كان الناقصة، فيستصحب عدم كون زيد مُقدّماً على عمرو لسلب الأثر.

نعم: لا يجري الأصل إذا كان الأثر مُترتّباً على الثبوت المُتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر، فإذا كان الأثر مُترتّباً على الكرّية المُتّصفة بعدم حدوثها في زمان المُلاقاة، فلا يمكن إثبات هذا العنوان بأصالة عدم حدوثها إلى زمان المُلاقاة إلّا بالأصل المُثبت؛ لأنَّ الكرّية الكذائيّة ليست لها حالة سابقة.

و إذا كان الأثر مُترتّباً على نفس عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر فالظاهر جريانه، فاستصحاب عدم عقد الجدّ للصغيرة في زمان عقد الأب جارٍ و معارض لاستصحاب عدم عقد الأب لها في زمان عقد الجدّ.

و اختار المُحقّق الخراساني رحمه اللَّه عدم الجريان في هذه الصورة؛ لعدم إحراز

ص: 172

اتصال زمان الشكّ باليقين (1)، و قبل تقرير كلامه لا بدّ من بيان ضابط عدم اتصال زمان الشكّ باليقين المانع من جريان الاستصحاب.

ضابط اتصال زمان الشكّ باليقين

فنقول: إنَّ المناط في اتصال زمانه به أن لا يتخلّل بين اليقين المُتعلّق بشي ء و بين الشكّ في بقائه يقين آخر مضادّ له، فإنَّه مع تخلّل اليقين المُضادّ لا يعقل الشكّ في البقاء، فعدم جريان الاستصحاب؛ لعدم اتصال زمان الشكّ باليقين، و لعدم صدق نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى اليقين الأوّل، بل يصدق نقض اليقين باليقين.

ثمّ إنَّه لا يعقل الشكّ في عدم اتصالهما، بحيث يصير الإنسان شاكاً في تخلّل يقين بالضدّ بين اليقين السابق و الشكّ اللّاحق فعلًا؛ لأنَّ الملاك أن يكون حين الجريان شاكاً و مُتيقّناً و مُتّصلًا زمانُ شكّه بيقينه بحسب حاله فعلًا، و لا يمكن أن يكون الإنسان شاكّاً في أنَّ له يقيناً بأمر كذائيّ أو لا، اللّهمّ إلّا بعض أهل الوسوسة الشاكّين في وجدانيّاتهم، و هو خارج عن محلّ الكلام.

فإن قلت: لو علم المُكلّف بأنَّه كان مُجنباً في أوّل النّهار، و صار مُتطهّراً منها جزماً، ثمّ رأى في ثوبه منيّاً، و علم إجمالًا بأنَّه إمّا من جنابته التي قطع بارتفاعها بالغسل، أو من جنابة جديدة يكون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلويث الثوب ممنوعاً؛ لعدم إحراز اتصال زمان الشكّ باليقين، لأنَّ الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها و بين التي قطع ببقائها، فيحتمل الفصل- بين زمان الشكّ، و اليقين بحصول الجنابة- بيقين بزوالها، فهذا من قبيل عدم إحراز الاتصال.


1- كفاية الاصول: 478.

ص: 173

و كذا لو علم تفصيلًا بكون شاة معيّنة موطوءة، و اخرى غير موطوءة، و عرض له الشكّ بواسطة ظلمة و شبهها، فاستصحاب عدم الموطوئيّة المعلوم سابقاً قبل عروض الوطي لا يجري؛ لعدم إحراز اتصال زمان الشكّ باليقين، لاحتمال تخلّل اليقين بالضدّ في كلّ منهما.

و إن شئت قلت: تكون أمثاله من قبيل الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب؛ للشكّ في أنّها من نقض اليقين بالشكّ أو باليقين.

قلت: لا يكون شي ء ممّا ذكر من قبيل ذلك:

أمّا الأوّل: فلأنَّ عدم إجراء الاستصحاب فيه ليس لعدم إحراز الاتصال، بل لعدم اليقين السابق لا تفصيلًا و لا إجمالًا، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنَّ كون هذا المنيّ في الثوب من جنابة معلومة بالتفصيل أو الإجمال ممّا لا أثر له، بل الأثر مُترتّب على العلم بكون المُكلّف كان جنباً تفصيلًا أو إجمالًا فشكّ في بقائها، و المفروض أنَّه يعلم تفصيلًا بحصول جنابة له أوّل النهار و زوالها بالغسل بعده، و يشكّ بَدْواً في حصول جنابة جديدة له، فأين العلم الإجماليّ حتّى يستصحب؟! فعلمه الإجماليّ ممّا لا أثر له، و ما له أثر لا يعلم به.

إن قلت: إنَّه يعلم بكونه جُنباً بعد خروج الأثر المُردّد و لم يعلم بارتفاعها.

قلت: لا يجري الاستصحاب الشخصيّ فيه؛ لدوران الشخص بين جنابة أوّل النهار و جنابة بعد الزوال، و الاولى مقطوعة الزوال، و الثانية مُحتملة الحدوث، فعدم الجريان لعدم تماميّة أركانه في شي ءٍ منهما، و لا الكليّ؛ للعلم بعدم الاتصال في المثال.

نعم: لو احتمل حدوث جنابة عند ارتفاع الاولى يكون من القسم الثالث، و لو اشتهى أحد أن يمثّل لعدم إحراز الاتصال فله أن يقول في المثال: لو احتمل حدوث جنابة، و احتمل كون المُحتمل حادثاً عند زوال الاولى بلا فصل، و احتمل الفصل فإنَ

ص: 174

عدم جريان الكلّي في الفرض لعدم إحراز الاتصال بمعنى لا بالمعنى المُتقدّم، فتدبّر و تأمّل.

و على ذلك يعتبر في الاستصحاب- مُضافاً إلى ما مرّ من الاتصال- إحراز كون الشكّ في البقاء، و قد سبق منّا اعتبار ذلك و استفادته من أدلّته (1).

لكن يرد عليه: أنَّ ما هو المُعتبر فيه هو إحراز كون الشكّ في البقاء، لا إحراز البقاء؛ فإنَّه منافٍ للاستصحاب، و مع احتمال حدوث مصداق آخر مقارناً يحرز الشكّ في البقاء، و إن احتمل الانفصال أيضاً، كما لا يخفى.

و أمّا المثال الثاني: فلأنَّ كلّ واحدة من الشاتين ما دام بقاء الظلمة يكون الشكّ في وطئها مُتّصلًا باليقين بعدم وطئها، و لا يحتمل المُكلّف في الحال وجود يقين فعليّ فاصل بين اليقين السابق و الشكّ اللّاحق.

و إن شئت قلت: إنَّ يقينه التفصيليّ ارتفع بواسطة عروض الجهل، و حدث علم إجمالي يكون كلّ من طرفيه شكّاً محضاً لا يحتمل فيه اليقين.

و ممّا ذكرنا: يتّضح النظر فيما أتعب بعض أعاظم العصر نفسه في ضابط عدم اتصال زمان الشكّ باليقين، و تمثيله بإناء شرقيّ و غربيّ علم تفصيلًا بنجاستهما، و أصاب أحدهما المطر، و تفصيله بين ما إذا علم إجمالًا بإصابة المطر أحدهما، فاختار جريان الاستصحاب، و بين ما علم تفصيلًا بإصابته خصوص ما كان في الطرف الشرقيّ، ثمّ عرض له الاشتباه، فاختار عدم الجريان لعدم الاتصال قائلًا: إنَّه لا يُعقل اتصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين بنجاستهما؛ لأنَّ المفروض أنَّه قد انقضى على أحد الإناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة، و لا زمان الشكّ فيها، فكيف يعقل اتصال زمان الشكّ في كلٍّ منهما بزمان اليقين؟ فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كلّ


1- تقدّم في صفحة 113.

ص: 175

منهما؛ لأنَّه في كلّ إناء منهما يُحتمل أن يكون هو الإناء الذي تعلّق العلم بطهارته، ففي كلّ منهما يُحتمل انفصال الشكّ عن اليقين (1) انتهى.

و ذلك لأنَّ العلم التفصيليّ الحاصل في زمان مع تبدّله بالشكّ في زمان آخر لا يضرّ بالاستصحاب؛ فإنَّ الميزان أن يكون زمان الشكّ مُتّصلًا باليقين في حال جريانه لا قبله، و في حاله لا يكون للمُكلّف بالنسبة إلى الإناء المُشتبه إلّا العلم بالنجاسة سابقاً، و الشكّ في إصابته المطر، و لا يحتمل في حاله تخلّل اليقين بإصابته المطر بين العلم و الشكّ.

و ليس معنى اتصال زمان الشكّ باليقين أن لا يمرّ على المشكوك فيه زمان يكون مُتعلّقاً للعلم و لو انقلب إلى الجهل؛ ضرورة أنَّ المناط بحال إجراء الأصل، فلو حصل للمُكلّف ألف علم بضدّ الحالة السابقة، و لم يكن في حال الجريان إلّا العلم و الشكّ، من غير تخلّل علم بالضدّ أو احتماله- مع أنَّ الاحتمال في المقام لا يمكن كما عرفت- يكون جريانه بلا مانع، و يكون من عدم نقض اليقين بالشكّ، و هذا واضح جدّاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الضابط في اتصال زمان الشكّ باليقين هو أنَّ المُكلّف في حال إجراء الأصل يكون على يقين مُتعلّق بشي ء و شكٍّ في بقائه، و لا يكون في هذا الحال له يقين آخر مضادّ ليقينه، فاصل بينه و بين شكّه و لا احتماله، و اعتباره في الاستصحاب و أوضح من أن يخفى؛ لأنَّه إذا كان له يقينان كذلك ينتقض يقينه السابق باليقين اللّاحق، فلا يكون شاكّاً في بقاء ما تعلّق به اليقين الأوّل.

إذا عرفت ذلك: يتّضح أنَّ جريان الأصل في مجهولي التأريخ لا مانع منه إذا كان الأثر مُترتّباً على عدم كلّ منهما في زمان وجود الآخر، و لا يكون زمان اليقين مُنفصلًا عن زمان الشكّ بيقين مُضادّ لليقين السابق، و لا يحتمل ذلك أيضاً، كما عرفت.


1- انظر فوائد الاصول 4: 510- 515.

ص: 176

إشكال المحقّق الخراسانيّ في مجهولي التأريخ و جوابه

و ما أفاده المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه في بيان عدم اتصال زمان الشكّ باليقين:

من فرض زمانين بعد زمان العلم بعدم حدوثهما، أحدهما زمان حدوث واحد منهما، و الثاني زمان حدوث الآخر، و الشكّ في الآن الأوّل منهما و إن كان شكّاً في وجود كلّ منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان، و لكن لا يكون شكّاً فيه بالإضافة إلى الآخر إلّا في الآن الثاني؛ لأنَّ الشكّ في المُتقدّم و المتأخّر منهما لا يمكن إلّا بعد العلم بوجودهما، فزمان الثالث زمان الشكّ في المُتقدّم و المُتأخر، أو الشكّ في وجود أحدهما بالإضافة إلى زمان وجود الآخر، و هو ظرف العلم الإجماليّ بوجود كلٍّ منهما إمّا في الزمان المُتقدّم، أو في الزمان المُتأخّر، و لمّا شكّ في أنَّ أيّهما مُقدّم و أيّهما مؤخّر لم يحرز اتصال زمان الشكّ باليقين (1)، انتهى ملخّصاً.

فيه: أنَّه إن أراد بعدم الاتصال أنَّ الزمان الثاني لا يكون ظرفاً للشكّ و لا لليقين، بل الزمان الأوّل ظرف لليقين بعدمهما، و زمان الثاني ظرف للشكّ في وجود كلّ منهما بالنسبة إلى أجزاء الزمان، لا بالنسبة إلى الآخر الذي هو مضايفه، فلا يكون ظرفاً للشكّ بالنسبة إليه كذلك إلّا الزمان الثالث، فانفصل الزمان الثالث عن الأوّل بزمان لا يكون ظرفاً للشكّ و لا لليقين، فلا يكون زمان اليقين مُتّصلًا بزمان الشكّ.

فيرد عليه:- مضافاً إلى أنَّ المفروض في هذا القسم عدم أخذ الإضافة إلى الآخر قيداً له، فيكون الزمان الثاني ظرفاً للشكّ أيضاً، و إن كان الأثر لا يترتّب إلّا على عدمه في زمان وجود الآخر، لا على عدمه في الزمان الثاني- أنَّه لا دليل على اعتبار هذا النحو من الاتصال، فلا مانع من فصل زمان اليقين عن زمان الشكّ بزمان لا يكون ظرفاً للشكّ


1- كفاية الاصول: 478 و 479.

ص: 177

و لا لليقين، و إنما المانع فصل يقين مُتعلّق بضدّ ما يتعلّق به اليقين الأوّل، أو احتمال فصله، و هذا الاحتمال و إن كان بعيداً عن مساق كلامه، لكن ذكرناه تتميماً للفائدة.

و إن أراد من عدم الاتصال بينهما ما هو ظاهر كلامه، من أنَّ العلم الإجماليّ بحدوثه مُقدّماً أو مُؤخّراً موجب لعدم إحراز الاتصال؛ لاحتمال انفصال زمان الشكّ عن اليقين بحدوث ما يستصحب عدمه.

فيرد عليه: أنَّ احتمال انفصال ذات المعلوم بالإجمال بين زمان اليقين و الشكّ ممّا لا يضرّ بالاستصحاب؛ لأنَّ ذلك مُحقّق لنفس الشكّ، و احتمال انفصال العلم بالحدوث بينهما مقطوع البطلان؛ لأنَّ ذلك مساوق لاحتمال كون المشكوك فيه مُتيقّناً، و كون الشكّ يقيناً، و كون المعلوم بالإجمال معلوماً تفصيليّاً، و كلّ ذلك ضروريّ البطلان.

و لعلّ منشأ هذا الاشتباه شدّة اتصال اليقين بالمُتيقّن، فيكون احتمال انفصال المُتيقّن بين زمان اليقين و الشكّ موجباً لزعم احتمال انفصال اليقين، مع أنَّ الأوّل غير مُضرّ، و الثاني غير واقع، بل غير معقول.

فتحصّل ممّا ذكر: أنَّ جريان الأصل في مجهولي التأريخ ممّا لا مانع منه.

تقرير إشكال شيخنا العلّامة في مجهولي التأريخ و جوابه

إن قلت: إنَّ الاستصحاب في مجهولي التأريخ غير جارٍ، لا لعدم إحراز الاتصال، بل لعدم إحراز كونه من نقض اليقين بالشكّ، و احتمال كونه من نقض اليقين باليقين.

و بعبارة اخرى انَّ جريانه فيهما من التمسّك بعموم دليل الاستصحاب في الشبهة المصداقية.

بيانه: أنَّه لو فرض اليقين بعدم الكرّية و المُلاقاة في أوّل النهار، و علمنا بتحقّق

ص: 178

إحداهما في وسطه، و تحقّق الاخرى في الجزء الأوّل من اللّيل، فالجزء الأوّل من اللّيل ظرف اليقين بتحقّق كلتيهما، و ظرف احتمال حدوث كلّ منهما؛ للعلم الإجماليّ بحدوث كلٍّ منهما، إمّا في وسط النهار، أو في أوّل الليل، فاستصحاب عدم كلّ منهما إلى زمان الوجود الواقعي للُاخرى يحتمل أن يكون من نقض اليقين باليقين؛ لاحتمال حدوثه في الجزء الأوّل من الليل، و هو ظرف العلم بتحقّق كلتيهما: إمّا سابقاً، و إمّا في هذا الجزء.

فاستصحاب عدم المُلاقاة إلى زمان الوجود الواقعيّ للكرّية يُحتمل أن يجري إلى الجزء الأوّل من اللّيل الذي هو ظرف احتمال حدوث الكرّية؛ لأنّها تحتمل أن تكون حادثة في وسط النهار، أو أوّل اللّيل، و الجريان إلى اللّيل من نقض اليقين باليقين؛ لأنَّ ذلك الجزء ظرف اليقين بحصول المُلاقاة، إمّا فيه، و إمّا قبله، و كذا الحال بالنسبة إلى الحادث الآخر، و من شرائط جريان الأصل إحراز أن يكون المورد من نقض اليقين بالشكّ (1).

قلت: هذا الإشكال ممّا أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه في مجلس بحثه، و اختار عدم جريان الأصل في مجهولي التأريخ لأجله، و لعلّه أحد محتملات الكفاية(2)، و إن كان بعيداً عن سوق عبارتها.

و جوابه: أنَّه فرق واضح بين استصحاب عدم المُلاقاة إلى الجزء الأوّل من اللّيل، و بين استصحاب عدم المُلاقاة إلى زمان الوجود الواقعيّ للكرّية؛ فإنَّ مفاد الأوّل عدم حصول المُلاقاة في أجزاء الزمان إلى الجزء الأوّل من اللّيل الذي هو ظرف اليقين بتحقّق المُلاقاة.

و أمّا الثاني فمفاده أو لازمه تأخّر المُلاقاة عن الكرّية، و لهذا لو أخبرت البيّنة بأنَّ المُلاقاة لم تحصل إلى الجزء الأوّل من اللّيل؛ بحيث كانت الغاية داخلة في المغيّى


1- انظر هامش درر الفوائد: 566.
2- كفاية الاصول: 478- 479، و قد تقدّم في صفحة 176 و 177.

ص: 179

نكذّبها؛ للعلم بخلافها، و أمّا لو أخبرت بأنَّ المُلاقاة لم تحصل إلى زمان الكرّية نصدّقها، و نحكم بأنَّ الكرّية المردّدة بين كونها حادثة في وسط النهار أو الجزء الأوّل من اللّيل حدثت في وسط النهار، و المُلاقاة حدثت مُتأخّرة عنها في الجزء الأوّل من اللّيل، و كذا لو كانت لوازم الاستصحاب حُجّة.

فاستصحاب عدم حصول المُلاقاة إلى الجزء الأوّل من اللّيل بحيث تكون الغاية داخلة في المغيّى غير جار للعلم بخلافه، بخلاف استصحاب عدم المُلاقاة إلى زمان حصول الكرّية؛ فإنَّ استصحابه مساوق لتقدّم حصول الكرّية على المُلاقاة، و حدوث الكرّية في وسط النهار، و حدوث الملاقاة في الجزء الأوّل من الليل.

و هذا دليل على أنَّ مفاد هذا الاستصحاب ليس جرّ المُستصحب إلى الجزء الأوّل من اللّيل حتّى يكون من نقض اليقين باليقين، بل مفاده عدم حصول المُستصحب في زمان تحقّق الآخر، و لازمه تأخّره عن صاحبه.

و بعبارة اخرى أنَّ احتمالي حدوث الحادثين متبادلان؛ بمعنى أنَّ احتمال حدوث الكرّية في الجزء الأوّل من اللّيل بدليل لاحتمال حدوث المُلاقاة في وسط النهار و بالعكس، و احتمال عدم حدوث الكرّية إلى زمان المُلاقاة مُساوق لاحتمال حدوث المُلاقاة في وسط النهار، فأصالة عدم الكرّية إلى زمان المُلاقاة ترجيح لهذا الاحتمال، و لازمه تأخّر الكرّية عن زمان المُلاقاة، لا عدم تحقّق الكرّية إلى الجزء الاوّل من اللّيل.

و إن شئت قلت: لازم عدم الكرّية في زمن المُلاقاة تحقّقها في الجزء الأوّل من اللّيل، لا عدم تحقّقها إليه، فلو كان الأصل المُثبت حُجّة نحكم بتأخّرها عنه، و حصولها في الجزء الأوّل من اللّيل، و حصول المُلاقاة في وسط النهار، لكن مُقتضى عدم حُجّية الأصل المُثبت أن لا يترتّب الأثر إلّا على نفس عنوان عدم وجود المُلاقاة في زمن الكرّية، أو عدم الكرّية في زمن المُلاقاة، و ليس ذلك إلّا من نقض اليقين بالشكّ، و لا يلزم منه جرّ

ص: 180

عدم المُلاقاة إلى زمان العلم به، فتدبّر جيّداً، هذا حال مجهولي التأريخ.

و أمّا لو كان تأريخ أحدهما معلوماً، فاستصحاب مجهول التأريخ منهما جار، و اختار المُحقّق الخراسانيّ الجريان فيه قائلًا: إنَّ زمان اليقين فيه مُتّصل بالشكّ (1).

و فيه: أنَّه لو كان المراد من عدم الاتصال في مجهولي التأريخ أحد الوجهين الأوّلين فلا فرق بين مجهولي التأريخ و بين ما نحن فيه؛ لأنَّ المانع لو كان العلم الإجماليّ أو كون الزمان الأوّل من الزمانين غير ظرف الشكّ يكون ما نحن فيه أيضاً كذلك.

نعم: بناءً على كون مراده من عدم الاتصال هو الذي أفاده شيخنا العلّامة كان بينهما فرق؛ فإنَّ استصحاب عدم مجهول التأريخ إلى زمان وجود معلوم التأريخ ليس إلّا عدم نقض اليقين بالشكّ، و لا تأتي فيه الشبهة التي عرفتها و عرفت دفعها.

فتحصّل من جميع ما تقدّم: أنَّ الاستصحاب في مجهول التأريخ مطلقاً لا إشكال فيه، و أمّا في معلوم التأريخ فلا يجري إلّا على بعض الوجوه المُتقدّمة.

تكميل فروض ترتّب الأثر على وجود الحادثين

ربما يكون الأثر مُترتّباً على وجود الحادثين في زمان الشكّ، و يشكّ في المُتقدّم منهما، كما لو تيقّن الحدث و الطهارة، و شكّ في المُتقدّم، أو تيقّن إصابة النجس لثوبه و غَسْلِه، و شكّ في المُتقدّم.

فحينئذٍ: تارةً يكون كلّ منهما مجهول التاريخ، و تارةً يكون أحدهما معلوم التأريخ، و على التقديرين، تارةً تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة، و اخرى تكون


1- نفس المصدر: 480.

ص: 181

غير معلومة، فإن كانت معلومة، فتارة تكون الحالة السابقة على الحالتين مساوية في الأثر مع إحدى الحالتين العارضتين، و اخرى تكون زائدة في الأثر، و ثالثة تكون ناقصة.

فإن لم تكن الحالة السابقة معلومة فاستصحاب بقاء كلّ من الحادثين جارٍ و معارض بمثله من غير فرق بين معلوم التأريخ و مجهوله.

و ما عن بعض مُتأخّري المُتأخّرين: من التفصيل بينهما، فذهب إلى التعارض في مجهولي التأريخ، و حكم في معلوم التأريخ بأصالة تأخّر الحادث (1)، ففيه ما لا يخفى.

و إن كانت الحالة السابقة على عروض الحادثين معلومة، و كانت مساوية لإحدى الحالتين العارضتين، كما لو تيقّن الحدث و الطهارة، و كانت الحالة السابقة عليهما الحدث أو الطهارة، فَعَن المشهور في خصوص الفرع هو الحكم بلزوم التطهير؛ لمعارضة استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة، و حكم العقل بتحصيل الطهارة للصلاة؛ لقاعدة الاشتغال (2).

و عن المُحقّق في «المُعتبر» لزوم الأخذ بضدّ الحالة السابقة؛ لأنّها ارتفعت يقيناً و انقلبت إلى ضدّها، و ارتفاع الضدّ غير معلوم.

قال على ما حُكي عنه: يمكن أن يقال ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين، فإن كان حدثاً بنى على الطهارة؛ لأنَّه تيقّن انتقاله عن تلك الحالة إلى الطهارة، و لم يعلم تجدّد الانتقاض، فصار مُتيقّناً للطهارة، و شاكاً في الحدث فيبني على الطهارة، و إن كان قبل تصادم الاحتمالين مُتطهّراً بنى على الحدث؛ لعين ما ذكرنا من التنزيل (3) انتهى.


1- الدّرة النجفية( منظومة السيد بحر العلوم): 23.
2- ما حكي عن المشهور لا يختصّ بالفرع المذكور، فانظر منتهى المطلب 1: 74 سطر 24، مفتاح الكرامة 1: 289، جواهر الكلام 2: 350 و 351، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 158 سطر 9، مصباح الفقيه 1: 202 سطر 16، مستمسك العروة الوثقى 2: 495.
3- المعتبر: 45 سطر 17، و قد حكى قول المحقّق جماعة منهم المقداد السيوري في التنقيح الرائع 1: 89 و أصحاب الذخيرة و الجواهر و مصباح الفقيه و غيرهم.

ص: 182

و نسب هذا التفصيل إلى مشهور المُتأخّرين (1).

و لقد تصدّى لردّه جمع من المُحقّقين كالشيخ الأعظم (2)، و صاحب «مصباح الفقيه (3)، و بعض أعاظم العصر(4) بما لا داعي لنقل كلامهم.

تحقيق الحال في المقام

و التحقيق عندي: هو قول المُحقّق في مجهولي التأريخ، و التفصيل في معلومه بأنَّه إن كان معلوم التأريخ هو ضدّ الحالة السابقة فكالمحقّق، و إلّا فكالمشهور، و إن انطبق المسلكان نتيجة أحياناً.

أمّا في مجهولي التأريخ: فلأنَّ الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة، و تكون سببيّة الأسباب الكثيرة للشي ء الواحد سببيّة اقتضائيّة؛ بمعنى أنَّ كلّ سبب يتقدّم في الوجود الخارجيّ يصير سبباً فعليّاً مؤثّراً في حصول المُسبّب، و إذا وجدت سائر الأسباب بعده لم تتّصف بالسببيّة الفعليّة؛ ضرورة أنَّ الحدث إذا وجد بالنوم لا يكون نوم آخر بعده أو بول أو غيرهما موجباً لحدوثه، و لا يكون شي ء منهما سبباً فعليّاً، بل سببيّتها الفعليّة موقوفة على حدوثها لدى كون المُكلّف مُتطهّراً لم تسبقه سائر الموجبات، فإذا كان المُكلّف مُتيقّناً بكونه محدثاً في أوّل النهار، فعلم بحدوث طهارة و حدث أثناء النهار، و شكّ في المُتقدّم و المُتأخّر يكون استصحاب الطهارة المُتيقّنة ممّا لا إشكال فيه.

و لا يجري استصحاب الحدث؛ لعدم تيقّن الحالة السابقة، لا تفصيلًا و لا إجمالًا؛ فإنَّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان مُتحقّقاً أوّل النهار قد زال يقيناً، و ليس له علم


1- الناسب هو شارح الجعفرية كما في كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 159 سطر 9.
2- نفس المصدر: 159 سطر 15.
3- مصباح الفقيه 1: 204 سطر 13.
4- أجود التقريرات 2: 435، فوائد الاصول 4: 524 و 525.

ص: 183

إجماليّ بوجود الحدث، إمّا قبل الوضوء أو بعده؛ لأنَّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيليّ، و بعده مشكوك فيه بالشكّ البَدْويّ.

و ما يقال: من أنَّ وجود الحدث بعد تحقّق السبب الثاني معلوم، و إن لم يعلم أنَّه من السبب الثاني أو الأوّل، و رفع اليد عنه نقض اليقين بالشكّ (1).

مدفوع: بأنَّ هذا خلط بين العلم التفصيليّ و الشكّ البدويّ، و بين العلم الإجماليّ؛ فإنَّ وجود الحدث قبل الوضوء معلوم بالتفصيل، و لا إجمال فيه أصلًا، و وجوده بعده احتمال بدويّ، فدعوى العلم الإجماليّ في غير محلّها.

و القول: بأنّا نعلم أنَّ الحدث بعد السبب الثاني موجود إمّا بهذا السبب أو بسبب أخر عبارة اخرى عن القول: بأنّا نعلم أنَّ الحدث بعد السبب الثاني موجود إمّا قبل الوضوء أو بعده، و قد عرفت أنَّه ليس علماً إجماليّاً.

و إن شئت قلت: إنَّ المعلوم بالإجمال هو السبب الثاني، لا بوصف السببيّة الفعليّة، بل الأعمّ من ذلك؛ فإنَّا نعلم إجمالًا وجود النوم إمّا قبل الوضوء أو بعده، و هو ليس مجرى الاستصحاب، و أمّا الحدث فليس معلوماً بالإجمال، بل معلوم بالتفصيل قبل الوضوء، و محتمل بدويّ بعده.

و هذا نظير العلم الإجماليّ بأنَّ الأثر الحاصل في ثوبه إمّا من الجنابة التي اغتسل منها، أو من جنابة جديدة، حيث إنَّ العلم الإجماليّ بأنَّ هذا إمّا من تلك الجنابة، أو من هذه حاصل، و لكنه ليس منشأً للأثر، و أمّا نفس الجنابة فليست معلومة بالإجمال، بل الجنابة قبل الغسل معلومة تفصيلًا، و رفعها معلوم أيضاً، و بعده مشكوك فيها بالشكّ البدويّ، و ليست طرفاً للعلم الإجماليّ.

و الفرق بين هذا المثال و ما نحن فيه: أنَّ العلم الإجماليّ فيما نحن فيه يكون في تحقّق


1- انظر جواهر الكلام 2: 352، مصباح الفقيه 1: 204 سطر 13 و 19.

ص: 184

السبب الأعمّ من الاقتضائي و الفعليّ، و هو ممّا لا أثر له، و لا يجري فيه الاستصحاب، و في المثال يكون في أنَّ الأثر من تلك الجنابة أو من هذه، و هذا أيضاً لا أثر له، و أمّا نفس الجنابة و الحدث فليستا معلومتين بالإجمال، بل كلّ منهما معلوم بالتفصيل قبل التطهّر، و مشكوك فيه بعده.

و إن شئت توضيح ما ذكرنا نقول: إنَّ العلم الإجماليّ بالنوم إمّا قبل الوضوء أو بعده فيما نحن فيه، كالعلم الإجماليّ بوجود الخَفقة و الخَفْقتين قبل الوضوء أو النوم؛ لأنَّ النوم قبل الوضوء، أي في زمان الحدث ليس سبباً له، كما أنَّ الخفقة و الخفقتين ليستا كذلك، فكما أنَّ العلم الإجماليّ في المثال لا يؤثّر شيئاً، كذلك فيما نحن فيه.

و إن صحّ أن يقال في المثال: علم إجمالًا بتحقّق الحدث بعد هذا الأمر الحادث إمّا من جهة السبب الأوّل، و إمّا من جهة السبب الحادث؛ فإنَّ هذا الحدث إن وجد قبل الوضوء كان الحدث موجوداً بعده بالسبب الأوّل، و إن وجد بعده كان موجوداً بسببه.

مع أنَّه لا أظنّ بأحد أن يستصحب هذا الحدث، و ليس ذلك إلّا لأجل وضوح عدم العلم الإجماليّ، و أنَّ الحدث المعلوم بالتفصيل ليس طرفاً للترديد و مُصحّحاً للإجمال المُعتبر في العلم الإجماليّ، و لا فرق بالضرورة بين النوم بعد الحدث، و الخفقة و الخفقتين في عدم سببيّتهما فعلًا للحدث. و كون النوم سبباً- لو لا سبقه بالحدث- لا يوجب فرقاً كما هو واضح.

و بتقريبٍ آخر: أنَّ الحدث في المثال مُردّد بين فردين، أحدهما مقطوع الزوال، و الآخر مُحتمل الحدوث؛ فإنَّه إن وجد السبب قبل الوضوء يكون محدثاً بالسبب الأوّل، و هو مصداق من الحدث، و إن وجد بعده يكون الحدث مصداقاً حادثاً من السبب الثاني.

ص: 185

فحينئذٍ: إن اريد استصحاب الفرد فلا يجري لاختلال أركانه، فإنَّ المصداق الأوّل مقطوع الزوال، و المصداق الثاني مُحتمل الحدوث، و إن اريد استصحاب الكلّي فلا يجري؛ لعدم الاتصال بين زوال الفرد الأوّل و احتمال حدوث الفرد الآخر، و في مثله لا يكون شكّ في البقاء، و لا أظنّك بعد التأمّل فيما ذكرنا أن تشكّ فيه. هذا حال مجهولي التأريخ.

فيما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ

و أمّا إذا جهل تأريخ الحدث و علم تأريخ الطهارة، مع كون الحالة السابقة هي الحدث، فاستصحاب الحدث لا يجري؛ لعين ما ذكرنا في مجهولي التأريخ؛ من عدم العلم الإجمالي بالحدث، فلا تكون حالة سابقة مُتيقّنةً للحدث، و لكنّ استصحاب الطهارة لا مانع منه.

فإذا علم كونه محدثاً في أوّل النهار، و علم أنَّه صار في أوّل الظهر مُتطهّراً، و علم بحدوث حدث امّا بعد الطهارة، و إمّا قبلها لا يجري استصحاب الحدث؛ للعلم بزوال الحدث المعلوم تفصيلًا، و عدم العلم بتحقّق حدث غيره، و أمّا استصحاب الطهارة المُتحقّقة في أوّل الظهر فجارٍ؛ للعلم بوجودها، و الشكّ في زوالها، ففي هذه الصورة نحكم بكونه مُتطهّراً.

و إذا جهل تأريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً، و علم تأريخ الحدث، فاستصحاب الحدث المعلوم التأريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال، و نحكم بلزوم التطهّر عقلًا؛ لقاعدة الاشتغال.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنَّ مُقتضى القاعدة هو الأخذ بضدّ الحالة السابقة في

ص: 186

مجهولي التأريخ لأجل استصحاب الحالة المُضادّة من غير مُعارض له، و كذا فيما إذا علم تأريخ ما هو ضدّ للحالة السابقة؛ لعين ما ذكر.

و أمّا فيما إذا علم تأريخ ما هو مثل للحالة السابقة، كما إذا تيقّن الحدث فى أوّل النهار، و تيقّن بحدثٍ آخر في الظهر، و تيقّن بطهارةٍ إمّا قبل الظهر أو بعده، فيجب تحصيل الطهارة؛ لتعارض استصحاب الحدث المعلوم في الظهر- للعلم به و الشكّ في زواله- مع استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال؛ للعلم بوجودها إمّا قبل الظهر أو بعده، و الشكّ في زوالها.

و ما قيل: من تردّدها بين ما هو مقطوع الزوال و ما هو مشكوك الحدوث، فلا يجري فيها الاستصحاب (1) مردود بأنَّ ذلك مُحقّق الشكّ، و رفعُ اليد عن العلم الإجماليّ باحتمال الزوال نقض لليقين بالشكّ؛ ضرورة أنّا نعلم بتحقّق طهارة عقيب الغسل أو الوضوء، و شككنا في زوالها، و احتملنا بقاء المُتيقّن، فلا يكون رفع اليد عنه إلّا نقض اليقين بالشكّ.

إن قلت: لا فرق بين معلوم التأريخ في الفرض و مجهوله؛ فإنَّ الحدث المعلوم في أوّل الزوال مُردّد بين ما هو باقٍ من أوّل النهار، أو حادث في الحال، و الأوّل مُتيقّن الزوال، و الآخر مشكوك الحدوث.

قلت: نعم لكنّ استصحاب الكلّي لا مانع منه؛ لأنَّ الكلّي في أوّل الزوال معلوم التحقّق و مُحتمل البقاء، من غير ورود إشكال مجهول التأريخ عليه؛ لأنَّ الفرد المعلوم منفصل بالطهور جزماً عن الفرد المُحتمل في مجهوله دون معلومه، و هذا هو المائز بينهما، فتدبّر لئلّا يختلط الأمر عليك.

و ممّا ذكرنا: يعلم حال جميع الصور المُتصوّرة في الباب، و كذا حال عروض


1- انظر كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 109 سطر 24، مصباح الفقيه 1: 204 سطر 22.

ص: 187

النجاسة و الطهور على الثوب فيما كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين مساوية للحالة العارضة في الأثر أو زائدة عليها، كما إذا علم بتنجّس ثوبه أوّل النهار بالدم، و علم بعروض دم آخر، و عروض طهارة على الثوب، أو علم بعروض نجاسة بوليّه عليه أوّل النهار، و علم بعروض نجاسة دمويّة و طهارة عليه، مع الجهل بتأريخهما أو بتأريخ أحدهما؛ فإنَّ حكم هذه الصور حكم ما ذكرنا في الحدث و الطهارة.

و أمّا إذا كانت الحالة السابقة دونها في الأثر، فاستصحاب النجاسة المعلومة بالإجمال يجري، و يعارض استصحاب الطهارة، سواء جهل تأريخهما، أو تأريخ أحمدهما، و بعد التعارض يرجع إلى أصل الطهارة، و عليك بالتأمل التامّ في أطراف ما ذكرنا، فإنَّه حقيق بذلك.

حول كلام بعض العلماء و ما فيه

ثمّ إنَّ بعض أعاظم العصر ذهب إلى عدم جريان أصالة عدم المُلاقاة إلى زمان الكرّية حتّى فيما إذا علم تأريخ الكريّة، فحكم فيما إذا كان الماء مسبوقاً بعد م الكرّية و المُلاقاة فتيقّنهما بنجاسة الماء مطلقاً، سواءً جهل تأريخهما، أو علم تاريخ أحدهما؛ لعدم جريان أصالة عدم المُلاقاة إلى زمان الكرّية؛ لأنَّ الظاهر من قوله: (إذا بلغ الماء قَدْر كرّ لا ينجّسه شي ء)(1) هو أنَّه يُعتبر في العاصميّة، و عدم تأثير المُلاقاة سبق الكرّية و لو آناً ما، و كلّ موضوع لا بدّ و أن يكون مُقدّماً على الحكم، فيعتبر في الحكم بعدم التأثير من سبق الكرّية.

و أصالة عدم المُلاقاة إلى زمان الكرّية لا تثبت سبق الكرّية على المُلاقاة إلى أن


1- تقدّم تخريجه في صفحة 132.

ص: 188

قال: فظهر أنَّه لا بدّ من الحكم بالنجاسة في المثال مُطلقاً.

نعم: لو لا كون التعليق على الأمر الوجوديّ يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتأريخ الكرّية(1)، انتهى

و فيه: أنَّ موضوع الانفعال هو الماء الذي لم يبلغ كرّاً بحسب الواقع، فأصالة عدم المُلاقاة إلى زمان الكرّية يترتّب عليها عدم الانفعال؛ فإنَّها تنفي المُلاقاة إلى زمان الكرّية، و عدم مُلاقاة الماء المفروض للنجس إلى زمان الكرّية يكفي في الحكم بطهارته، و لا يلزم إحراز سبق كرّيته.

نعم: لا بدّ في إثبات أحكام سبق الكرّ من إحرازه و لا نحتاج في الحكم بالطهارة إلى إحرازه، بل يكفي فيه التعبّد بعدم المُلاقاة إلى زمانها، و ما ذكره من أنَّ تعليق حكم على أمر وجوديّ يقتضي إحرازه فهو أيضاً ممّا لا دليل عليه سوى الدعوى.

التنبيه الثامن في موارد التمسّك بالعموم، و استصحاب حكم المخصّص

اشارة

إذا ورد عموم أفراديّ يتعقّبه دليل مُخرج لبعض أفراده عن حكمه في زمانٍ؛ بحيث لا يكون للدليل المُخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلى غير ذلك الزمان، فهل يتمسّك باستصحاب حكم دليل المُخرج (2) أو بعموم العامّ أو إطلاقه (3) أو يفصّل بين المقامات (4)؟


1- انظر فوائد الاصول 4: 528- 530.
2- اختاره السيد بحر العلوم، و قد لخّص كلامه صاحب الفصول الغروية: 214 سطر 31.
3- جامع المقاصد 4: 38.
4- صور التفصيل مختلفة، فمنها تفصيل لصاحب رياض المسائل و آخر للشيخ و ثالث للآخوند.

ص: 189

الأقوى هو الأوسط(1)، و يتّضح المرام بعد التنبيه على امور:

الأوّل: أنَّه يتصوّر ورود العامّ على أنحاء:

فتارة: يلاحظ المُتكلّم الأزمنة مُستقلة على نحو العامّ الاصوليّ مثل: «أكرم العلماء في كل يوم».

و حينئذٍ: قد يكون الظرف مُتعلّقاً بالهيئة؛ أي يجب في كلّ يوم إكرام العلماء، و قد يكون مُتعلّقاً بالمادّة؛ أي الإكرام في كلّ يوم واجب، و قد يكون مُتعلّقاً بالموضوع بنحو من التأويل؛ أي يجب إكرام العلماء الكائنين في كلّ يوم، و قد يكون مُتعلّقاً بالنسبة الحكميّة؛ أي ثبوت وجوب إكرام العلماء في كلّ يوم.

و هذه التراكيب و إن كانت مُتصوّرة لكنّها مجُرد تصوّر، و إلّا فالظاهر من القضايا- لو خلّيت عن القرائن- هو كون الظرف مُتعلقاً للنسبة الحكميّة، فقوله: «أكرم العلماء في يوم الجمعة» كقوله: «جاءني العلماء في يوم الجمعة» الظاهر منه أنَّ يوم الجمعة ظرف إكرامهم و مجيئهم؛ أعني الإكرام و المجي ء المُنتسبين إليهم بما أنّهما منتسبان إليهم.

و تارة: يلاحظها بنحو العامّ المجموعيّ.

و ثالثة: يلاحظ الزمان مُستمرّاً على نحو تحقّقه الاستمراريّ كقوله: «أوفوا بالعقود مُستمرّاً أو دائماً» لا بمعنى وجوب الوفاء في كلّ يوم مُستقلًاّ، و لا بنحو العامّ المجموعيّ، حتى لو فرض عدم الوفاء في زمان سقط التكليف بعده.

بل بنحو يكون المطلوب وجوبه مُستمرّاً؛ بحيث لو و فى المُكلّف إلى آخر الأبد يكون مُطيعاً إطاعة واحدة، و لو تخلّف في بعض الأوقات تكون البقيّة مطلوبة لا بطلب مُستقلّ أو مطلوبيّة مُستقلّة، بل بالطلب الأوّل الذي جعل الحكم كلازم الماهيّة للموضوع، فلو قال المولى: «لا تهن زيداً» فترك العبد إهانته مُطلقاً كان مطيعاً له إطاعة


1- انظر تحقيق الإمام قدّس سرّه في فورية خيار الغبن من كتاب البيع 4: 364 و ما بعدها.

ص: 190

واحدة، و لو أهانه يوماً عصاه، و لكن تكون إهانته محرّمة عليه بعده أيضاً، لا بنحو المطلوبيّة المتُكثّرة المُستقلّة، بل بنحو استمرار المطلوبيّة.

و تأتي فيه و فيما قبله التصوّرات المُتقدّمة؛ أي كون القيد للهيئة أو المادّة أو الموضوع أو النسبة.

و رابعة: يُستفاد الاستمرار و الدوام بنحو الاستمرار المُتقدّم من مقدّمات الحكمة و صون كلام الحكيم عن اللّغوية، كقوله: «أوْفُوا بِالْعُقود»(1) بناءً على استفادة هذا النحو من الاستمرار منه، كما أشار إليه المُحقّق الكركيّ (2) و تبعه غيره (3).

الثاني: أنَّ العموم الزماني أو الاستمرار الزماني المُستفادين من قوله: «في كلّ يوم» أو «مُستمرّاً» متفرّع على العموم الأفراديّ كان القيد للحكم أو للنسبة الحكميّة، و كذا إذا كان مُستفاداً من مقدّمات الحكمة، فقوله: «أكرم العلماء في كلّ يوم» يكون كقوله «أكرم العلماء» و يقول بدليل مُنفصل: «فليكن وجوب إكرامهم في كلّ يوم» و كذا قوله: «أكرمهم مُستمرّاً» بمنزلة قوله: «فليكن وجوب إكرامهم مُستمرّاً» و أولى بذلك ما إذا كان الاستمرار مُستفاداً من دليل الحكمة.

و معنى تفرّع ما ذكر على العموم الأفراديّ أنَّ الحكم المُتعلّق بالعموم الأفراديّ موضوع للعموم و الاستمرار الزمانيّين، و كذا للإطلاق المُستفاد من دليل الحكمة.

الثالث: لازم تفرّع ما ذكرنا على العموم الأفراديّ هو أنَّ التخصيص الوارد على


1- سورة المائدة 5: 1.
2- جامع المقاصد 4: 38. المحقّق الكركي: و هو المحقّق الثاني الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين الكركي، ولد في لبنان في قرية من قرى بعلبك تسمى كرك نوح سنة ثمانمائة و ثمان و ستين هجرية، و درس حتّى أحاط بعلوم أهل القبلة، ثمَّ هاجر إلى إيران في زمان الشاه إسماعيل الصفوي فجعله في أصفهان شيخاً للإسلام و عيّن له سنوياً سبعين ألف دينار ليصرفها في المدارس، و زاد شأنه في زمان طهماسب، توفي سنة 937 ه، و ترك آثاراً جليلة منها: جامع المقاصد، الرسالة الجعفرية، حواشي إرشاد الأذهان، رسالة الجمعة و غيرها. انظر لؤلؤة البحرين: 151/ 62، أعيان الشيعة 8: 208، رياض العلماء 3: 441.
3- فوائد الاصول 4: 535، حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 48 سطر 18.

ص: 191

العموم الأفراديّ رافع لموضوع العموم و الاستمرار الزمانيّين، و كذا لموضوع الإطلاق، فلا يكون مُخالفاً لظهورهما، فقوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» مُخصّص لقوله: «أكرم العلماء» و رافع لموضوع العموم الزمانيّ و الاستمرار المُستفادين من الدليل اللفظيّ، أو مُقدّمات الإطلاق، و ليس تخصيصاً لعمومه، أو تقييداً لإطلاقه، كما لو ورد «أكرم العلماء» و كانت طائفة منهم خارجة من العلماء موضوعاً.

و بالجملة: رفع موضوع العموم أو الإطلاق ليس مخالفاً لظهورهما، و ليست أصالة الإطلاق و العموم حافظة لموضوعهما.

و كذا لو ورد تخصيص على العموم الزمانيّ أو تقييد على إطلاق دليل العامّ لا يكون مُخالفاً لظهور العامّ؛ لأنَّ مفاد العامّ ليس إلّا دخول كلّ فرد تحت الحكم، و أمّا كونه دائماً أو في كلّ زمان أو مُستمرّاً بدليل الإطلاق، فليس شي ء منها بمفادٍ للعقد العموميّ الأفرادي.

و إن شئت قلت: إنَّ هاهنا عموماً فوقانيّاً و عموماً تحتانيّاً، لكلّ منهما ظهور، و التخصيص في كلّ منهما غير التخصيص في الآخر، و كذا حال العموم و الإطلاق، فإنَّ التخصيص في العموم غير التقييد في إطلاقه، فإذا ورد «أكرم العلماء» و اقتضت مُقدّمات الحكمة وجوب إكرامهم دائماً.

فتارة: يرد «لا تكرم الفسّاق منهم» فيكون مُخصّصاً للعموم، و مُفْنياً لموضوع الإطلاق، فيكون مخالفاً لأصالة العموم، لا أصالة الإطلاق.

و تارة: يرد «لا تكرم الفسّاق منهم يوم الجمعة» فيكون مُقيّداً لإطلاقه، لا مُخصّصاً لعمومه، فلا يكون مُخالفاً لأصالة العموم، بل لأصالة الإطلاق.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إذا ورد عامّ أفراديّ يتضمّن العموم أو الاستمرار الزمانيّ- بدلالة لغويّة أو بمقدّمات الحكمة- و ورد دليل مُخرج لبعض أفراده عن حكم

ص: 192

العموم في زمان مُعيّن، كقوله: «أكرم العلماء في كلّ يوم» أو «مُستمرّاً» و انعقد الإجماع على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة، أو قوله: «أوْفُوا بِالْعُقُود»(1) و انعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة، و شكّ بعد يوم الجمعة و بعد الساعة في حكم الفرد لمُخرج لا يجوز التمسّك بالاستصحاب مُطلقاً، سواء لوحظ الزمان أفراداً و على نحو العامّ الاصوليّ، أو ذكر القيد لبيان استمرار الحكم أو المُتعلّق، أو دلّت مُقدّمات الحكمة على ذلك.

أمّا إذا لوحظ الزمان مُستقلًاّ فواضح، لأنَّ خروج الفرد في يومٍ تصرُّف في العموم الأفراديّ التحتانيّ، فأصالة العموم مُحكّمة بالنسبة إلى التخصيص الزائد.

و أمّا إذا جعل مُستمرّاً أو دائماً أو أبداً ظرفاً للحكم؛ فلأنَّ خروج بعض الأفراد في بعض الأيّام ليس تخصيصاً في العموم الأفراديّ، بل تقييداً و تقطيعاً للاستمرار الذي قامت الحُجّة عليه، و تردّد أمره بين الأقلّ و الأكثر، و لا بدّ من الاكتفاء بالأقلّ، فيكون ظهور الاستمرار في البقيّة حجّة.

و إن شئت زيادة توضيح: فاعلم أَنَّه إذا ورد «أكرم العلماء» و لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى الزمان، و ورد دليل منفصل ب «أنَّ وجوب إكرام العلماء مُستمرّ» فحينئذٍ قد يدلّ دليل على عدم وجوب إكرام زيد، فيكون مخصّصاً لقوله: «أكرم العلماء» و لا يكون تصرّفاً في قوله: «وجوب إكرام العلماء مُستمرّ» لما عرفت في المُقدّمات أنَّ إخراج الموضوع عن الموضوعيّة ليس تصرّفاً في العموم أو الإطلاق.

و قد يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة، فيكون تصرّفاً في قوله:

«وجوب إكرامهم مُستمرّ» لا في قوله: «أكرم العلماء»؛ لأنَّ المفروض أن قوله: «أكرم العلماء» مُتعرّض للعموم الأفراديّ، لا الاستمرار الزمانيّ، فتقطيع زمان من وجوب


1- سورة المائدة 5: 1.

ص: 193

إكرامهم تصرّف فيما يتعرض للاستمرار الزمانيّ، فإذا كان ذلك في كلامٍ واحد و دليل مُتّصل كقوله «أكرم العلماء مُستمرّاً» ينحلّ إلى عموم أفراديّ يدلّ عليه الجمع المُحلّى باللّام، و إلى استمرار الحكم الذي يدلّ عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدّمات الحكمة في بعض المقامات، فيكون قوله: «لا تكرم زيداً» تخصيصاً للعموم الأفراديّ، و «لا تكرمه يوم الجمعة» تقطيعاً لاستمرار الحكم، و كما يكون العموم حجّة في البقيّة لدى العقلاء، يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجّة فيما عدا مورد التقطيع القطعيّ لديهم.

و ممّا ذكرنا: يعلم حال الإطلاق المُستفاد من دليل الحكمة، فلو فرض أنَّ قوله:

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» كما يدلّ بالعموم اللّغويّ على الشمول الأفراديّ يدلّ على الاستمرار الزمانيّ بمقدّمات الحكمة أو مُناسبة الحكم و الموضوع؛ بمعنى أنَّ لزوم الوفاء بكلّ عقدٍ مُستمرّ، لا من قبيل العامّ المجموعيّ، بل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان لا توجب سقوط المطلوبيّة بالنسبة إلى البقيّة، ثمّ دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد كالعقد الربويّ يكون مُخصّصاً للعموم الأفراديّ، و لا يكون مُقيّداً للإطلاق، بل رافعاً لموضوعه.

و أمّا لو دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقدٍ في زمان، كما لو انعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة مثلًا يكون هذا تقييداً لإطلاقه، لا تخصيصاً لعمومه؛ لأنَّ التخصيص عبارة عن إخراج ما يشمله العموم إخراجاً حُكميّاً، و العموم اللّغوي يدلّ على دخول تمام أفراد العقود في وجوب الوفاء من غير تعرّض لحالات الأفراد و أزمانها، و دليل المخرج لا يدلّ على خروج فرد من العامّ رأساً حتّى يكون تخصيصاً، بل يدلّ على خروجه في زمان، و هذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار، فإذا شكّ فيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشكّ في زيادة التقييد

ص: 194

لا التخصيص، فالمرجع هو أصالة الإطلاق.

فقول الشيخ الأعظم قدس سره: إنَّه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرج الفرد في ساعة أو بعد الساعة مُستمرّاً(1) خلط بين التخصيص و التقييد؛ لأنَّ خروج الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص، و خروجه في الزائد عن الساعة تقييد زائد يدفع بالأصل.

فإن قلت: فرق بين المُطلق في سائر المقامات و هاهنا؛ فإنَّ الأوّل يشمل ما تحته من الجزئيات في عرض واحد، و الحكم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج، فاستقرّ ظهور القضيّة في الحكم على كلّ ما يدخل تحته بدلًا أو استغراقاً، فإذا خرج مُنفصلًا شي ء بقي الباقي بنفس ظهور الأوّل المُستقرّ، و في المقام أنَّ الزمان في حدّ ذاته أمر واحد مُستمرّ ليس جامعاً لأفراد كثيرة، إلّا أن يقطّع بالملاحظة، و تُجعل كلّ قطعة ملحوظةً في القضيّة، و أمّا إذا لم يلحظ كذلك كما إذا كان الاستمرار بمُقدّمات الحكمة، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة مثلًا، فليس لهذا العامّ دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت؛ إذ لو كان داخلًا لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق (2).

قلت: نعم هذا ما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه.

و فيه أوّلًا: أنَّ المُطلق في سائر المقامات أيضاً لا يفيد الحكم للأفراد، و لا يكون الحكم بلحاظ الأفراد الخارجيّة استغراقاً أو بدلًا، و لم يكن المُطلق بعد تماميّة مُقدّمات الإطلاق كالعامّ مفاداً، بل ليس مُقتضى الإطلاق بعد تماميّة المُقدّمات، إلّا أنَّ ما اخذ في الموضوع تمام الموضوع للحكم، كما هو المُقرّر في محلّه (3).


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 395 سطر 17، مكاسب الشيخ الأنصاري: 242 سطر 31.
2- درر الفوائد: 571.
3- انظر مناهج الوصول 2: 231 و 232.

ص: 195

و ثانياً: أنَّ كون الزمان أمراً مُستمرّاً واحداً لا يلازم كون مُقتضى الإطلاق وحدة الحكم؛ بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقاً، فإنَّ لازم ذلك أن يكون موضوع الحكم كالعامّ المجموعيّ، و لازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه في زمان، مع أنَّ الواقع في أشباه «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خلاف ذلك، بل فرض مثل العموم المجموعيّ المُقتضي لانتفاء الحكم بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محطّ البحث، فحينئذٍ لو خرج جزء من الزمان لا مانع من التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة.

بل لنا أن نقول: إنَّ الزمان و إن كان واحداً مُستمرّاً تتقدّم أجزاؤه الفرضيّة بعضها على بعض، لكنّ الحكم المُستفاد من الإطلاق بالنسبة إلى أجزائه عرضيّ، لكن لا بمعنى كون مُقتضى الإطلاق شمول المُطلق للأجزاء، بل بمعنى لزوم الوفاء بالعقد مثلًا من غير تقييدٍ بزمان، فيجب الوفاء عليه بالنسبة إلى الأجزاء الغير الآتية في الحال أيضاً.

فإن قلت: إنَّ استمرار الحكم و دوامه فرع وجود الحكم؛ لأنَّ الحكم بمنزلة الموضوع بالنسبة إليه، فإذا قيل «الحكم مُستمرّ» أو يُستفاد ذلك من مُقدّمات الحكمة لا يُمكن التمسّك بظهور القيد أو أصالة الإطلاق لكشف حال الحكم؛ فإنَّه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم و هو محال، فالعموم الزمانيّ إذا كان مصبّه نفس الحكم يكون دائماً مشروطاً بوجود الحكم، و لا يمكن أن يدلّ قوله: «الحكم مُستمرّ في كلّ زمان» على وجود الحكم مع الشكّ فيه، و كذا لو كان استمراره مُقتضى مقدّمات الحكمة، فإنَّ الإطلاق أيضاً فرع الحكم، و مع الشكّ فيه لا يمكن أن يرجع إليه لكشف حاله؛ لأنَّه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم.

أ لا ترى أنَّه إذا قال: «أكرم العلماء» و شكّ في وجود العالم لا يمكن إثباته بعمومه؛ لأنَّ إثبات الموضوع بالحكم كتحقّقه به محال، كذلك إذا قال المولى: «الحكم مُستمرّ» أو كان ذلك مقتضى مقدّمات الحكمة.

ص: 196

و هذا بخلاف ما إذا كان مصبّ العموم الزمانيّ مُتعلّق الحكم كقوله: «أكرم العلماء في كلّ زمان» إذا كان ظرفاً للمُتعلّق، فإنَّ التمسّك بالعموم فيه في مورد الشكّ لا مانع منه؛ لأنَّ العموم الزمانيّ فيه تحت دائرة الحكم، كما أنَّه في الأوّل يكون فوق دائرة الحكم، و هذا هو المناط لجواز التمسّك و لا جوازه.

قلت: نعم هذا ملخّص ما فصّله بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه (1).

و فيه: أنَّ عدم جواز كشف الموضوع بالحكم و إثباته به إنّما هو فيما إذا تعلّق الحكم بموضوع مفروض الوجود، كالقضايا الحقيقيّة، مثل «أكرم العلماء» الذي كان حاصل مفاده «كلّ ما وجد في الخارج و كان عالماً يجب إكرامه»، فلا يمكن في مثل تلك القضايا إثبات الموضوع بالحكم.

و أمّا إذا كان المحمول بدلالة لغويّة يدل على وجود الحكم في جميع الأزمان استقلالًا، أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله، فلو قال المولى: «إنَّ وجوب إكرام العلماء مُستمرّ إلى الأبد» فقد يشكّ في أصل تعلّق وجوب الإكرام بالفسّاق مثلًا؛ أي يشكّ في التخصيص، فلا يكون قوله: «مُستمرّ» رافعاً لهذا الشكّ، بل الرافع له قوله:

«أكرم العلماء» و أمّا إذا شكّ في وجوب إكرامه في يوم كذائيّ بعد العلم بأصل وجوب الإكرام؛ أي يشكّ في استمرار الحكم، فيكون قوله: «حكمي مُستمرّ» كاشفاً عن استمراره و تحقّقه في اليوم المشكوك فيه.

و السرّ فيه: أنَّ أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول؛ أى قوله: «مُستمرّ» اخذ مفروض الوجود، كما فى القضايا الحقيقيّة، و أمّا بالنسبة إلى استمراره فلا يمكن أن يؤخذ كذلك لأنَّه يلزم أن ترجع قضيّة «حكمي مُستمرّ» إلى قضيّة ضروريّة بشرط المحمول؛ أي حكمي المفروض استمراره مُستمرّ، و هو كما ترى


1- فوائد الاصول 4: 536- 540.

ص: 197

و إن شئت قلت: إنَّ موضوع قوله: «الحكم مُستمرّ» هو طبيعة الحكم بنحو الإهمال، و يكون المحمول دالّاً على استمراره و بقائه، فإذا شكّ في مهملة الحكم الذي هو موضوع للقضيّة فلا يمكن إثباته بالمحمول؛ لأنَّ الحكم بنحو الاهمال اخذ مفروض الوجود، و أمّا إذا علم أصل وجود الحكم، و شكّ في بقائه و استمراره، فلا يكون ذلك شكّاً في الحكم، بل فى استمراره، و لا يكون استمرار الحكم موضوعاً لاستمراره بالضرورة، فما كشف عن حاله هو استمرار الحكم و هو ليس بموضوع، و ما هو موضوع و هو نفس الحكم ليس هو كاشفاً عنه و مُثبتاً له.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنَّ الحقّ هو التمسّك بإطلاق دليل العامّ أو عمومه كلّما شكّ في خروج ما زاد على القدر المُتيقّن عن حكم العامّ في الزمان المُتأخّر.

تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل و الأثناء

نعم قد يقال: إنَّ مُقتضى ما ذكرت من أنَّ العموم و الإطلاق الزمانيّين سواءً كانا مُستفادين من مثل قوله: «أكرم العلماء في كلّ زمان» أو «أوفوا بالعقود مستمرّاً» أو من مقدّمات الحكمة مُتفرّعان على العموم الأفراديّ، و أنَّ محطّ التخصيص الأفراديّ غير محطّ التخصيص و التقييد الزمانيين هو التفصيل بين ما إذا خرج في أوّل الزمان و شكّ في خروجه مُطلقاً أو في زمان، و بين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل زمان الخروج، فيتمسّك بالاستصحاب في الأوّل، و بعموم الدليل أو إطلاقه في الثاني؛ لأنَّ الأمر في الأوّل دائر بين التخصيص الفرديّ، و بين التخصيص الزمانيّ أو تقييد الإطلاق، فيكون من قبيل العلم الإجماليّ بورود تخصيص، إمّا في العامّ الفوقانيّ فلا يكون مخالفة للعامّ التحتانيّ، و إمّا في العامّ التحتانيّ فلا يكون مخالفة للعامّ الفوقانيّ، أو يكون

ص: 198

من قبيل العلم الإجماليّ بورود تخصيص في العامّ، مع بقاء الإطلاق على ظاهره؛ لأنَّ الإخراج الموضوعيّ ليس مُخالفة للإطلاق أو تقييداً في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم؛ لأنَّ تقييد إطلاق دليل العامّ ليس تخصيصاً حتّى يخالف أصالة العموم، فبعد تعارض الأصلين يتمسّك بالاستصحاب.

و يلحق به: ما إذا علم خروجه من الأثناء في الجملة، و لا يعلم أنَّه خارج مُطلقاً أو من الأثناء فقط، فيدور الأمر بين التخصيص الفرديّ و الزمانيّ، أو التخصيص و التقييد.

و أمّا الخارج من الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العامّ قبل زمان القطع بخروجه كخيار التأخير و خيار الغبن- بناءً على كون ظهور الغبن شرطاً شرعيّاً له- فيتمسّك بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصيص الفرديّ، بل الأمر دائر بين قلّة التخصيص و كثرته، أو قلّة التقييد و كثرته، فيؤخذ بالقدر المُتيقّن، و يتمسّك في المشكوك فيه بأصالة العموم أو الإطلاق.

و هذا التفصيل تقريباً عكس التفصيل الذي اختاره المُحقّق الخراسانيّ و شيخنا العلّامة في مجلس بحثه (1).

و يمكن أن يقال: إنَّ أصالة العموم جارية في العموم الأفراديّ الفوقاني، و لا تعارضها أصالة العموم في العامّ التحتانيّ الزمانيّ، و لا أصالة الإطلاق؛ لأنَّ التعارض فرع كون المُتعارضين في رتبة واحدة، و العموم الأفراديّ في رتبة موضوع العموم و الإطلاق الزمانيّين، ففي الرتبة المُتقدّمة تجري أصالة العموم من غير مُعارض، فيرجع التخصيص أو التقييد إلى الرتبة المُتأخّرة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنَّ العُقلاء في إجراء الاصول لا ينظرون إلى أمثال هذه


1- كفاية الاصول: 483 و 484، حاشية الآخوند على المكاسب: 108، درر الفوائد: هامش 572.

ص: 199

التقدّمات و التأخّرات الرتبيّة.

مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنَّ لزوم كون المُتعارضين في رتبة واحدة في التعارض بالعرض في حيّز المنع؛ فإنَّ العلم الإجماليّ بوقوع خلاف ظاهر إمّا في العامّ الفوقاني أو في العامّ التحتانيّ مُوجب لسقوط الأصلين العقلائيّين لدى العقلاء.

و يمكن أن يقال: إنَّه بعد ورود قوله: «أكرم العلماء في كلّ يوم» الذي هو الحُجّة على مفاده، إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد، و كان المُتيقّن منه هو عدمه يوم الجمعة مثلًا، فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق في غير يوم الجمعة رفع اليد عن الحُجّة من غير حُجّة لدى العقلاء، فالمورد من قبيل دوران التخصيص أو التقييد بين الأقلّ و الأكثر، فلا بدّ من الاكتفاء بالأقلّ في رفع اليد عن الحُجّة الفعليّة، و العلم الإجماليّ المُدّعى كالعلم الإجماليّ بين الأقلّ و الأكثر المُنحلّ عند العقلاء، و بالرجوع إلى الوجدان و بناء العُقلاء يظهر صدق ما ادّعيناه.

لكنّه أيضاً محلّ إشكال بل منع؛ لأنَّ مورد الأقلّ و الأكثر إنّما هو فيما علم ورود التخصيص على أحد العامّين، و شكّ في الأقلّ و الأكثر في أفراده، و أمّا مع العلم بورود التخصيص آناً في الفوقانيّ أو التحتانيّ فلا؛ لأنَّ أفراد كلٍّ منهما تباين الأفراد الاخرى، فلا معنى للأقلّ و الأكثر.

و التحقيق: عدم جريان أصالة العموم و الإطلاق في التحتانيّ؛ لما حقّقناه في العامّ و الخاصّ من أنَّ مورد جريانهما فيهما إذا شكّ في المُراد، لا فيما علم المُراد و دار الأمر بين التخصيص و التخصّص (1)، مُضافاً إلى أنَّ هذه الاصول إنّما جرت في مورد يترتّب عليها أثر عمليّ لا مُطلقاً.

فحينئذٍ نقول: إنَّ جريانهما في التحتانيّ غير ذي أثر؛ للعلم بخروج اليوم الأوّل


1- انظر مناهج الوصول 2: 270 و 271.

ص: 200

مثلًا، فلا يعقل جريانهما لإدخال ما علم خروجه.

و لو اجري الأصل لاثبات لازمه و هو ورود التخصيص على الفوقانيّ، فمع بطلانه في نفسه- لأنَّ إثبات اللّازم فرع إثبات الملزوم الممتنع في المقام- يلزم من إثبات اللّازم عدم الملزوم؛ لأنَّه موضوعه، و مع رفعه يرفع الحكم، فيلزم من وجوده عدم الوجود(1)، و أيضاً إنّا نعلم بعدم جريان الأصل في التحتانيّ إمّا لورود التخصيص به، أو بالفوقانيّ الرافع لموضوعه، فتدبّر جيّداً

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنَّ الحقّ في جميع الموارد ممّا هو مَحطّ البحث، هو الرجوع لدليل العامّ أو المُطلق، و لو فرض عدم جريان أصالة العموم و الإطلاق في المقام فالتمسّك باستصحاب حكم المُخصّص أو المُقيّد فرع وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها، و تحقّق سائر شرائط جريانه، و لا تأثير لدليل العامّ في جريانه و لا جريانه، فما ظهر من الشيخ الأعظم ممّا هو خلاف ذلك (2) و تبعه بعض أعاظم العصر(3) منظور فيه.

التنبيه التاسع المُراد من الشكّ في الأدلّة

المُراد بالشكّ المُقابل لليقين في أدلّة الاستصحاب، ليس الاحتمال المساوي بالنسبة إلى البقاء و اللّابقاء، بل هو خلاف اليقين.

أما أوّلًا: فلأنَّه موافق للعرف العامّ و اللّغة(4)، و أمّا كونه الاحتمال المُساوي مقابل


1- انظر كتاب البيع للإمام قدّس سرّه 4: 371.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 395 سطر 17
3- فوائد الاصول 4: 543.
4- انظر لسان العرب 7: 174- شكك.

ص: 201

الظنّ و غيره فهو اصطلاح خاصّ بين المنطقيّين (1)، و تبعهم غيرهم من أرباب الاصطلاح (2).

و أمّا ثانياً: فلأنَّ ذلك مُقتضى مقابلته باليقين في الأخبار و مُناسبة الحكم و الموضوع، و قد عرفت سابقاً(3) أنَّ المُراد باليقين فيها- ببعض المُناسبات المغروسة في أذهان العرف- هو الحُجّة، فمقابله اللّاحجّة، فكأنَّه قال: «لا ينبغي رفع اليد عن الحُجّة بغير الحُجّة»، و لقد ذكرنا في باب جواز استصحاب مُؤدّى الأمارات بعض المُؤيّدات و الشواهد لذلك فراجع (4).

هذا بناءً على ما ذكرنا(5) من أنَّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين و الشكّ.

و أمّا بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره: من أنَّ الموضوع هو الكون السابق و الشكّ اللّاحق (6)، و ما أفاده المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه: من أنَّ مفاد الأدلّة جعل المُلازمة بين الكون السابق و الكون اللّاحق (7) فلا مجال للاستدلال للمُدّعى بما ذكرناه؛ لعدم المقابلة بين الشكّ و اليقين تأمّل.

و كيف كان: فلا إشكال في أصل المسألة، و تدلّ عليه صحيحتا زرارة(8) كما أفاد الشيخ (9).


1- شرح الإشارات و التنبيهات 1: 12- قسم المنطق، شرح المطالع: 8.
2- كشف المراد: 236 و 237، شوارق الإلهام: 426 السطر ما قبل الأخير، شرح المواقف 1: 86 و 87.
3- تقدّم في صفحة 82.
4- تقدّم في صفحة 82 و 83.
5- تقدّم في صفحة 79 و 80.
6- رسائل الشيخ الأنصاري: 321 سطر 16.
7- كفاية الاصول: 460 و 461.
8- تقدّم تخريجه في صفحة 21- 22 و 40- 41.
9- رسائل الشيخ الأنصاري: 398 سطر 17.

ص: 202

و أمّا الاستدلال بالإجماع التقديريّ (1) فلا يرجع إلى محصّل؛ لأنَّ المناط في حجّية الإجماع هو الكشف عن دليل مُعتبر، و لا معنى للكشف التقديريّ أو الدليل المُعتبر التقديريّ.

و لقد تعرّضنا لعاشر التنبيهات في مبحث البراءة و هو استصحاب صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ مُفسد(2)، و كذا حاله فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المُركّب (3)، فلا داعي للتكرار.


1- نفس المصدر: 398 سطر 14.
2- انظر أنوار الهداية 2: 351- 359.
3- نفس المصدر 2: 380- 385.

ص: 203

خاتمة

اشارة

يعتبر في جريان الاستصحاب امور:

الأمر الأوّل وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها

اشارة

و توضيحه أنَّه لا إشكال في أنَّ اليقين و الشكّ و كذا الظنّ لا تتعلّق بالأُمور التصوّرية، بل لا يُمكن أن تتعلّق بها، فلا معنى لتعلّق اليقين بزيد و القيام و النسبة بمعانيها التصوّرية، بل المُتعلّق لها ليس إلّا مفاد القضايا، فمعنى اليقين بالطهارة ليس إلّا اليقين بأنَّ الطهارة موجودة على نعت الكون المحموليّ، أو أنّي متطهّر على نعت الكون الرابط، كما أنَّ معنى اليقين بوجود زيد أو بزيد اليقين بأنَّ زيداً موجود.

ص: 204

و بالجملة: لا يتعلّق اليقين و الشكّ إلّا بمفاد القضايا و الامور التصديقيّة.

فحينئذٍ: لا بدّ في الاستصحاب من قضيّة مُتعلّقة لليقين و الشكّ، و لا بدّ و أن يتعلّق الشكّ بعين ما تعلّق به اليقين، فلا بدّ من وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها موضوعاً و محمولًا، فإذا تعلّق اليقين بوجود زيد تكون القضيّة المُتيقّنة «زيد موجود» فإذا شكّ في أنَّ زيداً موجود في الزمان اللّاحق تستصحب نفس القضيّة المُتيقّنة؛ لوحدة الموضوع و المحمول، و إذا تعلّق اليقين بقيامه يمكن أن يكون الموضوع للأثر هو كون زيد قائماً، فتكون القضيّة المُتيقّنة «كونه قائماً» بنحو الهليّة المُركّبة، فإذا شكّ فيها تستصحب؛ لوحدة الموضوع و المحمول، و يمكن أن يكون الموضوع للأثر كون قيامه موجوداً على نعت الكون المحموليّ، فتكون القضيّة المُتيقّنة «انَّ قيامه كان موجوداً» فإذا شكّ فيها تستصحب.

