نام كتاب: الإعجاز و التحدي في القرآن الكريم
نويسنده: سيد محمد حسين طباطبائى / قاسم الهاشمى
موضوع: اعجاز
تاريخ وفات مؤلف: 1360 / 1402
زبان: عربى
تعداد جلد: 1
ناشر: موسسة الاعلمى للمطبوعات
مكان چاپ: بيروت
سال چاپ: 1423 / 2002
نوبت چاپ: اوّل
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على أفضل خلقه و أشرف بريّته أبي القاسم محمّد و على آله الطاهرين.
القرآن هو الناموس الإلهي الذي تكفل للناس بإصلاح الدين و الدنيا، و ضمن لهم سعادة الآخرة و الأولى،فكل آية من آياته منبع فيّاض بالهداية و معدن من معادن الإرشاد و الرحمة،و كما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام«القرآن عهد اللّه إلى خلقه،فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده تعالى».
و غاية النظر و التدبّر في القرآن الكريم التفكير في آياته،و التماس غرائبه،و التعمّق في أهدافه و مقاصده.
و لذا نجد أنّ المفسّرين بأجمعهم يعقدون بحثا كاملا في علوم القرآن قبل الدخول في تفسير الآيات القرآنية،و يعتبرون ذلك مفتاحا و مدخلا أساسيا في التعرف على مكنونات الآيات القرآنية،ثمّ نجدهم يفصّلون القول في بعض البحوث المهمّة في هذا الباب كبحث المحكم و المتشابه و التأويل و ذلك لأهميّته في تفسير القرآن الكريم،و لكل واحد منهم رأيه و مبناه في هذا الباب و ممّن أحسن و أجاد في هذا الباب العلاّمة الطباطبائي قدس سره فنراه قد وضع النقاط على الحروف و أوضح ما كان غامضا على المفسرين، و برزت له آراء و نظريات متعدّدة في هذا الباب استطاع من خلالها أن يرد على كل الشبهات التي وجهت على معالم القرآن الكريم و واحدة من تلك المعالم(كيفيّة جمع القرآن)(و في زمن من جمع القرآن)(و هل وقع تحريف
ص: 5
في القرآن)(و هل وقع زيادة أو نقصان في القرآن)و غيرها من الشبهات و الإثارات حول هذا المنهج المعرفي،نجده قد تصدى لكل تلك الإثارات بأجوبة وافية مقنعة و من نفس القرآن الكريم،و بإمكانكم(قرّاءنا الأعزاء) مطالعة هذه البحوث في هذا المجلد للاستفادة منها،معتقدين أن من اللازم على كل مؤمن قراءة هذه البحوث و التزوّد منها للدفاع عن كيان القرآن الكريم.
ص: 6
اعلم:أنّ دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدّي الذي أبدته هذه الآية و هي وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (البقرة23/)تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين،و هما دعوى ثبوت أصل الإعجاز و خرق العادة الجارية و دعوى أنّ القرآن مصداق من مصاديق الإعجاز و معلوم أنّ الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الأولى،و القرآن أيضا يكتفي بهذا النمط من البيان و يتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنّه يبقى الكلام على كيفيّة تحقّق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من استناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببيّة أو تخلّف و اختلاف في قانون العليّة،و القرآن يبيّن حقيقة الأمر و يزيل الشبهة فيه.
فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين:
الأولى:أنّ الإعجاز ثابت و من مصاديقه القرآن المثبت لأصل الإعجاز و لكونه منه بالتحدّي.
الثانية:أنّه ما هو حقيقة الإعجاز و كيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها و ينقض كليّتها...
لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكيّة و مدنية تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة حتّى أنّ الآية السابقة أعني قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الآية،أي من مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أنّه استدلال على النبوّة مستقيما و بلا واسطة،و الدليل عليه قوله تعالى في أوّلها: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا و لم يقل و إن كنتم في ريب من رسالة عبدنا،فجميع التحدّيات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند اللّه و الآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم و الخصوص و من أعمّها تحديا قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)، و الآية مكيّة و فيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.
ص: 7
لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكيّة و مدنية تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة حتّى أنّ الآية السابقة أعني قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الآية،أي من مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أنّه استدلال على النبوّة مستقيما و بلا واسطة،و الدليل عليه قوله تعالى في أوّلها: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا و لم يقل و إن كنتم في ريب من رسالة عبدنا،فجميع التحدّيات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند اللّه و الآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم و الخصوص و من أعمّها تحديا قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1)، و الآية مكيّة و فيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.
فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن و فصاحة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا و هم العرب العرباء من الجاهليين و المخضرمين قبل اختلاط اللسان و فساده،و قد قرع بالآية أسماع الإنس و الجن.و كذا غير البلاغة و الجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية و الأخلاق الفاضلة و الأحكام التشريعية و الأخبار المغيبة و معارف أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك،كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم،فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلاّ في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.
فالقرآن آية للبليغ في بلاغته و فصاحته،و للحكيم في حكمته،و للعالم في علمه و للاجتماعي في اجتماعه،و للمقننين في تقنينهم و للسياسيين في سياستهم،و للحكام في حكومتهم،و لجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب و الاختلاف في الحكم و العلم و البيان.
و من هنا يظهر أنّ القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازا لكل فرد من الإنس و الجن من عامّة أو خاصّة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول،فإن الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة و إدراك الزيادة8.
ص: 8
و النقيصة فيها،فلكل إنسان أن يتأمّل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثمّ يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق و النصفة،فهل يتأتى للقوّة البشريّة أن تختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن و تماثله في الحقيقة؟و هل يمكنها أن تأتي بأخلاق مبنيّة على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء و الفضيلة؟و هل يمكنها أن تشرّع أحكاما تامّة فقهيّة تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد و كلمة التقوى في كل حكم و نتيجته، و سريان الطهارة في أصله و فرعه؟و هل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب و الإتقان الغريب من رجل أمّي لم يتربّ إلاّ في حجر قوم حظهم من الإنسانيّة على مزاياها التي لا تحصى و كمالاتها التي لا تغيّا أن يرتزقوا بالغارات و الغزوات و نهيب الأموال و أن يئدوا البنات و يقتلوا الأولاد خشية إملاق و يفتخروا بالآباء و ينكحوا الأمهات و يتباهوا بالفجور و يذموا العلم و يتظاهروا بالجهل و هم على أنفتهم و حميّتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل و خطفة لكل خاطف فيوما لليمن و يوما للحبشة و يوما للروم و يوما للفرس؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهليّة.
و هل يجترئ عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثمّ يودعه أخبارا في الغيب ممّا مضى و يستقبل و فيمن خلت من الأمم و فيمن سيقدم منهم لا بالواحد و الاثنين في أبواب مختلفة من القصص و الملاحم و المغيبات المستقبلة ثمّ لا يتخلّف شيء منها عن صراط الصدق؟.
و هل يتمكّن إنسان و هو أحد أجزاء نشأة الطبيعة الماديّة،و الدار دار التحوّل و التكامل،أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني و يلقي إلى الدنيا معارف و علوما و قوانين و حكما و مواعظ و أمثالا و قصصا في كل ما دقّ و جل ثمّ لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال و النقص و هي متدرجة الوجود متفرّقة الإلقاء و فيها ما ظهر ثمّ تكرّر و فيها فروع متفرّعة على أصولها؟هذا مع ما نراه أن كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل و نقصه على حال واحدة.
فالإنسان اللبيب القادر على تعقّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكليّة و غيرها ممّا يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوّة البشريّة
ص: 9
و وراء الوسائل الطبيعيّة الماديّة و إن لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيّته و لم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن اختباره و يجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.
فإن قلت:ما الفائدة في توسعة التحدّي إلى العامّة و التعدّي عن حومة الخاصّة فإنّ العامّة سريعة الانفعال للدعوة و الإجابة لكل صنيعة و قد خضعوا لأمثال الباب و البهاء و القادياني و المسيلمة على أن ما أتوا به و استدلّوا عليه أشبه بالهجر و الهذيان منه بالكلام.
قلت:هذا هو السبيل في عموم الإعجاز و الطريق الممكن في تمييز الكمال و التقدّم في أمر يقع فيه التفاضل و السباق،فإن أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريّا و الكمالات كذلك،و النتيجة الضروريّة لهاتين المقدّمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي و النظر الصائب و يرجع من هو دون ذلك فهما و نظرا إلى صاحبه،و الفطرة حاكمة و الغريزة قاضية.
و لا يقبل شيء ممّا يناله الإنسان بقواه المدركة و يبلغه فهمه العموم و الشمول لكلّ فرد في كلّ زمان و مكان بالوصول و البلوغ و البقاء إلاّ ما هو من سنخ العلم و المعرفة على الطريقة المذكورة،فإن كلّ ما فرض آية معجزة غير العلم و المعرفة فإنّما هو موجود طبيعي أو حادث حسّي محكوم بقوانين المادّة محدود بالزمان و المكان فليس بمشهود إلاّ لبعض أفراد الإنسان دون بعض و لو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكلّ فرد منه فإنّما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة،و لو فرض اتساعه لكلّ مكان لم يمكن اتساعه لجميع الأزمنة و الأوقات.
فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكلّ فرد في كلّ مكان و في كل زمان...
ص: 10
و قد تحدّى بالعلم و المعرفة خاصّة بقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (1)،و قوله: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (2)،إلى غير ذلك من الآيات،فإنّ الإسلام كما يعلمه و يعرفه كل من سار في متن تعليماته من كليّاته التي أعطاها القرآن القرآن و جزئياته التي أرجعها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنحو قوله: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)، و قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ (4)،و غير ذلك متعرض للجليل و الدقيق من المعارف الإلهيّة«الفلسفيّة»و الأخلاق الفاضلة و القوانين الدينيّة الفرعيّة من عبادات و معاملات و سياسات و اجتماعيّات و كل ما يمسه فعل الإنسان و عمله كل ذلك على أساس الفطرة و أصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل،و يرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.
و قد بيّن بقاءها جميعا و انطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور و كرورها بقوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (5)،و قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ
ص: 11
لَحافِظُونَ (1) ،فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ و لا يقضي عليه قانون التحوّل و التكامل.
فإن قلت:قد استقرّت أنظار الباحثين عن الاجتماع و علماء التقنين اليوم على وجوب تحوّل القوانين الوضعيّة الاجتماعيّة بتحوّل الاجتماع و اختلافها باختلاف الأزمنة و الأوقات و تقدّم المدنيّة و الحضارة.
قلت:سيجيء البحث عن هذا الشأن و الجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى: كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً (2)،الآية.
و جملة القول و ملخّصه أنّ القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري و الأخلاق الفاضلة الغريزية و يدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين و الوجود،و هؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع إلغاء المعنويات من معارف التوحيد و فضائل الأخلاق،فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح،و كلمة اللّه هي العليا.3.
ص: 12
و قد تحدّى بالنبي الأميّ الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه و معناه و لم يتعلّم عند معلّم و لم يتربّ عند مربّ بقوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (1)،فقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينهم و هو أحدهم لا يتسامى في فضل و لا ينطق بعلم حتّى لم يأت بشيء من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة و هو ثلثا عمره لا يحوز تقدّما و لا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثمّ أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلت دونه ألسنة بلغائهم،ثمّ بثه في أقطار الأرض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب و فطانة.
و غاية ما أخذوه عليه:أنّه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممّن هناك من الرهبان و لم تكن أسفاره إلى الشام إلاّ مع عمّه أبي طالب قبل بلوغه و إلاّ مع ميسرة مولى خديجة و سنّه يومئذ خمسة و عشرون و هو مع من يلازمه في ليله و نهاره،و لو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف و العلوم؟ و من أين هذه الحكم و الحقائق؟و ممّن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب وكلت دونه الألسن الفصاح؟.
و ما أخذوه عليه أنّه كان يقف على قين بمكّة من أهل الروم كان يعمل
ص: 13
السيوف و يبيعها فأنزل اللّه سبحانه: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (1).
و ما قالوا عليه أنّه يتعلّم بعض ما يتعلّم من سلمان الفارسي و هو من علماء الفرس عالم بالمذاهب و الأديان مع أنّ سلمان إنّما آمن به في المدينة،و قد نزل أكثر القرآن بمكّة و فيه من جميع المعارف الكليّة و القصص ما نزلت منها بالمدينة بل أزيد فما الذي زاده إيمان سلمان و صحابته؟.
على أنّ من قرأ العهدين و تأمّل ما فيهما ثمّ رجع إلى ما قصّه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين و أممهم رأى أنّ التاريخ غير التاريخ و القصّة غير القصّة،ففيهما عثرات و خطايا لأنبياء اللّه الصالحين تنبو الفطرة،و تتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس و عقلائهم و القرآن يبرئهم منها، و فيها أمور أخرى لا يتعلّق بها معرفة حقيقيّة و لا فضيلة خلقيّة و لم يذكر القرآن منها إلاّ ما ينفع الناس في معارفهم و أخلاقهم و ترك الباقي و هو الأكثر...3.
ص: 14
و قد تحدّى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة،منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين و أممهم كقوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (1)،الآية،و قوله تعالى بعد قصّة يوسف: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (2)،و قوله تعالى في قصّة مريم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (3)،و قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (4)،إلى غير ذلك من الآيات.
و منها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ (5)،و قوله تعالى في رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكّة بعد الهجرة: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ (6)،و قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
ص: 15
اَللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ (1) ،الآية،و قوله تعالى:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ (2) ،و قوله تعالى: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ (3)،و قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (4)،و آيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين و وعيد كفّار مكّة و مشركيها.
و من هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. حَتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ (5)،و قوله تعالى: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (6)، و قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ (7)،و من هذا الباب قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (8)،و قوله تعالى: وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (9)،و قوله تعالى: وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (10)،ممّا يبتنى حقيقة القول فيها على حقائق علميّة مجهولة عند النزول حتّى كشف الغطاء عن وجهها بالأبحاث العلميّة التي وفّق الإنسان لها في هذا العصر.
و من هذا الباب(و هو من مختصّات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض و استشهاد بعضها على بعض)ما في سورة المائدة من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ7.
ص: 16
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (1) ،الآية،و ما في سورة يونس من قوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (2)،إلى آخر الآيات،و ما في سورة الروم من قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها (3)،الآية،إلى غير ذلك من الآيات التي تنبئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمة الإسلاميّة أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن.0.
ص: 17
و قد تحدّى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه،قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)فإنّ من الضروري أنّ النشأة نشأة المادّة و القانون الحاكم فيها قانون التحوّل و التكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلاّ و هو متدرّج الوجود متوجّه من الضعف إلى القوّة و من النقص إلى الكمال في ذاته و جميع توابع ذاته و لواحقه من الأفعال و الآثار و من جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحوّل و يتكامل في وجوده و أفعاله و آثاره التي منها آثاره التي يتوسّل إليها بالفكر و الإدراك،فما من واحد منّا إلاّ و يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس و لا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله و عثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأوّل،هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.
و هذا الكتاب جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجوما و قرأه على الناس قطعا قطعا في مدّة ثلاث و عشرين سنة في أحوال مختلفة و شرائط متفاوتة في مكّة و المدينة في الليل و النهار و الحضر و السفر و الحرب و السلم في يوم العسرة و في يوم الغلبة و يوم الأمن و يوم الخوف،و لإلقاء المعارف الإلهيّة و تعليم الأخلاق الفاضلة و تقنين الأحكام الدينيّة في جميع أبواب الحاجة و لا يوجد فيه أدنى اختلاف في النظم المتشابه،كتابا متشابها مثاني و لم يقع في المعارف التي
ص: 18
ألقاها و الأصول التي أعطاها اختلاف بتناقض بعضها مع بعض و تنافي شيء منها مع آخر،فالآية تفسّر الآية و البعض يبيّن البعض،و الجملة تصدّق الجملة كما قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام(ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) (1)و لو كان من عند غير اللّه لاختلف النظم في الحسن و البهاء و القول في الشداقة و البلاغة و المعنى من حيث الفساد و الصحّة و من حيث الإتقان و المتانة.
فإن قلت:هذه مجرّد دعوى لا تتكي على دليل و قد أخذ على القرآن مناقضات و إشكالات جمة ربّما ألّف فيه التأليفات،و هي إشكالات لفظيّة ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة و مناقضات معنويّة تعود إلى خطئه في آرائه و أنظاره و تعليماته،و قد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلاّ إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة و ارتضاء الفطرة السليمة.
قلت:ما أشير إليه من المناقضات و الإشكالات موجودة في كتب التفسير و غيرها مع أجوبتها و منها هذا الكتاب،فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
و لا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلاّ و هي مذكورة في مسفورات المفسّرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات و جمعوها و رتبوها و تركوا الأجوبة و أهملوها،و نعم ما قيل:لو كانت عين الحب متّهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
فإن قلت:فما تقول في النسخ الواقع في القرآن و قد نص عليه القرآن نفسه في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها (2)،و قوله: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ (3)،و هل النسخ إلاّ اختلاف في النظر لو سلّمنا أنّه ليس من قبيل المناقضة في القول؟.1.
ص: 19
قلت:النسخ كما أنّه ليس من المناقضة في القول و هو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر و الحكم و إنّما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله انطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه و عدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدّل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكما آخر، و من أوضع الشهود على هذا أنّ الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظيّة تومئ إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى:
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (1) (انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة)و كقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً إلى أن قال فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً إلى أن قال فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ (2)حيث تمّم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجّل...9.
ص: 20
و قد تحدّى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1)،و الآية مكيّة،و قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ (2)،و الآية أيضا مكيّة و فيها التحدّي بالنظم و البلاغة فإنّ ذلك هو الشأن الظاهر من شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ،فالتاريخ لا يرتاب أنّ العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدّمة عليهم و المتأخرة عنهم و وطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان و جزالة النظم و وفاء اللفظ و رعاية المقام و سهولة المنطق.و قد تحدّى عليهم القرآن بكلّ تحدّ ممكن ممّا يثير الحمية و يوقد نار الأنفة و العصبيّة،و حالهم في الغرور ببضاعتهم و الاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم ممّا لا يرتاب فيه، و قد طالت مدّة التحدّي و تمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلاّ بالتجافي و لم يزدهم إلاّ العجز و لم يكن منهم إلاّ الاستخفاء و الفرار،كما قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ
ص: 21
ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (1) .
و قد مضى من القرون و الأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا و لم يأت بما يناظره آت و لم يعارضه أحد بشيء إلاّ أخزى نفسه و افتضح في أمره.و قد ضبط النقل بعض هذه المعارضات و المناقشات،فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله:«الفيل ما الفيل و ما أدراك ما الفيل له ذنب و بيل و خرطوم طويل»و في كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية«فنولجه فيكن إيلاجا، و نخرجه منكن إخراجا»فانظر إلى هذه الهذيانات و اعتبر،و هذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى«الحمد للرحمن ربّ الأكوان،الملك الديان لك العبادة و بك المستعان اهدنا صراط الإيمان»إلى غير ذلك من التقوّلات.
فإن قلت:ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان و وضع الكلام ممّا سمحت به قريحة الإنسان؟فكيف يمكن أن يترشّح من القريحة ما لا تحيط به و الفاعل أقوى من فعله و منشئ الأثر محيط بأثره؟.
و بتقريب آخر،الإنسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالّة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعيّة إلى تفهيم الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصّة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصّة وضعيّة اعتباريّة مجعولة للإنسان،و من المحال أن يتجاوز هذه الخاصّة المترشّحة عن قريحة الإنسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة،فمن المحال حينئذ أن يتحقّق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة و إلاّ كانت غير الدلالة الوضعيّة الاعتباريّة،مضافا إلى أن التراكيب الكلاميّة لو فرض أن بينها تركيبا بالغا حد الإعجاز كان معناه أنّ كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص و الكمال و البلاغة و غيرها،و بين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها و أبلغها لا تسعه طاقة البشر،و هو التركيب المعجز، و لازمه أن يكون في كلّ معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي مع أنّ القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة و تراكيب متفرّقة،و هو في5.
ص: 22
القصص واضح لا ينكر و لو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كلّ معنى مقصود إلاّ واحد لا غير.
قلت:هاتان الشبهتان و ما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف،و معنى الصرف أنّ الإتيان بمثل القرآن أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدّي و ظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون،و لكن لا لكون التأليفات الكلاميّة التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الإنسان و فائقة على القوّة البشريّة،مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للإنسان،بل لأنّ اللّه سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها و الإتيان بمثلها بالإرادة الإلهيّة الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوّة و وقاية لحمى الرسالة.
و هذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدلّ عليه آيات التحدّي بظاهرها كقوله: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ (1)،الآية، فإنّ الجملة الأخيرة ظاهرة في أنّ الاستدلال بالتحدّي إنّما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوّله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّ نزوله إنّما هو بعلم اللّه لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (2)،و قوله تعالى: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (3)،و الصرف الذي يقولون به إنّما يدلّ على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف،لا على كون القرآن كلاما للّه نازلا من عنده،و نظير هذه الآية الآية الأخرى،و هي قوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ (4)،الآية،فإنّها ظاهرة في أنّ الذي يوجب استحالة إتيان البشر بمثل القرآن و ضعف قواهم و قوى كل من يعينهم على9.