الإشكال على الشيخ الأعظم في مسألة بقاء الموضوع

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنَّ المُستصحب هو نفس القضيّة لا موضوعها أو محمولها، و اتضح النظر في ظاهر كلام الشيخ الأعظم قدس سره:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ ما أفاده من أنَّ المُستصحب هو عارض الموضوع و الموضوع معروضه، و لا بدّ من إحراز بقائه (1)، فيه مسامحة ظاهرة؛ لأنَّ المُستصحب هو مُتعلّق اليقين، و ليس ذلك إلّا مفاد القضيّة، لا محمولها الذي هو عارض، فإذا تعلّق اليقين ب «أنَّ زيداً قائم» ليس المُستصحب قيام زيد؛ لأنَّ قيام زيد في تلك القضيّة ليس


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 399 سطر 21.

ص: 205

مُتعلّق اليقين، فإنَّ قيام زيد الذي هو عارض له أمر تصوّري غير مُتعلّق لليقين، فما هو المُتعلّق لليقين هو قضيّة «أنَّ زيداً قائم» على نحو الكون الرابط و الهليّة المُركّبة، ففي مثل صحّة الائتمام و شهادة الطلاق يكون موضوع الأثر كون الإمام أو الشاهد عادلًا على نحو الوجود الرابط و الهليّة المُركّبة لا عدالتهما، فقوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

معناه لا تنقض اليقين المُتعلّق بقضيّة بالشكّ فيها، فالمُستصحب نفس القضيّة لا المحمول العارض للموضوع.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس لازماً، بل ليس ممكناً في بعض القضايا؛ فإنَّ معنى إحراز بقاء الشي ء أنَّ العلم تعلّق بأنَّ هذا الشي ء باق؛ لما ذكرنا من أنَّ العلم إنّما يتعلّق بمفاد القضيّة لا بالمعاني التصوّرية، ففي مثل قولنا: «زيد موجود» أو «وجود زيد محقّق سابقاً» إذا اريد استصحابه في زمان الشكّ في وجوده لا يمكن إحراز بقاء موضوعه في زمان الشكّ؛ لأنَّ معناه أنَّ زيداً باقٍ في حال الشكّ يقيناً و هو كما ترى

و لا يمكن أن يقال: إنَّ المُحرز هو بقاؤه في التقرّر الذهنيّ (1)؛ لأنَّ الموضوع ليس زيداً المُقرّر في الذهن؛ لأنَّه لا يمكن أن يوجد في الخارج، فالموضوع في مثل تلك القضايا هو نفس زيد عارياً عن لحاظ شي ء معه، و غير مُتقيّد بالتقرّر الخارجيّ أو الذهنيّ، و هو لا يتّصف بالبقاء و المُحرزيّة إلّا بتبع الوجود الذهنيّ أو الخارجيّ.

فالإنصاف: أنَّ ما أفاده رحمه اللَّه في المُستصحب و الموضوع و بقائه تبعيد للمسافة، و إخلال بما هو شرط في الاستصحاب؛ إذ ليس شرطه- على ما ذكرنا من حقيقة المُستصحب- إحراز بقاء الموضوع، و لا نحتاج إليه فيه، بل الشرط وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها، فلا فرق فيه بين بسائط القضايا و مُركّباتها، فلا ملزم لاشتراطه بشرط


1- نفس المصدر السابق: 399 سطر 22.

ص: 206

غير لازم، بل مخلّ حتّى نقع في حيص بيص في مثل القضايا البسيطة.

و ممّا ذكرنا: يتّضح الدليل على الشرط المُتقدّم؛ و وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها؛ لأنَّ صدق نقض اليقين بالشكّ يتوقّف عليها.

تمسّك الشيخ الأعظم بالدليل العقليّ لمدّعاه و ما فيه

و أمّا ما أفاده الشيخ: من الاستدلال على ما ادّعاه بالدليل العقليّ، و هو أنَّه مع عدم العلم بتحقّق الموضوع لاحقاً إذا اريد إبقاء المُستصحب العارض له المُتقوّم به، فإمّا أن يبقى من غير محلّ و موضوع، و هو محال، و إمّا أن ينتقل إلى موضوع آخر و هو أيضاً محال؛ لاستحالة انتقال العرض، و إمّا أن يحدث مثله في موضوع آخر، و هذا ليس إبقاءً، فيخرج عن الاستصحاب (1).

ففيه ما عرفت: من أنَّ المُستصحب ليس العرض القائم بالموضوع، بل هو القضيّة المُتيقّنة، فإذا كان الأثر مُترتّباً على القضيّة التي مفادها الهليّة المُركّبة مثل «كون زيد عادلًا» ليس المتيقّن المُترتّب عليه الأثر عدالة زيد بنحو الهليّة البسيطة و الوجود المحموليّ، و إن كانت عدالة زيد بنحو الهليّة البسيطة أيضاً مُتيقّنة و مشكوكاً فيها، لكنّ استصحابها لا يثبت كون زيد عادلًا بنحو كان الناقصة إلّا بالأصل المُثبت، فإذا كان الأثر مُترتّباً على عدالة زيد بنحو الكون الرابط تكون القضيّة المُستصحبة المُترتّب عليها الأثر «أنَّ زيداً عادل» لا «عدالة زيد موجودة» و استصحاب القضيّة الثانية لإثبات «أنَّ زيداً عادل» من الأصل المُثبت.

فلو فرض جواز قيام العرض بذاته، و جواز انتقال العرض، و قامت العدالة في


1- نفس المصدر: 400 سطر 3.

ص: 207

زمان الشكّ بذاتها، أو انتقلت إلى موضوع آخر لا يوجب ذلك جواز ترتيب أثر عدالة زيد؛ أي «أنَّ زيداً عادل» بنحو الكون الرابط؛ ضرورة أنَّ الأثر المُترتّب على كون زيد عادلًا لا يترتّب على العدالة القائمة بالذات، أو القائمة بوجود عمرو.

نعم: لو فرض جواز قيام العرض بلا موضوع، و جواز انتقال العرض، و كانت نفس العدالة بوجودها المحموليّ موضوعاً للأثر يكون منشأ الشكّ في بقائها- زائداً على الشكّ في زوالها بالشكّ في سلب الموضوع أو المحمول- الشكّ في انتقالها أو بقائها بذاتها مع القطع بعدم موضوعها، و هذا أمر آخر.

و بالجملة: ما استدلّ به الشيخ من الدليل العقليّ- مضافاً إلى عدم وقعه في المقام الذي كان نظر العرف مُتّبعاً، و محطّ التعبّد الشرعيّ الذي يرجع إلى لزوم ترتيب الأثر- غير تامّ في نفسه.

و الظاهر أنَّ منشأ هذا الخلط إنّما هو الخلط في المُستصحب، و الذهاب إلى أنَّ المُستصحب نفس العرض القائم بالموضوع، و موضوعه هو معروضه، مع أنَّ المُستصحب على ما عرفت هو نفس القضيّة من غير فرق بين الهليّات البسيطة و المُركّبة.

و بالتدبّر فيما ذكرنا: يتّضح المقام مُنقّحاً، و ينحلّ الإشكال من أساسه في الهليّات البسيطة، و يتّضح لزوم وحدة القضية المُتيقّنة و المشكوك فيها من غير احتياج إلى التشبّث بالدليل العقليّ، حتّى يرد عليه ما أورده المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه: من أنَّ الاستصحاب عبارة عن وجوب ترتيب آثار العرض لا وجود العرض بلا موضوع، و المحال هو الثاني لا الأوّل (1).

و هذا الجواب و إن كان منظوراً فيه؛ لأجل ابتنائه على أنَّ المُستصحب هو العرض، لكنّه متينٌ في ذاته، فلو فرض أنَّ الأثر كان لنفس العدالة أو البياض بوجودهما


1- حاشية الآخوند على الرسائل: 230 سطر 9، كفاية الاصول: 486.

ص: 208

المحموليّ، و كان وجودهما مُتيقّناً لأجل تحقّقهما في موضوعهما، و شكّ في الزمان اللّاحق في بقائهما لأجل الشكّ في بقاء موضوعهما يجري الاستصحاب، و يترتّب عليهما آثار بقائهما في زمان الشكّ، و موضوع العدالة و البياض تكويناً غير موضوع القضيّة المُستصحبة، فإنَّ موضوع الثانية نفس العدالة و البياض، كما هو ظاهر بعد التدبّر فيما أسلفناه، بل للشارع أن يحكم بوجود العرض، و عدم المعروض في عام التشريع و التعبّد؛ لأنَّ معناه إيجاب ترتيب آثار وجود هذا و عدم ذاك و هو بلا محذور.

توجيه شيخنا العلّامة كلام الشيخ و ما يرد عليه

هذا: و لكن تصدّى شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه لدفع الإشكال عن الشيخ الأعظم فقال ما محصّله: أنَّ القضايا الصادرة من المُتكلّم إنشاءً كانت أو إخباراً مُشتملة على نسب ربطيّة مُتقوّمة بالموضوعات الخاصّة فقولنا: «أكرم زيداً» مُشتمل على إرادة إيقاعيّة مُرتبطة بإكرام زيد، و كذا «زيد قائم» مُشتمل على نسبة تصديقيّة قائمة بالموضوع و المحمول الخاصّ، و حال هذه النسب في الذهن حال الأعراض الخارجيّة في الاحتياج إلى المحلّ، و امتناع الانتقال.

فلو فرض أنَّ المُتيقّن هو وجوب الصلاة، فالجاعل للحكم في الزمان الثاني إمّا أن يجعل الوجوب للصلاة، و هو المطلوب من لزوم اتحاد الموضوع، و إمّا أن ينشئ هذه الإرادة الربطيّة من غير موضوع و هو محال، و إمّا أن يُنشئها لغير الصلاة و هو محال؛ لامتناع انتقالها، و إمّا أن ينشئ إرادة جديدة، و هذا ممكن لكن ليس إبقاء لما سبق.

و كذا الحال في الشبهة الموضوعيّة، فإنَّ المُتيقّن إذا كان خمريّة مائع فإمّا أن ينشئ النسبة التصديقيّة بلا محلّ، أو في محلّ غير المائع و هما محالان، أو ينشئ إرادة جديدة

ص: 209

فليس بإبقاء، أو ينشئ في نفس المائع و هو المطلوب (1) انتهى.

و فيه:- مضافاً إلى كونه مخالفاً لظاهر كلام الشيخ أو صريحه- أنَّ الاستصحاب عبارة عن حكم ظاهريّ مجعول بقوله

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

لترتيب آثار المُتيقّن في زمان الشكّ، فقد يوافق الواقع فيكون منجّزاً له، و قد يتخلّف عنه، فإذا وافقه فلا تكون في البين إلّا إرادة حتميّة مُتعلّقة بالصلاة و ليس في زمان الشكّ إرادة اخرى مُتعلّقة بالصلاة.

نعم: تكون هاهنا إرادة اخرى مُتعلّقة بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ، و إذا تخلّف الاستصحاب عن الواقع فليست إرادة مُتعلّقة بالصلاة بحسب الواقع، فلا مجال لهذه التشقيقات.

و إن شئت قلت: إنَّ الصلاة التي علم وجوبها سابقاً، و شكّ في بقائه إن كانت واجبة بحسب الواقع في زمان الشكّ فلا يمكن أن تتعلّق بها إرادة اخرى غير الإرادة المُتعلّقة بها، و إن لم تكن واجبة فإما أن تنتقل الإرادة المُتعلّقة بها في زمان اليقين إلى زمان الشكّ فهو محال، و إمّا أن يحدث فيها إرادة اخرى فهو ليس بإبقاء، و إمّا أن تبقى الإرادة بلا موضوع فهو مع كونه محالًا ليس بابقاء أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الإرادة الواقعيّة المُتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة لا تتخلّف عنها، و الاستصحاب لا يوجب بقاء تلك الإرادات،؛ فإنَّها إن كانت باقية لا يوجب الاستصحاب إلّا تنجيزها في زمان الشكّ، كما كانت منجّزة في زمان اليقين لأجل تعلّق اليقين بها، و إلّا فلا يمكن بقاؤها.

و بعبارة اخرى أنَّ الجاعل في الزمان الثاني لا يجعل الوجوب للصلاة، فإنَّ الصلاة إمّا واجبة في زمان الشكّ بحسب الواقع، فلا معنى لجعله ثانياً، فيكون


1- درر الفوائد: 577- 578.

ص: 210

الاستصحاب كسائر المُنجّزات مُنجّزاً له؛ بمعنى أنَّ المُكلّف إذا تركها مع الاستصحاب تصحّ عقوبته على ترك الوجوب الواقعيّ، و إن لم تكن واجبة فلا تصير واجبة بالاستصحاب، و لو فرض صيرورتها واجبة بالاستصحاب ليس الوجوب الاستصحابيّ إبقاء للوجوب المُتعلّق بها في الزمن السابق بالضرورة.

إنَّ الاستصحاب لا يجدي في إحراز موضوع القضيّة المُستصحبة

ثمَّ إنَّه بعد ما علم لزوم اتحاد القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها موضوعاً و محمولًا فلا بدّ من إحرازه وجداناً، كما في الهليّات البسيطة، فإذا كان زيد مسبوقاً بالوجود أو العدم فشكّ فيه يستصحب وجوده أو عدمه لإحراز الاتحاد وجداناً، و كالهليّات المُركّبة التي كانت موضوعاتها عرفاً نفس الماهية و يكون الوجود أو الحياة مثلًا فيها من الوسائط التعليليّة لعروض العوارض عليها مثل «زيد متنفّس» أو «متحرّك».

أو من قبيل القضايا الحينيّة، كقولنا: «زيد عادل» أو «عالم» حيث تكون العادليّة و العالميّة من أوصاف زيد عرفاً، و يكون الموضوع للقضيّة نفس زيد في حال الحياة و الوجود، فإذا علمنا أنَّ زيداً كان عالماً أو عادلًا أو قائماً، و شككنا في بقائها يجري الاستصحاب؛ لوحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها.

و توهّم أنَّ الموضوع «زيد الموجود» أو «زيد الحيّ»، فلا يكون محرزاً(1)، مردود بأنَّ الموضوع لدى العرف في مثل تلك القضايا لا يكون إلّا ماهيّة زيد و الحياة و الوجود من الجهات التعليليّة، أو اخذا على نحو القضيّة الحينيّة لدى العرف.


1- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 400 سطر 13.

ص: 211

نعم: لو فرض في الهليّات المُركّبة أخذ بعض الأوصاف في موضوعها قيداً، و تكون القضيّة وصفيّة مأخوذة فيها الأوصاف على نحو العنوانيّة و القيديّة كأن يقال: «إذا كان زيد الحيّ بما أنَّه حيّ عادلًا يجب إكرامه» أو «إذا كان زيد العادل بما أنَّه عادل أعلم يجوز أو يجب تقليده».

فحينئذٍ: تارة تكون تلك الأوصاف المأخوذة في الموضوع محرزة بالوجدان فلا إشكال في جريان الاستصحاب، فإذا احرزت حياة زيد وجداناً، و شكّ في كونه عادلًا- مع اليقين بعدالته السابقة- لا إشكال في جريانه، بأن يقال: «كان زيد الحيّ عادلًا، و شككت في بقاء عدالته» لاتحّاد القضيّتين.

و تارة تكون تلك الأوصاف مشكوكاً فيها، كما لو شككنا في المثال في حياة زيد و عدالته، ففي هذه الصورة هل يمكن إحراز موضوع القضيّة الوصفيّة بالاستصحاب أو لا؟ فموضوع البحث و محلّ النقض و الإبرام ما إذا كانت قضيّتان متيقّنتان يكون محمول إحداهما موضوعاً للُاخرى، فتستصحب القضيّة الاولى لإحراز موضوع القضيّة الاخرى لتستصحب القضيّة الثانية.

و بعبارة اخرى محلّ الكلام فيما كانت وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها غير محرزة، و أردنا إحرازها باستصحاب قضيّة اخرى يكون محمولها موضوعاً لتلك القضيّة، كما إذا ورد «أنَّ زيداً العالم بما أنَّه عالم إذا كان عادلًا يجب إكرامه» فشككنا في علمه و في عدالته، فأردنا إحراز علمه بالاستصحاب لإحراز موضوع القضيّة الثانية أي كونه عادلًا.

فنقول: تارة يكون الشكّ في القضيّة الثانية مُسبّباً عن الشكّ في الاولى، و تارة لا يكون كذلك، و على الأوّل تارة يكون التسبّب شرعيّاً، و تارة يكون عقليّاً، ففي جميع الفروض لا يمكن إحراز موضوع القضيّة المُستصحبة بإجراء استصحاب القضيّة الاولى إذا فرض أنَّ الوصف اخذ في موضوع القضيّة الثانية مفروض الوجود، كما هو محلّ

ص: 212

الكلام؛ لأنَّ الاستصحاب لا يحرز الموضوع وجداناً، و لا تكون وحدة القضيّتين من الآثار الشرعيّة حتّى تترتّب عليه، فاستصحاب كون زيد حيّاً لا تترتّب عليه إلّا الآثار الشرعيّة المُترتّبة على كونه حيّاً، كنفقة زوجته، و أمّا صيرورة الشكّ في عدالة زيد شكّاً في أنَّ زيداً الحيّ عادل حتّى تتّحد القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها، فليست أثراً شرعيّاً.

و كذا لو شككنا في تغيّر الماء، فلا يحرز استصحاب بقاء التغيّر موضوع استصحاب نجاسة المُتغيّر بما أنَّه مُتغيّر، و لو فرض أنَّ المُتغيّر بما أنَّه مُتغيّر موضوع للنجاسة، و يكون التسبّب شرعيّاً لأنَّ إحراز وحدة القضيّتين ليس من الآثار الشرعية.

نعم: باستصحاب التغيّر يترتّب على الماء أثره الشرعيّ أي النجاسة و هو غير استصحاب نجاسة المُتغيّر الذي كلامنا فيه.

فتحصّل ممّا ذكر: أنَّ إحراز وحدة القضيّتين ممّا لا يمكن بالاستصحاب مُطلقاً و لو في الآثار الشرعيّة و التسبّبات التعبّدية.

الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم

و إذ قد عرفت محلّ الكلام في المقام يتَّضح لك الخلط الواقع في كلام بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه؛ حيث تفصّى عن الإشكال بأنَّ الموضوع لجواز التقليد مُركّب من الحياة و العدالة، و هما عرضان لمحلّ واحد، فيجوز إحرازهما بالاستصحابين كما يجوز إحراز أحد جزئي الموضوع المُركّب بالاستصحاب، و الآخر بالوجدان، فإذا كان زيد العالم الحيّ موضوعاً لجواز التقليد، و شككنا في الوصفين فنستصحب كلا الوصفين للموضوع الذي هو زيد، و نرتّب الأثر على الموضوع المُحرز كلا جزأيه بالأصل (1) انتهى


1- انظر فوائد الاصول 4: 569- 570.

ص: 213

و هذا كما ترى خروج عن محلّ البحث؛ لأنَّ الكلام ليس في أنَّ الأوصاف المُتعدّدة لموضوع واحدٍ إذا كانت موضوعة لحكم شرعيّ هل يمكن إثباتها بالأصل أم لا؟ بل الكلام في أنَّه هل يمكن إثبات موضوع القضيّة المُستصحبة و وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها بالأصل أم لا؟ لأنَّ الشيخ الأعظم و بعد ما قال: إنَّ المُعتبر في الاستصحاب هو العلم ببقاء الموضوع و لا يكفي احتمال البقاء(1) أشكل عليه إحرازه بالاستصحاب إذا كان محتمل البقاء، ففصّل في الجواب بما فصّل (2)، فموضوع البحث ما إذا كان عنوانٌ موضوعاً للقضيّة المُستصحبة، و شكّ فيه، و اريد إثباته بالاستصحاب، فما أفاده المُحقّق المعاصر خارج عن موضوع البحث، كما أنَّ كلام الشيخ أيضاً لا يخلو من خلط فراجع و تدبّر.

هل يؤخذ الموضوع من العرف أولا؟

ثمّ بعد ما علم لزوم وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها، فهل الموضوع فيها يؤخذ من العقل، أو من الدليل، أو من العرف؟

و بعبارة اخرى أنَّ الميزان في وحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها أن يكون موضوعهما واحداً بحكم العقل و تشخيصه، أو بحكم العرف و تشخيصه، أو أنَّ الموضوع في القضيّة المشكوك فيها لا بدّ و أن يكون هو الذي اخذ في الدليل الدالّ على الحكم في القضيّة المتيقّنة؟

و الفرق بين الأخذ من العقل و غيره واضح؛ لأنَّ العقل قلّما يتّفق أو لا يتّفق أن


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 400 سطر 8 و 11.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 400 سطر 8 و 11.

ص: 214

لا يشكّ في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام، حتّى في باب النسخ؛ لأنَّ الشكّ في الحكم لا يكون إلّا من جهة الشكّ في تغيير خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع.

و جميع الجهات التعليليّة ترجع إلى الجهات التقييديّة لدى العقل، و تكون دخيلة في موضوعيّة الموضوع، فإذا ورد حكم على موضوع لا يكون تعلّقه عليه جُزافاً بحكم العقل، فلا بدّ من خصوصيّة في الموضوع لأجلها يكون مُتعلّقاً للحكم، و مع بقاء تلك الخصوصيّة الموجبة أو الدخيلة في المُتعلّق مع سائر الخصوصيّات لا يمكن رفع الحكم عن الموضوع، فإذا علم تعلّق حكم على موضوع، و شكّ في نسخه فلا يمكن أن يشكّ فيه مع العلم ببقاء جميع خصوصيّات الموضوع الدخيلة في تعلّق الحكم عليه: من القيود الزمانيّة و المكانيّة و غيرها؛ لأنَّ ذلك يرجع إلى الجزاف المُستحيل.

و كثيراً ما يقع الإشكال في الاستصحابات الموضوعيّة أيضاً، كاستصحاب الكرّية(1).

و أمّا الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل، فهو أنَّ الحكم في الدليل قد يثبت العنوان أو الموضوع المتقيّد بقيد؛ بحيث يكون الدليل قاصراً عن إثبات الحكم لغير العنوان أو غير مورد التقيد، فإذا ارتفع العنوان أو القيد يرتفع موضوع الدليل، كما إذا قال:

(التراب أحد الطهورين)

(2)، و «و عصير العنب إذا غلى يحرم»(3) فانطبق الحكم على الموضوع الخارجيّ، فيشار إلى تراب خارجيّ، أنَّه أحد الطهورين، و إلى رِطل من العنب أنَّ عصيره إذا غلى يحرم، فإذا صار التراب الخارجيّ آجراً أو خزفاً، و العنب زبيباً، و شككنا في طهوريّة الأوّل و حرمة عصير الثاني إذا غلى، فلا إشكال في قصور الأدلّة الواقعيّة عن شمول غير العناوين المأخوذة في موضوعها؛ لتغيّر موضوعها، فلا يمكن


1- نفس المصدر السابق: 397 سطر 10.
2- انظر التهذيب 1: 200/ 580، الوسائل 2: 991/ 1- باب 21 من أبواب التيمم.
3- انظر الوسائل 17: 223/ باب 2 من أبواب الأشربة المُحرّمة.

ص: 215

التمسّك بدليل طهوريّة التراب، و حرمة مغليّ عصير العنب لإثبات الحكم لهما، و لو بنينا على أخذ موضوع القضيّة المُتيقَّنة و المشكوك فيها من الدليل لا يجري الاستصحاب أيضاً لتغيّر الموضوع، و عدم اتحاد القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها.

و أمّا لو كان الاتحاد بنظر العرف، فجريانه ممّا لا مانع منه؛ لأنَّ هذا الآجر و الخزف الخارجيّين كانا معلومي الحكم قبل طبخهما، و بواسطة طبخهما لم يتغيّرا إلّا تغيّراً عَرَضياً، و كذا العنب الخارجيّ إذا يبس و صار زبيباً يكون عين الموضوع المُتيقّن، و ليست اليبوسة مُغيّرة له إلّا في حاله و عَرَضه.

و هذه التغيّرات العَرَضيّة لا تنافي وحدة الموضوع الخارجيّ، و إن لم تصدق معها على الموضوع العناوينُ الكلّيةُ، فالتراب غير الآجر بحسب العنوان الكلّي المأخوذ في الدليل، و العنب غير الزبيب كذلك، لكنّ التراب و العنب الخارجيّين إذا طبخا و يبسا لا يتغيّران إلّا في الحالات الغير المُضرّة ببقاء موضوع القضيّة المتيقّنة في زمان الشكّ.

فإذا قال المولى: «أكرم العلماء و الشعراء» و احتملنا كون العنوانين واسطة في الثبوت، و من كان عالماً و شاعراً في زمان يجب إكرامه مُطلقاً، فلا إشكال في أنَّ الدليل قاصر عن إيجاب الإكرام إذا صار العالم جاهلًا، و الشاعر غير شاعر، كما أنَّه لا إشكال في أنَّ موضوع الدليل غير باقٍ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيما إذا اخذ موضوع القضيّة المُستصحبة من الدليل.

و أمّا لدى العرف فيكون زيد و عمرو واجبي الإكرام؛ لكون الأوّل مصداق العالم؛ و الثاني مصداق الشاعر، و عنوان «العالم» و «الشاعر» و إن كانا مُختلفي المصاديق مع العنوان المقابل لهما، و لكنّهما من الحالات العارضة للأفراد الخارجيّة، و الموضوعات المُتحقّقة، فإذا زال عنوان العالميّة من زيد، و الشاعريّة من عمرو، و شكّ في إكرامهما؛ للشكّ في أنَّ العنوانين من الوسائط الثبوتيّة أو العروضيّة يجري الاستصحاب فيهما؛

ص: 216

لوحدة القضيّة المُتيقّنة و المشكوك فيها، لأنّك كنت على يقين من إكرام زيد و عمرو، لكون الأوّل مصداق العالم، و الثاني مصداق الشاعر، و مع زوال العنوانين نشكّ في بقاء وجوب إكرامهما (و لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ)، بخلاف ما لو اخذ موضوع القضيّة من الدليل؛ لعدم صدق عنوان «العالم» و «الشاعر» على غيرهما.

و قد اتّضح ممّا ذكرنا: أنَّ كلمات الشيخ الأعظم قدس سره (1) و من بعده من المُحقّقين (2) لا تخلو من خلط و خلل، حتّى كلمات شيخنا العلّامة رحمه اللَّه، مع أنَّ ما ذكرناه من إفادات مجلس بحثه.

كلامُ المحقّق الخراسانيّ و ما يرد عليه

فما أفاده المُحقّق الخراسانيّ رحمه اللَّه في المقام الأوّل: من أنَّ موضوع الدليل قد يكون بحسب المُتفاهم العرفيّ عنواناً، و لكنّ أهل العرف يتخيّلون- بحسب ارتكازهم و مناسبات الحكم و الموضوع- أنَّ الموضوع أعمّ من ذلك، لكن لا بحيث يصير ذلك الارتكاز و تلك المُناسبة موجبين لصرف الدليل عمّا هو ظاهره المفهوم عرفاً، كما إذا دلّ الدليل: على أنَّ العنب إذا غلى يحرم، و فهم العرف منه أنَّ الموضوع هو العنب بحسب الدليل، لكن يتخيّل بحسب ارتكازه تخيّلًا غير صارف للدليل أنَّ الموضوع أعمّ من الزبيب، و أنَّ العنبيّة و الزبيبيّة من حالاته المُتبادلة؛ بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب يكون عنده من ارتفاع الحكم عن موضوعه.

فالفرق بين أخذ الموضوع من العُرف و بين أخذه من الدليل بحسب ما ذكر: أنَّ موضوع الدليل هو العنوان حقيقة، و لكنّ العرف تخيّل موضوعاً آخر غير موضوع


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 401 سطر 9.
2- كفاية الاصول: 487 و 488، فوائد الاصول 4: 571- 586، درر الفوائد: 579 و 580.

ص: 217

الدليل، بل أعمّ منه، و يكون الموضوع الحقيقيّ غير باقٍ، و الموضوع التخيّلي باقٍ (1) انتهى محصّله بتوضيح منّا.

و هو كما ترى لأنَّ بقاء الموضوع التخيّلي لا يفيد في الاستصحاب، و لا يجوز أن يكون موضوع القضيّة المُتيقّنة ما يتخيّل العرف خلاف ما يدلّ عليه الدليل، فإذا دلّ الدليل على أنَّ العنب بخصوصه موضوع الحكم تكون القضيّة المُتيقّنة «أنَّ العنب إذا غلى يحرم» و يمكن تعلّق اليقين بأمر أعمّ من غير دلالة دليل، فضلًا عن دلالته على خلافه.

و لقد عدل بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه عمّا ذكر، و التزم: بأنَّ موضوع الدليل عين الموضوع العُرفيّ، و أنه لا وجه للمقابلة بينهما؛ فإنَّ مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف؛ لأنَّ المُرتكز العُرفيّ يكون قرينة صارفة عمّا يكون الدليل ظاهراً فيه ابتداءً، و لو كان الدليل ظاهراً بَدْواً في قيديّة العنوان، و كانت مُناسبة الحكم و الموضوع تقتضي عدمه، فاللّازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع؛ لأنّها بمنزلة القرينة المُتّصلة، فلم يستقرّ للدليل ظهور على الخلاف.

فالمقابلة بين العُرف و الدليل إنّما هي باعتبار ما يكون الدليل ظاهراً فيه ابتداءً، مع قطع النظر عن المُرتكز العرفيّ، و إلّا فبالآخرة يتّحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المُرتكز العرفيّ (2)، انتهى.

و لعلّه إليه يرجع كلام الشيخ الأعظم في ذيل الأمر الأوّل (3).

و هذا الكلام كما ترى خلاف مفروض كلام المُحقّق الخراسانيّ؛ لأنَّ مفروضه ما إذا لم تَصِر المُناسبة موجبة لصرف الكلام عن ظاهره.


1- حاشية الآخوند على الرسائل: 232 سطر 9، كفاية الاصول: 487 و 488.
2- انظر فوائد الاصول 4: 585 و 586.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 403 السطر الأخير.

ص: 218

و الحقّ في الجواب عنه أن يقال: إنَّ المُناسبة إن لم تَصِر موجبة لصرف ظاهر الكلام فلا يُعقل أن تكون القضيّة المُتيقّن موضوعها ما هو مرتكز العُرف تخيّلًا و إن صارت موجبة لذلك، فلا يرجع الفرق إلى محصّل.

هذا مُضافاً إلى أنَّ ما أفاده المُحقّق المعاصر رحمه اللَّه يرجع بالآخرة إلى العجز عن تصوّر الفرق بين الأخذ من العُرف و الدليل، و أنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا من أخذ الموضوع من العُرف أو الدليل لا تضح لك النظر في كلام هؤلاء الأعلام، و أنَّ ما أفاده هذا المُحقّق- من أنَّ المُقابلة بينهما في غير محلّها- منظور فيه، و أنَّ المُقابلة بينهما في محلّها.

المُراد من العُرف ليس العُرف المسامِح

ثمّ إنَّ المُراد بالعُرف في مقابل العقل ليس هو العرف المسامح، حتّى يكون المُراد بالعقل العرف الغير المسامح الدقيق؛ ضرورة أنَّ الألفاظ كما أنّها وضعت للمعاني النفس الأمريّة تكون مُستعملة فيها أيضاً عند إلقاء الأحكام، فالكرّ و الميل و الفرسخ و الدم و الكلب و سائر الألفاظ المُتداولة في إلقاء الأحكام الشرعيّة لا تكون مُستعملة إلّا في المعاني الواقعيّة الحقيقيّة، فالكرّ بحسب الوزن ألف و مائتا رِطل عراقيّ من غير زيادة و نقيصة، لا الأعمّ منه و ما يسامح العرف، و كذا الدم ليس إلّا المادّة السيّالة في العروق التي تكون بها الحياة الحيوانيّة، لا الأعمّ منها و ما يطلق عليه اسم الدم مُسامحة، و ليس التسامح العُرفيّ في شي ءٍ من الموارد ميزاناً لا في تعيين المفاهيم، و لا في تشخيص المصاديق.

بل المُراد من الأخذ من العُرف هو العُرف مع دقّته في تشخيص المفاهيم

ص: 219

و المصاديق، و أنَّ تشخيصه هو الميزان، مقابل تشخيص العقل الدقيق البرهانيّ.

مثلًا: لا شبهة في أنَّ الدم عبارة عن المائع المعهود- الجاري في القلب و العروق، و المسفوح منه- موضوع للحكم بالنجاسة، و ليس ما يتسامح فيه العرف و يطلق عليه الدم تسامحاً موضوعاً لها، لكنّ العرف مع كمال دقّته في تشخيص مصاديقه يحكم بأنَّ اللّون الباقي بعد غسل الثوب ليس بدم، بل هو لون الدم، لكنّ البرهان العقلي قام على امتناع انتقال العرض، فيحكم العقل لأجل ذلك بأنَّ اللّون هو الأجزاء الصغار من جوهر الدم.

و الكلب ليس عند العُرف إلّا الجثّة الخارجيّة، و الحياة من حالاتها، و ميتة الكلب كلب عندهم حقيقة، و عند العقل البرهانيّ لمّا كانت شيئيّة الشي ء بصورته، و صورة الكلب نفسه الحيوانيّة الخاصّة به، فإذا فارقت جثّته سلب منها اسم الكلب، و تكون الجثّة جماداً واقعة تحت نوع آخر غير النوع الكلبيّ، بل يسلب عنها اسم جثّة الكلب و بدنه أيضاً، و يكون إطلاق بدن الكلب على الجثّة المُفارقة لها الروح مُسامحة لدى العقل، كما هو المُقرّر في محلّه من العلوم العالية(1)، مع أنّها كلب لدى العرف حقيقة.

و بالجملة: ليس المُراد من كون تشخيص المفاهيم و مصاديقها موكولًا إلى العُرف هو التسامح العرفيّ، فالتسامح العُرفي في مقابل الدقّة العقليّة البرهانيّة، لا في مقابل دقّة العُرف.

نعم: قد يكون بين المُتكلّم و المخاطب في عُرف التخاطب و تعارف التكلّم بعض المُسامحات التي تكون مغفولًا عنها لديهم حال التكلّم، و يحتاج التوجّه إليها إلى زيادة نظر و دقّة، و مع الدقّة و النظرة الثانية يتوجّه المُتكلّم و المُخاطب إلى التسامح، ففي مثل


1- انظر الأسفار 2: 25 و ما بعدها و 8: 12 و 9: 47 و 56 و 186، الشواهد الربوبية: 261- 267.

ص: 220

ذلك يكون المعنى المتفاهم ابتداءً موضوعاً للحكم، فإذا قال المولى: «إذا قمت إلى الصلاة فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام» لا يفهم المخاطب من هذا الكلام إلّا استقبال المسجد بالنحو المُتعارف، و إن كانت الدقّة العرفيّة أيضاً تقتضي كونه أضيق ممّا هو المُتفاهم عرفاً، فالمناط في أمثاله هو التفاهم العرفي، لا الدقّة العقليّة إن قلنا: بأنَّ الميزان هو العُرف.

ثمّ إنَّه لا إشكال: في أنَّ الميزان في تشخيص جميع المفاهيم و مصاديقها و كيفيّة صدقها عليها هو العُرف؛ لأنَّ الشارع كواحد من العُرف في المخاطبات و المحاورات، و ليس له اصطلاح خاصّ، و لا طريقة خاصّة في إلقاء الكلام إلى المُخاطب، فكما يفهم أهل المحاورات من قول بعضهم: «اجتنب عن الدم» أو «اغسل ثوبك من البول» يفهم من قول الشارع أيضاً، و ليس مخاطبة الشارع مع الناس إلّا كمخاطبة بعضهم بعضاً، فإذا قال: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ»(1) لا يكون المُراد منه إلّا الغسل بالنحو المُتعارف، لا الغسل من الأعلى فالأعلى بنحو الدقّة العقليّة، فكما أنَّ العُرف محكّم في تشخيص المفاهيم محكّم في صدقها على المصاديق و تشخيص مصاديقها، فما ليس بمصداق عُرفاً ليس بمصداق للموضوع المحكوم بالحكم الشرعيّ.

فما أفاده المُحقّق الخراساني: من أنَّ تشخيص المصاديق ليس موكولًا إلى العرف (2) و تبعه غيره (3) ليس على ما ينبغي، فالحقّ ما ذكرنا تبعاً لشيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه (4).


1- المائدة 5: 6.
2- كفاية الاصول: 77، حاشية الآخوند على الرسائل: 212، و صريح الآخوند قدّس سرّه ذهاب بعض السادة- و هو الميرزا الشيرازي قدّس سرّه ظاهراً- إلى هذا القول أيضاً.
3- فوائد الاصول 4: 494 و 574 نهاية الأفكار 4: 189، نهاية الدراية 1: 101 سطر 7.
4- درر الفوائد: 579 و 580.

ص: 221

الأمر الثاني أنَّ أخبار الباب هل تختصّ بالاستصحاب أو تعمّ غيره؟

اشارة

ممّا يُعتبر في جريان الاستصحاب هو أن يكون اليقين بالقضيّة المُستصحبة فعليّاً؛ بأن يكون حال إجراء الأصل مُتيقّناً لوجود المُستصحب في السابق، حتّى يكون شكّه في البقاء، و هذا ممّا لا إشكال فيه و لا كلام.

إنّما الإشكال في أنَّ الأخبار الواردة في الباب هل يكون مفادها مُختصّاً بالاستصحاب أو يعمّ قاعدة اليقين، أو يعمّ مع ذلك أمراً ثالثاً، و هو ترتيب آثار البقاء مع الشكّ في الحدوث بمُجرّد تعلّق اليقين بحدوثه و زواله؟

و بعبارة اخرى أنَّ الكبرى الكليّة الواردة في الأخبار كما تشمل عدم نقض اليقين المُتحقّق فعلًا المُتعلّق بالأمر السابق مع الشكّ في بقائه- و هو المُعبّر عنه بالاستصحاب- تشمل قاعدة اليقين، و هي ما إذا تعلّق اليقين بأمر في زمان، ثمّ زال اليقين، و شكّ في كونه في ذلك الزمان مُتحقّقاً أو لا، فتترتّب عليه آثار المُتيقّن في ذلك الزمان، و تشمل أيضاً أمراً ثالثاً، و هو ما إذا تعلّق اليقين بأمر سابق، و شكّ في بقائه مع زوال اليقين، فيحكم بترتّب آثار البقاء مع سراية الشكّ إلى اليقين.

و الكلام يقع في مقامين:

أحدهما: في إمكان الجمع بين القاعدتين أو القواعد الثلاث في مثل قوله

(لا ينقض اليقين بالشك)

أو قوله:

(من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه)

(1).

و ثانيهما: في أنَّ الظاهر من أخبار الباب ما ذا؟


1- الخصال: 619، الوسائل 1: 175/ 6- باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 222

أمّا الكلام في أوّل المقامين: فهو أنَّ الحقّ إمكان الجمع بين القواعد الثلاث، فضلًا عن الجمع بين القاعدتين، و ما جعل محذوراً فيه ممكن الدفع.

إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين

امّا ما أفاده الشيخ الأعظم فمُحصّله: أنَّ المناط في القاعدتين مُختلف غير ممكن الجمع في لحاظٍ واحدٍ؛ لأنَّ مناط الاستصحاب اتحاد مُتعلّق اليقين و الشكّ مع قطع النظر عن الزمان، و مناط القاعدة اتحاد مُتعلّقهما من جهة الزمان، و لا يمكن الجمع بينهما في مثل قوله:

(فليمض على يقينه)

؛ لأنَّ المُضيّ في الاستصحاب بمعنى ترتيب آثار البقاء من غير نظر إلى الحدوث، و في القاعدة بمعنى ترتيب آثار الحدوثِ من غير نظر إلى البقاء، و هما نظران متخالفان، و معنيان غير مجتمعين في الإرادة و اللّحاظ.

و لو قيل: بأنَّ المُضيّ معنى واحد، و هو فرض الشكّ كعدمه، و يختلف باختلاف المُتعلّق، فالمضيّ مع الشكّ في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث، و مع الشكّ في البقاء بمعنى الحكم به.

يقال: هذا يصحّ إذا كان هنا فردان من اليقين، يكون أحدهما مُتعلّقاً بالحدوث، و الآخر بالبقاء، و ليس كذلك؛ لأنَّ اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ليس فردين من اليقين، بل هو يقين واحد، و يكون تعدّده بالاعتبار، و يكون عموم أفراد اليقين حقيقة باعتبار الامور الواقعيّة، كعدالة زيد و فسق عمرو، لا باعتبار ملاحظة اليقين بشي ء واحد حتّى ينحلّ اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلّق بكلّ منهما شكّ.

فحينئذٍ: إن اعتبر المُتكلّم في كلامه الشكّ في هذا المُتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة فالمضيّ على اليقين حكم باستمراره، و إن اعتبره مُقيّداً فالمضيّ هو الحكم

ص: 223

بالحدوث، من غير تعرّض للبقاء، و هذان لا يجتمعان في الإرادة(1)، انتهى ملخّصاً.

أقول: يرجع محصّل كلامه إلى أنَّ اليقين إذا كان بالنسبة إلى عدالة زيد في قاعدة اليقين و الاستصحاب من قبيل العموم بالنسبة إلى أفراده يمكن أن يشملهما، و إن كان المضيّ بالنسبة إلى كلّ فرد ينتج أمراً مغايراً للفرد الآخر، لكن ليس الأمر كذلك؛ لأنَّ عدالة زيد أمر واحد في القاعدتين، و إنّما اختلافهما بالاعتبار، و ليست الكثرة الاعتباريّة من أفراد العامّ حتّى يشملهما، بل لا بدّ من اعتبارهما، و لا يجتمع الاعتباران في لحاظٍ واحدٍ.

تقرير بعض الأجلّة كلام الشيخ و إقامة البرهان عليه

و نسج على هذا المنوال بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه، و أقام برهاناً على عدم تغاير اليقين في الاستصحاب و القاعدة بحسب الأفراد، فقال:

إنَّ تغاير أفراد اليقين إنَّما يكون بتغاير مُتعلّقاته، كاليقين بعدالة زيد و قيام بكر، و إلّا فاليقين من حيث نفسه لا يتعدّد و مُتعلّق اليقين في القاعدة و الاستصحاب غير مُتعدّد؛ لأنَّ مُتعلّقه في كلّ منهما هو عدالة زيد، و عدم انحفاظ اليقين في القاعدة دون الاستصحاب لا يوجب التغاير الفرديّ؛ فإنَّ الانحفاظ و عدمه من الطوارئ اللّاحقة لليقين بعد وجوده، و ذلك لا يقتضي تعدّد أفراد اليقين مع وحدة المُتعلّق؛ بداهة أنَّ تعدّد أفراد الطبيعة الواحدة إنّما يكون لأجل اختلاف المُشخّصات الفرديّة حال وجود الأفراد، و الخصوصيّات اللّاحقة بعد الوجود لا تكون مُفرِّدة(2) انتهى.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 404 و 405.
2- انظر فوائد الاصول 4: 588.

ص: 224

الجواب عنهما

و أنت خبير بما في كلامهما؛ لأنَّ اليقين المُتعلّق بشي ءٍ واحد من شخص واحد في زمان واحد و إن كان أمراً واحداً، كيقين زيد وقت ظهر يوم السبت بعدالة عمرو في ظهر يوم الجمعة و ليس اختلافه من حيث التقيّد و اللّاتقيّد، و من حيث الانحفاظ و اللّاانحفاظ من المُشخّصات و المُكثّرات الفرديّة.

و لكن ليس خطاب

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

مُتوجّهاً إلى شخص واحد مع تلك القيود، بل هو خطاب مُطلق شامل لكلّ يقين من كلّ مُتيقّن، تعلّق بكل مُتعلّق و شكّ فيما تيقّن، سواء كان شكّه سارياً كقاعدة اليقين، أولا كالاستصحاب.

فلو فرضنا عدّة أفراد تيقّن بعضهم بعدالة زيد، و بعضهم بفسق عمرو، و بعضهم بقيام بكر، ثمّ شكّت الطائفة الاولى في عدالة زيد بنحو الشكّ الساري، و الطائفة الثانية في فسق عمرو بنحو الشكّ في البقاء، و الثالثة في قيام بكر بنحو الشكّ الساري، مع الشكّ في قيامه في الزمان المُتأخّر، فلا إشكال في كون يقين كلّ من هذه الأفراد فرداً من عنوان اليقين، سواء في ذلك الطائفة التي تعلّق يقينها بشي ءٍ واحد كعدالة زيد مثلًا، أو الطائفة التي تعلّق يقينها بأشياء مُختلفة، أمّا الثانية فواضح، و أمّا الاولى؛ فلتعدّد المحلّ القائم به اليقين، فاليقين القائم بنفس كلّ إنسان فرد من اليقين غير الفرد الآخر القائم بنفس شخص آخر، و إن كان مُتعلّقهما شيئاً واحداً.

وليت شعري: أنَّه ما الداعي إلى فرض يقين واحد من شخص واحد بالنسبة إلى مُتعلّق واحد، حتّى لا يكون التعدّد إلّا اعتباريّاً؟! بل لا معنى لاعتبار ذلك، بل لا يعقل؛ لأنَّ مورد قاعدة اليقين لا يعقل أن يكون مُتداخلًا مع مورد الاستصحاب، فلكلٍّ منهما أفراد خاصّة بهما؛ فإنَّ المُعتبر في الاستصحاب بقاء اليقين،

ص: 225

و في القاعدة زواله.

فحينئذٍ نقول: إنَّ المأخوذ في الكبرى في أخبار الباب هو عنوان اليقين و الشكّ، و النهي عن نقض الأوّل بالثاني، و هذه الكبرى الكليّة لها مصاديق كثيرة، جملة منها تكون من قبيل الشكّ الساري، و جملة منها لا من قبيله، فمن تيقّن بعدالة زيد يوم الجُمعة ثمّ شكّ في عدالته في ذاك اليوم يمكن أن يكون مُخاطباً بقوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

و من شكّ في بقاء عدالته يوم السبت مع اليقين بعدالته يوم الجمعة يمكن أن يُخاطب بهذا الخطاب من غير استعمال لفظ اليقين أو الشكّ أو النقض أو النهي في معنيين، و من دون لحاظ أمرين مُختلفين.

بل المُتكلّم بقوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

لا يعقل أن يلاحظ في إلقاء هذه الكبرى غير عنوان الشكّ و اليقين المأخوذين في موضوع حكمه، و غير مُتعلّق نهيه، فلا تكون مُتعلّقات اليقين و الشكّ مُطلقاً منظوراً إليها، فتشمل جميع مصاديق اليقين و الشكّ، كانت من قبيل قاعدة اليقين، أو الاستصحاب، أو القاعدة الثالثة التي تكون من جهة كقاعدة اليقين، و من جهة كالاستصحاب؛ لأنَّ عنوان اليقين و الشكّ شامل لكلّ شكّ و يقين، لا بجهات الكثرة، بل بجهة اليقين و الشكّ، و معنى المضيّ و عدم النقض ليس إلّا ترتيب الآثار تعبّداً، و فرض الشكّ كلا شكّ، أو فرض تحقّق اليقين في عالم التشريع، و لا يلزم منه محذور.

هذا لو فرضت الكبرى في الاستصحاب كليّة ذات مصاديق؛ فإنَّ الكلّي أيضاً يشمل كثرة الأفراد لا بخصوصيّاتها المُمتازة، و أمّا لو كانت الكبرى من قبيل المُطلقات- كما هو كذلك- فالإشكال أو أوهن؛ لأنَّ الحكم فيها على نفس العناوين من غير نظر إلى الخصوصيّات، كما هو المُقرّر في محلّه (1).


1- انظر مناهج الوصول 2: 231 و 232.

ص: 226

كلام العلّامة الحائري قدّس سرّه و جوابه

و ممّا ذكرنا يتَّضح النظر فيما أفاده شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه: من أنَّ المُتكلّم بقضيّة «إذا تيقّنت بشي ءٍ ثمّ شككت فيه» إمّا لاحظ الشي ء المُتيقّن مُقيّداً بالزمان، و إمّا لاحظ الزمان ظرفاً للمُتيقن، و إمّا أهمل ملاحظة الزمان رأساً، و لا تخلو القضيّة عن تلك الحالات الثلاث، و ينطبق بعضها على قاعدة اليقين، و بعضها على الاستصحاب، و لا يمكن الجمع بين تلك الحالات؛ أي ملاحظة الزمان قيداً و ظرفاً، أو ملاحظته و عدم ملاحظته (1)، انتهى مُلخصاً.

و ذلك لأنَّ المُتعلّق مُطلقاً لم يؤخذ في الكبرى الكليّة، و لم يلاحظ مطلقاً حتّى يقال: إنَّ يوم الجمعة أخذ قيداً أو ظرفاً، و معنى كون اليقين طريقاً في موضوع الكبرى ليس لحاظ المُتيقّنات باليقين، فإنَّ اليقين المأخوذ في الكبرى عنوان لليقين الطريقيّ الذي للمُكلّفين، لا طريق إلى المُتعلّقات، ففي مثل قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

لا ينقدح في ذهن المُتكلّم غير نفس تلك العناوين المأخوذة فيه، و لا عين و لا أثر لمتعلّق اليقين و الشكّ، حتّى يطالب مُتعلّق هذا المتعلّق- مثل يوم الجمعة- بأنَّه اخذ قيداً أو ظرفاً.

فقوله: (

لا تنقض

) كقوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) يشمل كلّ عقد و لو كانت مُتخالفة الاعتبار، و غير ممكنة الجمع في اللّحاظ، لكنّها مُجتمعة في عنوان العقد، ف (لا تنقض) نهي عن نقض كلّ يقين بالشكّ، و إن كانت مصاديقها باعتبار المُتعلّقات مُمتنعة اللّحاظ في لحاظٍ واحدٍ.

و ممّا ذكرنا: يظهر الإشكال في ما جُعِل محذوراً آخر للجمع بين القاعدتين في هذه


1- درر الفوائد: 584.
2- سورة المائدة 5: 1.

ص: 227

الكبرى: و هو أنَّ اليقين في الاستصحاب اخذ طريقاً، و يراد منه المُتيقّن، و معنى عدم نقض اليقين في الاستصحاب أنَّ ما ثبت يدوم، و يكون اليقين طريقاً لإحرازه، فذكر اليقين في القضيّة على هذا التقدير ليس إلّا لكونه طريقاً لإحراز مُتعلّقه، من دون أن تكون له مدخليّة في الحكم، فيكون مفاد القضيّة على هذا التقدير: أنَّه إذا كان شي ء موجوداً في السابق و احتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال، و أمّا اليقين في القاعدة اخذ موضوعاً لوجوب المضيّ، و ملحوظاً بذاته، فالموضوع في الاستصحاب هو المُتعلّق، و في القاعدة نفس اليقين، و لا يمكن الجمع بين هذين اللّحاظين (1).

و قد يُقرّر ذلك: بأنَّ طريقيّة اليقين في القاعدة لا يمكن بعد تبدّله بالشكّ، و أمّا في الاستصحاب فيكون طريقاً؛ لكونه موجوداً(2).

أقول: قد ذكرنا سابقاً(3) في باب لزوم فعليّة الشكّ و اليقين في الاستصحاب أنَّ اليقين الطريقيّ اخذ موضوعاً، و أنَّ الظاهر من الأدلّة أنَّ العناية فيها بأنَّ اليقين لكونه أمراً مُبرماً مُستحكماً لا ينبغي أن ينقض بالشكّ، فالموضوع في الاستصحاب هو اليقين الطريقيّ، و كذا في القاعدة، فعنوان اليقين المأخوذ في القاعدتين مرآة لليقين الطريقيّ لكلّ مُكلّف كان على يقين فشكّ.

و قد ذكرنا سالفاً(4): أنَّ النقض لا يتناسب إلّا مع اليقين الطريقيّ الذي يكون في اعتبار العقلاء كأنَّه حبل مشدود أحد جانبيه على المُتيقّن، و الآخر على المُتعلّق، فلا إشكال في أنَّ اليقين في الاستصحاب هو اليقين الطريقيّ، لكنّ هذا اليقين الطريقيّ اخذ موضوعاً.


1- انظر فوائد الاصول 4: 589.
2- نفس المصدر.
3- تقدّم في صفحة 79.
4- تقدّم في صفحة 32 و 33.

ص: 228

فالقول: بأنَّ معنى (لا تنقض) أنَّه إذا كان شي ء موجوداً و احتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال بعيد عن الصواب، و أجنبيّ عن أخبار الباب، و كذا اليقين في القاعدة بما أنَّه طريق إلى الواقع اخذ موضوعاً، لا بما أنَّه صفة قائمة بالنفس.

و قوله (1): أنَّ اليقين في القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيّته بعد تبديله إلى الشكّ.

فيه: أنَّ اليقين في ظرف وجوده كان كاشفاً عن مُتعلّقه، و المُطابقة للواقع و كون الكشف كشفاً صادقاً لا دخل لهما في ذلك.

فلا إشكال في أنَّ قوله: «من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ بعده في عدالته يوم الجمعة» لا يريد باليقين فيه إلّا ما يريد بقوله: «من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشكّ في بقائها يوم السبت» من غير تفاوت في النظر و الاعتبار.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الجمع بين القاعدتين بل القواعد الثلاث في قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

ممّا لا مانع منه.

فما قد يقال: من عدم إمكان الجمع بينهما في اللّحاظ من جميع الجهات- لا من من جهة اليقين، و لا من جهة المُتيقّن، و لا من جهة النقض، و لا من جهة الحكم (2)- ممّا لا يرجع إلى محذور بعد التأمّل فيما ذكرنا.

و قد يقال في وجه الامتناع: إنَّ إرجاع الضمير في الاستصحاب إلى ما تعلّق به اليقين يكون بنحو من المُسامحة؛ لعدم وحدة متعلّقيهما دقّة، بخلاف الإرجاع في القاعدة، فهما نظران مُختلفان لا جامع بينهما(3).


1- أي المحقّق النائيني قدّس سرّه في فوائد الاصول 4: 589.
2- نفس المصدر.
3- مقالات الاصول 2: 172 سطر 19، نهاية الأفكار 4: 242.

ص: 229

و فيه:- مضافاً إلى أنَّ الكبرى هي عدم نقض اليقين بالشكّ من غير نظر إلى المُتعلّقات، و اختلاف الخصوصيّات فيها غير منظور، و العناوين قابلة للانطباق على كلّ من الخصوصيّتين و لو لم يكن اجتماعهما في اللّحاظ- أنَّ الجمع بين المصداق الحقيقيّ و المُسامحيّ التأوليّ بمكان من الإمكان؛ لما حقّق في محلّه: من أنَّ الادّعاء في المجازات إنّما هو في تطبيق العناوين الحقيقيّة على الأفراد، لا في الاستعمال (1)، مع أنَّ المقام أجنبيّ عن ذاك المضمار.

و أمّا المقام الثاني: أي مقام الاستظهار من الأدلّة، فلا ينبغي الإشكال في أنَّ أخبار الباب كلّها تحوم حول كبرى كلّية هي

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

فالمجعول هي هذه الكبرى مع اختلاف التعبيرات، و لا إشكال في أنَّ الظاهر منها كون اليقين مُتحقّقاً فعلًا، فمعنى قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

أنَّ اليقين المُتحقّق بالفعل لا ينقض و لا يشمل اليقين الزائل، و هذا ممّا لا ريب فيه.

نعم يمكن أن يتوهّم: أنَّ الظاهر من رواية «الخصال» هو القاعدة لأنَّ قوله:

(من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه)

ظاهر في أنَّ اليقين كان مُتحقّقاً، فزال و قام مقامه الشكّ (2)، لكنّه فاسد، فإنَّ هذا التعبير عين التعبير الوارد في صحيحة زُرارة الثانية و هو قوله:

(لأنّك كنت على يقينٍ من طهارتك فشككت)

مع أنّها واردة في مورد الاستصحاب.

و السرّ في هذا التعبير: هو أنَّ الغالب أن يكون حصول الشكّ في البقاء مُتأخّراً عن اليقين بالحدوث، و قد مرّ في ذيلها عند ذكر أخبار الباب ما يؤيّد ذلك (3)، مع أنَّ في


1- انظر مناهج الوصول 1: 104- 107.
2- هذا التوهم مُستفاد من رسائل الشيخ قدّس سرّه: 333 سطر 10 فإنَّ دعوى اختلاف زمان الوصفين مع اتّحاد متعلّقهما مساوق لزوال اليقين و قيام الشكّ مقامه.
3- تقدّم في صفحة 57 و 58.

ص: 230

ذيلها شهادة بأنَّ المجعول فيها عين المجعول في صحيحتي زُرارة.

و بالجملة: لا تكون أخبار الاستصحاب دالّة على القاعدة فضلًا عن القاعدتين، بل ليس عليها دليل رأساً.

و توهّم: كون أخبار التجاوز و الفراغ دالّة عليها(1) في غير محلّه؛ لأنَّ مفادها غير القاعدة موضوعاً و ملاكاً، كما سيجي ء(2).

الأمر الثالث تقدّم الأمارات على الاستصحاب

اشارة

ممّا يُعتبر في الاستصحاب أن يكون المُستصحب مشكوك البقاء، فلا يجري مع إحراز بقائه أو ارتفاعه، و هذا مع الإحراز الوجدانيّ واضح.

و إنّما الكلام فيما إذا قامت أمارة مُعتبرة شرعيّة أو عقلائيّة ممضاة شرعاً على طبق الحالة السابقة، أو على خلافها؛ حيث إنَّ الشكّ الوجدانيّ لا يزول معه، و لكن لا إشكال في تقدّمها عليه، و إنّما الإشكال في وجه التقدّم، و أنه هل هو لأجل الحكومة أو الورود أو غيرهما؟

فلا بدّ قبل الورود في المقصود من بيان الفرق بين تلك العناوين التي يمكن أن تكون وجه التقدّم، و بيان الضابط فيها، و قد مرّ شطر من الكلام فيها في مباحث البراءة(3) و نزيدك هاهنا إيضاحاً.

فنقول: لم ترد تلك العناوين و لا شي ء منها في لسان دليل أو معقد إجماع، حتّى


1- انظر درر الفوائد: 588.
2- يأتي في صفحة 312 و ما بعدها.
3- انظر أنوار الهداية 1: 370 و ما بعدها و 2: 14 و 15.

ص: 231

نبحث فيها و في حدودها، و إنّما هي اصطلاحات في لسان الاصوليّين (1)، و بعضها في ألسنة مُتأخّري المُتأخّرين (2)، و قد جعلها الشيخ الأعظم تحت الضابط، و تعرَّض لها في شتات إفاداته، خصوصاً في أوّل باب التعادل و التراجيح (3).

و الذي يمكن أن يقال: إنَّه قد نرى أنَّ العقلاء و أرباب المحاورات قد يُقدّمون دليلًا على دليل من غير ملاحظة النسبة بينهما، و من غير ملاحظة أظهريّة أحدهما من الآخر، و قد يتوقّفون في تقديم أحد الدليلين، مع كون النسبة بينهما كالسابقة.

مثلًا: لو ورد «يجب إكرام العلماء» و ورد في دليل مُنفصل «يحرم إكرام الفسّاق» و عرض الدليلان على أهل المحاورات و العرف لرأيتهم يتوقّفون في الحكم، و لا يحاولون ترجيح أحدهما على الآخر، و لو بدّل قوله: «يحرم إكرام الفسّاق» بقوله: «ما أردت إكرام الفسّاق» أو «ما حكمت بإكرامهم» أو «ما جعلت إكرامهم» أو «لا خير في إكرامهم» أو «لا صلاح في إكرامهم» أو «لا أرى إكرامهم» أو «ليس منظوري إكرامهم» أو «ليس الفسّاق أهلًا للإكرام» أو «إكرامهم خطأ» أو «لا أقول بإكرامهم» أو أمثالها تصير تلك الألسنة قرينة على صرف قوله: «يجب إكرام العلماء» عن وجوب إكرام الفساق منهم، مع أنَّ النسبة بينه و بينها عموم من وجه، و لا فرق بين ما ذكر و بين ما تقدّم إلّا في كيفيّة التأدية و التعبير.

و كذا الحال في قوله: (

لا سهو لمن أقرَّ على نفسه بالسهو)

(4) بالنسبة إلى أدلّة الشكوك، و قوله: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(5) أو


1- انظر الذريعة إلى اصول الشريعة 1: 197 و 275، عدّة الاصول: 103 و 137، الغنية: 468- ضمن الجوامع الفقهية.
2- انظر بحر الفوائد: 6- 8« مبحث التعادل و التراجيح»، فوائد الاصول 4: 591- 595 و 710- 715 و غيرها.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 315 سطر 10 و 407 سطر 13 و 432 سطر 6.
4- انظر مستطرفات السرائر: 110/ 66، الوسائل 5: 330/ 8- باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5- سورة الحج 22: 78.

ص: 232

(لا ضرر و لا ضرار)

(1) أو «وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»(2) بالنسبة إلى أدلّة الأحكام، مع أنَّ النسبة بينهما عموم من وجه، و ليس هذا النحو من التقديم بلحاظ مقام الظهور، و ترجيح الأظهر على الظاهر، أو النص على الظاهر.

و من ذلك يعلم: أنَّ غير التقديم الظهوريّ الذي يكون معوّلًا عليه عند العقلاء يكون ترجيح و تقديم آخر، و هو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله مُتعرّضاً لحيثيّة من حيثيّات الدليل الآخر التي لم يتعرّضها ذلك الدليل.

و توضيح ذلك: أنَّ الدليلين إمّا أن يكون كلّ منهما مُتعرّضاً بمدلوله لما يتعرّضه الدليل الآخر، و يكون الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك في جهات اخر، كالإيجاب و السلب، مثل «أكرم العلماء» و «لا تكرم العلماء» أو مع أخصيّة أحدهما من الآخر مثل: «أكرم العلماء» و «لا تكرم فسّاقهم» أو مع كون النسبة عموماً من وجه مثل «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» و كاختلافهما في زيادة قيد مع الاتفاق في الكيف مثل: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة».

ففي جميع تلك الموارد ترى أنَّ كلًاّ من الدليلين يتعرّض لما يتعرّضه الآخر، فكما أنَّ أحدهما تعرّض لوجوب إكرام العلماء، تعرّض الآخر لعدم وجوب إكرامهم، و كما أنَّ أحدهما تعرّض لعتق رقبة، تعرّض الآخر لعدم عتق كافرتها، أو لعتق مؤمنتها، فالمدلول اللّفظيّ لأحدهما هو المدلول للآخر، مع اختلاف في الكيف أو في زيادة فيه أو مثلهما.

و إن شئت قلت في الأدلّة اللّفظية: إنَّ التصادم بينهما في مرحلة الظهور، مع اتحادهما في جميع المراحل من الاصول العُقلائيّة، فإذا كان الدليلان كذلك يكون تقديم أحدهما على الآخر تقديماً ظهوريّاً، و مناطه أظهريّة أحدهما من الآخر، فتقديم «لا تكرم


1- الكافي 5: 292/ 2 و 293/ 6 و 294/ 8، الفقيه 3: 147/ 648، التهذيب 7: 146/ 651، الوسائل 17: 341/ 3 و 4- باب 12 من أبواب إحياء الموات.
2- سورة البقرة 2: 185.

ص: 233

الفسّاق من العلماء» على «أكرم العلماء» ليس إلّا من جهة تقديم الأظهر على الظاهر.

و جميع الاصول اللّفظية كأصالة العموم و أصالة الإطلاق و أصالة الحقيقة ترجع (1).

إلى أصالة الظهور عند العقلاء، فما هو المُعتبر عندهم و الحُجّة لديهم هو الظهور اللّفظيّ، «فأكرم العلماء» حُجّة؛ لظهوره في العموم بعد تحقّق المُقدّمات الاخرى من الاصول العُقلائيّة، و ليس ظهوره مُعلّقاً على عدم مجي ء المُخصّص، بل ظهوره منجّز، و بناء العُقلاء على العمل به من غير تعليقه على شي ءٍ، و لكن مع ورود دليل أخصّ منه يقدّم مُقتضاه عليه؛ لقوّة ظهوره و أظهريّته من ظهور العامّ في مضمونه.

و كذا الحال في المُطلق و المُقيّد، فإنَّ مناط تقديمه على المُطلق ليس إلّا أقوائيّة ظهور القيد في القيديّة من المُطلق في الإطلاق.

فما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره: من أنَّ مناط تقديم الخاصّ على العامّ هو الحكومة أو الورود؛ فإنَّ أصالة الحقيقة أو العموم مُعتبرة إذا لم تعلم هناك قرينة على المجاز، و المُخصّص القطعيّ وارد على اصالة العموم، و المُخصّص الظنّي حاكم عليها؛ لأنَّ معنى حجّية الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الامور لو لا حجّية هذه الأمارة، و هو وجوب العمل بالعموم عند احتمال وجود المُخصّص و عدمه.

و يُحتمل أن يكون الخاصّ الظنّي وارداً بناءً على كون العمل بالظاهر عرفاً و شرعاً مُعلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص (2)، انتهى.


1- في رجوع اصالة الإطلاق إلى أصالة الظهور، و في وجه تقدّم المقيّد على المطلق، كلام يأتي في بعض المباحث الآتية( أ). و التحقيق أنَّ الإطلاق ليس ظهوراً لفظيّاً، و لا تقدّم المقيّد على المطلق من قيل تقدّم الأظهر على الظاهر، كما سيأتي( ب)، و كذا مناط تقدّم الخاص على العام ليست الأظهرية، بل شي ء آخر سنشير إليه في بعض المباحث الآتية( ج) منه قدّس سرّه أ و ب- يأتي في رسالة التعادل و الترجيح 22 و 23. ج- نفس المصدر: 5 و 6.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 432 سطر 22.

ص: 234

منظور فيه؛ لأنَّ مناط العمل بالظواهر و الاحتجاج عند العقلاء هو نفس الظهور، فأصالة الإطلاق و العموم و الحقيقة ليست اصولًا مُتكثّرة بمناطات مُختلفة، بل المناط هو الظهور، فإذا كان الظهور ظنّياً يلغى احتمال خلافه عند العقلاء، من غير فرق بين العامّ و الخاصّ، فالعامّ الظنّي كالخاصّ الظنّي يلغى احتمال خلافه، و ليس ظهور العامّ أو البناء على العمل به مُعلّقاً على شي ءٍ، بل يكون تقديم الخاص على العامّ من قبيل تقديم أقوى الدليلين و أظهر الظاهرين.

و كذا الحال في تقديم المُقيّد على المُطلق، و قرينة المجاز على ذيها، و ليس مناط الحكومة في شي ءٍ من ذلك، كما سيتّضح لك (1).

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنَّ تصادم الدليلين في الظهور مع تعرّض كلّ منهما لما يتعرّضه الآخر مقسم للتخصيص و التقييد و تقديم قرينة المجاز، و كذا لتقديم أحد المُتباينين و العامّين من وجه على شقيقه لو فرض أظهريّته منه. هذا حال التصادم و التقديم الظهوريّين.

بيان ضابط الحكومة

و أمّا ضابط الحكومة: فهو أن يتعرّض أحد الدليلين بنحو من التعرّض و لو بالملازمة العُرفيّة أو العقليّة لحيثيّة من حيثيات الآخر ممّا لا يتعرض لها ذلك كان التعرّض لموضوعه أو محموله أو متعلّقه، أو المراحل السابقة على الحكم أو اللّاحقة له.

مثلًا: لو قال المولى: «أكرم العلماء» فلا يكون ذلك مُتعرّضاً إلّا لوجوب إكرام كلّ عالم، و لا يتعرّض لشي ءٍ آخر سواه، فلم يتعرّض لتحقّق موضوعه، أو دخول فرد فيه،


1- يأتي في البحث الآتي.

ص: 235

أو عدم دخوله فيه، و لا لحدود مُتعلّقه و حكمه، و لا لكونه مُراداً أو مجعولًا أو صادراً على نحو الجدّ أو التقيّة.

و بالجملة: لم يتعرّض للجهات المُتقدّمة على الحكم و المُتأخّرة عنه.

فلو تعرّض دليل لشي ءٍ من تلك الحيثيّات يكون مُقدّماً لدى العقلاء من غير ملاحظة النسبة بينهما، و لا لحاظ أظهريّة أحدهما من الآخر، فلو تعرّض أحد الدليلين لتوسعة دائرة موضوع الآخر أو تضييقه أو لحدود محموله أو مُتعلّقه أو حكمه يكون مُقدّماً و حاكماً عليه، مثل قوله (لا سهو لمن أقرّ على نفسه بالسهو)(1) بالنسبة إلى أدلّة الشكوك (2)، فقوله: «زيد عالم» أو «ليس بعالم» أو «الضيافة إكرام» أو «ليست بإكرام» و أمثاله حاكم على قوله: «أكرم العلماء» لتعرّضه لما لا يتعرّض له الآخر.

و كذا قوله: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(3) حاكم على أدلّة الأحكام؛ لتعرّضه بمدلوله للجعل الذي لا تتعرّض له الأدلّة، و إن كانت مجعولة بالضرورة؛ لأنّها لمّا لم تتعرَّض لمجعوليّتها فإذا تعرّض له الأدلّة، و إن كانت مجعولة بالضرورة؛ لأنّها لمّا لم تتعرّض لمجعوليّتها فإذا تعرّض دليل بأنَّ الجعل لم يتعلّق بأمرٍ حرجيّ يقدّم عرفاً على تلك الأدلّة، لا لأقوائيّة ظهوره، بل هذا نحو آخر من التقدّم في مقابل التقدّم الظهوريّ، و لهذا لا تلاحظ النسبة بين الدليلين، فيقدّم العامّ من وجه على مُعارضه، فأدنى الظواهر يقدّم على أقواها.

فلو قال: «أكرم العلماء» و دلّ دليل على أنَّه «ما اريد إكرام الفسّاق» أو «ما حكمت بإكرامهم» أو «ما جعلت ذلك» يكون مقدّماً عليه من غير لحاظ النسبة و الظهور.


1- تقدّم تخريجه في صفحة 231.
2- كقوله عليه السلام:( كلّما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر) قال:( فإذا انصرفت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت) و غيره. انظر التهذيب 2: 193/ 762، الاستبصار 1: 376/ 1426، الوسائل 5: 318/ 4- باب 8. من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3- سورة الحج 22: 78.

ص: 236

و ليس هذا إلّا لتعرض الحاكم لما لا يتعرّض له الآخر؛ فإنَّ الدليل المحكوم ليس بمدلوله مُتعرّضاً لكون إكرامهم مُراداً أو مجعولًا أو محكوماً به، فإنَّها معلومة من الخارج، أو لأجل الأصل العُقلائيّ.

من هذا القبيل تقديم (لا تعاد ..)(1) على أدلّة الأجزاء و الشرائط؛ لأنّها لا تتعرّض للحيثيّات اللّاحقة، أي الإعادة و اللّاإعادة، و إنّما يحكم العقل بأنَّ التارك للجزء أو الشرط يُعيد.

ثمّ ليعلم: أنَّ نتيجة حكومة دليل على دليل قد تكون تخصيصاً، مثل: «ليس الفسّاق من العلماء» بالنسبة إلى «أكرم العلماء» فإنَّه خروج حُكميّ بلسان الحكومة.

و قد تكون تقييداً، كتقدّم دليل رفع الحرج على إطلاق أدلّة الأحكام.

و قد تكون توسعة في الحكم بلسان توسعة الموضوع كقوله:

(الطواف بالبيت صلاة)

(2).

و قد تكون وروداً، كتقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الاصول الشرعيّة، بناءً على كون المُراد من العلم الذي اخذ غاية في أدلّتها هو الحُجّة في مقابل اللّاحُجّة، فإنَّ قوله:

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

حاكم على أدلّتها؛ لأنَّ لسانه بقاء اليقين و إطالة عمره، فيكون مُتعرّضاً لتحقّق العلم الذي جعل غاية للُاصول، و أدلّة الاصول ليست مُتعرّضة لذلك، فيكون حاكماً عليها، و نتيجة حكومته الورود.

و إن كان المُراد من العلم هو العلم الوجدانيّ يكون دليل الاستصحاب حاكماً عليها، و نتيجته إعدام الموضوع تعبّداً و حكماً.

فالورود و التخصيص و التقييد و غيرها كثيراً ما تكون من نتائج الحكومة و ثمراتها،


1- الخصال: 284/ 35، الوسائل 4: 683/ 14- باب 1 من أبواب أفعال الصلاة.
2- سنن البيهقي 5: 87، سنن النسائي 5: 222، سنن الدارمي 2: 44، تفسير الطبري 11: 34، التمهيد لابن عبد البرّ 8: 215.

ص: 237

و ليس الورود في عَرْضها؛ فإنَّ حيثيّة تقدّم دليل على دليل آخر ليست إلّا على نحوين، أحدهما: التقدّم الظهوريّ، و الثاني: التقدّم على وجه الحكومة سواء كانت نتيجتها رفع الموضوع حكماً، أو رفعه حقيقة، فالورود ليس من أنحاء تقديم دليل لفظيّ على دليل آخر في مقابل التخصيص و الحكومة.

و إن شئت قلت: تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوريّ و على نحو الحكومة حاصر دائر بين النفي و الإثبات، فلا يُعقل قسم آخر في الأدلّة اللّفظية يُسمّى «وروداً» فإنَّ أحد الدليلين إمّا أن يتعرّض لما يتعرّض له الدليل الآخر، أو يتعرّض لما لا يتعرّض له، و لا ثالث لهما.

نعم: يُتصوّر ثالث، هو عدم التعرّض رأساً، و هو خارج عن المقسم.

فأدلّة الأمارات بناءً على أخذها من الأدلّة اللّفظية حاكمة على أدلّة الاصول و الاستصحاب؛ لأنَّ مفادها التصرّف في موضوعها إعداماً، و هي حيثيّة لا تتعرّض لها تلك الأدلّة، فنتائج الحكومة امور كثيرة: كالتخصيص، و التقييد، و الورود، و إعدام الموضوع تعبّداً، أو إيجاده كذلك، و توسعة دائرة الموضوع حكماً، أو الحكم على عكس التخصيص و التقييد، فالورود ليس من أنحاء التقديم في الأدلّة اللّفظيّة، و لا مشاحّة في الاصطلاح.

نعم: لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلّة اللّبّية على بعض- كتقدّم بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان- بالورود، كما أنَّه لا بأس بتسمية تقدّم بعض الأدلّة اللفظيّة كأدلّة الأمارات و الاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان بالورود.

فتحصّل ممّا ذكرنا: الفرق بين التخصيص و الحكومة.

و أمّا تقسيم الحكومة إلى الظاهريّة و الواقعيّة كما صنعه بعض أعاظم العصر(1)


1- فوائد الاصول 4: 595 و 713.

ص: 238

فممّا لا ملاك له كما لا يخفى؛ لأنَّ تقديم دليل على دليل آخر إذا كان على نحو الحكومة و تحت الضابط المُتقدّم فلا يكون مُختلفاً حتى يكون التقسيم صحيحاً، و اختلاف النتيجة لا يصحّح التقسيم، فتقدّم (لا شكّ لكثير الشكّ) على أدلّة الشكوك كتقدّم

(لا تنقض ...)

على أدلّة الاصول، و تقدّم مفهوم آية النبأ(1) عليها من حيث تعرّض الأدلّة الحاكمة لما لا تتعرَّض له الأدلّة المقابلة لها.

و بالجملة: لا يكون نحو تقدّم الأدلّة الحاكمة في الأحكام الواقعيّة مُخالفاً لنحو تقدّم الأدلّة الحاكمة في الأحكام الظاهريّة حتّى يصحّ التقسيم.

إذا عرفت ما ذكرنا: فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى حال أدلّة الاستصحاب مع سائر الأدلّة، و الأدلّة بعضها مع بعض.


1- سورة الحجرات 49: 6.

ص: 239

حال أدلّة الاستصحاب مع سائر الأدلّة و الأدلّة بعضها مع بعض

اشارة

و يقع الكلام فيها في مقامات:

المقام الأوّل في حال أدلّة الاستصحاب مع أدلّة الأمارات

و ملخّص الكلام فيها: أنّا قد ذكرنا في مبحث استصحاب مؤدّى الأمارات (1) أنَّ المُستفاد من الأدلّة- و لو بمناسبة الحكم و الموضوع و بعض المُؤيّدات الخارجيّة و الداخليّة- أنَّه لا خصوصيّة لليقين، و يكون المُراد منها أنَّه لا تنتقض الحُجّة بغير الحُجّة.


1- تقدّم في صفحة 81- 83.

ص: 240

لا بمعنى أنَّ عنوان «اليقين» و «الشكّ» استعملا في الحُجّة و غير الحُجّة؛ فإنَّه واضح البطلان، بل هما مُستعملان في معناهما، لكنّ العرف لا يرى لخصوصيّة العنوان دخالة في الحكم، كما أنَّ في قوله:

«رجل شكّ بين الثلاث و الأربع»

لا يكون الرجل مُستعملًا في مُطلق المُكلّف، بل العرف يُلغي خصوصيّة الرجل، و يرى أنَّ ذكره من باب المثال.

فحينئذٍ: يكون تقدّم أدلّة حُجّية خبر الثقة على أدلّة الاستصحاب- بناءً على أخذها من الأدلّة اللّفظية مثل مفهوم آية النبأ، و مثل قوله:

(ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي)

(1)- على نحو الحكومة على إشكال، و نتيجتها الورود؛ لأنَّ مفاد أدلّة حُجّية الخبر و لو التزاماً إلغاء الشكّ؛ فإنَّ مفهوم الآية بناءً على المفهوم أنَّ نبأ العادل لا يتبيّن لكونه مُتبيّناً، و ليس العمل به إصابة للقوم بجهالة، و هو رافع للشكّ.

و أمّا لو قلنا: بأنَّ دليل حُجّية خبر الثقة ليس إلّا بناء العُقلاء و سيرتهم على العمل به، و الأدلّة اللّفظية كلّها إرشادات إليها كما هو التحقيق- فتقدّمها على الاستصحاب يكون بالتخصّص أو الورود.

بل هذا في الحقيقة ليس تقدّماً؛ لأنَّ الخروج الموضوعيّ ليس من التقدّم، لأنَّ العُقلاء لا يرون العمل بخبر الثقة عملًا بغير الحُجّة، فلا يكون العمل على طبق الأمارة نقضاً لليقين بالشكّ لديهم.

و إن اشتهيت أن تُسمّي هذا النحو من التقدّم وروداً ببعض المُناسبات فلا مشاحّة فيه، و ممّا ذكرنا يظهر حال سائر الأمارات.


1- انظر الكافي 1: 265/ 1، الوسائل 18: 100/ 4- باب 11 من أبواب صفات القاضي.

ص: 241

المقام الثاني وجه تقدّم الأمارات على أدلّة البراءة الشرعيّة

و هو الحكومة إن كان التمسّك في الأمارات بالأدلّة اللّفظيّة؛ لأنَّ قوله:

(رفع ... ما لا يعلمون)

(1) أو

(الناس في سعة ما لا يعلمون)

(2) محكوم بمفهوم آية النبأ و سائر الأدلّة؛ لأنَّ مفادها إلغاء الشكّ، فتعرَّض لموضوع أدلّة البراءة، و هي لا تتعرّض له.

فإن قلنا: بأنَّ المُراد ممّا لا يعلم هو عدم الحُجّة- كما هو التحقيق- تكون نتيجة الحكومة هي الورود، و إلّا تكون النتيجة إعدام الموضوع تشريعاً و تعبّداً، و التخصيص لبّاً، و هو من أقسام الحكومة، كما عرفت (3).

المقام الثالث وجه تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الحلّ و البراءة الشرعيّتين

هو الحكومة و نتيجتها الورود؛ لأنَّ مفاد

(لا تنقض ..)

كما عرفت إطالة عمر اليقين تعبّداً، و أنَّ الشكّ لا أهليّة له لنقضه، فيكون اليقين غير منقوض و باقياً تعبّداً، و هذا من أظهر أنحاء الحكومة، و أمّا كون النتيجة هي الورود فلما عرفت: من أنَّ المُراد من

(ما لا يعلمون)

عدم الحُجّة، لا عدم العلم وجداناً، و إن كان مفاد الأدلّة إلغاء الشكّ حكماً و التعبّد بعدم الاعتناء به، فتكون حاكمة أيضاً على ما جعل الحكم على عنوان الشكّ و عدم العلم و إن كان مفادها عدم نقض الحُجّة بلا حُجّة فتكون حاكمة


1- الخصال: 417/ 9، الوسائل 5: 345/ 2- باب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- انظر الحدائق الناضرة 1: 43، عوالي اللآلي 1: 424/ 109.
3- تقدّم في صفحة 236 من هذا الكتاب، عند قوله قدّس سرّه: و قد تكون وروداً ... تعبداً و حكماً.

ص: 242

أيضاً؛ لأنَّ المُراد بعدم الحُجّة في مُقابل الحُجّة هو عدم الحُجّة على الواقع، و قد مرّ أنَّ المُراد ب

(ما لا يعلمون)

في أدلّة البراءة هو ما لم تقم حُجّة على الواقع، فغاية الاصول عدم قيام الحُجّة على الواقع، و مفاد أدلّة الاستصحاب بقاء الحُجّة قبل قيام حُجّة على الواقع، فإنَّ معنى عدم نقض الحُجّة بغير الحُجّة عرفاً هو بقاء حُجّيته إلى قيام حُجّة على الواقع، فأدلّة الاستصحاب بلسانها حاكمة على حصول غاية أدلّة الاصول، و أمّا أدلّة الاصول فلم يكن مفادها إلّا تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحُجّة لا جعل الحُجّة على الواقع.

و أمّا ما أفاده الشيخ الأعظم في وجه التقدّم: من أنَّ دليل الاستصحاب بمنزلة مُعمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللّاحق، فمجموع قوله:

(كلّ شي ءٍ مُطلق حتّى يرد فيه نهي)

(1) و دليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: «كلّ شي ءٍ مُطلق حتّى يرد فيه نهي، و كلّ نهي ورد في شي ءٍ فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله» فيكون الإطلاق مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام، فأدلّة الاستصحاب حاكمة عليه (2).

ففيه: أنَّ الحكومة خصوصاً على مسلكه مُتقدّمة بلسان الدليل، فحينئذٍ لا يتمّ ما ذكره إلّا بدعوى أنَّ مفاد أدلّة الاستصحاب عدم نقض المُتيقّن، بل لا يكفي ذلك حتّى يكون المُراد من المُتيقّن هو العناوين الذاتيّة الواقعيّة كالنهي و الأمر و الوجوب و الحرمة، و قد مرّ سابقاً(3) الإشكال في كون المُراد من اليقين المُتيقّن، و لو سلّم ذلك لكن لا يمكن المساعدة معه في كون المُراد هو العناوين الأوّليّة تأمّل.

ثمّ ذلك لا يتمّ بالنسبة إلى سائر أدلّة البراءة و هو قدس سره كان مُتنبّهاً لذلك لكن قال: ما كان من الأدلّة النقليّة مُساوقاً لحكم العقل فقد اتضح أمره،


1- الفقيه 1: 208/ 937، الوسائل 18: 127/ 60- باب 12 من أبواب صفات القاضي.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 13.
3- تقدّم في صفحة 80.

ص: 243

و الاستصحاب وارد عليه (1)، و لعلّ مُراده ما ذكرنا من بيان حكومة أدلّة الاستصحاب عليها، و إن كانت النتيجة الورود.

المقام الرابع في تعارض الاستصحابين

القسم الأوّل في وجه تقدّم الاستصحاب السببيّ على المسببيّ

اشارة

و لا بأس بالتعرّض لمطلق تعارض الاستصحابين.

فنقول: إنَّ الشكّ في أحد المُستصحبين إمّا أن يكون مُسبّباً عن الشكّ في الآخر، و إمّا أن يكون الشكّ في كليهما ناشئاً من ثالث.

فعلى الأوّل: إمّا أن تكون السببيّة و المُسبّبية لأجل للّزوم العقليّ أو العاديّ، كالشكّ في وجود المعلول للشكّ في وجود علّته، و كالشكّ في نبات لحية زيد لأجل الشكّ في بقائه. و إمّا أن تكون لأجل الجعل الشرعيّ، كالشكّ في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرّية؛ فإنَّه لو لا حكم الشارع بأنَّ الغسل بالكرّ مُوجب للطهارة لما صار أحد الشكّين سبباً للشكّ الآخر.

ثمّ إنَّ السببيّة قد تكون بلا واسطة، كالشكّ في صحّة الطلاق عند رجلين شكّ في عدالتهما، و قد تكون مع الواسطة، كالشكّ في عدالتهما بالنسبة إلى الشكّ في لزوم تربّص ثلاثة قروء، فإنَّ الشكّ في عدالتهما سبب للشكّ في صحة الطلاق، و هو سبب للشكّ في لزوم التربّص، و قد تكون الوسائط كثيرة، و ستأتي (2) أقسام ما إذا كان الشكّ في كليهما ناشئاً من أمر ثالث.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 4.
2- تأتي في صفحة 253.

ص: 244

و لا إشكال في عدم تقدّم الأصل السببيّ على المُسببيّ إذا كانت السببيّة عقليّة أو عاديّة و سيأتي بيان وجهه (1).

و أمّا إذا كانت السببيّة شرعيّة، سواءً كانت مع الواسطة أم لا، فسرّ تقدّم الأصل السببيّ يظهر من التنبيه على أمر قد أشرنا إليه سابقاً في باب الاصول المُثبتة(2)، و هو أنَّ قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

لا يمكن أن يكون متكفّلًا للآثار مع الواسطة حتّى الشرعيّة منها؛ لأنَّ الآثار مع الواسطة لا تكون آثار نفس المُستصحب بالضرورة، بل تكون أثر الأثر، و أثر أثر الأثر و هكذا، فأثر عدالة الشاهدين صحّةُ الطلاق عندهما، و لزوم تربّص ثلاثة قروء أثر صحّة الطلاق، لا أثر عدالة الشاهدين، فصحّة الطلاق إذا ثبتت بقوله: (لا ينقض اليقين بالشكّ) لا يمكن أن يترتّب عليها أثرها ب (لا ينقض ..) أيضاً؛ لأنَّ الحكم لا يمكن أن يوجد الموضوع و يترتّب عليه و لا يكون أثر الأثر مصداق نقض اليقين بالشكّ تعبّداً حتّى يقال: إنَّ لا تنقض قضيّة حقيقيّة تشملها، كما يجاب عن الشبهة في الأخبار(3) مع الواسطة، فاستصحاب عدالة زيد لا يمكن أن يترتّب عليه إلّا آثار نفس العدالة، و أمّا آثار الآثار فتحتاج إلى دليلٍ آخر.

فالتحقيق: أنَّ ترتّب الآثار على الاستصحابات الموضوعيّة ليس لأجل قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

بل الاستصحاب مُنقّح لموضوع كبرى شرعيّة مجعولة تعبّداً، فإذا ورد من الشارع «يصحّ الطلاق عند شاهدين عدلين»، فاستصحاب عدالتهما يُنقّح موضوع تلك الكبرى، فيحكم بصحّته من ضمّ صغرى تعبّدية إلى كبرى شرعيّة و إذا ورد: «الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»(4) يحرز موضوعه من ضمّ صغرى إلى


1- انظر الصفحة الآتية.
2- تقدّم في صفحة 154.
3- انظر أنوار الهداية 1: 298، فوائد الاصول 3: 179، نهاية الأفكار 3: 123.
4- سورة البقرة 2: 228.

ص: 245

كبرى شرعيّة، فيحكم بأنَّ هذه مُطلّقة، و المُطلّقات يتربّصن ثلاثة قروء، فيجب على هذه التربّص، فإذا ورد جواز التزويج بعد التربّص يحرز موضوعه كذلك، فإذا ورد «أنَّ المُزوّجة يجب عليها إطاعة الزوج، و على الزوج النفقة عليها» يحرز الموضوع كما ذكر و هكذا فلا يكون الاستصحاب إلّا مُنقح موضوع الكبرى الشرعيّة الأوّلية، بل ليس مفاد الاستصحاب لزوم ترتيب الآثار حتّى أنَّ ترتّب الأثر الأوّل أيضاً يكون بضمّ الاستصحاب إلى الكبرى الشرعيّة المجعولة، فقوله: (لا ينقض ...) ليس مفاده رتّب الأثر، بل مفاده إطالة عمر اليقين تعبّداً، و إحراز الموضوع الذي هو صاحب الأثر.

و يؤيد ذلك بل يدلّ عليه: أنَّ الاستصحاب في الأحكام و الموضوعات إنّما هو بلسانٍ واحدٍ، مع أنَّ استصحاب الأحكام ليس معناه ترتيب الآثار، بل يكون الاستصحاب مُنقّحاً للحكم و مُثبتاً له تعبّداً، و كذلك استصحاب الموضوعات معناه تحقّقها تعبّداً، و بعد تحقّقها يترتّب عليها أثرها لأجل الكبرى المجعولة، فاستصحاب الكرّية ليس إلّا التعبّد باليقين بها أو بنفسها، و الكرّ موضوع للأثر الشرعيّ، فيترتّب عليه أثره بدليله لا بالاستصحاب، فإذا عرفت ذلك تتَّضح لك امور:

الأوّل: وجه عدم حُجّية الاصول المُثبتة لعدم الكبرى الكلّية المُنطبقة على الموضوع المُستصحب، فاستصحاب حياة زيد يترتّب عليه لزوم نفقة زوجته؛ لأجل الكبرى المجعولة دون أثر طول لحيته؛ لعدم كبرى دلّت على «أنَّ من كان حيّاً طالت لحيته».

الثاني: وجه ترتّب الآثار الشرعيّة و لو مع ألف واسطة لما عرفت من أنَّ الاستصحاب ينقّح موضوع الكبرى التي في مبدأ السلسلة، ثمّ يُحرز موضوع الكبرى الثانية لأجل الكبرى الأولى و هكذا.

الثالث: وجه تقدّم الأصل السببيّ على المُسبّبي، و هو أنَّ الأصل السببيّ يكون

ص: 246

حاكماً على الكبرى المجعولة التي تتكفّل الحكم الواقعيّ؛ بتنقيح موضوعه أو إعدامه بحسب اختلاف الاستصحابات.

ثمّ إنَّ الدليل الاجتهاديّ المُنطبق على الصغرى المُستصحبة يقدّم على الأصل المُسبّبي بالحكومة التي نتيجتها الورود على وجه كما عرفت، فإذا ورد من الشرع: «أنَّ الثوب المغسول بالكرّ طاهر» أو «أنَّ الكرّ مُطهّر» فاستصحاب الكرّية يكون مُنقّحاً لموضوعه و حاكماً عليه؛ لكونه مُتعرّضاً لموضوع الدليل الاجتهاديّ توسعة و تنقيحاً، و هو من أنحاء الحكومة كما عرفت (1)، فينطبق عليه الدليل الاجتهاديّ و هو «أنَّ الثوب المغسول به طاهر»، أو «أنَّه مُطهّر للثوب المغسول به» فإذا شكّ في طهارة ثوب مغسول به يكون الدليل الاجتهاديّ حاكماً بطهارته، و لا يعارضه استصحاب النجاسة؛ لكونه حاكماً عليه.

فلو فرض ماءان يكون أحدهما كرّاً بالوجدان، و الآخر بالاستصحاب يكون كلاهما مشمولين لقوله: «الكرّ مُطهّر» أو «الثوب المغسول بالكرّ طاهر» و إن كان أحدهما مصداقاً وجدانيّاً و الآخر مصداقاً تعبّدياً، فكما لا يجري استصحاب النجاسة مع الغسل بالكرّ وجداناً؛ لتقدّم الدليل الاجتهاديّ على الاستصحاب، كذلك لا يجري مع الغسل بما حكم بكرّيته بالأصل؛ لعين ما ذكر.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ تقدّم الأصل السببيّ على المُسبّبي ليس لحكومته عليه، بل لحكومته على الدليل الاجتهاديّ بتنقيح موضوعه، و حكومة الدليل الاجتهاديّ على الأصل المُسبّبي بتنقيح موضوعه أو رفعه، فتأمّل فإنَّه دقيق.

و لعلّ ما ذكرناه هو مُراد الشيخ الأعظم من قوله في جواب الإشكال الأوّل.

و ثانياً: أنَّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على «أنَّ كلّ نجس غسل بماء


1- تقدّم في صفحة 236.

ص: 247

طاهر فقد طهر» و فائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهراً به (1) انتهى.

لكنّه قدس سره لم يستقرّ على هذا المبنى، و كأنَّه لم ينضجه و لم يتأمّل في أطرافه، و لذا تراه يُجيب عن الإشكال الثاني الذي هو قريب من الأوّل أو عينه بما هو خلاف التحقيق، و ها أنا اذكر مُلخّص الإشكال و الجواب:

نقل كلام الشيخ الأعظم و نقده

قال رحمه اللَّه: قد يشكل بأنَّ اليقين بطهارة الماء و اليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلّاً منهما يقين سابق شُكّ في بقائه و ارتفاعه، و عموم (لا تنقض) نسبته إليهما على حدٍّ سواء، فلا وجه لإجرائه في السبب دون المُسبّب.

و يدفع: بأنَّ نسبة العموم إليهما ليست على حدٍّ سواء؛ لأنَّ شموله للسبب بلا محذور، و لكن شموله للمُسبّب مُستلزم للدور؛ لأنَّ تخصيص الدليل بالنسبة إلى السبب يتوقّف على شمول العامّ للمُسبّب، و شموله له يتوقّف على تخصيصه؛ لأنَّه مع عدم التخصيص يخرج الشكّ في الأصل المُسبّبي عن قابليّة شمول العامّ له.

أو يقال: أنَّ فرديّة الشكّ المُسبّبي للعام تتوقّف على رفع اليد عنه بالنسبة إلى الشكّ السببيّ، و رفع اليد عنه يتوقّف على فرديّة المُسبّبي له.

و إن شئت قلت: إنَّ حكم العامّ و الشكّ المُسبّبي من قبيل لازم الوجود للشكّ السببيّ فهما في رتبة واحدة، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعاً للآخر.

أو يقال: إنَّ الشكّ السببيّ في المرتبة المُتقدّمة لا محذور لشمول العامّ له، فإنَّه بلا مزاحم، فإنَّ الشكّ المُسبّبي ليس في هذه الرتبة، و في الرتبة المُتأخّرة يزول الشكّ


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 425 سطر 16.

ص: 248

بدليل

(لا تنقض ...)

في الأصل السببىّ فيخرج عن قابليّة شمول العامّ (1) انتهى بتوضيحٍ منّا.

و فيه أوّلًا: أنَّ ما أفاده من لزوم الدور غير وارد؛ لأنَّ فرديّة الشكّ السببيّ للعامّ وجدانيّة لا تتوقّف على شي ءٍ، فالشكّ السببيّ و المُسبّبي كلاهما مشمولان للعامّ، و لو فرض أنَّ مفاد الأصل السببيّ وجوب ترتيب آثار الكرّية و من آثارها طهارة الثوب المغسول به، فكأنَّه قال: «إذا شككت في طهارة الثوب المغسول بالكرّ فابنِ على طهارته» و مفاد الأصل المُسبّبي الذي يكون مصداقاً للعامّ وجداناً «أنَّه إذا شككت في طهارة الثوب الكذائيّ و نجاسته فابنِ على نجاسته» و هما حكمان واردان على موضوعٍ واحدٍ في الشكّ في طهارة الثوب المغسول بالكرّ و نجاسته.

و ليس مفاد الأصل السببيّ منافياً للشكّ المُسبّبي بالذات؛ لأنَّ الأصل السببيّ يحكم بكرّية الماء، و الأصل المُسببيّ لا ينافيها، بل المُنافاة إنّما تكون بين الحكم بطهارة الثوب المشكوك فيه- التي هي من احكام استصحاب الكرّية- و بين الحكم بنجاسته التي هي مفاد الأصل المُسبّبي، و هما واردان على موضوع واحد، فالثوب المشكوك فيه يكون مورداً لاستصحاب النجاسة و للحكم المُترتّب على استصحاب الكرّية، فكأنَّه قال: «كن على يقين من طهارة الثوب المغسول بالكرّ إذا شككت في طهارته و نجاسته» و «كن على يقين من نجاسته» و هما مُتنافيان.

و ليس المقصود من استصحاب النجاسة للثوب الحكم بعدم كرّية الماء حتّى يقال: إنَّه مُثبت، بل المُراد به هو الحكم بنجاسة الثوب ليس إلّا، فاستصحاب الكرّية مفاده: «رتّب آثار الكرّية مُطلقاً، و منها طهارة الثوب المغسول به» و استصحاب النجاسة مفاده: «رتّب آثار النجاسة» و لا وجه لتقدّم أحد التعبّدين على الآخر


1- نفس المصدر: 425 سطر 21.

ص: 249

و لا حكومة لأحدهما على الآخر.

بل لنا أن نقول بناءً على هذا المبنى: إنَّ كثيراً ما يكون الأمر دائراً بين التخصيص في أدلّة الاستصحاب إذا رفعت اليد عن الأصل المُسبّبي، و بين التقييد فيها إذا رفعت اليد عن مُقتضى الأصل السببيّ، كما في المثال المُتقدّم، فإنَّ رفع اليد عن استصحاب النجاسة تخصيص في ادلّة الاستصحاب، و رفع اليد عن طهارة الثوب المغسول به تقييد فيها؛ لأنَّ استصحاب الكرّية بعض آثاره طهارة الثوب المغسول به، و ترتيب جميع الآثار إنّما هو بالإطلاق لا العموم، فدار الأمر بين التقييد و التخصيص، و لعلّ التقييد أولى من التخصيص.

و ثانياً: أنَّ ما أفاده من تقدّم الشكّ السببيّ طبعاً و رتبة على الشكّ المُسبّبي.

فيه ما تقدّم (1) في جواب شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه في مبحث الاستصحاب التعليقيّ: من أنَّ التقدّم العِليّ و المعلوليّ- ممّا يكون منشؤه صدور أحدهما من الآخر- لا يكون منشأ لتقدّم ترتّب الحكم عليه؛ لأنَّه أمر عقليّ خارج عن المحاورات العرفيّة، فقضيّة:

(لا تنقض ...)

قضيّة عرفيّة مُلقاة إلى العرف، و الشكّ السببيّ يكون مع الشكّ المُسببيّ في الوجود الخارجيّ معيّة زمانيّة خارجيّة لا يتقدّم أحدهما على الآخر، و الترتّب العِلّي العقليّ الذي منشؤه صدور هذا من هذا أو نحوه لا يصير مناطاً لتقدّم انطباق الكبرى على العلّة و تأّخره عن المعلول، فكلّ من العلّة و المعلول في عرض واحد بالنسبة إلى عدم نقض اليقين و بالشكّ.

هذا مُضافاً: إلى أنَّ الشكّ السببيّ في الرتبة المُتقدّمة على الشكّ المُسبّبي و على الحكم بالكرّية، و الحكم بطهارة الثوب المغسول به مُتأخّر عن الحكم بالكرّية تأخّر الحكم عن موضوعه، و الحكم بالنجاسة مُتأخّر عن الشكّ في النجاسة و الطهارة الذي


1- تقدّم في صفحة 142 و 143.

ص: 250

هو في رتبة الحكم بالكرّية و في عرض الحكم بالطهارة، فالحكم بطهارة الثوب في رتبة الحكم بالنجاسة، فما هو المُتقدّم ليس مُعارضاً لاستصحاب النجاسة، و ما هو المُعارض و هو التعبّد بالطهارة في رتبته.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ تقدّم الأصل السببيّ على المُسبّبي ليس لأجل التقدّم الرتبيّ و الطبعيّ، و لا لأجل دوران الأمر بين التخصّص و التخصيص بلا وجه، أو على وجه دائر، بل الوجه في تقدّمه عليه هو حكومة الأصل السببيّ على الكبرى الكلّيّة الاجتهاديّة بتنقيح موضوعها و تقدّم الدليل الاجتهاديّ المحرز بالتعبّد على الأصل المُسبّبي.

فالميزان في كون الأصل السببيّ مُقدّماً على المُسبّبي على ما ذكرنا هو أن يندرج بالأصل السببي شي ء في موضوع كبرى كلّية مُتضمّنة للحكم على أحد طرفي الشكّ المُسبّبي، إثباتاً أو نفياً، فاستصحاب كرّية الماء مُقدّم على استصحاب نجاسة الثوب، و استصحاب قلّة الماء مُقدّم على استصحاب طهارته إذا وردت عليه نجاسة؛ فإنَّه باستصحاب القلّة يندرج الماء المشكوك فيه في موضوع أدلّة انفعال الماء القليل، فيقدّم الدليل الاجتهاديّ على الاستصحاب.

الأشكال على ما قالوا في وجه طهارة الملاقي لبعض أطراف العلم

و ممّا ذكرنا: يرد إشكال على ما أفادوا في وجه طهارة مُلاقي أحد أطراف المعلوم بالإجمال؛ حيث قالوا: إنَّ الشكّ في طهارة المُلاقي (بالكسر) مُسبّب عن الشكّ في طهارة المُلاقى، و أصالة الطهارة فيه حاكمة على اصالة الطهارة في المُلاقي،

ص: 251

فلا تجري هي إلّا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمُعارضة، و بعده تجري بلا معارض (1).

و هو أنَّ طهارة المُلاقي (بالكسر) ليست من الآثار الشرعيّة لطهارة المُلاقى (بالفتح) فأصالة طهارة المُلاقى لا ترفع الشكّ عن الملاقي، فلا تكون حاكمة على أصلها.

و إن شئت قلت: إنَّ الميزان في تقدّم الأصل السببيّ هو إحرازه موضوع دليل اجتهاديّ يحكم بثبوت حكم في ورود الأصل المُسبّبيّ أو نفيه عنه، و لم يرد دليل اجتهاديّ بأنَّه «كلّ ما لاقى طاهراً فهو طاهر» بل المُستفاد من شتات الأدلّة «أنَّ كلّ ما لاقى نجساً فهو نجس»، فاستصحاب نجاسة المُلاقى في مورده مُقدّم على استصحاب طهارة المُلاقي أو أصالة طهارته؛ لثبوت الكبرى المُتقدّمة، و أمّا استصحاب طهارته فلا يقدّم على استصحاب طهارة ملاقيه، و كذا أصالة الطهارة في المُلاقي و المُلاقى تجريان في عرض واحد، لا تقدّم لإحداهما على الاخرى، و لقد ذكرنا وجه جريان أصل الطهارة في المُلاقي (بالكسر) من غير مُعارض في محلّة فراجع (2).

دفع إشكال أوردناه على صحيحة زُرارة

كما أنَّه ممّا ذكرنا يتّضح الجواب عن الإشكال الذي أوردناه سابقاً في ذيل صحيحة زرارة الأولى: من أنَّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء لدى الشكّ في تحقّق النوم، مع أنَّ الشكَّ في بقاء الوضوء مُسبّب عن الشكّ في تحقّق النوم، فكان ينبغي


1- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 253، فوائد الاصول 4: 82- 84
2- أنوار الهداية 2: 244.

ص: 252

عليه إجراء استصحاب عدم النوم، و أجبنا عنه بوجهٍ مبني على تسليم حكومة أصالة عدم النوم على أصالة بقاء الوضوء(1).

و التحقيق في الجواب أن يقال: إنَّ استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء إلّا على القول بالأصل المُثبت، لما عرفت (2) من أنَّ الميزان في تقدّم الأصل السببيّ على المُسبّبي هو إدراج الأصل السببيّ المُستصحب تحت الكبرى الكلّية الشرعيّة حتّى يترتّب عليه الحكم المُترتّب على ذاك العنوان، كاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق و الشهادة و الاقتداء و القضاء و نحوها.

و أنت خبير: بأنَّه لم ترد كبرى شرعيّة ب «أنَّ الوضوء باقٍ مع عدم النوم» و إنّما هو حاكم عقليّ مُستفاد من أدلّة ناقضيّة النوم، كقول أبي عبد اللَّه عليه السلام:

(لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك أو النوم)

(3) فيحكم العقل بأنَّ الوضوء إذا تحقّق و كانت نواقضه محصورة في امور غير مُتحقّقة وجداناً- إلّا النوم المنفي بالأصل- هو باق، فالشكّ في بقاء الوضوء و إن كان مُسبّباً عن الشكّ في تحقّق النوم، لكنّ أصالة النوم لا ترفع ذلك الشكّ إلّا بالأصل المُثبت.

و بما ذكرنا في فقه الحديث يمكن الاستدلال به على عدم حُجّية مُثبتات الاستصحاب، فتدبّر.

ثمّ اعلم: أنَّ الميزان الذي ذكرنا في تقدّم الأصل السببيّ ميزان نوعيّ غالبيّ، و إلّا فقد يتقدّم الأصل السببيّ على المُسببيّ؛ لأجل إحرازه موضوع التكليف، فينقّح المُكلّف به، فيقدّم على أصالة الاشتغال عقليّة و نقلية؛ أي استصحاب الاشتغال بناءً على جريانه. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من تعارض الاستصحابين.


1- تقدّم في صفحة 24- 26.
2- تقدّم في صفحة 243- 245.
3- التهذيب 1: 6/ 2، الوسائل 1: 177/ 1- باب 2 من أبواب نواقض الوضوء.

ص: 253

القسم الثاني من تعارض الاستصحابين

اشارة

و أما القسم الثاني منه؛ أي ما كان الشكّ فيهما ناشئاً عن أمرٍ ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه، و هو على أقسام؛ لأنَّه:

إمّا أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عمليّة لتكليف أو لا.

و على الثاني: إمّا أن يقوم دليل على عدم الجمع بين المُستصحبين أو لا.

و على الثاني: إمّا أن يكون لكلّ منهما أثر شرعيّ في زمان الشكّ، أو يكون الأثر مُترتّباً على واحد منهما.

هذه جملة ما تعرّض لها الشيخ الأعظم قدس سره (1)، و الصورتان الأخيرتان غير داخلتين في تعارض الاستصحابين، فبقيت الصورتان الأولتان.

و الأولى تمحيض البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهما؛ و أنَّ مُقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما، أو العمل بأحدهما مخيّراً مطلقاً، أو بعد فقدان المُرجّح، و إلّا فيؤخذ بالأرجح؟

و أمّا بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالىّ: إمّا للمحذور منه ثبوتاً، أو لقصور أدلّته إثباتاً، فلا يبقى مجال لهذا البحث.

و بالجملة: أنَّ البحث هاهنا إنّما هو في تعارض الاستصحابين، لا في جريانهما و عدمه في أطراف العلم.

فنقول: بناءً على جريان الاستصحاب في أطراف العلم ذاتاً و كون المحذور هو المخالفة العمليّة، أو قيام الدليل على عدم الجمع بين المُستصحبين هل القاعدة تقتضي ترجيح أحد الأصلين أو سقوطهما أو التخيير بينهما؟


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 428 سطر 14.

ص: 254

أمّا الترجيح فلا مجال له، و ذلك يتّضح بعد التنبيه على أمر، و هو أنَّ ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الآخر إنّما هو بعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلا، و ذلك واضح.

و بعد الفراغ عن تحقّق المُرجّح مع ذي المزيّة و مقابله ثانياً، فمع عدم تحقّق المزيّة مع ذيها و مقابله لا يمكن الترجيح بها.

و بعد الفراغ عن كون مضمونهما واحداً ثالثاً؛ ضرورة عدم تقوية شي ء بما يخالفه أو لا يوافقه.

فحينئذٍ: إمّا أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهاديّ معتبر، أو بدليل ظنّي غير مُعتبر، أو بأصل من الاصول الشرعيّة أو العُقلائيّة المعتبرة، أو غير المُعتبرة.

عدم جواز ترجيح ذي المزيّة بشي ءٍ من المُرجّحات

لا سبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهاديّ المُعتبر؛ لحكومته على الاستصحاب، فلا يبقى ذو المزيّة معه، و كذا بالأُصول العُقلائيّة المعتبرة، لعين ما ذكر، و لا بالأُصول الشرعيّة كأصالة الإباحة و الطهارة و البراءة، و لا العقليّة كأصالة البراءة و الاشتغال؛ لأنَّ الاستصحاب مُقدّم على كلّ منها، فلا تتحقّق المزيّة، مع ذيها، فلا مجال للترجيح بالشي ء المفقود مع ما يراد الترجيح به.

و من ذلك يعلم: أنَّه لا مجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم و بالعكس، فاستصحاب الطهارة لا يرجّح بأصلها و بالعكس.

و أمّا الترجيح بدليل ظنّي غير مُعتبر- كترجيح الاستصحاب بالعدل الواحد بناءً على عدم اعتباره- فلا يمكن أيضاً؛ لتخالف موضوعيهما و مضمونيهما، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمان الشكّ، أو ترتيب آثار الطهارة

ص: 255

الواقعيّة في زمان الشكّ، و مفاد الدليل الظنّي كخبر الواحد هو الطهارة الواقعيّة، فلا يتوافق مضمونهما و لا رتبتهما.

نعم: من ذهب إلى أنَّ الاستصحاب من الاصول المُحرزة، و أنَّ مفاده هو الحكم بوجود المُستصحب، أو العمل به على أنَّه هو الواقع (1) لا بدّ له من الذهاب إلى ترجيحه بالدليل الظنّي غير المُعتبر؛ لوحدة مضمونيهما، بل رتبتيهما أيضاً.

و لذا ذهب صاحب هذا القول إلى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجماليّ- و لو لم يلزم منه مخالفة عمليّة- قائلًا: إنَّه كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلًا في كلّ واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما؟! و مجرّد أنَّه لا تلزم من الاستصحابين مخالفة عمليّة لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاء النجاسة في كلّ منهما؛ فإنَّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين ينافي و يناقض العلم الوجدانيّ بالخلاف (2) انتهى.

فإنَّ المناقضة بين العلم الوجدانيّ و مؤدّى الاستصحابين لا تمكن إلّا أن يكون مُتعلّقهما واحداً، و مع وحدة المُتعلّق و المناقضة بين المفادين يتقوّى أحدهما بالآخر إذا كانا متوافقي المضمون، و لا يكون محذوراً آخر، و مُتعلّق العلم الوجدانيّ عين مُتعلّق الظنّ الغير المُعتبر، فإذا كان مؤدّى الاستصحابين مناقضاً للعلم يكون مناقضاً للظنّ في صورة التخالف، و موافقاً في غيرها، و مع توافق مضمونهما و مُتعلّقهما لا وجه لعدم تقوّي أحدهما بالآخر، و عدم ترجيحه به.

و بالجملة: إن كان مفاد الاستصحاب هو البناء العمليّ و لزوم ترتيب أثر الواقع على المؤدّى لا يكون مُناقضاً للعلم الوجدانيّ المُتعلّق بالواقع، فلا وجه لعدم جريانه في


1- المُراد به المحقّق النائيني قدّس سرّه انظر فوائد الاصول: 3: 15 و 16 و 110 و 4: 692، و قد اختاره المحقّق العراقي قدّس سرّه أيضاً، انظر نهاية الأفكار 3: 26 و 4: 123- القسم الثاني.
2- فوائد الاصول 4: 693.

ص: 256

أطراف العلم الإجماليّ إذا لم تلزم منه مخالفة عمليّة.

و إن كان مؤدّاهما الواقع فيكون مُناقضاً للعلم الوجدانيّ، و يجب أن يتقوّى بالظنّ الغير المُعتبر، و يكون الظنّ مُرجّحاً عند التعارض.

فالجمع بين عدم جريان الاستصحابين في أطراف العلم مُطلقاً؛ لمكان التناقض، و بين عدم ترجيح الاستصحاب بالأمارة الغير المُعتبرة بين النقيضين.

إن قلت: إنَّ هذا الإشكال وارد عليك أيضاً حيث تقول: إنَّ مفاد أدلّة الاستصحاب إطالة عمر اليقين، و هي تقتضي الكشف عن الواقع، فلا بدّ و أن يتقوّى بالظنّ.

قلت: قد ذكرنا سابقاً(1) أنَّ اليقين لا يعقل أن يكون كاشفاً عن الواقع في زمان الشكّ؛ ضرورة عدم كاشفيّته إلّا عن مُتعلّقه في ظرف تحقّقه لا مُطلقاً، فمعنى إطالة عمر اليقين في عالم التشريع ليس إلّا لزوم ترتيب آثار اليقين الطريقيّ؛ أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشكّ، و هو لا يناقض الواقع، و أيّ تناقض بين كون الشى ء نجساً واقعاً، و لزوم ترتيب آثار الطهارة في ظرف الشكّ؟! و إطالة عمر اليقين تعبّداً ليست إلّا التعبّد ببقائه بحسب الآثار، فتدبّر.

فتحصّل ممّا ذكرنا: عدم جواز ترجيحه بالمُرجّحات.

بيان وجه تساقطهما

و أمّا وجه التساقط- بعد فرض جريانهما في أطرافه ذاتاً، و قلنا المانع منه المخالفة العمليّة، أو قيام الدليل على عدم الجريان كالمتمِّم و المُتمِّم- أنَّ الكبرى المجعولة في باب


1- تقدّم في صفحة 37- 38 و 152 من هذا الكتاب، و انظر هامش أنوار الهداية 1: 110.

ص: 257

الاستصحاب تكون نسبتها إلى جميع الأفراد على السواء، و شمولها لها شمولًا واحداً تعيناً، أي تكون شاملة لجميع الأفراد على سبيل التعيين، لا الأعمّ من التخيير حتّى يكون شمولها لكلّ فرد- مرّتين أو مرّات غير محصورة- مرّة معيّناً، و مرّة مخيّراً بين اثنين اثنين، و مرّة بين ثلاثة ثلاثة و هكذا، أو فى حالٍ مُعيّناً، و في حال مُخيّراً و مُعيّناً، و هذا واضح.

و حينئذٍ: لا يمكن الأخذ بكلّ واحد من أطراف العلم؛ للزوم المُخالفة العمليّة، و لا ببعض الأطراف مُعيناً؛ لعدم التراجيح، و لا مخيّراً؛ لعدم شمول الكبرى للأفراد مُخيّراً رأساً، فيلزم سقوطهما.

حول وجهي التخيير و الجواب عنهما

و ما يمكن أن يكون وجهاً للتخيير أمران ذكرناهما في باب الاشتغال (1)، و نشير إليهما إجمالًا:

أحدهما: أنَّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطاباً تخييريّاً؛ لوجود الملاك التامّ في الأطراف، كما في باب التزاحم، فقوله: «أنقذ الغريق إذا سقط» بعد التزاحم يستكشف العقل خطاباً تخييريّاً؛ لوجود الملاك في كلّ منهما، فما هو الملاك لتعلّق الخطاب التعيينيّ لكل غريق يكون ملاكاً للخطاب التخييريّ، فبعد سقوط الهيئة نتمسّك بإطلاق المادّة، و نستكشف الخطاب التخييريّ (2).

و دعوى: أنَّ استكشاف الملاك لا طريق له مع سقوط الهيئة مردودة: بأنَّ السقوط إذا كان بحكم العقل لا يوجب تقييد المادّة، و لا سقوط الملاك.


1- أنوار الهداية 2: 197- 200.
2- درر الفوائد: 458 و 459.

ص: 258

هذا و يرد عليه: أنَّ استكشاف الخطاب التخييريّ لا يمكن فيما نحن فيه؛ لاحتمال ترجّح اقتضاء التكليف الواقعي في الاحتياط على اقتضاء اليقين و الشكّ لحرمة النقض، و مع هذا الاحتمال لا يمكن كشف الخطاب؛ لعدم إحراز الملاك التامّ، كذا قيل (1).

و التحقيق أن يقال: إنَّ كشف الخطاب في مثل «أنقذ الغريق» ممّا لا مانع منه لوجود الملاك في كلّ من الطرفين، دون مثل: (لا تنقض ..) لعدم الملاك في الطرفين، و لا في واحد منهما؛ لأنَّه ليس تكليفاً نفسيّاً مشتملًا على الملاك، بل هو تكليف لأجل التحفّظ على الواقع، لا بمعنى كونه طريقاً إليه، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاك دَرْك الواقع.

مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدويّة، فاستصحاب الوجوب و الحرمة لا يوجب حدوث ملاك في المُستصحب، بل يكون حُجّة على الواقع لو أصاب الواقع، و إلّا يكون التخلّف تجرّياً لا غير.

و أوضح منه الاستصحابات الموضوعيّة، فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف و سقط الأصلان لا يمكن كشف الحكم التخييريّ، لعدم الملاك في الطرفين.

ثانيهما: أنَّ إطلاق أدلّة الاستصحاب يقتضي عدم نقض اليقين بالشكّ في حال نقض الآخر و عدمه، كما أنَّ إطلاق أدلّة الترخيص يقتضيه في حال الإتيان بالآخر و عدمه، و إطلاق مثل «أنقذ الغريق» يقتضي إنقاذ كلّ غريق، أنقذ الآخر أو لا، و لا يجوز رفع اليد عنه إلّا بما يحكم العقل، و هو ما تلزم منه المُخالفة العمليّة، و الترخيص في المعصية، و التكليف بما لا يطاق.


1- انظر نفس المصدر: 459 قوله قدّس سرّه و فيه: أنَّ هذا الحكم من العقل ....

ص: 259

و نتيجة ما ذكر: هو الأخذ بمقتضى (لا تنقض ..) تخييراً، و بالأدلّة المُرخّصة كذلك، و بمثل «أنقذ الغريق».

و بالجملة: أنَّ المحذور فيها إنّما هو من إطلاق تلك الأدلّة، فلا بدّ من رفع اليد منه، لا من أصلها(1).

و أجاب عنه بعض أعاظم العصر بوجهٍ ضعيفٍ (2)، و لقد تعرّضنا لجوابه و بعض موارد الإشكال عليه في ذلك المبحث فراجع (3).

و أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس سره: بأنَّ لازم رفع اليد عن الإطلاق كلّ طرف هو الترخيص في كلّ طرف بشرط ترك الآخر، و وجوب إنقاذ كلّ واحد من الغريقين بشرط ترك الآخر، و هو مستلزم للترخيص في المعصية إذا تركهما، و للتكليف بما لا يطاق إذا ترك إنقاذ الغريقين؛ لتحقّق شرط كلّ من الطرفين.

و أجاب عنه: بأنَّه الأحكام لا تشمل حال وجود مُتعلّقاتها، و لا حال عدمها؛ لأنَّ الشي ء المفروض الوجود ليس قابلًا لأن يتعلّق به حكم، و كذا المفروض العدم؛ لأنَّه بعد هذا الفرض يكون خارجاً عن قدرة العبد(4).

و هذا الجواب لا يخلو عن إشكال.

و التحقيق في الجواب أن يقال: إنَّه ليس في المقام قضيّتان شرطيّتان، حتّى يقال:

مع تحقّق شرطهما يلزم المحذور المُتقدّم، بل رفع اليد عن الإطلاق إنّما هو بحكم العقل؛ فيما يلزم منه محذور التكليف بالمحال، أو الترخيص في المعصية.

فنقول: أمّا في المُتزاحمين، فيحكم العقل بأنَّ العبد إذا اشتغل بإنقاذ كلّ غريق يكون معذوراً في ترك الآخر، أو غير مُكلّف به- على اختلاف المسلكين- لكونه في حال


1- نفس المصدر.
2- فوائد الاصول 4: 28- 32.
3- انظر أنوار الهداية 2: 200- 205.
4- انظر درر الفوائد: 459 و 460.

ص: 260

صرف قدرته لإنقاذه عاجزاً عن إنقاذ الآخر، فيحكم العقل برفع فعليّة التكليف، أو كونه معذوراً حال صرف قدرته في أحدهما عن الآخر، لا أنَّ التكليف بكلّ واحدٍ منهما مشروط بعدم الآخر.

و لازم ما ذكرنا: أنَّه مع الإتيان بكلّ واحد منهما يكون معذوراً في ترك الآخر، أو غير مُكلّف به، و إذا تركهما لا يكون معذوراً في واحدٍ منهما، و يكون مُكلّفاً بكلّ واحدٍ منهما.

و ليس هذا تكليفاً بالمحال؛ لأنَّه غير مُكلّف بالمجموع؛ لعدم تعلّق التكليف إلّا بالمعيّنات، و المجموع ليس مورداً للتكليف، فالمكلّف التارك لإنقاذ الابن- من غير صرف القدرة في إنقاذ الأخ- غير معذور في ترك إنقاذه، بل مكلّف به؛ لكونه قادراً عليه، و كذا التارك لإنقاذ الأخ من غير صرف القدرة في إنقاذ الابن، و لا يتعلّق التكليف بمجموعهما حتّى يقال: إنَّه غير قادر عليهما.

و بالجملة: أنَّ العجز عن كلّ واحدٍ منهما إنّما يتحقّق بالاشتغال بالآخر، و العجز عن المجموع و إن كان مُحقّقاً لكنّه غير مُكلّف به، و لا معاقب عليه، بل مُكلّف بكلّ واحد، و مُعاقب عليه إذا تركهما، و هو قادر على كلّ واحد منهما.

و أمّا الترخيص في الترك في الشبهات الوجوبيّة، فالذي يحكم به العقل أنَّ ترخيص تركهما غير جائز، و أمَّا الآتي بكلّ واحد فيجوز أن يرخّص في ترك الآخر، فيحكم العقل بأنَّ التارك لكلّ واحدٍ غير مُرخّص في الآخر، و لازمه أنَّ التارك لهما لا يكون مُرخّصاً في واحدٍ منهما، و إن فرض أنَّه لو أتى بواحدٍ منهما يكون غير الواجب الواقعيّ.

و في الشبهات التحريميّة يحكم العقل بأنَّ ترخيص إتيان كلٍّ منهما مُطلقاً غير جائز، دون إتيان كلٍّ مع ترك الآخر، و لازمه أنَّه مع الإتيان بهما لا يكون مُرخّصاً في شي ءٍ

ص: 261

منهما، لكن مع تركهما لا ينقلب حكم العقل عمّا هو عليه من أنَّه مع فرض ترك كلٍّ مُرخّص في الآخر، و أمّا ترك المجموع فليس موضوعاً واحداً و محكوماً بحكم، حتّى يقال: مع تركهما يكون مُرخّصاً فيهما.

و يمكن أن يقال: إنَّه بعد فرض إطلاق أدلّة الترخيص يحكم العقل برفعه في كلّ واحد مع الإتيان بالآخر، فمع فرض الإتيان بهما لا يكون مُرخّصاً في واحدٍ منهما، و إن فرض أنَّه لو تُرك واحد منهما يكون غير الحرام، فالترخيص في كلّ واحدٍ على فرض ترك الآخر لا ينتهي إلى الإذن في المعصية، كما هو واضح.

هذا و لكنّ الشأن في إطلاق أدلّة الاستصحاب.

و يمكن دعوى الفرق بين أدلّة الترخيص و بين أدلّة الاستصحاب: بأنَّ الاولى مُطلقة دون الثانية؛ لأنَّ الاستصحاب بما أنَّه مجعول بملاحظة الواقع و التحفّظ عليه- كالاحتياط في الشبهات البدويّة لو فرض جعله- يمكن منع إطلاق أدلّته بالنسبة إلى أطراف العلم الإجماليّ بالانتفاض، هذا كلّه حال الاستصحاب مع الأمارات و الاصول.

ص: 262

ص: 263

حال الاستصحاب مع سائر القواعد

اشارة

و أمّا حاله مع سائر القواعد ممّا وقع الكلام في أماريّتها و أصليّتها، فلا بدّ من بيان أدلّتها و حدود دلالتها حتّى يتّضح الحال فيها، فلا بأس بصرف الكلام إليها بنحو البسط تبعاً للشيخ الأعظم (1).

فنقول: يقع الكلام فيها في مباحث:

المبحث الأوّل في قاعدة اليد

اشارة

و لها جهات من البحث:


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 409- 422.

ص: 264

الجهة الأولى في تحقيق ماهيّة اليد

ماهيّة اليد فيما نحن فيه أي ما هو موضوع بناء العقلاء و الأدلّة الشرعيّة هي الاستيلاء العرفيّ و السلطنة الفعليّة على الشي ء أيّ نحو من الاستيلاء كان، و على أيّ شي ءٍ تعلّق، و هو يختلف بحسب الموارد، و بحسب المستولي و المستولى عليه، فالاستيلاء على متاع البيت بنحوٍ، و على البيت بنحو، و على القرية بنحو، و على توابعها بنحو، و على مراتعها بنحو، و على التلال و الجبال التي هي من التوابع البعيدة بنحو.

كما أنَّ استيلاء السلاطين أو الدول على المملكة بنحو، و على الحدود و الثغور بنحو، و على البحار التابعة لها بنحو، و على الجوّ و المحيط بنحو، و هو يختلف حسب اختلاف الأزمنة، ففي سالف الزمان لم يكن الجوّ البعيد- نحو ميل أو أكثر، و قعر البحار العميقة- تحت الاستيلاء و السلطنة الفعليّة، و الآن يكون كلّ ذلك إلى حدودٍ تحتهما، و إذا حدثت آلات أرقى ممّا هي الآن يتّسع نطاق الاستيلاء و السلطنة حسبها، فالاستيلاء أمر اعتباريّ لا مقوليّ، و منشأ اعتباره مُختلف حسب اختلاف الموارد المذكورة.

ص: 265

الجهة الثانية الدليل على اعتبارها

لا إشكال و لا كلام في اعتبار اليد في الجملة و اقتضائها الملكيّة، و يدلّ عليه بناء العقلاء و سيرتهم في جميع الأعصار و الأمصار، بل هو من الضروريّات، لا يشكّ فيه عاقل، و لا يكون في طريقتهم و سيرتهم ما هو أوضح منه، لو لم نقل بأنَّه ليس فيهما ما هو بتلك المثابة من الوضوح.

كما أنَّه لا ينبغي الإشكال في أنّها لدى العُقلاء أمارة على الملكيّة، و كاشفة عنها، لا أصل عمليّ يعمل العُقلاء على طبقة؛ حفظاً للنظام و رغد العيش، و مبنى أماريّتها هل هي الغلبة، أو الظنّ النوعيّ أو غير ذلك؟ احتمالات، فمن رجع إلى ارتكازات العُرف و بناء العُقلاء لا يشكّ في ذلك.

و يدلّ على اعتبارها بل أماريتها مُضافاً إلى ذلك أخبار كثيرة في أبواب مُتفرّقة، نذكر ما عثرنا عليه فعلًا، و فيها الكفاية، و لعلّ المُتتبّع يعثر على أكثر منها، و هي طوائف:

منها: ما تدلّ على اعتبارها و أماريّتها.

و منها: ما تدلّ على اعتبارها من غير دلالة على الأصليّة أو الأماريّة.

و منها: ما توهم الأصليّة.

فمن الاولى: رواية

يونس بن يعقوب (1)، ذكرها صاحب الوسائل في ميراث


1- يونس بن يعقوب: ابن قيس أبو علي الجلّاب البجلي الدهني، كانت أمّه اخت معاوية بن عمّار، و كان من الفقهاء الأعلام، و الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام، كان مورداً لعناية الإمام الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام، روى عن أبيه، و حمران بن أعين، و عبد الأعلى بن أعين، و معاويه بن عمّار، و منصور بن حازم، و آخرين، و روى عنه أحمد بن محمّد بن أبى نصر، و الحسن بن علي بن يقطين، و صفوان بن يحيى، و خلائق، مات بالمدينة فبعث إليه الإمام الرضا عليه السلام بحنوطه و كفنه و جميع ما يحتاج إليه، و أمر مواليه و موالي أبيه و جدّه أن يحضروا جنازته، و دفن في البقيع. انظر رجال النجاشي: 446/ 1207، رجال الطوسي: 335/ 44 و 363/ 4 و 394/ 1 و معجم رجال الحديث 20: 228/ 13845.

ص: 266

الزوجين: محمّد بن الحسن، بإسناده (1) عن عليّ بن الحسن (2) عن محمّد بن الوليد(3) عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: في امراة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة؟

قال: (ما كان من مَتاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من مَتاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له)

(4).

و الظاهر منها: أنَّه في مقام النزاع و رفع الخصومة، و تشخيص المُدّعي و المُنكر- إذا رفع الأمر إلى الحاكم- إن احرز استيلاء أحد الزوجين على شي ء من مَتاع البيت فهو له بيمينه، و على المُدّعي إقامة البيّنة، و إن لم يحرز فما كان من مَتاع كلّ من الزوجين و مُختصّاته فهو له، و ما كان من متاعهما و مشتركاً بينهما؛ أي لا يكون من مُختصّات واحدٍ منهما فهو لهما، و يعمل على طبق ميزان القضاء فيه.


1- فيه علي بن محمّد بن الزبير، و استفاد المُحقِّق الداماد وثاقته( أ) من قول النجاشي في حقّه: هو علوّ في الوقت( ب)، و هي بعيدة، لأنَّ الظاهر من العلوّ هو علوّ السند و قلّة الواسطة، و لا يبعد رجوع الضمير في قول النجاشي إلى أحمد بن عبد الواحد لا الزبيري فراجع، لكن لا تبعد وثاقة الزبيري لكثرة رواياته( ج)، و عمل الأصحاب بها منه قدّس سرّه . أ- انظر تنقيح المقال 2: 304/ 8472. ب- رجال النجاشي: 87/ 211. ج- انظر معجم رجال الحديث 12: 333 و 334.
2- علي بن الحسن: هو أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن فضال بن عمر بن أيمن مولى عكرمة بن ربعي الفياض، كان فقيه أصحابنا بالكوفة و وجههم، ثقة، عارفاً بالحديث، جيّد التصانيف، و له كتب كثيرة في الفقه، عدّه الشيخ في أصحاب الإمامين الهادي و العسكري عليهما السلام، روى عن أبيه و أخويه أحمد و محمّد، و أيّوب بن نوح، و علي بن أسباط، و معاويه بن حكيم، و محمّد بن أبي عمير و خلق، و روى عنه أمد بن محمّد بن سعيد الكوفي، و محمّد بن يحيى، و علي بن محمّد بن الزبير و خلق، توفّي سنة 224 ه. انظر رجال النجاشي: 257/ 676، الفهرست للطوسى: 92/ 381، مجمع الرجال 4: 180.
3- الخزّاز: ثقة منه قدّس سرّه . و هو أبو جعفر الكوفي البجلي الخزاز، كان ثقة عيناً نقي الحديث، روى عن يونس بن يعقوب، و حمّاد بن عثمان، و محمّد بن سماعة، و الوليد بن عقبة، و روى عنه سعد بن عبد اللَّه، و عمران بن موسى، و جعفر بن القاسم، و سهل بن زياد. انظر رجال النجاشي: 345/ 931، معجم رجال الحديث 17: 311 و 313/ 11930 و 11934، رجال ابن داود: 276/ 490، معلم العلماء: 104/ 698.
4- التهذيب 9: 302/ 1079، الوسائل 17: 525/ 3- باب 8 من أبواب ميراث الأزواج.

ص: 267

و لا يبعد أن يكون اختصاص المتاع- في البيت الذي هو تحت استيلاء الشريكين- بكلّ واحد منهما أمارة عقلائيّة على يده عليه، فيكون الاختصاص أمارة على كونه مُستولياً عليه زائداً على الاستيلاء البيتيّ، فلو فرض عالم و نجّار في دار، و اختلفا في متاعها، و كان فيها كتب علميّة، و آلات صناعة النجارة، يكون ذلك الاختصاص أمارة عقلائيّة على كون الكتب تحت يد العالم، و الآلات تحت يد النجّار، فيحكم بملكيّة كلّ منهما لما يختصّ به، لأجل اليد و الاستيلاء المنكشفة من الاختصاص، و تُطالَب البيّنة من صاحبه المُدّعي في مقام الخصومة، فيكون الحكم على طبق القاعدة، و لو فرض أنَّ الحكم تعبديّ على خلاف القواعد لا يضرّ بما نحن بصدده؛ و هو استفادة اعتبار اليد من قوله:

(و من استولى على شي ءٍ منه فهو له).

و لا إشكال: في أنَّ العرف لا يرى لخصوصيّة الزوج و الزوجة، و لا لمتاع البيت، و لا للنزاع مدخليّة في ذلك، بل ما يفهم العرف من ذلك هو أنَّ الاستيلاء على أيّ نحوٍ كان، و على أيّ شي ءٍ كان يكون تمام الموضوع للحكم بأنَّه له، فيستفاد منه قاعدة كلّيّة.

و لا يخفى: أنَّ الظاهر من قوله: (هو له) كونه أمارة على الملكيّة، فلسانه لسان إلغاء احتمال الخلاف، فهو في دلالته على الأماريّة أقوى من قوله في باب اعتبار خبر الثقة:

(ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي)

(1) فلا إشكال في ذلك لا من حيث الدلالة على القاعدة الكلّيّة، و لا من حيث كون اليد أمارة على الملكيّة.

و منها: صحيحتا محمّد بن مسلم، ذكرهما في «الوسائل» في كتاب اللقطة.


1- انظر الكافي 1: 265/ 1، الوسائل 18: 100/ 4- باب 11 من أبواب صفات القاضي.

ص: 268

أولاهما:

محمّد بن يعقوب (1) عن عليّ عن أبيه (2) عن ابن محبوب (3) عن العلاء بن رزين (4) عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدار يوجد فيها الوَرِق (5).

فقال: (إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خَرِبة قد جلا(6) عنها أهلها فالذي وجد المال أحقّ به)

(7).

ثانيتهما:

محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن


1- محمد بن يعقوب: هو الإمام المحدّث الفقيه الكبير الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي السلسلي البغدادي، ينتسب إلى بيت عريق الأصل في كُلين أخرج عدّة من أعلام الفضيلة و الأدب، إليه انتهت رئاسة الإمامية في أيام الخليفة العبّاسي المقتدر، و قد أدرك زمان سفراء الإمام المهدي المنتظر عجّل اللَّه فرجه، و كان مجلسه يضم أكابر العلماء الراحلين في طلب العلم، فكانوا يحضرون حلقته لمذاكرته و التفقّه عليه، ألّف كتباً عديدة أشهرها و أهمّها كتاب الكافي الحافل بأطائب الأخبار و نفيس الأعلاق، و قد ظلّ حجّة الفقهاء إلى عصرنا هذا و هو أكمل و أفضل من سائر اصول الحديث الاخرى، مات ببغداد سنة 329 ه و قبره لا يزال شاخصاً فيها تزوره الخاصّة و العامّة. انظر مستدرك الوسائل 3: 526، رجال بحر العلوم 3: 326، نوابغ الرواة: 314.
2- علي: هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، من أجلّ رواة أصحابنا، ثقة في الحديث، ثبت، مُعتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، و صنّف كتباً كثيرة، و أضرّ في وسط عمره، كان في عصر الإمام العسكري عليه السلام، و عاش إلى سنة 307 ه، و أمّا والده الشيخ أبو إسحاق إبراهيم فكان شيخاً من مشايخ الإجازة، فقهياً، محدّثاً من أعيان الطائفة و كبرائهم و أعاظمهم، أصله من الكوفة، و انتقل إلى قم، و هو أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم، و روى عن مشايخ كثيرة يبلغ عددهم زهاء مائة و ستين شخصاً. انظر معجم رجال الحديث 1: 316/ 332 و 11: 193/ 7816، رجال النجاشي: 16/ 18 و 260/ 680، الفهرست للطوسي: 4/ 6 و 89/ 370، تنقيح المقال 2: 260/ 8102.
3- ابن محبوب: هو أبو علي الحسن بن محبوب السرّاد، و يقال له الزرّاد، مولى بجيلة، كوفي ثقة، و كان جليل القدر، و ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه و الإقرار له بالفقه، عدّه الشيخ في أصحاب الإمامين الكاظم و الرضا عليهما السلام، و روى عن ستين رجلًا من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، توفّي سنة 224 ه. انظر الفهرست للطوسي: 46/ 151، رجال الكشي 1: 851، جامع الرواة 1: 221.
4- العلاء بن رزين: القلّاء الكوفي، مولى ثقيف، كان ثقة وجهاً جليل القدر، و عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، روى عن و روى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر، و جعفر بن بشير، و يونس بن عبد الرحمن، و صفوان بن يحيى و خلائق. انظر رجال الطوسي: 245/ 355، معجم رجال الحديث 11: 167/ 7763، بلغة المحدّثين: 379/ 29.
5- الدراهم المضروبة منه قدس سره .
6- جلا: أي خرجوا منها إلى غيرها. لسان العرب 2: 343.
7- الكافي 5: 138/ 5، التهذيب 6: 390/ 1169، الوسائل 17: 354/ 1- باب 5 من أبواب اللقطة.

ص: 269

أيّوب (1) عن العلاء، عن محمّد بن مُسلم، عن أحدهما في حديث قال: و سألته عن الوَرِق يوجد في دار.

فقال: (إن كانت معمورة فهي لأهلها، فإن كانت خربة فأنت أحقّ بما وجدت)

(2).

و نحوهما ما عن «دعائم الإسلام»(3).

و الظاهر اتّحادهما، و لا تقصر دلالتها عن الموثّقة لو لم تكن أدلّ منها، و يُستفاد منها قانون كلي و قاعدة سيّارة؛ ضرورة عدم دخالة الوَرِق و لا الدار في ذلك عُرفاً، بل المتفاهم منها أنَّ تمام الموضوع للحكم هو الاستيلاء، و كون الوَرِق في الدار تحت يد صاحبها، فما هو الموضوع كون الشي ء تحت اليد، و تستفاد منها الأماريّة، كما ذكرنا في الموثّقة.

و منها: ذيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج المنقولة في كتاب الميراث، باب ميراث الزوجين:

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و عن محمّد بن إسماعيل (4) عن الفضل بن شاذان (5) جميعاً عن


1- فضالة بن أيوب: الأزدي، عربي صميم، سكن الأهواز، و كان ثقة في حديثه، مُستقيماً في دينه، عدّه الشيخ في أصحاب الإمامين الكاظم و الرضا عليهما السلام، روى عن عبد اللَّه بن بكير، و الفضيل بن عثمان، و معاوية بن عمار، و داود بن فرقد و آخرين، و روى عنه علي بن إسماعيل الميثمي، و داود بن عيسى، و محمّد بن عيسى و غيرهم. انظر معجم رجال الحديث 13: 271/ 9328، مجمع الرجال 5: 17، رجال الطوسي: 357/ 1 و 385/ 1.
2- التهذيب 6: 390/ 1165، الوسائل 17: 354/ 2- باب 5 من أبواب اللقطة.
3- دعائم الاسلام 2: 497/ 1774، مستدرك الوسائل 3: 152/ 1- باب 4 من أبواب اللّقطة.
4- محمد بن إسماعيل: أبو الحسن البندقي النيسابوري: انظر رجال الكشي 2: 817، معجم رجال الحديث 15: 89/ 238.
5- الفضل بن شاذان: الخليل ابن أبو محمّد الأزدي النيشابوري، كان من أصحابنا الثقات الأجلّاء و الفقهاء المتكلّمين، عدّة الشيخ في أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام، و روي أنَّ الإمام أبا محمّد العسكري عليه السلام قال:( أغبط أهل خراسان لمكان الفضل و كونه بين أظهرهم)، له كتب كثيرة ذكر بعضها الشيخ في الفهرست، و النجاشي في رجاله، توفّي سنّة 260 ه. انظر الفهرست للطوسي: 124/ 552، رجال النجاشي: 306/ 840، رجال ابن داود: 151/ 1200، التحرير الطاوسي: 453/ 334.

ص: 270

ابن أبي عُمير(1) عن عبد الرحمن بن الحجّاج (2) عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

سألني هل يقضي ابن أبي ليلى (3) بالقضاء ثمّ يرجع عنه. إلى أن قال: ثمّ قضى بعد ذلك بقضاء لو لا أنّي شهدته لم أروه عليه، ماتت امرأة منّا و لها زوج، و تركت متاعاً فرفعته إليه فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان فإنَّه من متاع الرجل، فهو لك.

فقال لي: (فعلى أيّ شي ءٍ هو اليوم)؟

فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعيّ (4)؛ أن جعل البيت للرجل، ثمّ سألته عن ذلك فقلت له: ما تقول أنت فيه؟

فقال: (القول الذي أخبرتني أنّك شهدته، و إن كان قد رجع عنه).

فقلت: يكون المتاع للمرأة؟


1- ابن أبي عمير: محمد بن أبي عمير الأزدي، من أصحاب الأئمّة الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السلام، كان جليل القدر عظيم المنزلة عند أصحابنا و غيرهم حتى عدّت مراسيله مسانيد، و أجمع على تصحيح ما يصح عنه، روى عن أبي بصير، و الحسين بن أبي العلاء، و حمّاد بن عثمان و غيرهم، و روى عنه إبراهيم بن هاشم، و أيوب بن نوح، و الفضل بن شاذان و خلق. انظر تنقيح المقال: 2: 61/ 10272، معجم رجال الحديث 14: 279/ 10018.
2- عبد الرحمن بن الحجّاج: البجلي، كوفي، بيّاع السابري، استاذ صفوان، عدّه الشيخ فى أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، روى عن منصور بن حازم، و عبيد بن زرارة، و علي بن يطين، و بكير بن أعين و طائفة، و روى عنه يونس بن عبد الرحمن، و عبد الرحمن بن أبي نجران، و جميل بن دراج، و محمّد بن أبي عمير و خلائق، توفّي في عصر الإمام الرضا عليه السلام. انظر رجال النجاشي: 237/ 630، رجال الطوسي 230/ 126 و 353/ 2، معجم رجال الحديث 9: 315/ 6359.
3- ابن ابي ليلى: هو محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، قاضي الكوفة و مقرئها، كان صدوقاً فيك حديثه، مات سنة 148 ه، روى عن بقيّة بن الوليد، و عبد اللَّه بن المبارك، و عيسى بن يونس و غيرهم، و روى عنه إبراهيم بن أسباط الزيات، و إبراهيم بن عبد اللَّه بن الجنيد و غيرهم. انظر تهذيب الكمال 25: 622/ 5406، الوافي بالوفيات 3: 221/ 1215، الكنى و الألقاب 1: 202- 204.
4- إبراهيم النخعي: هو إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي، الفقيه الكوفي التابعي و امّه مليكة بنت يزيد، اخت الأسود بن يزيد و عبد الرحمن بن يزيد، عدّه الشيخ في أصحاب الإمام علي و الإمام السجّاد عليهما السلام، روى عن خاليه الأسود و عبد الرحمن و الربيع بن خثيم و سويد بن غفلة و مسروق و أبان بن تغلب و شريح بن الحارث القاضي، و روى عنه سليمان الأعمش و سماك بن حرب و عبد اللَّه بن شبرمة و الحر بن مسكين و محمّد بن سوقة و عبيدة بن معتب الضبي و آخرون، مات سنة 96 ه. انظر تهذيب الكمال 2: 233/ 265، حلية الأولياء 4: 219/ 280، الكنى و الألقاب 3: 244.

ص: 271

فقال: (أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج)؟

فقلت: شاهدين.

فقال: (لو سألت مَنْ بين لابتيها- يعني الجبلين و نحن يومئذٍ بمكّة- لأخبروك أنَّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، فإن زعم أنَّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة)

(1).

حيث إنَّ إخبار من بين لابتيها بأنَّ الجهاز للمرأة مستنداً إلى أنَّه يهدى من بيتها ليس إلّا من قبل اليد و الاستيلاء، و قوله:

(انَّ متاع البيت للمرأة)

مستند إليها و إلى استصحابها، و الظاهر منها كونها أمارة؛ لقوله: (المتاع للمرأة) و لإرجاعه إلى شهادة من بين لابتيها، و لا يكون إخبارهم إلّا عن الواقع؛ لقيام الأمارة العقلائيّة عليه.

و منها: صحيحة جميل بن صالح المنقولة في كتاب اللُّقَطة:

محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد(2) و أحمد بن محمّد(3) جميعاً عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح (4) قال قلت لأبي عبد اللَّه: رجل وجد في منزله ديناراً.