ص: 23
ذلك من تحمّل هذا الشأن هو أنّ للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذّبوه، و لا يحيط به علما إلاّ اللّه فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه لا أنّ اللّه سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكّنهم منه لو لا الصرف بإرادة من اللّه تعالى.
و كذا قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)،الآية،فإنّه ظاهر في أنّ الذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنّما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظاً و معنى و لا يسمع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف،لا أنّ اللّه صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا،فما ذكروه من أنّ إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.
و أمّا الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال بتقريب أنّ البلاغة من صفات الكلام الموضوع و وضع الكلام من آثار القريحة الإنسانيّة فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدّا لا تسعه طاقة القريحة و هو مع ذلك معلول لها لا لغيرها،فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنّما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه و أمّا سرد الكلام و نضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف و هيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامّة أو ناقصة و إراءة واضحة أو خفيّة،و كذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه و مقدّماته و مقارناته و لواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنّما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان و فن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ و نظم الأدوات اللفظيّة و نوع لطف في الذهن يحيط به القوّة الذاهنة على الواقعة المحكيّة بأطرافها و لوازمها و متعلّقاتها.
فههنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربّما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذّ عن علمه لفظ لكنّه لا يقدر على التهجي و التكلّم،و ربّما تمهّر الإنسان في البيان و سرد الكلام لكن لا علم له2.
ص: 24
بالمعارف و المطالب فيعجز عن التكلّم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه،و ربّما تبحّر الإنسان في سلسلة من المعارف و المعلومات و لطفت قريحته و رقّت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره،و عيّ عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى و منظره البهيج.
فهذه أمور ثلاثة:أوّلها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية و الثاني و الثالث راجعان إلى نوع من لطف القوّة المدركة،و من البيّن أنّ إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدّرة لا تقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجيّة و الأمور الواقعيّة بجميع روابطها،فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الأوقات،و مع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال فأي خطيب أشدق و أي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أوّل أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟فلو فرضنا كلاما إنسانيّا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم اطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع و شرائطه(أولا)و لم يكن على حدّ كلامه السابق و لا على زنة كلامه اللاحق بل و لا أوّله يساوي آخره و إن لم نشعر بذلك لدقّة الأمر،لكن حكم التحول و التكامل عام(ثانيا)و على هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه(و جدّ الهزل هو القول بغير علم محيط)و لا اختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريّا،و هو الذي يفيده القرآن بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)الآية،و قوله تعالى: وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (2)،انظر إلى موضع القسم بالسماء و الأرض المتغيرتين و المعنى المقسم به في عدم تغيّره و اتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله(و سيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل) و قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (3)،و قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا2.
ص: 25
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1) و قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (2)،فهذه الآيات و نظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيّرة و لا متغيّر ما يتكي عليها.
إذا عرفت ما مرّ علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع له،و ليس ذلك إلاّ كالقول بأنّ القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع ممن يستعملها و واضع النرد و الشطرنج يجب أن يكون أمهر ممن يلعب بهما و مخترع العود يجب أن يكون أقوى ممن يضرب بها.
فقد تبيّن من ذلك كلّه أنّ البلاغة التامّة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعنى و من جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي تحكيه الصورة الذهنيّة.
أمّا اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبّر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
و أمّا المعنى فأن يكون في صحّته و صدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عمّا هو عليه من الحقيقة،و هذه المرتبة هي التي تتكي عليها المرتبة السابقة،و كم من هزل بليغ في هزليّته لكنّه لا يقاوم الجد،و كم من كلام بليغ مبني على الجهالة لكنّه لا يعارض و لا يسعه أن يعارض الحكمة، و الكلام الجامع بين عذوبة اللفظ و جزالة الأسلوب و بلاغة المعنى و حقيقة الواقع هو أرقى الكلام.
و إذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة و منطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذّب الحقائق الأخر و لم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء9.
ص: 26
و متّحد الأركان لا يبطل حق حقا،و لا يكذب صدق صدقا،و الباطل هو الذي ينافي الباطل و ينافي الحق،انظر إلى مغزى قوله سبحانه و تعالى:
فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ (1) ،فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه و لا تشتت،و انظر إلى قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ (2)،فقد جعل الباطل متشتّتا و مشتّتا و متفرّقا و مفرقا.
و إذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الائتلاف،يجر بعضه إلى بعض،و ينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض و يحكي بعضه البعض.
و هذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة و لا تعقم عن الإنتاج،كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثمّ الآية الثالثة تصدقها و تشهد بها،هذا شأنه و خاصّته و سترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك على أنّ الطريق متروك غير مسلوك و لو أنّ المفسّرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة و خزائن من أثقاله النفيسة.
فقد اتّضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعا فإنّ أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتّى يقال إنّ الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام و أفصحه و هو واضح،أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصوّرة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعدّدة مختلفة السياق و الجميع فائق قدرة البشر بالغ حد الإعجاز بل المدار هو المعنى الحافظ لجميع جهات الذهن و الخارج (3)...
لا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة و تحققها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدالّ على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة و نشأة المادّة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل.1.
ص: 27
و ما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالّة على ذلك توفيقا بينها و بين ما يتراءى من ظواهر الأبحاث الطبيعيّة«العلميّة»اليوم تكلّف مردود إليه.
و الذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة و إعطاء حقيقته نذكره في فصول من الكلام.
ص: 28
إنّ القرآن يثبت للحوادث الطبيعيّة أسبابا و يصدق قانون العليّة العامّة كما يثبته ضرورة العقل و تعتمد عليه الأبحاث العلميّة و الأنظار الاستدلاليّة، فإنّ الإنسان مفطور على أن يعتقد لكل حادث مادي علّة موجبة من غير تردّد و ارتياب.و كذلك العلوم الطبيعيّة و سائر الأبحاث العلميّة تعلل الحوادث و الأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل،و لا نعني بالعلّة إلاّ أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحقّقت في الطبيعة مثلا تحقّق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنّه كلّما تحقّق احتراق لزم أن يتحقّق هناك قبله علّة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك،و من هنا كانت الكليّة و عدم التخلّف من أحكام العليّة و المعلوليّة و لوازمهما.
و تصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه و تكلّم فيه من موت و حياة و رزق و حوادث أخرى علوية سماويّة أو سفليّة أرضيّة على أظهر وجه،و إن كان يسندها جميعا بالآخرة إلى اللّه سبحانه لفرض التوحيد.
فالقرآن يحكم بصحة قانون العليّة العامّة بمعنى أنّ سببا من الأسباب إذا تحقّق مع ما يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن اللّه سبحانه و إذا وجد المسبّب كشف ذلك عن تحقّق سببه لا محالة...
ص: 29
ثمّ إنّ القرآن يقتص و يخبر عن جملة من الحوادث و الوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلّة و المعلول الموجود،و هذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و داود و سليمان و موسى و عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.
لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الأمور و الحوادث و إن أنكرتها العادة و استبعدتها إلاّ أنّها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب و السلب يجتمعان معا و يرتفعان معا من كل جهة و قولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه و قولنا:الواحد ليس نصف الاثنين و أمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات،كيف و عقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك و ترتضيه من غير إنكار ورد و لو كانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل و لم يستدلّ بها على شيء و لم ينسبها أحد إلى أحد.
على أنّ أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس ممّا تنكره عادة الطبيعة بل هي ممّا يتعاوره نظام المادّة كل حين بتبديل الحي إلى ميّت و الميّت إلى الحي و تحويل صورة إلى صورة و حادثة إلى حادثة و رخاء إلى بلاء و بلاء إلى رخاء،و إنّما الفرق بين صنع العادة و بين المعجزة الخارقة هو
ص: 30
أنّ الأسباب الماديّة المشهودة التي بين أيدينا إنّما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة و شرائط زمانيّة و مكانيّة خاصّة تقضي بالتدريج في التأثير،مثلا العصا و إن أمكن أن تصير حيّة تسعى و الجسد البالي و إن أمكن أن يصير إنسانا حيّا لكن ذلك إنّما يتحقّق في العادة بعلل خاصّة و شرائط زمانيّة و مكانيّة مخصوصة تنتقل بها المادّة من حال إلى حال و تكتسي صورة بعد صورة حتّى تستقر و تحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدّقه المشاهدة و التجربة لا مع أي شرط اتّفق أو من غير علّة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات و الخوارق التي يقصها القرآن.
و كما أنّ الحس و التجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي،لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلّة و المعلول الطبيعيين،أعني به السطح الذي يستقرّ عليه التجارب العلمية اليوم و الفرضيّات المعلّلة للحوادث الماديّة.
إلاّ أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره و الستر عليه،فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة و أهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون و تنشره النشريات و يضبطه الصحف و المسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك و لا في تحقّقها ريب.
و هذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحيّة من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة الكتريسية مغناطيسيّة فافترضوا أن الارتياضات الشاقّة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قويّة تملكه أو تصاحبه إرادة و شعور و بذلك يقدر على ما يأتي به من حركات و تحريكات و تصرفات عجيبة في المادّة خارقة للعادة بطريق القبض و البسط و نحو ذلك.
و هذه الفرضية لو تمت و اطردت من غير انتقاض لأدّت إلى تحقّق فرضيّة جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعلّلها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة و القوّة و لساقت جميع الحوادث الماديّة إلى التعلل و الارتباط بعلّة واحدة طبيعية.
فهذا قولهم و الحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علّة
ص: 31
طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعيّة محفوظة،و بعبارة أخرى إنّا لا نعني بالعلّة الطبيعيّة إلاّ أن تجتمع عدّة موجودات طبيعية مع نسب و روابط خاصّة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث و لم يتحقّق وجوده.
و أمّا القرآن الكريم فإنّه و إن لم يشخّص هذه العلّة الطبيعيّة الأخيرة التي تعلّل جميع الحوادث الماديّة العاديّة و الخارقة للعادة(على ما نحسبه) بتشخيص اسمه و كيفيّة تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلاّ أنّه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا بإذن اللّه تعالى،و بعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى اللّه سبحانه(و الكل مستند)مجرى ماديا و طريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (1)،فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أنّ كل من اتقى اللّه و توكّل عليه و إن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه و تحكم بعدمه فإنّ اللّه سبحانه حسبه فيه و هو كائن لا محالة،كما يدلّ عليه أيضا إطلاق قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ (2)،و قوله تعالى:
اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (3) ،و قوله تعالى: أَ لَيْسَ اللّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (4).
ثمّ الجملة التالية و هي قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ (5)يعلّل إطلاق الصدر،و في هذا المعنى قوله: وَ اللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)،و هذه جملة مطلقة غير مقيّدة بشيء البتة،فللّه سبحانه سبيل إلى كلّ حادث تعلقت به مشيئته و إرادته و إن كانت السبل العادية و الطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.1.
ص: 32
و هذا يحتمل وجهين:أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي و علّة طبيعيّة بل بمجرّد الإرادة وحدها،و ثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به اللّه سبحانه و يبلغ ما يريده من طريقه إلاّ أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ،تدلّ على ثاني الوجهين فإنّها تدلّ على أن كلّ شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإنّ له قدرا قدره اللّه سبحانه عليه،و ارتباطات مع غيره من الموجودات و اتصالات وجودية مع ما سواه،للّه سبحانه أن يتوسّل منها إليه و إن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلاّ أنّ هذه الاتصالات و الارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتّى تطيع في حال و تعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدلّ على أنّه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات و اتصالات له أن يبلغ إلى كلّ ما يريد من أي وجه شاء و ليس هذا نفيا للعليّة و السببيّة بين الأشياء بل إثبات أنّها بيد اللّه سبحانه يحولها كيف شاء و أراد، ففي الوجود عليّة و ارتباط حقيقي بين كل موجود و ما تقدّمه من الموجودات المنتظمة غير أنّها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (و لذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجوديّة)بل على ما يعلمه اللّه تعالى و ينظمه.و هذه الحقيقة هي التي تدلّ عليها آيات القدر كقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (1)،و قوله تعالى: إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (2)،و قوله تعالى:
وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (3) ،و قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (4)،و كذا قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها (5)،و قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ2.
ص: 33
مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (1) ،فإنّ الآية الأولى و كذا بقيّة الآيات تدلّ على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعين و التشخص بتقدير منه تعالى و تحديد يتقدّم على الشيء و يصاحبه و لا معنى لكون الشيء محدودا مقدرا في وجوده إلاّ أن يتحدّد و يتعيّن بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات و الموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات الماديّة الأخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشيء و يعيّن وجوده و يحدّده و يقدّره فما من موجود مادي إلاّ و هو متقدّر مرتبط بجميع الموجودات الماديّة التي تتقدّمه و تصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
و يمكن أن يستدل أيضا على ما مرّ بقوله تعالى: ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (2)،و قوله تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (3)،فإن الآيتين بانضمام ما مرّت الإشارة إليه من أنّ الآيات القرآنيّة تصدّق قانون العليّة العام،تنتج المطلوب.
و ذلك أنّ الآية الأولى تعمم الخلقة لكلّ شيء فما من شيء إلاّ و هو مخلوق للّه عزّ شأنه،و الآية الثانية تنطق بكون الخلقة و الإيجاد على وتيرة واحدة و نسق منتظم من غير اختلاف يؤدي إلى الهرج و الجزاف و القرآن كما عرفت أنه يصدق قانون العليّة العام في ما بين الموجودات الماديّة،ينتج أنّ نظام الموجود في الموجودات الماديّة سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف و وتيرة واحدة في استناد كلّ حادث فيه إلى العلّة المتقدّمة عليه الموجبة له.و من هنا يستنتج أنّ الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها و بين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقيّة مطردة غير متخلفة الأحكام و الخواص كما ربّما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة و في خوارق العادة كما مرّ.6.
ص: 34
ثمّ إنّ القرآن كما يثبت بين الأشياء العليّة و المعلوليّة و يصدق سببيّة البعض للبعض كذلك يسند الأمر في الكل إلى اللّه سبحانه فيستنتج منه أنّ الأسباب الوجوديّة غير مستقلة في التأثير و المؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلاّ اللّه عزّ سلطانه.قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (1)، و قال تعالى: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ (2)،و قال تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللّهِ (3)،و قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ (4)إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ كلّ شيء مملوك محض للّه لا يشاركه فيه أحد،و له أن يتصرّف فيها كيف شاء و أراد و ليس لأحد أن يتصرّف في شيء منها إلاّ من بعد أن يأذن اللّه لمن شاء و يملّكه التصرّف من غير استقلال في هذا التمليك أيضا،بل مجرّد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن،قال تعالى: قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ (5)،و قال تعالى:
ص: 35
اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (1) إلى غير ذلك من الآيات،و قال تعالى أيضا: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ (2)،و قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ (3).فالأسباب تملكت السببيّة بتمليكه تعالى،و هي غير مستقلّة في عين أنّها مالكة و هذا المعنى هو الذي يعبّر سبحانه عنه بالشفاعة و الإذن،فمن المعلوم أنّ الإذن إنّما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرّف المأذون فيه،و المانع أيضا إنّما يتصوّر فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره و يحول بينه و بين تصرّفه.
فقد بان أنّ في كلّ السبب مبدئا مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسبّبه و الأمر مع ذلك للّه سبحانه.3.
ص: 36
ثمّ إنه تعالى قال: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (1).
فأفاد إناطة إتيان أية آية من أيّ رسول بإذن اللّه سبحانه فبيّن أن إتيان الآيات المعجزة من الأنبياء و صدورها عنهم إنّما هو لمبدأ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقّف في تأثيره على الإذن كما مرّ في الفصل السابق.
و قال تعالى: وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ (2).
و الآية كما أنّها تصدق صحّة السحر في الجملة كذلك تدلّ على أنّ السحر أيضا كالمعجزة في كونه عن مبدأ نفساني في الساحر لمكان الإذن.
و بالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الأولياء و سائر الخصال المكتسبة بالارتياضات و المجاهدات جميعها مستندة إلى مبادئ نفسانية و مقتضيات إراديّة على ما
ص: 37
يشير إليه كلامه سبحانه إلاّ أن كلامه ينص على أنّ المبدأ الموجود عند الأنبياء و الرسل و المؤمنين هو الفائق الغالب على كلّ سبب و في كلّ حال، قال تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (1)،و قال تعالى: كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (2)،و قال تعالى:
إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) (3)، و الآيات مطلقة غير مقيّدة.
و من هنا يمكن أن يستنتج أنّ هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة و فوق المادّة.فإنّ الأمور الماديّة مقدّرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا واحدا عند التزاحم و المغالبة و الأمور المجرّدة أيضا و إن كانت كذلك إلاّ أنّها لا تزاحم بينها و لا تمانع إلاّ أن تتعلّق بالمادّة بعض التعلّق.و هذا المبدأ النفساني المجرّد المنصور بإرادة اللّه سبحانه إذا قابل مانعا ماديّا أفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.1.
ص: 38
ثمّ إنّ الجملة الأخيرة من الآية السابقة في الفصل أعني قوله تعالى:
فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ،الآية،تدلّ على أنّ تأثير هذا المقتضى يتوقّف على أمر من اللّه تعالى يصاحب الإذن الذي كان يتوقّف عليه أيضا فتأثير هذا المقتضى يتوقّف على مصادفته الأمر أو اتحاده معه.
و قد فسّر الأمر في قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1)،بكلمة الإيجاد و قول:كن.و قال تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (2)، و قال: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (3)،دلّت الآيات على أنّ الأمر الذي للإنسان أن يريده و بيده زمام اختياره لا يتحقّق موجودا إلاّ أن يشاء اللّه ذلك بأن يشاء أن يشاء الإنسان و يريد إرادة الإنسان فإنّ الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الإنسان الإرادية و إن كانت بيد الإنسان بإرادته لكن الإرادة و المشيئة ليست بيد الإنسان بل هي مستندة إلى مشيئة اللّه سبحانه،و ليست في مقام بيان أنّ
ص: 39
كلّ ما يريده الإنسان فقد أراده اللّه فإنّه خطأ فاحش و لازمه أن يتخلّف الفعل عن إرادة اللّه سبحانه عند تخلّفه عن إرادة الإنسان،تعالى اللّه عن ذلك.مع أنّه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (1)،و قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (2)،إلى غير ذلك فإرادتنا و مشيئتنا إذا تحقّقت فينا فهي مرادة بإرادة اللّه و مشيئته لها و كذا أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا و مشيئتنا بالواسطة.و هما أعني الإرادة و الفعل جميعا متوقفان على أمر اللّه سبحانه و كلمة كن.
فالأمور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة و سواء كان خارق العادة في جانب الخير و السعادة كالمعجزة و الكرامة،أو في جانب الشر كالسحر و الكهانة مستندة في تحقّقها إلى أسباب طبيعيّة،و هي مع ذلك متوقّفة على إرادة اللّه،لا توجد إلاّ بأمر اللّه سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتّحد مع أمر اللّه سبحانه.
و جميع الأشياء و إن كانت من حيث استناد وجودها إلى الأمر الإلهي على حدّ سواء بحيث إذا تحقّق الإذن و الأمر تحقّقت عن أسبابها،و إذا لم يتحقّق الإذن و الأمر لم تتحقّق،أي لم تتم السببيّة إلاّ أنّ قسما منها و هو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد ربّه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى و أمر عزيمة كما يدلّ عليه قوله: كَتَبَ اللّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (3)، الآية،و قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ (4)،الآية،و غير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.6.
ص: 40
فقد تبيّن من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الأمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي و أنّ مع الجميع أسبابا باطنيّة و أنّ الفرق بينها أنّ الأمور العادية ملازمة لأسباب ظاهريّة تصاحبها الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة غالبا أو مع الأغلب،و مع تلك الأسباب الحقيقيّة إرادة اللّه و أمره،و الأمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر و الكهانة مستندة إلى أسباب طبيعيّة مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالإذن و الإرادة كاستجابة الدعاء و نحو ذلك من غير تحد يبتنى عليه ظهور حق الدعوة و أنّ المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن اللّه و أمره إذا كان هناك تحد يبتني عليه صحّة النبوّة و الرسالة و الدعوة إلى اللّه تعالى و أنّ القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أنّ سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.
فإن قلت:فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة و البلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضا و لم يبق فرق بين المعجزة و غيرها إلاّ بحسب النسبة و الإضافة فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين،و هم المطّلعون على سببها الطبيعي الحقيقي،و في عصر دون عصر،و هو عصر العلم،فلو ظفر البحث العلمي على الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة القصوى لم يبق مورد للمعجزة و لم تكشف المعجزة عن الحق.
ص: 41
و نتيجة هذا البحث أنّ المعجزة لا حجيّة فيها إلاّ على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.