1- الكافي 7: 130/ 1، التهذيب 6: 298/ 831، الاستبصار 3: 45/ 151، الوسائل 17: 523/ 1- باب 8 من أبواب ميراث الأزواج.
2- سهل بن زياد: الآدمي الرازي أبو سعيد، كان من أصحاب الأئمّة الجواد و الهادي و العسكري عليهم السلام، روى عن الحسن بن محبوب، و أحمد بن محمّد البرقي، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي و جعفر بن محمّد الأشعري و غيرهم. و روى عنه محمّد بن الحسن الصفّار، و محمّد بن يحيى، و محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، و علي بن محمّد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 185/ 490، رجال بحر العلوم 3: 21، معجم رجال الحديث 8: 337/ 5629.
3- أحمد بن محمّد: ابن عيسى بن عبد اللَّه بن سعد بن مالك بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري من بني ذفران ابن عوف ابن الجماهر بن الأشعر، شيخ القمّيّين في زمانه و وجههم و فقيههم لقى من الأئمّة الأطهار الرضا و الجواد و العسكري عليهم السلام، روى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، الحسن بن محبوب، و الحسين بن سعيد و غيرهم، و روى عنه أحمد بن إدريس، و سعيد بن عبد اللَّه الأشعري، و سهل بن زياد و غيرهم، انظر رجال النجاشي: 81/ 198، الفهرست للطوسي: 25/ 65، معجم رجال الحديث 2: 296/ 898.
4- جميل بن صالح: الأسدي من وجوه الطائفة المُحقّة، تشرّف بلقاء الإمامين الهمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، روى عن أبي بصير، و أبي خالد الكابلي، و زرارة بن أعين و غيرهم، و روى عنه سماعة بن مهران، و الحسن بن محبوب، و محمّد بن أبى عمير، و على بن حديد و غيرهم، انظر رجال النجاشي: 127/ 329، الفهرست للطوسي: 4/ 144، معجم رجال الحديث 4: 158/ 2365.

ص: 272

قال: (يدخل منزله غيره)؟

قلت: نعم كثير.

قال: (هذا لقطة).

قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟

قال: (يُدْخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً)؟

قلت: لا.

قال: (فهو له)

(1).

فإنّ الظاهر منها أنَّه سأل عمّن وجد في منزله أو صندوقه ديناراً، و لم يعلم صاحبه، و كانت شبهته في أنَّ مجرّد وجدانه في منزله أو صندوقه مع جهل صاحب اليد يكفي للحكم بأنَّه له أو لا فحكم بأنَّ ما في الصندوق له، و فيما إذا دخل في بيته غيره أشخاص كثيرون بأنَّه لقطة.

و هو موافق للقاعدة؛ لأنَّ المنازل التي هي معرض المراودة كثيراً لا تكون يد صاحبها بالنسبة إلى مثل الدينار المُلقى أمارة عقلائيّة، بل الظاهر أنَّ مثله لم يكن تحت يده عرفاً.

نعم: لو كان الدخول قليلًا، أو كان الشي ء مثل متاع البيت تكون اليد أمارة، و لم يتّضح من استفساره بأن يدخل في داره غيره، لو أجاب: بأنَّه يدخل فيها غيره هل يفصّل بين القليل و الكثير أولا؟ فلم يتعرّض لحكم ما إذا دخل في المنزل غيره نادراً، فهو على طبق القاعدة.

نعم يمكن أن يُقال: إنَّ حكم الصندوق غير الدار، فإن أدخل أحدٌ يده فيه و وضع فيه شيئاً يخرج عن الاختصاص، و يصير مُشتركاً في الاستيلاء، فلا يحكم بأنَّ الدينار


1- الكافي 5: 137/ 3، الفقيه 3: 187/ 841، التهذيب 6: 390/ 1168، الوسائل 17: 353/ 1- باب 3 من أبواب اللقطة.

ص: 273

لصاحب الصندوق بمُجرّد كونه صندوقه.

و كيف كان: فالصحيحة دالّة على اعتبار اليد و أماريّتها بالتقريب المُتقدّم، و سيأتي التعرّض لحكم المسألة.

و من الثانية؛ أي ما تدلّ على اعتبار اليد دون الدلالة على أماريّتها: صحيحة العيص بن القاسم (1) المنقولة في بيع الحيوان:

محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى (2) عن العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللَّه عليه الصلاة و السلام قال: سألته عن مملوك ادّعى أنَّه حرّ، و لم يأتِ ببيّنةٍ على ذلك، أشتريه؟

قال: (نعم)

(3).

و مثلها:

حسنة حمزة بن حمران (4) قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أدخل السوق و اريد أشتري جارية فتقول: إنّي حرّة.

فقال: (اشترها إلّا أن تكون لها بيّنة)

(5).


1- العيص بن القاسم؛: البجلي أبو القاسم، عدّه الشيخ في أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، كان أكثر ما روى عن الإمام الصادق عليه السلام، و عن يوسف بن إبراهيم، و روى عنه صفوان بن يحيى. انظر رجال النجاشي: 302/ 824، الفهرست للطوسي: 121/ 536، معجم رجال الحديث 13: 215/ 9246.
2- صفوان بن يحيى: البجلي أبو محمّد عدّه الشيخ في أصحاب الأئمّة الأطهار الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السلام، و كان وكيلًا للإمام الرضا عليه السلام، و من أوثق أهل زمانه و أعبدهم، و كانت له عند الإمام منزلة شريفة، روى عن عبد اللَّه ابن مسكان، و إسحاق بن عمّار، و العلاء بن رزين و غيرهم، و روى عنه البزنطي، و أيوب بن نوح، و إبراهيم بن هاشم و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 197/ 524، الفهرست للطوسي: 83/ 346، معجم رجال الحديث 9: 123/ 5922.
3- التهذيب 7: 74/ 317، الوسائل 13: 30/ 1- باب 5 من أبواب بيع الحيوان.
4- حمزة بن حمران: ابن أعين الشيباني، كوفي، من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، روى عن أبيه حمران، و محمّد بن مسلم، و عمر بن حنظلة، وزارة و غيرهم، و روى عنه عبيد بن زرارة، و جميل بن درّاج، و عبد اللَّه بن بكير، و منصور بن يونس و طائفة. انظر رجال النجاشي: 140/ 365، رجال الطوسي: 118/ 46 و 177/ 207، معجم رجال الحديث 6: 266/ 54027.
5- الكافي 5: 211/ 13، الفقيه 3: 140/ 613، التهذيب 7: 74/ 318، الوسائل 13: 31/ 2- باب 5 من أبواب بيع الحيوان.

ص: 274

و منها: المُكاتبة المنقولة في كتاب إحياء الموات:

محمّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى (1) عن محمّد بن الحسين (بن أبي الخطاب)(2) قال: كتبت إلى أبي محمّد: رجل كانت له رحى على نهر قرية، و القرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر، و يعطّل هذه الرحى، أ لَه ذلك أم لا؟

فوقّع: (يتّقي اللَّه و يعمل في ذلك بالمعروف، و لا يضرّ أخاه المؤمن)

(3).

و الظاهر أنَّ شبهته إنّما هي في أنَّ مثل هذه اليد على نهر القرية- أي يد استفادة دوران الرحى مع العلم بأنَّ الماء لصاحب القرية- تكون مُعتبرة و مُثبتة لحقّ عليه أولا؟

و الجواب و إن كان بنحو الوعظ، لكن يُستفاد منه عدم الجواز، و لا يجوز رفع اليد عن هذا الظاهر بمجرّد كون البيان مشفوعاً بالوعظ، مع أنَّ الأمر بالتقوى و النهي عن الإضرار يؤكّدان ذلك، تأمّل.

مع إمكان أن يقال: إنَّ قوله (و يعمل بالمعروف) أي بما هو حكم العُقلاء؛ من كون اليد أمارة على ثبوت الحقّ، فيمكن أن يدّعى أنّها من القسم الأوّل، لكن للتأمّل فيه مجال.

و منها: ما عن «تفسير عليّ بن إبراهيم» بطريق صحيح، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، المنقول في كتاب القضاء أبواب كيفيّة الحكم:

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه،


1- محمّد بن يحيى: العطار القمّي أبو جعفر شيخ أصحابنا في زمانه كثير الحديث، روى عن أحمد بن محمّد بن خالد، و أحمد بن محمّد بن عيسى، و سلمة بن الخطاب، و عبد اللَّه بن محمّد بن عيسى و غيرهم، و روى عنه ابنه أحمد، و الكليني، و علي بن الحسين بن بابويه، و محمّد بن الحسن بن الوليد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 353/ 946، تنقيح المقال/ 3: 199/ 11501، معجم رجال الحديث 18: 30/ 11982.
2- محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب: أبو جعفر من أصحاب الأئمّة الأطهار الجواد و الهادي و العسكري عليهم السلام، و من العدول و الثقات من أهل العلم، و من أجلّاء الطائفة، كثير الرواية، عظيم القدر، حسن التصانيف، روى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، و جعفر بن بشير، و محمّد بن إسماعيل بن بزيع و غيرهم، و روى عنه محمّد بن الحسن الصفار، و محمّد بن علي بن محبوب، و عبد اللَّه بن جعفر الحميري و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 334/ 897، الفهرست للطوسي: 140/ 597، معجم رجال الحديث 15؛ 291/ 10554.
3- الكافي 5: 293/ 5، الوسائل 17: 343/ 1- باب 15 من أبواب إحياء الموات.

ص: 275

عن ابن أبي عمير، عن عثمان بن عيسى (1)، و حمّاد بن عثمان (2) جميعاً عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث فدك: (انَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبى بكر: أ تحكم فينا بخلاف حكم اللَّه في المُسلمين؟

قال: لا.

قال: فإن كان في يد المُسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟

قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المُسلمين.

قال: فإذا كان في يدى شي ء، فادّعى فيه المُسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي، و قد ملكته في حياة رسول اللَّه و بعده، و لم تسأل البيّنة على ما ادّعوا عليَّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم)؟ إلى أن قال: (و قد قال رسول اللَّه: البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر)

(3).

نَّ ظهوره في اعتبار اليد واضح، لكن في دلالته على الأماريّة إشكال، و إن لا يبعد دعواها، بأن يقال: إنَّ قوله:

(فإن كان في يد المُسلمين شي ء يملكونه)

أي يملكونه واقعاً بدلالة اليد على الملكيّة؛ أي إذا كان شي ء تحت يد المُسلمين، و كانوا مالكين له؛ لأجل دلالة اليد، و ادّعيت أنا من تسأل البيّنة؟

فالإنصاف: أنَّه لا يخلو عن إشعار بل دلالة ما على المقصود.


1- عثمان بن عيسى: الرواسي أبو عمرو، كان من وكلاء الإمام الكاظم عليه السلام و بقي إلى زمان الإمام الرضا و الجواد عليهما السلام، روى عن سماعة بن مهران، و أبي بصير، و علي بن أبي حمزة و غيرهم، و روى عنه إبراهيم بن هاشم، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، و أحمد بن محمّد بن عيسى و غيرهم. انظر الفهرست للطوسي: 61/ 231، رجال النجاشي 142/ 370، معجم رجال الحديث 6: 224/ 3961.
2- حمّاد بن عثمان: الجُهني عدّه الشيخ من أصحاب الأئمّة الصادق و الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السلام، و هو ممّن أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنه، روى عن أبي بصير، و إسحاق بن عمّار، و جميل بن دراج و غيرهم، و روى عنه محمّد بن أبي عمير، و أحمد بن محمّد بن أبي نصر، و إسماعيل بن مهران و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 143/ 371، رجال الشيخ: 60/ 230، معجم رجال الحديث 6: 212/ 3957.
3- تفسير القمّي 2: 156، علل الشرائع: 190/ 1، الوسائل 18: 215/ 3- باب 25 من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 276

و من الثالثة: أي ما توهم الأصليّة، رواية حفص المنقولة في الباب المُتقدّم:

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و عليّ بن محمّد القاسانيّ (1) جميعاً عن القاسم بن يحيى (2) عن سليمان بن داود(3) عن حفص بن غياث (4) عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنَّه له؟

قال: (نعم).

قال الرجل: أشهد أنَّه في يده و لا أشهد أنَّه له، فلعلّه لغيره؟!

فقال أبو عبد الله: (أ فيحلّ الشراء منه)؟

قال: نعم.

فقال أبو عبد اللَّه: (فلعلّه لغيره، فَمِن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك)؟

ثمّ قال أبو عبد اللَّه: (لو لم يجز هذا لم يقم للمُسلمين سوق)(5).

حيث يتوهّم من قوله:

(لو لم يجز ...)

إلى آخره أنَّ اعتبار اليد إنّما هو من أجل قيام سوق المُسلمين، و حفظ النظام، و إدارة رحى الحياة، لا لكشفها عن الملكيّة


1- و هو ابن شيرة منه قدّس سرّه .
2- القاسم بن يحيى: عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، روى عن جدّه الحسن بن راشد البغدادي مولى المنصور الدوانيقي، و روى عنه إبراهيم بن هاشم، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، و أحمد بن محمّد بن عيسى، و محمّد بن عيسى، انظر رجال الطوسي، 385، رجال النجاشي: 316/ 866، الفهرست للطوسي: 127/ 564، معجم رجال الحديث 14: 64/ 9566.
3- المنقري و فيه حُسن، و ضعّفه ابن الغضائري منه قدّس سره . انظر مجمع الرجال 3: 165.
4- عدّه الشيخ في العدّة ممّن عمل الأصحاب برواياته منه قدّس سره . عدّة الاصول: 61 سطر 5. و هو القاضي أبو عمرو من أصحاب الأئمّة الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السلام، كان قاضياً لهارون الرشيد ببغداد الشرقية، ثمّ ولّاه قضاء الكوفة، و قد عملت الطائفة بأخباره، روى عن الزهري و الحجاج و ليث، و روى عنه ولداه محمّد و عمرو، و الحسن بن محبوب، و جميل بن دراج و غيرهم. توفّي بالكوفة سنة 194 ه. انظر رجال النجاشي: 321/ 876، الفهرست للطوسي: 61/ 232، معجم رجال الحديث 6: 148/ 3808.
5- الكافي 7: 387/ 1، الوسائل 18: 215/ 2- باب 25 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 277

الواقعيّة(1)، لكنّه فاسد يتّضح فساده بعد بيان فقه الحديث.

فنقول: إنَّ قوله: (يجوز لي أن أشهد أنَّه له؟) مُراده أنَّه تجوز لي الشهادة بالنسبة إليه كما تجوز لي في سائر الامور؟ أي كما أنّي أشهد أنَّ الشمس طالعة، و الفجر طالع، و زيد؛ عالم، و عمراً شجاع، إلى غير ذلك ممّا تتعلّق به الشهادة، هل يجوز لي أن أشهد بذلك أيضاً؟

و بالجملة: تجوز لي الشهادة بذلك كالشهادة بسائر الموضوعات؟

و لا شكّ أنَّ الشهادة فيها إنّما تتعلّق بالواقع، فالسؤال إنّما هو عن جواز الشهادة بالملكية الواقعيّة بمحض كون الشي ء في يدي رجل، فأجاب عليه السلام بقوله: (نعم) فقال الرجل: إنَّ ما أشهد به إنّما هو كونه في يده، لا أنَّه ملكه، فكيف تجوز لي الشهادة بالملكيّة الواقعيّة له مع الشكّ فيه، فأرجعه إلى ارتكازه بطريق النقض، و أنه كما يجوز الشراء منه و الحلف على الملكيّة بعد الشراء مع أنَّ ملكيّته إنّما جاءت من قبله، و لا يجوز الحلف إلّا مع الجزم بالملكيّة، كذلك تجوز الشهادة بكونه له، فاستدلاله عليه السلام لم يكن استدلالًا بحكم شرعيّ، بل بارتكاز عرفيّ، و بناء عقلائيّ، كما هو واضح.

فحينئذٍ قوله: (لو لم يجز هذا) معناه أنَّه لو منع الشارع من هذا الأمر الذي مدار سوق المُسلمين عليه يختلّ النظام، لا أنَّ تجويز الشارع ذلك إنّما هو لقيام السوق، حتّى تتوهّم منه الأصليّة(2)، فدلالتها حينئذٍ على الأماريّة لا تقصر عن غيرها بعد التأمّل فيما ذكرنا.

ثمّ الظاهر من الرواية أنَّه لو لم تجز الشهادة لم يقم للمُسلمين سوق، فربّما يستشكل عليها: بأنَّ عدم جواز الشهادة لا يوجب الاختلال، كما لا يخفى.

و جوابه: أنَّ ترك الشهادة أو عدم جوازها- لأجل احتمال كونه لغيره- لازمه


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 409 سطر 7، نهاية الدراية 3: 328 سطر 4.
2- انظر الهامش السابق.

ص: 278

الاعتناء بهذا الاحتمال، و عدم اعتبار اليد، و هو مُساوق لعدم جواز الشراء و سائر ما يترتّب على اليد، و هو مُوجب لاختلال سوق المُسلمين.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الرواية كما تدلّ على اعتبار اليد تدلّ على أماريّتها.

و منها: رواية مسعدة بن صدقة المنقولة في أبواب ما يكتسب به:

مُحمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مُسلم (1) عن مسعدة بن صدقة(2) عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال سمعته يقول: (كلّ شي ءٍ هو لك حلال حتّى تعلم أنَّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البيّنة)

(3).

و هذه الرواية هي عمدة ما يمكن أن يستدلّ بها لأصليّة اليد؛ حيث إنَّ الظاهر من صدرها و ذيلها هو ترتيب آثار الحلّية على المشكوك فيه إلى أن يعلم خلافه، و لقد مثّل لذلك بمثل الثوب و المملوك اللّذين تحت اليد، فيجب ترتيب آثار الملكيّة عليهما إلى أن يعلم الخلاف، و هذا معنى الأصل.

هذا: و لكنّ الظاهر بل المُتعيّن كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير، لا بيان المصداق؛ ضرورة أنَّ قوله: (كلّ شي ءٍ هو لك حلال) معناه أنَّ تمام الموضوع للحلّية إنّما هو كون الشي ء مشكوكاً فيه؛ أي إذا لم يدلّ دليل على حلّية الشي ء و لا على حرمته،


1- هارون بن مُسلم: أبو القاسم، و هو من أصحاب الإمامين الهادي و العسكري عليهما السلام، روى عن مسعدة بن صدقة، و علي بن الحكم، و محمّد بن أبي عمير، و القاسم بن عروة و غيرهم، و روى عنه الحسن بن علي بن فضال، و سعيد بن عبد اللَّه الأشعري، و سهل بن زياد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 438/ 1180، الفهرست للطوسي: 176/ 763، معجم رجال الحديث 19: 229/ 13241.
2- قالوا: إنَّ رواياته سديدة متينة، يحصل منها الوثوق بوثاقته منه قدّس سرّه . انظر تنقيح المقال 3: 212 سطر 13. و هو أبو محمّد العبدي من أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، روى عنه هارون بن مسلم، و جعفر بن عبد اللَّه. انظر رجال النجاشي: 415/ 1108، معجم رجال الحديث 18: 137/ 12276.
3- الكافي 5: 313/ 40، التهذيب: 226/ 989، الوسائل 12: 60/ 4- باب 4 من أبواب ما يكتسب به.

ص: 279

و يكون مشكوكاً فيه فهو حلال، فموضوع الحليّة هو كون الشي ء مشكوكاً فيه ليس إلّا.

مع أنَّه ليس موضوع الحلّية في تلك الأمثلة هو الشكّ و فقدان الدليل على أحد طرفي الشكّ؛ ضرورة أنَّ اليد في قاعدتها دخيلة في الحكم، بل هي تمام الموضوع له من غير دخالة الشكّ فيه، و الشكّ إنّما هو في مورده.

و بالجملة: ليس الشكّ في نفسه موضوعاً للحكم بحلّية ما في اليد، سواءً قلنا بأماريّة اليد أو أصليتها، و كذا في الشكّ في كون المرأة رضيعة أو اختاً ليس الشكّ- بما أنَّه شكّ- موضوعاً للحكم بالحليّة، بل الحكم لاستصحاب عدم حصول الرضاع، و استصحاب عدم تحقّق نسبة الاختيّة لو قيل بجريانه، و إلّا فمن أصالة الصحّة في فعل الغير و قاعدة التجاوز و الفراغ.

و على أيّ حال: ليست الأمثلة المذكورة في الرواية مثالًا و مصداقاً مُنطبقاً عليها قوله:

(كلّ شي ءٍ لك حلال)

فلا محيص إلّا أن يحمل على التنظير بأن يقال: إنَّ كلّ شي ءٍ مشكوك فيه فهو حلال، مثل ما لو دلّ الدليل على الحليّة، فكما أنَّ الحليّة ثابتة للشي ء مع قيام الدليل عليها، كذلك للشي ء المشكوك فيه بما أنَّه مشكوك فيه.

و لعلّه عليه السلام كان بصدد رفع وسوسة بعض أصحاب الوسوسة، حتّى لا يأخذهم الوسواس في المشكوك فيه، فذكر أوّلًا قاعدة كلّية هي:

(كلّ شي ءٍ هو لك حلال حتّى تعلم أنَّه حرام بعينه)

و لم يكتف بذلك حتّى أكّده بأنَّه لا فرق في الحليّة بين أن يقوم الدليل على الحليّة، أو يكون الموضوع مشكوكاً فيه، فمثّل بأمثلة بعضها ارتكازيّة عُقلائيّة، و بعضها شرعيّة، ثمّ لم يكتف به حتّى أكّده بقوله:

(و الأشياء كلّها على ذلك ..)

إلى آخره.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ قاعدة اليد أمارة سواءً كان مأخذها الأخبار، أو بناء العقلاء، فاتّضح وجه تقدّمها على الاستصحاب؛ فإنَّه بالحكومة إن كان المُستند هو الأخبار، و بالتخصّص إن كان بناء العقلاء.

ص: 280

الجهة الثالثة حكم اليد على المنفعة

الجهة الثالثة حكم اليد على المنفعة(1)

أنَّ الاستيلاء على الأعيان معلوم، و هل الاستيلاء على المنافع يكون بالاستيلاء على الأعيان؟ أو يكون الاستيلاء عليها في عَرْض الاستيلاء على الأعيان (2)، أو يكون الاستيلاء على الأعيان فقط، لكنّ مُقتضاه ملكيّة العين و منافعها؟ أو يكون مُقتضاه ملكيّة العين فقط، و تكون ملكيّة المنافع تبعاً لملكيّة العين؛ أي يكون مُقتضى اليد ملكيّة العين، و مُقتضى ملكيّة العين ملكيّة المنافع إلى أن يعلم خلافها(3) أو ليست اليد على المنافع، و ليست ظاهرة في ملكيّة المنافع أيضاً مطلقاً(4)؟ وجوه.

يمكن أن يقال: إنَّ الأقوى هو الوجه الأوّل، فإنَّ الاستيلاء على العين أوّلًا و بالذات، و على المنافع بتبع العين، فتكون اليد على المنافع باليد على العين، كما أنَّ تسليم المنافع بتسليم العين في باب الإجارة عند العقلاء، لو قلنا بأنَّ حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك المنافع (5)، لا التسليط على العين للانتفاع (6)، و لا إضافة بين العين و المُستأجر، مُستتبعة لمالكيّة المنافع (7).


1- الكلام في المنافع المقابلة للأعيان، و هي التي يقال بأنّها معدومة و أنّها تدريجية الوجود غير قار لا المنافع المنفصلة كالثمار، فانظر نهاية الدراية 3: 331 سطر 23.
2- العروة الوثقى 3: 121- كتاب القضاء.
3- نهاية الدراية 3: 331 سطر 17، و ذلك في الاستيلاء المقولي لا الاعتباري.
4- مستند الشيعة 2: 578 سطر 15، عوائد الأيام: 257.
5- العروة الوثقى 2: 397.
6- نفس المصدر.
7- اختاره الإمام قدّس سرّه في حاشيته على العروة الوثقى 2: 397، و انظر رسالة الإجارة المحقّق الأصفهاني: 3 و 4- ( ضمن بحوث في الفقه).

ص: 281

و القول: بأنَّ المنافع معدومة، لا يعقل وقوعها تحت اليد؛ لأنَّ الإضافة بين الموجود و المعدوم غير معقولة، فالاستيلاء نحو إضافة بين المستولي و المستولى عليه، و الإضافة الفعليّة لا بدّ فيها من مُضاف و مُضاف إليه فعليّين، فلا تتحقّق بين المعدومين، و لا بين موجود و معدوم (1).

ممّا لا يصغى إليه في الامور الاعتباريّة و الإضافات الحكميّة، فالميزان فيها هو الاعتبار العُقلائيّ، و ليست تلك الامور من الإضافات المقوليّة، حتّى يأتي فيها ما ذكر، بل هي من الاعتبارات العُقلائيّة، و لا شكّ في أنَّ ملكيّة المنافع قبل تحقّقها ممّا يعتبرها العُقلاء باعتبار تحقّق منشئها، و كونها في اهبة الوجود، فكما أنَّ الملكيّة مُعتبرة عند العُقلاء في المنافع، فكذلك الاستيلاء عليها عُقلائيّ، لكنّه يتبع الاستيلاء على العين.

و يمكن أن يقال: إنَّ الاستيلاء على العين، لكن كما أنَّ مُقتضى اليد ملكيّتها، كذلك مُقتضاها ملكيّة منافعها، فتكون كاشفة عن ملكيّة العين و المنافع في عَرْض واحد، فإذا علم من الخارج أنَّ العين ملك لغير ذي اليد، و شكّ في أنَّ منافعها له أو لذي اليد، يحكم بأنّها لذي اليد.

نعم: إذا كان النزاع بين ذي اليد و صاحب العين في المنافع يكون ميزان القضاء- بحسب طرح النزاع- مُختلفاً، فإذا ادّعى ذو اليد أنَّ المنافع له: لأجل الاستيجار من صاحب العين يكون مُدّعياً، و صاحب العين مُنكراً، و لو ادّعى المنافع من غير استناد إليه يكون القول قوله بيمينه.

و يمكن أن يقال: إنَّ اليد كاشفة عن ملكيّة العين، و ملكيّة المنافع إنّما هي بتبع ملكيّة العين، لا لكشف اليد عنها عَرْضا أو طولًا إلّا بذلك المعنى و لكنّ الأقوى مع ذلك هو الوجه الأوّل بحسب الارتكازات العرفيّة، و الاعتبارات العُقلائيّة.


1- انظر نفس المصدر.

ص: 282

الجهة الرابعة هل اليد مُعتبرة مع عدم علم ذي اليد و اعترافه به؟

لا إشكال في اعتبار اليد و كاشفيّتها عن الملكيّة مع دعوى ذي اليد الملكيّة بل مع عدم انضمامها لدعواها، كما لا إشكال في عدم اعتبارها مع اعترافه بعدم الملكيّة، فهل هي مُعتبرة مع عدم العلم بالنسبة إلى نفسه، و مع اعترافه بعدم العلم بالنسبة إلى غيره أم لا؟

اختار ثانيهما المولى النراقيّ رحمه اللَّه في «مُستنده» و «عوائده» قائلًا: إنَّ الأدلّة المُثبتة لاعتبار اليد قاصرة عن المورد، مُضافاً إلى رواية جميل بن صالح عن السراد:

(رجل وجد في منزله ديناراً ..) الحديث (1)، فإنَّه حكم فيما هو في داره- الذي لا يعلم أنَّه له، مع كونه مستولياً عليه- أنَّه ليس له، و أيضاً علّل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنَّه ليس لغيره.

و إلى

موثّقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه و لم يذكرها حتّى قدم الكوفة، كيف يصنع؟

قال: (يسأل عنها أهل المنزل، لعلّهم يعرفونها).

قلت: فإن لم يعرفوها؟

قال: (يتصدّق بها)

(2).

فإنَّه لا شكّ أنَّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل، و لو أنّهم قالوا: لا نعلم أنّها


1- الكافي 5: 137/ 3، الفقيه 187/ 841، التهذيب 6: 390/ 1168، الوسائل 17: 353/ 1- باب 3 من أبواب اللقطة.
2- التهذيب 6: 391/ 1171، الوسائل 17: 355/ 3- باب 5 من أبواب اللقطة.

ص: 283

لنا أو لغيرنا يصدق أنّهم لا يعرفونها، فلا يحكم بملكيّتها لهم.

و من ذلك يعلم: أنَّ اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه، إن لم يعلم ملكيّته (1) انتهى مُلخّصاً.

و فيه أوّلًا: أنَّ دعوى قصور الأدلّة يمكن منعها؛ بدعوى إطلاق بعض الأدلّة، كموثّقة يونس، و صحيحتي محمّد بن مسلم (2) و دعوى منع صدق الاستيلاء في مثل المورد من عجيب الدعاوى.

و ثانياً: أنَّ ما ادّعى من دلالة صحيحة جميل على مطلوبه، ففيه: أنَّ الحكم باللّقطة إنّما هو في مورد يدخل في المنزل جماعة كثيرون و لا إشكال في أن مثل تلك المنازل المُعدّة للمراودة لا يكون مثل الدراهم و الدينار المُلقى فيها تحت يد صاحبه.

مُضافاً إلى أنَّ الدرهم و الدينار لهما خصوصيّة، فإنَّ لهما محلّا خاصّاً، كالكيس و الصندوق، فإذا وجد في الدار فإن لم تكن مُعدّة لدخول الغير فيها، أو يكون الدخول نادراً يكشف ذلك عن كون الشي ء المُلقى و لو مثل الدينار تحت يد صاحبها، بخلاف ما لو كان البيت محلّ المراودة، خصوصاً إذا كانت كثيرة، كما هو مفروض السائل.

و أمّا الصندوق فإن أدخل غيره يده فيه، و وضع فيه شيئاً فلا إشكال في عدم كونه تحت يد صاحبه مُستقلًاّ، بل يكون في يدهما، و إلّا فيحكم بملكيّة صاحب الصندوق، و لا ريب في أنَّ مفروض السائل إنّما هو صوره جهل الرجل بأنَّ الدرهم له، و لا معنى لفرض العلم بذلك، فالرواية دالّة على خلاف مطلوبه.

ثمّ إنَّ ما ذكره في سند الرواية من أنّها رواية جميل عن السرّاد سهو من قلمه؛ لأنَّ السراد هو ابن محبوب (3)، و هو رواها عن جميل بن صالح، كما تقدّم الحديث


1- مستند الشيعة 2: 577 سطر 29، عوائد الأيام: 256 سطر 5.
2- تقدّم تخريجهما في صفحة 265- 269.
3- انظر مجمع الرجال 2: 144، 145 و 7: 130.

ص: 284

بسنده (1).

و أمّا موثّقة ابن عمّار فلا دلالة لها على دعواه؛ لأنَّ بيوت مكّة التي ينزل فيها النزّال ليس ما فيها من قبيل الدراهم التي هي تحت يد صاحبها، خصوصاً المدفونة منها.

و بالجملة: في البيوت التي تكون مُعدّة لنزول الزوّار و الخلق الكثير، و في الدراهم المدفونة فيها خصوصيّة ليست لغيرها، فليس الحكم بالتصدّق أو الاستفسار عن صاحب اليد لأجل عدم اعتبار اليد فيما إذا لم يعلم صاحبها، كما لا يخفى.

الجهة الخامسة حال اليدين على شي ءٍ واحد

اشارة

إذا كان شي ء في يد اثنين، فهل تكون يد كلّ منهما على تمامه مُستقلّة تامّة(2)، أو يد كلّ منهما على تمامه ناقصة، فيكون كلّ منهما مستولياً على تمامه استيلاء ناقصاً غير تامّ (3)، أو تكون يد كلّ منهما على نصفه المشاع مُستقلّة، و يكون مستولياً على النصف استيلاءً تامّا(4)؟

و على الأوّل: فهل تكشف اليدان عم ملكيّتهما له، فيكون تمامه ملكاً مُستقلًاّ لهما، من غير تعارض في مُقتضى اليدين، أو تكون اليدان مُتعارضتين، و تكون يد كلّ منهما في ذاتها كاشفة عن الملكيّة المُستقلّة لصاحبها، و مع اجتماعهما تصيران مُتعارضتين، كاجتماع البيّنتين المتخالفتين على عين واحدة؟


1- تقدّم في صفحه 271.
2- العروة الوثقى 3: 123- كتاب القضاء.
3- حكاه عن البعض في منية الطالب 1: 398.
4- كتاب القضاء للمحقّق الآشتياني قدّس سرّه: 295، و قد نسبه إلى المشهور في القواعد الفقهية للسيد البجنوردي 1: 109.

ص: 285

و على الثاني: أي بناءً على كون اليدين على تمام الشي ء ناقصتين، فهل تكون يد كلّ كاشفة عن ملكيّة تمامه على نحو النقص أو ملكيّة نصفه على نحو التمام و الاستقلال؟

و الفرق بينهما: أنَّه على الأوّل يكون المالك للعين كليهما مُجتمعين، كملك الخيار للورثة، بناءً على كونه واحداً لمجموعهم تأمّل، و على الثاني يكون لكلّ منهما نصفه المشاع، وجوه بل أقوال.

و حيث يكون مبنى الاحتمالين الأوّلين جواز استقلال اليدين على شي ءٍ واحد، كما أنَّ مبنى أوّلهما جواز اجتماع المالكين المُستقلّين على ملك واحد، فالواجب أوّلًا تحقيقهما حتّى يتّضح الأمر:

أمّا جواز استقلال المالكين لمال واحد، فلا إشكال في أنَّه خلاف اعتبار العُقلاء، بل غير معقول عندهم، فإنَّ الملكيّة نحو إضافة بين المالك و المملوك يلازمها الاختصاص، و لا يعقل أن يكون شي ء بتمامه مُختصّاً بشخصين، و لا أظنّ أحداً يشكّ في ذلك بعد التدبّر في اعتبارات العُقلاء و نحو إضافة الملكيّة عندهم.

حول كلام المحقّق السيّد الطباطبائيّ قدّس سرّه و ما يرد عليه

و لكنّ السيّد المحقّق الطباطبائيّ (1) ذهب في كتاب القضاء من مُلحقات «العروة» إلى جواز اجتماع المالكين المُستقلّين لمال واحد، و تشبّث في إثبات إمكانه


1- المحقّق الطباطبائي: هو الإمام الفقيه السيد محمّد كاظم ابن السيد عبد العظيم الطباطبائي اليزدي، ينتهي نسبه إلى إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أحد مراجع الدين الكبار، و إليه انتهت الرئاسة العلمية، و كان لغويّاً متقناً فصيحاً قيّماً بالعربية و الفارسية، ينظم و ينثر فيهما، جيد النقد قوي التمييز، ولد في قرية كسنو من قرى يزد حدود سنة 1247 ه، تتلمذ على الإمام الفقيه الكبير الشيخ مهدي اين الشيخ علي نجل كاشف الغطاء و الإمام السيد محمّد حسن الشيرازي و الفقيه المحقق الشيخ راضي ابن الشيخ محمد النجفي و المحقق الشيخ محمّد باقر الأصفهاني و آخرين، أشهر مؤلّفاته: العروة الوثقى، و حاشية على مكاسب الشيخ الأنصاري، و رسالة في اجتماع الأمر و النهي، و رسالة في الظن و غيرها. توفّي في النجف الأشرف ليلة الثلاثاء 28 رجب سنة 1337 ه. انظر أعيان الشيعة 10: 43، معارف الرجال 2: 326، ريحانة الأدب 6: 391.

ص: 286

بالوقوع في بعض الموارد، مثل كون الشي ء ملكاً للنوع، كالزكاة و الخمس و الوقف على العلماء و الفقراء، على نحو بيان المصرف؛ فإنَّ كلّ فرد من النوع مالك لذلك المال.

قال: بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصيّين أيضاً، كما إذا وقف على زيد و عمرو، أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف، فإنَّه يجوز صرفه على كلّ واحد منهما، فدعوى عدم معقوليّة اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه لها.

مع أنَّه لا إشكال في جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مُستقلًاّ، كحقّ الخيار، و كولاية الأب و الجدّ على مال القاصر، و من المعلوم عدم الفرق بين الحقّ و الملك.

إلى أن قال: و دعوى أنَّ مُقتضى الملكيّة المُستقلّة أن يكون للمالك منع الغير، و إذا لم يكن له منعه فلا يكون مُستقلًاّ ممنوعة؛ فإنَّ هذا أيضاً نحو من الملكيّة المُستقلّة، و نظيره الوجوب الكفائيّ و التخييريّ في كونهما نحواً من الوجوب، مع كونه جائز الترك (1) انتهى.

و أنت خبير بما فيه: أمّا نقضه بمثل الزكاة و الخمس و الوقف العامّ فهو غريب؛ لأنَّ المالك في أمثالها هو الجهات لا الأفراد، و مالكيّة الجهات عُقلائيّة.

و أما مثل الوقف على زيد و عمرو فهو أيضاً كذلك في مفروض كلامه؛ لأنَّ الوقف لهما- بوجه يكون كلّ منهما مصرفاً- لا يمكن إلّا بالوقف على جهة قابلة للانطباق على كلّ منهما لا غيرهما.

و إلّا فإن رجع إلى الوقف على كلّ منهما و أعقابهما يكون كلّ منهما موقوفاً عليه بالنسبة إلى نصفه، و إن رجع إلى الوقف على كلّ منهما بنحو الترديد فهو باطل، فلا بدّ و أن يكون على نحو الأوّل.

و من ذلك يعلم: حال الوصيّة لهما؛ فإنّها إن كانت تمليكيّة فحالها حال الوقف،


1- العروة الوثقى 3: 123- كتاب القضاء.

ص: 287

و إن كانت عهديّة- بمعنى الوصية بإعطاء مال لزيد أو عمرو، أو بزيد و عمرو على نحو بيان المصرف- فيكون المالك قبل الإعطاء هو الميّت، و بالإعطاء يصير ملكاً للمعطى له، فيخرج عمّا نحن فيه.

و أمّا النقض ببعض الحقوق كحقّ الخيار و كولاية الأب و الجدّ فغير وارد؛ للفرق الواضح بين الملك و مثل حقّ الخيار؛ لأنَّ حقّ عند العقلاء يرجع إلى إضافة لازمها السلطنة على فسخ العقد، من غير اختصاص للعقد أو العين بذي الحقّ حتّى يقال:

لا يمكن اختصاصان قائمان بشي ءٍ واحد؛ و لهذا لا يجوز اجتماع بعض الحقوق التي يكون اعتباره كذلك، كحقّ التحجير و حقّ الرهن.

بل التحقيق: أنَّ الخيار عبارة عن ملك فسخ العقد، أو ملك إقرار العقد و إزالته (1)، فلا يتعلّق حقّ على العقد أو على العين إلّا بالعَرَض، فإذا قيل: إنَّ لفلان حقّاً على العقد ليفسخه، أو على العين ليسترجعها معناه أنَّ له حقّ الفسخ و الاسترجاع، فالخيار مأخوذ من الاختيار، و لا ينسب حقيقة إلّا إلى الأفعال، فلا يطلق على ملك الأعيان و المنافع، كما اعترف به السيّد رحمه اللَّه في تعليقاته على «المكاسب»(2)، فكلّ من الشخصين يكون له حقّ الفسخ مُستقلًاّ، و لكلّ واحدٍ منهما اختيار و خيار مُستقلّ، و لا يكون متعلّق حقّهما شيئاً واحداً.

و أما النقض بولاية الأب و الجدّ أيضاً فغير وارد؛ لأنَّ اعتبار الولاية ليس مُلازماً و ملزوماً لاعتبار الاختصاص، الذي هو مُعتبر في الملكيّة، حتّى لا يمكن استقلالهما على شي ءٍ واحدة، بل الولاية هي السلطنة على تدبير الامور، أو إضافة بين الوليّ و المولّى عليه تستتبعها السلطنة على اموره، و لا إشكال في جواز استقلال الوليّين على تدبير امور شخص واحدٍ، فهي نظير الوكالة في الامور، حيث لا مانع من تعدّد الوكلاء على أمر واحدٍ.


1- قد عدل عنه سماحة الإمام قدّس سرّه في كتاب البيع 4: 5 ذاهباً إلى أنَّ حقيقة الخيار حقّ اصطفاه الفسخ.
2- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 2 سطر 5- مبحث الخيارات.

ص: 288

فالإنصاف: أنَّ استقلال المالكين على ملك واحد ممّا لا يمكن عند العُقلاء، و لا ترد النقوض المذكورة.

و أمّا ما ذكره أخيراً- بعد إيراد الإشكال بأنَّ مُقتضى استقلال الملكيّة جواز منع الغير، و هو مفقود في المقام أنَّ هذا نحو من الملكيّة المُستقلّة، كالواجب التخييريّ و الكفائيّ، حيث إنَّهما نحوان من الوجوب (1)، فهو من غريب الكلام؛ لأنَّ لازم ذلك أنَّ الملكيّة الغير المُستقلّة نحو من الملكيّة المُستقلّة، ضرورة أنَّ معنى الاستقلال في الملكيّة هو الاستبداد و الانفراد بها، و الواجب التخييريّ نحو من الواجب، كما أنَّ الملكيّة الغير المُستقلّة نحو من الملكيّة، لا نحو من الملكيّة المُستقلّة، فما ذكره نظير أن يُقال: إنَّ الواجب التخييريّ و الكفائيّ نحوان من الواجب العينيّ و التعيينيّ، و هو كما ترى هذا حال الملكيّتين المُستقلّتين على شي ءٍ واحدٍ.

و أما اجتماع اليدين المُستقلّتين على شي ءٍ واحدٍ فهو أيضاً لا يجوز؛ ضرورة أنَّ مُقتضى استقلال الاستيلاء على شي ء جواز منع الغير عن التصرّف والد خالة فيه، و استبداد اليد المُستقلّة في تدبيره و تصرّفه.

أ لا ترى أنَّه فرق واضح بين كون شي ء تحت يد شخص واحد، يتصرّف فيه بما يشاء، و يمنع تصرّف غيره، أو يجيزه بأيّ نحو يشاء من إتلاف و إفساد و غيرهما، و بين كونه تحت يد شخصين يكون كلّ منهما مُتصرّفاً فيه؛ فإنَّ تصرّف كلّ واحد ليس كالأوّل؛ لعدم جواز منع تصرّف الغير مُطلقاً، و لا إجازة غيره كذلك، و هل هذا إلّا أثر استقلال الاولى، و عدمه في الثانية.

و قياس ذلك بجارين لشخص واحد و صاحبين له، و مؤانسين و أخوين مع الفارق، لأنَّ تلك الإضافات لا تتّصف بالاستقلال اللااستقلال، فإنَّها تتحقّق بنفس


1- العروة الوثقى 3: 123.

ص: 289

مناشئها، من غير مزاحمة بينها و بين الإضافة المشابهة لها، إلّا أن يرجع الاستقلال فيها إلى أنَّه لا شريك لها، و لا مشابِه لها في تلك الإضافة، فتصير مثل ما نحن فيه في عدم إمكان استقلالها مع الشركة.

فإذا بطل اجتماع المالكين المُستقلّين، و كذا اجتماع اليدين المُستقلّتين على شي ءٍ واحدٍ بطل الاحتمالان الأوّلان.

و أمّا الاحتمالان الآخران؛ أي كون اليدين على تمام الشي ء ناقصتين، أو يدين مُستقلّتين على نصفه المُشاع، فلا بدّ قبل تحقيق الحقّ فيهما من بيان إمكان الملكيّة المشاعة، و اليد المُستقلّة على النصف المشاع:

أمّا الملكيّة المُشاعة فهي أمر عُقلائيّ، و من الاعتبارات الصحيحة العرفيّة، يعرفها كلّ أحد، من غير ابتنائها على بطلان الجزء الذي لا يتجزّأ، فإنَّ ابتناء قضيّة عرفيّة و اعتبار سوقيّ على مسألة دقيقة حكميّة ممّا لا معنى له.

فما يظهر من بعض من ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة العقليّة(1) ناشٍ من الغفلة عن اعتبارات العُقلاء؛ ضرورة أنَّ جميع أهل البلدان من السوقيّ و غيره يفهم الملك المشاع و يعتبره، مع أنَّ مسألة إمكان الجزء و امتناعه ممّا لا تقرع إلّا سمع بعض أهل العلم، و تحقيقها و إثبات امتناعه من شأن الأوحديّ من أهل الفنّ، فأين ابتناء مثل هذه المسألة السوقيّة الضروريّة الاعتباريّة على تلك المسألة النظريّة الدقيقة التي لا اسم لها و لا رسم عند العُقلاء و أصحاب اعتبارات تلك الامور؟!

و بالجملة: إنَّ اعتبار الملك المشاع أوضح من أن يحتاج إلى بيان؛ ضرورة أنَّه لو مات أحد عن ولدين، يصير كلّ منهما عند كافّة العُقلاء مالكاً للنصف المشاع، و يكون اعتبار الإشاعة معلوماً عندهم وجداناً، و لو لم يمكن لهم بيان مفهومها


1- منية الطالب 1: 397، و انظر كتاب البيع لسماحة الإمام قدّس سرّه 3: 280 تجد المزيد من البيان.

ص: 290

و تحديدها، كأكثر الحقائق الضروريّة، فإنَّ تحديدها في غاية الإشكال، و إن كانت معلومة مصداقاً، فالماء و النار و النور مع كونها في غاية الظهور عند كلّ أحد لا يمكن للغالب تحديدها و تعريفها، و هذا لا يضرّ بوضوح الحقيقة وجداناً و عياناً.

و إن شئت قلت: إنَّ الكسور امور اعتباريّة بنحو اللّاتعيّن، في مقابل المفروز و المعيّن، و ظرف الاعتبار و إن كان الذهن، لكنّ المُعتبر خارجيّ؛ بمعنى أنَّ العُقلاء يعتبرون بعض الامور في الخارج، فيتّصف الخارج به اتّصافاً في نظرهم، لا في التكوين، فالملكيّة و سائر الامور الاعتباريّة العُقلائيّة ظرف اعتبارها الذهن، و ظرف اتّصاف الأشياء بها الخارج، فالعين مُتّصفة في الخارج بالمملوكيّة، و الشخص بالمالكيّة، من غير أن تكون تلك الأوصاف عارضة لها في الخارج تكويناً.

فالكسر المُشاع ليس من الامور العينيّة التكوينيّة، و لا من الامور الانتزاعيّة؛ ضرورة أنَّ منشأ انتزاعه إن كان العين المُعيّنة الخارجيّة، فلا يُعقل أن يكون المُنتزع من المعيّن مُشاعاً بما هو مُشاع، و توهّم انتزاع الكلّي من الجزئيّات (1) فاسد، كما هو المُقرّر في محلّه (2)، و إن كان أمراً مُبهماً فلا يُعقل الإبهام في الخارج.

فالتحقيق: أنَّ الأعيان مع قطع النظر عن الاعتبار ليس لها الكسور خارجاً، و هو واضح، و لا تكون منشأ لانتزاعها، و قابليّتها للقسمة ليست منشأ انتزاعها؛ لأنّها قابلة للأقسام المُعيّنة، و الكسر مُشاع لا معيّن.

بل هي من الاعتبارات الصحيحة العُقلائيّة في الموجود الخارجيّ، تتّصف بها الأعيان اتصافاً في مُحيط العُقلاء، فتكون العين ذات نصف و ثلث و ربع هكذا بحسب الخارج، كما هي مملوكة خارجاً، و هذا بوجه نظير بعض الأعراض التي يقال: إنَّ عروضها في الذهن، و اتصاف الأشياء بها في الخارج (3).


1- انظر شوارق الإلهام: 156 سطر 13.
2- انظر شوارق الإلهام: 156 سطر 13.
3- شرح المنظومة: 40- قسم الحكمة.

ص: 291

و بما ذكرنا: لا يرد الإشكال العقليّ المُتوهّم في الإشاعة؛ من أنَّ الإشاعة تنافي الوجود الخارجيّ و الجزئية(1).

أما عدم التنافي بينها و بين الوجود الخارجيّ فظاهر؛ لأنَّ المُنافاة بين الوجود التكوينيّ و بين الإشاعة و اللّاتعيّن مُسلّم، لا بينها و بين الوجود الاعتباريّ.

و أمّا بينها و بين الجزئيّة؛ فلأنَّ الابهام بذاتها لا يلازم الكلّية، ما لم تقبل الصدق على الكثيرين، و الجزء المُشاع الخارجيّ غير قابل لذلك؛ لعدم تعقّل صدق الكسر المُشاع المُعتبر في الخارج على الكثيرين، فإنَّ العين الخارجيّة يُعتبر فيها نصفان، و كلّ نصف مُشاع غير الآخر، و ثلاثة أثلات كلٍّ غير الآخر.

نعم: مفهوم النصف المُشاع و الثُلث المُشاع كلّي كسائر الكلّيات، و ليس الكلام فيه، بل الكلام في المُشاع الخارجيّ الذي تقع عليه المُعاملات، و يكون ملكاً للأشخاص، و هو ليس بكلّي، و غير صادق على الكثير، و ما ذكرناه هو الموافق لاعتبار العُقلاء، من غير لزوم إشكال عليه.

و قد يقال: في بيان تصوير الإشاعة و دفع الإشكال عنها: إنَّ الموجود الخارجيّ على قسمين: موجود بوجود ما بحذائه، و موجود بوجود منشأ انتزاعه، فمفهوم النصف مثلًا ربما يكون موجوداً بوجود ما بحذائه، و هو النصف المُعيّن في العين، و ربما يكون عنواناً لموجود بالقوّة؛ لتساوي نسبته إلى جميع الأنصاف المُتصوّرة في العين، فهذا الموجود بالقوّة المُتساوي النسبة جزئيّ بجزئيّة منشأ انتزاعه، و له شيوع و سريان باعتبار قبوله لكلّ تعيّن من التعيّنات الخارجيّة المفروضة؛ و لأجله تكون القسمة مُعيّنة للّامُتعيّن، من دون لزوم معاوضة بين أجزاء العين.

و عليه: فالمملوك لكلّ من الشريكين أوّلًا بالذات هو النصف المشاع، و العين


1- انظر حاشية المُحقق الأصفهاني على المكاسب 1: 202 سطر 23، نهاية الدراية 3: 335 سطر 14.

ص: 292

الخارجيّة مورد لمملوكين بالذات، فتكون مملوكة بالعرض، على عكس من يملك عيناً واحدة بالذات، فإنَّه يملك كسوره المُشاعة بالعرض (1) انتهى.

و فيه مواقع للنظر:

منها: دعواه أنَّ مفهوم النصف في المُعيّن موجود بوجود ما بحذائه، فإنَّه إن أراد موجوديّته قبل تحقّق التقسيم الخارجيّ أو الوهميّ، فهو مُستلزم للجزء الذي لا يتجزّأ إن كان النصف و نصف النصف و هكذا مُتناهياً، أو كون غير المتناهي الفعليّ محصوراً بين الحاصرين.

و إن أراد أنَّه بالتقسيم يوجد شي ء في الخارج هو النصف المُعيّن، ففيه ما لا يخفى؛ فإنَّ التقسيم إن كان وهميّا، فلا يُعقل بتوهّم التقسيم حصول شي ء موجود في الخارج.

و إن كان خارجيّاً فكذلك؛ فإنَّه بعد التقسيم يكون القسمان موجودين مُستقلّين، و ليس النصف وصفاً ذاتيّاً لهما؛ ضرورة أن النصف نصف المجموع، فلا يُتصوّر نصف بلا مجموع، و معلوم أنَّ مجموع شيئين مُنفصلين ليس موجود في العين؛ لأنَّ الوجود مساوق للوحدة، و ما لا وحدة له لا وجود له، و ما هو مُتقوّم بأمرٍ اعتباريّ لا يمكن أن يكون من الموجودات الحقيقيّة.

مضافاً: إلى أنَّ كلّ حبّة في الخارج نصفٌ لحبّات غير مُتناهية، أو كغير مُتناهية، و ثلثٌ و ربعٌ و خمسٌ و هكذا، و تكون الكسور فيها غير مُتناهية، فلزم وجود أوصاف خارجيّة غير مُتناهية في حبة خشخاش، و هو كما ترى

و التحقيق: أنَّ الكسور المُعيّنة امور اعتباريّة و انتزاعيّة من منشأ اعتباريّ، و لو لا


1- انظر نهاية الدراية 3: 335 سطر 15، حاشية المحقّق الأصفهاني 1: 202 سطر 27.

ص: 293

المُعتبر لا يكون المجموع و لا نصفه مُحقّقاً.

و منها قوله في المُشاع: إنَّه أمرٌ انتزاعيّ و موجود بالقوّة، متساوي النسبة إلى التقسيمات، جزئيّ بجزئيّة منشأ انتزاعه، و شائع و سار باعتبار قبوله لكلّ تعيّن.

و فيه ما عرفت: من أنَّ المنتزع لا يُعقل أن يكون مُبايناً للمُنتزع منه، و المُتعيّن و اللّامُتعيّن مُتباينان، لا تعقل منشئيّة أحدهما للآخر، و قد أشرنا(1) إلى أنَّ الكلّي لا يعقل انتزاعه من الجزئيّ بما أنَّه جزئيّ، بل ليس الكلّي و الجزئيّ من قبيل المُنتزع و المُنتزع منه، كما هو المُقرّر في محلّه (2).

و أيضاً أنَّ القوّة التي في الأجسام و بها تقبل التقسيمات المُتعيّنة هي الهيولى على مسلك طائفة(3)، و هي لا تكون جزء مُشاعاً بالضرورة، و لا أمراً انتزاعيّاً.

و أيضاً أنَّ التقسيمات الخارجيّة لا تخرج المشاع عن إشاعته؛ ضرورة أنَّ الشريكين ما لم يتّفقا على التقسيم لا يصير المُشاع مفروزاً و لو قسّم المملوك خارجاً، مع أنَّه اعترف بأن ليس في الجسم إلّا نصفان و بالتقسيم يصير مفروزاً.

و أيضاً: أنَّ التقسيم الاعتباريّ موجب للإفراز و التعيين، و ليس حامله القوّة الموجودة في الجسم.

و أيضاً: يجري التقسيم في المُنفصلات- ككرّ من الحنطة المُشاعة- مع أنَّ تنصيفه ليس واقعاً على القوّة.

فظهر من ذلك فساد توهّم أنَّ النصف المُشاع عبارة عن قوّة متساوية النسبة إلى التقسيمات، إلّا أن يكون مُراده من القوّة أمراً اعتباريّاً، و من التقسيم الإفراز بتراضي المالكين، لا التقسيم الخارجيّ، و هو كما ترى مُخالف لظاهر كلامه، خصوصاً


1- تقدّم في صفحة 290.
2- شوارق الإلهام: 156 سطر 22.
3- انظر الأسفار 5: 66، شرح المنظومة: 214- قسم الحكمة.

ص: 294

كون القوّة اعتباريّة.

و منها: قوله القسمة معيّنة للّامُتعيّن، من دون لزوم تبادل بين أجزاء العين، فإنَّ القسمة و إن كانت عنواناً مُستقلًاّ مُقابل البيع و الصلح و غيرهما، لكن لا إشكال في أنَّ لازمها التبادل بين مال الشريكين؛ ضرورة أنَّ كلّ جانب من العين الخارجيّة كان لهما قبل التقسيم، و صار مُختصّاً بعده، و لا يمكن ذلك إلّا بالتبادل، لا خروج غير المُتعيّن إلى المُتعيّن، بحيث يملك كلّ منهما حصّته الخاصّة به في نفس الأمر بلا تبادل؛ فإنَّه غير معقول في المُشاع، و مُخالف لارتكاز العُقلاء.

و منها: التزامه بمملوكيّة الأمر الانتزاعيّ، و عدم مملوكيّة العين الخارجية لأحدٍ، و انتساب المملوكيّة إليها، لكونها مورداً لما هو مملوك، فإنَّه من غريب الالتزامات، بل لو لم يكن لما التزمه من الإشاعة إلّا هذا التالي لكفى في فساده؛ لأنَّ الضرورة قائمة عند العُقلاء بأنَّ المملوك للشركاء هو نفس الأعيان، لا الأمر الانتزاعيّ، و تكون العين غير مملوكة لأحد، كما نصّ عليه في جملة من كلامه (1).

مُضافاً: إلى أنَّه إذا كانت عين مملوكة لأحد، فلا إشكال كما اعترف به في أنّها مملوكة بالذات له، و الكسور مملوكة بالعرض، فإذا باع نصفها لزم بناءً على قوله أن يبيع ما لا يملكه إلّا بالعرض؛ أي الأمر الانتزاعيّ، و لا يبيع مملوكه، و أنَّ ملكه صار مسلوباً عن العين بلا سبب، و مُتعلّقاً بأمر انتزاعيّ بلا سبب.

و لعمري إنَّ ما توهّمه في المقام تحقيقاً و تدقيقاً من فلتاته التي لا تغفر لمثله، و هو من خلط العقليّات بالعرفيّات، و الفلسفة بالفقه و من اللّازم على المُشتغلين الاحتراز عنه.

فإذا اتّضح اعتبار الإشاعة في الأعيان تكون اليد على المُشاع أيضاً مُمكنة؛ ضرورة


1- نهاية الدراية 3: 337 سطر 21 و 25.

ص: 295

أَنَّ الشريكين تكون يد كلّ منهما على ملكه مُستقلّة، و لا تكون له يد على ملك الغير أصلًا؛ فإنَّ اليد هي الاستيلاء و السلطنة الفعليّة على الشي ء، و كلّ منهما يكوم مُستولياً على نصف العين، يجوز له النقل و جميع التصرّفات التي لا يستلزم منها التصرّف في مال الغير، و عدم جواز التصرّف الخارجيّ لكلّ منهما في العين ليس لأجل نقصان يده لملكه، بل لاستلزام التصرّف في ملك الغير.

و بالجملة: أنَّ الشريكين تكون لكلّ منهما يد مُستقلّة على ماله، دون مال الآخر، و ليس لواحدٍ منهما يد ناقصة على التمام، و لا معنى لذلك؛ لأنَّ لازمه أن يكون كلّ منهما مسلّطاً على مال صاحبه، و ناقص السلطنة على ملك نفسه، و هما باطلان.

هذا بحسب مقام الثبوت و الواقع، فإذا كانت يد شخصين على عين- كما لو رأينا شخصين يتصرّفان في أمتعة بيت أو دكّة، أو يدبّران أمر ضيعة- يحكم العُقلاء لأجل يدهما بأنّهما شريكان في الأمتعة و الضيعة، و يكون لكلٍّ منهما النصف المُشاع، و أنَّ تصرّفهما في الجميع يكون بإذن صاحبه.

و بالجملة: تكون اليد كاشفة عن الملكيّة المُشاعة، و قد عرفت أنَّ، يد كلّ منهما في الملكيّة المُشاعة تكون مُستقلّة على ملكه فقط، و ليس له اليد على ملك غيره رأساً.

و إن شئت قلت: إنَّ يد كلّ منهما على ماله استقلاليّة أصليّة، و على ملك غيره غير أصليّة تحتاج إلى الإذن، فاستيلاء كلٍّ منهما على جميع المال لا يمكن أن يكون بالأصالة و الاستقلال، فمن قال: بأنَّ الاستيلاء الناقص يكون على تمام المال (1). فإن ذهب إلى أنَّ الاستيلاء الناقص على التمام يكشف عن ملكيّة النصف المُشاع، فلا وجه لكشف الاستيلاء على التمام ناقصاً عن ملكيّة نصفه تامّاً.

و إن ذهب إلى أنَّه يكشف عن الملكيّة الناقصة للتمام- بمعنى أنَّ كلّ واحدٍ منهما


1- حكاه عن البعض في منية الطالب 1: 398.

ص: 296

ليس بمالك، بل مجموعهما مالك واحد- فهو كما ترى

و إن ذهب إلى ما قلنا: من أنَّ ذلك الاستيلاء على التمام إنّما يكون استيلاء على البعض المُشاع تامّاً و استقلالًا، و يكشف عن ملكيّة كذلك، و على البعض الآخر بتبع استيلاء الآخر فلا نزاع. هذا حال المُتصرّفين اللّذين لا نزاع بينهما.

و منه يعلم: حال مقام التنازع، فإنَّه إذا كانت عين في يد شخصين، و كلّ منهما يدّعي أنّها له و صاحبه غاصب، يكون كلّ منهما بالنسبة إلى نصفه المُشاع مُدّعياً، و بالنسبة إلى نصفه الآخر مُنكراً، و تحقيق الحال موكول إلى كتاب القضاء.

الجهة السادسة في إقامة الدعوى على ذي اليد و فروعها

اشارة

إذا كان في مُقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة، و رفع الأمر إلى الحاكم، فلا أثر لعلم الحاكم بملكيّته السابقة للمُدّعي، و لا لقيام البيّنة عليها في انقلاب الدعوى؛ و جعل المُدّعي منكراً، و المنكر مُدّعياً، فإنَّ ثبوت الملكيّة السابقة لا أثر له، و استصحاب الملكيّة لا يعارض اليد؛ لحكومتها عليه.

و أمّا إذا اعترف ذو اليد بأنَّه كان مُلكاً له سابقاً، فتارة تنضمّ إلى ذلك دعوى الانتقال منه إليه، و اخرى تنضمّ إليه دعوى انتقاله إلى ثالث، و منه إليه، و ثالثة: يعترف- مع اعترافه بأنَّه كان ملكاً له- بأنَّه لم ينتقل إلى ثالث، لكن مع ذلك ملك له الآن، و رابعة: لا يضمّ إلى اعترافه شيئاً، فيدّعي الملكيّة، و يعترف بأنَّه كان ملكاً للمُدَّعي سابقاً.

لا إشكال في انقلاب الدعوى في الصورة الاولى إن أنكر ذو اليد دعواه، و أمّا مع

ص: 297

عدم إنكاره، و دعوى عدم علمه، فلا تنقلب الدعوى، فيكون ذو اليد مُنكراً، لأنَّ مصبّ الدعوى هو ملكيّته في الحال، لا انتقاله و عدم انتقاله.

و لا نتقلب في الصورة الثانية، أنكر المُدّعى انتقاله إلى ثالث أو لا، أمّا مع عدم الإنكار فواضح، و أمّا مع إنكاره فلأنَّ دعوى الانتقال إلى الثالث و إنكارها لا أثر لهما، فلا تكون ميزان فصل الخصومة؛ لأنَّ قيام البيّنة على انتقاله إلى ثالث، و الحلف على عدمه لا يفصلان الخصومة؛ إذا لا ربط لتلك الدعوى و الإنكار بهما.

و في الصورة الثالثة تنقلب على الظاهر؛ لأنَّ دعوى الملكيّة الحاليّة، و الاعتراف بكونه للطرف سابقاً، و عدم الانتقال منه إلى ثالث يلازم عرفاً لدعوى الانتقال، و إن لا يخلو عن مُناقشة.

و في الصورة الرابعة لا تنقلب؛ لعدم الدعوى صريحاً و لا بملازمة عقليّة أو عُرفيّة.

تنبيه الاحتجاج في أمر فَدَك

قد يقال: إنَّ احتجاج أمير المؤمنين و الصدّيقة الطاهرة عليهما السلام على أبي بكر في أمر فدك؛ بأنَّ مُطالبة البيّنة من ذي اليد مُخالفة لحكم اللَّه و رسوله، مع أنَّ فاطمة ادّعت انتقالها إليها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم نِحْلة، يُخالف ما ذكر من انقلاب الدعوى مع دعوى الانتقال (1).

و الجواب على ما أفاده بعض المُحقّقين: أنَّ مُجرّد دعوى الانتقال لا توجب


1- ذكره في فوائد الاصول 4: 613 و 614 بقوله: ربّما يتوهم المنافاة.

ص: 298

الانقلاب ما لم يقابلها الإنكار، و القوم لم ينكروا على فاطمة سلام اللَّه عليها دعواها، بل كانوا يقولون: إنَّ فدكاً في ء المُسلمين، و لا بدّ من إقامة البيّنة على الانتقال، مع أنّها ذو اليد، و لم يكن في مقابل يدها إلّا دعوى أنّها في ء المُسلمين، لا إنكار دعواها حتّى تنقلب الدعوى (1).

و أمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه في مقام الجواب: بأنَّ إقرارها لا يُوجب انقلاب الدعوى، و ليس إقرارها كإقرار ذي اليد بأنَّ المال كان لمن يرثه المُدّعي؛ لأنَّ انتقال الملك من النبيّ صلى اللَّه عليه و آله إلى المُسلمين على فرض صحة ما نسب إليه من أنَّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ..»(2) إلى آخره ليس كانتقال الملك إلى الوارث؛ لأنَّ انتقاله إلى الوارث إنّما هو بتبدّل المالك و قيامه مقام المورّث، و انتقاله منه إلى المُسلمين كانتقال المال من الموصي إلى الموصى له، و من الواهب إلى المتّهب بإعدام إضافة، و إيجاد إضافة اخرى لأنَّ تبدّل الإضافة قد يكون من طرف المملوك، كعقود المعاوضات، و قد يكون من طرف المالك كالإرث، فإنَّ التبدّل من قبل المالك، مع بقاء المملوك على ما هو عليه، فيقوم الوارث مقام المورّث في الإضافة، و قد يكون بتبدّل نفسها؛ بمعنى أنَّه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك و المملوك، و تحدث إضافة اخرى لمالك آخر، كما في الهبة و الوصيّة.

و انتقال المال من النبيّ صلى اللَّه عليه و آله إلى المُسلمين- بناءً على الخبر الموضوع- ليس كانتقاله إلى الوارث، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له؛ فإنَّ المال بعد موته يصرف في مصالحهم، و من المعلوم أنَّ إقرار ذي اليد بأنَّ المال كان ملكاً لمورّث المدّعي إنّما يوجب الانقلاب من حيث إنَّ الإقرار للمورّث إقرار للوارث؛ لقيامه مقامه في طرف الإضافة.


1- درر الفوائد: 617.
2- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 235.

ص: 299

و أمّا الإقرار للأجنبيّ فلا يوجب الانقلاب، و إقرار الصدّيقة سلام اللَّه عليها يكون سبيله سبيل الإقرار للأجنبيّ و الموصى له- الذي هو أيضاً كالأجنبيّ- لا يوجب الانقلاب.

نعم: لو كان المُسلمون ورّاثاً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله في ذلك كان الانقلاب حقّاً، لكنّه خلاف الواقع (1) انتهى مُلخّصاً.

فيرد عليه أوّلًا: أنَّ كون الإرث كذلك ممنوع، لا دليل عليه نقلًا و لا في اعتبارات العقلاء، أمّا نقلًا فيظهر بالتتبّع في الآيات و الأخبار الواردة في الإرث، و أمّا اعتباراً فلأنَّ المال ينتقل إلى الوارث في اعتباراتهم، لا أنَّه يقوم مقامه.

مثلًا: لو مات أحد عن ابن و بنت و أمّ و أب و زوجة، فهل تجد من نفسك في اعتبارات العُقلاء أن تقوم الورثة مقامه بمقدار إرثهم، فتقوم الزوجة مقامه في الثمن أو مقام ثمنه، و الابن مقام ثلثيه من البقيّة أو مقامه في الثلثين، و هكذا؟! و هل هذا إلّا أمر مُستنكر عقلًا و لدى العُقلاء؟! و لذا لا يفهم العُقلاء من آيات الإرث و أخباره إلّا الانتقال، و لو دلّ ظاهر دليل على ما ادّعي يجب صرفه، مع أنَّه لا دليل عليه، و إن مارت به بعض الألسن موراً.

و ثانياً: أنَّ كون الهبة و الوصيّة من قبيل ما ذكره محلّ منع؛ ضرورة أنَّ اعتبار الهبة و الوصيّة التمليكيّة هو إعطاء المال و نقله، لا إعدام إضافة، و إيجاد إضافة اخرى

مُضافاً: إلى أنَّ إيجاد الإضافة بين المال و غيره لا بدّ و أن يتأخّر عن إعدامها بينه و بين نفسه، مع أنَّه بإعدامها يصير المال أجنبيّاً عنه و تنقطع سلطنته عنه، فلا يمكن له إيجاد إضافة بينه و بين غيره.

و توهّم: أنَّ إيجاد الإضافة في عَرْض إعدامها، أو أنَّ الإيجاد مُقدَّم على الإعدام كما


1- فوائد الاصول 4: 615- 617.

ص: 300

ترى و لعمري إنَّ ما ذكره واضح البطلان في أمثال تلك العقود في اعتبارات العُقلاء.

و ثالثاً: أنَّ مناط انقلاب الدعوى في باب دعوى الانتقال من مورّث المُدّعي ليس ما ذكره من قيام الورثة مقامه، بل المناط فيه هو كون هذه الدعوى و الإنكار ذات أثر شرعيّ، و يكون قيام البيّنة و الحلف مُوجبين لفصل الخصومة، و تكون حال هذه الدعوى بالنسبة إلى الدعوى الاولى كالأصل السببيّ و المُسببيّ في وجه.

فإذا ادّعى ذو اليد: أنَّ المال انتقل إليه من مورّث المُدّعي، و أنكره المُدّعي، فإن أقام البيّنة على ذلك فهو، و إن حلف المُنكر على أنَّه لم ينتقل من مورّثه إليه يؤخذ المال و يردّ إليه؛ لكونه وارثاً له، و ينتقل ماله منه إليه، فيُثبت الحلف كونه مالًا لمورّثه، و أدلّة الإرث انتقالَه إليه.

و هذا المناط موجود في الوصيّة، فإذا أوصى أحد بماله لزيد، و ادّعى زيد أنَّ المال الذي في يد عمرو له، و ادّعى عمرو انتقاله من الموصي إليه، فتنقلب الدعوى؛ لعين ما ذكرنا.

و كذا الحال فيما نحن فيه بناءً على الخبر الموضوع، فإنَّ دعوى الصدّيقة عليها السلام، انتقال فدك من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إليها لو قوبلت بإنكار المُسلمين أو وليّ أمرهم على زعمهم صارت الدعوى مُنقلبة، و لم تكن هذه الدعوى كدعوى الانتقال من الأجنبيّ؛ لأنَّ الحلف على عدم الانتقال من الأجنبيّ إليها لا أثر له، بخلاف ما نحن فيه، فإنَّه لو ثبت عدم الانتقال منه إليها صار ملكاً للمُسلمين، فالحقّ في الجواب ما ذكرنا أوّلًا: من عدم تقابل دعواها بإنكار، كما يظهر من التواريخ الناقلة للقضيّة، فراجع (1).


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 214.

ص: 301

الجهة السابعة في فروع العلم بسابقة اليد

إذا علم حال اليد، و أنّها حدثت على المال على وجه الغصب، أو الأمانة، أو العارية، أو نحو ذلك، فتارة: لا يكون في مقابل ذي اليد مُدّعٍ، و تارة: يكون في مُقابله ذلك و لم يرفع الأمر إلى الحاكم، و ثالثة: رفع الأمر إليه.

أمّا في الصورة الاولى: فتارة يدّعي ذو اليد الملكيّة و الانتقال من مالكه إليه، و تارة لا يدّعي، فإن ادّعاها فلا يبعد أن يترتّب على ما في يده آثار الملكيّة في غير الغاصب، و أمّا فيه فالظاهر عدمه.

و هل ترتيب الآثار في غيره من جهة أنَّه مدّع بلا مُعارض، أو من جهة قبول دعوى ذي اليد، أو من جهة اليد المُقارنة للدعوى؟

الظاهر أنَّه من جهة إحدى الأخيرتين، و لهذا لو عارضه غير المالك الأوّل يعدّ مدّعياً، و تطالب منه البيّنة، و أمّا مع عدم دعوى الملكيّة أو عملٍ منه يظهر دعواها، فلا يحكم بالملكيّة، كلّ ذلك من جهة بناء العُقلاء و سيرتهم.

و قد يقال: بسقوط اليد فيما علم حالها؛ فإنَّ اليد أمارة إذا كانت مجهولة الحال، غير معنونة بعنوان الإجازة مثلًا، و استصحاب حالها يوجب رفع موضوعها، و تنقيح عنوانها، فتسقط عن الحُجّية برفع الموضوع (1).

و فيه: أنَّ تحكيم الاستصحاب على بعض الأدلّة بتنقيحٍ و رفعٍ إنّما هو في الأدلّة اللّفظية، لا في مثل بناء العقلاء، فإنَّه إن كان غير ثابت أو غير مُحقّق في مورد مسبوقيّة اليد بالإجارة أو العارية فمعها ساقط عن الحُجّية، كان استصحاب شرعيّ أولا، أو ثابت


1- فوائد الاصول 4: 604 و 605.