قلت كلاّ فليست المعجزة معجزة من حيث أنّها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتّى تنسلخ عن اسمها عند ارتفاع الجهل و تسقط عن الحجيّة،و لا أنّها معجزة من حيث استنادها إلى سبب مفارق للعادة،بل هي معجزة من حيث أنّها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلّة البتة،و ذلك كما أنّ الأمر الحادث من جهة استجابة الدعاء كرامة من حيث استنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنّه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنّه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.
***
ص: 42
و هاهنا سؤال و هو أنّه ما هي الرابطة بين المعجزة و بين حقيّة دعوى الرسالة مع أنّ العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى اللّه سبحانه و بين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أنّ الظاهر من القرآن الشريف،تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدّة من الأنبياء كهود و صالح و موسى و عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سألوا عن آية تدلّ على حقيّة دعواهم فأجابوهم فيما سألوا و جاءوا بالآيات،و ربّما أعطوا المعجزة في أوّل البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى عليه السّلام و هارون: اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (1)،و قال تعالى في عيسى عليه السّلام: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2)و كذا إعطاء القرآن معجزة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقيّة ما أتى به الأنبياء و الرسل من
ص: 43
معارف المبدأ و المعاد و بين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
مضافا إلى أنّ قيام البراهين الساطعة على هذه الأصول الحقّة يغني العالم البصير بها عن النظر في أمر الإعجاز و لذا قيل إنّ المعجزات لإقناع نفوس العامّة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقليّة و أمّا الخاصّة فإنّهم في غنى عن ذلك.
و الجواب عن هذا السؤال أنّ الأنبياء و الرسل عليهم السّلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لإثبات شيء من معارف المبدأ و المعاد ممّا يناله العقل كالتوحيد و البعث و أمثالهما و إنّما اكتفوا في ذلك بحجة العقل و المخاطبة من طريق النظر و الاستدلال كقوله تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1)،في الاحتجاج على التوحيد و قوله تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ (2)،في الاحتجاج على البعث.و إنّما سئل الرسل المعجزة و أتوا بها لإثبات رسالتهم و تحقيق دعواها.
و ذلك أنّهم ادعوا الرسالة من اللّه بالوحي و أنّه بتكليم إلهي أو نزول ملك و نحو ذلك و هنا شيء خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة و الباطنة التي يعرفها عامّة النّاس و يجدونها من أنفسهم،بل إدراك مستور عن عامّة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصّا مما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط،مع أنّ الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشريّة و قواها،و لذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس و مقاومة عنيفة في ردّه على أحد وجهين:
فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجّة كقوله تعالى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا (3)،استدلوا فيها2.
ص: 44
على بطلان دعواهم الرسالة بأنّهم مثل سائر الناس و الناس لا يجدون شيئا ممّا يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة،و لو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع و لهذا،و هنا أجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه اللّه تعالى عنهم بقوله: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (1)،فردّوا عليهم بتسليم المماثلة و أنّ الرسالة من منن اللّه الخاصّة،و الاختصاص ببعض النعم الخاصّة لا ينافي المماثلة،فللناس اختصاصات،نعم لو شاء اللّه أن يمن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصّة بالبعض و إن جاز على الكل.
و نظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما حكاه اللّه تعالى:
أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا (2) ،و قولهم كما حكاه اللّه: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (3).
و نظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قوله تعالى: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها (4)، و وجه الاستدلال أنّ دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي و غيره ليس فينا فلم يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة؟بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقى إليه كنز فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق للكسب أو تكون له جنّة فيأكل منها لا ممّا نأكل منه من طعام،فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً إلى أن قال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (5)، ورد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله: وَ لَوْ0.
ص: 45
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (1) .
و قريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (2)،فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي،فردّ اللّه تعالى عليهم ذلك بقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (3)،فذكر أنّهم و الحال حالهم لا يرون الملائكة إلاّ مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ. ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (4)و تشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الاستدلال،و هو تسليم صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعواه إلاّ أنّه مجنون و ما يحكيه و يخبر به أمر يسوّله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله: وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (5).
و بالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجّة على إبطال دعوى النبوّة من طريق المماثلة.
و تارة أخرى أقاموا أنفسهم مقام الإنكار و سؤال الحجّة و البيّنة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس و لا تعرفه العقول(على طريقة المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة)و هذه البيّنة هي المعجزة بيان ذلك أنّ دعوى النبوّة و الرسالة من كل نبي و رسول على ما يقصّه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك،و هذا أمر لا يساعد عليه الحسّ و لا تؤيده التجربة فيتوجّه عليه الإشكال من جهتين:إحداهما من جهة عدم الدليل عليه،و الثانية من جهة الدليل على9.
ص: 46
عدمه،فإنّ الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم و العادة الجارية في الأسباب و المسببات تنكره فهو أمر خارق للعادة و قانون العليّة العامّة لا يجوّزه،فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوّة و الوحي كان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة،مؤيد بقوّة إلهيّة تقدر على خرق العادة و أنّ اللّه سبحانه يريد بنبوّته و الوحي إليه خرق العادة فلو كان هذا حقّا و لا فرق بين خارق و خارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع و أن يخرق اللّه العادة بأمر آخر يصدّق النبوّة و الوحي من غير مانع عنه فإنّ حكم الأمثال واحد فلئن أراد اللّه هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوّة و الوحي فليؤيّدها و ليصدّقها بخارق آخر و هو المعجزة.
و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من أنفسهم بعث بالفطرة و الغريزة و كان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة و تصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها ممّا يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد و المعاد و نظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم و معه أوامر و نواه يدعيها للسيد فإنّ بيانه لهذه الأحكام و إقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم و هم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلاّ صلاح شأنهم،إنّما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل،و لا تكفي البراهين و الأدلّة المذكورة في صدق رسالته و أن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببيّنة أو علامة تدلّ على صدقه في دعواه ككتاب بخطه و خاتمه يقرءونه أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ (1).
فقد تبيّن بما ذكرناه أولا:التلازم بين صدق دعوى الرسالة و بين المعجزة و أنّها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصّة و العامّة في دلالتها و إثباتها و ثانيا أن ما يجده الرسول و النبي من الوحي و يدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا و عقولنا النظرية الفكرية فالوحي3.
ص: 47
غير الفكر الصائب،و هذا المعنى في كتاب اللّه تعالى من الوضوح و السطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم و أقل إنصاف.
و قد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة و الحقائق الدينية على ما وضعته العلوم الطبيعية من أصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانيّة خواص ماديّة مترشحة من الدماغ و أن الغايات الوجودية و جميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.
فذكروا أن النبوّة نوع نبوغ فكري و صفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي و يريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية و البربرية إلى ساحة الحضارة و المدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد و الآراء و يطبقها على مقتضيات عصره و محيط حياته فيقنن لهم أصولا اجتماعية و كليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثمّ يتمم ذلك بأحكام و أمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة و المدنية الفاصلة إلى ذلك و يتفرع على هذا الافتراض:
أولا:أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
ثانيا:أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.
ثالثا:أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية و الأغراض النفسانية الشخصية.
و رابعا:أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبّر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها،و أن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة،و أن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية و تدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع،و على هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح و القلم و العرش و الكرسي و الكتاب و الحساب و الجنة و النار بما يلائم الأصول المذكورة.
و خامسا:أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحولها.
ص: 48
و سادسا:أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين و حفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين و رؤساء المذهب عن السقوط و الاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم و تبعهم آخرون.
هذه جمل ما ذكروه و النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوّة إلهية،و الكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.
و الذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية و البيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير و لا تناسبه أدنى مناسبة،و إنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض و ركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة و تفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها و يعيدها إلى المادة الجامدة.
و ما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحسّ كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و الملائكة و نحوها من غير مساعدة الحسّ و التجربة على شيء من ذلك ثمّ لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية و جرى البحث على أساس الحس و التجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحسّ أو البعيدة عنه و أن يفسروها بما يعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم و يستحفظ بذلك عن السقوط.
فهاتان الطائفتان بين باغ و عاد،أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه،و أما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البيّنة الواضحة، و طبقوها على حقائق مادية ينالها الحس و تصدقها التجربة مع أنها ليست بمقصودة و لا البيانات اللفظية تنطبق على شيء منها.و البحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف و اللغة
ص: 49
ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثمّ ينظر هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها؟فلو ثبت فيها في خلال ذلك شيء خارج عن المادة و حكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله العلوم الطبيعية،فما للعلم الباحث عن الطبيعة و للأمر الخارج عنها؟فإن العلم الباحث عن المادة و خواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة و خواصها لا إثباتا و لا نفيا.
و لو فعل شيئا منه باحث من بحّاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا... (1).5.
ص: 50
قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ (1).
النزول هو الورود على المحل من العلو،و الفرق بين الإنزال و التنزيل أن الإنزال دفعي و التنزيل تدريجي،و القرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باعتبار كونه مقروّا كما قال تعالى: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)و يطلق على مجموع الكتاب و على أبعاضه.
و الآية تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان،و قد قال تعالى:
وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (3) ،و هو ظاهر في نزوله تدريجيا في مجموع مدة الدعوة و هي ثلاث و عشرون سنة تقريبا و المتواتر من التاريخ يدلّ على ذلك،و لذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.
و ربما أجيب عنه:بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثمّ
ص: 51
نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجوما و على مكث في مدة ثلاث و عشرين سنة- مجموع مدة الدعوة-و هذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.و قد أورد عليه:بأن تعقيب قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ بقوله: هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ (1)،لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية و الفرقان في السماء مدة سنين.
و أجيب:بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال،و فارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقاءه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله و يحين حينه،و لهذا نظائر و أمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت و خرجت من القوة إلى الفعل.
و الحقّ أن حكم القوانين و الدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب و لو زمانا يسيرا،و في القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما (2)،و قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً (3)،و قوله تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (4)على أن في القرآن ناسخا و منسوخا،و لا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.
و ربما أجيب عن الإشكال:أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه،و يرد عليه:أن المشهور عندهم أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما بعث بالقرآن،و قد بعث اليوم السابع العشرين من شهر رجب و بينه و بين رمضان أكثر من ثلاثين يوما و كيف تخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن،على أن أول سورة اقرأ باسم ربك،يشهد على أنها أول سورة3.
ص: 52
نزلت و أنها نزلت بمصاحبة البعثة،و كذا سورة المدّثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة و كيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان،على أن قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ،غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه و لا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل،و نظير هذه الآية قوله تعالى:
وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (1) ،و قوله:
إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (2) ،فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه و لا قرينة في الكلام تدل على ذلك.
و الذي يعطيه التدبّر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (3)،و قوله تعالى: حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (4)،و قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و اعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى:
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ (5) .فإن المطر إنما ينزل تدريجيا لكن النظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا،و لذلك عبّر عنه بالإنزال دون التنزيل، و كقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ (6)،و إما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق و التفصيل و الانبساط و التدريج هو المصحّح لكونه واحدا غير تدريجي و نازلا بالإنزال دون التنزيل.
و هذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى:9.
ص: 53
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل،و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء و لا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء و لا فصول فيه،و الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصّل.
و أوضح منه قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ (2)،و قوله تعالى: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ -إلى أن قال-: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ (3)فإن الآيات الشريفة و خاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طارئ على الكتاب فنفس الكتاب شيء و التفصيل الذي يعرضه شيء آخر،و أنهم إنما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل و غافلين عنه،و سيظهر لهم يوم القيامة و يضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم و لات حين مناص و فيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
و أوضح منه قوله تعالى: حم. وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروءا عربيا،و إنما ألبس لباس القراءة و العربية ليعقله الناس و إلاّ فإنه-و هو في أم الكتاب-عند اللّه، علي لا يصعد إليه العقول،حكيم لا يوجد فيه فصل و فصل.و في الآية تعريف للكتاب المبين و أنه أصل القرآن العربي المبين،و في هذا المساق أيضا قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ4.
ص: 54
.إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلاّ المطهرون من عباد اللّه و أن التنزيل بعده،و أما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار و هو الذي عبّر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب،و في سورة البروج،باللّوح المحفوظ،حيث قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (2)،و هذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغيّر عليه،و من المعلوم أن القرآن المنزّل تدريجا لا يخلو عن ناسخ و منسوخ و عن التدريج الذي هو نحو من التبدّل،فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزّل،و إنما هذا بمنزلة اللباس لذاك.
ثم إن هذا المعنى أعني:كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين-و نحن نسمّيه بحقيقة الكتاب-بمنزلة اللباس من المتلبّس و بمنزلة المثال من الحقيقة و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ،إلى غير ذلك و هذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ،و قوله:
إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ،و قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ على إنزال حقيقة الكتاب و الكتاب المبين إلى قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دفعة كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.
و هذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (3)،و قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (4)،فإن الآيات ظاهرة في أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن9.
ص: 55
الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي و سيأتي توضيحه في المقام اللائق به- إن شاء اللّه تعالى-.
و بالجملة فإن المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزّل على النبي تدريجيا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات و قذارات المادة،و أن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلّمه اللّه بذلك حقيقة ما عناه بكتابه،و سيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل و التنزيل في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ (1)فهذا ما يهدي إليه التدبّر و تدل عليه الآيات.نعم أرباب الحديث،و الغالب من المتكلمين و الحسيّون من باحثي هذا العصر لمّا أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات و نظائرها كالدّالة على كون القرآن هدى و رحمة و نورا و مواقع النجوم و كتابا مبينا،و في لوح محفوظ،و نازلا من عند اللّه،و في صحف مطهّرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة و المجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.
و لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان:
قال ما محصّله:إنه لا ريب أن بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مقارنا لنزول أوّل ما نزل من القرآن و أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتبليغ و الإنذار،و لا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ (2)و لا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (3)و جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها و هي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن
ص: 56
القرآن نزل فيها جميعا فصح أن يقال:أنزلناه في ليلة(على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة و الإنجيل و الزبور باصطلاح القرآن).
قال:و ذلك أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلخ،نزل ليلة الخامس و العشرين من شهر رمضان،نزل و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاصد دار خديجة في وسط الوادي فشاهد جبرائيل فأوحى إليه قوله تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلخ،و لما تلقّى الوحي خطر بباله أن يسأله:كيف يذكر اسم ربه فتراءى له و علّمه بقوله: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخر سورة الحمد،ثم علّمه كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يجد مما كان يشاهد أثرا إلاّ ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه و هو لا يعلم أنّه رسول من اللّه إلى الناس،مأمور بهدايتهم ثم لمّا دخل البيت نام ليلته من شدّة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة و أوحى إليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ (1).
قال:فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان و مصادفة بعثته لليلة القدر.و أما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع و العشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلاّ في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.
قال:و هناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان:أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور و أملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول اللّه،و هذه أوهام خرافية دست في الأخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب،و ثانيا:أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه،انتهى ملخصا.2.
ص: 57
و لست أدري أي جملة من جمل كلامه-على فساده بتمام أجزائه- تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق و الحقية بوجه؟فقد اتسع الخرق على الراتق.
ففيه أولا:أن هذا التقوّل العجيب الذي تقوّله في البعثة و نزول القرآن أول ما نزل و أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل عليه: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ،و هو في الطريق ثم نزلت عليه سورة الحمد ثمّ علّم الصلاة،ثمّ دخل البيت و نام تعبانا،ثم نزلت عليه سورة المدّثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ،كل ذلك تقوّل لا دليل عليه لا آية محكمة و لا سنّة قائمة،و إنما هي قصة تخيّليّة لا توافق الكتاب و لا النقل على ما سيجيء.
و ثانيا:أنه ذكر أن من المسلّم أن البعثة و نزول القرآن و الأمر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسّر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن،و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدّثر،و لا يسعه،أن يستند في ذلك إلى كتاب و لا سنّة،و ليس من المسلّم ذلك.أما السنّة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألّفته العامة أو الخاصة إلاّ و تأليفه متأخر عن عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرنين فصاعدا فهذا في السنّة، و التاريخ-على خلوّه من هذه التفاصيل-حاله أسوأ و الدس الذي رمى به الحديث متطرق إليه أيضا.
و أما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح و أجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره و تكذيب ما تقوّله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك-و هي أول سورة نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما ذكره أهل النقل،و يشهد به الآيات الخمس التي في صدرها و لم يذكر أحد أنها نزلت قطعات و لا أقلّ من احتمال نزولها دفعة-مشتملة على أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلي بمرأى من القوم و أنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة و يذكر أمره في نادي القوم(و لا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتقرّب بها إلى ربّه في بادئ أمره إلاّ ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة)قال تعالى فيها: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلّى. أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى. أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّى. أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّهَ يَرى. كَلاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ
ص: 58
خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (1) فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة،و يذكر أمره في النادي،و لا ينتهي عن فعاله،و قد كان هذا المصلي هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدليل قوله تعالى بعد ذلك:
كَلاّ لا تُطِعْهُ (2) .
فقد دلّت السورة على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن،و قد كان على الهدى و ربما أمر بالتقوى،و هذا هو النبوّة و لم يسمّ أمره ذلك إنذارا،فكان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا و كان يصلي و لما ينزل عليه قرآن و لا نزلت بعد عليه سورة الحمد و لما يؤمر بالتبليغ.
و أما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان،و لو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال:قل بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ،أو يقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم قل اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ و لكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.نعم وقع في سورة الحجر-و هي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها،قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (3).
و المراد بالسّبع المثاني سورة الحمد و قد قوبل بها القرآن العظيم و فيه تمام التجليل لشأنها و التعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن و جزءا منه بدليل قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (4).و مع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدلّ على سبق نزولها نزول سورة الحجر،و السورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (5)الآيات،و يدل ذلك على أن رسول5.
ص: 59
اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قد كف عن الإنذار مدة ثم أمر به ثانيا بقوله تعالى: فَاصْدَعْ .
و أما سورة المدثر و ما تشتمل عليه من قوله قُمْ فَأَنْذِرْ ،فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة واحدة كان حال هذه الآية قم فأنذر،حال قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (1)الآية،لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى آخر الآيات،و هي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلخ،و إن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.
و ثالثا:أن قوله:إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول اللّه أخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب و عدم استقامة مضمونها،و إن المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة،و بالبيت المعمور كرة الأرض خطأ و فرية.
أما أولا:فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.
و أما ثانيا:فلأن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.
و أما ثالثا:فلأن قوله:إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع-و إنه أضحوكة-و ليت شعري ما هو الوجه المصحح-على قوله- لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟أ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير و التحول؟فهو عالم الحركات،سيال الذات،متغير الصفات!أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟فالواقع خلافه!أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟كما يدل عليه قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (2)،فإدراك المدركين فيه على السواء!.9.
ص: 60
و بعد اللتيا و التي:لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية،فإن حاصل توجيهه:أن معنى:
أنزل فيه القرآن:كأنما أنزل فيه القرآن،و معنى:إنا أنزلناه في ليلة:كأنا أنزلناه في ليلة،و هذا شيء لا يحتمله لغة العرف لهذا السياق!.
و لو جاز لقائل أن يقول:نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال:إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول اللّه من غير مانع يمنع كما مرّ بيانه سابقا.
و في كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجها عن غرضنا في المقام... (1).
***5.
ص: 61
في ثلاثة فصول:
إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء و الحزب و العشر و غير ذلك و الذي ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها و هما السورة و الآية فقد كرر اللّه سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: سُورَةٌ أَنْزَلْناها (1)و قوله: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ (2).و غير ذلك.
و قد كثر استعماله في لسان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصحابة و الأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم و هي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوءة بالبسملة مسوقة لبيان غرض،و هو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلاّ ببراءة و قد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام أنها آيات من سورة الأنفال، و إلاّ بما ورد عنهم عليهم السّلام أن الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و أن الفيل و الإيلاف سورة واحدة.
و نظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً (3)،و قوله:
ص: 62
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا (1) ،و قد روي عن أم سلمة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد روي عن أم سلمة أن النبي كان يقف على رءوس الآي و صح أن سورة الحمد سبع آيات،و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و الذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع و فصول بالطبع و خاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي و آله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها و عما بعدها.
و يختلف ذلك باختلاف السياقات و خاصة في السياقات المسجّعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: مُدْهامَّتانِ (2)و ربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: اَلرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ (3)و قوله: اَلْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ. وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (4)،و ربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية:282.3.
ص: 63
أما عدد السور القرآنية فهي مائة و أربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا و هو مطابق للمصحف العثماني،و قد تقدم كلام أئمة أهل البيت عليهم السّلام فيه،و أنهم لا يعدون براءة سورة مستقلة و يعدون الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و يعدون الفيل و الإيلاف سورة واحدة.
و أما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي و يميز كل آية من غيرها و لا شيء من الآحاد يعتمد عليه،و من أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم و هم المكيون و المدنيون و الشاميون و البصريون و الكوفيون.
فقد قال بعضهم:إن مجموع القرآن ستة آلاف آية،و قال بعضهم:ستة آلاف و مائتان و أربع آيات،و قيل:و أربع عشرة،و قيل:و تسع عشرة و قيل:
و خمس و عشرون،و قيل:و ست و ثلاثون.
و قد روى المكيون عددهم عن عبد اللّه بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب،و للمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع و شيبة بن نصاح،و الآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري و روى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء،و ينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري،و يضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة و الكسائي و خلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.
ص: 64
و بالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبا به و يجوز الركون إليه و يتميز به كلّ آية عن أختها لا ملزم للأخذ بشيء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو و إلاّ فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.و الذي روي عن علي عليه السّلام من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شيء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه عليه السّلام و عن غيره من أئمة أهل البيت عليه السّلام أن البسملة آية من القرآن و هي جزء من كل سورة افتتحت بها و لازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.
و هذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد هاهنا، و ذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية و هي أربعون سورة و ما اختلفوا في عدده أو في رءوس آية من السور و هي أربع و سبعون سورة و كذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل الر أينما وقع من القرآن و ما اختلف فيه،و على من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.
ص: 65
نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال:حدثنا محمد ابن عبد اللّه بن أبي جعفر الرازي،أنبأنا عمرو بن هارون،حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال:كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد اللّه فيها ما شاء.
و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك،ثم ن،ثم يا أيها المزمل،ثم يا أيها المدثر،ثم تبت يدا أبي لهب،ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى،ثم و الليل إذا يغشى،ثم و الفجر،ثم و الضحى، ثم أ لم نشرح،ثم و العصر،ثم و العاديات،ثم إنا أعطيناك،ثم ألهاكم التكاثر،ثم أ رأيت الذي يكذب،ثم قل يا أيها الكافرون،ثم أ لم تر كيف فعل ربك،ثم قل أعوذ برب الفلق،ثم قل أعوذ برب الناس،ثم قل هو اللّه أحد،ثم و النجم،ثم عبس،ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر،ثم و الشمس و ضحاها،ثم و السماء ذات البروج،ثم التين،ثم لإيلاف قريش،ثم القارعة،ثم لا أقسم بيوم القيامة،ثم ويل لكل همزة،ثم و المرسلات،ثم ق،ثم لا أقسم بهذا البلد،ثم و السماء و الطارق،ثم اقتربت الساعة،ثم ص،ثم الأعراف،ثم قل أوحي،ثم يس،ثم الفرقان،ثم الملائكة،ثم كهيعص،ثم طه،ثم الواقعة،ثم طسم الشعراء،ثم طس،ثم القصص،ثم بني إسرائيل،ثم يونس،ثم هود،ثم يوسف،ثم الحجر،ثم الأنعام،ثم الصافات،ثم لقمان،ثم سبأ،ثم الزمر،ثم حم المؤمن،ثم حم السجدة، ثم حمعسق،ثم حم الزخرف،ثم الدخان،ثم الجاثية،ثم الأحقاف،ثم
ص: 66
الذاريات،ثم الغاشية،ثم الكهف،ثم النحل،ثم إنا أرسلنا نوحا،ثم سورة إبراهيم،ثم الأنبياء،ثم المؤمنين،ثم تنزيل السجدة،ثم الطور،ثم تبارك الملك،ثم الحاقة،ثم سأل،ثم عم يتساءلون،ثم النازعات،ثم إذا السماء انفطرت،ثم إذا السماء انشقت،ثم الروم،ثم العنكبوت،ثم ويل للمطففين،فهذا ما أنزل اللّه بمكة.
ثم أنزل اللّه بالمدينة سورة البقرة،ثم الأنفال،ثم آل عمران،ثم الأحزاب،ثم الممتحنة،ثم النساء،ثم إذا زلزلت،ثم الحديد،ثم القتال، ثم الرعد،ثم الرحمن،ثم الإنسان،ثم الطلاق،ثم لم يكن،ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر اللّه،ثم النور،ثم الحج،ثم المنافقون،ثم المجادلة،ثم الحجرات،ثم التحريم،ثم الجمعة،ثم التغابن،ثم الصف،ثم الفتح،ثم المائدة،ثم براءة.
و قد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب و ربما قيل:إنما نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.
و نقل فيه عن البيهقي في دلائل النبوة أنه روى بإسناده عن عكرمة و الحسين بن أبي الحسن قالا:أنزل اللّه من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلاّ أنه قد سقط منه الفاتحة و الأعراف و كهيعص مما نزل بمكة.
و أيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.
ثم روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال:إن أول ما أنزل اللّه على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك،الحديث و هو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب و قد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.
و فيه عن كتاب الناسخ و المنسوخ لابن حصار أن المدني باتّفاق عشرون سورة و المختلف فيه اثنتا عشرة سورة و ما عدا ذلك مكي باتفاق، انتهى.
ص: 67
و الذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و النور و الأحزاب و سورة محمد و الفتح و الحجرات و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و المنافقون و الجمعة و الطلاق و التحريم و النصر.و ما اختلفوا في مكيته و مدنيته سورة الرعد و الرحمن و الجن و الصف و التغابن و المطففين و القدر و البينة و الزلزال و التوحيد و المعوذتان.
و للعلم بمكية السور و مدنيتها ثمّ ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية و سيرها الروحي و السياسي و المدني في زمنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تحليل سيرته الشريفة و الروايات-كما ترى-لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات و الاستمداد بما يتحصل من القرائن و الأمارات الداخلية و الخارجية،و على ذلك نجري في هذا الكتاب و اللّه المستعان... (1).
***6.
ص: 68
اختلف القوم في المقام،و قد شاع الخلاف و اشتد الانحراف بينهم، و ينسحب ذيل النزاع و المشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة و التابعين،و قلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مرّ من البيان فضلا عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.
و السبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم و المتشابه و بين البحث عن معنى التأويل،فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة و كيفية البحث و النتيجة المأخوذة منه،و نحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث و ما قيل فيها و ما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول:
الإحكام و التشابه من الألفاظ المتعددة المفاهيم في اللغة،و قد وصف بها الكتاب كما في قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (1)و قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ (2)و لم يتصف بهما إلاّ جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه و بيانه و من جهة تشابه نظمه و بيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان و الإحكام.
ص: 69
لكن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (1)الآية،لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات و المتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام و التشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب
و كان من الحري البحث عن معناهما و تشخيص مصداقهما من الآيات،و فيه أقوال ربما تجاوزت العشرة:
و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود
،و هي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم و الر و حم،و ذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل،فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة و عمرها فاشتبه عليهم الأمر نسب إلى ابن عباس من الصحابة.
و فيه أنه قول من غير دليل و لو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم و لا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.
لكن الحق أن النسبة في غير محلها،و الذي نقل عن ابن عباس أنه قال:إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث،ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه ابن مردويه عن عبد اللّه بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات،قال:الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات:
قل تعالوا،و الآيتان بعدها.و يؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله: آياتٌ مُحْكَماتٌ ،قال:من هاهنا:قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات،و من هاهنا:
وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ إلى آخر ثلاث آيات،فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.
فواتح السور و المتشابهات غيرها
.نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في
ص: 70
قوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن الم ذلِكَ الْكِتابُ منها استخرجت البقرة و الم. اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ،منها استخرجت آل عمران.و عن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ،قال:أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب،انتهى.
و يدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بمعنى أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات و الجمل،كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.
و فيه:مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه،و قد ذمّ اللّه سبحانه اتباع المتشابه وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (1)و غيره من الآيات.
و فيه:أن ما بيّن من أوصاف المحكم و المتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل و المبين.بيان ذلك:أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط و يندمج بعض جهات معناه ببعض فلا تنفصل الجهة المرادة عن غيرها، و يوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد و قد جرى دأب أهل اللسان في طرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه،فلو كان المحكم و المتشابه هما المجمل و المبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم، و كان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم و التفاهم فلم يقدم على مثله
ص: 71
أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم و الراسخون في العلم و لم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم و يوجب زيغ القلب.
يعمل بها،و المحكمات هي الآيات الناسخة
لأنها يؤمن بها و يعمل بها، و نسب إلى ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة،و لذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.
و فيه:أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات و الأفعال،على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم و المتشابه.
و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم و المتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ و المنسوخ،و أنّه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال:المحكمات ناسخه و حلاله و حرامه و حدوده و فرائضه و ما يؤمن به،و المتشابهات منسوخه و مقدمه و مؤخره و أمثاله و أقسامه و ما يؤمن به و لا يعمل به،انتهى.
و القدرة و الحكمة،و المتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل
و تدبر.
و فيه:أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل و التدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي و عدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام و الفرائض و نحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح،و حينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع،و إن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة،و كيف لا؟و هو كتاب متشابه مثاني،و نور،و مبين،و لازمه كون الجميع محكما و ارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب و هو خلاف الفرض و خلاف النص.
ص: 72
خفي،و المتشابه ما لا سبيل إلى العلم به
كوقت قيام الساعة و نحوه.
و فيه:أن الإحكام و التشابه صفتان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية،و الذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل،و لا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره،و كيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية و لا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى و أنه نور،و أنه مبين،و أنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (1)و قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (2)،فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم،و لا الوقوف عليه مستحيل،و ما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة و سائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.
على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه و تأويل الآية كما مرّ.
مما يصرف بعضها بعضا،نسب هذا القول إلى مجاهد و غيره.
و فيه:أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص،و التقييد بالمقيد و سائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، و إن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد و لا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه،و يتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها،و يتبيّن بذلك معانيها.
ص: 73
واحدا و المتشابه ما احتمل من التأويل أوجها
كثيرة و نسب إلى الشافعي، و كأن المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلاّ في معنى واحد كالنص و الظاهر القوي في ظهوره و المتشابه خلافه.
و فيه:أنه لا يزيد على تبديل اللفظ شيئا،فقد بدّل لفظ المحكم بما ليس له إلاّ معنى واحد،و المتشابه بما يحتمل معاني كثيرة،على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ و قد عرفت أنه خطأ،و لو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه باللّه،أو باللّه و بالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا،و المؤمن و الكافر و الراسخين في العلم و أهل الزيغ في ذلك سواء.
و المتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم
بالتكرير في سور متعددة،و لازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.
و فيه:أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا،على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم و المتشابه و هو ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه،فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها،و توجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
،و هذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.
و فيه:أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا،و كذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.
و لا يعمل به
،و نسب إلى ابن تيمية،و لعل المراد به:أن الأخبار متشابهات و الإنشاءات محكمات كما استظهره بعضهم و إلاّ لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.
ص: 74
و فيه:أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات،و لازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها،و من جهة أخرى:الآيات المنسوخة إنشاءات و ليست بمحكمات قطعا.
و الظاهر أن مراده من الإيمان و العمل بالمحكم و الإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (1)،إلاّ أن الأمرين أعني الإيمان و العمل معا في المحكم و الإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم و المتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته،و على هذا فلا يكفي معرفة المحكم و المتشابه بهما في تشخيص مصداقهما و هو ظاهر.
أعم من صفات اللّه سبحانه كالعليم و القدير و الحكيم و الخبير،و صفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم عليه السّلام: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (2)و ما يشبه ذلك،نسب إلى ابن تيمية.
و فيه:أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.و الذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله:أنه يأخذ المحكم و المتشابه بمعناهما اللغوي و هو ما أحكمت دلالته و ما تشابهت احتمالاته و المعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة و علمها آخرون بالبحث و هم العلماء،و هذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس،فيحسبون ما أثبته اللّه تعالى لنفسه من العلم و القدرة و السمع و البصر و الرضا و الغضب و اليد و العين و غير ذلك أمورا جسمانية أو معاني ليست بالحق،و تقوم بذلك الفتن،و تظهر البدع،و تنشأ المذاهب فهذا معنى المحكم و المتشابه،و كلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم،و الذي لا
ص: 75
يمكن نيله و العلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات،فهب أنّا علمنا معنى قوله إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ،و أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ و نحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه و قدرته و سائر صفاته و كيفية أفعاله الخاصة به،فهذا هو تأويل المتشابهات التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى،انتهى ملخصا،و سيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء اللّه.
و فيه:أنه قول من غير دليل،و الآيات القرآنية و إن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل و ما ليس للعقل إليه سبيل،لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم و المتشابه في هذه الآية استيفاء هذا التقسيم،و شيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم و المتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا،على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة و لا سبيل للعقل إليها.
ظاهره
،و هذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث،و عليه يبتني اصطلاحهم في التأويل:أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام،و كأنّه أيضا مراد من قال:إن المحكم ما تأويله تنزيله،و المتشابه ما لا يدرك إلاّ بالتأويل.
و فيه:أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم و المتشابه فإنّ المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده و مدلوله،و ليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها و متشابهها كما مرّ بيانه.
على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها،و ما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معان تعطيها لها آيات أخر محكمة،و القرآن يفسر بعضه بعضا،و من المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن-متصلة أو منفصلة-للفظ ليس بخارج عن ظهوره و بالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض،و يشهد بعضه على بعض
ص: 76
و يرتفع كل اختلاف و تناف متراء بالتدبر فيه،قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
و المتشابه ما اختلف فيه
و كأن المراد بالإجماع و الاختلاف كون مدلول الآية بحيث تختلف فيه الأنظار أو لا تختلف.
و فيه:أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها و ينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلاّ و فيه اختلاف ما:إما لفظا أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها،حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً (2)،غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة و هو يناقض قوله، و ذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.
سواء كان الإشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى،ذكره الراغب.
قال في مفردات القرآن:و المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره،إما من حيث اللفظ،أو من حيث المعنى،فقال الفقهاء:
المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده،و حقيقة ذلك:أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:محكم على الإطلاق،متشابه على الإطلاق، و محكم من وجه و متشابه من وجه.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:متشابه من جهة اللفظ فقط، و متشابه من جهة المعنى فقط،و متشابه من جهتهما.
و المتشابه من جهة اللفظ ضربان:أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، و ذلك إما من جهة غرابته نحو الأب و يزفون،و إما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد و العين،و الثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب،و ذلك ثلاثة أضرب:ضرب لاختصار الكلام نحو وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما
ص: 77
طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (1) و ضرب لبسط الكلام نحو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع،و ضرب لنظم الكلام نحو أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً (2)تقديره الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا،و قوله: وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إلى قوله لَوْ تَزَيَّلُوا (3).
و المتشابه من جهة المعنى أوصاف اللّه تعالى و أوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا،إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه،أو لم يكن من جنس ما لم نحسه.
و المتشابه من جهة المعنى و اللفظ جميعا خمسة أضرب:الأول:من جهة الكمية كالعموم و الخصوص نحو فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ،و الثاني:من جهة الكيفية كالوجوب و الندب نحو فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ،و الثالث:من جهة الزمان كالناسخ و المنسوخ نحو اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ،و الرابع:من جهة المكان أو الأمور التي نزلت فيها نحو وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها و قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ،فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية،و الخامس:من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة و النكاح.
و هذه الجملة إذا تصورت علم:أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التفاسير نحو قول من قال المتشابه الم،و قول قتادة:المحكم الناسخ و المتشابه المنسوخ،و قول الأصم:المحكم ما أجمع على تأويله و المتشابه ما اختلف فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة و خروج دابة الأرض و كيفية الدابة و نحو ذلك.و ضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة و الأحكام المغلقة و ضرب متردد بين الأمرين،يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم5.
ص: 78
و يخفى على من دونهم،و هو الضرب المشار إليه بقوله عليه السّلام في علي رضي اللّه عنه:اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل،و قوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه و هو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.
و فيه:أولا:أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ و إغلاق التركيب و العموم و الخصوص و نحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات،و من المعلوم أن غرابة اللفظ و أمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات،بل لها مرجع آخر ترجع إليه و تتضح به.
و أيضا:الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، و من المعلوم:أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه،و المطلق من غير رجوع إلى مقيده و أخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.
و ثانيا:أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس و ما لا يمكن فهمه لأحد و ما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه و قد عرفت خلافه.
هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم و المتشابه و تمييز مواردهما و قد عرفت ما فيها،و عرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها و سطوع نورها خلاف ذلك كله،و أن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام و المطلق إلى المخصص و المقيد و نحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.
و من المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلاّ مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان
ص: 79
الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك و التعقل.
و أنت إذا تتبعت البدع و الأهواء و المذاهب الفاسدة التي انحرفت فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه،و التأويل في الآيات بما لا يرتضيه اللّه سبحانه.
ففرقة تتسمك من القرآن بآيات للتجسيم،و أخرى للجبر و أخرى للتفويض و أخرى لعثرة الأنبياء،و أخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، و أخرى للتشبيه الخالص و زيادة الصفات،إلى غير ذلك،كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.
و طائفة ذكرت:أن الأحكام الدينية إنما شرّعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق و تيسر،و أخرى قالت:إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال،و لا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.
و قد كانت الأحكام و الفرائض و الحدود و سائر السياسات الإسلامية قائمة و مقامة في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تنقص و تسقط حكما فحكما،يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية،و لم يبطل حكم أو حد إلاّ و اعتذر المبطلون:أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا و إصلاح الناس،و ما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم،حتى آل الأمر إلى ما يقال:إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها،و الدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية و لا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم و اجرائها،و إلى ما يقال:إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب و هدايتها إلى الفكرة و الإرادة الصالحتين و القلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية،و النفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء و الغسل و الصلاة و الصوم.
إذا تأملت في هذه و أمثالها-و هي لا تحصى كثرة-و تدبرت في قوله
ص: 80
تعالى؛ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ (1)الآية،لم تشك في صحة ما ذكرناه،و قضيت بأن هذه الفتن و المحن التي غادرت الإسلام و المسلمين لم تستقر قرارها إلاّ من طريق اتباع المتشابه،و ابتغاء تأويل القرآن.
و هذا-و اللّه أعلم-هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب و إصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة و التأويل و الإلحاد في آيات اللّه و القول فيها بغير علم و اتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار،و مودة ذوي القربى،و قرار أزواج النبي عليه السّلام،و معاملة الربا،و اتحاد الكلمة في الدين و غير ذلك و لا يغسل رين الزيغ من القلوب و لا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشأهما الركون إلى الدنيا و الإخلاد إلى الأرض و اتباع الهوى إلاّ ذكر يوم الحساب كما قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (2)و لذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ .6.
ص: 81
ذكر جماعة:أن كون الآيات المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين و أركانها فيؤمن بها و يعمل بها،و ليس الدين إلاّ مجموعا من الاعتقاد و العمل،و أما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها و تشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا.
و أنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم:أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة،و هي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه و فهمه،أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به و رفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.
و قال آخرون:إن معنى أمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها، و كلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع،فظاهر بعضهم:أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان و الاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها و يرجع في موردها إلى العمل بالناسخة،و هذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغايرة،و ظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات،رافعة لتشابهها.
و الحق هو المعنى الثالث،فإن معنى الأمومة الذي يدل عليه قوله:
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يتضمن عناية زائدة و هو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الأم في القول الأوّل،فإن في هذه اللفظة أعني لفظة الأم عناية
ص: 82
بالرجوع الذي فيه انتشاء و اشتقاق و تبعض،فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع و تتفرع على المحكمات،و لازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات.
على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل،فإن التأويل كما مرّ يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه،و القرآن يفسر بعضه بعضا فللمتشابه مفسر و ليس إلاّ المحكم،مثال ذلك قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (1)،فإنها آية متشابهة،و بإرجاعها إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (2)،و قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (3)يتبين:أن المراد بها نظرة و رؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي،و قد قال تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (4)إلى أن قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (5)،فأثبت للقلب رؤية تخصّه،و ليس هو الفكر فإن الفكر إنما يتعلق بالتصديق و المركب الذهني و الرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني،فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسيّة الماديّة و لا بالعقلية الذهنية،و الأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.8.
ص: 83
فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير و هو المراد من الكلام،و إذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى: وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ (1)،هو المعنى المراد بالآية المتشابهة فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير اللّه سبحانه أو لغيره و غير الراسخين في العلم.
و قالت طائفة أخرى:إن المراد بالتأويل:هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ و قد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.
و كيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين،سواء فيه من كان يقول:إن التأويل لا يعلمه إلاّ اللّه،و من كان يقول:إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل عن ابن عباس،أنه كان يقول:أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله.و ذهبت طائفة أخرى:إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى،أو لا يعلمه إلاّ اللّه و الراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض،منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، و منها ما هو أبعد منه لا يناله إلاّ اللّه سبحانه أو هو تعالى و الراسخون في العلم.