ص: 302

معها، فلا تأثير للاستصحاب، إلّا أن يُدّعى رادعيّته عن بنائهم، و هو أيضاً غير صالح لذلك، كما قلنا في نظائره (1).

و تعليق بنائهم على عدم قيام حُجّة شرعية كما ترى و بناؤهم و إن كان في ظرف الشكّ، لكنّ الاستصحاب لا ينقّح الموضوع عند العُقلاء بما هم عُقلاء، فما افيد في المقام ساقط رأساً.

و أمّا في الصورة الثانية: فإن كان المُعارض غير المالك، فلا تسقط يده عن الاعتبار في غير الغاضب، و إن كان المالك يسقط اعتبارها لدى العُقلاء؛ لعدم بنائهم على ترتيب آثارها على ما في يده.

و أمّا في الصورة الثالثة: أي صورة رفع الأمر إلى الحاكم، و مقام تشخيص المُدّعي من المُنكر فإن كان في مقابله المالك الأوّل تسقط يده عن الاعتبار، و يقدّم استصحاب حال اليد على قاعدة اليد؛ لأنَّه أصل موضوعيّ حاكم عليها، سواءً كان حال اليد معلوماً عند الحاكم وجداناً، أو بالبيّنة، أو بإقرار ذي اليد.

الجهة الثامنة في كون ما في اليد وقفاً سابقاً

إذا كان المال وقفاً سابقاً، فتارة يعلم حال اليد؛ و أنّها حدثت على الملك في حال وقفيّته، و احتمل طروّ بعض مسوّغات بيع الوقف و شرائه من وليّه، و تارة لا يعلم سابقتها، و احتمل حدوث اليد بعد طروّ مسوّغ البيع.

و على أيّ حال: تسقط اليد عن الاعتبار سواءً دفع الأمر إلى الحاكم أم لا؛


1- انظر صفحة 373 و 381- 382 من هذا الكتاب، أنوار الهداية 1: 279.

ص: 303

لانصراف أدلّة اليد عن مثله، و عدم بناء العُقلاء على ترتيب آثار الملكيّة في مثله، و لعلّ سرّه أنَّ اعتبار اليد عندهم من أجل الغلبة النوعيّة، و طروّ مسوّغ بيع الوقف نادر.

و إذا رفع الأمر إلى الحاكم فإمّا أن يكون في مقابله أرباب الوقف، أو يكون غيرهم.

فعلى الأوّل: يكون ذو اليد مُدّعياً يطالب بالبيّنة، و ينتزع منه الملك؛ لأنَّ اعتبار اليد إمّا يكون مُعلّقاً على إحراز قابليّة الملك للنقل و الانتقال، و إمّا أن يكون مُعلّقاً على عدم إحراز عدم القابليّة، فعلى الأوّل تسقط اليد عن الاعتبار و لو لم يكن في مقابلها الاستصحاب، و على الثاني يقدّم استصحاب الوقفيّة على اليد، لإحراز عدم القابليّة به.

و على أيّ حال: يكون ذو اليد مُدّعياً، و أرباب الوقف منكرين.

و على الثاني: أي إذا كان في مُقابله غير أرباب الوقف، و ادّعى كلّ من ذي اليد و المُدّعي الملكيّة، فلا يبعد أن يكون مثل الدّعوى في ملك لا تكون يد عليه؛ لأنَّ اليد الغير المُعتبرة كلا يد، و للمسألة مقام آخر.

ص: 304

ص: 305

المبحث الثاني حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز و الفراغ

اشارة

و لا إشكال في تقديمها عليه، و إنّما الكلام في وجه التقدّم، و هو يظهر بعد ذكر مدركها، و لمّا كانت القاعدة ممّا تعمّ بها البلوى، فلا بأس بصرف عنان القلم إلى تفصيل مُهمّات مباحثها، و يتّضح في خلالها ما هو المقصود بالأصالة في المقام، و يتمّ ذلك في ضمن امور:

ص: 306

الأمر الأوّل في ذكر الأخبار التي تُستفاد منها القاعدة الكليّة

و هي كثيرة:

منها: الموثّقة المنقولة في خلل الصلاة،

عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين ابن سعيد، عن صفوان، عن ابن بكير(1) عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو)

(2).

و منها: الصحيحة المنقولة فيه،

عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر(3) عن حمّاد بن عيسى، عن حَريز بن عبد اللَّه، عن زُرارة، قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: رجل شكّ في الأذان و قد دخل في الإقامة؟

قال: (يمضي).

قلت: رجل شكّ في الأذان و الإقامة و قد كبّر؟

قال: (يمضي).

قلت: رجل شكّ في التكبير و قد قرأ؟


1- ابن بكير: هو عبد اللَّه بن بكير، من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، و من الفقهاء الأعلام و الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام الذين لا يطعن عليهم، و لا طريق إلى ذمّ واحدٍ منهم، روى عن أبي بصير، و زرارة، و عبيد بن زرارة، و روى عنه محمّد بن أبي عمير، و جعفر بن بشير، و الحسن بن عليّ بن فضّال، و غيرهم. انظر الردّ على أهل العدد و الرؤية: 25 و 37، رجال الطوسي: 224/ 27، معجم رجال الحديث 10: 122/ 6734.
2- التهذيب 2: 344/ 1426، الوسائل 5: 336/ 3- باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3- أحمد بن محمّد بن أبي نصر: البزنطي أبو جعفر من أصحاب الأئمّة الأطهار الكاظم و الرضا و الجواد عليهم السلام، و كان عظيم المنزلة عندهم، روى عن أبان بن عثمان، و الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، و هشام بن سالم، و روى عنه أحمد بن محمّد ابن خالد البرقي، و محمّد بن عيسى، و الهيثم بن أبي مسروق النهدي و غيرهم. انظر الفهرست للطوسي: 19/ 53، رجال النجاشي: 75/ 180، معجم رجال الحديث 2: 231/ 800.

ص: 307

قال: (يمضي).

قلت: شكّ في القراءة و قد ركع؟

قال: (يمضي).

قلت: شكّ في الركوع و قد سجد؟

قال: (يمضي على صلاته) ثمّ قال: (يا زرارة إذا خرجت من شي ءٍ ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشي ءٍ)

و في نسخة «الوافي»

(فشكّك ليس بشي ءٍ)

(1).

و قريب منها: صحيحة إسماعيل (2) المنقولة في أبواب الركوع،

عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن إسماعيل بن جابر قال قال أبو جعفر عليه السلام (3): (إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض، كلّ شي ءٍ شكّ فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه)

(4).

و لا ينبغي الإشكال في استفادة الكلّية منهما بالنسبة إلى جميع الأبواب، و لا وجه لرفع اليد عن ظهور الكلّية في ذيلهما بمُجرّد كون صدرهما مُرتبطاً بباب الصلاة(5)، و لا يقصر ظهورهما في إعطاء الكلّية عن صحيحة زرارة في باب الاستصحاب، بل


1- التهذيب 2: 352/ 1459، الوسائل 5: 336/ 1- باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الوافي 2: 141.
2- اسماعيل بن جابر: الجعفي من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، روى عن أبي بصير، و يونس بن ظبيان، و أبي عبيدة الحذاء و غيرهم، و روى عنه صفوان بن يحيى، و عبد اللَّه بن سنان، و الحسين بن عثمان و غيرهم. انظر: رجال النجاشي: 32/ 71، الفهرست للطوسي: 15/ 49، معجم رجال الحديث 3: 115/ 1302.
3- قد روى في الوسائل صحيحة إسماعيل هذه عن أبي جعفر عليه السلام في هذا الباب، و قد رواها عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في باب نسيان السجدة، و السهو في السجود( أ)، و رواها في الوافي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام( ب)، و الظاهر أنَّ الرواية عن أبي جعفر سهو من الناسخ أو من قلمه منه قدّس سرّه . أ- الوسائل 4: 968/ 1- باب 14 و 971/ 4- باب 15 من أبواب السجود. ب- الوافي 2: 142.
4- التهذيب 2: 153/ 602، الاستبصار 1: 358/ 1359، الوسائل 4: 937/ 4- باب 13 من أبواب الركوع.
5- انظر حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 109.

ص: 308

دلالتهما أقوى منها.

أمّا الثانية فواضح.

و أمّا الاولى فلأنَّ قوله:

(يا زُرارة إذا خرجت من شي ءٍ و دخلت في غيره فشكّك ليس بشي ءٍ)

بعد أسئلة زُرارة التي تحيط بجميع أجزاء الصلاة تقريباً كالنصّ في العموم؛ و أنه قانون كلّي لجميع الأبواب، فرفع اليد عن إطلاق قوله:

(من شي ءٍ)

لا وجه له بمُجرّد المسبوقيّة بباب الصلاة، و هل هذا إلّا مثل أن يقال:

إنَ

(لا تنقض اليقين بالشكّ)

مخصوص بباب الوضوء؛ لكونه مسبوقاً بالسؤال منه؟!

و الإنصاف: أنَّ التفرقة بينهما ممّا لا وجه لها، مع أنَّ صحيحة ابن جابر أعطت الكلّية بلفظ العموم، و التخصيص بباب دون باب بلا مُخصّص.

و منها: موثّقة ابن أبي يعفور المنقولة في أبواب الوضوء،

عن محمّد بن الحسن، عن المُفيد(1) عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللَّه (2) عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو(3) عن عبد اللَّه بن أبي


1- المفيد: هو محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن نعمان بن سعيد بن جبير، أبو عبد اللَّه رئيس الطائفة المحقّة، و علم من أعلام الامّة، و هو أعرف من أن يعرّف، و فضله أشهر من أن يوصف، دافع بقلمه و لسانه عن حريم أهل البيت عليهم السلام، و كتبه و رسائله معروفة متداولة، ولد رحمه اللَّه سنة 336 في عكبرى و توفّي سنة 413 ه. انظر رجال النجاشي: 399/ 1067، الفهرست للطوسي: 157/ 696، تنقيح المقال 3: 180/ 1336.
2- سعد بن عبد اللَّه: أبو القاسم الأشعري، من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام، شيخ هذه الطائفة و فقيهها و وجهها، سمع من حديث العامّة شيئاً كثيراً، توفّي سنة إحدى و ثلاثمائة، و قيل سنة مائتين و تسع و تسعين، روى عن أيّوب بن نوح، و جميل بن صالح، و محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، و روى عنه عليّ بن الحسين بن بابويه، و محمّد بن الحسن بن الوليد، و محمّد بن الوليد، و محمّد بن قولويه. انظر رجال النجاشي: 177/ 467، رجال الطوسي: 75/ 306، معجم رجال الحديث 8: 74/ 5048.
3- عبد الكريم بن عمرو: الخثعمي لقبه كرام كان من أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، و أضاف الكشي صحبته للإمام الرضا عليه السلام، و هو من الفقهاء الأعلام و الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام الذين لا يطعن عليهم، و لا طريق لذمّ واحدٍ منهم، روى عن أبي بصير، و أبي بكر الحضرمي، و محمّد بن مسلم و غيرهم، و روى عنه أحمد بن محمّد بن أبي نصر، و جعفر بن بشير، و محمّد بن سنان، انظر الفهرست للطوسي: 109/ 469، تنقيح المقال 2: 160/ 6685، معجم رجال الحديث 10: 65/ 6618.

ص: 309

يعفور(1) عن أبي عبد اللَّه قال: (إذا شككت في شي ءٍ من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكّك بشي ءٍ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ءٍ لم تجزه)

(2) حيث حصر الشكّ المُعتبر في الشكّ في الشي ء حين الاشتغال به؛ و أنَّ الشكّ إذا لم يكن حادثاً حين الاشتغال ليس بشي ءٍ، و هذه في إعطاء الكلّية كصحيحة زُرارة المُتقدّمة، و كصحيحته في باب الاستصحاب، و سيأتي التعرّض لحال الوضوء وفقه الحديث.

و منها: موثّقة بكير بن أعين المنقولة في هذا الباب:

عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان (3) عن بكير بن أعين (4) قال قلت له:

الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ؟

قال: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

(5).

دلّت على أنَّ الميزان لعدم الاعتناء بالشكّ هو الأذكريّة حين الوضوء، و معلوم أنَّ العرف يلغي خصوصيّة الوضوء؛ إذ لا دخالة له في الأذكريّة، فيفهم منه أنَّ الحيثيّة التي هي تامّة الدخالة و تمام الموضوع للحكم هي نفس الأذكريّة حين العمل، و أنَّ كلّ عامل حين اشتغاله بعمله أذكر منه بعد التجاوز منه؛ حيث يكون تمام همّه إتيان العمل على


1- عبد اللَّه بن أبي يعفور: أبو محمّد كان من حواري الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، عظيم المنزلة عندهم، يقرئ القرآن في مسجد الكوفة، و قد توفّي في حياة الإمام الصادق عليه السلام سنة الطاعون، روى عن أخيه عبد الكريم، و أبي الصامت، و روى عنه أبان بن عثمان، و إسحاق بن عمّار، و الحسين بن المختار و غيرهم. انظر تنقيح المقال 2: 165/ 6730، معجم رجال الحديث 10: 96/ 6680.
2- التهذيب 1: 101/ 262، مستطرفات السرائر: 25/ 3، الوسائل 1: 330/ 2- باب 42 من أبواب الوضوء.
3- أبان بن عثمان: الأحمر البجلي، أبو عبد اللَّه، من أصحاب الإمام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام كوفي، كان يسكنها تارة و البصرة تارة، و قد أخذ عن أهلها. روى عنه إسحاق بن عمّار، و الحسن الصيقل، و عبيد بن زرارة و خلائق، و روى عنه محمّد بن أبي عمير، و يونس بن عبد الرحمن، و عليّ بن الحكم، و طائفة. انظر معجم رجال الحديث 1: 157/ 37، رجال النجاشي: 813، رجال الطوسي: 152/ 191.
4- بكير بن أعين: أبو عبد اللَّه، من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، ترحّم عليه الصادق عليه السلام في زمان حياته، و قال عنه بعد موته:( أما و اللَّه لقد أنزله اللَّه بين رسوله و أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليهما)، روى عنهما عليهما السلام، و روى عنه عمر بن اذينة، و جميل بن دراج، و زرارة، و حريز و غيرهم. انظر رجال الكشي 2: 419، معجم رجال الحديث 3: 359/ 1870، تنقيح المقال 1: 180/ 1381.
5- التهذيب 1: 101/ 265، الوسائل 1: 331/ 7- باب 42 من أبواب الوضوء.

ص: 310

ما هو عليه.

و منها: رواية مُحمّد بن مُسلم المنقولة في أبواب الخلل:

عن محمّد بن عليّ بن الحسين، بإسناده عن مُحمّد بن مُسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنَّه قال:

(إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى، فلم يدرِ ثلاثاً صلّى أم أربعاً، و كان يقينه حين انصرف أنَّه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة، و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)

(1).

و المُراد بحين الانصراف حين السلام؛ لأنَّ السلام هو الانصراف في لسان الروايات، و يُستفاد منها الضابط الكلّي و سرّ التشريع، و معلوم أنَّه حين اشتغاله بكلّ عمل أقرب إلى الحقّ منه حين يشكّ، تأمّل.

و منها: صحيحة زُرارة و الفضيل المنقولة في أبواب المواقيت:

عن محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن حمّاد، عن حَريز، عن زُرارة و الفضيل (2) عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: (متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تُصلّها، أو في وقت فوتها أنّك لم تُصلّها صلّيتها، و إن شككت بعد ما خرج وقت الفوت و قد دخل حائل فلا إعادة عليك من شكّ حتّى تستيقن ..)

(3) الحديث.

فإنّها تؤيّد الكلّية المُستفادة من الروايات لو قلنا بأنَّ الشكّ بعد الوقت من


1- الفقيه 1: 231/ 1027، مستطرفات السرائر: 110/ 67، الوسائل 5: 343/ 3- باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- الفضيل: ابن يسار النهدي أبو القاسم، من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام، و ممّن أجمع الأصحاب على تصديقه و الإقرار بالفقه له، و كان الصادق عليه السلام إذا رآه يقول:( بشّر المُخبتين، من أحبّ أن ينظر رجلًا من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا)، روى عن زكريا النقاض، و عبد الواحد بن المختار الأنصاري، و روى عنه عمر بن اذينة، و جميل بن دراج، و عبد الكريم بن عمرو الخثعمي. انظر رجال العلّامة الحلي: 132/ 1، تنقيح المقال 2: 14/ 9521، معجم رجال الحديث 13: 335/ 9436.
3- الكافي 3: 294/ 10، الوسائل 3: 205/ 1- باب 60 من أبواب مواقيت الصلاة.

ص: 311

مصاديق قاعدة التجاوز، و ليس قاعدة برأسها، كما لا يبعد؛ فإنَّ المُستفاد منها أنَّ سرّ عدم الاعتناء هو دخول الحائل و الخروج عن المحلّ المُقرّر الشرعيّ، لكن فيها تأمّل و إشكال، و إن لم تخلُ من تأييد و إشعار.

و هاهنا روايات اخر تستفاد منها الكلّية في باب الصلاة و الطهور(1) أو الصلاة فقط(2)، و تدلّ على الكلّية في جميع الأبواب

مُرسلة الصدوق في «الهداية» قال قال الصادق عليه السلام: (إنَّك إن شككت أن لم تؤذّن و قد أقمت فامض، و إن شككت في الإقامة بعد ما كبّرت فامض، و إن شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض، و إن شككت في الركوع بعد ما سجدت فامض، و كلّ شي ءٍ شككت فيه و قد دخلت في حالة اخرى فامض، و لا تلتفت إلى الشكّ إلّا أن تستيقن)

(3).

و إرسال مثل الصدوق بنحو الجزم، و أنه قال الصادق عليه السلام كذا(4) يسلك الرواية عندي في سلك الموثّقات؛ فإنَّه بمنزلة توثيق رواتها.

نعم: يبقى احتمال كون هذه الرواية المُرسلة عين صحيحة إسماعيل و زُرارة نقلهما بالمعنى أو كونها رواية «الفقه الرضويّ» كما لا يبعد، لكنّ رفع اليد عن ظهورها الخاصّ بها- لو كان كما سيأتي- لا ينبغي بمُجرّد الاحتمال.

و قريب منها عبارة «الفقه الرضويّ»(5) و في «المُقنع»:

(و متى شككت في شي ءٍ و أنت في حال اخرى فامض، و لا تلتفت إلى الشكّ إلّا أن تستيقن)

(6).

و كيف كان: لا إشكال في استفادة الكلّية من الروايات.


1- التهذيب 1: 364/ 1104، الوسائل 1: 331/ 6- باب 42 من أبواب الوضوء.
2- التهذيب 2: 352/ 1460، الوسائل 5: 342/ 2- باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3- الهداية للصدوق: 32.
4- انظر مستدرك الوسائل 1: 483/ 4- باب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5- فقه الرضا عليه السلام: 116، مستدرك الوسائل 1: 483/ 2- باب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
6- المقنع للصدوق: 7، مستدرك الوسائل 1: 50/ 2- باب 37 من أبواب الوضوء.

ص: 312

الأمر الثاني أنَّ المُراد من الشكّ في الشي ء هو الشكّ في الوجود

هل المُراد من الشكّ في الشي ء في قوله في موثّقة ابن مُسلم:

(كلّ ما شككت فيه)

و في صحيحتي زُرارة و إسماعيل:

(شكّ في الأذان أو في القراءة)

هو الشكّ في الوجود، و المُراد من المُضيّ مُضيّ محلّه، و من الخروج هو الخروج عن محلّه المُقرّر؟

أو المُراد الشكّ في صحّة الشي ء، و من المُضيّ مُضيّ نفسه، و من الخروج من الشي ء الخروج من نفسه؟

أو المُراد من الشكّ فيه الشكّ في الشي ء من جهة الشكّ في تحقّق جزء أو شرط مُعتبر فيه، و من المُضيّ و الخروج ما ذكر آنفاً؟ وجوه:

ظاهر صدر الروايات؛ أي قوله:

(شككت فيه)

أو

(رجل شكّ في الأذان)

هو الشكّ في الوجود، و ظاهر ذيلها؛ أي قوله:

(قد مضى فأمضه)

في الموثّقة، و قوله:

(إذا خرجت من شي ءٍ)

و قوله:

(جاوزه)

في الصحيحتين هو الخروج و التجاوز عن نفسه.

و لا يبعد(1) رفع اليد عن ظهور ذيلها بظهور صدرها، فيكون المُراد منها المُضيّ و الخروج عن المحلّ المُقرّر لها، فيقال: إنَّ الظاهر من ذيل صحيحة زُرارة مثلًا و كذا صحيحة إسماعيل- بعد ظهور صدرها في الشكّ في الوجود- هو إعطاء الكبرى الكلّية التي تكون تلك الأمثلة مصاديقها، فلا يفهم العرف بعد ذلك إلّا المُضيّ و الخروج عن المحلّ.


1- بل هو متعيّن بعد ما يأتي من عدم تعقّل جعل قاعدة الصحة في الأمر الثالث؛ لأنَّ السؤال إمّا عن الشك في وجود المذكورات، كما هو الظاهر، أو الأعمّ منه و من الشكّ في الشي ء باعتبار الشكّ فيما يعتبر فيه، أو محتمل للأمرين. و لا يحتمل اختصاص السؤال بالثاني لبعده جداً، فحينئذٍ لا محيص عن رفع اليد عن ظاهر الذيل، بحمله إمّا على الخروج عن المحل أو الأعم، بناءً على أنَّ السؤال أعمّ منهما، أو مُحتمل للأمرين؛ لترك الاستفصال في الجواب منه قدّس سرّه .

ص: 313

و هذا و إن لا يخلو عن مُناقشة، لكن ربما يشهد له بعض الروايات التي ورد فيها الشكّ في الشي ء بمعنى الشكّ في الوجود(1) أو حمل الإمام عليه السلام كلام السائل من الشكّ في الشي ء على الشكّ في الوجود، فيظهر منه أنَّ الشكّ في الشي ء هو الشكّ في الوجود بحسب المُتفاهم العرفيّ، و يضعف الاحتمال الآخر، فيقدّم ظهور الصدر على ظهور الذيل، كرواية الصدوق المُتقدّمة حيث

قال: قال الصادق عليه السلام: (إنّك إن شككت أن لم تؤذّن و قد أقمت فامض).

و هذا صريح في الشكّ في الوجود، فيكون المُراد من سائر الفقرات هو الشكّ في الوجود، فترفع الإجمال على فرضه عن صحيحتي زُرارة و إسماعيل اللتين يكون التعبير فيهما مُشابهاً لما في المُرسلة من الفقرات اللّاحقة لهذه الفقرة الصريحة في الشكّ في الوجود.

و قد عرفت: أنَّ إرسال الصدوق في مثل الرواية و نسبة القول إلى الإمام عليه السلام جزماً لا يقصر عن توثيق أمثال الكشّي (2) و النجاشيّ (3) و الشيخ، فلا يجوز رفع اليد عن مثل هذا الظهور؛ باحتمال أن تكون المُرسلة عين الصحيحتين نقلت بالمعنى أو عين عبارة «الفقه الرضويّ» تقريباً، و على فرض صحّة الاحتمال يكون فهم الصدوق مؤيّداً لما ادّعيناه، و نعم التأييد.


1- انظر الكافي 3: 354/ 1، الوسائل 5: 326/ 2- باب 14 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- الكشي: هو أبو عمرو محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، ثقة، بصير بالأخبار و بالرجال، حسن الاعتقاد، مُستقيم المذهب، صحب العياشي و أخذ عنه و تخرَّج عليه، له كتاب معرفة الناقلين عن الأئمّة الصادقين، الذي عمد إليه شيخ الطائفة قدّس سرّه فلخَّصه و سمّاه باختيار معرفة الرجال، توفّي سنة 369 ه. انظر تنقيح المقال 3: 165/ 11185، معجم رجال الحديث 17: 63/ 11432، رجال النجاشي: 372/ 1018.
3- النجاشي: هو الشيخ الجليل أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس الأسدي الكوفي، أحد المشايخ الثقات، و العدول الأثبات، من أعظم أركان الجرح و التعديل، مُسلّم عند الكل، غير مخدوش فيه و في كتابه الرجال بوجهٍ من الوجوه، و قد وثّقه و أثنى عليه كلّ من ترجم له من أرباب المعاجم و مصنّفي التراجم، ولد في شهر صفر سنة 372 ه و توفّي بمطرآباد في جمادى الاولى سنة 450 ه. انظر مقابس الأنوار: 5- 6، لؤلؤة البحرين: 404/ 127، رجال العلّامة الحلّي: 20/ 53.

ص: 314

و يؤيّده أيضاً ذيل عبارة «الفقه الرضويّ»؛ فإنَّه بعد بيان حكم الشكّ في الأذان و الإقامة و غيرهما على نحو سائر الروايات قال:

(و لا تلتفت إلى الشكّ إلّا أن تستيقن، فإنَّك إذا استيقنت أنّك تركت الأذان ..).

و هذه الفقرة تجعل صدرها كالنصّ في أنَّ المُراد من الشكّ في الأذان و غيره هو الشكّ في الوجود.

و تؤيّده أيضاً: رواية

محمّد بن منصور(1) المنقولة في أبواب السجود قال: سألته عن الذي ينسى السجدة الثانية من الركعة الثانية أو شكّ فيها؟

فقال: (إذا خفت أن لا تكون وضعت وجهك إلّا مرّة واحدة، فإذا سلّمت سجدت سجدة واحدة، و تضع وجهك مرّة واحدة، و ليس عليك سهو)

(2).

حيث فهم المسئول من قوله: «أو شكّ فيها». الشكَّ في أصل السجدة، فأجاب بما أجاب.

و تؤيّده أيضاً: الروايات الواردة في الشكوك كقوله:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل شكّ في الركعة الاولى؟

قال: (ليستأنف)

(3).

فإنَّه عليه السلام فهم من قوله الشكّ في وجود الركعة، إلى غير ذلك من الروايات التي يطّلع عليها المُتتبّع، فإنَّ مجموع ذلك ممّا يشرف بالفقيه على القطع بأنَّ المُراد من الشكّ في الأذان- بعد الدخول في الإقامة و غيرها- هو الشكّ في الوجود، فيكون المُراد من الخروج من الشي ء الخروج من محلّه المُقرّر له، و سيأتي في الأمر التالي ما يشهد لما ذكرنا.


1- محمّد بن منصور: ابن يونس بزرج، كوفي، ثقة، عدّه الشيخ في رجاله ممّن لم يرو عنهم عليهم السلام. انظر معجم رجال الحديث 17: 276/ 11833، رجال الطوسي: 513/ 120، الفهرست للطوسي: 151/ 650.
2- التهذيب 2: 155/ 607، الاستبصار 1: 360/ 1365، الوسائل 4: 970/ 6- باب 14 من أبواب السجود.
3- التهذيب 2: 176/ 700، الاستبصار 1: 363/ 1377، الوسائل 5: 301/ 11- باب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

ص: 315

الأمر الثالث أنَّ المُستفاد من الروايات قاعدة واحدة و هي التجاوز

هل المُستفاد من أدلّة الباب أنَّ الشارع أسّس قاعدتين مُستقلّتين، كلّ واحدة منهما بملاك خاصّ بها:

إحداهما: قاعدة الشكّ بعد تجاوز المحلّ؛ أي الشكّ في وجود الشي ء بعد التجاوز عن محلّه المُقرّر له.

و ثانيتهما: قاعدة أصالة الصحّة بعد الفراغ من العمل (1)، أم لا يستفاد منها إلّا قاعدة واحدة(2)؟

التحقيق أن يقال: إنَّه قد يراد من القاعدة الثانية أنَّ المجعول هو صحّة العمل بعد الفراغ منه، أو وجوب البناء على الصحّة بعده، إذا شكّ في صحّته و فساده من جهة الشكّ في الإخلال بشي ء مُعتبر فيه (3).

فيرد عليه أوّلًا: أنَّ الصحّة و الفساد أمران مُنتزعان من عمل المُكلّف إذا طابق المأمور به، و ليستا من الأحكام الوضعيّة الجعليّة التي يمكن أن تنالهما يد الجعل، فلا يمكن أن يجعل الشارع الصحّة للعمل.

نعم: له أن يرفع اليد عن الجزء أو الشرط المشكوك فيهما، أو يجعل أمارة على تحقّقهما، أو أصلًا على وجوب البناء على وجودهما لدى الشكّ، و مع إعمال التعبّد بأحد الوجوه تنتزع الصحّة من فعل المُكلّف المنطبق عليه العناوين عقلًا، و لا يعقل عدم


1- حاشية الآخوند على الرسائل: 237، حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 108، نهاية الأفكار 4: 43- 45- القسم الثاني.
2- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 6، درر الفوائد: 591، فوائد الاصول 4: 623- 626، نهاية الدراية 3: 299.
3- انظر نهاية الأفكار 4: 39- القسم الثاني.

ص: 316

الانتزاع منه، و مع عدم التصرّف كذلك لا يعقل انتزاعها منه، فجعل الصحّة ممّا لا معنى له.

و من ذلك يعلم: أنَّ إيجاب البناء على الصحّة ابتداءً أيضاً ممّا لا يعقل إلّا بنحوٍ من أنحاء التصرّف في منشأ الانتزاع، بل و لا يعقل أن تكون أصالة الصحّة أمارة عقلائيّة أيضاً؛ لأنَّ الأمارة على أمر انتزاعيّ لا تعقل إلّا بقيام الأمارة على منشئه، و مع قيام الأمارة عليه لا يحتاج إلى قيام أمارة على المُنتزع، بل لا يعقل، فأصالة الصحّة- بمعنى جعل الصحّة للشي ء المشكوك فيه، أو البناء على الصحّة ابتداءً، أو إقامة الأمارة عليها كذلك- ممّا لا تعقل.

و ثانياً: أنَّ قاعدة أصالة الصحّة دائماً محكومة بقاعدة التجاوز عن المحلّ؛ لأنَّ الشكّ في الصحّة دائماً مُسبّب عن الشكّ في الإخلال بشي ءٍ ممّا يعتبر في المأمور به، و بعد الفراغ من العمل كما يكون مورداً لقاعدة الفراغ، يكون مورداً لقاعدة التجاوز أيضاً، و القاعدة الثانية ترفع الشكّ في الصحّة، و ترفع موضوع القاعدة الاولى، فلا يبقى مجال لجريانها.

و إن شئت قلت: إذا جرت قاعدة التجاوز يحكم العقل بصحّة العمل، و تنتزع منه الصحّة؛ لكونها من اللّوازم الأعمّ من الحكم الظاهريّ، فتغني عن قاعدة أصالة الصحّة، و إجراء أصالة الصحّة لا يغني عن الثانية إلّا بالأصل المُثبت، و لو منعت الحكومة لما ذكرنا في الأصل السببيّ و المُسبّبي من ميزان الحكومة(1)، فلا أقلّ من أنَّ جعل القاعدة الاولى؛ أي قاعدة الفراغ يكون لغواً مع جعل قاعدة التجاوز، لأنَّ قاعدة الفراغ أخصّ منها مُطلقاً.

لا يقال: بين القاعدتين عموم من وجه مورداً؛ لتصادقهما بعد الفراغ من عمل


1- انظر صفحة 234- 238.

ص: 317

مركّب شكّ في وجود بعض أجزائه، ممّا تجاوز محلّه، كما عدا الجزء الأخير، و تفترق قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا شكّ في وجود جزء بعد تجاوز محلّه قبل الفراغ من العمل، و تفترق هي عنها فيما لو شكّ بعد الفراغ عن العمل في كون المأتيّ به واجداً للوصف المُعتبر في صحّته، أو شكّ في الجزء الأخير الغير المُقوّم للصدق العرفيّ، حتّى يكون منافياً لتحقّق الفراغ من العمل؛ فإنَّه ربما تجري بالنسبة إليه أصالة الصحّة دون الشكّ بعد تجاوز المحلّ (1).

فإنَّه يقال: بل قاعدة التجاوز أعمّ مُطلقاً، و ما ذكر من موردي الافتراق ممنوع:

أمّا الشكّ في كون المأتيّ به واجداً للوصف أو الشرط، فلا وجه لإخراجه عن قاعدة التجاوز؛ لأنَّ الوصف أو الشرط شي ء شكّ في وجوده بعد تجاوز محلّه، فيشمله قوله:

(كلّ شي ءٍ شكّ فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه)

(2) فإذا شكّ في تحقّق الجهر بعد الدخول في الركوع يكون مُنطبقاً للقاعدة المجعولة، فلا وجه لقصرها على الشكّ في الأجزاء.

و أمّا الشكّ في الجزء الأخير الغير المُقوّم للصدق العرفيّ:

فإن كان المُراد منه صدق الفراغ عرفاً فممنوع؛ لأنَّ السلام مثلًا إذا جعل آخر الصلاة فلا يحكم العرف بأنَّ المُصلّي فارغ عن الصلاة قبل السلام، و مع الشكّ فيه يكون الفراغ مشكوكاً فيه، فلا تنطبق عليه قاعدة الفراغ.

و إن كان المُراد منه صدق الصلاة على الناقص بجزء- كما لو نسي السلام و دخل في حائل- فهو مُسلّم، لكن لا يلزم منه صدق الفراغ من صلاته قبل السلام؛ فإنَّ المُصلّي قبل السلام داخل فيها غير خارج عنها، لكن لو تركها و ذهب في شغله يصدق على ما فعل أنَّه صلاة ناقصة بجزء.


1- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 108 سطر 22.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 307.

ص: 318

و بالجملة: لو شكّ في الجزء الأخير من المُركّب مع بقاء محلّه لا يكون مورداً لقاعدة الفراغ؛ للشكّ في حصول الفراغ، و لا لقاعدة التجاوز؛ لبقاء محلّه، و مع مضيّ محلّه يكون مورداً لقاعدة التجاوز، كما يكون مورداً لقاعدة الفراغ.

و لو قيل: إنَّ الدخول في الغير مُعتبر في قاعدة التجاوز لا الفراغ، فتفترق قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا فرغ من العمل، و شكّ في وصف جزئه الأخير أو شرطه، أو شكّ في شرط المُركّب قبل الدخول في غيره، فتشمله قاعدة الفراغ لا التجاوز(1).

يقال له: إنَّ اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز دون الفراغ ممّا لا وجه له؛ فإنَّ وجه اعتباره في قاعدة التجاوز إنّما هو ظهور قوله في مثل صحيحتي زُرارة و إسماعيل بن جابر:

(و دخلت في غيره)

في ذلك، و هذا التعبير بعينه، بل أصرح و آكد منه موجود في صحيحة زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام التي تكون مستند قاعدة الفراغ، و كذا في موثّقة ابن أبي يعفور المنقولتين في أبواب الوضوء.

ففي اولاهما:

(فإذا قمت من الوضوء، و فرغت منه و قد صرت في حال اخرى في الصلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمّى اللَّه ممّا أوجب اللَّه عليك وضوءه لا شي ء عليك فيه)

(2).

و في ثانيتهما:

(إذا شككت في شي ءٍ من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكّك بشي ءٍ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ءٍ لم تجزه)

(3).

بناءً على رجوع ضمير

(غيره)

إلى الوضوء، و لا وجه لفهم القيديّة في إحدى الطائفتين دون الاخرى (4)، و سيأتي التعرّض لذلك إن شاء اللَّه (5).


1- انظر نهاية الأفكار 4: 45- القسم الثاني.
2- الكافي 3: 33/ 2، التهذيب 1: 100/ 261، الوسائل 1: 330/ 1- باب 42 من أبواب الوضوء.
3- تقدّم تخريجه في صفحة 309.
4- نهاية الأفكار 4: 44- القسم الثاني.
5- يأتي في صفحة 329- 334.

ص: 319

لا يقال: إنَّ قاعدة الفراغ عامّة سيّالة في جميع أبواب الفقه، دون قاعدة التجاوز، فإنَّها مُختصّة بباب الصلاة(1).

فإنَّه يقال: قصر قاعدة التجاوز بباب الصلاة ممنوع؛ لعموم الدليل و عدم المُخصّص:

أمّا عمومه فلما عرفت.

و أمّا عدم المُخصّص اللّفظي فظاهر.

و أمّا عدم المُخصّص اللّبي من إجماع أو شُهرة؛ فلعدم ثبوتهما، فما ادّعاه بعض المُحقّقين من اختصاصها بباب الصلاة لم يظهر له وجه.

و لقد أجاد في «الجوهر» حيث قال: ربما احتمل اختصاص مورد هذه الأخبار في الصلاة؛ لاقتضاء سياقها ذلك، و هو ضعيف جدّاً، بل هي قاعدة مُحكّمة في الصلاة و غيرها من الحجّ و العمرة و غيرهما.

نعم: هي مخصوصة بالوضوء خاصّة؛ لما سمعته من أدلّتها فمن هنا وجب الاقتصار عليه، و لا يتعدّى منه في هذا الحكم للغسل مثلًا، بل هو باقٍ على القاعدة من عدم الالتفات إلى الشكّ في شي ءٍ من أجزائه مع الدخول في غيره من الأجزاء، نعم لا يبعد إلحاق التيمّم به (2) انتهى.

و هو جيّد إلّا ما ذكره أخيراً من نفي البعد عن إلحاق التيمّم بالوضوء؛ فإنَّ مُجرّد بدليّته من الوضوء لا يقتضي إلحاقه به في هذا الحكم، فإنَّ رفع اليد عن العموم يحتاج إلى مُخصّص مفقود في المقام.

هذا كلّه إن اريد من القاعدة أصالة الصحّة، و أمّا إن اريد منها عدم الاعتناء


1- مصباح الفقيه 1: 206 و 207 سطر 23، حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 109، و انظر حاشية الآخوند على الرسائل: 238 سطر 9، فوائد الاصول 4: 626.
2- جواهر الكلام 2: 355.

ص: 320

بالشكّ في الجزء أو الشرط بعد الفراغ من العمل فيقال: الفرق بين قاعدة الفراغ و التجاوز أنَّ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشكّ في الجزء أو الشرط بعد التجاوز عن محلّه، و مفاد قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بالشكّ فيهما بعد الفراغ من العمل.

فلا يرد عليه الإشكالان المُتقدّمان (1) من عدم إمكان تطرّق الجعل و حكومة قاعدة التجاوز على الفراغ، لكن مع عموم قاعدة التجاوز لجميع الأبواب، و كونها أعمّ مُطلقاً بالنسبة إلى قاعدة الفراغ يكون جعل الثانية لغواً لما عرفت (2).

ثمّ لو قلنا: بأنَّ قاعدة التجاوز مخصوصة بباب الصلاة يقع الكلام في أنَّ المجعول قاعدتان:

الاولى: قاعدة الفراغ بالمعنى المُتقدّم آنفاً، و هي سيّالة في جميع أبواب الفقه.

و الثانية: قاعدة التجاوز، و هي مخصوصة بباب الصلاة.

أو أنَّ المجعول قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز، لكن قام الدليل اللّفظي في باب الوضوء، و غير اللّفظي في سائر الأبواب- غير باب الصلاة- على تقييد التجاوز بكونه عن تمام العمل المُركّب؛ بدعوى أنَّ هذا التقييد ليس مُستهجناً كالتخصيص الأكثريّ، و البحث عن ذلك بعد بطلان أصل المبنى، و مع فرض عدم بطلانه و عدم ترتّب ثمرة مهمّة عليه ممّا لا جدوى له.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ التحقيق هو استفادة قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز بعد المحلّ، و هي سيّالة في جميع الأبواب، و لا وجه لتخصيصها بباب الصلاة؛ بعد عموم الأدلّة، و عدم المُقيّد و المُخصّص.

و بما ذكرناه و فصّلناه: علم أنَّ مثل قوله في موثّقة ابن مسلم:

(كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو)

ليس معناه كلّ ما شككت في صحّته بعد الفراغ منه؛


1- تقدّم في صفحة 315 و 316.
2- تقدّم في صفحة 315 و 316.

ص: 321

لما عرفت (1) من فساد ذلك، بل معناه أنَّه كلّ ما شككت في وجوده جزءاً كان أو شرطاً، أو نفس العمل ممّا قد مضى محلّه المُقرّر الشرعيّ، فأمضه كما هو، فيكون مفاده إعطاء قاعدة التجاوز.

كما أنَّ المُراد من قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة محمّد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل:

(كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض و لا تعد)

(2) هو بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز، فيكون ملاك الحكم هو التجاوز عن المحلّ.

لا الفراغ من العمل، و لا محيص عن حملها على ذلك؛ ضرورة أنَّه مع جريان قاعدة التجاوز في باب الصلاة من غير إشكال- لدلالة النصوص الكثيرة عليه- لا معنى لجعل قاعدة الفراغ فيه مُستقلًاّ.

و ممّا ذكرنا: يقرب احتمال آخر في قوله:

(كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو)

و هو أنَّه بصدد بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز- أي الشكّ الحادث بعد مُضيّ العمل المُتعلّق بكلّ ما اعتبر فيه- لا اعتبار به، لا لدخالة الفراغ في ذلك؛ بل بملاك التجاوز عن المحلّ.

فالشكّ الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مُضيّ المحلّ لا اعتبار به، لا بملاكين، بل بملاكٍ واحدٍ هو التجاوز عن المحلّ، فحينئذٍ تكون جميع روايات الباب المُتقاربة المضمون و التعبير لإعطاء قاعدة كلّية هي عدم الاعتناء بالشكّ بعد تجاوز المحلّ.

و ممّا ذكرنا: يمكن أن يدّعى أنَّ الوضوء باقٍ تحت قاعدة الشكّ بعد التجاوز؛ لكنّ الشارع تصرّف في التجاوز فيه، و قيّده- في خصوص باب الوضوء- بالتجاوز عن تمام


1- في صفحة 312.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 306.

ص: 322

العمل، و هذا من قبيل تقييد المورد، لا تخصيصه (1) حتّى يستشكل فيه بالاستهجان (2)، نظير آية النبأ(3) إشكالًا و جواباً في هذه الحيثيّة(4).

بل المقام خالٍ عن الإشكال و لو قلنا باستهجان تقييد المورد؛ فإنَّه من قبيل تقييد إطلاق المورد بإخراج بعض الفروض النادرة نسبة، فإنَّ عروض الشكّ بين الوضوء نادر، خصوصاً بالنسبة إلى أصل الغسل و المسح، لا الشرائط و الموانع.

و الظاهر من الدليل المُخصّص أو المُقيّد لقاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء و هو صحيحة زُرارة الآتية(5) هو اختصاص الخارج بالشكّ فيما سمّى اللَّه تعالى و أوجبه على العباد في ظاهر الكتاب، لا غيره ممّا فهم اعتباره بالسنّة، و هذا بوجه نظير الشكّ في الركعتين الأولتين من الصلاة، حيث لا يدخل فيهما الشكّ؛ لكونهما فرض اللَّه.

و بالجملة: لا دليل على التقييد فيما عدا ما سمّى اللَّه من الغسل و المسح، أو مع بعض الخصوصيّات المُستفادة من ظاهر الكتاب، فلو شكّ في إطلاق الماء و إضافته، أو الغسل منكوساً و أمثال ذلك يكون مشمولًا للقاعدة، بين الوضوء أو بعده.

فتحصّل من ذلك: أنَّ هذا النحو من التقييد لا استهجان فيه رأساً.

و حينئذٍ تبقى موثّقة ابن أبي يعفور المُتقدّمة(6) على ظاهرها؛ من رجوع ضمير غيره إلى الجزء المشكوك فيه، لا إلى الوضوء.

و أمّا ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره: من أنَّ الوضوء اعتبر أمراً بسيطاً للتخلّص عن الإشكال (7) ففيه ما لا يخفى؛ فإنَّ صحيحة زُرارة الواردة في باب الوضوء


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 15، نهاية الأفكار 4: 47- القسم الثاني.
2- انظر بحر الفوائد: 197 سطر 3- مبحث الاستصحاب، نهاية الأفكار 4: 47- القسم الثاني.
3- سورة الحجرات 49: 6.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 76، أنوار الهداية 1: 292 و 293.
5- انظر الكافي 3: 487/ 2، الوسائل 5: 300/ 9- باب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
6- تقدّم تخريجها في صفحة 308.
7- رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 23، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 161 سطر 25.

ص: 323

آبية عن ذلك.

و ها هي الصحيحة المنقولة في أبواب الوضوء:

محمّد بن الحسن، عن المُفيد، عن أحمد بن محمّد(1) عن أبيه (2) عن أحمد بن إدريس (3) و سعد بن عبد اللَّه، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حَريز، عن زُرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا كنت قاعداً على وضوئك، فلم تدرِ أ غسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما و على جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللَّه، ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء، و فرغت منه، و قد صرت في حال اخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمّى اللَّه ممّا أوجب اللَّه عليك فيه وضوءه لا شي ء عليك، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللًا فامسح بها عليه و على ظهر قدمك، فإن لم تصب بللًا فلا تنقض الوضوء بالشكّ و امض في صلاتك، و إن تيقّنت أنّك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً حتّى تأتي بالوضوء).

قال حمّاد و قال حَريز قال زُرارة قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة؟

فقال: (إذا شكّ ثمّ كانت به بلّة و هو في صلاته مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع و أعاد عليه الماء ما لم يصب بلّة، فإن دخله الشكّ و قد دخل في حال


1- أحمد بن محمّد بن الوليد: ثقة من وجوه أصحابنا، روى عن أبيه، و روى عنه الشيخ المفيد، و الحسين بن عبيد اللَّه الغضائري، و أحمد بن عبدون. انظر تنقيح المقال 1: 81/ 489، معجم رجال الحديث 2: 256/ 844.
2- محمّد بن الحسن: ابن أحمد بن الوليد شيخ القمّيين و فقيههم و متقدّمهم و وجههم، العارف بالرجال و الأخبار، روى عن محمّد بن الحسن الصفار، و سعد بن عبد اللَّه الأشعري، و روى عنه ابنه، و الشيخ الصدوق، و ابن أبي جيد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 383/ 1042، تنقيح المقال 3: 100/ 10534، معجم رجال الحديث 15: 206/ 10463.
3- أحمد بن إدريس: الأشعري الفقيه من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام، كثير الحديث صحيحه، روى عن أحمد بن محمّد بن عيسى، و سلمة بن الخطاب، و محمّد بن علي بن محبوب، و روى عنه جعفر بن قولويه، و محمّد بن الحسين بن سفيان البزوفري، و الشيخ الكليني. انظر رجال الطوسي: 428/ 16، الفهرست للطوسي: 26/ 71، معجم رجال الحديث 2: 38/ 425 و 41/ 426.

ص: 324

اخرى (1) فليمض في صلاته و لا شي ء عليه، و إن استبان رجع و أعاد الماء عليه، و إن رآه و به بلّة مسح عليه و أعاد الصلاة باستيقان، و إن كان شاكّاً فليس عليه في شكّه شي ء، فليمض في صلاته)

(2).

فإنَّ فيها وجوهاً من الدلالة على شدّة العناية بالأجزاء، و لا يمكن أن يقال:- بعد هذا التأكيد و المبالغة، و التعبير بما سمّى اللَّه، و أوجب اللَّه عليك فيه وضوءه- إنَّه فرض أمراً بسيطاً، بل في موثّقة ابن أبي يعفور أيضاً دلالة على عنايته بالأجزاء، و كون الوضوء أمراً مُركّباً، بل الظاهر من آية الوضوء(3) أيضاً هو العناية بأجزاء الوضوء، كما أشارت إليها صحيحة زُرارة، فلا يمكن الالتزام بما أفاده، و لا محيص عمّا ذكرنا.

و لا إشكال فيه؛ لأنَّ دلالة صدر موثّقة ابن أبي يعفور على عدم الاعتناء بالشكّ إذا حدث في الأثناء ليس إلّا بالإطلاق، كمفهوم ذيلها، بل تقييد التجاوز بما بعد الوضوء من أسهل التصرّفات؛ لأنَّ حدوث الشكّ في الأثناء نادر؛ لأنَّه يحدث نوعاً بعده، فإخراج الفرد النادر سهل.

ثمّ إنَّه وقع الإشكال في إلحاق الغُسل و التيمّم بالوضوء و عدمه (4)، و لا دليل على الإلحاق إلّا أن يقال- في توجيه إخراج الوضوء- بمقالة الشيخ الأنصاريّ: من كونه على القاعدة؛ لأنَّه اعتبر أمراً بسيطاً لوحدة مُسبّبه (5) و أنَّ الغُسل و التيمّم أيضاً كذلك، مع


1- هكذا في الوافي( أ) و مرآة العقول( ب)، لكن في الوسائل بدل( حال اخرى ( في صلاته) و الظاهر صحّة الأولين منه قدّس سرّه . أ- الوافي 1: 53- باب ترتيب الوضوء و موالاته و النسيان فيه سطر 24. ب- مرآة العقول 13: 111.
2- تقدّم تخريجها في صفحة 318 هامش 2.
3- سورة المائدة 5: 6.
4- بحر الفوائد: 196 سطر 19- مبحث الاستصحاب، مصباح الفقيه 1: 207، نهاية الأفكار 4: 46- 50.
5- رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 23، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 161 سطر 25.

ص: 325

أنَّ بدليّة التيمّم عن الوضوء تقتضي ذلك، و هو كما ترى و قد عرفت أنَّ اعتبار البساطة خلاف الأدلّة.

أو يقال: إنَّ أدلّة التجاوز قاصرة عن إثبات الحكم لغير الصلاة(1)، و قد عرفت ضعفه (2).

هذا مُضافاً: إلى دلالة ذيل صحيحة زُرارة المُتقدّمة آنفاً بإطلاقه على عدم الاعتناء بالشكّ في غسل الجنابة و لو حدث في الأثناء؛ فإنَّ الظاهر من الفقرة الاولى أنَّ الشكّ إذا حدث في أثناء الصلاة و كانت به بلّة مسح بها عليه، و هذا حكم استحبابيّ، و من الفقرة الثانية و هي قوله:

(فإن دخله الشكّ و قد دخل في حال اخرى فليمض في صلاته)

أنَّ الشكّ إذا حدث قبل الصلاة بعد انتقاله إلى حال اخرى فليمض في صلاته؛ أي المُصلّي إذا كان دخله الشكّ في غسل ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة بعد الانتقال إلى حال اخرى فليمض في صلاته.

و لا إشكال في أنَّ المُشتغل بغسل الجانب الأيسر- إذا دخله الشكّ- في غسل رأسه، أو ذراعه اليمنى، أو بعض جسده- يصدق أنَّه دخله الشكّ و قد دخل في حال اخرى

و لا وجه لحمل الحال الاخرى على حال غير غسل الجنابة؛ فإنَّه تقييد بلا وجه، و قد عرفت أنَّ مُقتضى مُقابلة الفقرة الثانية للُاولى أنَّ المفروض فيها حدوث الشكّ قبل الصلاة.

و بالجملة: أنَّ إلحاق الغُسل بل التيمّم بالوضوء ضعيف.


1- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 109، مصباح الفقيه 1: 207 سطر 23، فوائد الاصول 4: 626، و انظر حاشية الآخوند على الرسائل: 238 سطر 10.
2- تقدّم في صفحة 319.

ص: 326

الأمر الرابع أنَّ المُراد من المحلّ هو المحلّ الشرعيّ

قد عرفت أنَّ الأخبار كلّها مُنزّلة على قاعدة التجاوز، فحينئذٍ يكون المُراد من المُضيّ هو مُضيّ محلّ المشكوك فيه، و إنّما نسب المُضيّ إلى الشي ء بنحوٍ من التوسعة و التنزيل، كما في مُطلق المجازات، لا بتقدير لفظ المحلّ، فإنَّ التحقيق أنَّ المجاز مُطلقاً حتّى مثل قوله: (وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ)(1) من قبيل الحقيقة الادّعائيّة(2).

و كيف كان: يكون المُراد من المضيّ مُضيّ محلّه، و الظاهر من المحلّ هو المحلّ المُقرّر الشرعيّ و لو انفاذاً، لا تقيّد المحلّ الشرعيّ (3) حتّى يقال: إنَّه تقييد بلا مُقيّد(4)، بل لأنَّ الشارع المُقنِّن إذا قرَّر للأشياء محلّا، فجعل محلّ القراءة بعد التكبير، و محلّ الركوع بعد القراءة و هكذا، ثمّ جعل قانوناً آخر بأنَّ كلّ ما مضى محلّه فأمضه، لا يفهم العُرف و العُقلاء منه إلّا ما هو المحلّ المُقرّر الجعليّ، لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع؛ فإنَّ العادة إنّما تحصل بالعمل، و هي لا توجب أن يصير المحلّ العاديّ محلّا للشي ء، بل المحلّ بقول مُطلق هو ما يكون محلّا مُقرّراً قانونيّاً، لا ما صار عادة حتّى يختلف باختلاف الأزمنة و الأحوال.

و بالجملة: إسراء الحكم إلى المحلّ العاديّ- بدعوى إطلاق الأدلّة- في غاية الإشكال، بل لا يمكن التزامه.

نعم يمكن أن يقال: إنَّه يُستفاد اعتبار المحلّ العاديّ من صحيحة زُرارة المُتقدّمة الواردة في باب الوضوء و الغُسل؛ بدعوى أنَّ الموضوع لعدم الاعتناء بالشكّ ليس عنوان


1- سورة يوسف 12: 82.
2- انظر مناهج الوصول 1: 104- 107.
3- فوائد الاصول 4: 627، نهاية الأفكار 4: 54- القسم الثاني.
4- بحر الفوائد: 194 سطر 21- مبحث الاستصحاب، درر الفوائد: 594.

ص: 327

القيام من الوضوء أو الفراغ منه، بل هو عدم الكون في حال الوضوء، لا بالمعنى العدميّ، بل بمعنى المُضيّ عنه، فإنَّ الظاهر أنَّ قوله:

(فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت في حال اخرى

بيان مفهوم الصدر؛ أي قوله:

(ما دمت في حال الوضوء)

و دعوى أنَّ الحال الاخرى كالصلاة و غيرها المُحقّقة لعنوان التجاوز أعمّ من الأمر المُرتّب شرعاً على الوضوء و غيره؛ لإطلاق قوله:

(و غيرها).

و دعوى أنَّ قوله:

(ممّا أوجب اللَّه عليك وضوءه)

أعمّ من الغسل و المسح، كما في الحديث:

(أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوءه على جلد غيره)

(1) فإنَّه باعتبار المسح على الخفّين.

أو بدعوى إلقاء الخصوصيّة، فإذا شكّ في مسح الرجل اليسرى و قد دخل في حال اخرى عاديّة كالتمندل أو غيره فلا يعتني بشكّه بحسب المفهوم منها، و لو مع عدم مضيّ زمان يخلّ بالموالاة العرفيّة.

و كذا يمكن أن يقال: إنَّ قوله في ذيلها:

(فإن دخله الشكّ و قد دخل في حال اخرى

يدلّ بإطلاقه على أنَّ من شكّ في غسل ذراعه أو بعض جسده من الطرف الأيسر و قد دخل في حال اخرى أيّة حال كانت- لا يعتني بشكّه، مع أنَّ الموالاة غير مُعتبرة في الغسل، و لا في أجزاء أجزائه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير دعوى الأعمّية من المحلّ الشرعيّ.

و لكن مع ذلك لا يخلو عن الإشكال؛ لأنَّ قوله:

(ما دمت في حال الوضوء)

ظاهر في كونه في حال الوضوء واقعاً لا اعتقاداً، كما هو قضيّة كلّ عنوان اخذ في موضوع حكم، و إذا لم يمسح الرجل اليسرى و بقيت الموالاة المُعتبرة تكون حال الوضوء باقية.

و مقابل هذا العنوان هو الانتقال إلى حال اخرى أي ما إذا لم تكن الموالاة المُعتبرة


1- الفقيه 1: 30/ 96، الوسائل 1: 324/ 14- باب 38 من أبواب الوضوء.

ص: 328

باقية، فإذا شكّ في مسح الرجل اليسرى، و أحرز عدم بقاء الموالاة المُعتبرة صدق أنَّه شكّ و لم يكن في حال الوضوء و صار في حال اخرى

و أمّا مع بقائها أو الشكّ في بقائها فلا بدّ من الرجوع و مسح الرجل، أمّا مع بقاء الموالاة؛ فلصدق كونه في حال الوضوء، و أمّا مع الشكّ فلإحرازه بالأصل، مُضافاً إلى قاعدة الشغل، و هي و إن تقتضي الإعادة لكنّ مُقتضى الأدلّة عدمها.

و منه يظهر الجواب عن ذيل الصحيحة؛ فإنَّ الحالة الاخرى إن كانت من الحالات المُترتّبة على الغسل فلا إشكال فيه، و أمّا مع عدم الترتّب فلا يصدق أنَّه في حال اخرى لعدم الانتقال عن الجزء المشكوك فيه؛ لأنَّ الموالاة غير مُعتبرة في أجزاء الغسل، و لا في أجزاء أجزائه، فحال الغسل باقية مع عدم غسل الجزء أو جزء الجزء، و مع الشكّ فيه يكون الانتقال إلى حال اخرى مشكوكاً فيه.

و ليس لأحدٍ أن يقول: إنَّه مع الشكّ في الجزء الأخير- إذا لم يكن من الأجزاء المُعظمة، كمسح الرجل أو بعضها، و كغسل البعض اليسير من الطرف الأيسر- يصدق أنَّه فرغ من العمل، و قام عن الوضوء، و دخل في حال اخرى و لم يكن في حال الوضوء و لو مع بقاء الموالاة العرفيّة، فمَن اشتغل بالتمندل و شكّ في مسح رجله اليسرى صدقت عليه تلك العناوين، كمن خرج من الحمّام و شكّ في غسل بعض جسده من الطرف الأيسر؛ و ذلك لأنَّ صدق الفراغ مع الشكّ في مسح الرجل و كذا مع الشكّ في غسل الطرف الأيسر أو بعضه ممنوع؛ ضرورة أنَّه مع العلم بعدم المسح و الغسل لا يصدق الفراغ إلّا بالمسامحة، فكيف يصدق مع الشكّ فيهما؟! لامتناع أن يكون الشكّ مؤثّراً فيه.

هذا مضافاً: إلى أنَّ ما ذكر تقرير لقاعدة الفراغ التي لا أصل لها؛ لما عرفت (1) من أنَّ المجعول بحسب الأخبار هو قاعدة التجاوز، و أنَّ الوضوء أيضاً مشمول لقاعدة


1- تقدّم في صفحة 315 و 320.

ص: 329

التجاوز، لكنّها مُقيّدة بالنسبة إليه بتجاوز محلّ جميع الأجزاء، فلا عبرة بصدق عنوان الفراغ، بل المُعتبر صدق عنوان تجاوز محلّ أجزاء الوضوء.

و كونه في حال الوضوء- المقابل لعدم كونه في حال- عبارة اخرى عن بقاء المحلّ و عدمه، و هو بيان للقيد المُعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء خاصّة، فحينئذٍ لا مجال للدعوى المذكورة.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنَّه لا دليل على اعتبار المحلّ العاديّ، عادة شخصيّة كانت أو نوعيّة، فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس هل الدخول في الغير مُعتبر في القاعدة أم لا؟

هل الدخول في الغير مُعتبر في قاعدة التجاوز و لو لم يكن مُحقّقاً له أم لا(1)؟

و على فرض اعتباره هل المُعتبر هو الدخول في الركن (2) أو في الأفعال الواجبة(3) أو في الأفعال مُطلقاً، واجبة كانت أو مُستحبّة(4)، أو مطلق الغير المُترتّب على الجزء المشكوك فيه و لو كان من مُقدّمات الأفعال، كالنهوض إلى القيام و الهويّ إلى السجود(5)؟ وجوه بل أقوال:

أوجهها عدم الاعتبار مُطلقاً إلّا إذا كان مُحقّقاً للتجاوز، لكنّ اعتباره حينئذٍ ليس


1- درر الفوائد: 595.
2- انظر النهاية للشيخ الطوسي: 92- 93.
3- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة 1: 137 سطر 8، و انظر مستمسك العروة الوثقى 7: 439.
4- فوائد الاصول 4: 638.
5- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 110 سطر 21، العروة الوثقى 2: 14- المسألة العاشرة، نهاية الأفكار 4: 55 و 56- القسم الثاني.

ص: 330

لأجل دخالته في موضوع الحكم، بل لأجل ملازمته مع الموضوع، و إلّا فالموضوع هو نفس التجاوز.

و الدليل على عدم اعتباره يتّضح بعد مقدّمة: و هي أنَّ المستفاد من أخبار الباب أنَّ السرّ في جعل قاعدة التجاوز ليس هو مُجرّد التسهيل على العباد؛ لكثرة وقوع الشكّ بعد العمل، بل نكتة الجعل أنَّ الإنسان لمّا كان حين العمل أقرب إلى الحقّ، و أذكر في إتيان العمل على وجهه تعبّد الشارع بالبناء على إتيان العمل المشكوك فيه في محلّه، و أنَّ الفاعل لم يتجاوز عن المحلّ إلّا و قد أتى بما هي وظيفته.

و يدلّ عليه قوله في موثّقة بكير بن أعين:

(هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

(1) حيث يظهر منها أنَّ وجه عدم الاعتناء بالشكّ أنَّ الآتي بالعمل حين اشتغاله به أذكر منه بعده، و مع كونه ذاكراً أتى به على وجهه.

و قوله في رواية مُحمد بن مسلم المُتقدّمة:

(و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)

(2) و المُراد من حين الانصراف حين الاشتعال بالسلام؛ لكون الانصراف هو السلام في لسان الروايات، و يظهر منه أنَّ عدم الاعتناء بالشكّ بعد العمل إنّما هو لأجل أقربيّته إلى الحقّ حين العمل، فلا محالة أتى به على وجهه.

و قوله في

صحيحة حمّاد بن عثمان المنقولة في أبواب الركوع قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: أشكّ و أنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا؟

فقال: (قد ركعت، أمضه)

(3) تدلّ على أنَّ الآتي بالمأمور به قد أتى بوظيفته في محلّها، و يكون هذا نكتة التعبّد بعدم الاعتناء بالشكّ، إلى غير ذلك من الروايات.

و بالجملة: يُستفاد منها أنَّ قاعدة التجاوز ليست مجعولة لمحض التسهيل؛ بل


1- تقدّم تخريجه في صفحة 309.
2- تقدّمت في صفحة 310.
3- تقدّم في صفحة 331.

ص: 331

لكون المُكلف يأتي بالعمل على طبق وظيفته، و يكون حين العمل أذكر منه حين يشكّ.

فحينئذٍ نقول: يتّضح ممّا ذكر أنَّ الدخول في الغير غير دخيل في موضوع الحكم، و أنَّ تمام الموضوع للحكم بعدم الاعتناء بالشكّ هو أنَّ المُكلّف الذاكر يأتي بوظيفته حين اشتغاله بالعمل، فإذا تجاوز عن المحلّ يتحقّق موضوع القاعدة، دخل في الغير أولا، و لا يكون الدخول في الغير دخيلًا في الحكم حتّى فيما كان مُحقّقاً للتجاوز.

و بعد التنبيه بما ذكرنا تفهم القيديّة من قوله في صحيحتي زُرارة و إسماعيل بن جابر:

(دخلت)

أو

(دخل في غيره)

فيكون ذكر الدخول في الغير لتحقّق التجاوز نوعاً به، لا لدخالته في موضوع الحكم.

و يؤيّد ما ذكرنا: بل يدلّ عليه قوله في ذيل موثّقة ابن أبي يعفور في مقام إعطاء القاعدة:

(إنَّما الشكّ إذا كنت في شي ءٍ لم تجزه)

(1) مع ذكر الدخول في الغير في صدرها؛ فإنَّ الظاهر من ذيلها أنَّه بصدد إعطاء كبرى كلّية، و يكون الصدر مصداقاً لها، فحصر لزوم الاعتناء بالشكّ- فيما إذا كان مُتشاغلًا بالشي ء و لم يجزه- دليل على أنَّ الموضوع للحكم نفس الخروج عن المحلّ و التجاوز عنه، و لا دخالة لشي ءٍ آخر فيه.

و أمّا ما أفاده الشيخ الأعظم: من أنَّ الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل- بملاحظة كون صدرها في مقام التحديد و التوطئة للقاعدة المُقرّرة في ذيلها- أنَّ السجود و القيام حدّاً للغير الذي يعتبر الدخول فيه، و أنه لا غير أقرب من السجود و القيام بالنسبة إلى الركوع و السجود؛ إذ لو كان الهويّ و النهوض كافيين قبح في مقام التوطئة للقاعدة التحديد بالسجود و القيام، و لم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شكّ قبل الاستواء قائماً(2) انتهى.

ففيه: أنَّ دعوى كون الصدر في مقام التحديد، و أنه لا غير أقرب ممّا ذكر ممنوعة؛


1- تقدّم تخريجه في صفحة 309.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 411.

ص: 332

لعدم الدليل عليها، و يكفي في نكتة ترك ذكر الهويّ و النهوض، أنَّ الشكّ لا يعرض غالباً عندهما؛ لقربهما إلى المحلّ.

هذا مُضافاً: إلى مُنافاة ما ذكره لموثّقة عبد الرحمن المنقولة في أبواب الركوع:

محمّد بن الحسن، بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه (1)، قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدرِ أركع أم لم يركع؟

قال: (قد ركع)

(2).

فإنَّها تدلّ على أنَّ الدخول في السجود ليس دخيلًا في الحكم.

و أمّا جزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شكّ في السجود قبل الاستواء قائماً على فرض ثبوته فلعلّه لموثّقة عبد الرحمن الاخرى المنقولة في أبواب السجود بالسند المُتقدّم

عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه، قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً، فلم يدرِ أسجد أم لم يسجد؟

قال: (يسجد).

قلت: فرجل نهض من سجوده، فشكّ قبل أن يستوي قائماً، فلم يدرِ أسجد أم لم يسجد؟

قال: (يسجد)

(3).

فالقاعدة مُخصّصة بالنسبة إلى هذه الصورة، و لا إشكال فيه بعد قيام الدليل.


1- عبد الرحمن: بن أبي عبد اللَّه ميمون البصري مولى بني شيبان، و أصله كوفي عدَّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، روى عن حمران بن أعين، و محمَّد بن مسلم، و روى عنه الحسن بن محبوب، و حماد بن عيسى، و فضالة بن أيوب، و عبد اللَّه بن مسكان و آخرون. انظر معجم رجال الحديث 9: 296/ 6326، نقد الرجال: 183/ 6، رجال الطوسي: 230/ 127.
2- التهذيب 2: 151/ 596، الاستبصار 1: 358/ 1358، الوسائل 4: 937/ 6- باب 13 من أبواب الركوع.
3- التهذيب 2: 153/ 603، الاستبصار 1: 361/ 1371، الوسائل 4: 972/ 6- باب 15 من أبواب السجود.

ص: 333

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الدخول في الغير غير مُعتبر في القاعدة.

ثمَّ على فرض اعتباره فلا وجه معتدّ به للاختصاص بأمرٍ خاصّ كالركن مثلًا(1)؛ بدعوى أنَّ المُراد بالمحلّ هو محلّ تدارك الأجزاء المنسيّة، و هو كما ترى

و كالأجزاء الواجبة(2)؛ بدعوى الانصراف إليها، بعد عدّ الواجبات في صحيحة زُرارة، فإنَّه أيضاً ضعيف؛ ضرورة عدم صيرورة ذلك موجباً للانصراف.

و لا مطلق الأجزاء مُستحبة كانت أو غير مُستحبّة؛ لما أشار إليه الشيخ (3)، و قد عرفت ما فيه، أو لدعوى الانصراف أيضاً.

بل المُراد من الغير على فرض اعتباره مُطلق الغير الذي يكون مُرتّباً وجوداً على الفعل المشكوك فيه، حتّى مثل النهوض و الهُوِيّ، و الدليل عليه- مُضافاً إلى إطلاق الأدلّة- خصوص موثّقة عبد الرحمن المُتقدّمة(4)؛ فإنَّ الظاهر- بل المقطوع- أنَّ الحكم بعدم الاعتناء و المضيّ لكون المورد مندرجاً في الكبرى المعهودة، لا كونه لقاعدة اخرى مُستقلّة، و أمّا تقييد القاعدة فلا مانع منه، فإنَّه ليس بعزيز.

و يدلّ على المطلوب أيضاً إطلاق رواية عليّ بن جعفر المنقولة في أبواب الخلل:

عبد اللَّه بن جعفر في «قرب الإسناد» عن عبد اللَّه بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر(5)، عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن رجل ركع و سجد، و لم يدرِ هل كبّر أو قال شيئاً في ركوعه و سجوده، هل يعتدّ بتلك الركعة و السجدة؟


1- انظر تذكرة الفقهاء 1: 136.
2- العروة الوثقى 2: 15 حاشية 1 و 2.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 411.
4- تقدّم في صفحة 331.
5- علي بن جعفر العريضي: ابو الحسن، مَنَّ اللَّه عليه بصحبة أربعة من الأئمّة عليهم السلام، فقد صحب الأئمّة الأطهار الكاظم و الرضا و الجواد و الهادي صلوات اللَّه عليهم، و كان عظيم الطاعة و التسليم لهم عليهم السلام. روى عن محمّد بن مسلم، و عبد الملك بن قدامة، و الحكم بن بهلول، و روى عنه علي بن أسباط، و سليمان بن حفص، و العمركي البوفكي. انظر الكافي 1: 258/ 12، معجم رجال الحديث 11: 284/ 7959 و 288/ 7965.

ص: 334

قال: (إذا شكّ فليمض في صلاته)

(1).

فإنَّ الظاهر منها عدم الاعتناء بالشكّ في الذكر بعد الركوع و السجود، و أنَّ عدم الاعتناء إنَّما هو لأجل الشكّ، فإنَّ الظاهر من قوله:

(إذا شكّ فليمض)

أنَّ الإمضاء لقاعدة التجاوز، و إن كان العدول إلى السجود و الركوع غير جائز، على فرض العلم بعدم الإتيان بذكرهما.

لكن لا ينافي ذلك جريان القاعدة فيهما في موردهما، و أثره عدم وجوب سجدة السهو أو استحبابها على فرض ثبوتها لكلّ زيادة و نقيصة و لو استحباباً؛ لأنَّ مُقتضى استصحاب عدم الإتيان بذكرهما ثبوت سجدة السهو.

الأمر السادس هل المضيّ و عدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز على نحو الرخصة أو العزيمة؟

قيل ظاهر الأوامر يقتضي وجوب المُضيّ و عدم الالتفات، فيكون على وجه العزيمة(2).

و ردّ: بأنَّ الأوامر واردة مورد توهّم الحظر، فلا يفهم منها أزيد من الجواز(3).

و قد يقال: بعد تسليم أصل الدعوى بأنَّ كونه عزيمة لا يتوقف على كون الأمر بالمُضيّ للوجوب، بل يكفي في ذلك كونه مُتفرّعاً على حكم الشارع بأنَّ شكّه ليس بشي ءٍ؛ فإنَّ مُقتضى ذلك كون التلافي بقصد المشروعيّة تشريعاً و مُلحقاً بالزيادة العمديّة(4).


1- قرب الإسناد: 91، الوسائل 5: 337/ 9- باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- جواهر الكلام 12: 322.
3- انظر مصباح الفقيه 2: 558.
4- انظر نفس المصدر: السطر الأخير.

ص: 335

و فيه: أنَّ غاية ما يُستفاد من مثل قوله:

(شكّك ليس بشي ءٍ)

(1) أنَّه لا يعتنى به، فيأتي الكلام في أنَّ عدم الاعتناء هل هو على وجه العزيمة أو الرخصة؟ فلو سلّم أنَّه لا يُستفاد من الأوامر أزيد من الجواز لا وجه لدعوى أنَّ الإتيان بقصد المشروعيّة تشريع؛ لأنَّ مُقتضى عدم الاعتناء على وجه الرخصة أنَّ المُكلّف مُرخّص في ترك هذا الجزء من المُركّب، و مجاز في عدم الاعتناء بشكّه، كما أنَّه مُرخّص في إتيانه.