ص: 84
و قد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد و إلاّ لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و هو غير جائز على ما بين في محله،فهي لا محالة معان مترتبة في الطول:فقيل:إنها لوازم معنى اللفظ إلاّ أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معنى مطابقي و له لازم و للازمه لازم و هكذا،و قيل:إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره،فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ و إرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت:اسقني فلا تطلب بذلك إلاّ السقي و هو بعينه طلب للإرواء،و طلب لرفع الحاجة الوجودية،و طلب للكمال الوجودي و ليس هناك أربعة أوامر و مطالب بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض و السقي مرتبط بها و معتمد عليها.
و هاهنا قول رابع:و هو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام،فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر و النهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم و جعله و تشريعه، فتأويل قوله:أقيموا الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء و المنكر،و إن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء و الأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي،و إن كان إخبارا عن الحوادث و الأمور الحالية و المستقبلة فهو على قسمين:فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى: وَ فِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ (1)،و قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ (2)و إن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تنالها حواسنا الدنيوية و لا تدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المربوطة بيوم القيامة و وقت4.
ص: 85
الساعة و حشر الأموات و الجمع و السؤال و الحساب و تطاير الكتب،أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان و إدراك العقول كحقيقة صفاته و أفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية.
و الفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات اللّه تعالى و أفعاله و ما يلحق بها من أحوال يوم القيامة و نحوها و بين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم،فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلاّ اللّه تعالى،نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم اللّه تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم،و أما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر اللّه سبحانه بعلمه.
فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل،و هي أربعة.
و هاهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول و إن تحاشى القائلون بها عن قبوله.
فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل،و أكثر استعماله في الألفاظ و مفرداتها و أكثر استعمال التأويل في المعاني و الجمل،و أكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية،و يستعمل التفسير فيها و في غيرها.
و من جملتها:أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلاّ وجها واحدا و التأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا.
و من جملتها:أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ و التأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها،و هو قريب من سابقه.
و من جملتها أن التفسير بيان دليل المراد و التأويل بيان حقيقة المراد.
مثاله:قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (1)فتفسيره:أن المرصاد مفعال من قولهم:رصد يرصد إذا راقب،و تأويله التحذير عن التهاون بأمر اللّه و الغفلة عنه.4.
ص: 86
و من جملتها:أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ و التأويل بيان المعنى المشكل.
و من جملتها:أن التفسير يتعلق بالرواية و التأويل يتعلق بالدراية.
و من جملتها:أن التفسير يتعلق بالاتباع و السماع و التأويل يتعلق بالاستنباط و النظر.
فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه، يرد عليها ما يرد عليه و كيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة و ما ينشعب منها.
أما إجمالا:فلأنك قد عرفت:أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا،بل هو من قبيل الأمور الخارجية،و لا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلا له،بل أمر خارجي مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل(بفتحتين)و الباطن إلى الظاهر.
و أما تفصيلا فيرد على القول الأول:أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام و ليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآنا لتناله الأفهام و لا مناص لصاحب هذا القول إلاّ أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا تنال معانيها عامة الأفهام،و يرد عليه:أنه لا دليل عليه،و مجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع و كون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الأم مرجع لأولادها و ليست بتأويل لهم، و الرئيس مرجع للمرءوس و ليس بتأويل له.
على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه و هو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام و آيات الصفات و غيرها.
و أما القول الثاني فيرد عليه:أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات
ص: 87
و مرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلاّ بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا تفهمها عامة الأفهام،و هذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)،إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال:إنه أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلاّ اللّه سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية،فإن انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام و لو كان لغير اللّه أمر ممكن،و لا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر،إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب و اللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق و الحق بالتأويل و الصرف عن ظاهره،فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال،و تناقض الآراء، و السهو و النسيان و الخطأ و التكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية،فالآية بلسان احتجاجها صريحة في أن القرآن معرض لعامة الأفهام،و مسرح للبحث و التأمل و التدبر،و ليس فيه آية أريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي،و كلا أن فيه أحجية و تعمية.
و أما القول الثالث فيرد عليه:أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض و بعضها تحت بعض مما لا ينكره إلاّ من حرم نعمة التدبر إلاّ أنها جميعا-و خاصة لو قلنا إنها لوازم المعنى-مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام و ذكاء السامع المتدبر و بلادته،و هذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ،فإن المعارف العالية و المسائل الدقيقة لا تختلف فيها الأذهان من حيث التقوى و طهارة النفس بل من حيث الحدة و عدمها،و إن كانت التقوى و طهارة النفس معنيين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران و العلية كما هو ظاهر قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ .
و أما القول الرابع فيرد عليه:أنه و إن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر،فإنه و إن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص2.
ص: 88
بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن،و أن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية و المستقبلة تأويلا للكلام،و في حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و آيات القيامة.
توضيحه:أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ... إلخ...إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ...إلخ...فإن كثيرا من تأويل القرآن و هو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا و آيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى و غير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم،و كذا الحقائق الخلقية و المصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات و المعاملات و سائر الأمور المشرعة.
و إن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ،و أفاد أن غيره تعالى و غير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه،و هو يؤدي إلى الفتنة و إضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و القيامة فإن الفتنة و الضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام و القصص و غيرهما كأن يقول القائل(و قد قيل)إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع،أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه و إلغاء الحكم الديني المشرع.
و كأن يقول القائل(و قد قيل)إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية،و إنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم و خضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة،و يوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل،و جميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا
ص: 89
شك،فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات و آيات القيامة.
إذا عرفت ما مرّ علمت:أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة،و أنه موجود لجميع الآيات القرآنية:محكمها و متشابهها،و أنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ،و إنما قيدها اللّه سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد و توضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1)و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا المعنى.
على أنك قد عرفت فيما مرّ من البيان:أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها-و هي ستة عشر موردا على ما عدت-إلاّ في المعنى الذي ذكرناه...4.
ص: 90
هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين،و منشؤه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا الآية،و أن الواو هل هو للعطف أو للاستئناف،فذهب بعض القدماء و الشافعية و معظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف و أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن،و ذهب معظم القدماء و الحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستئناف و أنه لا يعلم تأويل المتشابه إلاّ اللّه و هو ممّا استأثر اللّه سبحانه بعلمه،و قد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة،و ببعض الروايات،و الطائفة الثانية بوجوه أخر و عدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات ممّا استأثر اللّه سبحانه بعلمه و تمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها و المعارضة مع حججها.و الذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط و الاشتباه من أول ما دارت بينهم و وقعت موردا للبحث و التنقير، فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم،و بعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونّا به المسألة و قررنا عليه الخلاف و قول كل من الطرفين آنفا.
و لذلك تركنا التعرض لنقل صحيح الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط،و أما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة،أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه و لا تأويل في
ص: 91
القرآن بهذا المعنى،كما روي من طرق أهل السنّة:أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا لابن عباس فقال:اللهمّ فقهه في الدين و علمه التأويل،و ما روي من قول ابن عباس:أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله،و من قوله:إن المحكمات هي الآيات الناسخة و المتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة و هو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية.
و أما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روي أن ابن عباس كان يقرأ:و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه و يقول الراسخون في العلم آمنا به و كذلك كان يقرأ أبي بن كعب.و ما روي أن ابن مسعود كان يقرأ:و إن تأويله إلاّ عند اللّه و الراسخون في العلم يقولون آمنا به،فهذه لا تصلح لإثبات شيء:أما أولا؛فلأن هذه القراءات لا حجية فيها،و أما ثانيا:فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل و عدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.
و مثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:لا أخاف على أمتي إلاّ ثلاث خصال:أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا،و أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إلاّ أولوا الألباب،و أن يكثر علمهم فيضيعونه و لا يبالون به.و هذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلاّ على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم،و لا ينفع المستدل إلاّ الثاني.
و مثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه.
و عدم دلالتها على النفي ممّا لا يرتاب فيه.
و مثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا:
أنزل القرآن على أربعة أحرف:حلال و حرام لا يعذر أحد بجهالته،و تفسير تفسره العلماء و متشابه لا يعلمه إلاّ اللّه،و من ادعى علمه سوى اللّه تعالى فهو كاذب و الحديث مع كونه مرفوعا و معارضا بما نقل عنه من دعوة
ص: 92
الرسول له و ادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن:أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مرّ.
و الذي ينبغي أن يقال:أن القرآن يدل على جواز العلم بالتأويل لغيره تعالى و أما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
أما الجهة الثانية فلما مرّ في البيان السابق:أن الآية بقرينة صدرها و ذيلها و ما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم و المتشابه،و تفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه و ثابت على اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه،فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم و طريقتهم في الأخذ بالقرآن و مدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين و طريقتهم و ذمهم،و الزاهد على هذا القدر خارج عن القصد الأول و لا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلاّ وجوه غير تامة تقدمت الإشارة إليها،فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ من غير ناقض ينقضه من عطف و استثناء و غير ذلك.فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى و اختصاصه به.
لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب،قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ (1)و قال تعالى: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ (2)،و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ (3)،فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ (4)فأثبت ذلك لبعض من هو غيره و هو من ارتضى من رسول،و لذلك نظائر في القرآن.
و أما الجهة الأولى-و هي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره7.
ص: 93
تعالى في الجملة فبيانه:أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويله الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل،فهو و إن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية و الحفظ،نظير قولك:«في الصيف ضيعت اللبن»لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل،فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل و هو تضييع المرأة مع ذلك اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد،و هو ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصّة من القصص القرآنية و إن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر و النهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلاّ أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشئ منها و يظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية و الإشارة كما أن قول السيد لخادمه،اسقني ينتشئ عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها،فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود و البقاء،و هو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن،و هو يقتضي الغذاء اللازم و هو يقتضي الري،و هو يقتضي الأمر بالسقي مثلا،فتأويل قوله:اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده،و بقائه، و لو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر و كذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب و الرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن و القبح الذي عندهم و هو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية و مكانية و سوابق عادات و رسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه،و تكرر المشاهدة ممن شاهده من أهل منطقته،فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكيّة مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك،و لو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك.
ص: 94
فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة،و لذلك ترى أنه تعالى في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ الآية، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاء للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له و ليس إلاّ لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم و تبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم و هو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه و اتبعوه.
فقد تبين:أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها و شرائعها و سائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.
و إذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1)فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند اللّه أمرا أعلى و أحكم من أن تناله العقول أو يعرضه التقطع و التفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا و ألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله و معرفته ما دام في أم الكتاب،و أم الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (2)، و بقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (3).و يدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (4)، فالإحكام كونه عند اللّه بحيث لا ثلمة فيه و لا فصل،و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و آية آية و تنزيله على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و يدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى:1.
ص: 95
وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (1) ،فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق و نزل تنزيلا و أوحي نجوما.
و ليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق و أنزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقرئ منا قطعات ثم يعلمه و يقرأه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.
و ذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي و بين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا و هو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا شيء من ذلك و لا ما يشبهه في تعلم المتعلم،فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع و ينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد و لا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ (2)و قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ (3)،و قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها (4)و قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً (5)،و نحو ذلك فيلغى سبب النزول و زمانه ثمّ يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالمراد بالقرآن في قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.
و بالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه و نعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثل من المثال و هو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم-و هو الذي تعتمد و تتكي عليه معارف القرآن المنزل و مضامينه و ليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة و لا المعاني المدلول عليها بها،و هذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه و نعوته عليه.و بذلك تظهر حقيقة معنى التأويل،و يظهر3.
ص: 96
سبب امتناع التأويل عن أن تمسّه الأفهام العادية و النفوس غير المطهرة.
ثمّ إنه تعالى قال: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1)،و لا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد اللّه هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون و المحفوظ من التغير،و من التغير تصرف الأذهان بالورود عليه و الصدور منه و ليس هذا المس إلاّ نيل الفهم و العلم،و من المعلوم أيضا:أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ و هو المذكور في قوله: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ .
و هؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم،و ليس ينزلها إلاّ اللّه سبحانه، فإنه تعالى لم يذكرها إلاّ كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2)،و قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (3)،و ما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلاّ منسوبة إلى اللّه أو بإذنه و ليست الطهارة إلاّ زوال الرجس من القلب، و ليس القلب من الإنسان إلاّ ما يدرك به و يريد به،فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها و إرادتها و زوال الرجس عن هاتين الجهتين، و يرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك و نوسان بين الحق و الباطل،و ثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى اتباع الهوى و نقض ميثاق العلم،و هذا هو الرسوخ في العلم فإن اللّه سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلاّ بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم،هذا.
و لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان،فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل،و لازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم،لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى اللّه و هو تعالى سبب6.
ص: 97
غير مغلوب،لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك،بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا الآية،و قد وصف اللّه تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم و مدحهم بذلك،و شكرهم على الإيمان و العمل الصالح في قوله:
لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (1) الآية،و لم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.
و كذلك إن الآية أعني قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ لم تثبت للمطهرين إلاّ مسّ الكتاب في الجملة،و أما أنهم يعلمون كل التأويل و لا يجهلون شيئا منه و لا في وقت فهي ساكتة عن ذلك،و لو ثبت لثبت بدليل منفصل.2.
ص: 98
و من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات و هو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه، و أنه قول فصل يميز بين الحق و الباطل،ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه،و ليس ذلك إلى لوقوع التشابه في آياته،أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب،و أقطع لمادة الخلاف و الزيغ؟
و أجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق و مشقة البحث و ذلك موجب لمزيد الأجر و الثواب،و كالجواب بأنه لو لم يشتمل إلاّ على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه،لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه و كان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به!و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل،و في ذلك خروج عن ظلمة التقليد و دخول في ضوء النظر و الاجتهاد! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة،و في ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة و الصرف و النحو و أصول الفقه!.
فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر،و الذي يستحق الإيراد و البحث من الأجوبة وجوه ثلاثة:
ص: 99
الأوّل:أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به،فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر اللّه تعالى و التسليم لرسله.
و فيه:أن الخضوع هو نوع انفعال و تأثر من الضعيف في مقابل القوي و الإنسان إنما يخضع لمن يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته و بهوره الإدراك كقدرة اللّه غير المتناهية و عظمته غير المتناهية و سائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها،و أما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر و يغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها و هو لا يعقل.
الثاني:أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث و التنقير لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.
و فيه:أن اللّه تعالى أمر الناس بإعمال العقل و الفكر في الآيات الآفاقية و الأنفسية إجمالا في موارد من كلامه،و تفصيلا في موارد أخرى كخلق السموات و الأرض و الجبال و الشجر و الدواب و الإنسان و اختلاف ألسنته و ألوانه،و ندب إلى التعقل و التفكر و السير في الأرض و النظر في أحوال الماضين،و حرض على العقل و الفكر،و مدح العلم بأبلغ المدح و في ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلاّ مزالق للأقدام و مصارع للأفهام.
الثالث:أن الأنبياء بعثوا إلى الناس و فيهم العامة و الخاصة،و الذكي و البليد و العالم و الجاهل،و كان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته و تشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء،فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث تفهمها الخاصة و لو بطريق الكناية و التعريض و يؤمر العامة فيها بالتسليم و تفويض الأمر إلى اللّه تعالى.
و فيه:أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها،و لازم ذلك أن لا تتضمن
ص: 100
المتشابهات أزيد مما تكشف عنه المحكمات،و عند ذلك يبقى السؤال(و هو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب و لا حاجة إليها مع وجود المحكمات)على حاله،و منشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين:معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة و الخاصة و هي مداليل المحكمات،و معان سنخها بحيث لا يتلقاها إلاّ الخاصة من المعارف العالية و الحكم الدقيقة،فصارت بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات،و قد مرّ أن ذلك مخالف لمنطق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا و غير ذلك.
و الذي ينبغي أن يقال:أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناشئ عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مرّ.
و يتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني و التعليم الإلهي و الأمور التي بنيت عليها معارفه و الغرض الأقصى من ذلك و هي أمور:
منها:أن اللّه سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية و الأحكام و القوانين و سائر ما يتضمنه التعليم الإلهي،و أن هذا التأويل الذي تستقبله و تتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر تقصر عن نيله الأفهام و تسقط دون الارتقاء إليه العقول إلاّ نفوس طهرهم اللّه و أزال عنهم الرجس،فإن لهم خاصة أن يمسوه.و هذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء و مفتاحه التطهير الإلهي،و قد قال تعالى: ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (1)،فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
و هذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر6.
ص: 101
بكمالها إلاّ أفراد خاصة،و إن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل،فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة و بعض التطهير في آخرين،و يختلف ذلك باختلاف درجات الناس،كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.قال تعالى: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)و لكن لا يحصل كماله إلاّ في أفراد و فيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل،كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم و أفهامهم، و هكذا جميع الكمالات الاجتماع من حيث التربية و الدعوة،يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم و الصنعة و الثروة و الراحة و غيرها لكن لا ينالها إلاّ البعض،و من دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.و بالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.
و منها:أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم و العمل:
أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدأ و المعاد و ما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية.و أما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حياته الاجتماعية،و لا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم و العرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها و المزاولة عليها توجه نفسه، و خلوص قلبه إلى المبدأ و المعاد،و إشرافه على عالم المعنى و الطهارة و التجنب عن قذارة الماديات و ثقلها.
و أنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ (2)،و ضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى:
وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الآية،و إلى قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (3)،و قوله تعالى: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا5.
ص: 102
اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ (1) ،و ما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين و هداية الإنسان إليه،و السبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة:هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها،و التكاليف العبادية مقدمة للمعرفة باللّه و بآياته،فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية و فساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
و هذه النتيجة-على أنها واضحة التفرع على البيان-تؤيدها التجربة أيضا:فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة و أمعنت النظر فيه:من أين شرع و في أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف.
و قد ذكرناك فيما مرّ:أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات و ابتغاء تأويلها و لم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.
و منها:أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس و ركوز العلم بينهم ما استطيع،فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة و كيف لا؟و لا يوجد بين كتب الوحي كتاب،و لا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم و يحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن و الإسلام!.
و هذا المعنى هو الموجب لأن يبيّن الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا،و ارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا،و بعبارة أخرى أن يفهمه:أنه موجود مخلوق للّه تعالى خلقه بيده و وسط في خلقه و بقائه ملائكته و سائر خلقه من سماء و أرض و نبات و حيوان و مكان و زمان و ما عداها،و أنه سائر إلى معاده و ميعاده سيرا اضطراريا،و كادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله،أيما إلى جنة،و أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.1.
ص: 103
ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي،و ما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟أي يبين له الأحكام العبادية و القوانين الاجتماعية، و هذه طائفة أخرى.
ثم يبين له أن هذه الأحكام و القوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى،و أن تشريعها و جعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هذه طائفة ثالثة.
و ظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة،و الطائفة الأولى بمنزلة النتيجة،و الطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى و دلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة و لا حاجة إلى إيرادها.
و منها:أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس و لا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة و الطبيعة،و كان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني و كليات القواعد و القوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني و الكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس و المحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، و هذا أمر لا ينكره أحد.
و لا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلاّ من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حياته و عيشته،فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء،و إن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال و على قدر ما نال،و هذا ينال المعاني من البيان الحسي و العقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.
ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف و تشمل عامّة الطبقات،و هو ظاهر.
و هذا المعنى أعني اختلاف الأفهام و عموم أمر الهداية مع ما عرفت
ص: 104
من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال و هو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان و يعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل و لا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلاّ ما بينهما من التناسب وزنا.
و الآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (1)،و ما يشابهه من الآيات و إن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة و الكناية،لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بيّنه بما ضربه مثلا في أمر الحق و الباطل فقال تعالى:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ (2) ،فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله،ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه و يصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة و لا نافعة تعلوهما و تربوهما لكنها ستزول و تبطل،و يبقى الحق الذي ينفع الناس،و إنما يزول و يزهق بحق آخر هو مثله،و هذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا،و يصاحبه و يعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود،لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه،ليحق الحق بكلماته و يبطل الباطل و لو كره المجرمون،و الكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.
و بالجملة:المتحصل من الآية الشريفة:أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله اللّه تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب،من غير تقييد بكميّة و لا كيفية،ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة و الضيق،و هذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف و الأحكام التشريعية و مصالح الأحكام التي7.
ص: 105
ذكرنا فيما مرّ أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة و هذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي،و هي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال و ذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخها النواسخ من الآيات،فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه و يضع مكانه حكما آخر.
هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.