فحينئذٍ: لا تكون أدلّة التجاوز حاكمة على استصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه، فمقتضى الاستصحاب و أدلّة التجاوز أنَّه لو أتى به يكون جزءاً للمركّب، و لا بأس بتركه.

و لو قلنا: بمحكوميّة الاستصحاب- على فرض دلالة أدلّة التجاوز على كون عدم الاعتناء على وجه الرخصة- يجوز الإتيان بالجزء أيضاً بعنوان الجزئيّة، لا لقاعدة الاشتغال حتّى يقال: يدور الأمر بين المحذورين (2)؛ بل للاستفادة من الأدلّة الخاصَّة الواردة في الشكّ في المحلّ، فإنَّها بكثرتها تدلّ على أنَّ الإتيان بعنوان الجزئيّة لا مانع منه.

و التحقيق أن يقال: إنَّ المُستفاد من الأدلّة كما عرفت (3) أنَّ المُكلّف الذي هو أذكر حين العمل و أقرب إلى الحق قد أتى بما هو وظيفته لا محالة، كما يفصح عن ذلك قوله في صحيحة حمّاد:

(قد ركعت أمضه)

(4) و قوله في موثّقة عبد الرحمن:

(قد ركع)

(5) فيُستفاد من تلك الأدلّة التعبّد بوجود الجزء: إمّا لقيام الأمارة عليه، أو لكون الأصل محرِزاً له، فمع التعبّد بوجوده يكون الإتيان به زيادة عمديّة، لا من باب التشريع، بل كسائر الزيادات العمديّة.


1- تقدّمت كاملة في صفحة 307.
2- جواهر الكلام 12: 323.
3- تقدّم في صفحة 330 و 331.
4- تقدّم تخريجه في صفحة 330.
5- تقدّم تخريجه في صفحة 332.

ص: 336

و الفرق أنَّ الزيادة هناك وجدانيّة، و هاهنا من ضمّ الوجدان إلى الأصل أو الأمارة، و ليس الأصل مُثبتاً؛ لأنَّ مفاد الأصل ليس إلّا وجود الجزء، فإذا أتى المُكلّف بجزء آخر يندرج الموضوع في عنوان:

(من زاد في صلاته فعليه الإعادة)

(1) فلو شكّ في إتيان السورة- بعد الدخول في القنوت- فأتى بسورةٍ اخرى يكون من القِران؛ فإنَّه ليس إلّا إتيان سورة بعد إتيان سورة، و الفرض أنَّ الشارع قد حكم بإتيان سورة، فبإتيان الاخرى يندرج تحت قوله:

(لا قِران بين السورتين في ركعة)

(2).

نعم: لو كان القِران عنواناً بسيطاً انتزاعياً لا يثبت بالأصل، لكن لا بأس بالاحتياط في مثل الحمد و الأدعية و الأذكار؛ فإنَّه لا مانع منه حتَّى مع تحقّق الأمارة على تحقّق الجزء، و لا تصدق عليه الزيادة العمديّة إذا كان بقصد رجاء المطلوبيّة و الاحتياط، و إن لا يخلو هاهنا من شوب إشكال، فالأحوط المُضيّ و عدم الاعتناء مُطلقاً.

الأمر السابع أنَّ القاعدة من الأمارات أو الاصول؟

اشارة

هل المُستفاد من الأدلّة أنَّ اعتبار القاعدة من باب الطريقيّة؛ بمعنى أنَّ الشارع جعل الظنّ الحاصل نوعاً من غلبة عمل الفاعل المختار، المريد لفراغ ذمّته بما هو وظيفته في المحلّ أمارة على إتيانه، و ألغى احتمال خلافه، و على هذا تكون القاعدة أمارة تأسيسيّة؟

أو أنّها أمارة عُقلائيّة، و تكون الروايات بصدد إمضاء ما لدى العقلاء؟


1- الكافي 3: 355/ 5، التهذيب 2: 194/ 764، الاستبصار 1: 376/ 1429، الوسائل 5: 332/ 2- باب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- مستطرفات السرائر: 73/ 12، الوسائل 4: 742/ 12- باب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.

ص: 337

أو أنَّ المُستفاد منها أنَّ هاهنا قاعدتين إحداهما قاعدة التجاوز، و هي أمارة تأسيسيّة، و الاخرى قاعدة الفراغ، و هي أمارة إمضائيّة لما في يد العُقلاء؟

أو أنَّ قاعدة التجاوز أصل عمليّ تأسيسيّ، و قاعدة الفراغ أمارة عقلائيّة؟

و الروايات على طائفتين: إحداهما بصدد تأسيس أصل عمليّ هو قاعدة التجاوز، و الاخرى بصدد إمضاء ما لدى العُقلاء، و هو قاعدة الفراغ، و هي أمارة عُقلائيّة.

أو أنَّ قاعدة الفراغ أصل عُقلائيّ، و قاعدة التجاوز أصل شرعيّ تأسيسي؟

أو أنّهما أصلان تأسيسيّان شرعيّان؟

أو أنَّ المُستفاد منها: أنَّ هاهنا قاعدة واحدة، هي قاعدة التجاوز، و هي أصل عمليّ تأسيسي؟

و بناءً على أصليّتها هل هي أصل عمليّ محض بلا نظر إلى التعبّد بوجود المشكوك فيه، بل لسان التعبّد فيها هو المضيّ و عدم الاعتناء بالشكّ عملًا؟

أو أصل محرِز الإطلاق، فمفادها هو البناء على وجود المشكوك فيه مُطلقاً، كالاستصحاب بناءً على كونه أصلًا محرِزاً؟

أو أصل محرِز بنحو إضافيّ في موضوع خاصّ؛ أي بالنسبة إلى ما تجاوز محلّه، فيكون مفادها فيمن شكّ في الطهارة بعد الصلاة أنَّ الطهارة موجودة بالنسبة إلى الصلاة المأتيّ بها لا مطلقاً؟

هذا: و لقد مرّ منّا بعض الكلام في الامور السالفة ممّا هو راجع إلى المقام، و أثبتنا أنَّ المُستفاد من الأدلّة هو جعل قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز، و أنَّ قاعدة الفراغ لا أصل لها.

و الآن نقول: أمّا كون القاعدة أو القاعدتين أمارة عُقلائيّة أو أصلًا عُقلائيّاً، أو إحداهما أمارة عُقلائيّة، و الاخرى أصلًا عُقلائيّاً، فممّا لا وجه له؛ لعدم ثبوت بناء

ص: 338

العقلاء على ذلك مُطلقاً.

و ما يقال: من أنَّ قاعدة الفراغ قاعدة عُقلائيّة دون قاعدة التجاوز(1) ففي غاية السقوط؛ لأنَّ المناط لدى العقلاء ليس عنوان الفراغ قطعاً، بل لو كان مناط لديهم فليس إلّا الغلبة المُشار إليها في صدر المبحث، و هذه الغلبة مُحقّقة في التجاوز و الفراغ بعنوان التجاوز عن المحلّ، لا الفراغ عن جميع العمل.

فمن شكّ في الركعة الأخيرة في ركوع الركعة السابقة- لو بنى العُقلاء على إتيانه- أو كانت أمارة عُقلائيّة عليه، فإنَّما هو لأجل أنَّ الفاعل المُريد لفراغ ذمّته إنّما يأتي بما هو وظيفته في محلّه، فإذا تجاوز عن المحلّ و شكّ فيه يكون ما هو المناط مُحقّقاً، و ليس إتيان سائر الأجزاء دخيلًا فيه، و لا إتيان جميع المُركّب، و لا الفراغ منه.

و لو قيل: إنَّ المناط في عدم الاعتناء هو تحقّق الفصل الطويل بين محلّ المشكوك فيه، و محلّ حدوث الشكّ، و هو مُحقّق في قاعدة الفراغ دون التجاوز(2).

يقال له: مع كونه ممنوعاً، منقوض طرداً و عكساً.

و على أيّ حال: لم يثبت بناء العُقلاء على عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ أو التجاوز، و لم يثبت إلغاء الاحتمال، و ترتيب الأثر على هذه الغلبة عند العقلاء، فلا بدّ من عطف النظر إلى مفاد الأدلّة:

فنقول: إنَّها على طوائف:

منها: ما يكون مفادها هو مُجرّد الأمر بالمُضيّ، كموثّقة محمّد بن مُسلم (3)، و صحيحته المنقولة في الخلل (4)، و صحيحة إسماعيل بن جابر(5)،


1- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 108 و 109، مصباح الفقيه 1: 207 سطر 2.
2- انظر المصدر السابق.
3- التهذيب 2: 344/ 1426، الوسائل 5: 336/ 3- باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4- التهذيب 2: 352/ 1460، الوسائل 5: 342/ 3- باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5- التهذيب 2: 153/ 602، الاستبصار 1: 358/ 1359، الوسائل 4: 937/ 4- باب 13 من أبواب الركوع.

ص: 339

و مثلها غيرها(1).

و منها: ما يكون مفادها نفي الشكّ تعبّداً، و التعبّد بعدم الاعتناء به، كموثّقة ابن أبي يعفور(2).

و منها: ما جمع بينهما، كصحيحة زُرارة صدراً و ذيلًا(3)، و أمثال هذه الروايات ليس مفادها إلّا الأصل التعبّدي، و ليس معنى:

(شكّك ليس بشي ءٍ)

إلّا التعبّد بعدم الاعتناء به و المُضيّ، و لذا جمع بينهما في صحيحة زُرارة بنحو الكبرى و الصغرى حيث إنَّ الظاهر من ذيلها أنَّه بصدد بيان الكبرى الكلّية المُندرجة تحتها الأمثلة المذكورة في صدرها.

و منها: ما يتوهّم منه الأماريّة،

كموثّقة بكير بن أعين قال قلت له: الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ؟

قال: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

(4).

حيث علّل عدم الاعتناء بالشكّ بالأذكريّة حين العمل، و هي تناسب الطريقيّة.

و قريب منها رواية

محمّد بن مُسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام و فيها: (و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)

(5).

لكنّ استفادة الأماريّة منها مُشكلة؛ لأنَّ مفادها ليس إلّا تحقّق المشكوك فيه؛ لأنَّ قوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر)

قام مقام الجواب، و جعل كناية عن إتيان المشكوك فيه، فيكون مفادها التعبّد بتحقّقه، فتوافق مفاد صحيحة حمّاد:

(قد ركعت أمضه)

(6) و موثّقة


1- كمرسلة الصدوق في الهداية: 32، المتقدّمة في صفحة 312 من هذا الكتاب.
2- التهذيب 1: 101/ 262، مستطرفات السرائر: 25/ 3، الوسائل 1: 330/ 2- باب 42 من أبواب الوضوء.
3- التهذيب 2: 352/ 1459، الوسائل 5: 336/ 1- باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4- التهذيب 1: 101/ 265، الوسائل 1: 331/ 7- باب 42 من أبواب الوضوء.
5- الفقيه 1: 231/ 1027، مستطرفات السرائر: 110/ 67، الوسائل 5: 343/ 3- باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
6- التهذيب 2: 151/ 594، الاستبصار 1: 358/ 1356، الوسائل 4: 936/ 2- باب 13 من أبواب الركوع.

ص: 340

عبد الرحمن قال:

(قد ركع)

(1).

و بالجملة: لا يُستفاد من الموثّقة و كذا رواية مُحمّد بن مُسلم إلّا التعبّد بوجود المشكوك، لا أماريّة الظنّ؛ و جعل الغلبة طريقاً إلى الواقع و لعلّ مثل قوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر)

، أو

(كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ)

إشارة إلى نكتة التشريع، لا تأسيس الطريقيّة.

و بالجملة: لا يمكن الالتزام به بمثل هذه الإشعارات؛ بعد تظافر الروايات بخلافها.

و إن شئت قلت: إنَّ الظاهر منهما إلقاء احتمال الغفلة، و هو على فرض تسليمه غير إلقاء احتمال الخلاف؛ أي الاحتمال المُقابل للظنّ، و الثاني مُستلزم لجعل الطريقيّة دون الأوّل، تدبّر.

و قد يقال: إنَّ الظاهر من قوله بعد السؤال عن الشكّ في الركوع بعد ما سجد:

(بلى قد ركعت فأمضه)

هو الطريقيّة(2)، و له وجه لو لم يكن مسبوقاً بهذا السؤال، و أمّا معه فلا مجال لاستفادتها؛ لتوجّه الخطاب إلى الشاكّ، فكأنَّه قال: إذا شككت في الركوع بعد السجود فقد ركعت، و هو مُنافٍ للطريقيّة و إلقاء الشكّ، بل تعبّد بالوجود في ظرف الشكّ، و هو عين الأصليّة.

و أضعف منه دعوى استفادتها من قوله:

(ليس بشي ءٍ)

للفرق بين ترتيب الحكم على الشكّ، و الحكم بعدم الاعتناء(3).

و فيها: أنَّ لسان عدم الاعتناء بالشكّ غير لسان الأمارة، التي لم يفرض فيها الشكّ أصلًا؛ لأنَّ الحكم بعدم فرض تحقّقه، لكن لضعفه لا يعتنى به، كما أنَّ الشكّ في


1- التهذيب 2: 151/ 596، الاستبصار 1: 358/ 1358، الوسائل 4: 937/ 6- باب 13 من أبواب الركوع.
2- نهاية الدراية 3: 304.
3- نفس المصدر.

ص: 341

الاستصحاب مفروض التحقّق، لكن لا يعتنى به، و لا ينقض اليقين.

و لا يخفى: أنَّه لا تنافي بين التعبّد بالمُضيّ؛ و عدم الاعتناء بالشكّ- كما هو مفاد الأدلّة المُتقدّمة- و بين التعبّد بوجود المشكوك فيه، كما هو مفاد هذه الروايات، و لذا جمع بينهما في صحيحة حمّاد حيث قال:

(قد ركعت أمضه).

و توهّم الفرق بين باب إفعال المُضيّ و مُجرّده (1) بعيد في المقام، و إن يظهر من اللغة أنَّ الإمضاء بمعنى الإنفاذ، و المُضيّ بمعنى الذهاب (2).

و بالجملة: لا تنافي بين الأدلّة، و المُستفاد من جميعها أنَّ قاعدة التجاوز أصل شرعيّ تأسيسي تعبّدي، مفادها التعبّد بوجود المشكوك فيه.

و إن شئت قلت: إنَّه أصل محرِز تعبّدي.

بقي الكلام في أنَّه بعد كون القاعدة أصلًا محرزاً هل تكون أصلًا محرزاً مُطلقاً، كالاستصحاب بناءً على كونه أصلًا محرزاً، فيكون مفادها تحقّق المشكوك فيه مُطلقاً، أو أصلًا محرزاً في موضوع خاصّ، و بعبارة اخرى تكون أصلًا محرِزاً حيثيّاً؟

و الفرق بين كونها أصلًا تعبّدياً محضاً من غير نظر إلى التعبّد بالوجود، و بين كونها أصلًا مُحرزاً واضح؛ فإنَّه على المُحرزيّة يترتّب عليها أثر الوجود، فلو شكّ في حال القنوت في إتيان السورة يتحقّق القِران بإتيان سورة اخرى بناءً على عدم كون القِران أمراً بسيطاً انتزاعيّاً، و بناءً على المُحرزيّة دون غيرها.

و أمّا الفرق بين المُحرزيّة المُطلقة و غيرها: أنَّه بناءً على الأوّل يترتّب عليها آثار الوجود مُطلقاً، فلو شكّ بعد صلاة العصر في إتيان الظهر بنى على تحقّقه، و لا يجب إتيانه، و كذا لو شكّ في الوضوء بعد صلاة الظهر بنى على تحقّقه مُطلقاً، فيحكم بوجوده لسائر الامور المشروطة بالوضوء.


1- انظر شرح الشافية للرضي 1: 83.
2- انظر الصحاح 6: 2493 و 2494، لسان العرب 13: 130.

ص: 342

و أمّا بناءً على المُحرزيّة الحيثيّة فلا يترتّب على المشكوك فيه إلّا أثر التحقّق في الموضوع الخاصّ، و من الحيثيّة الخاصّة، فلا بدّ من ترتيب آثار وجود الظهر في المثال المُتقدّم من حيث اشتراط العصر بتقدّمه عليه، و ترتيب آثار وجود الوضوء من حيث اشتراط الصلاة التي شكّ بعدها فيه لا مُطلقاً، فيجب إتيان الظهر، و تحصيل الوضوء لسائر الامور المشروطة به.

أنَّ القاعدة أصل محرِز حيثيّ

إذا عرفت ذلك: فالذي يُستفاد من مجموع الأدلّة أنَّ قاعدة الفراغ أصل تعبّدي محرِز، لكن في موضوع خاصّ، و بالنسبة إلى الأمر المتجاوز عنه لا مُطلقاً، أمّا كونها أصلًا؛ فلقصور الأدلّة عن إثبات الأماريّة كما عرفت، و أمّا كونه محرِزاً؛ فلدلالة كثير منها على التعبّد بثبوت المشكوك فيه، و أمّا عدم كونه محرِزاً مُطلقاً؛ فلقصورها عن إثباته.

و لقد أجاد الشيخ الأعظم في المقام حيث قال: لا إشكال في أنَّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه، لكن بعنوانه الذي يتحقّق معه تجاوز المحلّ لا مُطلقاً(1)، انتهى.

فإذا علم حال القاعدة؛ و أنّها أصل محرِز حيثيّ تعبّدي يعلم حال الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ من المشروط، و قد اختلفت كلمات الأعلام فيه (2).

و التحقيق أن يقال: إنَّ الأدلّة شاملة بإطلاقها و عمومها للشروط بلا إشكال و لا ريب، لكن بالنسبة إلى المشروط الذي تجاوز عنه، لا مُطلقاً.

ثمّ لا إشكال في عدم الاعتناء بالشكّ في الشرط بعد الفراغ من المشروط، و إنّما


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 413.
2- كشف الغطاء: 278، رسائل الشيخ الأنصاري: 413، فوائد الاصول 4: 639، نهاية الأفكار 4: 63- 71- القسم الثاني.

ص: 343

الكلام في الشكّ الحادث بين العمل بالنسبة إلى الأجزاء الآتية.

و التحقيق: أنَّ كلّ شرط يكون له محلّ شرعيّ، و يكون محلّه الشرعيّ قبل العمل فلا يعتنى بالشكّ فيه بين العمل؛ لصدق التجاوز و المُضيّ، دون ما لا يكون كذلك، فمثل الوضوء إذا قلنا بأنَّ محلّه الشرعيّ قبل العمل إمّا لدلالة الآية الشريفة(1)، أو لدلالة بعض الأخبار كقوله:

(افتتاح الصلاة الوضوء)

(2) فعليه إذا عرض الشكّ فيه بعد الدخول في الصلاة يلغى الشكّ؛ لتجاوز محلّه بالنسبة إلى الصلاة التي اشتغل بها لا غيرها(3).

لكن في كون المحلّ الشرعيّ للوضوء ما ذكر إشكال و منع؛ لمنع دلالة الآية إلّا على الإرشاد لاشتراط الصلاة بالوضوء، و كذا الرواية.

و مثل الاستقبال و الستر و أمثالهما ممّا ليس لها محلّ شرعيّ، بل تكون شروطاً مُعتبرة فيها، و لكنّ العقل يحكم بلزوم إحرازها قبل الصلاة، و ليس للشارع حكم من هذه الجهة يكون الشكّ فيها غير مشمول لأدلّة التجاوز؛ لعدم تجاوز محلّها بالنسبة إلى الأجزاء الآتية.

تنبيه

قد أفرد الشيخ الأعظم قدس سره الشكّ في صحّة المأتيّ به عن الشكّ في الشرط قائلًا: إنَّ محلّ الكلام في الشكّ في الصحّة ما لا يرجع فيه الشكّ إلى الشكّ في ترك ما يعتبر في الصحّة، و مثّل له بالشكّ في الموالاة في حروف الكلمة أو كلمات الآية(4).


1- سورة المائدة 5: 6.
2- الكافي 3: 69/ 2، الفقيه 1: 23/ 68، الوسائل 1: 256 و 257/ 4- باب 1 من أبواب الوضوء.
3- انظر درر الفوائد: 603.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 7.

ص: 344

و الظاهر أنَّ الفرق بين الموضع الخامس و السادس اللذين جعلهما عنوانين ليس باختصاص الكلام في الأوّل بالشروط الشرعيّة، و في الثاني بالشروط العقليّة كما قيل؛ لمخالفته للتمثيل بالموالاة لكلمات الآية، فإنَّه بإطلاقه يشمل الموالاة العرفيّة المُعتبرة شرعاً، بل الموالاة الماحي تركها للصورة.

و الموالاة في كلمات الآية أيضاً لا يبعد أن تكون ممّا اعتبره الشارع؛ لأنَّ الأمر بالقراءة يدعو إلى إيجاد ما هو قراءة عُرفاً، و هي لا تتحقّق إلّا بإتيانها على النحو المُتعارف، و هذا ليس من الأمر العقليّ المحض، كإحراز الستر قبل الصلاة مُقدّمة لتحقّق أوّل الجزء مع الستر؛ فإنَّ هذه المُقدّمة لم يتعلّق بها غرض و أمر، بخلاف الأمر إلى القراءة و ذكر الركوع و السجود.

بل الفرق الذي يمكن أن يكون مُراده: أنَّ الشرائط على قسمين.

أحدهما: ما يكون لها نحو وجود مُستقلّ، كالطهارة و الستر و القبلة.

و ثانيهما: ما لا تكون كذلك، كالمُوالاة في حروف الكلمة و كلمات الآية؛ فإنَّها لا تكون موجودة إلّا بنفس الكلمة و الآية، و ليس لها وجود استقلاليّ، فلا يشملها قوله:

(كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى

و لا سائر العناوين المأخوذة في الأدلّة، بخلاف الشروط التي من قبيل الأوّل.

هذا ما وجّه به كلامه بعضُ المُحقّقين، و قد جعل من قبيل ما ذكره في المقام الشكّ في إطلاق الماء و إضافته (1).

و فيه: أنَّ ما اعتبره الشارع في الصلاة و يكون تحت تصرّفه و جعله هو كون الصلاة مُتقيّدة بالطهارة أو الستر أو القبلة، أو كون المُصلّي حال صلاته طاهراً مُتستّراً مُستقبل القبلة، و هذه الامور من الانتزاعيّات أيضاً، و يكون وجودها بعين منشأ انتزاعها


1- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 112، و انظر أوثق الوسائل: 555.

ص: 345

كالموالاة.

و مع تسليم ما ذكره من الفرق أنَّ دعوى عدم شمول الأدلّة لمثل الامور الانتزاعيّة ممنوعة جدّاً، مع كونها مُعتبرة في الصلاة، مأخوذة موضوعاً للحكم تكون مُتعلّقة للشكّ، فهل مثل الموالاة ليس بشي ء عرفاً أو عقلًا، أم أنَّ الشي ء أو «ما» الموصولة في الأدلّة جُعلا مرآة للأشياء خاصّة، مع أنَّه خلاف التحقيق و الواقع في باب الإطلاقات، أم أنّهما مُنصرفان عن مثل الموالاة، مع أنَّه لا منشأ له؟!

فلا إشكال في شمول الأدلّة و إطلاقها لمطلق الشرائط، و كذا الكلام في مثل الشكّ في إطلاق الماء و إضافته بعد الوضوء؛ لشمول مثل

قوله: الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ؟ قال: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

لكلّ شكّ يَعْرض المُكلّف بعد الوضوء.

الأمر الثامن أنحاء الشكوك العارضة للمُكلّف

اشارة

يتصوّر الشكّ بعد التجاوز على أنحاء كثيرة، نتعرّض لمهمّاتها، و يتّضح حال غيرها في ضمن ما ذكرنا:

الأوّل: الشكّ الطارئ بواسطة الغفلة عن صورة العمل، و هو تارة يكون مع العلم بالحكم و الموضوع؛ بحيث يكون الترك على فرضه مُستند للسهو و الغفلة، كمن شكّ في السجود أو الركوع أو غيرهما لاحتمال تركهما سهواً مع العلم بهما، و تارة يكون مع الجهل بالحكم أو الموضوع أو كليهما، و هذا على قسمين:

أحدهما: ما إذا اعتقد المُكلّف ضدّ الحكم أو الموضوع؛ بحيث لو فرض مُصادفة

ص: 346

المأتيّ به للواقع كان عن سهو و غفلة، كما لو اعتقد المُسافر وجوب الإتمام عليه، فصلّى و احتمل الإتيان قصراً سهواً أو نسياناً فصادف الواقع، أو اعتقد المسافة دون المسافة، و احتمل الإتيان قصراً سهواً أو نسياناً.

ثانيهما: ما لا يكون كذلك، كما لو اعتقد المُسافر كونه مُخيّراً بين القصر و الإتمام، فصلّى و احتمل الإتيان قصراً من باب الصدفة، أو كان بين يديه مائعان يعتقد كونهما ماءً مُطلقاً، و كان أحدهما المُعيّن مُضافاً، ثمّ بعد الوضوء شكّ في صحّته؛ لأجل الشكّ في وضوئه بالماء صدفة.

إذا عرفت ذلك: فهل الروايات كموثّقة ابن مسلم:

(كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو)

(1) و غيرها بإطلاقها شاملة لجميع الصور المُتقدّمة؟

أو مُنصرفة إلى القسم الأوّل فقط؛ أي ما يكون الترك مُستنداً إلى السهو أو الغفلة مع العلم بالحكم و الموضوع؟

أو مُنصرفة عن القسم الأوّل من قسمي الجهل بالحكم أو الموضوع؛ أي ما كان الإتيان بالواقع مُستنداً إلى السهو و النسيان.

ثمَّ على فرض إطلاق الأدلّة، هل يكون مثل قوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر)

(2) و قوله:

(كان حين انصرافه أقرب إلى الحقّ)

(3) مُقيّداً لها أو لا؟

أقول: دعوى الانصراف إلى القسم الأوّل ليست ببعيدة؛ و ذلك لأنَّ ارتكاز العُقلاء بأنَّ الفاعل المُريد لفراغ ذمّته إذا أراد إتيان شي ءٍ يأتي بما هو وظيفته في محلّه، و إن لم يصل إلى حدّ تطمئنّ النفس بأنَّ بناءهم على عدم الاعتناء بالشكّ، كما ذكرنا في بعض


1- تقدّم تخريجه في صفحة 306.
2- تقدّم في صفحة 309.
3- تقدّم في صفحة 310.

ص: 347

المباحث السالفة(1)، لكن يمكن أن يُدّعى أنَّ هذا الارتكاز صار موجباً لانصراف الأدلّة إلى ما يكون مرتكزاً لديهم.

و بعبارة اخرى أنَّ الأحكام الصادرة من الشارع قد تكون تعبّدية محضة؛ لا طريق للعُقلاء لفهم سرّها، ككثير من التعبّديات، و قد تكون إرشاداً إلى طريقة العُقلاء، كأدلّة أخبار الثقة أو اليد، و قد تكون معنى متوسّطاً بينهما؛ أي لا تكون تعبّدية محضة لا يعلم العُقلاء سرّها أصلًا، و لا تكون إرشاديّة إلى ما لديهم؛ لعدم الحكم الجزميّ بينهم، لكن تكون من التعبّديات التي يكون للعقل إليها سبيل، و يكون في ارتكاز العُقلاء ما يناسبها، و هذا الارتكاز و المُناسبات المعلومة عند العُقلاء قد توجب الانصراف إلى ما ارتكز بينهم.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا سمع العُقلاء قوله:

(كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو)

(2) يصير الأمر الارتكازيّ موجباً لانصرافه إلى ذلك، و يمنع عن فهم الإطلاق، فيكون كالقرينة الحافّة بالكلام أو ما يصلح للقرينيّة.

هذا مُضافاً: إلى أنَّ الناظر في الروايات يرى أنَّ السؤال و الجواب بين الرواة و الأئمّة عليهم السلام كانا ممحّضين في هذا القسم، و لا يكون الجهل بالحكم أو الموضوع في ذهنهم، فارجع إلى الروايات حتّى يتّضح صدق ما ذكرنا.

أضف إلى ذلك كلّه الشواهد الموجودة في الروايات كقوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

و قوله:

(و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ)

بل و قوله:

(قد ركعت أمضه)

. و بالجملة: مدّعي الانصراف غير مُجازف، و دعوى الإطلاق بالنسبة إلى جميع الصور في غاية الإشكال.


1- تقدّم في صفحة 338.
2- تقدّم في صفحة 306.

ص: 348

ثمّ على فرض إطلاق الأدلّة يشكل رفع اليد عنه لقوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر)

لعدم استفادة العلّية للمجعول، و لا الانحصار منه؛ لإمكان كونه علّة للتشريع فلا يجوز رفع اليد عنه لأجله، فتدبّر.

كلام بعض المُحقّقين و ما يرد عليه

ثمّ إنَّ بعض المُحقّقين ادّعى الإطلاق لجميع صور الشكّ، و قال في تقريبه: إنَّ العُمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المُكلّف على الصحيح هي السيرة القطعيّة، و إنَّه لو لا ذلك لاختلّ نظام المعاش و المعاد، و لم يقم للمُسلمين سوق، فضلًا عن لزوم العسر و الحرج المنفيّين في الشريعة؛ إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصادرة منه في الأعصار المُتقدّمة من عباداته و معاملاته إلّا و يشكّ في كثير منها؛ لأجل الجهل بأحكامها، و اقترانها بأُمور لو كان مُلتفتاً إليها لكان شاكّاً، فلو لم يحمل عملهم على الصحيح، و بني على الاعتناء بالشكّ الناشئ من الجهل بالحكم و نظائره لضاق عليهم العيش.

و هذا الدليل و إن كان لبّياً يشكل استفادة عموم المُدّعى منه، إلّا أنَّه يعلم منه عدم انحصار الحمل على الصحيح بظاهر الحال، فلا يجوز رفع اليد عن الأخبار المُطلقة بسبب التعليل المُستفاد من قوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)

لأنَّ جعله قرينة على التصرّف في سائر الأخبار فرع استفادة العلّية المُنحصرة منه، و المفروض عدم الانحصار.

هذا: مع أنَّ دلالته عليه في حدّ ذاته لا تخلو عن تأمّل، فلا ينبغي الاستشكال في جريان القاعدة في جميع موارد الشكّ (1) انتهى.


1- حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 112 سطر 22.

ص: 349

و قد اتضح ممّا ذكرنا النظر فيما أفاد، لكن لا بدّ من رفع شبهته و حسم مادّتها.

فنقول: إنَّ المُكلّف قد يعلم حاله حين العمل؛ أي يعلم في زمان الشكّ أنَّه كان عالماً بالحكم و الموضوع، و يكون شكّه مُتمحّضاً في أنَّه هل ترك الجزء نسياناً أو سهواً أم لا؟

أو يعلم أنَّه كان جاهلًا بهما على النحو الأوّل من النحوين المُتقدّمين في صدر المبحث؛ بحيث كان الإتيان بالمأمور به على وجهه من باب السهو و النسيان.

أو على النحو الثاني منهما؛ بحيث كان الإتيان به على وجهه من باب الصدفة.

و قد لا يعلم حاله أصلًا؛ بحيث يحتمل أن يكون تركه مُستنداً إلى السهو و النسيان، مع العلم بالموضوع و الحكم.

و يحتمل أن يكون الإتيان من باب السهو.

و يحتمل أن يكون من باب الصدفة، و يعلم حال الصور الاخرى من ذكر تلك الصور.

فإن بنينا على انصراف أدلّة التجاوز إلى الشكّ في أنَّه ترك سهواً و نسياناً، مع العلم بالموضوع و الحكم، كما هو الحقّ، فحينئذٍ لو علم المُكلّف حاله فإن كان شكّه من قبيل ذلك لا يعتني به، و إن كان من غيره يعتني به.

لكن علم المُكلّف بالنسبة إلى الأعمال السابقة في غاية الندرة- لو لم نقل أنَّه لا يوجد مُكلّف يعلم حاله تفصيلًا و بجميع خصوصيّتها- فنوع المُكلّفين لا يعلمون أنَّ تركهم على فرضه كان مُستنداً إلى السهو أو الجهل بأحد قسميه، فالشكّ في الأعمال السابقة كثير واقع من نوع المُكلّفين.

لكن تشخيص الحال السابقة، و أنه كان عالماً أو لا، و على الثاني كان جهله بالحكم أو الموضوع، و على أيّ نحوٍ من أنحاء الجهل في غاية الندرة، فيحتمل نوع

ص: 350

المُكلّفين أن يكون تركهم مُستنداً إلى السهو، حتّى يكون شكّهم مشمولًا لقاعدة التجاوز أو لا حتّى لا يكون مشمولًا لها، فلو حكمنا بلزوم إعادة الأعمال السابقة من العبادات و المُعاملات يلزم اختلال النظام معاشاً و معاداً، و لم يقم للمُسلمين سوق، كما قرّره المُحقّق المُتقدّم، لكنّ مُقتضى القواعد خلاف ذلك.

حال الشكّ في العبادات

توضيحه: أنَّ الأعمال السالفة إمّا أن تكون من قبيل العبادات، أو من قبيل المُعاملات، و العبادات إمّا موقّتات، كالصلاة و الصوم، أو لا.

لا إشكال في أنَّ غير المُوقّتات كالزكاة و الخمس و أمثالهما يكون الشكّ فيها نادراً جدّاً، فلا يلزم من الاعتناء بالشكّ فيها اختلال النظام، و لا العسر و الحرج، و لا غيرهما.

و إنّما الإشكال في المُوقّتات من قبيل الصلاة- و هي العمدة- الصوم، لكنّ الصوم أيضاً يكون الشكّ فيه نادراً، فالعُمدة هي الشكوك الصلاتيّة، و الشكّ فيها لا يوجب القضاء؛ لأنَّ القضاء يكون بأمرٍ جديدٍ، فلو شكَّ المُكلّف في صحّة صلاته السابقة، و لا يعلم حاله، و احتمل أن يكون الترك مُستنداً إلى السهو حتّى تشمله قاعدة التجاوز، أو لا حتّى لا تشمله، يكون التمسّك بكلّ من دليل القاعدة و الاستصحاب غير جائز؛ لأنَّه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و الأصل البراءة من القضاء.

هذا مُضافاً: إلى أنَّ الجهل بالحكم بالنسبة إلى الأركان نادر جدّاً أو غير مُتحقّق، و في غير الأركان و إن كان كثيراً، لكنّ المُكلّف لا يعلم حاله، و أنَّ تركه على فرضه يكون عن جهل أو نسيان كما عرفت.

ص: 351

فحينئذٍ: إن قلنا بشمول

(لا تعاد الصلاة ...)

(1) للترك عن جهل، كما لا يبعد(2)، فمع كون الترك محقّقاً لا تجب الإعادة، فضلًا عن صورة عدم معلوميّته، و إن قلنا بعدم شموله للترك عن جهل لما كان حال المُكلّف مجهولًا يحتمل أن يكون مشمولًا ل

(لا تعاد ..)

لاحتمال أن يكون تركه عن سهو، فمع العلم بالترك حينئذٍ أيضاً يشكّ في وجوب القضاء عليه، و الأصل البراءة منه.

مع إمكان أن يقال: إنَّ الاستصحاب لا يثبت الفوت (3)، فلا يجب القضاء.

هذا كلّه مع أنَّ الشاكّ في جميع أعماله السابقة أو كثير منها يكون من كثير الشكّ، و لا يجب عليه الاعتناء بشكّه، تأمّل، و لا يلزم منه عدم الاعتناء بالشكّ في الأعمال الحاضرة إذا لم يكن بالنسبة إليها كثير الشكّ.

هذا حال العبادات.

حل الشكّ في المعاملات

و أمّا في المُعاملات السابقة المشكوك فيها كالبيع و الإجارة و الصلح و أمثالها، فإمّا أن تكون الأعيان المُتعلّقة للمُعاملة موجودة، أو تالفة بتلف سماويّ، أو بإتلاف من المُتعاملين، و على أيّ حال لا يجري استصحاب عدم تحقّق العقد الجامع للشرائط بنحو الكون الناقص؛ لعدم الحالة السابقة، و لا بنحو الكون التامّ؛ لعدم ترتّب الأثر عليه إلّا بالأصل المُثبت، تأمّل.

و لو فرض جريانه يكون حاله حال أصالة عدم النقل، أو أصالة بقاء العين على


1- الفقيه 1: 225/ 991، الوسائل 4: 770/ 5- باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة.
2- انظر كتاب الخلل في الصلاة للإمام قدّس سرّه: 10 و 11.
3- فوائد الاصول 1: 240، كتاب الخلل في الصلاة للإمام قدّس سرّه: 247.

ص: 352

ملك صاحبها، حيث إنَّه مع جريانهما في حدّ ذاتهما غير جاريين فيما نحن فيه؛ لأنَّ المُتعاملين كما عرفت في العبادات غير عالمين حين الشكّ بحالهما حال العقد، و يحتمل كلّ منهما أن يكون تركه الشرائط المُقرّرة على فرضه عن سهو مع العلم بالحكم و الموضوع، حتّى يكون شكّه مجرى القاعدة، و لا يجري الاستصحاب أوّلًا، فالمورد من الشبهة المصداقيّة للدليلين.

فحينئذٍ: إن كانت العين المُتعلّقة للمعاملة موجودة، مُردّدة بين كونها لنفسه أو لصاحبه، لا يبعد جريان أصالة الحلّ، و ما قيل: من أنَّ الأصل في الأموال الاحتياط(1) لا دليل عليه يمكن التمسك به في مثل المورد، و إن كانت تالفة فالأصل العقليّ و الشرعيّ هو البراءة عن الضمان بعد عدم جريان

(من أتلف ..)

(2) و

(على اليد ..)

(3) لكون الشبهة مصداقيّة.

و أمّا باب النكاح و الطلاق فالذي يسهّل الخطب فيهما أنَّ مجراهما غالباً بحيث يشذّ تخلّفه هو التعبير بالوكالة، و أصالة الصحّة في فعل الغير جارية في مثلها، كما سيأتي إن شاء اللَّه (4).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ انحصار جريان القاعدة بما كان الترك مُستنداً إلى السهو أو النسيان لا يلزم منه اختلال النظام، و لا العسر و الحرج، كما ادّعى المُحقّق المُتقدّم، و أمّا دعواه أنَّ بناء العُقلاء على عدم الاعتناء بمثل هذا الشكّ مُطلقاً فممنوعة كما ذكرنا سابقاً(5).


1- انظر هداية الأبرار للكركي: 230، فوائد الاصول 3: 385.
2- و هي قاعدة متصيّدة من الروايات.
3- مسند أحمد بن حنبل 5: 8، سنن البيهقي 6: 90، 95، و 8: 276، سنن أبي داود 2: 318/ 3561، سنن ابن ماجة 2: 802/ 2400.
4- يأتي في صفحة 374- 378.
5- تقدّم في صفحة 388- 340.

ص: 353

و أمّا الشكّ الحاصل من احتمال الترك عمداً فقد ظهر حكمه ممّا مرّ: من أنَّ مساق الروايات هو اختصاص القاعدة بصورة الشكّ مع احتمال الترك السهويّ، لا العمدي، و قوله:

(هو حين يتوضّأ أذكر)

و إن كان ظاهره أنَّه لمّا كان أذكر يأتي به، لكنّه ليس في مقام التعبّد بوجود المشكوك فيه، و لو مع احتمال الترك العمديّ، و لا إطلاق فيه من هذه الجهة، بل عدم الترك عمداً مفروض بين السائل و المسئول عنه، فلا يُستفاد من الروايات إلّا الشكّ مع كون الترك، على فرضه مُستنداً إلى السهو و الخطأ و أمثالهما.

نعم: احتمال الترك التعمّديّ ممّا لا يعتني به العُقلاء، فإنَّ العاقل المُريد لإبراء الذّمة لا يترك ما يعتبر في المأمور به عمداً، مع العلم بأنَّ تركه موجب للبطلان، بل الترك عمداً منه- مع التوجّه لكلّ الخصوصيّات حكماً و موضوعاً- ممتنع عادة.

و هذا مُراد الشيخ الأنصاريّ من قوله: إنَّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر، و عمداً خلاف إرادة الإبراء(1)، فنفى الترك السهويّ بالقاعدة، و العمديّ بقاعدة عُقلائيّة، هي أنَّه خلاف إرادة الإبراء.

و أمّا الشكّ الطارئ من احتمال وجود الحائل فلا يعتني به العُقلاء مُطلقاً، لا حال العمل، و لا قبله، و لا بعده، و بعض صوره مشمول للقاعدة أيضاً.

و أما الشكّ في حائليّة الموجود فلا شبهة في اعتناء العُقلاء به، و أمّا شمول القاعدة له- فيما إذا كان احتمال الترك مُستنداً إلى الغفلة عن رفع الحائل و إيصال الماء إلى البشرة- فلا إشكال فيه، كما أنَّه لا إشكال في عدم الشمول فيما إذا احتمل وصول الماء قهراً مع العلم بالغفلة عن رفعه حين العمل، و هي الصورة الثانية التي لم يكن غافلًا عن صورة العمل، و يظهر حال صورة تردّده بين الأمرين ممّا ذكرنا في صورة الجهل (2)، و بالتأمّل فيما ذكرنا يظهر حال سائر صور الشكّ.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 13
2- تقدّم في صفحة 345- 347.

ص: 354

الأمر التاسع اختصاص القاعدة بالشكّ الحادث

الظاهر من أدلّة التجاوز أنَّ الشكّ الذي لا يعتنى به هو الشكّ الحادث بعد التجاوز، فلو كان باقياً من قبل لا يكون مشمولًا للأدلّة(1)، و يتفرّع عليه أنَّه لو شكّ قبل العمل في الطهارة مع كونه مسبوقاً بالحدث، فغفل و دخل في العمل، ثمّ تنبّه، فإن احتمل بعد العمل حصول الطهارة بعد الشكّ و الغفلة قبل العمل، فلا إشكال في جريان القاعدة؛ لأنَّه شكّ حادث بعد العمل، و إن لم يحتمل فلا تجري؛ لأنَّه شكّ موجود في النفس، حاصل قبل العمل، و إن كان مغفولًا عنه، و مُقتضى قاعدة الاشتغال إعادة الصلاة.

و لا يجري الاستصحاب في حال الغفلة عن الشكّ (2)؛ لأنَّ حُجيّة الاستصحاب مُتوقّفة على الشكّ الفعليّ الذي يكون مُلتفتاً إليه، ليكون الاستصحاب مُستنداً للفاعل في عمله، كما هو الشأن في كلّيّة الحُجج عقلًا، فلا يكون الاستصحاب حُجّة و جارياً في حال الغفلة عن الشكّ أو اليقين.

و لو شكّ في الطهارة مع كونه عالماً بسبقها فصلّى، فزال العلم، يأتي فيه الوجهان المُتقدّمان: من جريان القاعدة مع احتماله بعد العمل إيجاد الطهارة قبل العمل في حال الشكّ في الحدث، و عدمه مع عدمه.

و يمكن أن يفصّل في المقامين بين ما إذا صار الشكّ مُذهلًا رأساً؛ بحيث يقال في الشكّ الحاصل بعده: إنَّه شكّ حادث، فيقال بجريان القاعدة، و عدم جريان الاستصحاب، و بين ما إذا غفل عن شكّه مع كونه موجوداً في


1- انظر درر الفوائد: 604.
2- انظر فوائد الاصول 4: 649 و 650.

ص: 355

خزانة النفس، نظير عدم العلم بالعلم، فيقال بعدم جريان القاعدة، و جريان الاستصحاب.

و ممّا ذكرنا: يظهر النظر في كثير ممّا ذكره بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه (1).

الأمر العاشر وجه تقدّمها على الاستصحاب

بناءً على استفادة الأماريّة من أدلّة التجاوز، أو كون القاعدة أمارة عُقلائيّة يكون وجه تقدّمها على الاستصحاب هو الحكومة، و تنتج الورود على وجه.

و بناءً على استفادة الأصلية منها:

فإن قلنا: بأنَّ المُستفاد من أدلّة الاستصحاب هو جعل الحكم للشاكّ؛ و أنَّ الشكّ موضوع في الاستصحاب، و مفاد

(لا تنقض ..)

أنَّه إذا شككت رتّب آثار اليقين أو المُتيقّن، أو إذا شككت ابن على وجود المشكوك فيه، وجه تقدّمها أيضاً الحكومة، و تنتج الورود على وجه؛ لأنَّ الظاهر من قوله:

(إنَّما الشكّ إذا كنت في شي ءٍ لم تجزه)

أنَّه مع التجاوز لا يكون الشكّ محقّقاً، فيكون مفاده رفع موضوع الاستصحاب، و تعرّض دليل القاعدة لما لا يتعرّضه دليل الاستصحاب.

بل الظاهر من قوله في صحيحة حمّاد بن عثمان:

(قد ركعت أمضه)

هو إلغاء الشكّ و رفعه، بل لا يبعد أو يكون قوله في صحيحة زرارة:

(فشكّك ليس بشي ءٍ)

و في موثّقة ابن أبي يعفور:

(فليس شكّك بشي ءٍ)

حاكماً على أدلّة الاستصحاب، بناءً على أخذ


1- انظر فوائد الاصول 4: 649 و 650.

ص: 356

الشكّ في موضوعه، كما هو المفروض.

و إن قلنا: بأنَّ مفاد أدلّته هو إبقاء اليقين، و إطالة عمره في عالم التشريع- كما احتملناه و استظهرناه سالفاً(1)- فليس وجهه الحكومة، بل التخصيص؛ لأخصيّة دليلها من دليله.

و إن قلنا: بأنَّ مفاد أدلة الاستصحاب هو لحاظ الشكّ و اليقين، و أنَّ الشكّ لأجل كونه أمراً غير مُبرم لا ينقض اليقين الذي هو أمر مُبرم، كما هو ظاهر الأدلّة(2)، و ليس مفادها مُجرّد إطالة عمر اليقين، و إلغاء الشكّ رأساً.

فحينئذٍ: يكون التقدّم بالحكومة أيضاً؛ لأنَّ أحد الدليلين يكون مفاده أنَّ الشّك المُتحقّق لا ينقض اليقين، و مفاد الآخر أنَّ الشكّ غير مُتحقّق

(و إنّما الشكّ إذا كنت في شي ءٍ لم تجزه)

. و إن قلنا: بأنَّ الشكّ موضوع في القاعدة، و أنَّ قوله:

(فشكّك ليس بشي ءٍ)

ليس معناه عدم تحقّقه، بل كناية عن عدم لزوم الاعتناء به، أو عدم جوازه، و قوله:

(إنّما الشكّ إذا كنت ..)

إلى آخره بعد كون المفروض في صدره وقوع الشكّ ليس إلّا عدم لزوم الاعتناء به، و أنَّ قوله:

(قد ركعت)

بعد مسبوقيّته بالسؤال عن حال الشكّ لا يفيد إلّا البناء على الوجود في حال الشكّ، كان تقدّمها عليه بما ذكره الأعلام من حصول اللّغوية أو الاستهجان (3)، و لعلّ هذا الوجه أقوى الوجوه.

و كيف كان: لا إشكال في تقدّمها عليه، كما لا ثمرة مُهمّة في تحقيق وجهه.


1- تقدّم في صفحة 153.
2- انظر صفحة 32 و ما بعدها.
3- كفاية الاصول: 493، فوائد الاصول 4: 619، نهاية الأفكار 4: 37- القسم الثاني، درر الفوائد: 612.

ص: 357

المبحث الثالث في حال الاستصحاب مع أصالة الصحّة في فعل الغير

اشارة

و لا إشكال في تقدّمها عليه في الجملة، و لا بدّ من بسط الكلام فيها، ثمّ بيان النسبة بينهما، و وجه تقدّمها عليه في ضمن امور:

ص: 358

الأمر الأوّل في أصالة الصحّة و دليل اعتبارها

قد استدلّ على اعتبار القاعدة بأُمورٍ من الكتاب (1) و السنّة(2) و الإجماع (3) و العقل (4) ممّا يمكن الخدشة في جلّها لو لا كلّها، و الدليل عليها هو بناء العُقلاء و السيرة العُقلائيّة القطعيّة من غير اختصاصها بطائفة خاصّة كالمُسلمين، و لا اختصاص جريانها بفعل المُسلم، و ليس للمُسلمين في ذلك طريقة خاصّة تكشف عن كون أصالة الصحّة ثابتة من قبل شارع الإسلام.

بل الضرورة قائمة بأنّها كانت ثابتة قبل الإسلام من لدن صيرورة الإنسان مُتمدّناً مُجتمعاً على قوانين إلهيّة أو عُرفيّة، و صارت أنواع المُعاملات رائجة بينهم، و الإسلام بدأ في زمان كانت تلك القاعدة كقاعدة اليد و كالعمل بخبر الثقة معمولًا بها بين الناس، مُنتحليهم بالديانات و غيرهم، و المُسلمون كانوا يعملون بها كسائر طبقات الناس، من غير انتظار ورود شي ءٍ من الشرع.


1- جامع المقاصد 5: 162، رسائل الشيخ الأنصاري: 415.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 416، نهاية الأفكار 4: 78- القسم الثاني.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 414 و 416، و فوائد الاصول 4: 654، نهاية الأفكار 4: 78- القسم الثاني.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 416.

ص: 359

و الآن يحمل المُسلمون أعمال سائر الملل في نكاحهم و طلاقهم و عُقودهم و إيقاعاتهم على الصحّة، و هم يحملون أعمال المُسلمين عليها، من غير كون ذلك في ارتكازهم أمراً دينيّاً.

و من ذلك يعلم: أنَّ سيرة المُسلمين و الإجماع القوليّ و العمليّ ليس شي ء منها دليلًا برأسه، بل كلّها ترجع إلى هذا الأمر العُقلائيّ الثابت لدى جميع العُقلاء، و هذا واضح جدّاً.

و إن شئت الاستدلال عليها بدليل لفظيّ، فيمكن أن يستدلّ عليها بطوائف من الأخبار المُتفرّقة في أبواب الفقه:

منها: الروايات الواردة في باب تجهيز الموتى؛ حيث تدلّ على اكتفاء المُسلمين في الصدر الأوّل على فعل الغير في غسل الموتى و كفنهم و سائر التجهيزات، و كانوا يصلّون عليهم من غير تفتيش عن صحّة الغسل و الكفن (1)، مع وجوب الغسل و سائر التجهيزات على جميعهم، و لم يكن اكتفاؤهم بفعل الغير إلّا لأجل البناء على الصحّة، و دعوى حصول العلم بصحّة الغسل و سائر التجهيزات الصادرة عن غيرهم كما ترى

و منها: الروايات الواردة في باب الحثّ على الجماعة و الجمعة، و الأمر بالائتمام خلف من يوثق بدينه و أمانته (2)، و في هذا الباب روايات كثيرة دالّة على أنَّ أصالة الصحّة كانت أصلًا مُعتبراً عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام؛ إذ لا إشكال في أنَّ إحراز صحّة صلاة الإمام و لو بالأصل شرط في جواز الائتمام به، و لو لم تكن أصالة الصحّة معتبرة لم يكن إحرازها مُمكناً، مع أنَّ الإمام كثيراً ما يكون مستصحب الحدث لدى المأموم.

و منها: ما دلّت على البيع و الشراء لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و الأئمّة


1- انظر على سبيل المثال قرب الإسناد: 43 و 63، الوسائل: 2: 780/ 13- باب 6 من أبواب صلاة الجنازة.
2- الكافي 3: 374/ 5، الوسائل 5: 388/ 2- باب 10 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 360

عليهم السلام، كرواية عروة البارقيّ في الفضوليّ (1)، و هذه الطائفة كثيرة يطّلع عليها المُتتبّع (2).

و منها: ما دلّت على توكيل بعض الأئمّة عليهم السلام غيرهم للزواج و الطلاق، كتوكيل أمير المؤمنين عليه السلام العبّاس في أمر امّ كُلثوم (3)، توكيل أبي الحسن عليه السلام محمّد بن عيسى اليقطينيّ (4) في طلاق زوجته (5).

و منها: روايات التوكيل (6).

و منها: الروايات الدالّة على تصحيح نكاح الأب و الجدّ، بل مُطلق روايات جعل الولاية لهما(7).

و منها: روايات تصحيح التجارة بمال اليتيم (8).

و منها: ما دلّت على جعل القاضي و الحاكم و الإمام (9).


1- مسند أحمد بن حنبل 4: 376، سنن أبي داود 2: 276/ 3384، مستدرك الوسائل 2: 462/ 1- باب 18 من أبواب عقد البيع و شروطه. عروة البارقي: هو عروة بن الجعد و قيل ابن أبي الجعد البارقي، و بارق من الأزد، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله. انظر رجال الطوسي: 24/ 30، أسد الغابة 3: 403، الإصابة 2: 476/ 5518.
2- كحديث حكيم بن حزام في سنن أبي داود 2: 276/ 3386، بحار الأنوار 100: 136/ 4.
3- الكافي 5: 346/ 2، الوسائل 14: 217/ 3- باب 10 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد.
4- اليقطيني: هو محمَّد بن عيسى بن عبيد بن يقطين مولى بني أسد ابن خزيمة، أبو جعفر العبيدي اليقطيني الأسدي الخزيمي البغدادي اليونسي، جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصنيف. عدَّه الشيخ في أصحاب الرضا و الهادي و العسكري و في من لم يرو عنهم عليهم السلام. انظر رجال النجاشي: 333/ 896، رجال ابن داود: 275/ 474، تنقيح المقال 3: 167/ 11211.
5- التهذيب 8: 40/ 121، الاستبصار 3: 279/ 992، الوسائل 15: 334/ 6- باب 39 من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه.
6- انظر وسائل الشيعة 13: 285.
7- انظر الكافي 5: 394/ 9 و 395/ 2، الوسائل 14: 207/ 1- باب 6 و 217/ 1- باب 11 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد.
8- الكافي 5: 208/ 1 و 7: 67/ 2، الفقيه 4: 161/ 564، التهذيب 7: 68/ 294، الوسائل 12: 269/ 1- باب 15 من أبواب عقد البيع و شروطه.
9- الكافي 7: 412/ 4، الفقيه 3: 2/ 1، التهذيب 6: 219/ 516، الوسائل 18: 4/ 5- باب 1 من أبواب صفات القاضي.

ص: 361

إلى غير ذلك ممّا يعلم بها علماً ضروريّاً أنَّ مسألة الحمل على الصحّة كان معمولًا بها من عصر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام، و كان عملهم كسائر العُقلاء، و لم يكن للشارع تصرّف و دخالة فيها.

و الإنصاف: أنَّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إتعاب النفس فيه.

ثمّ إنَّ الظاهر أنَّ موضوع بناء العُقلاء ليس منحصراً بالعمل الصادر من الفاعل، كما يكون موضوع قاعدة الفراغ على القول بها(1)، بل هو أعمّ منه؛ فإنَّ بناءهم على مُعاملة الصحّة مع الفعل الذي سيصدر من الفاعل، أو يشتغل به إذا كان منشأً للأثر، فيأتمّون بالإمام مع الشكّ في صحّة عمله، و يوكّلون الغير في النكاح و البيع و سائر امورهم ممّا له صحّة و فساد مع الشكّ في صدوره منه صحيحاً، و بعض الأخبار المُتقدّمة أيضاً يدلّ على ذلك، فدائرة أصالة الصحّة في فعل الغير أوسع منها في فعل النفس.

الأمر الثاني هل أنَّ الصحّة في الواقعيّة أم لا؟

هل المحمول عليه فعل الفاعل هو الصحّة باعتقاد الفاعل، أو الصحّة الواقعيّة؟

و قبل تحقيق ذلك لا بدّ من بيان أمر، و هو أنَّه قد عرفت أنَّ مبنى أصالة الصحّة هو بناء العُقلاء، و مبنى ذلك البناء يمكن أن يكون أحد أمرين:

أحدهما: أنَّ ذلك من جهة إلقاء احتمال الخلاف؛ لأجل غلبة صدور الفعل الصحيح من الفاعل المُريد لإيجاد فعل لتوقّع ترتّب الأثر عليه، فإنَّ الفاعل الكذائيّ لا يخلّ بشي ءٍ ممّا هو مُعتبر في المأتيّ به عمداً، و الترك السهويّ خلاف الأصل العُقلائيّ.


1- و قد تقدّم البحث سابقاً في صفحة 315.

ص: 362

و بالجملة: إيجاد الفعل فاسداً عمداً أو سهواً أو غفلة نادر لا يعتني به العُقلاء، بل احتماله مغفول عنه نوعاً لدى العُقلاء، فالحمل على الصحّة لأجل الغلبة، و ندرة التخلّف في فعل الفاعل.

ثانيهما: أنَّ مبنى بناء العُقلاء في الحمل على الصحّة أنَّ سائسي الأقوام و النافذين فيهم- من السلاطين و الرؤساء في الأزمنة القديمة التي كانت أوان حدوث التمدّن و الاجتماع البشريّ و حدوث الاختلاط بين الطوائف، و تدوين القوانين بينهم- وضعوا القوانين المُفيدة السهلة؛ لرغد العيش و سهولة الأمر بينهم، و منها: إجراء أصالة الصحّة، فكانت في أوّل الأمر قانوناً مدنيّاً بينهم، حتّى صارت مرتكزة معمولًا بها، فصارت كالطبيعة الثانية لهم، و لعلّ كثيراً من المُرتكزات الآن كان كذلك في أوان تمدّن البشر، فأخَذ اللّاحق من السابق، و ورث الأبناء من الآباء، فصارت مرتكزة بينهم.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنَّه إذا كان مبنى أصالة الصحّة هو الأمر الأوّل يكون المحمول عليه هو الصحّة في اعتقاده، و إن كان الثاني يكون هو الصحّة الواقعيّة.

ثمّ على الأوّل لو فرض الحمل على الصحّة الواقعيّة لا بدّ و أن يدّعى أمر آخر: هو أنَّه عند الشكّ في اعتقاد الفاعل يحمل اعتقاده على كونه موافقاً لاعتقاد الحامل، بدعوى أنَّ الحامل لمّا رأى اعتقاده موافقاً للواقع يحمل رأي الفاعل على الصحّة، فيجري أصالة الصحّة في اعتقاده، كما يجري في عمله، فيحمل عمله على الصحّة الواقعيّة باعتبارهما.

أقول: لا إشكال في تعامل العُقلاء مع الفعل المشكوك فيه في الجملة عمل الصحّة الواقعيّة؛ ضرورة ترتيبهم آثار الواقع على المُعاملات و العبادات الصادرة من الناس، كما أنَّه لا إشكال في عدم جريان أصالة تطابق اعتقاد الفاعل لاعتقاد الحامل (1)؛ ضرورة أنَّه مع كثرة مُخالفة الاعتقادات و الاجتهادات في الأحكام لا يبقى


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 417 سطر 10.

ص: 363

مجال لذلك الأصل، و دعوى ارتكازيّة هذا الأصل كما ترى

فمن ذلك تصير دعوى كون مبنى أصالة الصحّة هو الغلبة المُتقدّمة مُشكلة؛ لأنَّ ما كانت دعوى الغلبة فيه صحيحة هو غلبة إتيان الفاعل العمل على طبق اعتقاده، لا على طبق الواقع و لو لم يكن موافقاً لاعتقاده (1).

فمن ذلك لا يبعد أن يقال: إنَّ مبنى أصالة الصحّة ليس الغلبة، بل هو الأمر الثاني.

اللّهم إلّا أن يدّعى أنَّ الاعتقادات و الآراء الاجتهاديّة و إن كانت مُختلفة، لكنّ الغالب في مقام العمل مُراعاة الاحتياط، و تطبيق العمل على الواقع، فجريان أصالة الصحّة من هذا الباب.

و لا يخلو هو أيضاً من إشكال، كما أنَّ كون مبنى أصالة الصحّة هو الأمر الثاني أيضاً في غاية الإشكال.

و الذي يسهّل الخطب أنَّ بناء العُقلاء على جريان أصالة الصحّة، و الحمل على الصحّة الواقعيّة معلوم في موردين:

أحدهما: فيما إذا علم مطابقة رأي العامل للحامل.

و ثانيهما: فيما إذا جهل حال العامل.

و غالب الموارد يكون من هذا القبيل، و غيره نادر.

و فيما إذا علم مخالفتهما: فقد يكون التخالف بينهما بالتباين، كما لو اعتقد أحدهما وجوب القصر في أربعة فراسخ و إن لم يرجع ليومه، و الآخر وجوب الإتمام، ففي هذه الصورة لا تجري أصالة الصحّة؛ لأنَّ جريانها مساوق لحمل فعله على السهو و الغفلة، و هو مُخالف للأصل.


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 416، فوائد الاصول 654، نهاية الأفكار 4: 79- القسم الثاني، نهاية الدراية 3: 312.

ص: 364

و قد يكون التخالف بغيره، كما لو اعتقد الفاعل التخيير بين الجهر و الإخفات في ظهر يوم الجمعة، و اعتقد الحامل تعيّن الإخفات فيه، و هذه الصورة، مورد الشكّ في بناء العُقلاء، فلا بدّ من العمل في هاتين الصورتين على سائر الاصول.

و لا يلزم من ترك العمل عليها فيهما محذور اختلال النظام و العسر و الحرج؛ لأنَّ غالب موارد الابتلاء بحيث يشذّ ما عداه هو صورة الجهل بحال الفاعل، و هو المُتيقّن من جريان الأصل فيه، و العمل فيه على الصحّة الواقعيّة.

الأمر الثالث حول أقسام الشكّ في العمل و أحكامها

الشكّ في العمل تارة يكون في تحقق ركن مقوّم منه، لولاه لم يصدق عليه عنوانه عُرفاً، كالشكّ في وقوع العقد بلا ثمن، أو الشكّ في ماليّة العوضين، أو في تميّز المُتعاملين؛ فإنَّ الإخلال بكلّ واحدٍ ممّا ذكر مُخلّ بتحقّق العقد عرفاً و لو على القول بالأعمّ (1).

و اخرى يكون في جهة اخرى بعد استكماله للأركان بالمعنى المُتقدّم.

فحينئذٍ: قد يكون الشكّ في شرائط المُتعاملين، كالشكّ في بلوغهما، أو كونهما مُختارين.

و قد يكون في شرائط العوضين، ككونهما خمراً أو خنزيراً أو مجهولًا.

و قد يكون في شرائط نفس العقد، كالشكّ في تقدّم الإيجاب، و عربيّة العقد.

و قد يكون في تحقق شرط مُفسد بناءً على مفسديّة الشرط الفاسد، هذه جملة


1- انظر هداية المسترشدين: 100 سطر 9.

ص: 365

الشكوك الحاصلة في العمل.

لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الأصل في الصورة الاولى؛ لأنَّ الشكّ يرجع إلى تحقّق العقد، و في مثله لا تجري أصالة الصحّة.

و إن شئت قلت: إنَّ أصالة الصحّة لا تجري عند العُقلاء إلّا بعد إحراز عنوان العمل، و مع الشكّ فيه لا مجرى لها.

و بعبارة اخرى الصحّة و اللّاصحّة في الرتبة المُتأخّرة عن وجود العمل، و مع الشكّ في تحقّقه لا معنى لإجراء أصالة الصحّة، سواءً كانت الصحّة بمعنى التماميّة، أو معنى انتزاعيّاً.

و أمّا الصور الاخر ما عدا الصورة الأخيرة التي يأتي الكلام فيها فالظاهر جريانها فيها، من غير فرق بين الشكّ في قابليّة العوضين للنقل و الانتقال شرعاً، أو قابليّة المُتعاملين لإجراء العمل كذلك، أو غيرهما؛ لاستقرار بناء العُقلاء على ذلك.

بل لا معنى لاستقرار طريقة العُقلاء بما أنّهم عُقلاء على موضوع مع القيود الشرعيّة، و قد عرفت (1) أنَّ أصالة الصحّة من الاصول العُقلائيّة السابقة على شريعة الإسلام، فجريانها فيها ممّا لا مانع منها.

و أمّا ما ادّعاه بعض أعاظم العصر رحمه اللَّه- بعد دعواه إجماعاً بنحو الكبرى الكلّية على أصالة الصحّة في مُطلق العمل، و إجماعاً آخر على خصوص العُقود- أنَّه لا دليل على أصالة الصحّة في العقود سوى الإجماع، و ليس لمعقده إطلاق يعمّ جميع الصور، و القدر المُتيقّن منه ما إذا كان الشكّ في تأثير العقد للنقل و الانتقال، بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المُعاملة من حيث نفسه، و من حيث المال المعقود عليه.

و بعبارة أوضح: أهليّة العاقد لإيجاد المُعاملة و قابليّة المعقود عليه للنقل و الانتقال


1- تقدّم في صفحة 358.

ص: 366

إنّما تكون مأخوذة في عقد وضع أصالة الصحّة، فلا تجري إلّا بعد إحرازهما(1) انتهى.

ففيه أوّلًا: أنَّ الدليل عليها هو بناء العُقلاء، مع عدم ورود ردع من الشارع، لا الإجماع.

و ثانياً: بعد فرض الإجماع عليها في مُطلق العمل بنحو الكبرى الكلّية اللّازم منه الأخذ بعموم معقده في جميع الموارد المشكوك فيها لا معنى لإجماع مُستقلّ آخر على خصوص البيع؛ بحيث يكون في مقابل الإجماع المُتقدّم، و على فرضه لا يضرّ عدم إطلاق معقده بعموم معقد الإجماع الأوّل، فيجب الأخذ به في جميع صور الشكّ في العقود.

و الإنصاف: أنَّ دعوى الإجماع أوّلًا بنحو الكبرى الكلّية، و ثانياً في خصوص العقود بنحو الإجمال، ثمّ دعوى كون أهليّة العاقد و قابليّه المعقود عليه للنقل اخذا في عقد وضع أصالة الصحّة، كلّها في غير محلّها.

و التحقيق: ما عرفت من جريانها في جميع الصور المُشار إليها.

ثمّ إنَّه يظهر من المُحقّق الثاني أنَّ أصالة الصحّة في العقود شي ء، و الظاهر- أي ظهور حال المُسلم أو الفاعل في إيجاد العقد صحيحاً- شي ء آخر مُستقلّ في قبال أصل الصحّة، حيث قال في جواب «إن قلت»: قلنا إنَّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها إلى أن قال: و كذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور، لا مُطلقاً(2) انتهى.

و كذا يظهر من الشيخ الأعظم ارتضاؤه بذلك، حيث أجاب عن أصالة الصحّة مُستقلًاّ(3)، و عن الظاهر المُدّعى مُستقلًاّ، من غير تعرّض لعدم كونهما عنوانين مُستقلّين.


1- فوائد الاصول 4: 654 و 657 و 658.
2- جامع المقاصد 5: 315.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 418 سطر 12.

ص: 367

و التحقيق: أنَّه ليست أصالة الصحّة أصلًا مُستقلًاّ عُقلائيّاً أو شرعيّاً، و ظهور حال المُسلم أو الفاعل أمراً مُستقلًاّ(1) يدلّ على اعتباره دليل عُقلائيّ أو شرعيّ، بل الذي يكون مورد بناء العُقلاء هو المعاملة بالصحة مع الفعل المشكوك فيه، و أمّا ظهور حال الفاعل فيحتمل أن يكون مبنى هذا العمل، كما أنَّه يمكن أن يكون مبناه ما أشرنا إليه في الأمر المُتقدّم، فكونهما أمرين مُستقلّين ممّا لا وجه له، و لا دليل عليه.

هذا كلّه حال ما عدا الصورة الأخيرة المُتقدمة، و أمّا هي؛ أي ما يكون الشكّ من ناحية جعل الشرط المفسد فيها أنَّه قد يكون الاختلاف بين المُتعاملين في جعل الشرط المفسد و عدمه، فيدّعي أحدهما اشتراط أمرٍ مجهول، و ينكر الآخر أصل الاشتراط، و قد يكون في جعله و جعل غيره، بعد اتّفاقهما على أصل الاشتراط، فيدّعي أحدهما اشتراط خياطة ثوب، و الآخر اشتراط خياطة ثوب معلوم.

ثمَّ إنَّه قد يرجع اختلافهما إلى الأقلّ و الأكثر، و قد يرجع إلى المتباينين:

فعلى الأوّل قد يقال: إنَّه يكون القول قولَ منكر أصل الاشتراط؛ لأصالة عدم الاشتراط(2)، و الشكّ في صحّة العقد و فساده مُسبّب عن الشكّ في جعل الشرط المفسد، لكنّ ذلك لو لم نقل بأنَّ أصالة الصحّة أمارة عقلائيّة، و إلّا فلو جرت في المُسبّب ترفع موضوع السبب.

و منه يظهر الحال في الاشتراط الراجع إلى الأقلّ و الأكثر.

و أمّا مع التباين: كما إذا ادّعى أحدهما اشتراط خياطة الثوب المعلوم، و الآخر اشتراط شرب الخمر، و قلنا بمفسديّة الشرط الفاسد مُطلقاً(3) فالمرجع- بعد تساقط


1- نفس المصدر: 418 سطر 15.
2- نفس المصدر.
3- انظر كتاب البيع للإمام قدّس سرّه 243- 250.

ص: 368

الأصلين أو مُطلقاً- أصالة الصحّة.

لا يقال: إنَّ أصالة عدم جعل الشرط من قبيل الأعدام الأزليّة، كأصالة عدم القرشيّة(1).

لأنّا نقول: إنشاء الشرط إنّما يوجد تدريجاً بعد تحقّق الإيجاب؛ لكونه في ضمنه، فقول البائع: «بعتك هذا بهذا، و شرطت عليك كذا» لمّا وجد تدريجاً يمكن أن يقال إنَّ الإيجاب معلوم و إنشاء الشرط في ضمنه مشكوك فيه، فيدفع بالأصل، كاستصحاب عدم عروض المُفسد للصلاة، لكن في الاستصحاب في المقام- و لا سيما أصالة عدم الشرط في ضمن الإيجاب- شبهة المُثبتيّة، و ليس المقام مُناسباً للتفصيل، و الغرض في المقام جريان أصالة الصحّة مُطلقاً، لا جريان أصل آخر.

ثمَّ إنَّه يظهر من عبارة المُحقّق الثاني المنقولة من كتاب الإجارة أنَّ مورد أصالة الصحّة إنّما يكون فيما شكّ في الشرط المُفسد بعد إحراز سائر شرائط العقد، و أمّا إذا شكّ في شي ءٍ ممّا هو مُعتبر في العقد أو المُتعاقدين أو العوضين فلا مجال لأصالة الصحّة؛ لأنَّ الأصل عدم السبب الناقل (2)، و هو كما ترى

و لعلّ ذلك مُراده من استكمال الأركان، لا الذي ذكرنا سابقاً، ثمَّ إنَّ تمسّكه بأصالة عدم المُفسد في عَرْض أصالة الصحّة خلاف الصناعة، كما أنَّ إنكار الشيخ الأعظم جريان أصالة الصحّة مُطلقاً(3) محلّ منع.


1- انظر منية الطالب 2: 106 سطر 1.
2- جامع المقاصد 7: 307 و 308.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 419 سطر 15.

ص: 369

الأمر الرابع اختصاص القاعدة بما إذا شكّ في تحقّق الشي ء صحيحاً

لا إشكال في أنَّ مورد جريان أصالة الصحّة إنّما هو فيما إذا شكّ في أنَّ العمل الكذائيّ هل وجد صحيحاً أم فاسداً، و أمّا إذا شكّ في ترتّب الأثر على فعل- من جهة اخرى سوى الفساد- فلا تجري أصالة الصحّة لرفع هذا الشكّ.

كما أنَّه لو شككنا في عروض البطلان على عمل بعد حدوثه صحيحاً لا تنفع أصالة الصحّة في بقاء صحّته و عدم عروض البطلان عليه، فإذا شككنا في عقد مُحقّق أنَّه وجد صحيحاً أو فاسداً تجري أصالة الصحّة فيه، سواءً شكّ في شرائط العقد، أو المُتعاملين، أو العوضين، كما عرفت.