و أما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ و الدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها،تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها،و هذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه،إلاّ أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل،لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات و المألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها،و جلّ هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية،و مصالح الأحكام و ملاكاتها كما مرّ،و أما الأحكام و القوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة، و من هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات و المعارف،دون متن الأحكام و القوانين الدينية.
و منها:أنه تحصل من البيان السابق:أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلاّ الحسيات و لا تنال المعاني الكلية إلاّ في قالب الجسمانيات،و لما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام و الجسمانيات أحد محذورين:فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس و المحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة و فيه بطلان الحقائق و فوت المرادات و المقاصد و إن لم تجمد و انتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة و النقيصة.
ص: 106
نظير ذلك أنها لو ألقي إلينا المثل السائر:عند الصباح يحمد القوم السرى أو تمثل لنا بقول صخر:
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه و قد حيل بين العير و النزوان
فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرّد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح و القوم و السرى،و نفهم من ذلك أن المراد:أن حسن تأثير عمل و تحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه و بدا أثره و أما و هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره،و يظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر،و أما إذا لم نعهد الممثل و جمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل و عاد المثل خبرا من الأخبار، و لو لم نجمد و انتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد و ما يجب حفظه للفهم و هو ظاهر.
و لا مخلص عن هذين المحذورين إلاّ بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة و تقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا،و يوضح بعضها أمر بعض،فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا:أن البيانات أمثال و لها في ما وراءها حقائق ممثلة،و ليست مقاصدها و مراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس و المحسوس و ثانيا:بعد العلم بأنها أمثال:يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام،و ما يجب حفظه منها للحصول على المرام،و إنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك،و ذاك نفي بعض ما في هذا.
و إيضاح المقاصد المبهمة و المطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة و الأمثال و الأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة و اللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم،و لغة دون لغة،و ليس ذلك إلاّ لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.
فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة و أن يرفع التشابه الواقع في آية بالإحكام الواقع في آية أخرى،
ص: 107
و اندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية و البيان.
و قد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور:
الأول:أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين:محكم و متشابه،و ذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه و عدم اشتمالها.
الثاني:أن لجميع القرآن محكمه و متشابهه تأويلا،و أن التأويل ليس من قبيل المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية،نسبته إلى المعارف و المقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال،و أن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند اللّه.
الثالث:أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون و هم راسخون في العلم.
الرابع:أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها و مقاصدها،و هذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا و قد أوضحناه فيما مرّ.
الخامس:أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات،كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.
السادس:أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.
السابع:أن الإحكام و التشابه و صفان يقبلان الإضافة و الاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة،و متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أخرى، و لا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن،و لا مانع من وجود محكم على الإطلاق.
الثامن:أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.
التاسع:أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى،مترتبة طولا من غير أن يكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى
ص: 108
واحد،أو مثل عموم المجاز،و لا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد،بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.
و لتوضيح ذلك نقول:قال اللّه تبارك و تعالى: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)،فأنبأ أن للتقوى الذي هو لانتهاء عما نهى اللّه عنه و الائتمار بما أمر اللّه به مرتبة هي حق التقوى،و يعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة،فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب و درجات بعضها فوق بعض.
و قال أيضا: أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (2)فبين أن للعمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات و مراتب،و الدليل على أن المراد بها درجات العمل قوله: وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ .و نظير الآية قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (3)و قوله تعالى:
وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (4) و الآيات في هذا المعنى كثيرة،و فيها ما يدل على أن درجات الجنة و دركات النار بحسب مراتب الأعمال و درجاتها.
و من المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه،و قد استدل تعالى على كفر اليهود و على فساد ضمير المشركين و على نفاق المنافقين من المسلمين و على إيمان عدة من الأنبياء و المؤمنين بأعمالهم و أفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها،فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم و يدل عليه.
و بالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم و يحصله و يركزه في النفس كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ2.
ص: 109
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (1) ،و قال تعالى: وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (2)،و قال أيضا: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (3)،و قال: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (4)،و الآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف و الجهالات(و هي العلوم المخالفة للحق)ما يناسبه.
و قال تعالى-و هو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح و العلم النافع-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ (5)،فبين أن شأن الكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى اللّه تعالى و يقرب صاحبه منه،و شأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم و الاعتقاد.و من المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك و الريب و كمال توجه النفس إليه و عدم تقسم القلب فيه و في غيره(و هو مطلق الشرك)فكلما كمل خلوصه من الشك و الخطرات اشتد صعوده و ارتفاعه.
و لفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك،فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود و وصفت العمل بالرفع،و الصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع،و هما أعني الصعود و الارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلوم بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو و اقترابه منه،و مرتفع من جهة انفصاله من السفل و ابتعاده منه،فالعمل يبعد الإنسان و يفصله من الدنيا و الإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة و التشتت و التفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية و كلما زاد الرفع و الارتفاع زاد صعود الكلم الطيب،و خلصت المعرفة عن شوائب الأوهام و قذارات الشكوك،و من المعلوم أيضا كما مرّ:أن العمل الصالح ذو مراتب و درجات فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب و توليد0.
ص: 110
العلوم و المعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.و الكلام في العمل الطالح و وضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح و رفعه.
فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم و بعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل و العلم،و لازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب و الدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة و الدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها،فقد تبين أن للقرآن معان مختلفة مترتبة.
و قد ذكر اللّه سبحانه أصنافا من عباده،و خص كل صنف بنوع من العلم و المعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين و خص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم،قال تعالى: سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ. إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ (1)و خص بهم أشياء أخر من المعرفة و العلم سيجيء بيانها إن شاء اللّه تعالى،و كالموقنين و خص بهم مشاهدة ملكوت السموات و الأرض، قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (2)و كالمنيبين و خص بهم التذكر،قال تعالى: وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ (3)و كالعالمين و خص بهم عقل أمثال القرآن،قال تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (4)،و كأنهم أولو الألباب و المتدبرون لقوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (5)، و لقوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (6)،فإن مؤدى الآيات الثلاث يرجع إلى معنى واحد و هو العلم بمتشابه القرآن و رده إلى محكمه،و كالمطهرين خصّهم اللّه بعلم تأويل الكتاب،قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (7)،و كالأولياء و هم أهل الوله و المحبة للّه و خص بهم أنهم لا9.
ص: 111
يلتفتون إلى شيء إلاّ اللّه سبحانه و لذلك لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشيء، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (1)، و كالمقربين و المجتبين و الصديقين و الصالحين و المؤمنين و لكل منهم خواص من العلم و الإدراك يختصون بها،سنبحث عنها في المحالّ المناسبة لها.
و نظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها،و لها خواص رديئة في باب العلم و المعرفة،و لها أصحاب كالكافرين و المنافقين و الفاسقين و الظالمين و غيرهم،و لهم أنصباء من سوء الفهم و رداءة الإدراك لآيات اللّه و معارفه الحقة،طوينا ذكرها إيثارا للاختصار،و سنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء اللّه.
العاشر:أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق و بيان حالها فالآية منه لا تختص بمورد نزولها بل تجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول،بل تتعداها إلى ما يناسبها و هذا المعنى هو المسمى بجري القرآن...2.
ص: 112
في تفسير العياشي:سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن المحكم و المتشابه قال:المحكم ما يعمل به و المتشابه ما اشتبه على جاهله.
أقول:و فيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به.
و فيه أيضا:عنه عليه السّلام أن القرآن محكم و متشابه:فأما المحكم فتؤمن به و تعمل به و تدين،و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به،و هو قول اللّه عز و جل: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا (1).
و الراسخون في العلم هم آل محمد.
أقول:و سيجيء كلام في معنى قوله عليه السّلام:و الراسخون في العلم هم آل محمد.
و فيه أيضا عن مسعدة بن صدقة قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه قال:الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه،و المتشابه ما اشتبه على جاهله.قال و في رواية:الناسخ الثابت،و المنسوخ ما مضى،و المحكم ما يعمل به،و المتشابه ما يشبه بعضه بعضا.
ص: 113
و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في حديث قال:فالمنسوخات من المتشابهات.
و في العيون عن الرضا عليه السّلام:من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم.ثم قال:إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها،و لا تتبعوا متشابهها فتضلوا.
أقول:الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه،و هي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق:أن التشابه يقبل الارتفاع،و أنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له.و أما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم و وجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم و بقائه،و يفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع.و أما ما ذكره عليه السّلام في خبر العيون:إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن،فقد وردت في هذا المعنى عنهم عليهم السّلام روايات مستفيضة،و الاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلاّ على ما اشتمل عليه القرآن الشريف،و لا تبين إلاّ ما تعرض له و قد عرفت فيما مرّ:أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ و هو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود و على غيره،لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة و الإجمال،و لا من أوصاف الأعم من اللفظ و المعنى.
و بعبارة أخرى:إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية،و هذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه و محكم كما في القرآن،و قد ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم.
و في تفسير العياشي عن جعفر بن محمد،عن أبيه عليهم السّلام:أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام:هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا و معرفة.فغضب و خطب الناس فقال فيما قال:عليك يا عبد اللّه بما دلك عليه القرآن من صفته،و تقدمك فيه الرسول من معرفته،و استضئ من نور هدايته فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها،فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين و ما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه،و لا في سنّة الرسول و أئمة الهدى
ص: 114
أمره فكل علمه إلى اللّه و لا تقدر عظمة اللّه و اعلم يا عبد اللّه:أن الراسخين في العلم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا آمنا به كل من عند ربنا،و قد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما،و سمى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك و لا تقدر عظمة اللّه على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
أقول:قوله عليه السّلام:و اعلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم...إلخ.
ظاهر في أنه عليه السّلام أخذ الواو في قوله تعالى: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ، للاستئناف دون العطف كما استظهرناه من الآية،و مقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله،لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به،فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه و هو ظاهر بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت كما سيأتي.و قوله عليه السّلام:
الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب،خبر أن و الكلام ظاهر في تحضيض المخاطب و ترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم،و هذا دليل على تفسيره عليه السّلام الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه و لم يتعد إلى ما جهله و المراد بالغيوب المحجوبة بالسدد:المعاني المرادة بالمتشابهات الخفية عن الأفهام العامة و لذا أردفه بقوله ثانيا:فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره،و لم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.
و في الكافي عن الصادق عليه السّلام:نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله.
أقول:و الرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفا على المستثنى في قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ لكن هذا الظهور يرتفع بما مرّ من البيان و ما تقدم من الرواية،و لا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في الصدر الأول بين الناس.
و أما قوله عليه السّلام:نحن الراسخون في العلم،و قد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق عليه السّلام قوله:و الراسخون في العلم،هم آل محمد،
ص: 115
و هذه الجملة مروية في روايات أخر أيضا فجميع ذلك من باب الجري و الانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم و يأتي من الروايات.
و في الكافي أيضا عن هشام بن الحكم قال:قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام إلى أن قال:يا هشام أن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا:ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب،علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها،إنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه،و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها و يجد حقيقتها في قلبه،و لا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدقا،و سره لعلانيته موافقا،لأن اللّه عزّ اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه و ناطق عنه.
أقول:قوله عليه السّلام:لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه،في معنى قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ و قوله عليه السّلام:و من لم يعقل عن اللّه....إلخ أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه،و لم يزل القلب مضطربا في الإذعان به،و إذا تمّ التعقل و عقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه و كان ما يقوله هو الذي يفعله،و قوله:و لا يكون أحد كذلك...إلخ بيان لعلامة الرسوخ في العلم.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أنس و أبي أمامة و وائلة بن أسقف و أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن الراسخين في العلم فقال:من برت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه،و من عف بطنه و فرجه فذلك من الراسخين في العلم.
أقول:و يمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.
و في الكافي عن الباقر عليه السّلام:أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.
أقول:و هو منطبق على الآية،فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها
ص: 116
قوله: اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ،فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم و ارتيابه.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة:أن رسول اللّه كان يكثر في دعائه أن يقول:اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.قلت:يا رسول اللّه و إن القلوب لتتقلب؟قال نعم ما خلق اللّه من بشر من بني آدم إلاّ و قلبه بين إصبعين من أصابع اللّه فإن شاء أقامه،و إن شاء أزاغه،الحديث.
أقول:و روي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر و نواس بن شمعان و عبد اللّه بن عمر و أبي هريرة،و المشهور في هذا الباب ما في حديث نواس:قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن.و قد روى اللفظة(فيما أظن)الشريف الرضي في المجازات النبوية.
و روي عن علي عليه السّلام أنه قيل له:هل عندكم شيء من الوحي؟قال لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إلاّ أن يعطي اللّه عبدا فهما في كتابه.
أقول:و هو من غرر الأحاديث،و أقل ما يدل عليه:أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.
و في الكافي عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أيها الناس إنكم في دار هدنة،و أنتم على ظهر سفر،و السير بكم سريع،و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كل جديد و يقربان كل بعيد،و يأتيان بكل موعود،فأعدوا الجهاز لبعد المجاز،قال:فقام المقداد ابن الأسود فقال:يا رسول اللّه و ما دار الهدنة؟فقال:دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع،و ماحل مصدق،و من جعله أمامه قاده إلى الجنة،و من جعله خلفه ساقه إلى النار،و هو الدليل يدل على خير سبيل،و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل،و هو الفصل ليس بالهزل،و له ظهر و بطن،فظاهره حكم و باطنه علم،ظاهره أنيق و باطنه عميق،له تخوم و على تخومه تخوم،لا تحصى عجائبه،و لا تبلى غرائبه،فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة،و دليل
ص: 117
على المعرفة لمن عرف الصفة،فليجل جال بصره،و ليبلغ الصفة نظره،ينج من عطب،و يخلص من نشب،فإن التفكر حياة قلب البصير،كما يمشي المستنير في الظلمات،فعليكم بحسن التخلص،و قلة التربص.
أقول:و رواه العياشي في تفسيره إلى قوله:فليجل جال.
و في الكافي و تفسير العياشي أيضا عن الصادق عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن هدى من الضلالة،و تبيان من العمى و استقالة من العثرة و نور من الظلمة و ضياء من الأحداث،و عصمة من الهلكة،و رشد من الغواية و بيان من الفتن،و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة،و فيه كمال دينكم،و ما عدل أحد من القرآن إلاّ إلى النار.
أقول:و الروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من أهل بيته عليهم السّلام.
و في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية:ما في القرآن آية إلاّ و لها ظهر و بطن،و ما فيه حرف إلاّ و له حد و لكل حد مطلع،ما يعني بقوله:ظهر و بطن؟قال:ظهره تنزيله و بطنه تأويله،منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد،يجري كما يجري الشمس و القمر،كلما جاء منه شيء وقع،قال اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ،نحن نعلمه.
أقول:الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بألفاظ مختلفة و إن كان المعنى واحدا كما في تفسير الصافي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إن للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطلعا.و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا:إن للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن.
و قوله عليه السّلام:منه ما مضى و منه ما يأتي،ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل و التأويل فقوله:يجري كما يجري الشمس و القمر،يجري فيهما معا،فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله:
ص: 118
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (1) ،على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية،و هذا نوع من الانطباق،و كانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس،و انطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين،و هذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول،و كانطباقها و انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة و الذكر و الحضور في تقصيرهم و مساهلتهم في ذكر اللّه تعالى،و هذا نوع آخر أدق ممّا تقدمه،و كانطباقها عليهم في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية، و هذا نوع آخر أدق من الجميع.
و من هنا يظهر أولا:أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله و مقاماتهم،و قد صور الباحثون عن مقامات الإيمان و الولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه.
و ثانيا:أن الظهر و البطن أمران نسبيان،فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره و بالعكس كما يظهر من الرواية التالية:
و في تفسير العياشي عن جابر قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني،ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر،فقلت:جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم!فقال:يا جابر إن للقرآن بطنا و للبطن بطن،و ظهرا و للظهر ظهر،يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن،إن الآية تكون أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء و هو كلام متصل ينصرف على وجوه.
و فيه أيضا عنه عليه السّلام في حديث قال:و لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء و لكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات و الأرض و لكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.
و في المعاني عن حمران بن أعين قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ظهر0.
ص: 119
القرآن و بطنه فقال:ظهره الذين نزل فيهم القرآن،و بطنه الذين عملوا بأعمالهم،يجري فيهم ما نزل في أولئك.
و في تفسير الصافي عن علي عليه السّلام:ما من آية إلاّ و لها أربعة معان:
ظاهر و باطن و حد و مطلع،فالظاهر التلاوة،و الباطن الفهم،و الحد هو أحكام الحلال و الحرام،و المطلع هو مراد اللّه من العبد بها.
أقول:المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه عليه السّلام عده من المعاني،فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى و المراد بقوله:هو أحكام الحلال و الحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا،أو الحد و المطلع نسبيان كما أن الظاهر و الباطن نسبيان كما عرفت فيما تقدم فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.
و المطلع إما بضم الميم و تشديد الطاء و فتح اللام اسم مكان من الاطلاع،أو بفتح الميم و اللام و سكون الطاء اسم مكان من الطلوع،و هو مراد اللّه من العبد بها كما ذكره عليه السّلام.
و قد وردت هذه الأمور الأربعة في النبوي المعروف هكذا:إن القرآن أنزل على سبعة أحرف،لكل آية منها ظهر و بطن و لكل حد مطلع.و في رواية:و لكل حد و مطلع.
و معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و لكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين:أن لكل واحد من الظهر و البطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه،هذا هو الظاهر و يمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الأخرى:و لكل حد و مطلع بأن يكون المعنى:و لكل منهما حد هو نفسه و مطلع و هو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل لكن هذا لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي عليه السّلام:ما من آية إلاّ و لها أربعة معان«إلخ»إلاّ أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى و إن كان ربما انطبق بعضها على بعض.
و على هذا فالمتحصل من معاني الأمور الأربعة:أن الظهر هو المعنى الظاهر البادي من الآية،و الباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا،قريبا منه أو بعيدا بينهما واسطة،و الحد هو نفس المعنى سواء كان
ص: 120
ظهرا أو بطنا و المطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد و هو بطنه متصلا به فافهم.
و في الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أنزل القرآن على سبعة أحرف.
أقول:و الحديث و إن كان مرويا باختلاف ما في لفظه،لكن معناها مروي مستفيضا و الروايات متقاربة معنى،روتها العامة و الخاصة.و قد اختلف في معنى الحديث اختلافا شديدا ربما أنهي إلى أربعين قولا،و الذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيرا لهذه السبعة أحرف،و عليه التعويل.
ففي بعض الأخبار:نزل القرآن على سبعة أحرف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل،و في بعضها:زجر و أمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال.
و عن علي عليه السّلام أن اللّه أنزل القرآن على سبعة أقسام،كل منها كاف شاف،و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص.
فالمتعين حمل السبعة أحرف على أقسام الخطاب و أنواع البيان و هي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى اللّه و إلى صراطه المستقيم،و يمكن أن يستفاد من هذه الرواية حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلاّ بنوع من العناية على ما لا يخفى (1).7.
ص: 121
في الصافي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
أقول:و هذا المعنى رواه الفريقان،و في معناه أحاديث أخر رووها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أئمة أهل البيت عليهم السّلام.
و في منية المريد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
أقول:و رواه أبو داود في سننه.
و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار.
و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
أقول:و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي.
و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يتأول القرآن يضعه على غير مواضعه.
و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر و إن أخطأ فهو أبعد من السماء.
و فيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا عليه السّلام قال:الرأي في كتاب اللّه كفر.
أقول:و في معناها روايات أخر مروية في العيون و الخصال و تفسير العياشي و غيرها.
ص: 122
قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من فسر القرآن برأيه،الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد و ربما أطلق على القول عن الهوى و الاستحسان و كيف كان لما ورد قوله:برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمرا بالاتباع و الاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام على ما يراه أهل الحديث،على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربيا مبينا، و الآمرة بالتدبر فيه،و كذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن و عرض الأخبار عليه.
بل الإضافة في قوله:برأيه تفيد معنى الاختصاص و الانفراد و الاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي،فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي و نحكم بذلك:أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير و الشهادات و غيرهما،كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة و نعهده من مصاديق الكلمات حقيقة و مجازا.
و البيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضه ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض كما قاله علي عليه السّلام فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها و يجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1).
و قد مرّ بيانه في الكلام على الإعجاز و غيره.
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف،إنما و بعبارة أخرى إنما نهى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تفهم كلامه على نحو ما2.
ص: 123
يتفهم به كلام غيره و إن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع، و الدليل على ذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الرواية الأخرى:من تكلم في القرآن برأيه فأصابه فقد أخطأ،فإن الحكم بالخطإ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق و كذا قوله عليه السّلام في حديث العياشي:إن أصاب لم يؤجر.
و يؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن القرآن لم يكن مؤلفا بعد و لم يكن منه إلاّ سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
و المحصل:أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن و اعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره،و لازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه،و هذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنّة،و كونه هو السنّة ينافي القرآن و نفس السنّة الآمرة بالرجوع إليه و عرض الأخبار عليه،فلا يبقى للرجوع إليه و الاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن.
و من هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال:
أحدها:أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير و هي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الإتقان:اللغة، و النحو،و التصريف و الاشتقاق،و المعاني،و البيان،و البديع،و القراءة، و أصول الدين،و أصول الفقه،و أسباب النزول و كذا القصص،و الناسخ و المنسوخ،و الفقه،و الأحاديث المبينة لتفسير المجملات و المبهمات،و علم الموهبة،و يعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي:من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم.
الثاني:أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلاّ اللّه.
الثالث:التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تبعا فيرد إليه بأي طريق أمكن و إن كان ضعيفا.
الرابع:التفسير بأن مراد اللّه تعالى كذا على القطع من غير دليل.
ص: 124
الخامس:التفسير بالاستحسان و الهوى:و هذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان،و هنا وجوه أخر نتبعها بها.
السادس:أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة و التابعين،ففيه تعرض لسخط اللّه تعالى.
السابع:القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره،نقلهما ابن الأنباري.
الثامن:أن المراد به القول في القرآن بغير علم و تثبت،سواء علم أن الحق خلافه أم لا.
التاسع:هو الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم،و ليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص،و يكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم.
العاشر:أنه الأخذ بظاهر القرآن بناء على أن له ظهورا لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم.
فهذه وجوه عشرة،و ربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض،و كيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل،على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة،فلا نطيل بالتكرار.
و بالجملة فالمتحصل من الروايات و الآيات التي تؤيدها كقوله تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الآية،و قوله تعالى: اَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (1)، و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ (2)الآية،و قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ (3)،و قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (4)،إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق و هو أن يسلك في6.
ص: 125
تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.
و ليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ و سرد الجمل و إعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي و قد قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (1)،و قال تعالى: وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (2)،و قال تعالى: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3).
و إنما الاختلاف من جهة المراد و المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
توضيح ذلك:إنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية و قطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي،و اعتدنا بالأجسام و الجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الأمور و فهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق و النظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلاّ ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلاّ بذلك،و عند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر و هو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.
مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد و ثروة يقول:و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه،و تعقلنا مفهوم الكلام و معاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق:أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فإن الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت،و أن له فيها مقدارا وافرا من الذهب و الفضة و الورق و الأثاث و الزينة و السلاح،فإن هذه الأمور هي التي يمكن أن تخزن عندنا و تحفظ حفظا،و أما الأرض و السماء و البر و البحر و الكواكب و الإنسان فهي و إن كانت أشياء لكنها لا تخزن و لا تتراكم،و لذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير3.
ص: 126
المحصورة.و كذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق و هو أن كثيرا من الأشياء لا يخزن،و أن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة و الغارة أوجب تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشيء و الخزائن.
ثم إذا سمعنا اللّه تعالى ينزل على رسوله قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ (1)،فإن لم ترق أذهاننا عن مستواها الساذج الأول فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم.
و إن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا،و أذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال و خاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (2)، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز و الماء و أن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند اللّه ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر و نزوله لتهيئة الموارد الغذائية.
و هذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذ لا مستند له إلاّ أنّا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر،و الذي بأيدينا هاهنا عدم العلم دون العلم بالعدم.
و إن تعالينا عن هذ المستوى أيضا و اجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم و أبقينا الكلام على إطلاقه التام،و حكمنا أن قوله وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان و الحيوان و النبات و غيرها لا تنزل من السماء،و إنما تحدث حدوثا في الأرض حكمنا بأن قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ،كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة اللّه تعالى، و أن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة و إنما يخرج منه و ينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيئته تعالى،و هذا أيضا كما ترى تفسير5.
ص: 127
للآية بما نراه من غير علم،إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند اللّه بالمعنى الذي نعهده من النزول،و لا علم لنا بغيره.
و إذا تأملت ما وصفه اللّه تعالى في كتابه من أسماء ذاته و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله و القيامة و ما يتعلق بها،و حكم أحكامه و ملاكاتها،و تأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم و تحريف لكلمة عن مواضعها.
و قد تقدّم في الفصل الخامس من البحث في المحكم و المتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة إلى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها،و قد فرقت في الآيات المتفرقة،و بينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض،و لذلك كان بعضها شاهدا على البعض،و الآية مفسرة للآية،و لو لا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقائقها،و لم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه و من هنا يظهر:أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق:من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
و من هنا يظهر أيضا:أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير موقعها،و وضع الكلمة في غير موضعها،و يلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياته بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبّرة آيات الاختيار،و المفوّضة آيات القدر،و غالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية و هي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية،و هو قولهم:إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.
و بالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها،و دفع مقاصد بعضها ببعض،و يبطل بذلك المرادان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن،فظهور الاختلاف بين الآيات-بعضها مع بعض-ليس إلاّ لاختلال الأمر و اختلاط المراد فيهما معا.
ص: 128
و هذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية:
في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عليه السّلام قال:ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر.
و في المعاني و المحاسن مسندا و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر.
قال الصدوق سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال:هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى.
أقول:ما أجاب به لا يخلو عن إبهام،فإن أراد به الخلط المذكور و ما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية و تأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق،و إن أراد به تفسير الآية بالآية و الاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ،و الروايتان التاليتان تدفعانه.
و في تفسير النعماني بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال:سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام يقول:إن اللّه تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده،و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده،أحلّ فيه حلالا و حرم حراما فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة،فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم،و جعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما باقيا في أوصيائه،فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان،و عدلوا عنهم ثم قتلوهم،و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم،قال اللّه سبحانه: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ (1)و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض،و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ،و احتجوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم،و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجوا بأول الآية و تركوا السبب في تأويلها،و لم ينظروا إلى ما يفتح3.
ص: 129
الكلام و إلى ما يختمه،و لم يعرفوا موارده و مصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا و أضلّوا.
و اعلموا رحمكم اللّه:أنه من لم يعرف من كتاب اللّه عزّ و جل الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام،و المحكم من المتشابه،و الرخص من العزائم،و المكي و المدني و أسباب التنزيل،و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة،و ما فيه من علم القضاء و القدر،و التقديم و التأخير، و المبين و العميق،و الظاهر و الباطن و الابتداء و الانتهاء،و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل و المستثنى منه و الجار فيه،الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد،و المؤكد منه و المفصل و عزائمه و رخصه،و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون،و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله.
و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على اللّه الكذب و رسوله و مأواه جهنم و بئس المصير.
و في نهج البلاغة و الاحتجاج قال عليه السّلام:ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه،ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا و إلههم واحد،و نبيهم واحد،و كتابهم واحد،فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟أم نهاهم عنه فعصوه؟أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟أم أنزل اللّه دينا تاما فقصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تبليغه و أدائه؟و اللّه سبحانه يقول:ما فرطنا في الكتاب من شيء و فيه تبيان كل شيء،و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا،و أنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ،و إن القرآن ظاهره أنيق،و باطنه عميق لا تحصى عجائبه،و لا تنقضي غرائبه،و لا تكشف الظلمات إلاّ به.
أقول:و الرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن،و قوله:فيه تبيان،نقل للآية بالمعنى.
و في الدر المنثور:أخرج ابن سعد و ابن الضريس في فضائله و ابن
ص: 130
مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب فقال:بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم،و ضرب الكتاب بعضه ببعض.قال:و إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا و لكن نزل يصدق بعضه بعضا،فما عرفتم فاعملوا به،و ما تشابه عليكم فآمنوا به.
و فيه أيضا:أخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوما يتدارءون فقال:إنما هلك من كان قبلكم بهذا،ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض،و إنما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا،و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه.
أقول:و الروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض القرآن بعضا،و هو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها،و الإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابها و المتشابه محكما و نحو ذلك.
فالتكلم في القرآن بالرأي،و القول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقا،و ضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم الجميع حول معنى واحد و هو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره.
فإن قلت:لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس و يفهموه كما قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنّاسِ (1)،و قال تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ (2)،إلى غير ذلك من الآيات،و لا ريب أن مبينه هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3)،و قد بينه للصحابة،ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلينا فهو بيان نبوي لا يجوز التجافي و الإغماض عنه بنص القرآن،و ما تكلموا فيه من غير إسناده4.
ص: 131
إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو و إن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه و تعليمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين و من يتلوهم،و كيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية،و سعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة و اجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الإسلام.
و من هنا يظهر:أن العدول عن طريقتهم و سنتهم،و الخروج من جماعتهم،و تفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم و آرائهم بدعة، و السكوت عما سكتوا عنه واجب.
و في ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب اللّه تعالى،فإنه يبلغ زهاء ألوف من الروايات،و قد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي و عن الصحابة التابعين.
قلت:قد مرّ فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه و خاصة قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)،تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث،و يرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات،و الآية في مقام التحدّي،و لا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات- و المقام هذا المقام-إلى فهم الصحابة و تلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإن ما بيّنه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدي إليه اللفظ و لو بعد التدبر و التأمل و البحث،و إما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر و لا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدّي و لا تتم به الحجة و هو ظاهر.
نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ2.
ص: 132
عَنْهُ فَانْتَهُوا (1) ،و ما في معناه من الآيات،و كذا تفاصيل القصص و المعاد مثلا.
و من هنا يظهر أن شأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذا المقام هو التعليم فحسب و التعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم و إرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به و الحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم،فإنما التعليم تسهيل للطريق و تقريب للمقصد،لا إيجاد للطريق و خلق لمقصده و المعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية و نضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم و يأنس به فلا يقع في جهد الترتيب و كدّ التنظيم فيتلف العمر و موهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.
و هذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ الآية (2)،و قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (3)فالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما يعلم الناس و يبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه و يبيّنه اللّه سبحانه بكلامه،و يمكن للناس الحصول عليه بالآخرة لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام اللّه تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (4)،و قوله تعالى: وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (5).على أن الأخبار المتواترة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن و الأخذ به و عرض الروايات المنقولة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على كتاب اللّه لا يستقيم معناها إلاّ مع كون جميع ما نقل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مما يمكن استفادته من الكتاب،و لو توقف ذلك على بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان من الدور الباطل و هو ظاهر.
على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم،و القول3.
ص: 133
بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية،و يجتنب عن خرق إجماعهم و الخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق،و لم يستلزموا هذا المنهج و لم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به و لم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم،و لا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.
على أن هذا الطريق و هو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الإسلام من الصحابة و التابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره و بطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوائل و الكتب المؤلفة في التفسير في القرون الأولى من الإسلام،و لم ينقل منهم في التفسير إلاّ معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث و تدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (1)من دقائق المعارف في القرآن؟
و أما استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم و الجد و الاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات و التناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف و لا تناقض إلاّ مع فرض خفاء الحق و اختلاط طريقه بغيره.
فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود،و أن البيان الإلهي و الذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه،أي أنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق،فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه اللّه تعالى بأنه هدى و أنه نور و أنه تبيان لكل شيء مفتقرا إلى هاد غيره و مستنيرا بنور غيره و مبينا بأمر غيره؟
فإن قلت:قد صح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال في آخر خطبة خطبها:إني تارك فيكم الثقلين:الثقل الأكبر و الثقل الأصغر فأما الأكبر فكتاب ربي، و أما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه،9.
ص: 134
أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس و ثلاثين صحابيا،و في بعض الطرق:
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،و الحديث دال على حجية قول أهل البيت عليهم السّلام في القرآن و وجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره و الاقتصار على ذلك و إلاّ لزم التفرقة بينهم و بينه.
قلت:ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آنفا جار هاهنا بعينه و الحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن و قصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت عليهم السّلام.كيف و هو عليه السّلام يقول:لن يفترقا،فيجعل الحجية لهما معا فللقرآن الدلالة على معانيه و الكشف عن المعارف الإلهية،و لأهل البيت الدلالة على الطريق و هداية الناس إلى أغراضه و مقاصده.
على أن نظير ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن و التدبر فيه و عرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت عليهم السّلام.
على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم عليهم السّلام مشتملة على الاستدلال بآية على آية،و الاستشهاد بمعنى على معنى،و لا يستقيم ذلك إلاّ بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب و يستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له.
على أن هاهنا روايات عنهم عليهم السّلام تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:
فمن زعم أن كتاب اللّه مبهم فقد هلك و أهلك،و يقرب منه ما فيه و في الاحتجاج عنه عليه السّلام قال:إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب اللّه، الحديث.
و بما مرّ من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه و عدم احتجابها من العقول و بين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي عن جابر قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:إن للقرآن بطنا و للبطن ظهرا،ثم قال:يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء،و هو كلام متصل ينصرف على وجوه،و هذا المعنى وارد في عدة روايات،و قد رويت الجملة أعني قوله:و ليس شيء أبعد...إلخ،في بعضها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،
ص: 135
و قد روي عن علي عليه السّلام:أن القرآن حمال ذو وجوه،الحديث،فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه،و الذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه،و قد تبيّن أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه و تفسير الآية بالآية و ذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي و أهل بيته عليهم السّلام و تهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود و اللّه الهادي (1)...7.
ص: 136
في فصول:
من ضروريات التأريخ أن النبي العربي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء قبل أربعة عشر قرنا-تقريبا-و ادعى النبوة و انتهض للدعوة و آمن به أمة من العرب و غيرهم، و أنه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف و كليات الشريعة التي كان يدعو إليها،و كان يتحدى به و يعده آية لنبوته،و أن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلاّ مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.
و إنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها،و أما جلّ الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يضع و لم يفقد.
ص: 137
ثم إنا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته و يفقد.
فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شيء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك،و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود و القلوب.
و نجده يتحدّى بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (1)بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلاّ و يرفعه آية أخرى،و ما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر إلاّ و هناك ما يدفعه و يفسّره.
و نجده يتحدّى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (2)،و قوله: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (3)ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه،و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية و كليات الشرائع الفطرية و تفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شيء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية و الأصل الذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كل منها بالتركيب.
و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و أممهم و نجد ما عندنا4.
ص: 138
من كلام اللّه يورد قصصهم و يفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوة و خلوصها للعبودية و الطاعة،و كلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور و أنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملة التي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.
و من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر للّه فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حيّة خالدة،و بما أنه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا،و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد،و يصف ملائكته و كتبه و رسله،و يصف شرائعه و أحكامه و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكل إليه سبحانه،و تفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء،و الجنة و النار.
ففي جميع ذلك ذكر اللّه،و هو الذي يرومه القرآن إطلاق القول بأنه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.
و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (1)،فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالا و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا2.
ص: 139
بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.
و كقوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (1)فقد أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ اللّه عن كل زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية و يبطل كونه ذكرا للّه سبحانه بوجه.
و من سخيف القول إرجاع ضمير«له»إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه مدفوع بالسياق و إنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (2).
فقد تبين مما فصّلناه أن القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد اللّه نبيه فيه.
و خلاصة الحجة أن القرآن أنزله اللّه على نبيه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النورية و الذكرية و الهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك،و ذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.6.
ص: 140
و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حل عقد المشكلات.
و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» الحديث فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبدا ممن تمسك به.
و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أئمة أهل البيت عليهم السّلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب،و ما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.
على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحق من الباطل و من المعلوم أن الدس و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس و الوضع في المعارف الاعتقادية و قصص الأنبياء و الأمم الماضين و أوصاف المبدأ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات و ما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح و أبين.
ص: 141
و كذا الأخبار التي تتضمن تمسّك أئمة أهل البيت عليهم السّلام بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف،و هذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم عليهم السّلام:كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.
و كذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و سائر الأئمة من ذريّته عليهم السّلام في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند اللّه تعالى و إن كان غير ما ألفه علي عليه السّلام من المصحف و لم يشركوه عليه السّلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب قولهم عليه السّلام لشيعتهم:«اقرءوا كما قرأ الناس».
و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي عليه السّلام في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا و لا في الأوصاف التي وصف اللّه سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.
ص: 142
ذهب جماعة من محدثي الشيعة و الحشوية و جماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.
الكثيرة المروية من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر،و كذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها،و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث،و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاري و مسلم و سنن أبي داود و النسائي و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حدّ الإحصاء.
و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد اللّه بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا،و ما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني و هو في بضع و ثلاثين موضعا،و ما تختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى
ص: 143
البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفا،و قيل:بضع و خمسين حرفا.
و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية و الجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.
و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد اللّه بن مسعود و أبي بن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانية، و غير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة و التابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.
اعتزل الناس بعد رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يرتد إلاّ للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس و أعلمهم أنه القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد جمعه فردوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه،و قد كان عليه السّلام أعلم الناس بكتاب اللّه بعد نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتفق عليه:«عليّ مع الحق و الحق مع عليّ».
بني إسرائيل
حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة،و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة،فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم و هو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:
لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر
ص: 144
ضبّ لتبعتموه،قلنا:يا رسول اللّه بآبائنا و أمهاتنا اليهود و النصارى؟
قال فمن؟
و الرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري-كما مرّ-و أبي هريرة و عبد اللّه بن عمر،و ابن عباس و حذيفة و عبد اللّه بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شداد بن أوس و المستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة.
و هي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت عليهم السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في تفسير القمي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا:اليهود و النصارى تعني يا رسول اللّه؟قال:فمن أعني؟لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.
و الجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.
بيان ذلك:أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلاّ الظن بإصابة الواقع،و انضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن و ليس بالمركّب من عدة ظنون.
و هكذا كلما انضم قول إلى قول تراكمت الأقوال المتوافقة و زاد الظن قوة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال و الحصول على كل قول قول،و أما المنقول منه الذي ينقله الواحد و الاثنان
ص: 145
من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلاّ الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.
فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا تجتمع أمتي على خطاء أو ضلال»و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة و ذلك ظاهر،و صحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته و محتوياته أنه كلام اللّه محضا و بذلك تسقط الحجة و تفسد الآية،و مع سقوط كتاب اللّه عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.
و لا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.
و ذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.
الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الذي تمسك فيه بالأخبار:
أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.
فلا يبقى للمستدل بها إلاّ أن يتمسك بها بما أنها أسناد و مصادر تاريخية و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعية تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.
ص: 146
و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإن انسراب الإسرائيليات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.
و مع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه،و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة.
أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها،و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.
و أما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي عن أبي الحسن الأول في قول اللّه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (1).
و ما في الكافي عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا (2)قال:«إن تلووا الأمر و تعرضوا عما أمرتم به فإن اللّه كان بما تعملون خبيرا»إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا:
«يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك في علي»و الآية نازلة في حقه عليه السّلام،و ما روي أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:«إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون»فظن أن في الآية سقطا.
و يلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن5.
ص: 147
و انطباقه كما ورد في قوله:«و سيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم»و ما ورد من قوله:«و من يطع اللّه و رسوله في ولاية علي و الأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما»و هي كثيرة جدا.
و يلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنه من سقط القرآن كما في الكافي عن عبد العزيز بن المهتدي قال:سألت الرضا عليه السّلام عن التوحيد فقال:كل من قرأ قل هو اللّه أحد و آمن بها فقد عرف التوحيد،قال:[قلت]كيف نقرؤها؟قال:كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك اللّه ربي كذلك اللّه ربي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى:«و لقد نصركم اللّه ببدر و أنتم أذلة»ففي بعضها أن الآية هكذا:«و لقد نصركم اللّه ببدر و أنتم ضعفاء»و في بعضها:«و لقد نصركم اللّه ببدر و أنتم قليل».
و هذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة،و يؤيده ما ورد في بعضها من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و ربما لم يكن إلاّ من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة و العامة و هي في بعضها:«إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة»، و في بعضها:«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة»،و في بعضها:«بما قضيا اللذة»و في بعضها آخرها:«نكالا من اللّه و اللّه عليم حكيم»و في بعضها:«نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم».و كآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:اللّه لا إله إلاّ هو الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السموات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي يشفع عنده-إلى قوله-و هو العلي العظيم و الحمد للّه رب العالمين.
و في بعضها-إلى قوله-هم فيها خالدون و الحمد للّه رب العالمين،
ص: 148
و في بعضها هكذا«له ما في السموات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم»إلخ،و في بعضها:«عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام رب العرش العظيم»و في بعضها:«عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم».
و ما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف.مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.
و أما ما ذكرنا من شيوع الدس و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الأمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهم أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الذي يأوى إليه و يتحصن به المعارف الدينية،و السند الحي الخالد لمنشور النبوة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة و اختل نظام الدين و لم يستقر من بنيانه حجر على حجر.
و العجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام على تحريف كتاب اللّه سبحانه و إبطال حجيته،و ببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى و المعارف الدينية لغى لا أثر لها،و ما ذا يغني قولنا:إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة و أتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات و أما قرآنه فقد حرّف،و لم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلاّ أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته،و الإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته؟
و بالجملة احتمال الدس-و هو قريب جدا مؤيد بالشواهد و القرائن- يدفع حجية هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية و لا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الإسناد فإن صحة السند و عدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم
ص: 149
و جوامعهم ما لم يرووه.و أما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات و سورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي:«بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك و نستغفرك،و نثني عليك و لا نكفرك،و نخلع و نترك من يفجرك»و سورة الحفد هي:«بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد، و إليك نسعى و نحفد،نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق».
و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلفة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف و لم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه،و تقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلفة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.
و أما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة إسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ و قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ الآيتان،حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟و القرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية و علومه الإلهية الكلية و الجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآني الذي وصفه اللّه بها.
أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلاّ أن تقوم قرائن تدل على
ص: 150
ذلك و هي قائمة كما قدمنا،و أما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.
أن جمعه عليه السّلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.
و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنه عليه السّلام في موارد شتى،و لم ينقل عنه عليه السّلام فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.
و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.
و ليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذلك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها و ربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلاّ النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل و تعلمه،و بلوغ اجتهاد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه،و قد نص على ذلك القرآن قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (1)،و قال: لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (2)فكيف ضاع؟و أين ذهب؟ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى إلى قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية،و ما ورد من طرق أهل السنّة أن سورة براءة كانت مبسملة
ص: 151
تعدل سورة البقرة،و أن الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.
أو أن هذه الآيات و قد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة- كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه اللّه و نسخ تلاوته.
فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدة و غيرها؟و هم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام اللّه حتى أبطلها اللّه بإمحاء ذكرها و إذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و لا منزها من الاختلاف،و لا قولا فصلا و لا هاديا إلى الحق و إلى طريق مستقيم،و لا معجزا يتحدى به و لا،و لا،فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ،و أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،و أنه قول فصل،و أنه هدى،و أنه نور،و أنه فرقان بين الحق و الباطل،و أنه آية معجزة،و أنه، و أنه؟
فهل يسعنا أن نقول:إن هذه الآيات على كثرتها و إباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط و هو غير المنسي و منسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل و قول فصل و هدى و نور و فرقان و معجزة خالدة؟
و هل جعل الكلام منسوخ التلاوة و نسيا منسيا غير إبطاله و إماتته؟و هل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد و لا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه و طرحه و إهماله؟و كيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟
فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين و كذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.
أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة
ص: 152
الحوادث الواقعة في هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، و هي متظافرة أو متواترة،لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات،و هو ظاهر بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج و الآثار، و حينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف و التفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفّر بعضهم بعضا و افتراقها إلى ثلاث و سبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين و سبعين و اليهود إلى واحدة و سبعين و قد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.
و من المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب اللّه،و ليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه،و تفسير القرآن الكريم بالرأي و الاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب و تمييز الصحيح منها من السقيم.
و بالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدّعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير و الإسقاط،و هذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم (1).2.
ص: 153
في تاريخ اليعقوبي:قال عمر بن الخطاب لأبي بكر:يا خليفة رسول اللّه إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته،فقال له أبو بكر:أفعل ما لم يفعله رسول اللّه؟فلم يزل به عمر حتى جمعه و كتبه في صحف و كان مفرّقا في الجريد و غيرها.
و أجلس خمسة و عشرين رجلا من قريش و خمسين رجلا من الأنصار فقال:اكتبوا القرآن و اعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.
و روى بعضهم أن علي بن أبي طالب عليه السّلام كان جمعه لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أتى به يحمله على جمل فقال:هذا القرآن قد جمعته.قال:و كان قد جزّأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء.
و في تاريخ أبي الفداء:و قتل في قتال مسيلمة جماعة من القرّاء من المهاجرين و الأنصار،و لما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال و جريد النخل و الجلود،و ترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،انتهى.
و الأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد ابن ثابت قال:أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال:إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن و إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن،و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن،فقلت لعمر:كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قال عمر:هذا و اللّه خير،فلم يزل يراجعني حتى شرح اللّه صدري لذلك و رأيت الذي رأى عمر.
قال زيد:قال أبو بكر:إنك شاب عاقل لا نتهمك و قد كنت تكتب
ص: 154
الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتتبّع القرآن فاجمعه.فو اللّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن،قلت:كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قال:هو و اللّه خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره:«لقد جاءكم رسول»حتى خاتمة براءة،فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللّه تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.
و عن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال:
قدم عمر فقال:من كان تلقى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا من القرآن فليأت به و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب،و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.
و عنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه-و في الطريق انقطاع- أن أبا بكر قال لعمر و لزيد:اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللّه فاكتباه.
و في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال:أول من جمع القرآن أبو بكر و كتبه زيد،و كان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل،و إن آخر سورة براءة لم يوجد إلاّ مع أبي خزيمة بن ثابت فقال:اكتبوها فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده.
و عن ابن أبي داود في المصاحف من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال:أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال:أشهد أني سمعتهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وعيتهما،فقال عمر:و أنا أشهد لقد سمعتهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وعيتهما،فقال عمر:و أنا أشهد لقد سمعتها ثم قال:لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها.
و عنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب أنهم جمعوا القرآن
ص: 155
فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبيّ:إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقرأني بعد هذا آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السورة.
و في الإتقان عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال:قال:قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يكن القرآن جمع في شيء.
و في مستدرك الحاكم بإسناده عن زيد بن ثابت قال:كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نؤلف القرآن من الرقاع،الحديث.
أقول:و لعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال و المئين و المفصلات فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية،و إلاّ فتأليف القرآن و جمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا إشكال،و على مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.
في صحيح النسائي عن ابن عمر قال:جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:اقرأه في شهر.
و في الإتقان عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال:جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسة من الأنصار:معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و أبي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصاري.
و فيه عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال:جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة لا يختلف فيهم:معاذ بن جبل و أبيّ بن كعب و أبو زيد و اختلفوا في رجلين من ثلاثة:أبي الدرداء و عثمان،و قيل:عثمان و تميم الداري.
و فيه عنه و عن ابن أبي داود عن الشعبي قال:جمع القرآن في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستة:أبي و زيد و معاذ و أبو الدرداء و سعيد بن عبيد و أبو زيد و مجمع بن حارثة،و قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاث.
و فيه أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن
ص: 156
بريدة قال:أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه،الحديث.
أقول:أقصى ما تدلّ عليه هذه الروايات مجرّد جمعهم ما نزل من السور و الآيات،و أما العناية بترتيب السور و الآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا.هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.
و قد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف و كثرت القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه:و جمع عثمان القرآن و ألّفه و صيّر الطوال مع الطوال و القصار مع القصار من السور،و كتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار و الخلّ،و قيل:أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.
و كان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد اللّه بن عامر و كتب[إليه]عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا و هذه الأمة فسادا فدخل المسجد و عثمان يخطب فقال عثمان:إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلّم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجرّ برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة و قالت قولا كثيرا.
و بعث بها إلى الأمصار و بعث بمصحف إلى الكوفة و مصحف إلى البصرة و مصحف إلى المدينة و مصحف إلى مكة و مصحف إلى مصر و مصحف إلى الشام و مصحف إلى البحرين و مصحف إلى اليمن و مصحف إلى الجزيرة.
و أمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة،و كان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون:قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة،و قيل:إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال:لم أرد هذا،و قيل:كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان،انتهى موضع الحاجة.
و في الإتقان روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان:أدرك الأمة قبل أن يختلفوا
ص: 157
اختلاف اليهود و النصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك،فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة:إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم،ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال زيد:آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري:
«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه»فألحقناها في سورتها في المصحف.
و فيه أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال:حدثني رجل من بني عامر يقال له أنس بن مالك قال:اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلمون فبلغ عثمان بن عفان فقال:عندي تكذبون به و تلحنون فيه فمن نأى عني كان أشدّ تكذيبا و أكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا و اكتبوا للناس إماما.
فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا و تدارءوا في آية قالوا:هذه أقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلانا فيرسل إليه و هو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له:كيف أقرأك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آية كذا و كذا؟فيقول كذا و كذا فيكتبونها و قد تركوا لذلك مكانا.
و فيه عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال:لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها و كان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه.
ص: 158
قال محمد:فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله.
و فيه أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال:قال علي:لا تقولوا في عثمان إلاّ خيرا فو اللّه ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملاء منا قال ما تقولون في هذه القراءة؟فقد بلغني أن بعضهم يقول:
إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا قلنا:فما ترى؟.
[قال أرى]أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة و لا اختلاف.قلنا:فنعم ما رأيت.
و في الدر المنثور أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ قال أبي:لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.
و في الإتقان عن أحمد و أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن ابن عباس قال:قلت لعثمان:ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني،و إلى براءة و هي من المئين فقربتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم،و وضعتموهما في السبع الطوال.
فقال عثمان:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب،فيقول:ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا،و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة و كانت براءة من آخر القرآن نزولا و كانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يبين لنا أنها منها.فمن أجل ذلك قرنت بينهما،و لم أكتب بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم و وضعتها في السبع الطوال.
أقول:السبع الطوال-على ما يظهر من هذه الرواية و روي أيضا عن ابن جبير-هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و يونس،و قد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير
ص: 159
عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال و هي من المثاني و براءة و هي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف و يونس مقدما الأنفال على براءة.
الروايات التي مرّت سابقا هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن و تأليفه بين صحيحة و سقيمة،و هي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب و اللخاف و الأكتاف و الجلود و الرقاع و إلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.
و إن الجمع الثاني و هو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ و اختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد أنه ألحق قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ الآية،في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاري عن ابن الزبير قال:قلت لعثمان وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟قال:
يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
و الذي يعطيه النظر الحر في هذه الروايات و دلالتها-و هي عمدة ما في هذا الباب-أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبلغ الناس ما نزّل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا،و كان يعلّمهم و يبيّن لهم ما نزّل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن و لم يزل جماعة منهم يعلمون و يتعلمون القرآن تعلم تلاوة و بيان و هم القرّاء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.
و كان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن و تعاطيه و لم يترك هذا الشأن و لا ارتفع القرآن من بينهم و لا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة و الإنجيل و كتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة و أهل
ص: 160
السنّة في قراءاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية و غيرها بمسمع من ملأ الناس،و قد سمى في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها و مدنيتها.
أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ (1)الآية،من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن جبرئيل أتاني بهذه الآية و أمرني أن أضعها في موضعها من السورة،و نظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران و النساء و غيرها فيدل على أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.
و أعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه اللّه تعالى من الأوصاف الكريمة.
و بالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي:
أولا:أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام اللّه تعالى فلم يزد فيه شيء و لم يتغير منه شيء و أما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم و لم تكتب عنه و أما حملهم الرواية و سائر ما ورد في التحريف-و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء-على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده و تحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر و ثانيا بأمر من عثمان كعلي عليه السّلام و أبي بن كعب و عبد اللّه بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوّذتين و كان يقول:إنهما عوذتان نزل بهما جبريل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعوّذ بهما الحسنين عليه السّلام،و قد ردّه سائر الصحابة و تواترت النصوص من أئمة أهل البيت عليه السّلام على أنهما سورتان من القرآن.
و بالجملة:الروايات السابقة-كما ترى-آحاد محفوفة بالقرائن0.
ص: 161
القطعية نافية للتحريف بالزيادة و التغيير قطعا دون النقص إلاّ ظنا،و دعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
و التعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف اللّه سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ككونه فصلا و رافعا للاختلاف و ذكرا و هاديا و نورا و مبينا للمعارف الحقيقية و الشرائع الفطرية و آية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
و من الحري أن نعوّل على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام اللّه المنزل على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق و بيد من كان و من أي طريق وصل.
و بعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند اللّه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنقل متواتر أو متظافر-و إن كان واجدا لذلك-بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب و الرسائل المنسوبة إلى المصنّفين و الكتاب،و الأقاويل المأثورة عن العلماء و أصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي و بلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفسه ذاته هي الحجة على ثبوته.
و ثانيا:إن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول و الثاني و من الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال و براءة بين الأعراف و يونس و قد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
و من الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول و الثاني كليهما كما روي أن مصحف علي عليه السّلام كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمّل ثم تبّت ثم التكوير و هكذا إلى آخر المكي و المدني نقله في الإتقان عن ابن فارس،و في تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه عليه السّلام.
و نقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب
ص: 162
مصحف أبي و هو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة،و كذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد اللّه بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصّل و هو أيضا مغاير للمصحف الدائر.
و قد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من اللّه سبحانه حتى أفرط بعضهم فادّعى ثبوت ذلك بالتواتر و ليت شعري أين هذا التواتر و قد تقدّمت عمدة روايات الباب و لا أثر فيها من هذا المعنى،و سيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تدريجا.
و ثالثا:إن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الآية الجمع الأول و قد تقدمت.
و أما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الآية،فلا تدل على أزيد من فعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة،و على تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مجرّد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدلّ بها على ذلك و إنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما علموه لا فيما جهلوه.
و في روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات و لا بنفسها.
و يدلّ على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة و أهل السنّة أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود و الحاكم و البيهقي و البزّار من طريق سعيد بن جبير -على ما في الإتقان-عن ابن عباس قال:كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم،زاد البزّار:فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت و استقبلت أو ابتدأت سورة أخرى.
ص: 163
و أيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال:كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم اللّه الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت،إسناده على شرط الشيخين.
و أيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جاءه جبريل فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم علم أنها سورة،إسناده صحيح.
أقول:و روي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخرى و روي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر عليه السّلام.
و الروايات-كما ترى-صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحسب ترتيب النزول فكانت المكيّات في السورة المكيّة و المدنيات في سورة مدنيّة اللهم إلاّ أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة و بعضها بالمدينة و لا يتحقق هذا الفرض إلاّ في سورة واحدة.
و لازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.
توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة و بالعكس و على كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة،و قد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة و ذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة و فيها آيات الربا و قد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ورد عن عمر أنه قال:مات رسول اللّه و لم يبين لنا آيات الربا،و فيها قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ (1)الآية.و قد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية و المدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول و ليس إلاّ عن اجتهاد من الصحابة.
و يؤيد ذلك ما في الإتقان عن ابن حجر:و قد ورد عن علي أنه جمع1.
ص: 164
القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخرجه ابن أبي داود و هو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم و هو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإشارة من جبريل،و أوّلوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب و إنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه و يحفظونه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من السور و آياتها المرتبة،بين دفتين و في مكان واحد.
و أنت خبير بأن كيفية الجمع الأول التي تدلّ عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.
و ربما استدل عليه بما ادّعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه و عن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين،و هو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف و دلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.
و ربما استدل عليه بالتواتر و يوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو عجيب و قد نقل في الإتقان بعد نقله ما رواه البخاري و غيره بعدة طرق عن أنس أنه قال:مات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يجمع القرآن غير أربعة:أبو الدرداء،و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد،و في رواية أبي بن كعب بدل أبي الدرداء.
عن المازري أنه قال:و قد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة و لا متمسّك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير و ليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكلّ الكل و لو على التوزيع كفى،انتهى.
أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغى إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلاّ بقرينة من نفس كلام المتكلم أو
ص: 165
ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى و الاستناد إلى قول آخرين فلا.
على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معظم القرآن و أكثر سوره و آياته لا على أنهم و غيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني و حفظوا ترتيب سوره و آياته و ضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه-و هو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس و المتصدي للجمع الأول و الثاني كليهما-يصرّح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.
و نظيره ما في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال:مات أبو بكر و لم يجمع القرآن و قتل عمر و لم يجمع القرآن.
و أما قوله:سلمناه و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه و قد عرفت الشواهد على خلاف ما يدّعيه؟
و أما قوله:إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر و أما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها و موضعها بالتواتر فلا و هو ظاهر.
و نقل في الإتقان عن البغوي أنه قال في شرح السنّة:الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله اللّه على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلقن أصحابه و يعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك و إعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه
ص: 166
فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله اللّه جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة،انتهى.
و نقل عن ابن الحصار أنه قال:ترتيب السور و وضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:ضعوا آية كذا في موضع كذا، و قد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و إنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف،انتهى.و نقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي و الطيبي و ابن حجر.
أما قولهم:إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة و إنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات و لا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة و هو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدّمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمر بعض كتاب الوحي بذلك و هو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول و أخبار نزول بسم اللّه و غيرها.
و أما قولهم:إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل و وحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان ابن أبي العاص المتقدم في آية إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ (1)و قد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة،و أين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.
و أما قولهم:إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله اللّه إلى السماء الدنيا ثم أنزله اللّه مفرقا عند الحاجة...إلخ،فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة و أهل السنّة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكن0.
ص: 167
الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا و هو ظاهر.
و أما قولهم:إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل و أن هذا التواتر لا خبر عنه بالنسبة إلى كلّ آية آية كيف و قد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول:إنهما ليستا من القرآن و إنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين،و كان يحكهما عن المصاحف،و لم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.
يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء-و قد مرّت إشارة إجمالية إليها-و هي عدة روايات وردت من طرق أهل السنّة في نسخ القرآن و إنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا و تغييرا.
فمنها ما في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و الحاكم في الكنى و ابن عديّ و ابن عساكر عن ابن عباس قال:كان مما ينزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوحي بالليل و ينسئه بالنهار فأنزل اللّه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها (1).
و فيه عن أبي داود في ناسخه و البيهقي في الدلائل عن أبي أمامة أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلاّ بسم اللّه الرحمن الرحيم و وقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال:نسخت البارحة فنسخت من صدورهم و من كل شيء كانت فيه.
أقول:و القصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.
ص: 168
و فيه عن عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أبي داود في ناسخه و ابنه في المصاحف و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه عن سعد بن أبي و قاص أنه قرأ:«ما ننسخ من آية أو ننسأها،فقيل له:إنّ سعيد بن المسيب يقرأ«ننسها»فقال سعد:إن القرآن لم ينزل على المسيّب و لا آل المسيّب،قال اللّه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ .
أقول:يريد بالتمسك بالآيتين أن اللّه رفع النسيان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيتعين أن يقرأ«ننسأها»من النسء،بمعنى الترك و التأخير فيكون المراد بقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى، و بقوله:«أو ننسأها»ترك الآية و رفعها من عندهم بالمرة و إزالتها عن العمل و التلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم.
و فيه أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال:قال لنا ابن عباس:أي القراءتين تعدّون أول؟قلنا:قراءة عبد اللّه و قراءتنا هي الأخيرة.فقال:
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان و إنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد اللّه ما نسخ ما بدل.
أقول:و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس و عبد اللّه بن مسعود نفسه و غيرهما من الصحابة و التابعين،و هناك روايات أخر في الإنساء.و محصّل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف،و قد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها كما يظهر في تفسير قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ (1).
و قوله: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ (2)،أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة،و تقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف و طرح القبيلين جميعا (3).6.
ص: 169
المقدمة 7
التحدي القرآني بالإعجاز 9
التحدّي بالعلم 11
التحدّي بمن أنزل عليه القرآن 13
تحدّي القرآن بالأخبار عن الغيب 15
تحدي القرآن بعدم الاختلاف فيه 18
التحدّي بالبلاغة 21
تصديق القرآن لقانون العلية العامة 29
إثبات القرآن ما يخرق العادة 30
القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى اللّه 35
القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الأنبياء 37
القرآن يسند الخوارق إلى أمر اللّه 39
القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب 41
القرآن يعدّ المعجزة برهانا على صحة الرسالة 43
نزول القرآن 51
النزول حقيقته و تعريفه 51
كيفية نزول القرآن 51
بعض الإشكالات و الردّ عليها 56
عمدة البيان في ترتيب القرآن 62
ص: 170
معنى الأجزاء و الأحزاب القرآنية 62
عدد السور القرآنية 64
في ترتيب السور نزولا 66
المحكم و المتشابه و التأويل في القرآن 69
حقيقة المحكم و المتشابه 69
المحكمات أم الكتاب 82
حقيقة التأويل 84
هل يعلم تأويل القرآن غير اللّه 91
ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه 99
المحكم و المتشابه في ضوء الروايات 113
التفسير حقيقته و أقسامه 122
عصمة القرآن عن التحريف 137
القرآن ينفي وقوع التحريف فيه 137
الروايات تنفي وقوع التحريف 141
نقد القول بالتحريف 143
جمع القرآن الكريم 154
نظرة عابرة في روايات الإنساء 168
الفهرس 170
ص: 171