و أمّا إذا علم تحقّق الإيجاب صحيحاً، و شكّ في تعقّبه بالقبول، أو علم بوجود عقدٍ فضوليّ، و شكّ في تعقّبه بالإجازة، فلا معنى لجريان أصالة الصحّة؛ لأنَّ الشكّ لا يكون في فساد العقد أو فساد الإيجاب، بل في تحقّق الجزء المُتمّم له، و ليس القبول من شرائط صحّة الإيجاب، حتّى يكون الشكّ في صحّته، بل الشكّ إنّما هو في أصل وجود العقد، و قد عرفت أنَّ مجرى أصالة الصحّة إنّما هو العقد بعد تحقّقه.

و كذا الحال في الشكّ في تعقّب العقد الفضوليّ بالإجازة؛ لأنَّ تعقّبه بها ليس من شرائط صحّته حتّى يكون مورد جريانها، فالعقد بلا إجازة صحيح؛ بمعنى أنَّه إذا تعقّبته إجازة تترتّب عليه الآثار، فصحّته بهذا المعنى معلومة، فالإجازة ليست من شرائط صحّته، بل من مُتمّمات أسباب النقل، و كذا التقابض في بيع الصرف و السلم

ص: 370

ليس من شرائط صحّة العقد، بل من مُتمّمات أسباب النقل.

نعم: لو تفرّق المُتعاملان قبله يعرضه البطلان، و قد عرفت أنَّ أصالة الصحّة لا تتكفّل عدم عروض البطلان على العمل، فلو صلّى صحيحاً و شككنا في تعقّب صلاته بالرياء- بناءً على إبطال الرياء المُتأخّر- لا تجري أصالة الصحّة لإحراز عدم الرياء، أو لصحّة الصلاة، بل لا بدّ من التشبّث بسائر القواعد و الاصول.

فأصالة الصحّة لا تجري في الشكّ في عروض المُبطل بعد وجود العمل صحيحاً، نعم تجري في الشكّ في عروض المُبطل في الأثناء.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ جريان أصالة الصحّة في كلّ شي ءٍ بحسبه، كما أنَّ صحّة كلّ شي ءٍ بحسبه، فإذا شكّ في صحّة الإيجاب من حيث كونه عربيّاً أو كونه بصيغة الماضي مثلًا جرت أصالة الصحّة فيه؛ بمعنى أنَّه يترتّب الأثر عليه إذا تعقّبه القبول الصحيح و لو بالأصل، و كذا بالنسبة إلى القبول، و أمّا إذا شكّ في تعقّبه بالقبول، أو شكّ في تحقّق الإيجاب مع إحراز القبول فلا.

و كذا الحال فيما إذا شكّ في صحّة العقد من جهة الشكّ في بلوغ أحد الطرفين، و قلنا بعدم جريانها في فعل المشكوك في بلوغه، و أردنا إجراءها بالنسبة إلى فعل البالغ، و ترتيب آثار العقد الصحيح؛ بأن يقال: إنَّ صحّة فعل البالغ تستلزم صحّة فعل الطرف، كما صرّح به الشيخ، و فرق بين ما إذا شكّ في صحّة المُعاملة من جهة كون أحد الطرفين بالغاً، و بين ما إذا شكّ في وجود الإيجاب أو القبول مع إحراز الآخر، فاجري الأصل في الأوّل دون الثاني (1).

و ذلك: لأنَّ كون الظاهر من حال المُسلم أو الفاعل العاقل البالغ عدم التصرّف الباطل و اللّغو، لو ينفع في ترتيب الأثر العقليّ كما أفاد في الأمر الثاني يكون بعينه جارياً


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 418 سطر 15- 20.

ص: 371

فيما إذا شكّ في أصل الإيجاب مع إحراز القبول (1)؛ فإنَّ القبول بلا إيجاب أيضاً لغو.

فإذا لم ينفع جريانها في صدور فعل من فاعل آخر، لا ينفع في إثبات صحّة فعل فاعل آخر؛ فإنَّ صحّة كلّ شي ءٍ بحسبه كما أفاد(2)، فصحّة الإيجاب لا تتوقف على تعقّبه بقبول من شخص بالغ، كما لا تتوقف على صدور أصله منه، فالفرق بين الأمرين لا وجه معتدّ به له، و التفرقة بين ظهور الحال و أصالة الصحّة قد عرفت حالها(3)، مع أنَّ ظهور الحال في المقامين على السواء.

و التحقيق: أنَّه على فرض عدم جريان الأصل مع الشكّ في البلوغ لا يفيد الأصل في المقامين.

ثمّ إنَّه قدس سره جعل من مصاديق ما عنون في الأمر الثالث ما لو ادّعى بائع الوقف وجود المُصحّح له، بل جعله أولى بعدم الجريان فيه و قال: و أولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خُلّي و طبعه مبنيّاً على الفساد؛ بحيث يكون المُصحّح طارئاً عليه، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المُصحّح له، و كذا الراهن أو المُشتري من الفضوليّ إجازَة المُرتهن و المالك (4) انتهى.

و أنت خبير: بأنَّ بيع الوقف مع الشكّ في عروض المُصحّح له ليس من قبيل ما نحن فيه؛ لأنَّ الشكّ فيه إنّما هو في الصحّة و الفساد، أي في أنَّ البيع هل وقع صحيحاً حين حدوثه أو فاسداً، و منشأ الشكّ هو الشكّ في عروض المُصحّح له و عدمه؛ فإنَّ بيع الوقف مع عدم عروض المسوّغ له يقع باطلًا، لا صحيحاً تأهّلياً كبيع الفضوليّ و الراهن، فمسألة بيع الوقف داخلة في الأمر السابق؛ ممّا يكون الشكّ في قابليّة العوض


1- نفس المصدر: 419.
2- نفس المصدر: 418.
3- تقدّم في صفحة 367.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 419 سطر 4.

ص: 372

للنقل، و قد عرفت أنَّ أصالة الصحّة جارية في مثله.

و اختار السيّد الطباطبائيّ في «مُلحقات عروته» عدم جريان الأصل فيما إذا شكّ في صحّة بيع الناظر أو الموقوف عليه؛ من جهة الشكّ في عروض المسوّغ له، قال: فلو لم يثبت المُسوّغ يجوز للبطون اللّاحقة الانتزاع من يد المُشتري، فهو كما لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده، و لم يعلم كونه وكيلًا منه.

و دعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المُسوّغ لا تكفي في الحكم بالصحّة، و لا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما؛ لأنَّ يدهما ليست كيد الدلّال المُدّعي للوكالة؛ فإنَّ يده مُستقلّة، و يدهما غير مُستقلّة؛ لأنّها في الحقيقة يد الوقف المفروض عدم جواز بيعه، فيدهما إنّما تنفع في كيفيّة التصرّفات التي هي مُقتضى الوقف، لا في مثل البيع الذي هو منافٍ و مُبطل له، فهي نظير يد الوَدَعيّ التي لا تنفع إلّا في الحفظ، لا في البيع، فإذا ادّعى الوكالة احتاج إلى الإثبات؛ و أنَّ يد الأمانة صارت يد الوكالة، و إلّا فالأصل بقاؤها على ما كانت عليه (1) انتهى مُلخّصاً.

و فيه: أنَّ كون بيعه كبيع مال الغير مع عدم اليد ممنوع؛ لأنَّ يد الناظر و الموقوف عليه- إذا كان وليّاً للأمر- يد مُعتبرة عند العُقلاء، و دعواهما مسموعة، فكيف تكون كلا يد؟

و دعوى كونها غير مُستقلّة ممنوعة، بل يدهما مُستقلّة، و ما دام كون الوقف بحاله يجب عليهما حفظه، و أنحاء التصرّفات المرتبطة به، و بالانتفاع منه على الوجه المشروع، و إذا احتاج إلى التغيير و التبديل مع عروض المسوّغ له تكون لهما الولاية على ذلك.

و ما ذكره: من أنَّ يدهما في الحقيقة يد الوقف .. إلى آخره ممّا لا محصّل له؛ لعدم اعتبار اليد للوقف على الملك الموقوف عرفاً، و لو فرض كون يدهما يد الوقف و لا تكون


1- العروة الوثقى 3: 270.

ص: 373

إلّا لحفظه، لا لإبطاله، فمع عروض المُسوّغ لا يجوز لهما البيع؛ لصيرورتهما أجنبيين و هو كما ترى

و لو كان المُراد من كون اليد يد الوقف أنّها يد على المال الموقوف، فهو من قبيل المُصادرة، و من ذلك يعلم أنَّ تنظير يدهما بيد الوَدَعيّ في غير محلّه.

لا يقال: إنَّ الشكّ في الصحّة و الفساد في بيع الوقف مُسبّب عن الشكّ في عروض المُسوّغ، فأصالة عدمه حاكمة على أصالة الصحّة.

فإنَّه يقال: قد عرفت (1) أنَّ مبنى أصالة الصحّة هو بناء العُقلاء فحينئذٍ لو قلنا بأنّها أمارة عُقلائيّة مبناها ترجيح الغلبة، و إلقاء احتمال الخلاف، فالأمارة القائمة على المُسبّب تكون رافعة لموضوع الأصل السببيّ؛ لأنَّ الأمارة على اللّازم أمارة على الملزوم، و هل يكون تقدّمها عليه على نحو الحكومة، أو الورود، أو الخروج موضوعاً؟ قد سبق الكلام في أمثاله في بابه (2).

و لو قلنا بأنّها أصل عُقلائيّ مبناها تقنين أرباب النفوذ في أوائل تمدّن البشر لرغد العيش، ثمَّ صارت ارتكازيّة، فلازم ذلك أن يكون الاستصحاب رادعاً لأصالة الصحّة الجارية في المُسبّب، فلو كان رادعاً في مورد يكون رادعاً مُطلقاً، و هو كما ترى

و قد عرفت في بعض المباحث السالفة(3) أنَّ الأدلّة العامّة غير صالحة لردع العُقلاء عن ارتكازاتهم، خصوصاً في مثل هذا الأمر الذي يكون قطب رحى التمدّن، و لولاه لم يقم للمُسلمين سوق (4)، و ستأتي (5) تتمّة لذلك عند تعرّض الشيخ له إن شاء اللَّه.


1- تقدّم في صفحة 358.
2- تقدّم في صفحة 230 و ما بعدها.
3- تقدّم في صفحة 301 و 302.
4- الكافي 7: 387/ 1، الفقيه 3: 31/ 92، التهذيب 6: 261/ 695، الوسائل 18: 215/ 2- باب 25 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
5- يأتي في صفحة 381.

ص: 374

الأمر الخامس إنَّ جريان أصالة الصحّة بعد إحراز نفس العمل

قد أشرنا سابقاً إلى أنَّ جريان أصالة الصحّة إنّما هو بعد إحراز نفس العمل؛ لأنَّ الشكّ في صحّة الشي ء و فساده فرع وجوده.

لا أقول: إنَّ جريانها موقوف على الفراغ من العمل؛ لأنّها جارية في أثنائه، بل و قبله لو كان منشأ للأثر، إذا علم أنَّه سيوجد و شكّ في إيجاده في موطنه صحيحاً أو فاسداً.

بل أقول: أنَّ جريانها مُتأخّر عن إحراز نفس العمل في موطنه، فلو شكّ في وجود العمل في موطنه لا يكون مجرى الأصل؛ فإذا شكّ في أنَّ الآتي بصورة الصلاة يأتي بها أو يأتي بصورتها لغرض آخر، لا تجري أصالة الصحّة لإحراز كونها صلاة.

و كذا الحال في باب العقود و الإيقاعات مع الشكّ في قصد عناوينها، فلو قال:

بعت، و شكّ في استعماله في المعنى الإنشائيّ أو الإخباريّ لا تحرز أصالة الصحّة نحو استعماله.

نعم: قد تكون في بعض الموارد اصول عقلائيّة تحرز موضوع أصالة الصحّة، فلو اختلف المُتعاقدان فادعى أحدهما عدم قصده للإنشاء، أو عدم الجدّ فيه لا يكون مبنى إحراز قصده و جدّه هو أصل الصحّة، لأنَّ الشكّ ليس في الصحّة و الفساد، و لو كانت الاصول العُقلائيّة الاخر محرِزة لأمثالهما لا ربط لها بأصالة الصحّة.

نعم: بعد إحراز عنوان العمل لو شكّ في صحّته تكون أصالة الصحّة محرزة لها.

و ممّا ذكرنا: يتّضح حال فعل النائب، فإنَّ الشكّ فيه قد يكون من جهة الشكّ في إتيانه، و قد يكون من جهة الشكّ في قصده النيابة، و قد يكون من جهة الإخلال بشي ءٍ

ص: 375

معتبر فيه.

فإن كان من الجهتين الأوّلتين فلا إشكال في عدم إحرازهما بأصالة الصحّة؛ لعدم الشكّ في الصحّة و الفساد، فلا بدّ من إحرازهما بأمرٍ آخر، فهل يقبل قول النائب أم لا؟ فيه وجهان.

و أمّا بعد إحراز إيجاد النائب العمل النيابيّ إذا شكّ في صحّته، فلا إشكال في جريان أصالة الصحّة، من غير فرق بينه و بين سائر الأعمال؛ لأنَّه فعل صادر من عاقل شكّ في صحّته و فساده، و هو موضوع بناء العُقلاء.

و أمّا ما أفاده الشيخ الأنصاريّ: من أنَّ لفعل النائب عنوانين، أحدهما: من حيث إنَّه فعل من أفعاله، و ثانيهما: من حيث إنَّه فعل المنوب عنه، و لا جريان لأصالة الصحّة من هذه الحيثيّة؛ لأنَّ سقوط التكليف عن المنوب عنه بفعل النائب باعتبار أنَّه فعله، لا فعل النائب، فلا بدّ من إحراز الفعل الصحيح عنه (1).

ففيه إشكال: و لا بدّ من بيان كيفيّة اعتبار النيابة لدى العُقلاء حتّى يتّضح الأمر، و لا بأس بالإشارة إجمالًا إلى اعتبار الوكالة و الولاية أيضاً.

فنقول: الوكالة لدى العُقلاء عبارة عن تفويض الأمر إلى شخص و إيكاله إليه، فالفعل باعتبار أنَّه فعل صادر من الوكيل نافذ في حقّ المُوكّل؛ لأنَّه جعله سلطاناً عليه، فنفوذه عليه باعتبار إذنه، و إيكاله الأمر إليه لا باعتبار أنَّه فعل صادر من المُوكّل؛ لعدم صدوره منه، و نسبة الفعل إليه تكون بالتجوّز و التوسّع.

و الولاية عبارة عن نحو سلطنة تكون دائرتها بالنسبة إلى مواردها مُختلفة سعة و ضيقاً، أو أمر وضعيّ لازمه تلك السلطنة، فالوليّ على الصغير هو السلطان عليه، يتصرّف في أمُوره بما هو صلاحه، و الوليّ على البلد هو المُتصرّف فيه بما هو صلاحه


1- رسائل الشيخ الأنصاري: 420 سطر 7.

ص: 376

و مُقتضى سياسته، و الوليّ من قبل اللَّه على الناس هو السلطان عليهم يتصرّف فيهم بما هو صلاحهم، و بما هو مقتضى السياسة الدينيّة و الدنيويّة.

فالولاية عبارة عن أمر وضعيّ اعتباريّ لدى العُقلاء، يتبعها جواز التصرّف في حيطتها، فالفعل الصادر من الوليّ و الواليّ باعتبار أنَّه فعل صادر من السلطان نافذ على المُسلّط عليه و المولّى عليه، لا باعتبار أنَّه فعله أو بإذنه.

و النيابة عبارة عن قيام شخص مقام شخص آخر في نوع من الأفعال، يكون حقّها مباشرة المنوب عنه لدى الاختيار، كما لو قام مجلس سلام عامّ للسلطان، و تكون وظيفة أركان دولته و شرفاء مملكته الحضور فيه لمراسم السلام، و اتّفق عذر لبعضهم، فأرسل شخصاً مُناسباً لمقام السلطنة قائماً مقامه و نائباً منابه في تشريفات السلام، فإنَّه يعدّ لدى العُقلاء مرتبة من حضوره بوجوده التنزيليّ، و يصير لدى السلطان مُقرّباً، و يكون ذاك العمل عند العُذر مقبولًا منه.

فالوكالة تكون في العقود و الإيقاعات ممّا لا يكون لخصوص المُباشر دخالة في تحقّقها، و لا تكون في العبادات، كما لا يقبل مجلس السلام الوكالة، و النيابة تكون في مثل العبادات التي بمنزلة الحضور في مجلس السلطان، فلا تجوز الوكالة في الحجّ و الصلاة؛ لأنَّ الإتيان بالعبادات ليس من شئون سلطنة الشخص و نفوذه، بل من قبيل الحضور في مجلس السلطان.

فالنيابة ليست من قبيل تفويض الأمر، بل من قبيل الإطاعة بالوجود التنزيليّ، فالفعل الصادر من النائب- باعتبار كونه وجوداً تنزيليّاً للمنوب عنه و لو بالتوسّع- مُوجب لحصول القرب لدى المولى لا بما أنَّ الفعل فعله، بل بما أنَّه صادر ممّن كان نازلًا منزلته.

فاتّضح ممّا ذكرنا: أنَّه لا إشكال في جريان أصالة الصحّة فيما إذا شكّ في الصحّة

ص: 377

و الفساد بعد إحراز نفس العمل بعنوانه في فعل الوكيل و الوليّ؛ لأنَّه فعلهما، و نفوذه في المُوكّل باعتبار إذنه و إيكال الأمر إليه، و في المولّى عليه باعتبار نحو سلطنة عليه، و كذا الحال في النائب؛ لأنَّ النيابة و إن كان اعتبارها غيرهما، لكن لا إشكال في أنَّ الفعل صادر من النائب حقيقة، و باعتبار صدوره منه و قيامه مقام المنوب عنه يسقط عنه.

فما ادّعاه الشيخ: من أنَّ فعله لمَّا كان فعلًا له يسقط عنه (1)، فكأنَّه قال: لا تجري أصالة الصحّة إلّا في فعل الغير، و فعل النائب ليس كذلك.

ففيه: أنَّ كون الفعل فعل الغير واضح، و مُجرّد أنَّه يعدّ مرتبة من فعل المنوب عنه بالتوسّع لا يُوجب عدم جريان الأصل فيه.

مع أنَّ التفكيك بين الحيثيّتين كما أفاده رحمه اللَّه كما ترى فإنَّ النيابة إن اقتضت أن يكون الفعل الصادر من النائب فعل المنوب عنه، و يكون النائب بما أنَّه نائب غير مُستقلّ في الفاعليّة، فلا تكون له جهة فاعليّة، و لا لفعله جهة صدور منه.

و إن اقتضت أن يكون الفعل الصادر من النائب موجباً لسقوطه منه؛ لكونه وجوداً تنزيليّاً له توسّعاً، و يكون فعله بوجه من التوسّع فعله، فلا وجه لعدم جريان الأصل في فعله.

و بالجملة: لا يمكن أن يقال: إنَّ الواقف بعرفات و المشعر، و المطوف بالبيت العتيق و المُصلّي خلف مقام إبراهيم عليه السلام ليس النائب، بل هذه الأفعال أفعال المريض المُزمن في بلده، فلا تجري فيها أصالة الصحّة باعتبار أنّها فعله لا فعل الغير.

فتفكيك الجهتين ممّا لا يساعد عليه الاعتبار، بل يكون اعتبار النيابة بما ذكره من صيرورة الفعل بعد قصد النيابة و البدليّة قائماً بالمنوب عنه؛ لكون الفاعل آلة له، مع كونه فعلًا من أفعال النائب نفسه، لا المنوب عنه مُتنافيين، كما لا يخفى.


1- نفس المصدر: 420 سطر 10.

ص: 378

و أمّا لزوم مراعاة النائب تكليف نفسه في بعض الجهات، كالجهر و الإخفات و الستر، و مُراعاة تكليف المنوب عنه في نوع التكليف مثل القصر و الإتمام، و القِران و التمتّع، فليس من أجل أنَّه رُوعيت في الفعل جهتان؛ جهة النيابة، وجهة اللّانيابة؛ فإنَّه لا وجه لاعتبار اللانيابة في الفعل الصادر من النائب بما أنَّه نائب.

بل لأجل أنَّه استنيب لقيامه مقام المنوب عنه فيما يجب عليه؛ فإذا كان عليه حجّ التمتّع و صلاة التمام لا معنى للإتيان بغيرهما ممّا لا يكون نائباً فيه، و مراعاة تكليف نفسه في الشرائط و الموانع لأجل أنَّ الفعل فعله، لا فعل المنوب عنه كما تقدّم، فلا بدّ من مُراعاة ما اشترط عليه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ جريان أصالة الصحّة في فعل النائب فيما يكون الشكّ في الصحّة ممّا لا مانع منه، و لا يعتبر فيه عدالة النائب من هذه الحيثيّة، و اعتبارها من حيثيّة اخرى على فرضه غير مُرتبطٍ بما نحن بصدده.

الأمر السادس عدم حُجّية مُثبتات أصالة الصحّة

لا إشكال في عدم حُجّية مُثبتات أصالة الصحّة؛ لعدم الدليل عليها، لأنَّ بناء العُقلاء- الذي هو العمدة في الباب- غير ثابت بالنسبة إليها، فالثابت من بنائهم ليس إلّا ترتيب آثار صحّة الفعل، فإذا شكّ في صحّة صلاة من جهة الشكّ في الطهارة تترتّب عليها آثار الصحّة، فيقتدى بها، لكن لا يثبت بها كون المُصلّي على وضوء أو غُسل، فلا مانع من إجراء استصحاب الحدث لو كان له أثر.

و كذا لو شكّ في أنَّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك، أو بعين من أعيان

ص: 379

ماله يحكم بصحّة الشراء، و تملّك المُشتري المبيع، و لا يثبت بذلك تعلّق البيع على شي ءٍ من أعيان ماله، و يجري استصحاب بقاء الأعيان على ملكه، و لا إشكال فيه من جهة التفكيك في الآثار ظاهراً، و هو ليس بعزيز، خصوصاً في كتاب القضاء و كيفيّة تشخيص المدّعي و المُنكر، فراجع (1).

فالإشكال على الشيخ الأعظم: من أنَّ جريان أصالة الصحّة مُستلزم للحكم بدخول المبيع في ملك المشتري، من دون أن يدخل في ملك البائع ما يقابله (2) كما ترى ليس بشي ءٍ إذا اقتضت الاصول في مقام الظاهر، كما التزم المُستشكل في قاعدة التجاوز مع كونها من الاصول المُحرزة عنده (3).

و بالجملة: لا إشكال من هذه الجهة، نعم قد يحصل علم إجماليّ في بعض المقامات، و هو غير مُرتبط بما نحن فيه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ مُثبتات أصل الصحّة ليست بحُجّة؛ لعدم بناء العُقلاء إلّا على المعاملة بالصحّة مع العمل الصادر في الفاعل، و أمّا ترتيب آثار اللّوازم فلا، و لا فرق في بناء العُقلاء بين اللوازم و الآثار الشرعيّة، و غيرها من العقليّة و العاديّة.

لكن ترتيب الآثار الشرعيّة و لو مع الواسطة ليس لأجل بناء العُقلاء، و لا لإطلاق دليل الأصل، أو قيام الإجماع عليه دون غيرها؛ لعدم الفرق لدى العُقلاء بين لازم و لازم، و ليس دليل لفظيّ يؤخذ بإطلاقه، و لا إجماع في الباب.

بل لأجل ما ذكرنا في مبحث مُثبتات الاستصحاب (4): من أنَّ دليله لا يتكفّل إلّا لإحراز موضوع كبرى شرعيّة، فتنطبق عليه الكبرى، و إذا كانت الآثار الشرعيّة


1- انظر جواهر الكلام 40: 384.
2- فوائد الاصول 4: 666.
3- نفس المصدر 4: 642.
4- تقدّم في صفحة 157.

ص: 380

مُترتّبة تكون كلّ كبرى محرزة لموضوع كبرى لاحقة.

ففي ما نحن فيه أيضاً لا تتكفّل أصالة الصحّة إلّا صحّه نفس العمل، فإذا انسلك تحت كبرى شرعيّة يترتّب عليه الأثر، فأصالة الصحّة في الطلاق مثلًا لا تثبت بها إلّا صحّة الطلاق، لكن إذا صحّ الطلاق تنسلك المرأة في قوله: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ»(1) فإذا خرجت من العدّة تنطبق عليها كبرى شرعيّة اخرى و هكذا.

و هذا التفكيك بين اللوازم الشرعيّة و غيرها في باب أصالة الصحّة- ممّا لا إطلاق لدليل فيه، و يكون الدليل عليه هو البناء العُقلائيّ- ممّا يؤيّد و يؤكّد ما ذكرنا في الاستصحاب (2) في وجه ترتيب الآثار الشرعيّة و لو بألف واسطة، دون غيرها، فتدبّر جيّداً.

الأمر السابع موارد تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب و وجهه

لا إشكال في تقدّم أصالة الصحّة على استصحاب عدم الانتقال و أمثاله إذ لم يكن في البين أصل موضوعيّ، و أمّا معه فقد وقع الكلام فيه (3)، و كذا وقع الكلام في وجه تقدّمها عليه هل هو الحكومة، أو التخصيص، أو غيرهما(4)؟


1- سورة البقرة 2: 228.
2- تقدم في صفحة 153 و 154.
3- رسائل الشيخ الأنصاري: 421 سطر 9، فوائد الاصول 4: 657- 661 و 670- 678، نهاية الأفكار 4: 99- 101، حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل: 115 سطر 13.
4- رسائل الشيخ الأنصاري: 410 سطر 10، فوائد الاصول 4: 653 و 670، درر الفوائد: 611 و 612، نهاية الأفكار 4: 99- 101.

ص: 381

و التحقيق: أنّك قد عرفت أنَّ مبنى حُجّيتها كان بناء العُقلاء، كما مرّ مراراً، و لا تكون ممّا انفردت بحُجّيتها شريعة الإسلام، بل و لا سائر الشرائع.

و ما يتوهّم: من أنَّ الصحّة و الفساد لا تكونان بين العُقلاء، بل هما من الوضعيّات الشرعيّة ففي غاية السقوط؛ لأنَّ الصحّة ليست إلّا اعتباراً من الاعتبارات الوضعيّة العُقلائيّة، فتتداول الصحّة و الفساد بينهم، كانوا مُنتحلين بشريعة أو لا.

أ لا ترى أنَّ أحداً لو سرق مال غيره و باعه، فاطّلع عليه الحاكم العرفيّ الغير المُنتحل بدين يأخذ العين من المُشتري، و يردّها إلى مالكها، و يأخذ الثمن من السارق، و يردّه إلى مالكه، و ليس ذلك إلّا لحكمه بفساد المُعاملة، بخلاف ما لو وقعت المُعاملة بين المالكين، و ليست الصحّة و الفساد إلّا ذلك.

و كذا ترى أنَّ لكلّ قوم نكاحاً بقواعد مرسومة بينهم- و لو في الطوائف الوحشيّة- و يكون الزنا و النكاح بين جميع الطوائف مُختلفين، و نكاح امرأة الغير باطل لدى غير المنتحلين بديانة أيضاً، نعم يكون قانون الزواج مُختلفاً بين الطوائف المُختلفة.

لكن مع اختلافه يكون النكاح الصحيح ما طابق القانون، و الباطل ما خالفه، فتكون الصحّة و الفساد من الأحكام العُقلائيّة، كأصالة الصحّة، و شريعة الإسلام على صادعها السلام قد بدأت في زمانٍ كانت الصحّة و الفساد و أصالة الصحّة رائجة بينهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنَّ اللّائق بالبحث هاهنا أنَّ دليل الاستصحاب و هو قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

هل يصلح أن يكون رادعاً لبناء العُقلاء عن العمل بأصالة الصحّة أم لا؟ و قد أشرنا سابقاً(1) إلى عدم صُلوح مثله للرادعيّة، فالعمدة هو مُلاحظة نطاق دائرة بناء العُقلاء، فقد عرفته في بعض الامور السالفة(2).

فتقدّم أصالة الصحّة ليس من أجل التعارض بينها و بينه بدواً، و التقدّم بحكومة


1- تقدّم في صفحة 301- 302 و 373.
2- تقدّم في صفحة 361- 364.

ص: 382

أو تخصيص أو غيرهما، بل تكون أدلّة الاستصحاب غير صالحة للردع عن بناء العُقلاء فيما تحقّق بناؤهم؛ لأنّهم في العمل على أصالة الصحّة، و ترتيب آثار الصحّة على المُعاملات و العبادات ارتكازاً لا يرون أنفسهم شاكّين.

لا أقول: إنَّهم قاطعون؛ فإنَّه خلاف الضرورة؛ بل أقول: إنَّهم يكونون غافلي الذهن عن أنَّ ترتيب آثار الصحّة عمل بالشكّ، فلا بدّ في صرفهم عن بنائهم من دليل صريح يردعهم عنه، و لا يصلح مُجرّد إطلاق قوله:

(لا ينقض اليقين بالشكّ)

للردع عن طريقتهم المألوفة.

و لهذا لم تكن هذه الكبريات المُلقاة من الأئمّة إلى أصحابهم مُوجبة لانقداح مثل ذلك في أذهانهم، و إلّا كانوا يسألون عنه، مع أنّهم كانوا يعملون على أصالة الصحّة ليلًا و نهاراً، مع ورود مثل هذه الكبريات، و هذا واضح جدّاً لدى التأمّل.

فإذاً تكون أصالة الصحّة خارجة عن نقض اليقين بالشكّ موضوعاً لدى العُقلاء، فما أفادوه في المقام من حكومتها على الاستصحاب، أو تخصيص دليل الأصل بها(1) لعلّه في غير محلّه، و الحمد للَّه أوّلًا و آخراً.


1- تقدّم تخريجه في صفحة 380.

ص: 383

المبحث الرابع حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة

اشارة

و لا بأس بعرض بعض الجهات فيها، حتّى يتّضح حالها و حاله معها، و يتمّ ذلك في ضمن امور:

ص: 384

الأمر الأوّل في ذكر نُبذةٍ من الأخبار الواردة فيها و عدّ بعض موارد ورد فيها النصّ بالخصوص

فمن الأخبار العامّة

ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن حكيم (1) قال: سألت أبا الحسن عن شي ء.

فقال لي: (كل مجهول ففيه القرعة).

قلت له: إنَّ القرعة تخطئ و تصيب!

قال: (كلّ ما حكم اللَّه به فليس بمخطئ)

(2).

و رواه الصدوق بطريقين صحيحين عنه (3)، و الظاهر أنَّه الخثعميّ الذي لا يخلو عن الحسن، بل لا تبعد وثاقته؛ لكونه صاحب الأصل، و لكثرة نقل المشايخ بل أصحاب الإجماع عنه (4)، و لو كان فيها ضعف فهو مُنجبر باعتماد الأصحاب عليها.

قال الشيخ في «النهاية»: و كلّ أمرٍ مُشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن تستعمل فيه القرعة؛

لما روي عن أبي الحسن موسى، و عن غيره من آبائه و أبنائه من قولهم: (كل مجهول ففيه القرعة).

و قلت له: إنَّ القرعة تخطئ و تصيب!

فقال: (كلّ ما حكم اللَّه به فليس بمخطئ)

(5).

و هو كما ترى عين عبارة الحديث، و الظاهر منه أنَّه عثر على روايات أخر من


1- محمّد بن حكيم: الخثعمي أبو جعفر، من مُتكلّمي الإمامية، و من أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، روى عن شهاب بن عبد ربّه، و محمّد بن مسلم و غيرهم، و روى عنه محمّد بن أبي عمير، و عمر بن اذينة، و صفوان بن يحيى و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 357/ 957، رجال الكشي 2: 746، معجم رجال الحديث 16: 31/ 10620.
2- التهذيب 6: 240/ 593، الوسائل 18: 189/ 11- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- الفقيه 3: 52/ 174 و 4: 88.
4- تنقيح المقال 3: 109، معجم رجال الحديث 16: 37- 40 و 394- 396.
5- النهاية للطوسي: 345 و 346.

ص: 385

سائر الأئمّة عليهم السلام بهذا المضمون، و لم نعثر عليها، و يمكن أن يكون نظره إلى سائر الروايات الواردة في الأبواب المُختلفة، فاستفاد منها بإلغاء الخصوصيّة أنَّ كلّ مجهولٍ يُشتبه فيه الحكم ففيه القرعة.

و عن «الخلاف»: أنَّ القرعة مذهبنا في كلّ أمرٍ مجهول (1)، و ادّعى في كتاب تعارض البيّنات إجماع الفرقة على أنَّ القرعة تستعمل في كلّ أمرٍ مجهول مُشتبه (2).

و عن الشهيد(3) في «القواعد»: ثبت عندنا قولهم:

(كلّ مجهول فيه القرعة)

(4).

يُستفاد من كلام الشيخ في «الخلاف» أنَّ الحكم بهذا العنوان مذهب الخاصّة، و من كلام الشهيد أنَّ هذا الكلام ثابت عند الطائفة من أئمّتهم، مع عدم رواية بهذه العبارة عند الشهيد قطعاً غير رواية محمّد بن حكيم.

و بالجملة: الرواية موثوق بها، و ليس في طرقنا ما يُستفاد منه العموم غيرها، و سيأتي حالها(5).

و ممّا يُستفاد منه العموم ما روي من طرق العامّة:

(إنَّ القرعة لكلّ أمر مُشتبه)

(6).

و في رواية:

(لكلّ أمرٍ مُشكل).

و عن الحلّي دعوى الإجماع على أنَّ كلّ مُشكل فيه القرعة(7) و نقل عنه أيضاً أنَّه قال


1- الخلاف 2: 599 المسألة الثانية و الثلاثون.
2- نفس المصدر 2: 638 المسألة العاشرة.
3- الشهيد الأوّل: هو إمام المحقّقين و قدوة المدافعين عن حريم أهل البيت عليهم السلام، الشيخ محمّد بن مكي بن محمّد بن حامد بن أحمد النبطي العاملي، ولد سنة 734 ه و تلقّى العلم على يد والده الذي كان عالماً فاضلًا، ثمَّ على يد آخرين من أعلام المذهب، و قد ترك آثاراً رائعة من المؤلّفات كاللمعة و الدروس و البيان و الذكرى و غاية المُراد و غيرها، أجازه عدّة من الأعلام منهم: فخر المحققين، و السيد العميدي، و قطب الدين الرازي و غيرهم، و ممّن تخرّج عليه الفاضل السيوري، و ابن نجدة، و محمّد بن علي الضحاك الشامي و غيرهم. استشهد قدّس اللَّه روحه سنة 786 ه انظر أمل الآمل 1: 183، أعيان الشيعة 10: 59- 64، مستدرك الوسائل 3: 447 و 459.
4- القواعد و الفوائد 2: 22.
5- يأتي في صفحة 396.
6- انظر بحار الأنوار 88: 234.
7- السرائر 2: 170 و ستأتي ترجمة الحلّي قريباً.

ص: 386

في باب سماع البيّنات: و كلّ أمر مُشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تُستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن الأئمّة عليهم السلام، و تواترت به الآثار، و أجمعت عليه الشيعة الإماميّة(1).

و لعلّه عثر على روايات بهذا المضمون، و إن كان المظنون اصطياده الكلّية من الموارد المُختلفة.

و عن «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين، و أبي جعفر، و أبي عبد اللَّه عليهم السلام:

أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل،

قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: (و أيّ حكم في المُلتبس أثبت من القرعة، أ ليس هو التفويض إلى اللَّه جلّ ذكره)

ثمّ ذكر قصّة يُونس، و مريم، و عبد المُطّلب (2).

و يمكن استفادة الكلّية في باب القضاء ممّا في «المُستدرك» عن الشيخ المُفيد

في «الاختصاص» بإسناده عن عبد الرحيم (3) قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول (إنَّ علياً عليه السلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب، و لم تجرِ فيه سنّة رجم فيه) يعني ساهم (فأصاب) ثمّ قال: (يا عبد الرحيم و تلك من المُعضلات)

(4).

و يمكن استفادة العموم في الجُملة ممّا ورد في ذيل صحيحة أبي بصير برواية الصدوق من قول النبيّ صلى اللَّه عليه و آله:

(ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى


1- نفس المصدر 2: 173.
2- دعائم الإسلام 2: 522/ 1864، مستدرك الوسائل 3: 200/ 1 و 2- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى
3- عبد الرحيم: ابن روح القصير الأسدي، من أصحاب الأئمّة الباقر و الصادق و الكاظم عليهم السلام و الراوين عنهم، روى عنه عبد اللَّه بن مسكان، و العباس بن عامر القصباني، و حماد بن عثمان، و غيرهم. انظر تنقيح المقال 2: 150/ 6569 و 6575، معجم رجال الحديث 10: 7/ 6479 و 10/ 6489.
4- الاختصاص: 310، بصائر الدرجات: 409، مستدرك الوسائل 3: 201/ 14- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى

ص: 387

اللَّه عزّ و جلّ إلّا خرج سهم المُحقّ)

(1).

و قريب منه ما عن أمير المؤمنين عليه صلوات اللَّه في ذيل رواية العبّاس بن هلال (2) و مُرسلة الصدوق عن الصادق عليه السلام (3) و

مُرسلة «فقه الرضا» عنه عليه السلام قال: (أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللَّه، أ ليس اللَّه تعالى يقول «فساهم فكان من المُدحضين»)

(4) و كذا رواية أحمد البرقيّ (5).

و أما الموارد التي ورد فيها النصّ فهي كثيرة:

منها: فيما إذا تعارضت البيّنتان عند فقد المُرجّح،

ففي صحيحة داود بن سرحان (6) برواية الصدوق، عن أبي عبد اللَّه في شاهدين شهدا على أمرٍ واحدٍ، فجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه و اختلفوا؟

قال: (يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء)

(7).


1- الفقيه 3: 54/ 183، الوسائل 18: 188/ 6- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- التهذيب 9: 363/ 1298، الوسائل 17: 593/ 4- باب 4 من أبواب ميراث الغرقى. العباس من هلال: و هو الشامي عدّه الشيخ في أصحاب الرضا عليه السلام و الرواة عنه، و كان مولى للإمام الكاظم عليه السلام، روى عنه إبراهيم بن هاشم، و محمد بن الوليد، و يعقوب بن يزيد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 282/ 749، رجال الطوسي: 382/ 39، معجم رجال الحديث 9: 250/ 6209.
3- الفقيه 3: 52/ 175، الوسائل 18: 190/ 13- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
4- الآية من سورة الصافات 37: 141، و انظر فقه الرضا عليه السلام: 262، و مستدرك الوسائل 3: 200/ 4- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
5- المحاسن: 603/ 30، الوسائل 18: 191/ 17- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى. احمد البرقي: و هو أحمد بن محمّد بن خالد البرقي أبو جعفر، عدّه الشيخ في أصحاب الإمامين الجواد و الهادي عليهما السلام، خلّف كتباً كثيرة، روى عن أبيه، و عثمان بن عيسى، و محمّد بن علي و غيرهم، و روى عنه سعد بن عبد اللَّه الأشعري، و علي ابن إبراهيم، و سهل بن زياد و غيرهم. انظر رجال النجاشي: 76/ 182، رجال الطوسي: 398/ 8 و 410/ 16، معجم رجال الحديث 2: 261/ 858.
6- داود بن سرحان: العطار، كوفي، ثقة، عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الصادق عليه السلام، روى عن زرارة، و عبد اللَّه ابن فرقد، و روى عنه أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، و عبد الرحمن بن أبي نجران، و الحسن بن علي بن فضال، و آخرون. انظر رجال الطوسي: 190/ 13، جامع الرواة: 1: 304، مجمع الرجال 2: 283.
7- الفقيه 3: 52/ 178، الوسائل 18: 183/ 6- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 388

و في صحيحة الحلبيّ (1) قريب منها، إلّا أنَّ في آخرها:

(فهو أولى بالحقّ)

(2) بدل:

(أولى بالقضاء).

و في صحيحة البصريّ (3) روايته أيضاً

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (كان عليّ عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود، عدلهم سواء و عددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين ..)

(4) الحديث.

و هذه الطائفة عامّة لكلّ قضيّة في باب القضايا المُشكلة الواردة على القاضي إذا تعارضت البيّنات و لا ترجيح فيها، أو لم يتهيّأ فيه الإشهاد، كما يدلّ عليه «الفقه الرضويّ».

و من الموارد الخاصّة:

1- قضيّة الإشهاد على الدابّة كموثّقة سماعة(5)

عن أبي عبد اللَّه عليه سلام اللَّه قال:

(إنَّ رجلين اختصما إلى عليّ عليه السلام في دابّة، فزعم كلّ واحدٍ منهما أنّها انتجت على مذوده (6) و اقام كلّ واحدٍ منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين)

(7) الحديث.


1- الحلبي: هو محمّد بن علي بن أبي شعبة الحلبي، أبو جعفر، وجه أصحابنا و فقيههم، و الثقة الذي لا يطعن عليه، عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام روى عن عبد اللَّه بن مسكان، و منصور بن حازم، و أبان بن عثمان، و علي بن النعمان، و روى عنه عبد الرحمن بن الحجّاج، و المفضّل بن صالح، و منصور بن يونس. انظر رجال النجاشي: 325/ 885، معجم رجال الحديث 16: 302/ 11265 و 17: 45/ 11374 و 18: 73/ 12069.
2- التهذيب 6: 235/ 577، الاستبصار 3: 40/ 137، الوسائل 18: 185/ 11- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- البصري: و هو عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه البصري مولى بني شيبان تقدم ترجمته في صفحة 332 من هذا الكتاب.
4- الكافي 7: 419/ 3، الفقيه 3: 53/ 181، التهذيب 6: 233/ 571، الاستبصار 3: 39/ 131، الوسائل 18: 183/ 5- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
5- سماعة: بن مِهران بن عبد الرحمن الحضرمي الكوفي، مولى عبد بن وائل بن حجر الحضرمي، يكنّى أبا محمّد، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام روى عن محمّد بن عمران، و الكلبي النسابة، و مضمرة و غيرهم، و روى عنه صفوان بن يحيى، و يونس بن عبد الرحمن، و الحسن بن محبوب، و القاسم بن سليمان و آخرون، مات بالمدينة سنة 145 ه. انظر رجال النجاشي: 193/ 517، معجم رجال الحديث 8: 297/ 5546، مجمع الرجال 3: 170.
6- المِذْوَدة: معتلف الدابة. لسان العرب 5: 70.
7- الفقيه 3: 52/ 177، التهذيب 6: 234/ 576، الاستبصار 3: 40/ 136، الوسائل 18: 185/ 12- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 389

و مثلها غيرها(1).

2- و منها: الإشهاد بالإيداع على الظاهر، و هي رواية

زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له: رجل شهد له رجلان بأنَّ له عند رجل خمسين درهماً، و جاء آخران فشهدا بأنَّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف؟

قال: (اقرع بينهم، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع ...)

(2) الحديث.

3- و منها: مورد اشتباه الولد بين العبد و الحرّ و المُشرك،

ففي صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (إذا وقع الحرّ و العبد و المُشرك على امرأة في طُهرٍ واحدٍ و ادّعوا الولد اقرع بينهم، و كان الولد للذي يقرع)

(3).

4- و منها: الإشهاد على الزوجيّة(4).

5- و منها: قضيّة الشابّ الذي خرج أبوه مع جماعة، ثمّ جاءوا و شهدوا بموته (5).

6- و منها: قضية الوصيّة بعتق ثلث العبيد(6).

7- و منها: عتق ثلثهم (7).

8- و منها: مورد الاشتباه بين الولد و العبد المُحرّر(8).


1- انظر التهذيب 6: 236/ 582، الاستبصار 3: 41/ 141، الوسائل 18: 186/ 15- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- الكافي 7: 420/ 1، التهذيب 6: 235/ 578، الاستبصار 3: 41/ 138، الوسائل 18: 183/ 7- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- التهذيب 6: 240/ 595، الوسائل 18: 187/ 1- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
4- الكافي 7: 420/ 2، التهذيب 6: 235/ 579، الاستبصار 3: 41/ 139، الوسائل 18: 184/ 8- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
5- الكافي 7: 371/ 8، الفقيه 3: 15/ 40، التهذيب 6: 316/ 875.
6- التهذيب 8: 234/ 842، الوسائل 16: 77/ 1- باب 65 من أبواب العتق.
7- الكافي 7: 18/ 11 و 55/ 12، الفقيه 4: 159/ 555، التهذيب 9: 220/ 864، الوسائل 13: 464/ 1- باب 75 من أبواب أحكام الوصايا.
8- التهذيب 9: 171/ 700، الوسائل 13: 427/ 1- باب 43 من أبواب أحكام الوصايا.

ص: 390

9- و منها: مورد الاشتباه بين صبيّين، أحدهما حرّ، و الآخر مملوك (1).

10- و منها: مورد الخنثى المُشكل (2).

11- و منها: مورد عتق أوّل مملوك (3).

12- و منها: مورد اشتباه المُعتق بغيره (4).

13- و منها: مورد عتق عبيد في مرض الموت، و لا مال له (5).

14- و منها: مورد اشتباه الغنم الموطوءة(6).

15- و منها: مورد قسمة أمير المؤمنين عليه السلام المال الذي أتى من أصفهان، المذكور في كتاب الجهاد(7).

16- و منها: قضيّة مُساهمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قريشاً في بناء البيت (8).

17- و منها: استعلام موسى عليه السلام النمّام بالقرعة بتعليم اللَّه تعالى (9).

18- و منها: مساهمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بين أزواجه إذا أراد سفراً(10).

19- و منها: اقتراعه صلّى اللَّه عليه و آله بين أهل الصُّفّة للبعث إلى غزوة ذات


1- الفقيه 4: 226/ 717، التهذيب 6: 239/ 586، الوسائل 18: 188/ 7- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- الكافي 7: 158/ 2، المحاسن: 603/ 29، الفقيه 4: 239/ 763، التهذيب 6: 239/ 588، الوسائل 17: 580/ 2- باب 4 من أبواب ميراث الخنثى.
3- التهذيب 6: 239/ 589، الوسائل 18: 187/ 2- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
4- الكافي 6: 197/ 14، التهذيب 8: 230/ 830، الوسائل 16: 44/ 1- باب 34 من أبواب العتق.
5- صحيح مسلم 3: 490/ 56، سنن النسائي 4: 64- كتاب الجنائز، سنن أبي داود 2: 422/ 3958، جامع الاصول 8: 71- 73.
6- التهذيب 9: 43/ 182، الوسائل 16: 436/ 1- باب 30 من أبواب الأطعمة المُحرمة.
7- الغارات 1: 51، الوسائل 11: 87/ 13- باب 41 من أبواب جهاد العدو.
8- الكافي 4: 218/ 5، مستدرك الوسائل 3: 200/ 10- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
9- كتاب الزهد للأهوازي: 5/ 9، مستدرك الوسائل 3: 200/ 5- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
10- الاختصاص: 116- 118، مستدرك الوسائل 3: 201/ 14- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 391

السلاسل (1).

20- و منها: اقتراعه في غنائم حنين (2).

21- و منها: اقتراع بني يعقوب ليخرج على واحد فيحسبه يوسف عنده (3).

إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المُتتبّع (4).

الأمر الثاني القول في التخصيص المستهجن لعمومات القرعة

و هو أهمّ الامور في هذا الباب، و لا بدّ من بسط الكلام في تحقيقه؛ لترتّب الثمرات الكثيرة العمليّة عليه، و هو أنَّه قد اشتهر في ألسنة المتُأخّرين أنَّ عمومات القرعة قد وردت عليها تخصيصات كثيرة، بالغة حدّ الاستهجان، فيُستكشف منه أنّها كانت محفوفة بقرائن و قيود لم تصل إلينا، فلا يجوز التمسّك بها إلّا في موارد عمل الأصحاب على طبقها، و هذا مُساوق لسقوط العمومات عن الحُجّية تقريباً(5).

و قد ظهر لي بعد الفحص الأكيد عن أقوال الفُقهاء، و التأمّل التامّ في الأخبار الواردة في الموارد المُتقدمة غير ذلك.

و محصّل الكلام: أنَّه لا إشكال في بناء العُقلاء على العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم، سواءً كان لها واقع معلوم عند اللَّه أو لا.


1- الإرشاد للمفيد: 84- 86، بحار الأنوار 21: 77/ 5.
2- إعلام الورى: 119- 128، بحار الأنوار 21: 173.
3- مجمع البيان 5: 375.
4- انظر مثلًا الدرّ المنثور للسيوطي 4: 97، المغني لابن قدامة 12: 276 و 277.
5- انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 1، كفاية الاصول: 493، فوائد الاصول 4: 680، نهاية الأفكار 4: 107- القسم الثاني، درر الفوائد: 613 و 614.

ص: 392

و بالجملة: القرعة لدى العُقلاء أحد طرق فصل الخصومة، لكن في مورد لا يكون ترجيح في البين، و لا طريق لإحراز الواقع.

و يشهد لما ذكرنا: مُضافاً إلى وضوحه قضيّة مُساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس، فعلى نقل كانت المُقارعة من قبيل الأوّل، و العثور على العبد الآبق (1)، و على نقل كانت من قبيل الثاني؛ لأنّهم أشرفوا على الغرق، فرأوا طرح واحدٍ منهم لنجاة الباقين (2)، و هذا أقرب إلى الاعتبار، و معلوم أنَّ مُساهمتهم لم تكن لدليل شرعيّ، بل لبناء عمليّ عقلائيّ، بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم.

و قضيّة مُساهمة أحبار بيت المقدس لتكفّل مريم عليها السلام، كما أخبر بها اللَّه تعالى إذ قال: «وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(3) تدلّ على أنَّ العُقلاء بحسب ارتكازهم يتشبّثون بالقرعة عند الاختصام و عدم الترجيح، و هذه من قبيل الثاني، كما أنَّ غالب المُقارعات العُقلائيّة لعلّها من هذا القبيل، كالمُقارعات المُتداولة في هذا العصر.

و كذا يشهد لتعارفها قضيّة مُقارعة بني يعقوب (4)، و مُقارعة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قريشاً في بناء البيت (5)، بل مُقارعته بين نسائه (6)، فإنَّ الظاهر أنّها كانت من جهة الأمر العُقلائيّ، لا الحكم الشرعيّ.

و بالجملة: لا إشكال في معروفيّة القرعة لدى العُقلاء من زمن قديم، كما أنَّه لا إشكال في أنّها لا تكون عندهم في كلّ مُشتبه و مجهول، بل تتداول لدى التنازع أو تزاحم الحقوق فقط.


1- مجمع البيان 7: 716.
2- مجمع البيان 7: 716، تفسير البرهان 4: 36/ 3.
3- سورة آل عمران 3: 44.
4- تقدّم تخريجها في صفحة 391.
5- تقدّم تخريجهما في صفحة 390.
6- تقدّم تخريجهما في صفحة 390.

ص: 393

كما أنَّه لا إشكال في أنّها ليست طريقاً عُقلائيّاً إلى الواقع، و لا كاشفاً عن المجهول، بل يستعملها العُقلاء لمحض رفع النزاع و الخصام، و حصول الأولويّة بنفس القرعة؛ ضرورة أنّها ليست لها جهة كاشفيّة و طريقيّة إلى الواقع، كاليد و خبر الثقة، فكما أنّها في الموارد التي ليس لها واقع كتقسيم الإرث و الأموال المُشتركة إنّما هي لتمييز الحقوق بنفس القرعة لدى العُقلاء، كذا في الموارد التي لها واقع مجهول لديهم ليست المقارعة لتحصيل الواقع و كشف الحقيقة، بل لرفع الخصام و التنازع، و هذا واضح.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنَّ المُتتبّع في الموارد المُتقدّمة التي وردت فيها الأخبار الخاصّة، و كذا المُتأمّل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة(1) يحصل له القطع بأنَّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلّا ما لدى العُقلاء طابق النعل بالنعل؛ فإنَّ الروايات على كثرتها بل تواترها- باستثناء موردٍ واحدٍ سيأتي الكلام فيه- إنّما وردت في موارد تزاحم الحقوق، سواء أ كان لها واقع معلوم عند اللَّه مجهول لدى الخصمين أو لا.

أمّا مورد تعارض البيّنات و الدعاوي كالإشهاد على الدابّة(2)، و الإيداع و الاختلاف في الولد(3) و الزوجة(4) فمعلوم، و أمّا موارد الوصيّة بعتق ثلث العبيد(5) أو عتق أوّل مملوك (6) و أمثالهما فهو أيضاً واضح، لأنَّ العبيد كلّهم سواء في التمتّع بالحرّية، فتتزاحم حقوقهم، و حيث لا ترجيح في البين يقرع بينهم، و كذا الحال في الخنثى المُشكل (7) و غيرها من الموارد.

و بالجملة: ليس في جميع الموارد المنصوصة إلّا ما هو الأمر العُقلائيّ.

نعم: يبقى مورد واحد هو قضيّة اشتباه الشاة الموطوءة(8) ممّا لا يمكن الالتزام بها


1- انظر جواهر الكلام 31: 158 و 178 و 181، مفتاح الكرامة 9: 436 و 468، عوائد الأيام: 226.
2- تقدّم تخريجها في صفحة 388.
3- تقدّم تخريجها في صفحة 389.
4- تقدّم تخريجها في صفحة 389.
5- تقدّم تخريجها في صفحة 389.
6- تقدّم تخريجهما في صفحة 390.
7- تقدّم تخريجهما في صفحة 390.
8- تقدّم تخريجه في صفحة 390 الرقم 14 من المتن.

ص: 394

في أشباهها، فلا بدّ من الالتزام فيه بالتعبّد في المورد الخاصّ، لا يتجاوز منه إلى غيره، و لذا ترى الفُقهاء كما سيأتي نقل فتاويهم (1)- يفتون في أشباه الموارد المُتقدّمة في جميع أبواب الفقه إلّا ما ورد فيه نصّ خاصّ، و لا يفتون بل و لا أفتى فقيه مُعتبر كلامه في الفقه في الموارد المجهولة و المُشتبهة بكثرتها في غيرها إلّا في قضيّة الشاة الموطوءة لورود النصّ فيها.

و يمكن أن يقال: إنَّ التعبّد في هذا المورد أيضاً إنّما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياه لنجاة البقيّة، كما أشار إليه في النصّ بقوله:

(فإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتّى يقع السهم بها، فتذبح و تُحرق، و قد نجت سائرها)

(2).

و في رواية «تحف العقول»:

(فأيّهما وقع السهم بها ذُبحت و احرقت و نجا سائر الغنم)

(3).

و التغبير بنجاة سائره لعلّه إشارة إلى أنَّ هذا المورد أيضاً من قبيل تزاحم حقوق الشياه في بقاء حياتها، و ربما يُحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم، فإنَّ قطيع الأغنام يكون من أرباب مُتفرّقين غالباً، فتتزاحم حقوقهم.

و بالجملة: من تتّبع موارد النصوص و الفتاوى يظهر له أنَّ مصبّ القرعة ليس إلّا ما أشرنا إليه.

مُضافاً: إلى إمكان استفادة ذلك ما أشارت الأخبار و كلمات الأصحاب، ففي مرسلة «الفقيه»:

(ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّا خرج سهم المُحقّ)

(4) و قريب منها بعض آخر(5).


1- يأتي في صفحة 397.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 390 الرقم 14 من المتن.
3- تحف العقول: 359، الوسائل 16: 436/ 4- باب 30 من أبواب الأطعمة المُحرمة.
4- الفقيه 3: 54/ 183، الوسائل 18: 183/ 6- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
5- تقدّم في الصفحة 386 و 387.

ص: 395

و يُستفاد منها أنَّ مصبّها ليس مُطلق المجهول و المُشتبه، بل في باب التنازع و إخراج سهم المُحقّ.

و عن «الفقه» أيضاً:

(أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللَّه أ ليس اللَّه تعالى يقول: «فساهم فكان من المُدحضين»)

(1) و فيها أيضاً إشارة إليه.

و في مرسلة ثعلبة بن ميمون (2) في قضيّة المولود الذي ليس بذكر و لا انثى قال:

(و أي قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها السهام؟! يقول اللَّه تعالى «فساهم فكان من المُدحضين»)

(3) و قال:

(ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللَّه، و لكن لا تبلغه عقول الرجال)

(4).

تدلّ على أنَّ أصل قضيّة القرعة ما هو في كتاب اللَّه، و معلوم أنّها فيه في باب التنازع و مزاحمة الحقوق لا غير، فكذا ما ينشعب من هذا الأصل.

و في مُرسلة حمّاد المرويّة عن «التهذيب» عن أحدهما قال: (القرعة لا تكون إلّا للإمام)

(5).

و في صحيحة معاوية بن عمّار(6) في باب النزاع في الولد قال: (أقرع الوالي


1- تقدّم تخريجها في صفحة 387.
2- ثعلبة بن ميمون: الأسدي أبو إسحاق، كان فقيهاً من أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، و من قرّاء القرآن و اللغويين الأجلّاء، روى عن زرارة بن أعين، و عمّار الساباطي، و محمَّد بن مسلم، و روى عنه الحسن بن علي بن فضال، و محمّد بن إسماعيل بن بزيع، و عبد اللَّه بن محمَّد الحجّال. انظر رجال النجاشي: 117/ 302، رجال الكشي 2: 711، معجم رجال الحديث 3: 408/ 1993.
3- سورة الصافات 37: 141.
4- الكافي 7: 158/ 3، التهذيب 9: 357/ 1275، الوسائل 17: 580/ 3- باب 4 من أبواب ميراث الخنثى
5- التهذيب 6: 240/ 592، الوسائل 18: 189/ 9- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى
6- معاوية بن عمار: ابن أبي معاوية خبّاب بن عبد اللَّه أبو القاسم الدهني، من أصحاب الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام، كان من خواصّ الإمام الصادق عليه السلام و وجهاً من وجوه الأصحاب، كبير الشأن عظيم المحل روى عن أبي بصير، و أبي حمزة الثمالي، و عمر بن يزيد، و روى عنه محمَّد بن أبي عمير، و أحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي، و الحسن بن محبوب، مات سنة 175 ه انظر رجال النجاشي: 411/ 1096، مناقب ابن شهرآشوب 4: 281، معجم رجال الحديث 18: 214/ 12458.

ص: 396

بينهم)

(1).

و في رواية يونس في قضيّة تحرير من علّمه آية من كتاب اللَّه قال: (و لا يجوز أن يستخرجه أحد إلّا الإمام)

(2).

فحصر القرعة بالإمام ليس إلّا لاختصاصها بموارد الخصومة و تزاحم الحقوق، التي يُرفع الأمر فيها إلى الإمام و الوالي، و لو كانت في كلّ قضيّة مجهولة- كاشتباه القبلة و مثله من الموضوعات المُشتبهة- لم يكن وجه للحصر المذكور.

مع أنَّ موارد الاشتباه في غير باب التنازع أكثر بكثير، فلا يمكن أن يحمل على الحصر الإضافيّ؛ لاستهجان الحصر فيما إذا كان الخارج كثيراً، بل أكثر من الداخل، فيعلم أنَّ القرعة إنّما تكون في موارد يكون الأمر راجعاً إلى الإمام و الوالي.

نعم: لو فرض خروج بعض الموارد النادرة منه لا يكون الحصر مُستهجناً، بخلاف ما لو كانت لمُطلق المجهولات و المشتبهات.

بقي الكلام

في رواية محمّد بن حكيم المُتقدّمة(3) قال: سألت أبا الحسن موسى عن شي ء فقال: (كلّ مجهول ففيه القرعة).

حيث يتوهّم منها العموم (4).

و فيه أوّلًا: أنَّ صدرها غير مذكور؛ ضرورة أنَّ السؤال لم يكن بهذا العنوان العامّ المجهول، بل لم يذكر المسئول منه في النقل، فلعلّ السؤال كان على نحو كان قرينة على صرف الجواب إلى مجهول خاصّ.

و ثانياً: أنَّ كون القرعة عُقلائيّة مرتكزة في ذهن العُرف موجب لصرف كلّ مجهول


1- الفقيه 3: 52/ 176، الوسائل 18: 190/ 14- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 390 الرقم 12 من المتن.
3- تقدّم تخريجه في صفحة 384.
4- عوائد الأيام: 228، رسائل الشيخ الأنصاري: 422.

ص: 397

إلى المجهول في باب القضاء؛ و تزاحم الحقوق، لا مُطلقاً، و في كشف كلّ مجهول، خصوصاً مع ورود تلك الروايات الكثيرة في ذلك بخصوصه.

كما أنَّ الفُقهاء على ذلك أيضاً. فهذا شيخ الطائفة شيخنا أبو جعفر الطوسيّ رضي اللَّه عنه قال في كتاب القضاء من «النهاية» في باب سماع البيّنات و كيفيّة الحكم بها و أحكام القرعة في ذيل بعض القضايا المُشكلة: و كلّ أمر مُشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن أبي الحسن موسى و عن غيره من آبائه و أبنائه، ثمّ ذكر رواية محمّد بن حكيم (1).

و معلوم: و أنَّ مُراده من كلّ أمر مُشكل مجهول يشتبه فيه الحكم هو الحكم في موارد القضاء و رفع الأمر إلى القاضي في التنازع و تزاحم الحقوق، لا مطلق الحكم الشرعيّ، كما هو واضح بأدنى تأمّل.

و في «الخلاف» في تعارض البيّنات بعد اختياره القرعة قال: دليلنا إجماع الفرقة على أنَّ القرعة تُستعمل في كلّ أمر مجهول مُشتبه (2).

و فيه أيضاً دعوى الإجماع ظاهراً على أنَّ القُرعة في كلّ أمر مجهول؛ حيث قال في مسألة ما إذا حضر اثنان عند الحاكم معاً في حالة واحدة: إنَّ القرعة مذهبنا في كلّ أمر مجهول (3).

و مُراده من كلّ أمر مجهول هو ما ذكرنا لا مُطلقاً؛ لقضاء الإجماع، بل الضرورة بأنَّ القرعة ليست في مُطلق المجهولات، كالجهل بالأحكام الشرعيّة في مقام الفتوى، و كاشتباه الموضوعات كالإناءين المُشتبهين، و اشتباه القبلة و أشباهها، فدعوى كون القرعة مذهبنا في كلّ أمر مجهول تدلّ بالضرورة على ما ادّعيناه.


1- النهاية للطوسي: 345 و 346.
2- الخلاف 2: 638.
3- نفس المصدر 2: 599.

ص: 398

و عن «قواعد الشهيد» رحمه اللَّه: ثبت عندنا قولهم:

(كلّ أمر مجهول فيه القرعة).

و ذلك لأنَّ فيها عند تساوي الحقوق و المصالح و وقوع التنازع دفعاً للضغائن و الأحقاد، و الرضا بما جرت به الأقدار، و قضاء الملك الجبّار(1).

و هذا التعليل ظاهر في أنَّ الشهيد فهم من قوله:

(كلّ مجهول ففيه القرعة)

(2) اختصاصه بباب تساوي الحقوق و تزاحمها و وقوع النزاع، و عليه يحمل ما نقل عن طريق العامّة:

(القرعة لكلّ أمر مُشتبه)

أو

(مُشكل).

كما نقل عن ابن إدريس (3) في باب سماع البيّنات أنَّه قال: و كلّ أمر مُشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن الأئمّة عليهم السلام، و تواترت به الآثار، و أجمعت عليه الشيعة الإماميّة(4)؛ ضرورة أنَّ الروايات المتواترة إنّما هي في الموارد المُتقدّمة، و كذا إجماع الشيعة في مثلها، لا في مُطلق المُشتبه، و هذا واضح جدّاً.

و بالجملة: المُتتبّع لكلمات الأصحاب يرى إسراءهم الحكم من الموارد المنصوصة التي عددناها في الأمر الأوّل إلى غيرها ممّا هو من قبيلها؛ أي في موارد تزاحم الحقوق و التداعي و التنازع، و الحال أنَّ فقيها منهم ممّن تعتبر فتواه لا يرى الإفتاء في سائر المُشتبهات و المجهولات بالقرعة، و ليس ذلك إلّا من جهة ما ذكرنا.


1- القواعد و الفوائد 2: 22.
2- الفقيه 3: 52/ 174، التهذيب 6: 240/ 593، الوسائل 18: 189/ 11- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- ابن إدريس: الفقيه الكبير الشيخ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد بن إدريس العجلي الربعي الحلي، كان شيخ الفقهاء بالحلة، مُتقناً للعلوم، كثير التصانيف، أطراه كثير من أصحاب المعاجم، كانت ولادته سنة 543 ه، و توفي سنة 598 ه، يروي عن جماعة من الأعلام، منهم الشريف أبو الحسن علي بن إبراهيم العلوي العريضي، و الشيخ عربي بن مسافر العبادي، و السيد أبو المكارم حمزة بن زهرة، و الشيخ الحسين بن رطبة السوراوي و غيرهم، و يروي عنه السيد فخار بن معد الموسوي، و الشيخ نجيب الدين محمّد بن جعفر بن نما الحلي. انظر الكنى و الألقاب 1: 210، لؤلؤة البحرين: 276/ 97، رجال ابن داود: 269/ 426.
4- السرائر 2: 173.

ص: 399

لا لاحتفاف الأخبار بقرائن و قيود لم تنقل إلينا فإنَّه بعيد جدّاً، بل مقطوع البطلان؛ فإنَّ الرواية العامّة التي تكون أعمّ من سائر الروايات من طرقنا هي رواية محمّد بن حكيم، و هي كانت عند الصدوق و الشيخ من مُتقدّمي أصحابنا بهذه الألفاظ من غير زيادة و نقيصة، و أنّهم لم يفهموا منها إلّا ما ذكرنا كما أشرنا إليه.

و ما ذكر من قضيّة التخصيص الكثير إنّما هو أمر أحدثه بعض مُتأخّري المُتأخّرين (1)، و تبعه غيره (2)، و ما رأينا في كلام القُدماء من أصحابنا له عيناً و لا أثراً، و المظنون أنَّه حصل من الاغترار بظاهر رواية محمّد بن حكيم و الروايتين من طرق العامّة، فأخذ اللّاحق من السابق حتى انجرّ الأمر إلى ذلك و اشتهر بين المُتأخّرين.

و لو لا مخافة التطويل المُملّ لسردت عبارات القوم في الموارد المُفتى بها من غير نصّ خاصّ حتّى يتّضح لك الأمر، فراجع أبواب التنازع في الكتب، و موارد فرض الاشتباه و التشاحّ في كتاب النكاح، و الطلاق، و التجارة، و اللّقطة، و القضاء، و الإجارة، و الصلح، و الوصيّة، و الميراث، و العتق، و الصيد، و الذباحة، و الإقرار، و الغصب، و إحياء الموات، و الشفعة، و غيرها ممّا لا نصّ فيها، ترى أنَّ الفقهاء عملوا فيها بالقرعة.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ مصبّ أخبار القرعة العامّة و الخاصّة ليس إلّا المُشتبهات و المجهولات في باب التنازع و تزاحم الحقوق، و ليس التخصيص فيها كثيراً، بل هي بعمومها معوّل عليها، معمول بها.

بل يمكن أن يقال: إنَّ التخصيص في أخبارها أقلّ من تخصيص نحو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(3) و

(المؤمنون عند شروطهم)

(4) فالمسألة بحمد اللَّه خالية عن الإشكال.


1- هو المحدّث الحر العاملي في الفصول المهمّة على ما نقل عنه المحقّق النراقي في عوائد الأيام: 228.
2- كفاية الاصول: 493 و 494، درر الفوائد: 613 و 614.
3- سورة المائدة 5: 1.
4- الكافي 5: 404/ 8، التهذيب 7: 371/ 1503، الاستبصار 3: 232/ 385، الوسائل 15: 30/ 4- باب 20 من أبواب المهور.

ص: 400

الأمر الثالث هل القرعة أمارة على الواقع أم لا؟

الظاهر أنَّ القرعة ليست أمارة على الواقع، لا لدى العُقلاء و ذلك واضح، و لا لدى الشرع:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ الظاهر أنَّ الشارع لم يتّخذ في باب القرعة طريقاً غير طريق العُقلاء، كما لعلّه يظهر من ذيل مرسلة ثعلبة(1)، حيث جعل الأصل فيها قوله تعالى

«فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»(2).

و معلوم: أنَّ مُساهمة أصحاب السفينة قضيّة عُقلائية، قرّرها الكتاب الكريم، و استشهد بها الأئمّة عليهم السلام، بل الناظر في الأخبار المُتكثّرة الواردة في القرعة يرى أنَّ مواردها هي الموارد التي يتداول أشباهها لدى العُقلاء، إلّا المورد الذي مرّ الكلام فيه.

و أمّا ثانياً: فلأنَّ جعل الطريقيّة لما ليس له كشف عن الواقع و لو ضعيفاً ممّا لا يمكن، بل قد قرّر في محلّه (3) بطلان جعل الطريقيّة و الكاشفيّة مُطلقاً، و القرعة ليست كاشفة عن الواقع، بل تكون مطابقتها للواقع من باب الاتفاق، لا بمعناه المحال، كما قرّر في محلّه (4)، و ما كان حاله كذلك لا معنى لطريقيّته و كاشفيّته، و التصادف الدائميّ أو الأكثريّ- بإرادة اللَّه تعالى و الأسباب الغيبيّة- و إن كان مُمكناً، لكنّه بعيد غايته، بل لا يمكن الالتزام به.

و أمّا ثالثاً: فلأنَّ لسانَ عمومات باب القرعة مثل قوله:

(كلّ مجهول ففيه


1- تقدّم تخريجها في صفحة 395.
2- سورة الصافات 37: 141.
3- أنوار الهداية 1: 105- 108 و 204- 207.
4- منظومة السبزواري: 127- قسم الحكمة، الأسفار 2: 253- 259.

ص: 401

القرعة)

(1) و قوله:

(القرعة لكلّ أمر مُشتبه)

أو

(مُشكل)

، أو

(فيما أشكل)

(2) لسانُ الأصل و الوظيفة لدى الجهل و الاشتباه، لا الأمارة، فهي نظير قوله:

(كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنَّه قذر)

(3) و قوله:

(كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنَّه حرام بعينه)

(4).

و أمّا قوله:

(ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّا خرج سهم المُحقّ)

(5) فلعلّ المُراد منه ما في روايات اخر، كصحيحة الحلبي:

(فأيّهم قرع فعليه اليمين، و هو أولى بالحقّ)

(6) و صحيحة داود بن سرحان:

(فهو أولى بالقضاء)

(7) أي خرج سهم من هو أولى بالحق و القضاء؛ أي يكون الحقّ معه، فعليه اليمين، و على صحابه الإثبات، و مثل هذا التعبير متداول في باب القضاء(8).

أو المُراد منه:

خرج سهم المُحقّ إذا حلف، و هو عبارة اخرى عمّا في صحيح البصريّ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: (كان عليّ عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين، و كان يقول: اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين السبع، أيّهم كان له الحقّ فأدّه إليه، ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف)

(9).


1- الفقيه 3: 52/ 174، التهذيب 6: 240/ 593، الوسائل 18: 189/ 11- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- دعائم الإسلام 2: 522/ 1864، مستدرك الوسائل 3: 200/ 1، 2- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- التهذيب 1: 284/ 832، الوسائل 2: 1054/ 4- باب 37 من أبواب النجاسات.
4- الكافي 5: 313/ 40، التهذيب 7: 226/ 989، الوسائل 12: 60/ 4- باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
5- الفقيه 3: 54/ 183، الوسائل 18: 183/ 6- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
6- التهذيب 6: 235/ 577، الاستبصار 3: 40/ 137، الوسائل 18: 185/ 11- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
7- الفقيه 3: 52/ 178، الوسائل 18: 183/ 6- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
8- الخلاف: 635 و 640، النهاية: 344، السرائر 2: 168 و 169، شرائع الإسلام 4: 103، إرشاد الأذهان 2: 150.
9- الكافي 7: 419/ 3، الفقيه 3: 53/ 181، التهذيب 6: 233/ 571، الاستبصار 3: 39/ 131، الوسائل 18: 183/ 5- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 402

و عليه أو على الأوّل يحمل ما في مُرسلة داود(1) في الاختلاف في الزوجة قال:

(يقرع بين الشهود، فمن خرج سهمه فهو المُحقّ، و هو أولى بها)

(2) فمن تدبّر في الروايات حقّة، و في تعبيرات كتاب القضاء عن الذي عليه اليمين، و عن صاحبه لا يستبعد هذا الحمل، كما تشهد عليه روايات باب القرعة فراجع و تدبّر.

و أمّا قضيّة بحث الطيّار(3) و زرارة كما

في صحيحة جميل قال قال الطيّار لزُرارة:

ما تقول في المُساهمة أ ليس حقّاً؟

فقال زُرارة: بلى هي حقّ.

فقال الطيّار: أ ليس قد ورد أنَّه يخرج سهم المُحقّ؟

قال: بلى

قال: فتعال حتّى أدّعي أنا و أنت شيئاً ثمّ نساهم عليه، و ننظر هكذا هو؟

فقال زُرارة: إنّما جاء الحديث بأنَّه (ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المُحقّ)(4) فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب.

فقال الطيّار: أ رأيت إن كانا جميعاً مُدّعيين ادّعيا ما ليس لهما، من أين يخرج سهم أحدهما؟

فقال زُرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مُبيح (5) فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما


1- داود: هو داود بن أبي يزيد: ثقة صادق اللهجة من أهل الدين و كان من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام. انظر معجم رجال الحديث 7: 89.
2- الكافي 7: 420/ 2، التهذيب 6: 235/ 579، الاستبصار 3: 41/ 139، الوسائل 18: 184/ 8- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- الطيّار: هو محمّد بن عبد اللَّه الطيّار من أصحاب الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام و الراوي عنهما، و قد روي أنَّ الإمام الباقر عليه السلام كان يباهي بالطيار، روى عنه أبان، و عبد اللَّه بن بكير، و ثعلبة بن ميمون. انظر: تنقيح المقال 3: 134/ 10895 و 144/ 10976، معجم رجال الحديث 16: 194/ 11000 و 256/ 11148
4- يشبه هذا الحديث ما مضى عن الصدوق في صفحة 386 و 387.
5- يحتمل أن يكون« منيح» بالنون و هو أحد سهام الميسر العشرة ممّا لا نصيب له منه قدّس سرّه .

ص: 403

خرج سهم المُبيح (1)

فليس فهمهما حُجّة، و لهذا ترى أنَّ زرارة أجاب أخيراً عن إشكال الطيّار جواباً إقناعيّاً غير صحيح في نفسه، و لا معمولًا به لدى الأصحاب، مع أنَّه من أين يعلم القاضي بطلان دعوييهما حتّى يجعل سهم المُبيح؟! و لو علم لا معنى لجعل ذلك

و بالجملة: هذا الجواب فرار عن الإشكال.

مع أنَّ جواب الطيّار- على فرض صحّة ما فهم من أخبار القرعة- أنَّ خروج سهم المُحقّ إنّما هو فيما كان مُحقّ و مُبطل، و إلّا فالقرعة لا تجعل غير المُحقّ مُحقّاً، و الحقّ عدم ورود الإشكال رأساً لما ذكرنا في معنى الحديث.

ثمّ إنَّ الظاهر من قوله:

(ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّا خرج سهم المُحقّ)

(2) أنَّ القرعة ليست أمارة على الواقع، بل اللَّه تعالى إذا فوّض الأمر إليه يخرج سهم المُحقّ بإرادته و أسباب غيبيّة، و هذا غير أماريّتها كما لا يخفى، لكنّ القول الفصل ما تقدّم (3).

ثمّ إنَّ مثل قوله:

(ما يقارع قوم ..)

إلى آخرة لا يكون بصدد بيان موضوع القرعة و موردها، فموضوعها و موردها الأمر المجهول و المُشتبه و المُشكل في باب تزاحم الحقوق و التنازع.

و ممّا ذكرنا: يتّضح تقدّم أدلة الاستصحاب على أدلّتها، فيكون تقدّمها عليها كتقدّمها على أدلّة أصالة الحلّ و الطهارة، فتكون أدلّته حاكمة عليها، كحكومتها عليهما، و قد مرّت (4) كيفيّة الحكومة فيما تقدّم.


1- التهذيب 6: 238/ 584، الوسائل 18: 188/ 4- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
2- الفقيه 3: 54/ 183، الوسائل 18: 183/ 6- باب 12 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.
3- تقدّم في صفحة 400.
4- تقدّم في صفحة 234 و ما بعدها.

ص: 404

فبين الدليلين و إن كان عموم من وجه؛ لاختصاص أدلّة القرعة بباب تزاحم الحقوق و المُنازعات كما عرفت (1)، لكن تتقدّم أدلّة الاستصحاب عليها بالحكومة، فما أفاده المُحقّق الأنصاريّ و تبعه المُحقّق الخراسانيّ: من أعميّة أدلّة القرعة من أدلّة الاستصحاب، فيجب تخصيصها بها(2) كما ترى

هذا كلّه بناءً على أنَّ المُراد من

«المجهول»

و

«المُشتبه»

و

«المُشكل»

الواردة في أدلّة القرعة هو ذلك بحسب الواقع، و يكون معنى قوله:

(كلّ مجهول ففيه القرعة)

(3). أن كلّ ما تعلّق الجهل بواقعه ففيه القرعة، فإذا دار الأمر بين كون مال لزيد أو عمرو و لم يعلم أنَّه من أيّهما ففيه القرعة، و كذا الحال في المُشتبه و المُشكل.

و هاهنا احتمال آخر قريب بعد الدقّة في مجموع الأدلّة و التتبّع في كلمات الأصحاب، و إن كان مُخالفاً لظاهر بعض الروايات الخاصّة: و هو أنَّ المُراد منها أنَّ كلّ أمر مُشكل في مقام القضاء، و مُشتبهٍ على القاضي، و مجهول فيه ميزان القضاء ففيه القرعة.

فيرجع محصّل المُراد: إلى أنَّ الامور المرفوعة إلى القاضي إذا علم فيها ميزان القضاء- أي كان لديه ما يشخّص المُدّعي و المُنكر، ككون أحدهما ذا اليد، أو قوله مُطابقاً لأصل عُقلائيّ أو شرعيّ- فليس الأمر مجهولًا عنده، و لا القضاء مُشتبهاً و مُشكلًا؛ لأنَّ البيّنة على المُدّعي، و اليمين على المُدّعى عليه.

و أمّا إذا كان الأمر الوارد عليه مجهولًا بحسب ميزان القضاء فلا بدّ من التشبّث بالقرعة لتشخيص من عليه اليمين، و تمييز ميزان القضاء، لا لتشخيص الواقع، أمّا


1- تقدّم في صفحة 389 و ما بعدها.
2- رسائل الشيخ الأنصاري: 422، كفاية الاصول: 493.
3- تقدّم تخريجه في صفحة 384.

ص: 405

قوله:

(القرعة لكلّ أمر مُشكل)

(1) فيمكن دعوى ظهوره في ذلك؛ لأنَّ الظاهر من المُشكل أنَّ الحكم فيه مُشكل، لا أنَّه مجهول واقعه، فلا يقال للأمر المجهول إنَّه مُشكل.

و تدلّ عليه

رواية «الدعائم»: أنَّ الأئمّة أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل، و قال أبو عبد اللَّه (أيّ حكم في المُلتبس أثبت من القرعة؟ أ ليس هو التفويض إلى اللَّه جلّ ذكره)

ثمّ ذكر قصّة يونس و مريم و عبد المُطّلب (2)، فإنَّ الظاهر منه أنّهم أوجبوا أن يحكم القاضي إذا أشكل عليه الأمر؛ أي في القضايا المُشكلة بالقرعة، و يؤيّده بل يدلّ عليه تمسّكه بقصّة مريم و يونس؛ فإنَّ الأمر فيهما مُشكل بحسب الحكم و القضاء لا مجهول؛ لعدم واقع فيهما.

و يشهد له

ما عن الاختصاص بإسناده عن عبد الرحيم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: (إنَّ عليّاً عليه الصلاة و السلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب، و لم تجر فيه سنّة رجم فيه) يعني ساهم (فأصاب) ثمّ قال: (يا عبد الرحيم و تلك من المُعضلات)

(3).

فإنَّ الظاهر من ورود الأمر عليه رفع الأمر إليه للحكومة، و معنى عدم مجي ء كتاب و إجراء سنّة فيه عدم ورود ميزان القضاء و الحكم فيه، و إلّا فليس من موضوع إلّا و له حكم من الكتاب أو السنّة، فالمُساهمة ميزان القضاء حيث لا ميزان من الكتاب و السنّة.

و لعلّ المُراد من عدم إجراء السنّة فيه- مع أنَّ القرعة أيضاً سنّة كما نصّ عليه في


1- انظر بحار الأنوار 88: 234.
2- تقدّم تخريجها في صفحة 386.
3- الاختصاص: 310، بصائر الدرجات: 409، مستدرك الوسائل 3: 201/ 14- باب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى.

ص: 406

رواية سيابة و إبراهيم (1)- هو أنَّه لم تجر عليه السنّة الابتدائيّة؛ لأنَّ القرعة عُقلائيّة قد أمضاها الشارع، و قوله في ذيلها:

(و تلك من المُعضلات)

بمنزلة التفسير لما ورد من أنَ

(القرعة لكل أمر مُشكل)

و قوله: «أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل»(2).

فالحاصل: أنَّ المُشكل و المُعضل الذي هو موضوع القرعة إنّما هو من قبيل الأمر الوارد على الحاكم و لم يأت فيه كتاب، و لم تجر فيه سنّة للقضاء و الحكم، تأمّل.

و يدلّ عليه معقد إجماع الحلّي المُتقدّم حيث قال: و كلّ أمر مُشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن يستعمل فيه القرعة(3) فإنَّ الظاهر منه أنَّ المُشكل و المُشتبه ما يكون الحكم فيه مُشتبهاً و مُشكلًا.

و أما قوله:

(كلّ مجهول ففيه القرعة)

(4) فلم ينقل لنا صدرها، و لعلّ فيه قرينة على ما ذكرنا، و عبارة الشيخ في «النهاية» تدلّ على أنَّه فهم منها ما ذكرنا حيث قال: و كلّ أمر مُشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة، لما روي عن أبي الحسن موسى عليه السلام و روى الرواية المُتقدّمة(5).

فإنَّ الظاهر من جمعه بين المُشكل و المجهول و المُشتبه في عبارة واحدة، و التمسّك بالرواية التي ليس فيها إلّا عنوان المجهول دليل على أنَّ المُشكل و المجهول و المُشتبه عنده موضوع واحد.

فعلى هذا الاحتمال: يكون تقدّم الاستصحاب على القرعة أوضح؛ لأنَّ الاستصحاب يرفع الإشكال في مقام القضاء؛ لأنَّه إذا كان قول أحد المُدّعيين مُطابقاً


1- التهذيب 6: 239/ 589، الوسائل 18: 187/ 2- باب 13 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى. إبراهيم: ابن عمر اليماني الصنعاني، شيخ من أصحابنا، ثقة، روى عن الإمامين أبي جعفر و أبي عبد اللَّه عليهما السلام. انظر رجال النجاشي: 20/ 26، رجال الطوسي: 103/ 7 و 145/ 58، الفهرست للطوسي: 9/ 20.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 385.
3- السرائر 2: 173.
4- تقدّم تخريجه في صفحة 384.
5- النهاية: 345 و 346.

ص: 407

للاستصحاب يقضي له و تصير اليمين إليه، لكن هذا الاحتمال و إن كان قريباً بالنسبة إلى جمع من الروايات لكن لا ينطبق على جميعها فراجع.

و المُدّعى هو تطبيق الأدلّة العامّة على ذاك الاحتمال، و هو قريب جدّاً، و لك أن تقول بأوسعيّة نطاقها من رفع الأمر إلى القاضي، و من رفع الأمر إلى الوالي، بل و من موارد التشاحّ بين الرعية، مع حفظ أن يكون المُراد من الأمر المُشكل الإشكال في حلّ العقدة، سواءً كان الإشكال لأجل قضاء القاضي، أو الحاكم السياسيّ أو قضاء المُتخاصمين في حلّ القضيّة لعدم الترجيح، و عدم طريق إلى الحلّ، و على ذلك تنطبق عليه جميع الأدلّة، فتدبّر جيّداً.

و على أيّ حال: لا إشكال في تقدّم دليل الاستصحاب على أدلّة القرعة.

و ممّا ذكرنا: من اختصاص مصبّ القرعة و أخبارها العامّة بباب مُشكلات القضاء أو الأعمّ منها و من موارد تزاحم الحقوق يتّضح عدم تماسها مع أدلّة البراءة و الاحتياط، و التخيير، و الحلّ، و الطهارة.

ثمّ إنَّ بعض الأعاظم ذكر في المقام شيئاً لا يخلو من غرابة: و هو أنَّه لا يمكن اجتماع الاستصحاب و القرعة في مورد حتّى تلاحظ النسبة بينهما؛ لأنّها مُختصّة بموارد اشتباه موضوع التكليف و تردّده بين الامور المُتباينة.

و لا محلّ لها في الشبهات البدويّة؛ فإنَّه ليس فيها إلّا الاحتمالان في موضوع واحد، و القرعة إنّما تكون في الشيئين أو الأشياء، فموارد الاستصحاب كالبراءة و الحلّ خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصّص، لا بالتخصيص (1) انتهى ملخّصاً.

و فيه نظر واضح؛ ضرورة أنَّ أدلّة الاستصحاب لا تختصّ بالشبهات البدويّة، و موارد اجتماع الاستصحاب و القرعة كثيرة إلى ما شاء اللَّه، خصوصاً في موارد الجهل


1- فوائد الاصول 4: 678 و 679.

ص: 408

بتأريخ أحد الحادثين، كما لو عقد الوكيلان المرأة لرجلين، و جهل تأريخ أحدهما، فبناء على تقدّم الاستصحاب على القرعة يحكم بصحّة عقد معلوم التأريخ، كما أفتى به و بنظائره هذا المُحقّق في حواشيه على العروة(1)، و أمّا لو قيل بعدم تقدّمه عليها فيكون من موارد القرعة، و له أمثال كثيرة في باب التنازع و القضاء، تدبّر.

الأمر الرابع هل للأدلّة العامّة للقرعة إطلاقٌ من جميع الجهات أم لا؟

لا إشكال في أنَّ الأحكام التي ثبتت بالقرعة للموضوعات مخالفة للُاصول و القواعد، فيجعل بها ما شكّ في ولديّته ولداً يرث أباه، و تترتّب عليه سائر أحكام الولديّة، و ما شكّ في حرّيّته حرّاً أو عبداً يترتّب عليه جميع آثارهما.

فإذا شكّ في جهة من جهات القرعة و اعتبار شي ء فيها من مقرع خاصّ أو كلام أو دعاء مخصوص، و لم يدلّ إطلاق دليل أو دليل خاصّ من إجماع و غيره على عدمه فلا بدّ من الأخذ بالمُتيقّن.

فهل للأدلّة العامّة إطلاق من جميع الجهات حتى يتمسّك به لدفع الشكوك أولا؟

فيه إشكال؛ لأنَّ رواية محمّد بن حكيم:

(كلّ مجهول ففيه القرعة)

(2) تدلّ بعمومها على أنَّ القرعة ثابتة لكلّ مورد مجهول، مع قطع النظر عن صدرها، و لكن ليس لها إطلاق من جهات اخر، فلو شككنا في اعتبار مُقرع خاصّ كالوالي و القاضي لا يرفع الشكّ بإطلاقها.

مُضافاً: إلى أنَّ عدم ذكر صدرها موهن لإطلاقها؛ لاحتمال كون الكلام محفوفاً بما


1- حاشية المحقّق النائيني على العروة الوثقى 2: 399- المسألة 35.
2- تقدّم تخريجه في صفحة 384.

ص: 409

يضرّ بالإطلاق و العموم، و هذا الاحتمال الناشئ من تقطيع الرواية غير الاحتمال البدويّ الذي لا يعتني به.

هذا كلّه مُضافاً إلى ما رجحناه من أنَّ (كلّ مجهول ففيه القرعة) كقوله: (القرعة لكلّ أمر مُشكل) راجع [إلى باب القضاء و الحكومة، أعمّ من حكومة القاضي في باب الدعاوى أو حكومة الوالي في المنازعات السياسيّة، فحينئذٍ كانت القرعة من شأن القاضي كسائر شئون فصل الخصومات، و إذا رفع النزاع في الثاني إلى الوالي فالظاهر أنَّ القرعة أيضاً من شئونه.

و تدلّ عليه في الجملة: جملة من روايات الباب، كالتي وردت في المولود الذي ليس له ما للرجال و لا ما للنساء(1)، و كمرسلة حمّاد(2)، و رواية يونس (3)، بل و صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر في الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم.

قال: (كان عليّ عليه السلام يسهم بينهم)(4).

حيث يظهر منها أنَّه كان المُتعارف في مثله الرجوع إليه في زمان حكومته.

نعم: الظاهر جواز التراضي بالقرعة في بعض الموارد، كباب القسمة و التزاحم في المُشتركات، كما يجوز التصالح بغيرها، و التفصيل كسائر مباحث القرعة و فروعها موكول إلى محلّه.

و الحمد للَّه أوّلًا و آخراً و ظاهراً و باطناً.

قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير روح اللَّه بن مصطفى الموسويّ

الخمينيّ، تاسع شهر رمضان المُبارك، سنة ألف و ثلاث مائة و سبعين في

بلدة محلّات، حامداً مُصلّياً على النبيّ و آله الطاهرين.


1- تقدّمت في صفحة 395 و 396.
2- تقدّمت في صفحة 395 و 396.
3- تقدّمت في صفحة 395 و 396.
4- التهذيب 8: 234/ 842، الفقيه 3: 53/ 180، الوسائل 16: 77/ 1- باب 65 من أبواب العتق.

ص: 410

ص: 411

الفهارس العامّة

اشارة

1- الآيات الكريمة

2- الأحاديث الشريفة

3- أسماء الأنبياء و الأئمّة المعصومين عليهم السلام

4- الأعلام

5- الكتب

6- مصادر التحقيق

7- الموضوعات

ص: 412

ص: 413

1- فهرست الآيات الكريمة

الآية- رقمها- الصفحة

البقرة (2)

أحلّ اللَّه البيعَ 125275

أقيموا الصلاة 6843

إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً 6630

إنّي جاعلك للناس إماماً قال و من ذرّيتي قال ... 66124

قد نرى تقلّب وجهك في السماء ... 69144

المطلّقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء 244228، 380

وَ لا يريد بكم العُسر 232185

آل عمران (3)

للَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا 7397

و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم ... 39244

المائدة (5)

إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و ... 686، 220، 324

أوفوا بالعقود 1901، 192، 193،

195، 226، 399

ص: 414

الأنعام (6)

على الذين هادوا حرّمنا كلَّ ذي ظفرٍ و ... 147146

يوسف (12)

و اسأل القرية 32682

النحل (16)

و لا تنقضوا الأيمانَ بَعد توكيدها 3391

مريم (19)

و كُلًا جعلنا نبيّاً 6649

الحج (22)

ما جعل عليكم في الدّين من حرج 23178، 235

الصافّات (37)

فساهم فكان من المُدحضين 387141، 395، 400

الحجرات (49)

يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ... 76، 150، 238،

322

ص: 415

2- فهرس الأحاديث الشريفة

إذا بلغ الماء قدر كرٍّ لا ينجّسه شي ء 132، 187

إذا خفت أن لا تكون وضعت وجهك إلّا مرة واحدة ... 314

إذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين يوماً ... 162

إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدرِ ثلاثاً صلّى أم أربعاً ... 310، 330، 339

340، 346، 347

إذا شكّ فليمض في صلاته 334

إذا شككت فابن على اليقين 56

إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره ... 309، 318، 331،

355، 356

إذا كنت قاعداً على وضوئك ... إذا شكّ ثمّ ... 318، 323، 324،

325، 327

إذا نشّ العصير أو غلى حرم 132، 136

إذا وقع الحرّ و العبد و المشرك على امرأة في طُهرٍ واحد و ادّعوا ... 389

اشترها إلّا أن تكون لها بيّنة 273

ص: 416

أشد الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوءه على جلد غيره 327

افتتاح الصلاة الوضوء 343

اقرع بينهم، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع ... 389

أقرع الوالي بينهم 395

إنّ شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض، و ... 307، 317

إنّ كانت معمورة في لأهلها، فإن كانت خرِبة فأنت ... 269

إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خربة قد جلا ... 268

إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر:

أ تحكم فينا بخلاف حكم اللَّه ... 275

إنّ رجلين اختصما إلى عليّ عليه الصلاة و السلام في ... 388

إنّ علياً (عليه السلام) كان إذا ورد عليه أمر لم يجي ء فيه كتاب و ... 386، 405، 406

إنَّ القرعة لكلّ أمر مشتبه 385

إنَّ القرعة لكلّ أمر مشكل 385

إنّك إن شككت أن لم تؤذّن و قد أقمت فأمض، و ... 311، 313

أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللَّه ... 387، 395

التراب أحد الطهورين 214

تعيد الصلاة و تغسله ... 40، 41، 42، 43

47، 49، 82، 114

169، 216، 229

رفع ... ما لا يعملون ... و ما اضطرّوا إليه 75، 241، 242

شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان 162، 163

الطواف بالبيت صلاة 236

على اليد ... 352

فإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتّى يقع السهم بها، ... 394

فأيّهما وقع السهم بها ذُبحت و أحرقت و نجا سائر الغنم 394

ص: 417

فأيّهم قرع فعليه اليمين، و هو أولى بالحقّ 388، 401

فعلي أيّ شي ء هو اليوم ... القول الذي أخبرتني ... 270، 271

قد ركع 332، 335، 339،

340

قد ركعت أمضه 330، 335، 339،

340، 341، 355،

356

القرعة لا تكون إلّا للإمام 395

القرعة لكلّ أمر مشتبه 401

القرعة لكلّ أمر مشكل 401، 405، 406

كان عليّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء و ... 388، 401

كان عليّ (عليه السلام) يسهم بينهم 409

كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنَّه حرام 60، 62

كلّ شي ء حلال حتّى تعلم أنَّه حرام بعينه 401

كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنَّه قذر 60، 62

كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي 242

كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنَّه قذر 401

كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنَّه حرام بعينه 278، 279

كلّ ما حكم اللَّه به فليس بمخطئ 384

كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو 306، 312، 320،

321، 344، 346،

347

كلّ مجهول ففيه القرعة 384، 396، 400،

404، 406، 408

ص: 418

409

كلّ مجهول فيه القرعة 385، 398

لا تصل في وَبر ما لا يؤكل لحمه 168

لا تعاد الصلاة ... 236، 351

لا سهو لمن أقرَّ على نفسه بالسهو 231، 235

لا شكّ لكثير الشكّ 238

لا صلاة إلّا بطهور 167، 168

لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب 70

لا ضرر و لا ضرار 232

لا قِران بين السورتين في ركعة 336

لا ينقص الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك أو النوم 252

ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللَّه عزّ و جلّ إلّا ... 386

ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه ... 402

المؤمنون عند شروطهم 399

الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنَّه نجس 60

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان ... 266، 267

ما يؤدّي عنّي فعنّي يؤدّي 240، 267

ما يقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّا ما خرج سهم المحقّ 394، 401، 403

متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة أنّك لم تصلّها ... 310

من زاد في صلاته فعليه الإعادة 336

من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه؛ فإنَّ اليقين ... 58

من كان على يقين فشكّ فليمضِ على يقينه؛ فإنَّ الشك ... 57، 58، 221،

222، 229

الناس في سعة ما لا يعلمون 241، 242

ص: 419

نعم 273

نعم ... أ فيحلّ الشراء ... فلعلّه لغيره ... لو لم يجز ... 276، 277

هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ 309، 330، 339،

340، 345، 346،

347، 348، 353

و أيّ حكم في الملتبس أثبت من القرعة؟ أ ليس هو ... 386، 405

و أيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها السهام؟ 395

و لا يجوز أن يستخرجه أحد إلّا الإمام 396

و متى شككت في شي ء و أنت في حال اخرى فامض، و ... 311، 314

يا زرارة ... لا تنقض اليقين بالشكّ 7، 9، 22، 23، 24،

25، 26، 27، 28، 31، 34، 35، 39، 78، 80، 114، 125، 134، 142، 152، 153، 154، 155، 156، 160، 168، 170، 205، 209، 221، 224، 225، 226، 228، 229، 238، 241، 244، 247، 248، 258، 259، 308، 355، 381، 382 يتّقي اللَّه و يعمل في ذلك بالمعروف، و لا يضرّ أخاه المؤمن 274

ص: 420

يركع ركعتين و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الكتاب و ... 50، 51، 52، 53

55

يسأل عنها أهل المنزل، لعلّهم يعرفونها 282

يسجد 332

يقرع بين الشهود، فمن خرج سهمه فهو المحقّ، و هو أولى بها 402

يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء 387، 401

اليقين لا يدخله الشكّ، صم للرؤية و أفطر للرؤية 59، 60

يمضي ... يا زرارة إذا خرجت من شي ء ثمّ دخلت في غيره 306، 307، 308،

312، 331، 335،

339، 355

ص: 421

3- فهرس أسماء الأنبياء و الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)

رسول اللَّه، النبي، محمّد صلى الله عليه و آله و سلم 1، 16، 66، 162، 275، 297،

298، 299، 300، 359، 361،

386، 390، 392، 409

الأئمّة، آله، أهل البيت عليهم السلام 1، 163، 359، 360، 361، 382،

385، 386، 398، 400

أمير المؤمنين، الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام 57، 66، 275، 297، 360، 386،

387، 390، 409

الصدّيقة الطاهرة، فاطمة الزهراء عليها السلام 297، 298

الإمام الباقر، أبو جعفر عليهما السلام 40، 162، 268، 306، 307،

310، 314، 318، 323، 386،

389، 405، 409

الإمام الصادق، أبو عبد اللَّه عليه السلام 57، 162، 252، 266، 270،

271، 273، 274، 275، 276،

278، 306، 309، 310، 311،

ص: 422

313، 330، 332، 339، 386،

387، 388، 389، 405

الإمام الكاظم، أبو الحسن، أبو إبراهيم عليه السلام 56، 282، 396، 397، 406

الإمام الرضا، أبو الحسن عليه السلام 360

إبراهيم عليه السلام 377

موسى عليه السلام 390

يوسف عليه السلام 391

يونس عليه السلام 386، 392، 405

مريم عليه السلام 386، 392، 405

ص: 423

4- فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني المحقق الخراساني أحمد بن محمد بن حنبل 50

أبان بن عثمان 309، 332 أحمد بن محمد بن عيسى 271،

إبراهيم بن عمر اليماني 406 ..... 306، 308

إبراهيم بن هاشم 268، 269، أحمد بن محمد بن الوليد 323

274، 310 إسحاق بن عمّار 56، 282، 284

إبراهيم النخعي 270 إسماعيل بن جابر 307، 308،

ابن أبي عمير 270، 275، 310 ..... 311، 312، 313، 331، 338

ابن أبي ليلى 270 أم كلثوم 360

ابن إدريس 398 الأنصاري، مرتضى الشيخ

ابن شيرة 276 الشيخ الأعظم 2، 6، 9، 11

أبو بصير 386 ..... 12، 17، 18، 19، 20، 21، 28،

أبو بكر 275، 297 ..... 29، 33، 53، 59، 79، 81، 92،

أحمد بن عبد الواحد 266 ..... 94، 95، 107، 113، 119، 120،

أحمد بن محمد البرقي 387 ..... 132، 137، 146، 147، 149،

أحمد بن محمد بن أبي نصر ... 150، 160، 182، 194، 200،

البزنطي 306، 308، 332 ..... 201، 204، 206، 207، 208،

ص: 424

213، 216، 217، 222، 223، الخزاز، محمد بن الوليد 266

231، 233، 242، 246، 247، الخوانساري المحقق الخوانساري

253، 263، 322، 331، 333، ..... 20، 29

343، 353، 366، 368، 373، داود بن أبي يزيد 402

375، 377، 379، 404 داود بن سرحان 387، 401

الأوزاعي 51 رجل الهمداني 86

بحر العلوم 8 زرارة 22، 23، 49، 59،

بعض المحققين المولى الهمداني 30، ..... 169، 201، 229، 251، 306،

107، 297 ..... 307، 308، 309، 310، 311،

بكير بن أعين 309، 330، 339 ..... 312، 313، 318، 323، 325،

ثعلبة بن ميمون 395، 400 ..... 326، 331، 333، 339، 355،

جميل بن صالح 271، 282، ..... 389، 402، 403

283، 402 سعد بن عبد اللَّه الأشعري 308، 323،

حريز 22، 306، 323 ..... 332

الحسن بن محبوب السرّاد 268، سليمان بن داود 276

282، 383 سماعة بن مهران 388

الحسين بن سعيد 22، 268، سهل بن زياد 271

273، 306، 309، 323 سيّابة 406

حفص بن غياث 276 الشافعي، محمد بن إدريس 50

الحلبي 388، 389، 401 شيخنا الاستاذ عبد الكريم الحائري

حمّاد 22، 306، 310، 323 اليزدي شيخنا العلّامة 96،

حمّاد بن عثمان 275، 330، ..... 113، 131، 142، 149، 177،

335، 355 ..... 178، 194، 198، 208، 216،

حمزة بن حمران 273 ..... 220، 226، 249، 259

ص: 425

الصدوق، محمد بن عليّ بن ..... عروة الباقي 360

الحسين 40، 310، 311، العلاء بن رزين 268، 269،

313، 384، 386، 387، 399 عليّ بن إبراهيم 268، 269،

صفوان بن يحيى 273 ..... 274، 310

الطباطبائي السيد اليزدي 285، عليّ بن جعفر 333

287، 372 عليّ بن الحسن 266

الطوسي الشيخ الطوسي شيخ ..... عليّ بن محمّد بن الزبير 266

الطائفة محمد بن الحسن 21، عليّ بن محمد القاساني 58

266، 268، 313، 323، العيص بن القاسم 273

332، 384، 397، 399، فضالة بن أيّوب 406269 الفضل بن شاذان 269

العباس 360 الفضل بن يسار 310

العباس بن هلال 387 القاسم بن يحيى 276

عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه ..... الكاشاني، محمد محسن 52

ميمون 332، 335 الكركي المحقق الثاني 190

عبد الرحمن بن الحجاج 269، 270 الكشي 313

عبد الرحيم بن روح القصير ..... الكليني، محمد بن يعقوب 268،

الأسدي 386، 269405، 271، 274، 310

عبد الكريم بن عمرو الخثعمي 308 المحقق الحلّي 18، 19، 21، 28

عبد اللَّه بن أبي يعفور 309، المحقق الخراساني الآخوند

318، 322، 331، 339، 355 الخراساني المحقق المعاصر 53،

عبد اللَّه بن بكير 306 ..... 61، 65، 74، 79، 81، 93، 107،

عبد المطلب 386 ..... 124، 139، 149، 165، 171،

عثمان بن عيسى 275 ..... 176، 180، 198، 201، 207،

ص: 426

216، 217، 218، 220، 404 النائيني المحقق النائيني بعض

محمد بن إسماعيل 269 أعاظم العصر 19، 71، 83،

محمد بن الحسين 274 ..... 90، 92، 94، 109، 119، 120،

محمد بن حكيم الخثعمي 384، ..... 125، 149، 161، 174، 182،

385، 397، 399، 408 ..... 196، 200، 212، 217، 223،

محمد بن مسلم 57، 268، ..... 237، 259، 298، 355، 365،

269، 310، 330، 338، 409 ..... 407، 408

محمد بن مكي الشهيد الأوّل 385 النجاشي 313، 366

محمد بن منصور 314 النراقي، المولى أحمد 121، 282

محمد بن يحيى 274 هارون بن مسلم 278

مسعدة بن صدقة 278 والد الشيخ البهائي 7

معاوية بن عمّار 395 وليد بن عقبة 151

المفيد الشيخ المفيد 308، 323، 386 يونس بن يعقوب 265، 266

ص: 427

5- فهرس الكتب

الاختصاص ..... 386، 405

تحف العقول ..... 394

تمهيد القواعد ..... 148

التهذيب تهذيب الأحكام ..... 395

جواهر الكلام ..... 319

حاشية الآخوند على الرسائل ..... 107، 139

حاشية المحقق الهمداني على الرسائل ..... 107

الخصال ..... 57، 229

الخلاف ..... 385، 397

دُرر الفوائد ..... 131

دعائم الإسلام ..... 269، 386، 405

الرسائل فرائد الاصول ..... 29، 30، 122

العروة الوثقى ..... 285، 372، 408

علل الشرائع ..... 40

عوائد الأيّام ..... 282

ص: 428

الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام فقه الرضوي ..... 311، 313، 314، 387، .....

388، 395

الفقيه من لا يحضره الفقيه ..... 394

قرب الإسناد ..... 333

القواعد و الفوائد ..... 385، 398

كفاية الاصول ..... 61، 140، 141، 178

مرآة العقول ..... 324

مستدرك الوسائل ..... 386

مصباح الفقيه ..... 107، 182

معارج الاصول ..... 18، 19

المعتبر ..... 181

المقنع (للصدوق) ..... 311

النهاية (للطوسي) ..... 397، 406

الوافي ..... 307، 324

الوسائل وسائل الشيعة ..... 267، 324

الهداية ..... 311

ص: 429

6- مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم.

«أ»

2- ..... أجود التقريرات، السيد أبو القاسم ابن السيد عليّ أكبر الموسوي الخوئي (1317- .....

1413 ه)، قم، مكتبة المصطفوي.

3- الاختصاص، المنسوب إلى أبي عبد اللَّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

* اختيار معرفة الرجال رجال الكشي.

4- إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف ابن المطهّر (648- 726 ه)، تحقيق فارس الحسّون، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410 ه

5- الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد، أبو عبد اللَّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (م 413 ه)، الطبعة الثالثة، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1399 ه

6- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن

ص: 430

المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الثالثة، 4 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390 ه.

7- اسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري (م 630 ه)، 5 مجلدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي

* الأسفار الحكمة المتعالية

8- الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني (م 852 ه)، 4 مجلّدات، بيروت، دار صادر، «بالأُوفست عن الطبعة الاولى، مصر، مطبعة السعادة، 1328 ه».

9- الأعلام، خير الدين الزركلي (م 1396 ه)، الطبعة السادسة، 8 مجلّدات، دار العلم للملايين، 1984 م.

10- إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548 ه)، الطبعة الثالثة، طهران، دار الكتب الإسلامية.

11- أعيان الشيعة، سيد محسن بن عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي الشقرائي (1284- 1371 ه)، إعداد السيد حسن الأمين، الطبعة الخامسة، 10 مجلّدات، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1403 ه.

12- أمل الآمل في علماء جبل عامل، شيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (1033- 1104 ه)، إعداد السيد أحمد الحسيني، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، دار الكتاب الإسلامي، 1362 ه. ش، «بالأُوفست عن الطبعة الاولى، بغداد مكتبة الأندلس».

13- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409 ه)، مجلّدان، قم، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1414 ه.

14- أوثق الوسائل في شرح الرسائل، العلّامة المحقق الميرزا موسى بن جعفر بن المولى أحمد التبريزي (م 1305 ه)، الطبعة الحجرية، طهران، دار المعارف الإسلامية.

ص: 431

«ب»

15- بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمّة الأطهار، العلّامة محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1037- 1110 ه)، الطبعة الثالثة، 110 مجلدٍ، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ه.

16- بحر الفوائد في شرح الفوائد، العلّامة ميرزا محمد حسين الآشتياني (م 1319 ه) الطبعة الحجرية، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1403 ه.

17- البداية و النهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (701- 744 ه) إعداد عليّ شيري، الطبعة الاولى، 14 جزءاً في 7 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1408

18- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد الحسيني البحراني (م 1107 ه)، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب العلمية، 1393 ه.

19- بصائر الدرجات، أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفّار (م 290 ه)، تحقيق الميرزا محسن كوچه باغي، الطبعة الثانية، 1391 ه.

20- بُلغة المحدّثين، الشيخ سليمان الماحوزي (م 1121 ه)، قم، مطبعة سيد الشهداء عليه السلام، 1412 ه.

«ت»

21- تاريخ بغداد أو مدينة السلام، أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي (م 464 ه)، 13 مجلّداً، بيروت، دار الكتب العلمية.

22- التحرير الطاوسي المستخرج من كتاب حلّ الإشكال، الشيخ حسن بن زين الدين بن عليّ صاحب المعالم (م 1011 ه)، تحقيق فاضل الجواهري، الطبعة الاولى، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1411 ه.

23- تحف العقول عن آل الرسول عليهم السلام، أبو محمد بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحراني (م 381 ه)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه.

24- تذكرة الفقهاء، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648-

ص: 432

726 ه)، مجلّدان، طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1388 ه، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

25- تفسير الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (م 310 ه)، 30 جزءاً في 12 مجلّداً، بيروت دار المعرفة، 1403 ه، «بالأُوفست عن طبعته الاولى، بولاق، المطبعة الأميرية، 1323- 1330 ه».

26- تفسير القمي، أبو الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي (م 307 ه)، إعداد السيد الطيب الموسوي الجزائري، الطبعة الثالثة، مجلّدان، قم، دار الكتاب، 1404 ه.

27- تفسير مجمع البيان، أبو عليّ أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (م 548 ه)، تحقيق الميرزا أبي الحسن الشعراني، الطبعة الخامسة، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، طهران، المكتبة الإسلامية، 1395 ه.

28- تكملة أمل الآمل، السيد حسن الصدر (13541272 ه)، تحقيق السيد أحمد الحسيني، الطبعة الاولى، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1406 ه.

29- تمهيد القواعد، الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي (911- 965 ه)، المطبوع مع «الذكرى» للشهيد الأوّل، قم، مكتبة بصيرتي، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

30- التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، جمال الدين المقداد بن عبد اللَّه السيوري الحلّي المعروف بالفاضل المقداد (م 826 ه)، إعداد السيد عبد اللطيف الكوهكمري، الطبعة الاولى، 4 مجلّدات، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1404 ه.

31- تنقيح المقال في علم الرجال، الشيخ عبد اللَّه بن محمّد حسن المامقاني (1290- 1351 ه)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف، المطبعة المرتضوية، 1352 ه».

32- تهذيب الأحكام، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الثالثة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364 ه. ش.

ص: 433

33- تهذيب الاصول، تقريراً لبحث الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409 ه)، بقلم الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي 1405 ه.

34- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجّاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزّي (654- 742 ه)، تحقيق بشّار عوّاد، الطبعة الاولى، 35 مجلّداً، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1400- 1413 ه.

«ج»

35- جامع الاصول في أحاديث الرسول، أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد ابن محمد المعروف بابن الأثير الجزري (م 606 ه)، تحقيق عبد القادر الأرناووط، الطبعة الثانية، 13 مجلداً، بيروت، دار الفكر، 1403 ه.

36- جامع الرواة و إزاحة الاشتباهات عن الطرق و الأسناد، محمد بن عليّ الأردبيلي (م 1101 ه)، مجلّدان، بيروت، دار الأضواء، 1403 ه.

37- جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقّق الثاني عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي (868- 940 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، 13 مجلّداً، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408- 1411 ه.

38- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي (م 1266 ه)، إعداد عدة من الفضلاء، الطبعة السادسة، 43 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1398 ه.

39- الجوهر النضيد في شرح كتاب التجريد، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726 ه)، طهران، 1311 ه.

«ح»

40- الحاشية على كفاية الاصول، تقريراً لبحث الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (1291- 1380 ه)، بقلم الشيخ بهاء الدين الحجتي، مجلدان، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة أنصاريان، 1412 ه.

41- حاشية كتاب فرائد الاصول، الآخوند الخراساني المولى محمد كاظم بن حسين

ص: 434

الهروي (1255- 1329 ه)، قم، مكتبة بصيرتي.

42- حاشية المحقق الهمداني على الرسائل، الحاج آقا رضا بن محمد هادي الهمداني النجفي (م 1322 ه)، الطبعة الحجرية.

43- حاشية المكاسب، العلّامة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337 ه)، الطبعة الحجرية، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1378 ه.

44- حاشية المكاسب، العلّامة المحقق الشيخ محمد حسين الغروي الأصبهاني (1296- 1361 ه)، الطبعة الثانية، مجلدان، قم، مطبعة الغدير، 1408 ه.

45- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (1107- 1186 ه)، 23 مجلداً، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، قم مؤسسة النشر الإسلامي، 1406 ه.

46- حقائق الاصول، السيد محسن الطباطبائي الحكيم (1306- 1390 ه)، قم، مكتبة بصيرتي، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف المطبعة العلمية 1372 ه».

47- الحكمة المتعالية «الأسفار»، محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين (م 1050 ه)، 10 مجلدات، قم، مكتبة المصطفوي.

48- حلية الأولياء و طبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه الأصبهاني (م 430 ه)، الطبعة الخامسة، 10 مجلدات، بيروت، دار الكتاب العربي، 1407 ه «بالأُوفست عن طبعة دار الريان بمصر».

«خ»

49- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف ابن المطهّر (648- 726 ه)، إعداد السيد محمد صادق بحر العلوم، قم، الرضي، 1402 ه.

50- الخلاف، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، 3 مجلّدات، قم، إسماعيليان.

ص: 435

«د»

51- دُرر الفوائد، الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي المهرجردي الميبدي (1276- 1355 ه)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1408 ه.

52- دُرر الفوائد، الشيخ محمد تقي الآملي (1304- 1391 ه)، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة إسماعيليان.

53- الدُرّ المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911 ه)، الطبعة الاولى، 8 مجلّدات، بيروت، دار الفكر، 1403 ه.

54- الدُرّة النجفية «منظومة في الفقه»، العلّامة السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي (1155- 1212 ه)، قم، مكتبة المفيد، 1414 ه، «بالأُوفست عن النجف، مطبعة النعمان».

«ذ»

55- الذريعة إلى اصول الشريعة، أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى و علم الهدى (355- 436 ه)، تحقيق أبو القاسم گرجي، الطبعة الاولى، مجلدان، طهران، جامعة طهران، 1348 ه. ش.

«ر»

56- رجال ابن داود، تقي الدين الحسن بن عليّ بن داود الحلي (م 707 ه)، إعداد السيد محمد صادق آل بحر العلوم، قم، منشورات الشريف الرضي، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1392 ه».

* رجال السيد بحر العلوم الفوائد الرجالية.

57- رجال الطوسي، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، الطبعة الاولى، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1380 ه.

* رجال العلّامة خلاصة الأقوال في معرفة الرجال.

58- رجال الكشي، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي، (385- 460 ه)، إعداد حسن المصطفوي، الطبعة الاولى، مشهد المقدسة،

ص: 436

جامعة مشهد، 1348 ه. ش.

59- رجال النجاشي، أبو العباس أحمد بن عليّ بن أحمد النجاشي (372- 450 ه)، تحقيق السيد موسى الشبيري الزنجاني، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه.

60- رسائل، الشيخ الرئيس أبو عليّ حسين بن عبد اللَّه بن سينا (370- 427 ه)، قم، نشر مكتبة البيدار، 1400 ه.

* الرسائل للشيخ الأعظم الأنصاري فرائد الاصول.

61- الرسائل الفشاركيّة، السيد محمد الطباطبائي الفشاركي (م 1316 ه)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1413 ه.

62- رياض العلماء و حياض الفضلاء، الميرزا عبد اللَّه الأفندي الأصفهاني (1067- حوالي 1134 ه)، إعداد السيّد أحمد الحسيني، الطبعة الاولى، 6 مجلّدات، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1401 ه.

63- ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية أو اللقب، الميرزا محمد عليّ المدرّس التبريزي (1296- 1373 ه)، الطبعة الثالثة، 8 مجلّدات، تبريز، مكتبة خيّام.

«س»

64- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي (م 598 ه)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410- 1411 ه.

65- سفينة البحار، الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1294- 1359 ه)، مجلّدان، طهران، مكتبة سنائي.

66- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (م 275 ه)، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، 4 مجلّدات، دار إحياء السنة النبوية.

67- سنن ابن ماجة، أبو عبد اللَّه محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (م 275 ه)، تحقيق

ص: 437

فؤاد عبد الباقي، مجلدان، بيروت، دار الكتب العلمية.

68- سنن البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي (384- 458 ه)، 10 مجلّدات، بيروت، دار المعرفة، «بالأُوفست عن طبعة حيدرآباد الدكن».

69- سنن الدارمي، أبو محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن السمرقندي الدارمي (181- 255 ه)، مجلّدان، بيروت، دار الفكر، 1398 ه.

70- سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (214- 303 ه)، 8 مجلّدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

71- سير أعلام النبلاء، أبو عبد اللَّه شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (م 748 ه)، تحقيق عدة من الفضلاء، الطبعة السابعة، 25 مجلّداً، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1410 ه.

«ش»

72- شرح الإشارات و التنبيهات، المحقق الطوسي محمد بن محمد بن الحسن (597- 672 ه)، 3 مجلّدات، مركز نشر الكتاب، 1404 ه.

73- شرح الشافية، الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي (م حوالي 688 ه)، تحقيق محمد نور الحسن و محمد الزفزاف و محمد محيى الدين عبد الحميد، 4 مجلّدات، بيروت، دار الكتب العلمية، 1395 ه.

74- شرح الشمسية، قطب الدين محمد بن محمد الرازي البويهي (694- 766 ه)، إيران، الطبعة الحجرية، 1304 ه.

75- شرح المطالع، قطب الدين الرازي (م 766 ه)، قم، مكتبة الكتبي النجفي.

76- شرح المقاصد، مسعود بن عمر بن عبد اللَّه المعروف بسعد الدين التفتازاني (م 793 ه)، تحقيق عبد الرحمن عميرة، الطبعة الاولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الرضي، 1370- 1371 ه. ش، «بالأُوفست عن طبعته السابقة، مصر، 1409 ه».

77- شرح المنظومة، المولى هادي بن مهدي السبزواري (1212- 1289 ه)، الطبعة

ص: 438

السادسة، قم، مكتبة العلّامة، 1369 ه ش.

78- شرح المواقف، السيد الشريف عليّ بن محمد الجرجاني (م 816 ه)، إعداد السيد محمد بدر الدين النعساني، الطبعة الاولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الرضي، 1412 ه، «بالأُوفست عن طبعة مصر، 1325 ه».

79- شرح نهج البلاغة، عز الدين عبد الحميد بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي (م 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 20 جزء في 10 مجلّدات، قم، إسماعيليان، «بالأُوفست عن طبعته الاولى، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1378 ه».

80- الشفاء، الشيخ الرئيس أبو عليّ حسين بن عبد اللَّه بن سينا (370- 427 ه)، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1405 ه

81- شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام، المولى عبد الرزاق بن علي بن الحسين اللاهيجي (م 1051 ه)، أصفهان، نشر مهدوي، الطبعة الحجرية.

82- الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين (م 1050 ه)، تعليق و تصحيح السيد جمال الدين آشتياني، الطبعة الثانية، مركز نشر دانشگاهى، 1360 ه. ش.

«ص»

83- الصحاح، إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393 ه)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار، الطبعة الثانية، 6 مجلّدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1399 ه، «بالأُوفست عن طبعته الاولى بالقاهرة».

84- صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261 ه)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثانية، 5 مجلّدات، بيروت، دار الفكر، 1398 ه، «بالأُوفست عن طبعته السابقة».

«ط»

85- طبقات أعلام الشيعة، الشيخ محمد محسن آغا بزرگ الطهراني (1293- 1389

ص: 439

ه)، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي.

86- طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال، السيد عليّ أصغر ابن السيد محمد شفيع الجابلقي البروجردي (م 1313 ه)، إعداد السيد مهدي الرجائي، الطبعة الاولى، مجلّدان، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1410 ه.

«ع»

87- العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (م 1337 ه)، مجلّدان، إيران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1399 ه.

88- عدّة الاصول، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، الطبعة الحجرية.

89- علل الشرائع، أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه)، الطبعة الاولى، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية 1386 ه.

90- عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، محمد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور (م أوائل القرن العاشر)، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الاولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة سيد الشهداء، 1403- 1405 ه.

«غ»

91- الغارات أو الاستنفار و الغارات، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد المعروف بابن هلال الثقفي (م 283 ه)، تحقيق السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، الطبعة الاولى، بيروت، دار الأضواء، 1407 ه.

92- الغدير في الكتاب و السنة و الأدب، العلّامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني (1320- 1390 ه)، 11 مجلّداً، طهران و بيروت، دار الكتب الإسلامية و دار الكتب العربي، 1372 و 1372 ه.

93- غنية النزوع إلى علمي الاصول و الفروع، أبو المكارم السيد حمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي (511- 585 ه)، ضمن «الجوامع الفقهية»، قم، مكتبة آية

ص: 440

اللَّه المرعشي، 1404 ه، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

«ف»

94- فتح العزيز في شرح الوجيز، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني (577- 623 ه)، المطبوع مع «المجموع شرح المهذّب»، 20 مجلّداً، بيروت، دار الفكر.

95- فرائد الاصول، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي (1214- 1281 ه)، خمس رسائل في مجلّد واحد، الطبعة الحجرية، تبريز، 1314 ه.

96- الفصول الغروية في الاصول الفقهية، الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250 ه)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ه، «بالأُوفست عن الطبعة الحجرية».

97- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، مشهد المقدسة، المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام، 1406 ه.

98- الفقيه، «كتاب مَن لا يحضره الفقيه»، أبو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، 4 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390 ه.

99- فوائد الاصول، الشيخ محمد عليّ الكاظمي الخراساني (1309- 1365 ه)، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (م 1355 ه)، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه.

100- الفوائد الاصولية، العلّامة السيد محمد بحر العلوم الطباطبائي (1155- 1212 ه) الطبعة الحجرية، طهران.

101- الفوائد الرجالية، السيد محمد المهدي بحر العلوم الطباطبائي (م 1212 ه)، تحقيق محمد صادق بحر العلوم و حسين بحر العلوم، 4 مجلّدات، طهران، مكتبة الصادق، 1363 ه. ش، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف.

ص: 441

102- الفوائد الرضوية في أحوال علماء المذهب الجعفرية، الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1294- 1359 ه)، مجلدان، طهران، 1367 ه.

103- الفهرست، أبو جعفر محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (م 460 ه)، إعداد السيد محمد صادق بحر العلوم، قم، منشورات الرضي.

104- الفهرست، أبو الفرج محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم (م 385 ه)، تحقيق رضا تجدد، طهران.

«ق»

105- قاموس الرجال، الشيخ محمد تقي التستري (1320- 1415 ه)، الطبعة الاولى، 11 مجلّداً، طهران، مركز نشر الكتاب، 1379- 1391 ه.

106- قرب الإسناد، أبو العباس عبد اللَّه بن جعفر الحميري القمي (م بعد 304 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1413 ه.

107- القواعد و الفوائد، الشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي (734- 786 ه)، تحقيق عبد الهادي الحكيم، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، مكتبة المفيد، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1980 م.

108- قوانين الاصول، المحقق ميرزا أبو القاسم القمي بن المولى محمد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمي (1151- 1231 ه)، الطبعة الحجرية، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378 ه.

«ك»

109- الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329 ه)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1388 ه.

110- كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409 ه)، 5 مجلّدات، قم، مؤسسة إسماعيليان.

ص: 442

111- كتاب الخلل في الصلاة، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409 ه)، قم، مطبعة مهر.

112- كتاب الطهارة، الحاج آقا رضا ابن الآقا محمد هادي المعروف بالفقيه الهمداني (م 1322 ه)، طهران، مكتبة الصدر، 1353 ه.

113- كتاب الطهارة، الشيخ الأعظم مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي (1214- 1281 ه)، طهران، 1298 ه.

* كتاب من لا يحضره الفقيه الفقيه.

114- كشف الغطاء عن خفيّات مبهمات الشريعة الغرّاء، الشيخ جعفر بن خضر، المعروف بكاشف الغطاء (م 1227 ه)، أصفهان، منشورات المهدوي.

115- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلي جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر (م 726 ه)، تحقيق حسن حسن زاده الآملي، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه.

116- كفاية الاصول، الآخوند الخراساني المولى محمد كاظم بن حسين الهروي (1255- 1329 ه)، إعداد مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1409 ه.

117- الكنى و الألقاب، الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1294- 1351 ه)، 3 مجلّدات، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1376 ه.

«ل»

118- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، جلال الدين عبد الرحمن بن أبو بكر السيوطي (م 911 ه)، مجلّدان، بيروت، دار المعرفة.

119- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (م 711 ه)، 15 مجلّداً، بيروت، دار صادر، «بالأُوفست عن طبعة البولاق بمصر».

120- لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرّتي العين، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني (1107- 1186 ه)، تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم، الطبعة الثانية، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالأُوفست عن طبعته السابقة».

ص: 443

«م»

121- مبسوط السرخسي، شمس الدين السرخسي الحنفي محمد بن أحمد بن أبي سهل (م 483 ه)، 30 جزءاً في 15 مجلّداً، بيروت، دار المعرفة، 1406 ه، «بالأُوفست عن طبعته السابقة، 1331 ه».

122- مجمع البحرين و مطلع النيّرين، فخر الدين بن محمد عليّ بن أحمد بن طريح (979- 1087 ه)، 6 أجزاء في 3 مجلّدات، طهران، المكتبة المرتضوية، 1395 ه.

* مجمع البيان تفسير مجمع البيان.

123- مجمع الرجال، زكي الدين المولى عناية اللَّه عليّ القهپائي، علّق عليه السيد ضياء الدين، قم، مؤسسة إسماعيليان.

124- المجموع شرح المهذّب، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي (م 676 ه)، 20 مجلّداً، بيروت، دار الفكر.

125- المحاسن، أبو جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي (م 274/ 280 ه)، تحقيق جلال الدين الحسيني المشتهر بالمحدّث الأرموي، الطبعة الثانية، قم، دار الكتب الإسلامية.

126- مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف ابن المطهّر (648- 726 ه)، طهران، مكتبة نينوى الحديثة، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية، 1324 ه».

127- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلّامة محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1037- 1110 ه)، إعداد هاشم الرسولي و محسن الحسيني الأميني، الطبعة الاولى، 26 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1404- 1411 ه.

128- مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري (1254- 1320 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث، الطبعة الاولى، 20 مجلداً، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1407 ه.

ص: 444

129- مستطرفات السرائر، أبو عبد اللَّه محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلّي (543- 598 ه)، تحقيق مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، الطبعة الاولى، قم، مدرسة الإمام الهادي عليه السلام، 1408 ه.

130- مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم (1306- 1390 ه)، الطبعة الخامسة، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1411 ه.

131- مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (م 1244 ه)، مجلّدان، قم، دار الكتب العلمية، «بالأُوفست عن طبعة النجف الأشرف، مطبعة الآداب».

132- مسند أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (164- 241 ه)، 6 مجلّدات، مصر، المطبعة الميمنية، 1313 ه.

133- مطارح الأنظار، العلّامة أبو القاسم كلانتري (1236- 1316 ه)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

134- المطول «كتاب المطول في شرح تلخيص المفتاح»، مسعود بن عمر بن عبد اللَّه المعروف بسعد الدين التفتازاني (م 793 ه)، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1374 ه.

135- معارج الاصول، المحقق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهُذَلي (602- 676 ه)، إعداد السيد محمد حسين الرضوي، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1403 ه.

136- معارف الرجال في تراجم العلماء و الادباء، الشيخ محمد حرز الدين (1273 1365 ه)، علّق عليه محمد حسين حرز الدين، 3 مجلّدات، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1405 ه.

137- معالم الدين و ملاذ المجتهدين، أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (م 1011 ه)، قم، الرضي.

138- معالم العلماء، أبو جعفر محمد بن عليّ بن شهرآشوب المازندراني (م 588 ه)،

ص: 445

إعداد السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1380 ه.

139- المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلّي نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهُذَلي (602- 676 ه)، مجلّدان، قم، مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام، 1364 ه. ش.

140- معجم رجال الحديث و تفصيل طبقات الرواة، السيد أبو القاسم ابن السيد عليّ أكبر الموسوي الخوئي (1317- 1413 ه)، الطبعة الثالثة، 23 مجلّداً، بيروت، دار الزهراء للطباعة و النشر، 1403 ه.

141- المغني، أبو محمد عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة (م 620 ه)، 12 مجلّداً، بيروت، دار الكتاب العربي

142- مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة، السيد محمد جواد الحسيني العاملي (م حوالي 1227 ه)، 10 مجلّدات، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

143- مقابس الأنوار و نفائس الأسرار في أحكام النبي المختار و عترته الأطهار عليهم السلام، الشيخ أسد اللَّه بن إسماعيل التستري الكاظمي (م 1337 ه)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

144- المقنع، أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه)، طهران و قم، المكتبة الإسلامية و مؤسسة المطبوعات الدينية، 1377 ه.

145- المكاسب، الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري الدزفولي (1214- 1281 ه)، الطبعة الحجرية، تبريز، 1375 ه.

146- مناقب آل أبي طالب، أبو جعفر رشيد الدين محمد بن عليّ بن شهرآشوب المازندراني (م 588 ه)، إعداد محمد حسين دانش الآشتياني و السيد هاشم الرسولي المحلاتي، 4 مجلّدات، قم مكتبة العلّامة.

ص: 446

147- مناهج الأحكام و الاصول، المولى أحمد بن المولى مهدي بن أبي ذر النراقي (م 1244 ه)، الطبعة الحجرية.

148- مناهج الوصول إلى علم الاصول، الإمام الخميني قدس سره (1320- 1409 ه)، قم، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني قدس سره، 1414 ه.

149- منتهى المطلب في تحقيق المذهب، العلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف ابن المطهّر (648- 726 ه)، الطبعة الحجرية، مجلّدان، ايران، 1333 ه.

150- منية الطالب «في شرح المكاسب»، الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري، تقريرات أبحاث استاذه آية اللَّه الشيخ محمد حسين الغروي النائيني (م 1355 ه)، مجلّدان، طهران و النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، و المكتبة الرضوية.

«ن»

151- نقد الرجال، السيد مصطفى بن حسين الحسيني التفرشي (كان حياً في 1044 ه)، الطبعة الاولى الحجرية، طهران، 1318 ه.

152- النهاية في غريب الحديث و الأثر، أبو جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه)، قم، قدس، «بالأُوفست عن طبعة بيروت».

153- نهاية الأفكار، الشيخ محمد تقي بن عبد الكريم البروجردي النجفي، تقريرات بحث استاذه آية اللَّه آغا ضياء الدين العراقي (م 1361 ه)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ه.

154- نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الأصفهاني (م 1361 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الاولى، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1414 ه.

«ه»

155- الهداية، أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381 ه)، الطبعة الاولى، طهران و قم، المكتبة الإسلامية و مؤسسة

ص: 447

المطبوعات الدينية، 1377 ه.

156- هداية المسترشدين في شرح معالم الدين، الشيخ محمد تقي الأصفهاني (م 1248 ه)، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، «بالأُوفست عن طبعته الحجرية».

157- هدية الأحباب في ذكر المعروفين بالكنى و الألقاب و الأنساب، الشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1294- 1359 ه)، طهران، أمير كبير، 1363 ه. ش.

«و»

158- الوافي، محمد بن المرتضى المولى محسن المعروف بالفيض الكاشاني (1007 1091 ه)، 3 مجلّدات، طهران، المكتبة الإسلامية.

159- الوافي بالوفيات، صلاح الدّين خليل بن أيبك الصفدي (م 764 ه)، بيروت، دار صادر، 1411 ه.

160- الوافية، الفاضل عبد اللَّه التوني (م 1071 ه)، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1412 ه.

161- وسائل الشيعة «تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة»، الشيخ محمد ابن الحسن الحرّ العاملي (1033- 1104 ه)، 20 مجلّداً، طهران، المكتبة الإسلامية، 1383- 1389 ه.

ص: 448

7- فهرس الموضوعات

مقدمة التحقيق

فصل: تعريف الاستصحاب

ينبغي التنبيه على أمرين: ... 4

الأمر الأوّل: الاحتمالات التي في الباب ... 5

الأمر الثاني: الاستصحاب ليس من الأدلّة الأربعة ... 6

تنبيه في ضابط المسألة الاصولية و أنَّ الاستصحاب منها ... 9

فصل: حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية

الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري و جوابها ... 12

تحقيق الحال في المقام ... 15

فصل: حول التفصيل بين الشكّ في الرافع و المقتضي

ذكر أخبار الاستصحاب ... 21

منها: صحيحة زرارة ... 21

تقريبات الأعلام في اختصاص حجية الاستصحاب بالشكّ في الرافع ... 29

ص: 449

تحقيق الحقّ في الشكّ في الرافع و المقتضي ... 32

بيان جواب تقريب المولى الهمداني ... 34

تقريب آخر لشمول الأدلة للشكّ في المقتضي ... 36

تأييد اختصاصه بالشكّ في الرافع و الجواب عنه ... 37

منها: صحيحة زرارة الثانية ... 40

مورد الاستدلال بالرواية و احتمالاته ... 41

الإشكال على أقوى الاحتمالات و الجواب عنه ... 43

إشكال آخر على الاحتمال المتصوّر ... 45

دفع الإشكال ... 47

منها: صحيحة ثالثة لزرارة ... 49

بيان احتمالات الرواية ... 51

بيان أظهر الاحتمالات في الرواية ... 54

منها: موثقة إسحاق بن عمّار ... 56

منها: رواية محمد بن مسلم ... 57

منها: مكاتبة عليّ بن محمد القاساني ... 58

تذييل: حول الاستدلال بأدلّة الحلّية و الطهارة على الاستصحاب و الجواب عنه ... 60

فصل: الأحكام الوضعية و تحقيق ماهيتها

الأمر الأوّل: تقسيم الحكم إلى تكليفي و وضعي ... 65

الأمر الثاني: بعض موارد الخلط بين التكوين و التشريع ... 68

توهّم عدم قبول السببية للجعل و دفعه ... 70

الأمر الثالث: إنَّ الملكية ليست من المقولات حقيقة ... 72

أقسام الوضعيّات ... 73

ص: 450

تنبيهات

التنبيه الأوّل: في اعتبار فعلية اليقين و الشكّ في الاستصحاب ... 77

إشكال جريان الاستصحاب في مؤدّيات الأمارات و جوابه ... 81

التنبيه الثاني: في أقسام استصحاب الكلّي ... 83

القسم الأوّل من استصحاب الكلّي ... 84

القسم الثاني من استصحاب الكلّي ... 84

الجواب عن الشبهة العبائية ... 87

القسم الثالث من استصحاب الكلّي ... 91

تذييل: حول أصالة عدم التذكية ... 95

حكم الشبهات الحكمية من جهة الشكّ في القابليّة ... 95

تحقيق القضايا السالبة ... 96

بيان مناط الصدق و الكذب في القضايا ... 101

حال أصالة عدم التذكية ... 104

كلام المولى الهمداني و جوابه ... 107

حكم الشبهات الموضوعية ... 110

التنبيه الثالث: استصحاب المتصرّمات ... 112

تحقيق المقام ... 113

استصحاب الزمانيّات ... 118

شبهة النراقي ... 121

جواب الشيخ عن الشبهة و ما فيه ... 122

جواب المحقق الخراساني و ردّه ... 124

جواب المحقق النائيني و الإشكال عليه ... 125

جواب شيخنا العلّامة و ما فيه ... 128

التحقيق في الجواب عن الشبهة ... 130

ص: 451

التنبيه الرابع: الاستصحاب التعليقي ... 131

كلام بعض الأعاظم و ما فيه ... 135

تذنيب: حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي ... 139

حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي ... 143

التنبيه الخامس: استصحاب أحكام سائر الشرائع ... 146

التنبيه السادس: في الاصول المثبتة ... 149

حال مثبتات الاصول ... 152

بيان الفرق بين الآثار الشرعية و غيرها ... 156

تتميم: حول الوسائط الخفية ... 158

حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ ... 160

تذييل: يذكر فيه امور: ... 163

الأمر الأوّل: إنَّ استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت ... 163

الأمر الثاني: استصحاب الأحكام الوضعية ... 165

الأمر الثالث: جريان الأصل بلحاظ الأثر العدمي ... 168

الأمر الرابع: أثر الحكم الأعم من الواقعي و الظاهري ... 169

التنبيه السابع: في مجهولي التاريخ ... 170

ضابط اتصال زمان الشكّ باليقين ... 172

إشكال المحقق الخراساني في مجهولي التاريخ و جوابه ... 176

تقرير إشكال شيخنا العلّامة في المجهولي التاريخ و جوابه ... 177

تكميل: فروض ترتّب الأثر على وجود الحادثين ... 180

تحقيق الحال في المقام ... 182

فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ... 185

حول كلام بعض العلماء و ما فيه ... 187

التنبيه الثامن: في موارد التمسك بالعموم، و استصحاب حكم المخصّص ... 188

ص: 452

تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل و الأثناء ... 197

التنبيه التاسع: المراد من الشكّ في الأدلّة ... 200

خاتمة

يعتبر في جريان الاستصحاب امور:

الأمر الأوّل: وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها ... 203

الإشكال على الشيخ الأعظم في مسألة بقاء الموضوع ... 204

تمسك الشيخ الأعظم بالدليل العقلي لمدّعاه و ما فيه ... 206

توجيه شيخنا العلّامة كلام الشيخ و ما يرد عليه ... 208

إنَّ الاستصحاب لا يجدي في إحراز موضوع القضية المستصحبة ... 210

الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم ... 212

هل يؤخذ الموضوع من العرف أو لا؟ ... 213

المراد من العرف ليس العرف المسامح ... 218

الأمر الثاني: أنَّ أخبار الباب هل تختصّ بالاستصحاب أو تعم غيره؟ ... 221

إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين ... 222

تقرير بعض الأجلة كلام الشيخ و إقامة البرهان عليه ... 223

الجواب عنهما ... 224

كلام العلّامة الحائري قدس سره و جوابه ... 226

الأمر الثالث: تقدّم الأمارات على الاستصحاب ... 230

بيان ضابط الحكومة ... 234

حال أدلّة الاستصحاب مع سائر الأدلّة و الأدلّة بعضها مع بعض

يقع الكلام فيها في مقامات:

المقام الأوّل: في حال أدلة الاستصحاب مع أدلّة الأمارات ... 239

ص: 453

المقام الثاني: وجه تقدّم الأمارات على أدلّة البراءة الشرعية ... 241

المقام الثالث: وجه تقدّم أدلّة الاستصحاب على أدلّة الحل و البراءة الشرعيتين ... 241

المقام الرابع: في تعارض الاستصحابين

القسم الأوّل: ما كان الشكّ مسبّباً عن الشكّ في الآخر ... 243

نقل كلام الشيخ الأعظم و نقده ... 247

الإشكال على ما قالوا في وجه طهارة الملاقي لبعض أطراف العلم ... 250

القسم الثاني: ما كان الشكّ فيهما ناشئاً عن أمرٍ ثالث ... 253

عدم جواز ترجيح ذي المزية بشي ء من المرجحات ... 254

بيان وجه تساقطهما ... 256

حول وجهي التخيير و الجواب عنهما ... 257

حال الاستصحاب مع سائر القواعد

يقع الكلام فيها في مباحث:

المبحث الأوّل: في قاعدة اليد ... 263

لها جهات من البحث:

الجهة الاولى: في تحقيق ماهية اليد ... 264

الجهة الثانية: الدليل على اعتبارها- و هي طوائف: ... 265

فمن الاولى- رواية يونس بن يعقوب ... 265 ..........

- صحيحتا محمد بن مسلم ... 267 ..........

- صحيحة عبد الرحمن ... 269 ..........

- صحيحة جميل بن صالح ... 271

و من الثانية- صحيحة العيص بن القاسم ... 273 ..........

- مكاتبة ابن أبي الخطاب ... 274 ..........

- صحيحة عثمان بن عيسى و حماد بن عثمان ... 274

ص: 454

و من الثالثة- رواية الحفص بن غياث ... 276 ..........

رواية مسعدة بن صدقة ... 278

الجهة الثالثة: حكم اليد على المنفعة ... 280

الجهة الرابعة: هل اليد معتبرة مع عدم علم ذي اليد و اعترافه به؟ ... 282

الجهة الخامسة: حال اليدين على شي ء واحد ... 284

حول كلام المحقق السيد الطباطبائي قدس سره و ما يرد عليه ... 285

الجهة السادسة: في إقامة الدعوى على ذي اليد و فروعها ... 296

تنبيه: الاحتجاج في أمر فدك ... 297

الجهة السابعة: في فروع العلم بسابقة اليد ... 301

الجهة الثامنة: في كون ما في اليد وقفاً سابقاً ... 302

المبحث الثاني: حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز و الفراغ ... 305

يتم ذلك في ضمن أمور:

الأمر الأوّل: في ذكر الأخبار التي تستفاد منها القاعدة الكلية ... 306

منها: موثقة محمد بن مسلم ... 306

منها: صحيحة زرارة ... 306

منها: صحيحة إسماعيل ... 307

منها: موثقة ابن أبي يعفور ... 308

منها: موثقة بكير بن أعين ... 309

منها: رواية محمد بن مسلم ... 310

منها: صحيحة زرارة و الفضيل ... 310

الأمر الثاني: أنَّ المراد من الشك في الشي ء هو الشكّ في الوجود ... 312

الأمر الثالث: أنَّ المستفاد من الروايات قاعدة واحدة و هي التجاوز ... 315

الأمر الرابع: أنَّ المراد من المحل هو المحلّ الشرعي ... 326

الأمر الخامس: هل الدخول في الغير معتبر في القاعدة أم لا؟ ... 329

ص: 455

الأمر السادس: هل المضي على نحو الرخصة أو العزيمة؟ ... 334

الأمر السابع: أنَّ القاعدة من الأمارات أو الاصول؟ ... 336

أنَّ القاعدة أصل محرز حيثي ... 342

تنبيه ... 343

الأمر الثامن: أنحاء الشكوك العارضة للمكلّف ... 345

كلام بعض المحققين و ما يريد عليه ... 348

حال الشكّ في العبادات ... 350

حال الشكّ في المعاملات ... 351

الأمر التاسع: اختصاص القاعدة بالشكّ الحادث ... 354

الأمر العاشر: وجه تقدّمها على الاستصحاب ... 355

المبحث الثالث: في حال الاستصحاب مع أصالة الصحة في فعل الغير ... 357

بسط الكلام في ضمن امور:

الأمر الأوّل: في أصالة الصحّة و دليل اعتبارها ... 358

الأمر الثاني: هل أنَّ الصحّة هي الواقعية أم لا؟ ... 361

الامر الثالث: حول اقسام الشكّ في العمل و أحكامها ... 364

الأمر الرابع: اختصاص القاعدة بما إذا شكّ في تحقق الشي ء صحيحاً ... 369

الأمر الخامس: إنَّ جريان أصالة الصحّة بعد إحراز نفس العمل ... 374

الأمر السادس: عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة ... 378

الأمر السابع: موارد تقدّم أصالة الصحّة على الاستصحاب و وجهه ... 380

المبحث الرابع: حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة ... 383

يتمّ ذلك في ضمن امور:

الأمر الأوّل: في ذكر نبذة من الأخبار الواردة فيها ... 384

الأمر الثاني: القول في التخصيص المستهجن لعمومات القرعة ... 391

الأمر الثالث: هل القرعة أمارة على الواقع أم لا؟

الأمر الرابع: هل للأدلة العامة للقرعة إطلاق من جميع الجهات أم لا؟ ... 408

الفهارس العامّة

1- الآيات الكريمة ... 413

2- الأحاديث الشريفة ... 415

3- أسماء الأنبياء و الأئمّة المعصومين عليهم السلام ... 421

4- الأعلام ... 423

5- الكتب ... 427

6- مصادر التحقيق ... 429

7- الموضوعات ... 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.